فصل: باب ما جاء في قوله تعالى

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: مجموع فتاوى ورسائل فضيلة الشيخ محمد بن صالح العثيمين **


باب ما جاء في قوله تعالى

{‏وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ من الآية67‏]‏

قوله‏:‏ ‏(‏وما قدروا‏)‏‏.‏ الضمير يعود على المشركين، و‏(‏قدروا‏)‏‏:‏ عظموا، أي‏:‏ ما عظموا الله حق تعظيمه حيث أشركوا به ما كان من مخلوقاته‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏والأرض جميعا قبضته يوم القيامة‏}‏‏.‏ يحتمل أن تكون الواو للحال، أي‏:‏ ما قدروا الله حق قدره في هذه الحال‏.‏

ويحتمل أن تكون للاستئناف، لبيان عظمة الله - عز وجل - وهذا أقوى، لأنه يعم هذه الحال وغيرها‏.‏

والقبضة‏:‏ هي ما يقبض باليد، وليس المراد بها الملك كما قيل، نعم، لو قال‏:‏ الأرض في قبضته، لكان تفسيرها بالملك محتملا‏.‏

قوله ‏(‏جميعا‏)‏‏.‏ حال من الأرض، فيشمل بحارها وأنهارها وأشجارها وكل ما فيها، الأرض جميعا قبضته يوم القيامة، والسموات على عظمها وسعتها مطويات بيمينه، قال الله - عز وجل‏:‏ ‏{‏يوم نطوي السماء كطي السجل للكتب كما بدأنا أول خلق نعيده‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 104‏]‏‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏سبحانه وتعالى‏)‏‏.‏ هذا تنزيه له عن كل نقص وعيب، ومما ينزه عنه هذه الأنداد، ولهذا قال‏:‏ ‏(‏وتعالى‏)‏، أي‏:‏ ترفع‏.‏

قوله‏:‏‏(‏عما يشركون‏)‏‏.‏أي‏:‏ عن كل شرك يشركون به، سواء جعلوا الخالق كالمخلوق أو العكس‏.‏

عن ابن مسعود رضي الله عنه قال‏:‏ ‏(‏جاء حبر من الأحبار إلى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فقال‏:‏ يا محمد ‏!‏ إنا نجد ان الله يجعل السموات على إصبع، والأرضين على إصبع، والشجر على أصبع، والثري على أصبع

قوله ‏(‏حبر‏)‏‏.‏ الحبر هو العالم الكثير العلم، والحبر يشابه البحر في اشتقاق الحروف، ولهذا كان العالم أحيانا يسمى بالحبر و أحيانا بالبحر‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏إنا نجد‏)‏ أي‏:‏ في التوراة‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏فضحك النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ‏)‏‏.‏ ولولا ما بعدها لاحتملت أن تكون إنكارا، لأن من حدثك بحديث لا تطمئن إليه ضحكت منه، لكنه قال‏:‏ ‏(‏تصديقا لقول الحبر‏)‏ فكانت إقرارا لا غير، ويدل ذلك قوله‏:‏ ثم قرأ‏:‏ ‏(‏وما قدروا الله حق قدره‏.‏‏.‏‏.‏‏)‏ الآية، فهذا يدل على أنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ أقره واستشهد لقوله بآية من كتاب الله، فضحكة واستشهاده تقرير لقول الحبر، وسبب الضحك هو سروره، حيث جاء في القرآن ما يصدق ما وجده هذا الحبر في كتبه، لأنه لا شك أنه جاء ما يصدق القرآن، فإن الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ سوف يسر به، وإن كان الرسول يعلم علم اليقين أن القرآن من عند الله، لكن تضافر البينات مما يقوي الشيء، أرأيت أسامة بن زيد وأبوه زيد بن الحارثة‏؟‏ هل كان عند النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ شك في أن أسامة ابنُ لزيد‏؟‏

الجواب‏:‏ ليس عنده شك في ذلك، ولما مر بهما مجزر المدلجي - وهو من أهل القيافة - وقد تغطيا بقطيفة لم يبد منهما إلا أقدامهما، فنظر إلى أقدامهما، فقال‏:‏ إن هذه الأقدام بعضها من بعض، فسر النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ سرورا

وسائر الخلق على أصبع، فيقول‏:‏ أنا الملك، فضحك النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ حتي بدت نواجذه؛ تصديقا لقول الحبر، ثم قرأ ‏{‏مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ من الآية 67‏]‏ الآية متفق عليه

