فصل: باب ما جاء في ذمة الله وذمة نبيه صلى الله عليه وسلم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: مجموع فتاوى ورسائل فضيلة الشيخ محمد بن صالح العثيمين **


باب ما جاء في ذمة الله وذمة نبيه صلى الله عيليه وسلم

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏من الآية91‏]‏

قوله‏:‏ ‏(‏ذمة الله وذمة نبيه‏)‏‏.‏

الذمة‏:‏ العهد، وسمي بذلك، لأنه يلتزم به كما يلتزم صاحب الدين بدينه في ذمته‏.‏

والله له عهد على عباده‏:‏ أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا‏.‏

وللعباد عهد على الله وهو‏:‏ أن لا يعذب من لا يشرك به شيئا، وقال الله تعالى‏:‏ ‏{‏ولقد أخذ الله ميثاق بني إسرائيل وبعثنا منهم اثني عشر نقيبا وقال الله إني معكم لئن أقمتم الصلاة وآتيتم الزكاة وآمنتم برسلي وعزرتموهم وأقرضتم الله قرضا حسنا‏}‏، فهذا عهد الله عليهم، ثم قال‏:‏ ‏{‏لأكفرن عنكم سيئاتكم ولأدخلنكم جنات تجري من تحتها الأنهار‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 12‏]‏، وهذا عهدهم على الله‏.‏

وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وأفوا بعهدي أوف بعهدكم‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 40‏]‏ وللنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ عهد على الأمة، وهو أن يتبعوه في شريعته ولا يبتدعوا فيها، وللأمة عليه عهد وهو أن يبلغهم ولا يكتمهم شيئا‏.‏

وقد أخبر النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أنه ما من نبي إلا كان حقا عليه أن يدل أمته على ما هو خير‏.‏ ‏[‏مسلم‏:‏ كتاب الأمارة / باب وجوب الوفاء ببيعه الخلفاء‏.‏

‏]‏‏.‏ والمراد بالعهد هنا‏:‏ ما يكون بين المتعاقدين في العهود كما كان بين النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وأهل مكة في صلح الحديبية‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏(‏وأوفوا‏)‏‏.‏ أمر من الرباعي من أوفى يوفي، والإيفاء إعطاء الشيء تاما، ومنه إيفاء المكيال والميزان‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏بعهد الله‏)‏‏.‏ يصلح أن يكون من باب إضافة المصدر إلى فاعله أو إلى مفعوله، أي‏:‏ بعهدكم الله، أو بعهد الله إياكم، لأن الفعل إذا كان على وزن فاعل اقتضى المشاركة من الجانبين غالبا، مثل‏:‏ قاتل ودافع‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏إذا عاهدتم‏)‏‏.‏ فائدتها التوكيد والتنبيه على وجوب الوفاء، أي‏:‏ إذا صدر منكم العهد، فإنه لا يليق منكم أن تدعوا الوفاء، ثم أكد ذلك بقوله‏:‏ ‏{‏ولا تنقضوا الإيمان‏}‏‏.‏ نقض الشيء هو حل إحكامه، وشبه العهد بالعقدة، لأنه عقد بين المتعاهدين‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏بعد توكيدها‏)‏‏.‏ توكيد الشيء بمعنى تثبيته، والتوكيد مصدر وكّد، يقال‏:‏ وكّد الأمر وأكده تأكيدا وتوكيدا/ والواو أفصح من الهمزة‏.‏

قوله‏:‏‏{‏وقد جعلتم الله عليكم كفيلا‏}‏‏.‏ الجملة حالية فائدتها قوة التوبيخ على نقض العهد واليمين‏.‏

ووجه جعل الله له كفيلا‏:‏ أن الإنسان إذا عاهد غيره قال‏:‏ أعاهدك بالله، أي جعل الله كفيلا‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏إن الله يعلم ما تفعلون‏}‏‏.‏ حتم الله الآية بالعلم تهديدا عن نقص العهد، لأن الإنسان إذا علم بأن الله يعلم كل ما يفعله، فإنه لا ينقض العهد‏.‏

ومناسبة الآية للترجمة

واضحة جدا، لأن الله قال‏:‏ ‏{‏أوفوا بعهد الله‏}‏، وقال‏:‏ ‏{‏وقد جعلتم الله عليكم كفيلا‏}‏‏.‏ والعهد‏:‏ الذمة‏.‏

وعن بريدة؛ قال‏:‏ كان رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ إذا امر أميرا على جيش أو سرية أوصاه بتقوى الله؛ وبمن معه من المسلمين خيرا فقال‏:‏

مناسبة الباب للتوحيد

أن عدم الوفاء بعهد الله تنقص له، وهذا مخل بالتوحيد‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏إذا أمر‏)‏ أي‏:‏ جعله أمير،والأمير في صدر الإسلام يتولى التنفيذ والحكم والفتوى و الإمامة‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏أو سرية‏)‏‏.‏ هذه ليست للشك، بل للتنويع، فإن الجيش ما زاد على أربع مائة رجل والسرية ما دون ذلك‏.‏

والسرايا ثلاثة أقسام‏:‏

أ - قسم ينفذ من البلد، وهذا ظاهر، ويقسم غنمه كقسمة ما غنم الجيش‏.‏

ب - قسم ينفذ في ابتداء سفر الجهاد، وذلك بأن يخرج الجيش بكامله ثم يبعث سرية تكون أمامهم‏.‏

