فصل: باب ما جاء في منكري القدر

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: مجموع فتاوى ورسائل فضيلة الشيخ محمد بن صالح العثيمين **


باب ما جاء في منكري القدر

قوله‏:‏ ‏(‏منكري‏)‏‏.‏ أصله منكرين - جمع مذكر سالم - فحذفت النون للإضافة كما يحدث التنوين أيضا، قال الشاعر‏:‏

كأني تنوين وأنت إضافة ** فأين تراني لا تحل جواري

وقيل‏:‏ ‏(‏مكاني‏)‏ بدل ‏(‏جواري‏)‏‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏القدر‏)‏ هو تقدير الله - عز وجل - للكائنات، وهو سر مكتوم لا يعلمه إلا الله أو من شاء من خلقه‏.‏

قال بعض أهل العلم‏:‏ القدر سر الله - عز وجل - في خلقه، ولا نعلمه إلا بعد وقوعه سواء كان خيرا أو شرا‏.‏

والقدر يطلق على معنيين‏.‏

الأول‏:‏ التقدير، أي‏:‏ إرادة الله الشيء - عز وجل -‏.‏

الثاني‏:‏ المُقدّر، أي‏:‏ ما قدره الله - عز وجل -‏.‏

والتقدير يكون مصاحبا للفعل وسابقا له، فالمصاحب للفعل هو الذي يكون به الفعل، والسابق هو قدره الله - عز وجل - في الأزل، مثال ذلك‏:‏

خلق الجنين في بطن الأم فيه تقدير سابق علمي قبل خلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة، وفيه تقدير مقارن للخلق والتكوين، وهذا الذي يكون به الفعل، أي‏:‏ تقدير الله لهذا الشيء عند خلقه‏.‏

والإيمان بالقدر يتعلق بتوحيد الربوبية خصوصا، وله تعلق بتوحيد الأسماء والصفات، لأنه من صفات الكمال لله عز وجل ‏.‏

والناس في القدر ثلاثة طوائف‏:‏

الأولى‏:‏ الجبرية الجهمية،، اثبتوا قدر الله تعالى وغلوا في لإثباته حتى سلبوا العبد اختياره وقدرته، وقالوا‏:‏ ليس للعبد اختيار ولا قدرة في ما يفعله أو يتركه، فأكله وشربه ونومه ويقظته وطاعته ومعصيته كلها بغير اختيار منه ولا قدرة، ولا فرق بين أن ينزل من السطح عبر الدرج مختارا وبين أن يلقى من السطح مكرها‏.‏

الطائفة الثانية‏:‏ القدرية المعتزلة، أثبتوا للعبد اختيارا وقدره في عمله وغلوا في ذلك حتى نفوا أن يكون لله تعالى في عمل العبد مشيءئة أو خلق، ونفى غلاتهم علم الله به قبل وقوعه، فأكل العبد أو شربه ونومه ويقظته وطاعته ومعصيته كلها واقعة باختياره التام وقدرته التامة وليس لله تعالى في ذلك مشيءئة ولا خلق، بل ولا علم قبل وقوعه عند غلاتهم‏.‏

استدل الأولون الجبرية‏:‏

بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏الله خالق كل شيء‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏62‏]‏، والعبد وفعله من الأشياء، وبقوله تعالى‏:‏ ‏{‏والله خلقكم وما تعملون‏}‏ ‏[‏الصافات‏:‏96‏]‏، وبقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏17‏]‏، فنفى الله الرمي عن نبيه حين رمى وأثبته لنفسه، وبقوله تعالى‏:‏ ‏{‏سيقول الذين أشركوا لو شاء الله ما أشركنا ولا آباؤنا ولا حرمنا من شيء‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 148‏]‏‏.‏

وله شبه أخرى تركناها خوف الإطالة‏.‏

والرد على شبهاتهم بما يلي‏:‏

أما قوله تعالى‏:‏ ‏{‏الله خالق كل شيء‏}‏، فاستدلالهم بها معارض بالنصوص الكثيرة التي فيها إثبات إرادة العبد وإضافة عمله إليه وإثابته عليه كرامة أو إهانة، وكلها من عند الله، ولو كان مجبرا عليها ما كان لإضافة عمله إليه وإثابته عليه فائدة‏.‏