عظيما حتى دخل على عائشة مسرورا تبرق أسارير وجهه،

وقال‏:‏ ‏(‏ألم ترى أنه مجزرا المدلجي دخل فرأى أسامة وزيدا وعليهما قطيفة، قد غطيا رؤوسهما وبدت أقدامهما، فقال‏:‏ أن هذه الأقدام بعضها من بعض ‏[‏البخاري كتاب التوحيد باب قوله تعالى ‏(‏لما خلقت بيدي‏)‏ ومسلم كتاب‏:‏ المنافقين/ باب صفة القيامة‏]‏، فالمهم أن الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ دخل تبرق أسارير وجهه، لأن في ذلك تأييدا للحق، وكان المشركون يقدحون في أسامة بن زيد وأبيه لاختلاف ألوانهما، فكان أسامة أسود شديد السواد وأبوه زيد شديد البياض، لكن الأمر ليس كما قالوا، بل هم كاذبون في ذلك، واختلاف اللون لا يوجب شبهة إلا لذي هوى، فلعل المخالف في اللون نزعة عرق‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏أصبع‏)‏‏.‏ واحدة الأصابع، وهي مثلثة الأول والثالث، ففيها تسع لغات، والعشر أصبوع، وفي هذا يقول الناظم‏:‏

وهمز أنملة ثلث وثالثة ** التسع في أصبع واختم بأصبوع

قوله‏:‏ ‏(‏أنا الملك‏)‏‏.‏ هذه الجملة تفيد الحصر، لأنها اسمية معرفة الجزئين، ففي ذلك اليوم لا ملك لأحد، قال تعالى‏:‏ ‏{‏يوم هم بارزون لا يخفى على الله منهم شيء لمن الملك اليوم لله الواحد القهار‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏16‏]‏ وكان الناس الملوك منهم والمملوكون على حد سواء يحشرون حفاة عراة غرلا، وبهذا يظهر ملكوت الله - عز وجل - في ذلك اليوم ظهورا بينا، لأنه سبحانه‏.‏ ينادي‏:‏ لمن الملك اليوم، فلا يجيب أحد، فيجيب نفسه‏:‏ ‏(‏الله الواحد القهار‏)‏‏.‏

وقوله‏:‏ ‏(‏الملك‏)‏‏.‏ أي‏:‏ ذو السلطان، وليس مجرد المتصرف، بل هو المتصرف، بل هو المتصرف فيما يملك على وجه السلطة والعلو، وأما ‏(‏المالك‏)‏ فدون ذلك،ولهذا يمتدح نفسه تعالى بأنه الملك، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏مالك يوم الدين‏}‏ ‏[‏الفتحة‏:‏4‏]‏ فيها قراءتان‏:‏ ‏(‏ملك، ومالك‏)‏، ليتبن بذلك أنه ملك مالك‏.‏

فملك الله تعالى متضمن لكمال السلطان والتدابير والملك، بخلاف غيره، فإن من ملوك الدنيا من يكون ملكا لا يملك التصرف، ومنهم المالك وليس بملك‏.‏

وقوله‏:‏ ‏(‏حتى بدت نواجذه‏)‏‏.‏ أي‏:‏ ظهرت، ونواجذ‏:‏ جمع ناجذ، وهو أقصى الأضراس‏.‏

وهذا الضحك من النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ تقرير لقول الحبر، ولهذا قال ابن مسعود‏:‏ ‏(‏تصديقا لقول الحبر‏)‏ ولو كان منكرا ما ضحك الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ ولا استشهد بالآية، ولقال له‏:‏ كذبت كما كذب الذين ادعوا أن الذي يزني لا يرجم، ولكنه ضحك تصديقا لقول الحبر سرورا بأن ما ذكره موافق لما جاء به القرآن الذي أوحى إلى محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ‏.‏

قوله‏:‏ ثم قرأ ‏{‏وما قدروا الله حق قدره والأرض جميعا في قبضته‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية‏.‏

هذا معنى الآية التي لا تحتمل غيره، وأن السموات مطويات كطي السجل للكتب بيمينه، أي‏:‏ تبارك وتعالى، لأن ذلك تفسيره ـ صلى الله عليه وسلم ـ وتفسيره في الدرجة الثانية من حيث الترتيب، لكنه كالقرآن في الدرجة الأولى من حيث القبول والحجة‏.‏

وأما تفسير أهل التحريف، فيقول بعضهم‏:‏ ‏(‏قبضته‏)‏، أي‏:‏ في قبضته وملكه وتصرفه، وهو خطأ، لأن الملك والتصرف كائن يوم القيامة وقبله‏.‏