ج - قسم ينفذ في الرجعة، وذلك بعد رجوع الجيش‏.‏ وقد فرق العلماء بينهما من حيث الغنيمة، فالسرية الابتداء الربع بعد الخمس، لأن الجيش وراءها، فهو ردء لها وسيلحق بها، ولسرية الرجعة الثلث بعد الخمس، لأن الجيش قد ذهب عنها، فالخطر عليها أشد‏.‏

وهذا الذي تعطاه السريتان راجع إلى اجتهاد الإمام‏:‏ إن شاء أعطى وإن شاء منع حسبما تقتضيه المصلحة‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏أوصاه‏)‏‏.‏ الوصية‏:‏ العهد بالشيء إلى غيره على وجه الاهتمام به‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏بتقوى الله‏)‏‏.‏ التقوى‏:‏ هي امتثال أوامر الله، واجتناب نواهيه على علم وبصيرة، وهي مأخوذة من الوقاية، وهي اتخاذ وقاية من عذاب الله، وذلك لا يكون إلا بفعل الأوامر واجتناب النواهي‏.‏

وقال بعضهم‏:‏

خل الذنوب صغيرها ** وكبــيرها ذاك التــقى

واعمل كماش فوق أر ** ض الشوك يحذر ما يرى

لا تحقرن صــغيرة ** إن الجـبال من الحـصـى

وهذه التعريفات كلها تؤدي معنى واحدا‏.‏

وكانت الوصية بالتقوى لأمير الجيش، لأن الغالب أن الأمير يكون معه ترفُّع يخشى منه أن يجانب الصواب من أجله، ولأن تقواه سبب لتقوى من تحت ولايته‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وبمن معه من المسلمين خيرا‏)‏‏.‏ أي‏:‏ أوصاه أن يعمل بمن معه من المسلمين خيرا لإي أمور الدنيا والآخرة، فيسلك بهم الأسهل، ويطلب لهم الأخصب إذا كانوا على إبل أو خيل، فيمنع عنهم الظلم ويأمرهم بالمعروف، وينهاهم عن المنكر، وغير ذلك مما فيه خيرهم في الدنيا والآخرة‏.‏

ويستفاد من هذا الحديث‏:‏ أنه يجب أن على من تولى أمرا من أمور المسلمين أن يسلك بهم الأخير، بخلاف عمل الإنسان بنفسه، فإنه لا يلزم إلا بالواجب‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏اغزوا باسم الله‏)‏‏.‏ يحتمل أنه أراد أن يعلمهم أن يكونوا دائما مستعينين بالله، ويحتمل أنه أراد أن يفتح الغزو باسم الله‏.‏

‏(‏‏(‏اغزوا باسم الله في سبيل الله قاتلوا من كفر الله‏)‏‏)‏

اغزوا ولا تغلوا، ولا تغدروا، ولا تمثلوا، ولا تقتلوا وليدا‏.‏

والأول أظهر، والثاني أيضا محتمل، لأنه بعث الجيوش من الأمور ذات البال، وكل أمر لا يبدأ فيه باسم الله، فهو أبتر‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏في سبيل الله‏)‏‏.‏ متعلق بـ ‏(‏اغزوا‏)‏ وهو تنبيه الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ على حسن النية و القصد، لأن الغزاة لهم أغراض، ولكن الغزو النافع الذي تحصل به إحدى الحسنيين ما

كان خالصا لله‏.‏ وذلك بأن يقاتل لتكون كلمة الله هي العليا لا لحمية أو شجاعة أو ليرى مكانه أو لطلب دنيا‏.‏

فإذا قاتل لأجل الوطن‏:‏ فمن قاتل لأنه وطن لإسلامي تجب حمايته وحماية المسلمين فيه، فهذه نية إسلامية صحيحة، وإن كان للقومية أو الوطنية فقط فهو حمية وليس في سبيل الله‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏في سبيل الله‏)‏‏.‏ تشمل النية والعمل، فالنية سبقت، والعمل‏:‏ أن يكون الغزو في إطار دينه وشريعته، فيكون حسبما رسمه الشارع‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏قاتلوا من كفر بالله‏)‏‏.‏ ‏(‏قاتلوا‏)‏‏:‏ فعل أمر وهو للوجوب، أي‏:‏ يجب علينا أن نقاتل من كفر بالله، قال تعالى‏:‏ ‏{‏يا أيها النبي جاهد الكفار والمنافقين واغلظ عليهم ومأواهم جهنم وبئس المصير‏}‏ ‏[‏التحريم‏:‏ 9‏]‏‏.‏ وقال تعالى‏:‏ ‏{‏يا أيها الذين آمنوا قاتلوا الذين يلونكم من الكفار‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏123‏]‏ فإذا قاتلنا الذين يلوننا، فأسلموا، نقاتل من وراءهم، وهكذا إلى أن نخلص إلى مشارق الأرض ومغاربها‏.‏

‏(‏ومن‏)‏‏:‏ اسم موصول، وصلته ‏(‏كفر‏)‏، واسم الموصول وصلته يفيد العلية، أي‏:‏ لكفره، فنحن لا نقاتل الناس عصبية أو قومية أو وطنية، نقاتلهم لكفرهم لمصلحتهم وهي إنقاذهم من النار‏.‏