وأما قوله تعالى‏:‏ ‏{‏والله خلقكم وما تعملون‏}‏، فهو حجة عليهم، لأنه أضاف العمل إليهم، وأما كون الله تعالى خالقه، فلأن عمل العبد حاصل بإرادته الجازمة وقدرته التامة، والإرادة والقدرة مخلوقان لله - عز وجل - فكان الحاصل بها مخلوقا لله‏.‏

وأما قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى‏}‏، فهو حجة عليهم، لأن الله تعالى أضاف الرمي إلى نبيه ـ صلى الله عليه وسلم ـ لكن الرمي في الآية معنيان‏:‏

أحدهما‏:‏ حذف المرمي، وهو فعل النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ الذي أضافه الله إليه‏.‏

الثاني‏:‏ إيصال المرمي إلي أعين الكفار الذين رماهم النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بالتراب يوم بدر فأصاب عين كل واحد منهم، وهذا من فعل الله، إذ ليس بمقدور النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أن يوصل التراب إلى عين كل واحد منهم‏.‏

وأما قوله تعالى‏:‏ ‏{‏سيقول الذين أشركوا لو شاء الله ما أشركنا ولا آباؤنا ولا حرمنا من شيء‏}‏، فلعمر الله، إنه الحجة على هؤلاء الجبرية، فقد أبطل الله تعالى حجة هؤلاء المشركين الذي احتجوا بالقدر على شركهم حين قال في الآية نفسها‏:‏ ‏{‏كذلك كذب الذين من قبلهم حتى ذاقوا بأسنا‏}‏، وما كان الله ليذيقهم بأسه وهم على حق فيما احتجوا به‏.‏

ثم نقول‏:‏ القول بالجبر باطل بالكتاب والسنة والعقل والحس وإجماع السلف، ولا يقول به من قدّر الله حق قدره وعرف مقتضى حكمته ورحمته‏.‏

فمن أدلة الكتاب‏:‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏منكم من يريد الدنيا ومنكم من يريد الآخرة‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 152‏]‏ وقال تعالى‏:‏ ‏{‏يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 167‏]‏ وقال‏:‏ ‏{‏إنه خبير بما تفعلون‏}‏ ‏[‏النمل‏:‏88‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏والله خبير بما تعملون‏}‏ ‏[‏المنافقون‏:‏11‏]‏ فأثبت للعبد إرادة وقولا وفعلا وعملا‏.‏

ومن أدلة السنة قول النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ‏:‏‏(‏إنما الأعمال بالنيات وإنما كل امرئ ما نوى‏)‏ ‏[‏تقدم ‏(‏ص 625‏)‏‏.‏‏]‏

وقوله‏:‏ ‏(‏ما نهيتكم عنه فاجتنبوه، وما أمرتكم به، فأتوا منه ما استطعتم‏)‏ ‏[‏البخاري‏:‏ كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة / باب الأقتداء بسنن النبي صلى الله عليه وسلم، ومسلم‏:‏ كتاب الفضائل / باب توقيره صلى الله عليه وسلم‏.‏‏]‏‏.‏

ولهذا إذا أُكره المرء على قول أو فعل وقلبه مطمئن بخلاف ما أكره عليه، لم يكن لقوله أو فعله الذي أكره عليه حكم فاعله اختيارا‏.‏

وأما إجماع السلف على بطلان القول بالجبر‏:‏ فلم ينقل عن أحد منهم أنه قال به، بل رد من أدرك منهم بدعته موروث معلوم‏.‏

وأما دلالة العقل على بطلانه‏:‏ فلأنه لو كان العبد مجبر على عمله، لكانت عقوبة العاصي ظلما ومثوبة الطائع عبثا، والله تعالى منزه عن هذا وهذا، ولأنه لو كان العبد مجبرا على عمله لم تقم الحجة بإرسال الرسل، لأن القدر باق مع إرسال الرسل، وما كان الله ليقيم على العباد حجة انتفاء كونها حجة‏.‏

وأما دلالة الحس على بطلانه‏:‏ فإن الإنسان يدرك الفرق بين ما فعله باختياره، كأكله وشربه وقيامه وقعوده، وبين ما فعله بغير اختياره، كارتعاشه من البرد والخوف ونحو ذلك‏.‏