قول بعضهم‏:‏ ‏(‏السموات مطويات‏)‏، أي‏:‏ تالفة وهالكة، كما تقول انطوى ذكر فلان، أي‏:‏ زال ذكره‏.‏

و‏(‏بيمينه‏)‏، أي‏:‏ بقسمه، لأن الله تعالى‏:‏ ‏{‏كل من عليها فان* ويبقى وجه ربك‏}‏ ‏[‏الرحمن‏:‏ 26-27‏]‏ فجعلوا المراد باليمين القسم‏.‏‏.‏‏.‏ إلى غير ذلك من التحريفات التي يلجأ إليها أهل التحريف، وهذا لظنهم الفاسد بالله، حيث زعموا أن إثبات مثل هذه الصفات يستلزم التمثيل، فصاروا ينكرون ما أثبته الله لنفسه، وما أثبته رسوله وسلف الأمة بشبهات يدعونها حججا‏.‏

فيقال لهم‏:‏ هل أنتم أعلم بالله من الله‏؟‏

إن قالوا‏:‏ نعم، كفروا، وإن قالوا لا، خُصموا، وقلنا لهم‏:‏ إن الله بين ذلك ابلغ بيان بأن الأرض جميعا قبضته يوم القيامة، والرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ أقر الحبر على ما ذكر فيما يطابق الآية، وهل أنتم أنصح من الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ لعباد الله‏؟‏ فسيقولون‏:‏ لا‏.‏

فإذا كان كلامه تعالى أفصح الكلام، واصدقه، وأبينه، وأعلم بما يقول، لزم علينا أن نقول مثل ما قال عن نفسه، ولسنا بمذنبين، بل الذنب على من صرف كلامه عن حقيقته التي أراده الله بها‏.‏

* ومن فوائد الحديث‏:‏ إثبات الأصابع لله - عز وجل - لإقراره ـ صلى الله عليه وسلم ـ هذا الحبر على ما قال‏.‏

والإصبع إصبع حقيقي يليق بالله - عز وجل - كاليد، وليس المراد بقوله ‏(‏على إصبع‏)‏ سهولة التصرف في السموات والأرض، كما يقوله أهل التحريف، بل هذا خطأ مخالف لظاهر اللفظ و التقسيم، ولأنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ أثبت ذلك بإقراره، ولقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ‏:‏ ‏(‏إن قلوب بني آدم بين أصبعين من أصابع الرحمن‏)‏ ‏[‏ مسلم كتاب القدر/ باب تصريف الله تعالى القلوب كيف يشاء‏.‏

‏]‏‏.‏

وقوله‏:‏ ‏(‏بين أصبعين‏)‏ لا يلزم من البينة المماسة، ألا ترى قوله تعالى‏:‏ ‏{‏والسحاب المسخر بين السماء والأرض‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏164‏]‏ والسحاب لا يمس الأرض ولا السماء وهو بينهما، ونقول‏:‏ عنيزة بين الزلفي والرس ، ولا يلزم أن تكون متصلة بهما، وتقول‏:‏ شعبان بين ذي القعدة وجمادى، ولا يلزم أن يكون مواليا له، فتبين أن البينة لا تسلتزم الاتصال في الزمن أو المكان، وكما ثبت عنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ‏:‏ أن الله - سبحانه وتعالى - يكون قبل وجه المصلى ‏[‏البخاري‏:‏ كتاب الصلاة/ باب حك البزاق باليد في المسجد، ومسلم‏:‏ كتاب الزهد‏.‏

‏]‏ ولا يلزم من المقابلة أن يكون بينه وبين الجدار أو السترة التي يصلى عليها، فهو قبل وجهه وإن كان على عرشه، ومثال ذلك‏:‏ الشمس حين تكون في الأفق عند الشروق أو الغروب، فإن من الممكن أن تكون وجهك وهي في العلو‏.‏

فتبين بهذا أن هؤلاء المحرفين على ضلال، وأن من قال‏:‏ إن طريقتهم أعلم وأحكم، فقد ضل‏.‏

ومن المشهور عندهم قولهم‏:‏ طريقة السلف أسلم وطريقة الخلف أعلم وأحكم، وهذا القول على ما فيه من التناقض قد يوصل إلى الكفر، فهو‏:‏

أولا‏:‏ فيه تناقض، لأنهم قالوا‏:‏ طريق السلف أسلم، ولا يعقل أن تكون الطريقة أسلم وغيرها أعلم و أحكم، لأن الأسلم يستلزم أن يكون أعلم وأحكم، فلا سلامة إلا بعلم بأسباب السلامة وحكمة في سلوك هذه الأسباب‏.‏