والكفر مداره على أمرين‏:‏ الجحود، والاستكبار‏.‏

أي‏:‏ الاستكبار عن طاعته، أو الجحود لما يجب قبوله وتصديق‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏اغزو‏)‏‏.‏ تأكيد، وأتى بها ثانية كأنه يقول‏:‏ لا تحقروا الغزو واغزوا بجد‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏لا تغلوا‏)‏‏.‏ الغلول‏:‏ أن يكتم شيئا من الغنيمة فيختص به، وهو من كبائر الذنوب، قال تعالى‏:‏ ‏{‏ومن يغلل يأت بما غل يوم القيامة‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 161‏]‏، أي معذبا به، فهو يعذب بما غل يوم القيامة ويعزر في الدنيا، قال أهل العلم‏:‏ يعزر الغال بإحراق رحله كله، إلا المصحف لحرمته، والسلاح لفائدته، وما فيه من روح، ولأنه لا يجوزه تعذيبه بالنار‏.‏

قوله ولا‏(‏تغدروا‏)‏‏.‏ الغدر‏:‏ الخيانة، وهذا هو الشاهد من الحديث، وهذا إذا عاهدنا، فإنه يحرم الغدر، أما الغدر بلا عهد، فلنا ذلك لأن الحرب خدعة، وقد ذكر أن على بن أبي طالب رضى الله عنه خرج إليه رجل من المشركين ليبارزه، فلما أقبل الرجل على على صاح به على‏:‏ ما خرجت لأبارز رجلين‏.‏ فالتفت المشرك يظن أنه جاء أحد من أصحابه ليساعده، فقتله علي رضى الله عنه‏.‏

وليعلم لنا مع المشركين ثلاث حالات‏.‏

الحال الأولى‏:‏ أن لا يكون بيننا و بينهم عهد، فيجب أن قتالهم بعد دعوتهم إلى الإسلام وإبائهم عنه وعن بذل الجزية، بشرط قدرتنا على ذلك‏.‏

الحال الثانية‏:‏ أن يكون بيننا وبينهم عهد محفوظ يستقيمون فيه، فهنا يجب الوفاء لهم بعدهم، لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فما استقاموا لكم فاستقيموا لهم إن الله يحب المتقين‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 7‏]‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فأتموا إليهم عهدهم إلى مدتهم‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏58‏]‏‏.‏

الحال الثالثة‏:‏ أن يكون بيننا وبينهم عهد نخاف خيانتهم فيه، فهنا يجب أن ننبذ إليه العهد ونخبرهم أنه لا عهد بيننا وبينهم، لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإما تخافن من قوم من خيانة فانبذ إليهم على سواء إن الله لا يحب الخائنين‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏58‏]‏‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏و لا تمثلوا‏)‏‏.‏ التمثيل‏:‏ التشويه بقطع بعض الأعضاء، كالأنف واللسان وغيرهما، وذلك عند أسرهم، لأنه لا حاجة إليه، لأنه انتقام في غير محله، واختلف العلماء على فيما لو كانوا يفعلون بنا ذلك‏:‏

فقيل‏:‏ لا يمثل للعموم، والنبي لم يستثن شيئا، ولأننا إذا مثلنا بواحد منهم، فقد يكون لا يرضى بما فعله قومه، فكيف نمثل به‏؟‏

وقيل‏:‏ نمثل بهم كما مثلوا بنا، لأن هذا العموم مقابل بعموم آخر، وهو قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏194‏]‏‏.‏ وإذا لم نمثل بهم مع أنهم يمثلون بنا، فقد يفسر هذا بأنه ضعف، وإذا مثلنا بهم في مثل هذه الحال، عرفوا أن عندنا قوة ولم يعودوا للتمثيل بنا ثانية‏.‏

والظاهر القول الثاني‏.‏

فإن قيل‏:‏ قد نمثل بواحد لم يمثل بنا ولا يرضى بالتمثيل‏؟‏

فيقال‏:‏ إن الأمة الواحدة فعل الواحد منها كفعل الجميع، ولهذا كان الله - عز وجل- يخاطب اليهود في عهد موسى، قال تعالى‏:‏ ‏{‏وإذا قتلتم نفسا فادارأتم فيها‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 72‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وإذ أخذنا ميثاقكم ورفعنا فوقكم الطور‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏93‏]‏، وما أشبه ذلك‏.‏

وإذا لقيت عدوك من المشركين، فادعهم إلى ثلاث خصال ‏(‏أو خلال‏)‏ فأيتهن ما أجابوك، فاقبل منهم، وكف عنهم‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏ولا تقتلوا وليدا‏)‏‏.‏ أي‏:‏ لا تقتلوا صغيرا، لأنه لا يقاتل، ولأنه ربما يسلم‏.‏

وورد في أحاديث أخرى‏:‏ أنه لا يقتل راهب ولا شيءخ فان ولا امرأة ‏[‏أب داود‏:‏ كتاب الجهاد / باب دعاء المشركين‏.‏‏]‏، إلا أن يقاتلوا، أو يحرضوا على القتال، أو يكون لهم رأي في الحرب، كما قتل دريد بن الصّمة في غزوة ثقيف مع كبره وعماه ‏[‏البخاري‏:‏ كتب المغازي / باب غزوة أوطاس‏.‏