واستدل الطائفة الثانية ‏(‏القدرية‏)‏ بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏منكم من يريد الدنيا‏}‏ ‏(‏من عمل صالحا فلنفسه ومن أساء فعليها‏)‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 46‏]‏، ونحوها من النصوص القرآنية والنبوية الدالة على أن العبد إرادة، وأنه هو العامل الكاسب الراكع الساجد ونحو ذلك‏.‏

والرد عليهم من وجوه‏:‏

الأول‏:‏ أن الآيات والأحاديث التي استدلوا بها نوعان‏:‏

نوع مقيد لإرادة العبد وعمله بأنه بمشيءئة الله، كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏لمن شاء منكم أن يستقيم* وما تشاؤون إلا إن يشاء الله رب العالمين‏}‏ ‏[‏التكوير‏:‏28 -29‏]‏ وقوله‏:‏ ‏{‏إن هذه تذكرة فمن شاء اتخذ إلى ربه سبيلا * وما تشاؤون إلا أن يشاء الله إن الله كان عليما حكيما‏}‏ ‏[‏الإنسان‏:‏29 -30‏]‏،

وكقوله تعالى‏:‏ ‏{‏لو شاء الله ما اقتتل الذين من بعدهم من بعد ما جاءتهم البينات ولكن اختلفوا فمنهم من آمن ومنهم من كفر ولو شاء الله ما اقتتلوا ولكن الله يفعل ما يريد‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏253‏]‏‏.‏

والنوع الثاني‏:‏ مطلق، كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فأتوا حرثكم أني شئتم‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 223‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{‏فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏29‏]‏ وقوله‏:‏ ‏{‏من كان يريد العاجلة‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ إلى قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ومن أراد الآخرة وسعى لها سعيها وهو مؤمن فأولئك كان سعيهم مشكور‏}‏ ‏[‏الإسراء 18-19‏]‏

وهذا النوع المطلق يحمل على المقيد كما هو معلوم عند أهل العلم‏.‏

الثاني‏:‏ أن إثبات استقلال العبد بعمله مع كونه مملوكا لله تعالى يقتضي لإثبات شيء في ملك الله لا يريده الله، وهذا نوع إشراك به، ولهذا سمي النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ‏:‏ ‏(‏القدرية مجوس هذه الأمة‏)‏ ‏[‏أخرجه الإمام أحمد وأبو داود، وهو مشهور عند أهل العلم لكن فيه ضعف‏]‏‏.‏

الثالث أن نقول لهم‏:‏ هل تقرون بأن الله تعالى عالم بما سيقع من أفعال العباد‏؟‏ فسيقول غير الغلاة منهم‏:‏ نعم، نقر بذلك، فنقول وهل وقع فعلهم على وفق علم الله أو على خلافه‏؟‏ فإن قالوا‏:‏ على وفقه، قلنا‏:‏ إذاً قد أراده، وإن قالوا‏:‏ على خلافه، فقد أنكروا علمه، وقد قال الأئمة رحمهم الله في القدرية‏:‏ ناظروهم بالعلم، فإن أقروا به، خُصموا، وإن أنكروه، كفروا‏.‏

وهاتان الطائفتان - الجبرية والقدرية - ضالتان طريق الحق، لأنهما بين مفرط غال ومفرط مقصر، فالجبرية غلوا في إثبات القدر وقصروا في إرادة العبد وقدرته، والقدرية غلوا في إثبات القدر وقصروا في العبد وقدرته، والقدرية غلوا في إثبات إرادة العبد وقدرته وقصروا في القدر‏.‏

ولهذا كان الأسعد بالدليل والأوفق للحكمة والتعليل هم‏:‏

الطائفة الثالثة‏:‏ أهل السنة والجماعة، والطائفة الوسط، الذين جمعوا بين الأدلة وسلكوا في طريقهم خير ملة، فآمنوا بقضاء الله وقدره، وبأن للعبد اختيارا وقدرة، فكل ما كان في الكون من حركة أو سكون أو وجود أو عدم، فإنه كائن بعلم الله تعالى ومشيءئته، وكل ما كان في الكون فمخلوق لله تعالى، لا خالق إلا الله ولا مدبر للخلق إلا الله - عز وجل - وآمنوا بأن للعبد مشيءئة وقدرة، لكن مشيءئته مربوطة بمشيءئة الله تعالى، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏لمن شاء منكم أن يستقيم * وما تشاؤون إلا أن يشاء الله رب العالمين‏}‏، فإذا شاء العبد شيئا وفعله، علمنا أن مشيءئة الله تعالى قد سبقت تلك المشيءئة‏.‏