ثانيا‏:‏ أين العلم والحكمة من التحريف والتعطيل‏؟‏

ثالثا‏:‏ يلزم منه أن يكون هؤلاء الخالفون أعلم بالله من رسوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وأصحابه، لأن طريقة السلف هي طريقة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ‏.‏

رابعا‏:‏ أنه قد تصل الكفر، لأنها تستلزم تجهيل النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وتسفيهه، فتجهيله ضد العلم، وتسفيهه ضد الحكمة، وهذا خطر عظيم‏.‏

فهذه العبارة باطلة حتى وإن أرادوا بها معنى صحيحا، لأن هؤلاء بحثوا وتعمقوا وخاضوا في أشياء كان السلف لم يتكلموا فيها، فإن خوضهم في هذه الأشياء هو الذي ضرهم وأوصلهم إلى الحيرة والشك، وصدق النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ حين قال‏:‏ ‏(‏هلك المتنطعون‏)‏ ‏[‏ مسلم‏:‏ كتاب العلم‏:‏ هلك المتنطعون‏.‏

‏]‏ ، فلو أنهم بقوا على ما كان عليه السلف الصالح ولم يتنطعوا، لما وصلوا إلى هذا الشك والحيرة والتحريف، حتى إن بعض أئمة أهل الكلام كان يتمنى أن يموت على عقيدة أمه العجوز التي لا تعرف هذا الضلال، ويقول بعضهم‏:‏ ها أنا أموت على عقيدة عجائز نيسابور‏.‏

وهذا من شدة ما وجدوا من الشك والقلق والحيرة، ولا ظن أن العقيدة الفاسدة يمكن أن يعيش الإنسان عليها أبدا، لا يمكن أن يعيش الإنسان إلا على عقيدة سليمة، وإلا ابتلى بالشك والقلق والحيرة، وقال بعضهم‏:‏ أكثر الناس شكا عند الموت أهل الكلام، وما بالك - والعياذ بالله - بالشك عند الموت، يختم للإنسان بضد الإيمان‏.‏

لكن لو أخذنا العقيدة من كتاب الله وسنة رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ بسهولة وبما جرى عليه السلف، نقول كما قال الراوي وهو من علمائهم ورؤسائهم‏:‏ رأيت أقرب الطرق طريقة القرآن‏:‏ أقرأ في الإثبات‏:‏ ‏{‏الرحمن على العرش استوى‏}‏ ‏[‏طه‏:‏5‏]‏، يعني‏:‏ فأثبت في النفي‏:‏ ‏{‏ليس كمثله شيء‏}‏ ‏[‏الشورى‏:‏ 11‏]‏ ‏{‏ولا يحيطون به علما‏}‏ ‏[‏طه 110‏]‏، ومن جرب مثل تجربتي عرف مثل معرفتي،لأنه أقر قبل هذا الكلام، فقال‏:‏لقد تأملت الطرق الكلامية والمناهج الفلسفية، فما رايتها تروي غليلا ولا تشفي عليلا، ووجدت أقرب الطرق طريقة القرآن‏.‏

والحاصل أن هؤلاء المنكرين لما جاء في الكتاب والسنة من صفات الله - عز و جل - اعتمادا على هذا الظن الفاسد أنها تقتضي التمثيل قد ضلوا ضلالا مبينا، فالصحابة رضى الله عنهم هل ناقشوا الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ في هذا‏؟‏ والذي نكاد نشهد به إن لم نشهد به إنه حين يمر عليهم مثل هذا الحديث يقبلونه على حقيقته، لكن يعلمون أن الله لا مثل له‏:‏ فيجمعون بين الإثبات وبين النفي‏.‏

إذا موقفنا من هذا الحديث الذي فيه الأصابع لله - عز وجل - نقر به ونقبله، وأن لا نقتصر على مجرد إمراره بدون معنى فنكون بمنزلة الأميين الذين لا يعلمون الكتاب إلا أماني، بل نقرؤه ونقول‏:‏ المراد به أصبع حقيقي يجعل الله عليه هذه الأشياء الكبيرة، ولكن لا يجوز أبدا أن نتخيل بأفهامنا أو أن نقول بألسنتنا‏:‏ إنه مثل أصابعنا، بل نقول‏:‏ المراد به أصبع حقيقي يجعل الله عليه هذه الأشياء الكبيرة، ولكن لا يجوز أبدا أن نتخيل بأفهامنا أو نقول بألسنتنا‏:‏ إنه مثل أصابعنا، بل نقول الله أعلم بكيفية هذه الأصابع، فكما أننا لا نعلم ذاته المقدسة، فكذلك لا نعلم كيفية صلاته، بل نكل علمها إلى الله - سبحانه وتعالى -‏.‏