‏]‏‏.‏

واستدل بهذ الحديث أن القتال ليس لأجل أن يسلموا، ولكنه لحماية الإسلام، بدليل أننا لا نقتل هؤلاء، ولو كان من أجل ذلك لقتلناهم إذا لم يسلموا، ورجح شيءخ الإسلام هذا القول، وله رسالة في ذلك اسمها ‏(‏قتال الكفار‏)‏‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وإذا لقيت عدوك‏)‏‏.‏ أي قابلته أو وجدته، وبدأ بذكر العداوة تهييجا لقتالهم، لأنك إذا علمت أنهم أعداء لك، فإن ذلك يدعوك إلى قتالهم، ولهذا قال تعالى‏:‏ ‏{‏ياأيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء‏}‏ ‏[‏الممتحنة‏:‏ 1‏]‏ وهذا أبلغ وأعم من قوله في آية أخرى‏:‏ ‏{‏ولا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏51‏]‏، لكن خص في هذه الآية باليهود والنصارى، لأن المقام يقتضيه‏.‏

والعدو ضد الولي، والولي من يتولى أمورك ويعتني بك بالنصر والدفاع وغير ذلك، والعدو يخذلك ويبتعد عنك، ويعتدي عليك ما أمكنه‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏من المشركين‏)‏‏.‏ يدخل فيه كل الكفار، حتى اليهود والنصارى‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏فأيتهن ما أجابوك‏)‏‏.‏ ‏(‏أيتهن‏)‏‏:‏ اسم شرط مبتدأ، ‏(‏ما‏)‏‏:‏ زائدة، وهي تزاد بالشرط تأكيدا للعموم، كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏أيا ما تدعوا فله الأسماء الحسنى‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏110‏]‏ والكاف مفعول به، والعائد إلى اسم الشرط محذوف، والتقدير‏:‏ فأيتهن ما أجابوك إليه، فاقبل منهم وكف عنهم، فلا تقاتلهم‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏ثم ادعهم‏)‏‏.‏ ‏(‏ثم‏)‏‏:‏ زائدة، كما في رواية أبي داود، ولأنه ليس لها معنى، ويمكن أن يقال‏:‏ أنها ليست من كلام الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ‏.‏ بل من كلام الراوي على تقدير‏:‏ ثم قال ادعهم‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏إلى الإسلام‏)‏‏.‏ أي‏:‏ المتضمن للإيمان، لأنه إذا أفرد شمل الإيمان، وإذا اجتمعا، افترقا، كما فرق النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بينهما في حديث جبريل‏.‏

والإيمان عند أهل السنة تدخل فيه الأعمال، قال ـ صلى الله عليه وسلم ـ‏:‏ ‏(‏الإيمان بضع وسبعون شعبة، أعلاها قول‏:‏ لا إله إلا الله، وأدناها‏:‏ إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة ‏[‏البخاري‏:‏ كتاب الإيمان / باب أمور الإيمان، ومسلم‏:‏ كتاب الإيمان / باب بيان عدد شعب الإيمان‏.‏

‏]‏ من الإيمان، فإن أجابوا الإسلام، فهذا ما يريده المسلمون، فلا يحل لنا أن نقاتلهم، ولهذا قال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ‏:‏ ‏(‏فأقبل منهم‏)‏ ‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏ثم ادعهم إلى التحول من دارهم إلى دار المهاجرين‏)‏‏.‏ هذه الجملة تشيءر إلى أن الذين قوتلوا أهل بادية، فإذا أسلموا، طلب منهم أن يتحولوا إلى ديار المهاجرين ليتعلموا دين الله، لأن الإنسان في باديته بعيد عن العلم، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏الأعراب أشد كفرا ونفاقا وأجدر أن لا يعلموا حدود ما أنزل الله على رسوله‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 97‏]‏، وهذا أصل في توطين البوادي‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏إلى دار المهاجرين‏)‏ ‏,‏ يحتمل أن المراد بها العين، أي‏:‏ المدينة النبوية، ويحتمل أن المراد بها الجنس،أي‏:‏ الدار التي تصلح أن يهاجر إليها لكونها بلد إسلام، سواء كانت مدينة أو غيرها‏.‏

ويقوى الاحتمال الثاني - وهو أن المراد بها الجنس - أنه لو كان المراد المدينة، لكان الرسول عليه الصلاة والسلام يعبر عنها باسمها ولا يأتي بالوصف العام، ويقوى الاحتمال الأول‏:‏ أن دار المهاجرين هي المدينة، والظاهر الاحتمال الثاني‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏فإن لهم ما للمهاجرين وعليهم ما على المهاجرين‏)‏‏.‏ هذا تمام العدل، ولا يقال‏:‏ إن الحق لصاحب البلد الأصلى، فلهم ما للمهاجرين من الغنيمة والفي، وعليهم ما عليهم من الجهاد والنصرة‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏ولا يكون لهم في الغنيمة والفيء شيء إلا أن يجاهدوا مع المسلمين‏)‏‏)‏‏.‏ يعني إذا لم يتحولوا إلى دار المهاجرين، فليس لهم في الغنيمة والفيء شيء‏.‏

والغنيمة‏:‏ ما أخذ من أموال الكفار بقتال أو ما ألحق به‏.‏

والفيء‏:‏ ما يصرف لبيت المال، كخمس خمس الغنيمة، والجزية، والخراج، وغيرها‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏إلا أن يجاهدوا مع المسلمين‏)‏‏.‏ يفيد أنهم جاهدوا مع المسلمين استحقوا من الغنيمة ما يستحقه غيرهم‏.‏