هؤلاء هم الذين جمعوا بين الدليل المنقول والمعقول، فأدلتهم على إثبات القدر هي أدلة المثبتين له من الجبرية، لكنهم استدلوا بها على وجه العدل والجمع بينهما وبين الأدلة التي استدل بها نفاة القدر‏.‏

وأدلتهم على الإثبات مشيءئة العبد وقدرته هي أدلة المثبتين لذلك من القدرية، لكنهم استدلوا بها على وجه العدل والجمع بينها وبين الأدلة التي استدل بها نفاة مشيءئة العبد وقدرته‏.‏

وبهذا نعرف أن كل من الجبرية والقدرية نظروا إلى النصوص بعين الأعور الذي لا يبصر إلا من جانب واحد، فهدي الله أهل السنة والجماعة لما اختلف فيه من الحق بإذنه، والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم‏.‏

* · حكاية‏:‏

مما يحكى أن القاضي عبد الجبار الهمذاني المعتزلي دخل على الصاحب ابن عباد وكان

معتزليا ايضا، وكان عنده الأستاذ أبو إسحاق الإسفراييني، فقال عبد الجبار على الفور‏:‏ سبحان من تنزه عن الفحشاء ‏!‏ فقال أبو إسحاق فورا‏:‏ سبحان من لا يقع في ملكه إلا ما يشاء‏!‏ فقال عبد الجبار وفهم أنه قد عرف مراده‏:‏ أيريد ربنا أن يعصى‏؟‏ فقال أبو إسحاق‏:‏ أيعصى ربنا قهرا‏؟‏ فقال له عبد الجبار‏:‏ أرأيت أن منعني الهدى وقضى على بالردى، أحسن إلىّ أم أساء‏؟‏ فقال له أبو إسحاق‏:‏ إن كان منعك ما هو لك، فقد أساء، وإن كان منعك ما هو له، فيختص برحمته من يشاء‏.‏ فانصرف الحاضرون وهم يقولون‏:‏ والله، ليس عن هذا جواب‏.‏ ا‏.‏ هـ‏.‏

وقد ذكر شيءخ الإسلام ابن تميمة رحمه الله أن أهل السنة والجماعة وسط بين فرق المبتدعة في خمسة أصول ذكرها في ‏(‏العقيدة الواسطية‏)‏ فلتراجع هناك‏.‏

* · مراتب القدر‏:‏

وهي أربع يجب الإيمان بها كلها‏:‏

المرتبة الأولى‏:‏ العلم، وذلك بأن تؤمن بأن الله تعالى على علم كل شيء جملة وتفصيلا، فعلم ما كان وما يكون، فكل شيء معلوم لله، سواء كان دقيقا أم جليلا أو أفعال خلقه‏.‏

وأدلة ذلك من الكتاب كثيرة، منها‏:‏ قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وعنده مفاتيح الغيب لا يعلمها إلا هو ويعلم ما في البر والبحر وما تسقط من ورقة إلا يعلمها الله ولا حبة في ظلمات الأرض ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين‏}‏ ‏[‏الإنعام‏:‏59‏]‏ فالأوراق التي تتساقط ميتة أي ورقة كانت صغيرة أو كبيرة في بر أو بحر، فإن الله تعالى يعلمها، والورقة التي تخلق يعلمها من باب أولى‏.‏

ولا حظ سعة علم الله - عز وجل - وإحاطته، فلو فرض أنه في ليلة مظلمة ليس فيها قمر وفيها سحاب متراكم ممطر وحبة في قاع البحر المائج العميق، فهذه ظلمات متعددة‏:‏ ظلمة الطبقة الأرضية، وظلمة البحر، وظلمة السحاب، وظلمة المطر، وظلمة الأمواج، وظلمة الليل، فكل هذا داخل في قوله تعالى‏:‏ ‏(‏ولا حبة في ظلمات الأرض‏)‏، ثم جاء العموم المطلق‏:‏ ‏(‏ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين‏)‏، ولا كتابة إلا بعد علم‏.‏