قوله وفي رواية لمسلم‏:‏ ‏(‏والجبال والشجر على أصبع ثم يهزهم فيقول أنا الملك أنا الله‏)‏

* * *

قوله ‏(‏ثم يهزهن‏)‏‏.‏ أي هزا حقيقيا، ليبين للعباد في ذلك الموقف العظيم عظمته وقدرته، وكان الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ يقرا هذه الآية ويقبض أصابعه ويبسطها، فصار المنبر يتحرك ويهتز ‏[‏مسلم كتاب صفات المنافقين / باب صفة القيامة

‏]‏ لأنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ كان يتكلم بهذا الكلام وقلبه مملوء بتعظيم الله تعالى‏.‏

فإن قلت هل نفعل أيدينا كما فعل النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ‏؟‏

فالجواب‏:‏ إن هذا يختلف بحسب ما يترتب عليه، فليس كل من شاهد أو سمع يتقبل ذهنه ذلك بغير أن يشعر بالتمثيل، فينبغي أن نكف لأن هذا ليس بواجب حتى نقول‏:‏ يجب علينا ان نبلغ كما بلغ الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ بالقول والفعل، أما إذا كنا نتكلم مع طلبة علم أو مع إنسان مكابر ينفي هذا ويريد أن يحول المعنى إلى غير الحقيقة، فحينئذ نفعل كما فعل الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ‏.‏

فلو قال قائل‏:‏ إن الله سميع بصير، لكن قال‏:‏سميع بلا سمع وبصير بلا بصر، مع أن الرسول عليه الصلاة والسلام حين قرأ قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل إن الله نعما يعظكم به إن الله كان سميعا بصيرا‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 58‏]‏ وضع إبهامه على أذنه والتى تليها على عينه وأبو هريرة حين حدث به كذلك ‏[‏أبو داود‏:‏ كتاب السنة/ باب في الجهمية، والحاكم ‏(‏1/35‏)‏ - وقال ‏(‏صحيح - ولم يخرجاه‏)‏‏.‏‏]‏، فهذا الإنسان الذي يقول‏:‏ إن الله سميع بلا سمع وبصير بلا بصر نقول له هكذا‏.‏

وكذلك الذي ينكر حقيقة اليد ويقول‏:‏ إن الله لا يقبض السموات بيمينه، وأن معنى قبضته، أي‏:‏ في تصرفه، فهذا نقول له كما فعل الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ‏.‏

فالمقام ليس بالأمر السهل، بل هو أمر صعب دقيق للغاية، فإنه يخشى من أن يقع أحد في المحذور كان بإمكانك أن تمسك عنه، وهذا هو فعل الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ في جميع تصرفاته إذا تأملتها، حتى الأمور العملية قد يؤجلها إذا خاف من فتنة أو من شيء أشد ضررا، كما أخر بناء الكعبة على قواعد إبراهيم خوفا من أن يكون فتنة لقريش الذين أسلموا حديثا ‏(‏2‏)‏‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏والماء والثرى على إصبع‏)‏‏.‏ هذا لا ينافي قوله ‏(‏الأرضين على إصبع‏)‏، لأنه يقال ‏(‏الماء والثرى على إصبع‏)‏ أي‏:‏ الأرض كلها على إصبع، ويراد بالإصبع الجنس، وإلا لتناقض مع معنى الحديث الذي قبله‏:‏ ‏(‏الشجر على إصبع، والماء على إصبع، والثرى على إصبع‏)‏، إذ النكرة إذا كررت بلفظ النكرة، فالثاني غير الأول غالبا، وإذا كررت بلفظ المعرفة، فالثاني هو الأول غالبا، فيقال‏:‏ الماء والثرى كناية على الأرض كلها، أو أن الماء والثرى على إصبع وسكت عن الباقي، إما اختصار أو اقتصار‏.‏

ولمسلم عن ابن عمر مرفوعا‏:‏ ‏(‏يطوي الله السموات يوم القيامة، ثم ياخذهن بيده اليمني، ثم يقول‏:‏ أنا الملك، أين الجبارون‏؟‏ أين المتكبرون‏؟‏ ثم يطوي الأرضين السبع، ثم ياخذهن بشماله ثم يقول‏:‏ أنا الملك، اين الجبارون‏؟‏ أين المتكبرون‏)‏ ‏[‏ مسلم كتاب صفات المنافقين / باب صفة القيامة

‏]‏

* * *