وأما الفيء‏:‏ فاختلف أهل العلم في ذلك‏:‏

فعند الإمام أحمد‏:‏ لهم حق في الفيء مطلقا، ولهم حق في الغنيمة إن جاهدوا‏.‏

وقيل‏:‏ لا حق لهم في الفيء، إنما الفيء يكون لأهل البلدان بدليل الاستثناء، فهو عائد على الغنيمة، إذ ليس من في البلد مستعدا للجهاد ويتعلم الدين وينشره كأعرابي عند إبله‏.‏

فإذا أسلموا، فلهم ثلاث مراتب‏:‏

1‏.‏ 1‏.‏ التحول إلى دار المهاجرين، وحينئذ يكون لهم ما للمهاجرين وعليهم ما على المهاجرين

2‏.‏ 2‏.‏ البقاء في أماكنهم مع الجهاد، فلهم ما للمجاهدين من الغنيمة، وفي الفيء الخلاف‏.‏

3‏.‏ 3‏.‏ البقاء في أماكنهم مع ترك الجهاد، فليس لهم من الغنيمة والفيء شيء‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏فإن هم أبوا فأسالهم الجزية، فإن هم اجابوك فأقبل منهم وكف عنهم‏)‏

قوله‏:‏ ‏(‏فإن هم أبوا‏)‏‏.‏‏(‏هم‏)‏عند البصريين‏:‏ توكيد للفاعل المحذوف مع فعل الشرط، والتقدير‏:‏ فإن أبوا هم، وعند الكوفيين‏:‏ مبتدأ خبره الجملة بعده‏.‏

والقاعدة عندنا إذا اختلف النحويون في مسألة‏:‏ أن نتبع الأسهل، والأسهل هنا إعراب الكوفيين‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏فاسألهم الجزية‏)‏‏.‏ سؤال عطاء لا سؤال استفهام، والفرق بين سؤال العطاء وسؤال الاستفهام‏:‏ أن سؤال الاستفهام يتعدى إلى المفعول الثاني ب‏(‏عن‏)‏، قال الله تعالى‏:‏ ‏(‏يسألونك عن الساعة أيان مرساها‏)‏‏.‏ وقد يكون المفعول الثاني جملة استفهامية، كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏يسألونك ماذا أحل الله لهم‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏4‏]‏‏.‏

وأما سؤال الإعطاء، فيتعدى إليه بنفسه، كقولك‏:‏ سألت زيدا كتابا‏.‏

والجزية‏:‏ فعلة من جزى يجزي، وظاهر فيها أنه مكافأة على شيء، وهي عبارة عن مال مدفوع من غير المسلم عوضا عن حمايته وإقامته بدارنا‏.‏

والذمي معصوم ماله ودمه وذريته مقابل الجزية، قال تعالى‏:‏ ‏{‏حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 29‏]‏، أي‏:‏ يسلموها بأيديهم، لا يقبل أن يرسل بها خادمه أو ابنه، بل يأتي بها هو‏.‏

وقيل‏:‏ ‏(‏عن يد‏)‏‏:‏ عن قوة منكم، والصحيح أنها شاملة المعنيين‏.‏

وقيل‏:‏ ‏(‏عن يد‏)‏‏:‏ أن يعطيك إياه فتأخذها بقوة بأن تجر يده حتى يتبين له قوتك، وهذا لا حاجة إليه‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وهم صاغرون‏)‏‏.‏ أي‏:‏ يجب أن يتصفوا بالذل والهوان عند فإن هم ابوا فاستعن بالله وقاتلهم، وإذا حاصرت أهل حصن فأرادوك أن تجعل لهم ذمة الله وذمة نبيه فلا تجعل لهم ذمة الله وذمة نبيه ولكن اجعل لهم ذمتك وذمة اصحابك فإنكم إن تخفروا ذممكم وذمة أصحابكم أهون من ان تخفروا ذمة الله وذمة نبيه إعطائها، فلا يعطوها بأبهة وترفع مع خدم وموكب ونحو ذلك، وجعل بعض العلماء من صغارهم أن يطال وقوفهم عند تسلمها منهم‏.‏

قوله ‏(‏فاستعن بالله وقاتلهم‏)‏ ‏.‏ بدأ النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بطلب العون من الله، لأنه إذا لم يعنك في جهاد أعدائه، فإنك مخذول، والجملة جواب الشرط‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وإذا حاصرت أهل الحصن‏)‏‏.‏ الحصر‏:‏ التضييق، أي‏:‏ طوقتهم وضيقت عليهم بحيث لا يحرجون من حصنهم ولا يدخل عليه أحد‏.‏

والحصن‏:‏ كل ما يتحصن به من قصور أو أحواش وغيرها‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏فأرادوك‏)‏‏.‏ أي‏:‏ طلبوك، وضمن الإرادة معنى الطلب، وإلا فإن الأصل أن تتعدى ب‏(‏من‏)‏، فيقال أرادوا منك‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏فلا تجعل لهم ذمة الله وذمة نبيه‏)‏‏.‏ الذمة‏:‏ العهد، فإذا قال أهل الحصن المحاصرون‏:‏ نريد أن ننزل على عهد الله ورسوله، فإنه لا يجوز أن ينزلهم على عهد الله ورسوله، فعل النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ذلك بقوله‏:‏ ‏(‏فإنكم أن تخفروا ذممكم وذمة أصحابكم أهون‏.‏‏.‏‏.‏‏)‏

قوله‏:‏ ‏(‏أن تخفروا‏)‏ بضم التاء وكسر الفاء‏:‏ من أخفر الرباعي، أي‏:‏ غدر، وأما خفر يخفر الثلاثي فهي بمعنى أحار، والمتعين الأول‏.‏