ففي هذه الآية إثبات العلم وإثبات الكتابة‏.‏

ومنها قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ألم تعلم أن الله يعلم ما في السماء والأرض إن ذلك في كتاب إن ذلك في كتاب إن ذلك على الله يسير‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏70‏]‏ ففي الآية أيضا إثبات العلم وإثبات الكتابة‏.‏

المرتبة الثانية‏:‏ الكتابة، وقد دلت عليها الآيتان السابقتان‏.‏

المرتبة الثالثة‏:‏ المشيءئة، وهي عامة، ما من شيء في السموات والأرض إلا وهو كائن بإرادة الله ومشيءئته، فلا يكون في ملكه ما لا يريد أبدا، سواء كان ذلك فيما يفعله بنفسه أو يفعله مخلوق، قال تعالى‏:‏ ‏{‏إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون‏}‏ ‏[‏يس‏:‏ 82‏]‏ وقال تعالى‏:‏ ‏{‏ولو شاء ربك ما فعلوه‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 112‏]‏ وقال تعالى‏:‏ ‏{‏لو شاء الله ما اقتتل الذين من بعدهم‏.‏‏}‏ الآية ‏[‏البقرة‏:‏ 253‏]‏‏.‏

المرتبة الرابعة‏:‏ الخلق، فما من شيء في السموات ولا في الأرض إلا الله خالقه ومالكه ومدبره وذو سلطانه، قال تعالى‏:‏ ‏{‏الله خالق كل شيء‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 62‏]‏، وهذا العموم لا مخصص له، حتى فعل المخلوق مخلوق لله، لأن فعل المخلوق من صفاته، وهو وصفاته مخلوقان، ولأن فعله نتج عن أمرين‏:‏

1‏.‏ 1‏.‏ إرادة جازمة‏.‏

2‏.‏ 2‏.‏ قدرة تامة‏.‏

والله هو الذي خلق في الإنسان الإرادة الجازمة والقدرة، ولهذا قيل لأعرابي‏:‏ بم عرفت ربك‏؟‏ قال بنقص العزائم، وصرف الهمم‏.‏

والعبد يتعلق بفعله شيئان‏:‏

1‏.‏ 1‏.‏ خلق، وهذا يتعلق بالله‏.‏

2‏.‏ 2‏.‏ مباشرة، وهذا يتعلق بالعبد وينسب إليه، قال تعالى‏:‏ ‏{‏جزاء بما كانوا يعملون‏}‏ ‏[‏الواقعة‏:‏24‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏ادخلوا الجنة بما كنتم تعملون‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏32‏]‏ ولولا نسبة الفعل إلى العبد ما كان للثناء على المؤمن المطيع وإثباته فائدة، وكذلك عقوبة العاصي وتوبيخه‏.‏

وأهل السنة والجماعة يؤمنون بجميع هذه المراتب الأربع، وقد جمعت في بيت‏:‏

علم كتابة مولانا مشيـئتــه ** وخلقه وهو إيجاد وتكوين

وهناك تقديرات أخرى نسبية‏:‏

منها‏:‏ تقديري عمري‏:‏ حين يبلغ الجنين في بطن أمه أربعة أشهر يرسل إليه الملك، فينفخ فيه الروح، ويكتب رزقه وأجله وعمله وشقي أو سعيد‏.‏

ومنها‏:‏ التقدير الحولي‏:‏ وهو الذي يكون في ليلة القدر، يكتب فيها ما يكون في السنة، قال تعالى‏:‏ ‏{‏فيها يفرق كل أمر حكيم‏}‏ ‏[‏الدخان‏:‏4‏]‏‏.‏

ومنها التقدير اليومي‏:‏ كما ذكره بعض أهل العلم واستدل له بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏يسأله من في السموات والأرض كل يوم هو في شأن‏}‏ ‏[‏الرحمن‏:‏ 29‏]‏ فهو كل يوم يغني فقيرا، ويفقر غنيا، ويوجد معدوما، ويعدم موجودا، ويبسط الرزق ويقدرُهُ، وينشيء السحاب والمطر وغير ذلك‏.‏

فإن قيل‏:‏ هل الإيمان بالقدر ينافي ما علم بالضرورة من أن الإنسان يفعل الشيء باختياره‏؟‏

الجواب‏:‏ لا ينافيه، لأن ما يفعله الإنسان باختياره من قدر الله، كما قال أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه لما أقبل على الشام، وقالوا له‏:‏ إن في الشام طاعونا يفتك بالناس، فجمع الصحابة وشاورهم، فقال بعضهم‏:‏ نرجع‏.‏ فعزم على الرجوع، فجاء أمين هذه الأمة أبو عبيدة عامر بن الجراح، فقال‏:‏ يا أمير المؤمنين‏!‏ أفرارا من قدر الله‏؟‏ فأجاب عمر نفر من قدر الله إلى قدر الله ‏[‏البخاري‏:‏ كتاب الطب / باب ما يذكر في الطاعون، ومسلم‏:‏ كتاب السلام / باب الطاعون والطيرة‏.‏‏]‏‏.‏

يعني‏:‏ أن مضينا في السفر بقدر الله، ثم ضرب له مثلا، قال‏:‏ أرأيت لو كان لك إبل فهبطت واديا له شعبتن إحداهما خصبة والأخرى جدبة، أليس إن رعيت الخصبة فبقدر الله، وإن رعيت الجدبة فبقدر الله‏؟‏

وقال أيضا‏:‏ أرأيت لو رعى الجدبة وترك الخصبة، أكنت معجزة‏؟‏ قال‏:‏ نعم‏.‏ قال‏:‏ فسر إذن‏.‏ ومعنى معجزة‏:‏ ناسبا إياه إلى العجز‏.‏

فالإنسان وإن كان يفعل، فإنما يفعل بقدر الله‏.‏

فإن قيل‏:‏ إذا تقرر ذلك، لزم أن يكون العاصي معذورا بمعصيته، لأنه عصي بقدر الله‏؟‏

أُجيب‏:‏ إن احتجاج العاصي بالقدر باطل بالشرع والنظر‏.‏

أما بطلانه بالشرع‏:‏ فقد قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏سيقول الذين أشركوا لو شاء الله ما أشركنا ولا آباؤنا ولا حرمنا من شيء‏}‏ فهم قالوا هذا على سبيل الاحتجاج بالقدر على معصية الله، فرد الله عليهم بقوله‏:‏ ‏{‏كذلك كذب الذين من قبلهم حتى ذاقوا بأسنا‏}‏، ولو كانت حجتهم صحيحة ما أذاقهم الله بأسه، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏قل هل عندكم من علم فتخرجوه لنا إن تتبعون إلا الظن وإن أنتم إلا تخرصون‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 148‏]‏، وهذا دليل واضح على بطلان احتجاجهم بالقدر على معصية الله، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏رسلا مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏156‏]‏ فأبطل الله الحجة على الناس بإرسال الرسل، ولو كان القدر حجة ما انتفت بإرسال الرسل، لأن القدر باق حتى مع إرسال الرسل، وهذا يدل على بطلان احتجاج العاصي على معصيته بقدر الله‏.‏

وأما بطلانه بالنظر، فنقول‏:‏ لو فرض أنه نشر في جريدة ما عن وظيفة مرتبه كذا وكذا، ووظيفة أخرى أقل منها، فإنك سوف تطلب الأعلى، فإن لم يكن، طلبت الأخرى، فإذا لم يحصل له شيء منها، طلبت الأخرى، فإذا لم يحصل منها، فإنه يلوم نفسه على تفريطه بعدم المسارعة إليها من أول الناس‏.‏

وعندنا وظائف دينية الصلوات الخمس كفارة لما بينها، وهي كنهر على باب أحدنا يغتسل منه كل يوم خمس مرات، وصلاة الجماعة أفضل من صلاة الفذ بسبع وعشرين درجة، فلماذا تترك هذه الوظائف وتحتج بالقدر وتذهب إلى الوظائف الدنيوية الرفيعة، فكيف لا تحتج بالقدر فيما يتعلق بأمور الدنيا وتحتج به فيما يتعلق بأمور الآخرة‏؟‏