وإذا حاصرت أهل حصن فأرادوك أن تنزلهم على حكم الله؛ فلا تنزلهم على حكم الله ولكن أنزلهم على حكمك، فإنك لا تدري أتصيب فيهم حكم الله ام لا‏)‏ رواه مسلم ‏[‏ مسلم‏:‏ كتاب الجهاد / باب تأمير الإمام والأمراء‏.‏

‏]‏ وقوله‏:‏ ‏(‏أن تخفروا‏)‏‏.‏ ‏(‏أن‏)‏ بفتح الهمزة مصدرية بدليل رفع ‏(‏أهون‏)‏ على أنها خبر، وأن ما دخلت عليه محلها من الإعراب النصب على أنها بدل اشتمال من اسم ‏(‏إن‏)‏، والتقدير‏:‏ فإن إخفارهم ذممكم، والبدل يصح أن يحل محل المبدل منه، ولهذا قدرتها بما سبق‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏أهون من أن تخفروا ذمة الله وذمة نبيه‏)‏‏.‏ لأن الغدر بذمة الله وذمة نبيه أعظم، وقوله‏:‏ ‏(‏أهون‏)‏ من باب اسم التفضيل الذي ليس في المفضل ولا في المفضل عليه شيء من هذا المعنى، لأن قوله‏:‏ ‏(‏أهون‏)‏ يقتضي اشتراك المفضل والمفضل عليه بالهون، والأمر ليس كذلك، لأن إخفار الذمم سواء كان لذمة الله وذمة رسوله أو ذمة المجاهدين، كله ليس بهين، بل هو صعب، لكن الهون هنا نسبي وليس على حقيقته‏.‏

فهنا أرادوا أن ينزلوا على العهد بدون أن يحكم عليهم بشيء، بل يعاهدون على حماية أموالهم وأنفسهم ونسائهم وذريتهم فنعطيهم ذلك‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وإذا حاصرت‏)‏‏.‏ أي‏:‏ ضربت حصارا يمنعهم من الخروج من مكانهم‏.‏ ‏(‏أهل الحصن‏)‏‏:‏ أهل البلد أو مكان يتحصنون به‏.‏

‏(‏فأرادوك‏)‏‏:‏ طلبوا منك‏.‏

‏(‏حكم الله‏)‏، أي‏:‏ شرع الله‏.‏ قوله‏:‏ ‏(‏ولكن الله أنزلهم على حكمك‏)‏‏.‏ فإذا أرادوا أن ينزلوا على حكم الله، فإنهم لا يجابون، فإننا لا ندري أنصيب فيهم حكم الله أم لا‏؟‏

ولهذ قال‏:‏ ‏(‏أنزلهم على حكمك‏)‏، ولم يقل‏:‏ وحكم أصحابك كما قال في الذمة، لأن الحكم في الجيش أو السرية للأمير، وأما الذمة والعهد، فهي من الجميع، فلا يحل لواحد من الجيش أن ينقض العهد‏.‏

وقوله‏:‏ ‏(‏لا تدري‏)‏‏.‏ أي‏:‏ لا تعلم ‏(‏أتصيب فيهم حكم الله أم لا‏)‏، وذلك لأن الإنسان قد يخطيء حكم الله تعالى‏.‏

وهذه مسالة اختلف فيها العلماء‏:‏

فقيل‏:‏ إن أهل الحصن لا ينزلون على حكم الله،لأن قائد الجيش وإن اجتهد، فإنه لا يدري أيصيب فيهم حكم الله أم لا‏؟‏ فليس كل مجتهد مصيبا‏.‏

وقيل‏:‏ بل ينزلون على حكم الله أم لا‏؟‏ والنهي عن ذلك خاص في عهد النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فقط، لأنه العهد الذي يمكن أن يتغير فيه الحكم، إذ من الجائز بعد مضي هذا الجيش أن يتغير فيه الحكم، إذ ا كان كذلك، فلا تنزلهم على حكم الله، لأنك لا تدري أتصيب الحكم الجديد أو لا تصيبه‏.‏

أما بعد انقطاع الوحي، فينزلون على حكم الله، واجتهادنا في إصابة حكم الله يعتبر صوابا إذا لم يتبين خطؤه، لأن الله لا يكلف نفسا إلا وسعها، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏فاتقوا الله ما استطعتم‏}‏ ‏[‏التغابن‏:‏16‏]‏ وهذا اصح، نه يحكم المجتهد بإصابته الحكم ظاهرا شرعا وإن كان قد يخطي، وإن حصل الاحتراز بأن يقول‏:‏ ننزلك على ما نفهم من حكم الله ورسوله، فهو أولى، لأنك إذا قلت على ما نفهم صار الأمر واضحا أن هذا حكم الله بحسب فهمنا، لا بحسب الواقع فيما اتضح خلافه‏.‏

واخترنا هذه العبارة، لأنه قد يتغير الاجتهاد، ويأتي أمير آخر فيحارب هؤلاء أو غيرهم ثم يتغير الحكم، فيقول الكفار‏:‏ إن أحكام المسلمين متناقضة‏.‏

ويستفاد من هذا الحديث ما يلي‏:‏

1- 1- تحريم التمثيل، والغلول، والغدر، وقتل الوليد، وقد سبق الكلام عليه‏.‏

2 - يشرع للإمام بعث الجيوش والسرايا‏.‏

3 - لا يجوز القتال قبل الدعوة، لأنه جعل القتال آخر مرحلة‏.‏ وأما ما ورد في ‏(‏الصحيح‏)‏ أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أغار على بني المصطلق وهم غارون، فقد أجيب‏:‏ أن هؤلاء قد بلغتهم الدعوة، ودعوة من بلغتهم الدعوة سنة لا واجبة، ويرجع فيه للمصلحة‏.‏

4- جواز أخذ الدية من غير اليهود والنصارى والمجوس، لأن أهل الكتاب نص

القرآن على أخذها منهم، والمجوس وردت به السنة، وأما ماعدا هؤلاء فاختلف أهل العلم‏:‏

فقيل‏:‏ لا تأخذ من غير هؤلاء، وقيل‏:‏ لا تؤخذ من مشركي العرب، لأن فيها إذلالا‏.‏

والصحيح أنها تؤخذ من جميع الكفار، لعموم قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ‏:‏ ‏(‏من كفر با لله ولم يقل‏:‏ اليهود والنصارى‏)‏

5- الإشارة إلى القتال ليس لإكراه الناس على أن يدخلوا في الإسلام، ولو كان كذلك

ما شرعت الجزية، لأنه على هذا التقدير يجب أن يدخلوا في الدين أو يقاتلوا، وهذا هو الراجح الذي يؤيده القرآن والسنة، وأما قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ‏:‏ ‏(‏أمرت أن أُقاتل الناس‏.‏‏.‏‏)‏‏[‏ البخاري‏:‏ كتاب الإيمان / باب ‏(‏فإن تابوا وأقاموا لصلاة‏)‏، ومسلم‏:‏ كتاب‏:‏ الإيمان باب الأمر بقتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله‏.‏

‏]‏ الحديث، فهو عام مخصوص بأدلة الجزية‏.‏

6- عظم العهود، ولا سيما إذا كانت عهدا لله ورسوله‏.‏

7- جواز نزول أهل الحصن على حكم أمير الجيش‏.‏

8- أنه لا يجوز أن ينزلهم على حكم الله أما في عهد رسول الله أو مطلقا حسب الخلاف السابق‏.‏

9- أن المجتهد قد يصيب وقد يخطي، لقوله‏:‏ ‏(‏فإنك لا تدري أتصيب فيهم حكم الله أم لا‏)‏، وقال النبي‏:‏ ـ صلى الله عليه وسلم ـ‏:‏ ‏(‏إذا حكم الحاكم، فاجتهد، فأصاب، فله أجران، وأن أخطأ، فله أجر واحد‏)‏‏[‏ البخاري‏:‏ كتاب الاعتصام /باب أجر الحاكم إذا اجتهد، ومسلم‏:‏ كتاب الأقضية / باب بيان أجر الحاكم إذا اجتهد‏.‏

‏]‏، وعليه، فهل نقول‏:‏ إن المجتهد مصيب ولو أخطأ‏؟‏

الجواب‏:‏ قيل‏:‏ كل مجتهد مصيب‏.‏

وقيل‏:‏ ليس كل مجتهد مصيبا‏.‏

وقيل‏:‏ كل مجتهد مصيب في الفروع دون الأصول، حذرا من أن نصوب أهل البدع في باب الأصول‏.‏

على أن شيءخ الإسلام ابن تميمة وابن القيم أنكرا تقسيم الدين إلى أصول وفروع، وقالا‏:‏ إن هذا التقسيم محدث بعد عصر الصحابة، ولهذا نجد القائلين بهذا التقسيم يلحقون شيئا من أكبر أصول الدين بالفروع، مثل الصلاة، وهي ركن من أركان الإسلام، ويخرجون أشياء في العقيدة اختلف فيها السلف، يقولون‏:‏ أنها من الفروع، لأنها ليست من العقيدة ولكن فروع من فروعها، ونحن نقول‏:‏ إن أردتم بالأصول ما كان عقيدة، فكل الدين أصول، لأن العبادات المالية أو البدنية لا يمكن أن تتعبد لله بها إلا أن تعتقد أنها مشروعة، فهذه عقيدة سابقة على العمل، ولو لم تعتقد أنها مشروعة، فهذه عقيدة سابقة على العمل، ولو لم تعتقد ذلك لم يصح تعبدك لله بها‏.‏

والصحيح أن باب الاجتهاد مفتوح فيما سمى بالأصول أو الفروع، لكن ما خرج عن منهج السلف، فليس بمقبول مطلقا‏.‏

10- أن باب الاجتهاد باق، لقوله‏:‏ ‏(‏لا تدري أتصيب فيهم حكم الله أم لا‏؟‏‏)‏ وبهذا يتبن ضعف قول من قال‏:‏ إن باب الاجتهاد قد انسد، والواجب التقليد للأئمة، وهذا يترتب عليه الإعراض عن الكتاب والسنة إلى آراء الرجال، وهذا خطأ، بل الواجب على من تمكن من أخذ الحكم على الكتاب والسنة أن يأخذه منهما،لكن كثرة السنن وتفرقها لا ينبغي للإنسان أن يحكم بشيء بمجرد أن يسمع حديثا في هذا الحكم حتى يثبت، لأن هذا الحكم قد يكون منسوخا أو مقيدا أو عاما وأنت تظنه بخلاف ذلك‏.‏