مثال آخر‏:‏رجل قال‏:‏ عسى ربي أن يرزقني بولد صالح عالم عابد، وهو لم يتزوج، فنقول‏:‏ تزوج حتى يأتيك‏.‏ فقال‏:‏ لا‏.‏ فلا يمكن أن يأتيه الولد، لكن إذا تزوج، فإن الله بمشيءئتة قد يرزقه الولد المطلوب‏.‏

وكذلك من يسال الله الفوز بالجنة والنجاة من النار، ولا يعمل لذلك، فلا يمكن أن ينجو من النار ويفوز بالجنة لأنه لم يعمل لذلك‏.‏

فبطل الاحتجاج بالقدر على معاصي الله بالأثر والنظر، ولهذا قال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ كلمة جامعة مانعة نافعة‏:‏ ‏{‏ما منكم من أحد إلا وقد كتب مقعده من الجنة ومقعده من النار‏}‏‏.‏قالوا‏:‏يا رسول الله‏!‏ أفلا ندع العمل ونتكل‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏اعملوا، فكل ميسر لما خلق له‏)‏ ‏[‏البخاري‏:‏ كتاب التفسير / باب ‏(‏فأما من أعطى وأتقى‏)‏، ومسلم‏:‏ كتاب القدر / باب كيفية خلق الآدمي في بطن أمه‏.‏‏]‏، فالنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أعطانا كلمة واحدة، فقال‏:‏ ‏(‏اعملوا‏.‏‏.‏‏.‏‏)‏، وهذا فعل أمر، ‏(‏فكل ميسر لما خلق له‏)‏‏.‏

وللإيمان بالقدر فوائد عظيمة، منها‏:‏

1 - أنه من تمام توحيد الربوبية‏.‏

2- أنه يوجب صدق الاعتماد على الله - عز وجل - لأنك إذا علمت أن كل شيء بقضاء الله وقدره صدق اعتمادك على الله‏.‏

2 2 - أنه يوجب للقلب الطمأنينة، إذا علمت أن ما أصابك لم يكن ليخطئك وما أخطأك لم يكن ليصيبك، اطمأننت بما يصيبك بعد فعل الأسباب النافعة‏.‏

3 3 - منع إعجاب المرء بعمله إذا عمل عملا يشكر عليه، لأن الله هو الذي من عليه وقدره له، قال تعالى‏:‏ ‏{‏ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأها إن ذلك على الله يسير* كيلا تأسوا على ما فاتكم ولا تفرحوا بما آتاكم‏}‏ ‏[‏الحديد‏:‏ 22-23‏]‏، أي‏:‏ فرح بطر وإعجاب بالنفس‏.‏

4 4 - عدم حزنه على ما أصابه، لأنه من ربه، فهو صادر عن رحمة وحكمة‏.‏

5 5 - أن الإنسان يفعل الأسباب، لأنه يؤمن بحكمة الله - عز وجل - وأنه لا يقدر الأشياء إلا مربوطة بأسبابها‏.‏

وقال ابن عمر‏:‏ (1)

* * *

قوله‏:‏ (2)‏‏.‏ الصيغة هنا قسم، جوابه‏:‏ جملة (3)‏‏.‏

وابن عمر - رضى الله عنه وعن أبيه - ذكر حكمهم بالنسبة لقبول عملهم ولم يقل هم كفار، لكن حكمه بأن انفاقهم في سبيل الله لا يقبل يستلزم الحكم بكفرهم، وإنما قال ابن عمر ذلك جوابا على ما نقل إليه من أن أُناسا من البصرة يقولون‏:‏ إن الله - عز وجل - لم يقدر فعل العبد وإن الأمر أُنف، وأنه لا يعلم بأفعال العبد حتى يعلمها وتقع منه، وانه لا يعلم بأفعال العبد حتى يعملها وتقع منه،

بالقدر، ثم استدل بقول النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ‏:‏ ‏(‏الإيمان أن تؤمن بالله وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، وتؤمن بالقدر خيره وشره ‏[‏مسلم‏:‏ كتاب الإيمان / باب بيان الإيمان والإسلام‏.‏‏]‏