وأما أن نقول‏:‏ لا تنظر في القرآن والسنة لأنك لست أهلا للاجتهاد، فهذا غير صحيح، ثم إنه على قولنا‏:‏ إن باب الاجتهاد مفتوح، لا يجوز أبدا أن تحتقر آراء العلماء السابقين، أو أن تنزل من قدرهم، لأن أولئك تعبوا واجتهدوا وليس بمعصومين، فكونك تقدح فيهم أو تأخذ المسائل التي يلقونها على أنها نكت تعرضها أمام الناس ليسخروا بهم، فهذا أيضا لا يجوز، وإذا كانت غيبة الإنسان العادي محرمة، فكيف بغيبة أهل العلم الذين أفنوا أعمارهم في استخراج المسائل من أدلتها، ثم يأتي في آخر الزمان من يقول‏:‏ إن هؤلاء لا يعرفون، وهؤلاء يفرضون المحال ويقولون‏:‏ كذا وكذا، مع أن أهل العلم فيما يفرضونه من المسائل النادرة قد لا يقصدون الوقوع، لكن يقصدون تمرين الطالب على تطبيق المسائل على قواعدها وأصولها‏؟‏

11 - فيه إثبات حكم لله - عز وجل- وحكم الله ينقسم إلى قسمين‏:‏

أ - حكم كوني، وهو ما يتعلق بالكون، ولا يمكن لأحد أن يخلفه، ومنه قوله تعالى ‏{‏فلن أبرح الأرض حتى يأذن لي أبي أو يحكم الله لي‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏80‏]‏‏.‏

ب - حكم شرعي، وهو ما يتعلق بالشرع والعبادة، وهذا من الناس من يأخذ به ومنهم من لا يأخذ به، ومنه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ذلكم حكم الله يحكم بينكم‏}

‏[‏الممتحنة‏:‏10‏]‏‏.‏

* * *

* فيه مسائل‏:‏

*الأولى‏:‏ الفرق بين ذمة الله وذمة نبيه وذمة المسلمين‏.‏ لو قال الفرق بين ذمة الله وذمة نبيه وبين ذمة المسلمين، لكان أوضح، لأنك عندما تقرأ كلامه تظن أن الفروق بين الثلاثة كلها، وليس كذلك، فإن ذمة الله وذمة نبيه واحدة، وإنما الفرق بينهما وبين ذمة المسلمين‏.‏

والفرق أن جعل ذمة الله وذمة نبيه للمحاصرين محرمة، وجعل ذمة المحاصرين - بكسر الصاد - ذمة جائزة‏.‏

* الثانية‏:‏الإرشاد إلى أقل الأمرين خطرا‏.‏لقوله‏:‏ ‏(‏ولكن اجعل ذمتك وذمة أصحابك‏.‏‏.‏‏.‏‏)‏ إلخ، وهذه قاعدة مهمة، وتقال على وجه آخر وهو‏:‏ ارتكاب أدنى المفسدتين لدفع أعلاهما إذا كان لابد من ارتكاب إحداهما، وقد دل عليها الشرع، قال تعالى‏:‏ ‏{‏ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدوا بغير علم‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 108‏]‏، فسب آلهة المشركين مطلوب، لكن إذا تضمن سب الله - عز وجل - صار منهيا عنه، لأنه مفسدة سب الله أعظم من مفسدة السكوت عن سب آلهتهم، وإن كان في السكوت شيء من المفسدة، لكن نسكت لئلا نقع في مفسدة أعظم، وأيضا العقل دل عليها‏.‏

وفيها قاعدة مقابلة،وهي ترك أدنى المصلحتين لنيل أعلاهما، إذا كان لا بد من ترك إحداهما، فإذا اجتمعت مصلحتان لا يمكن الأخذ بهما جميعا، فخذ بأعلاهما، وإذا اجتمعت مفسدتان لا يمكن تركهما، فخذ بأدناهما‏.‏

* الثالثة‏:‏ قوله‏:‏ ‏(‏اغزو بسم الله في سبيل الله‏)‏‏.‏ يستفاد منها وجوب الغزو مع الاستعانة بالله والإخلاص والتمشيء على شرعه‏.‏

*الرابعة‏:‏ قوله‏:‏ ‏(‏قاتلوا من كفر بالله‏)‏‏.‏ يستفاد منها وجوب قتال الكفر، وأن علة قتالهم الكفر، وليس المعنى أنه لا يقاتل إلا من كفر، بل الكفر سبب للقتال، فمن منع الزكاة يقاتل، وإذا ترك أهل بلد صلاة عيد قوتلوا، وكذا الأذان والإقامة، مع أنهم لا يكفرون بذلك‏.‏

وإذا اقتتلت طائفتان وأبت إحداهما أن تفيء إلى أمر الله، قوتلت، فالقتال له أسباب متعددة غير الكفر‏.‏

* الخامسة‏:‏ قوله‏:‏ ‏(‏استعن بالله وقاتلهم‏)‏‏.‏ يفيد وجوب الاستعانة بالله، وأن لا يعتمد الإنسان على حوله وقوته‏.‏

* السادسة‏:‏ الفرق بين حكم الله وحكم العلماء‏.‏ وفيه فرقان‏:‏

1- 1- أن حكم الله مصيب بلا شك، وحكم العلماء قد يصيب وقد لا يصيب‏.‏

2- 2- تنزيل أهل الحصن على حكم الله ممنوع، إما في عهد رسول الله صلى الله

عليه وسلم فقط أو مطلقا، وأما على حكم العلماء ونحوه، فهو جائز‏.‏