فابن عمر حكم بكفرهم اللازم من قوله‏:‏ ‏(‏ما قبله حتى يؤمن بالقدر‏)‏، والذي لا تقبل منه النفقات هو الكافر، لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وما منعهم أن تقبل منهم نفقاتهم إلا أنهم كفروا بالله وبرسوله‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏54‏]‏، ثم استدل ابن عمر بقول النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ‏:‏ ‏(‏الإيمان‏:‏ أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، وتؤمن بالقدر خيره وشره‏)‏ فتؤمن بالجميع، فإن كفرت بواحد من هذه الستة، فأنت كافر بالجميع لأن الإيمان كل لا يتجزأ، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏ويقولون نؤمن ببعض ونكفر ببعض ويريدون أن يتخذوا بين ذلك سبيلا أولئك هم الكافرون حقا‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏150- 151‏]‏‏.‏

ووجه استدلال ابن عمر‏:‏ أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ جعل الإيمان مبنيا على هذه الأركان الستة، وإذا فات ركن من الأركان، سقط البنيان، فإذا أنكر الإنسان شيئا واحدا من هذه الأركان الستة، صار كافرا، وإذا كان كافرا، فإن الله لا يقبل منه‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏أن تؤمن بالله‏)‏‏.‏ والإيمان بالله - عز وجل - يتضمن أربعة أمور‏:‏

1 1 - الإيمان بوجوده‏.‏

2 2 - وبربوبيته‏.‏

3 3 - وبألوهيته‏.‏

4 4 - وبأسمائه وصفاته‏.‏

فمن أنكر وجود الله، فليس بمؤمن، ومن أقر بوجوده وأنه رب كل شيء، لكنه أنكر أسماءه وصفاته، أو أن يكون مختصا بها، فهو غير مؤمن بالله‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏‏(‏وملائكته‏)‏‏.‏ والإيمان بالملائكة يتضمن أربعة أمور‏:‏

1 1 الإيمان بوجودهم‏.‏

2 2 الإيمان باسم من علمنا اسمه منهم‏.‏

3 3 الإيمان بأفعالهم‏.‏

4 4 الإيمان بصفاتهم‏.‏

فممن علمنا صفاته جبريل عليه السلام، علمناه على خلقته التي خلق عليها له ستمائة جناح، وقد سد الأفق، كما أخبرنا بذلك الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ وهذا يدل على عظمته، وأنه كبير جدا، فهو فوق ما نتصور، ومع ذلك يأتي بصورة بشر، فأتى مرة بصورة دحية الكلبي، وأتى مرة بصورة رجل شديد سواد الشعر شديد بياض الثياب لا يرى عليه أثر سفر ولا يعرفه من الصحابة أحد، فجلس إلى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ جلسة المتعلم المتأدب ‏[‏تقدم ‏(‏ص 977‏)‏‏.‏‏]‏‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وكتبه‏)‏‏.‏ أي‏:‏ الكتب التي أنزلها على رسله‏.‏

والإيمان بالكتب يتضمن ما يلي‏:‏

1 1 الإيمان بأنها حق من عند الله‏.‏

2 2 تصديق أخبارها‏.‏

3 3 التزام أحكامها ما لم تنسخ، وعلى هذا، فلا يلزمنا أن تلتزم بأحكام الكتب السابقة، لأنها كلها منسوخة بالقرآن، إلا ما أقره القرآن‏.‏

وكذلك لا يلزمنا العمل بما نسخ في القرآن، لأن القرآن فيه أشياء منسوخة‏.‏

4 4 - الإيمان بما علمناه معينا منها، مثل التوراة، والأنجيل، والقرآن، والزبور، وصحف إبراهيم وموسى‏.‏

5 5 - الإيمان بأن كل رسول أرسله الله معه كتاب، كما قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب‏}‏ ‏[‏الحديد‏:‏25‏]‏ وقال عيسى ‏{‏إني عبد الله آتاني الكتاب‏}‏ ‏[‏مريم‏:‏ 30‏]‏ ، وقال عن يحي ‏{‏يا يحي خذ الكتاب بقوة‏}‏ ‏[‏مريم 12‏]‏‏.‏