فصل: مناسبة الباب لكتاب التوحيد

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: مجموع فتاوى ورسائل فضيلة الشيخ محمد بن صالح العثيمين **


باب التسمي بقاضي القضاة ونحوه

قوله‏:‏ ‏(‏باب التسمي بقاضي القضاة‏)‏‏.‏ أي‏:‏ وضع الشخص لنفسه هذا الاسم، أو رضاه به من غيره‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏قاضي القضاة‏)‏‏.‏ قاضي‏:‏ بمعنى حاكم، والقضاة؛ أي‏:‏ الحكام، و‏(‏أل‏)‏ للعموم‏.‏

والمعنى‏:‏ التسمي بحاكم الحكام ونحوه، مثل ملك الأملاك، وسلطان السلاطين، وما أشبه ذلك، مما يدل على ا والسلطان؛ لأن القاضي جمع بين الإلزام والإفتاء، بخلاف المفتي؛ فهو لا يُلزم، ولهذا قالوا‏:‏ القاضي جمع بين الشهادة، والإلزام، والإفتاء؛ فهو يشهد أن هذا الحكم حكم الله، وأن الحـق للمحكوم له على المحكوم عليه، ويفتي؛ أي‏:‏ يخبر عن حكم الله وشرعه، ويُلزم الخصمين بما حكم به‏.‏

مناسبة الباب لكتاب التوحيد

أن من تسمى بهذا الاسم؛ فقد جعل نفسه شريكاً مع الله فيما لا يستحقه إلا الله؛ لأنه لا أحد يستحق أن يكون قاضي القضاة أو حاكم الحكام أو ملك الأملاك إلا الله -سبحانه وتعالى-؛ فالله هو القاضي فوق كل قاض، وهو الذي له الحكم، ويُرجع إليه الأمر كله كما ذكر الله ذلك في القرآن‏.‏

وقد تقدم أن قضاء الله ينقسم إلى قسمين‏:‏

1- قضاء كوني‏.‏

2- قضاء شرعي‏.‏

والقضاء الكوني لابد من وقوعه، ويكون فيما أحب الله وفيما كرهه، قال تعالى‏:‏ ‏{‏وقضينا إلى بني إسرائيل في الكتاب لتفسدن في الأرض مرتين‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 4‏]‏؛ فهذا قضاء كوني متعلق بما يكرهه الله؛ لأن الفساد في الأرض لا يحبه الله، والله لا يحب المفسدين، وهذا القضاء الكوني لابد أن يقع ولا معارض له إطلاقاً‏.‏

وأما النوع الثاني من القضاء، وهو القضاء الشرعي؛ فمثل قوله تعالى‏:‏ ‏(‏وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانا‏)‏ ‏(‏الإسراء‏:‏ 23‏)‏، والقضاء الشرعي لا يلزم منه وقوع المقضي، فقد يقع وقد لا يقع، ولكنه متعلق فيما يحبه الله، وقد سبق الكلام عن ذلك‏.‏

فإن قلت‏:‏ إذا أضفنا القضاة وحصرناها بطائفة معينة، أو ببلد معين، أو بزمان معين، مثل أن يُقال‏:‏ قاضي القضاة في الفقه، أو قاضي قضاة المملكة العربية السعودية، أو قاضي قضاة مصر أو الشام، أو ما أشبه بذلك؛ فهل يجوز هذا‏؟‏

فالجواب‏:‏ أن هذا جائز؛ لأنه مُقَيَّد، ومعلوم أن قضاء الله لا يتقيد، فحينئذ لا يكون فيه مشاركة لله -عز وجل- على أنه لا ينبغي أيضاً أن يتسمى الإنسان بذلك أو يُسمَّى به وإن كان جائزاً؛ لأن النفس قد تصعب السيطرة عليها فيما إذا شعر الإنسان بأنه موصوف بقاضي قضاة الناحية الفلانية، فقد يأخذه الإعجاب بالنفس والغرور حتى لا يقبل الحق إذا خالف قوله، وهذه مسألة عظيمة لها خطرها إذا وصلت بالإنسان إلى الإعجاب بالرأي بحيث يرى أن رأيه مفروض على من سواه؛ فإن هذا خطر عظيم، فمع القول بأن ذلك جائز لا ينبغي أن يقبله اسماً لنفسه أو وصفاً له، ولا أن يتسمى به‏.‏

فإذا قُيِّد بزمان أو مكان ونحوهما؛ قلنا‏:‏ إنه جائز، ولكن الأفضل ألا يفعل، ولكن إذا قُيِّد بفن من الفنون؛ هل يكون جائزاً‏؟‏

مقتضى التقييد أن يكون جائزاً، لكن إن قُيِّد بالفقه بأن قيل‏:‏ ‏(‏عالم العلماء في الفقه‏)‏، وقلنا‏:‏ إن الفقه يشمل أصول الدين وفروعه على حد قول الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ‏:‏ ‏(‏من يرد الله به خيراً فليفقهه في الدين‏)‏ ‏[‏‏(‏1‏)‏ البخاري‏:‏ كتاب العلم/ باب من يرد الله به خيراً، ومسلم‏:‏ كتاب الزكاة/ باب النهي عن المسألة‏.‏

‏]‏؛ صار فيه عموم واسع، ومعنى هذا أن مرجع الناس كلهم في الشرع إليه؛ فهذا في نفسي منه شيء، والأولى التنزه عنه‏.‏

وأما إن قُيَّد بقبيلة؛ فهو جائز، لكن يجب مع الجواز مراعاة جانب الموصوف أن لا يغتر ويُعجب بنفسه، ولهذا قال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ للمادح‏:‏ ‏(‏قطعت عنق صاحبك‏)‏‏(‏2‏)‏‏.‏

وأما التسمي بـ‏(‏شيخ الإسلام‏)‏؛ مثل أن يُقال‏:‏ شيخ الإسلام ابن تيمية، أو شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب، أي أنه الشيخ المطلق الذي يرجع إليه الإسلام؛ فهذا لا يصح؛ إذ أن أبا بكر رضي الله عنه أحق بهذا الوصف؛ لأنه أفضل الخلق بعد النبيين، ولكن إذا قُصد بهذا الوصف أنه جَدَّد في الإسلام وحصل له أثر طيب في الدفاع عنه؛ فلا بأس بإطلاقه‏.‏

وأما بالنسبة للتسمية بـ‏(‏الإمام‏)‏؛ فهو أهون بكثير من التسمي بـ‏(‏شيخ الإسلام‏)‏؛ لأن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ سمى إمام المسجد إماماً ولو لم يكن عنده إلا اثنان‏.‏

لكن ينبغي أن ينبه أنه لا يتسامح في إطلاق كلمة إمام إلا على من كان قدوة وله أتباع؛ كالإمام أحمد والبخاري ومسلم وغيرهم ممن له أثر في الإسلام؛ لأن وصف الإنسان بما لا يستحق هضم للأمة، لأن الإنسان إذا تصور أن هذا إمام وهذا إمام هان الإمام الحق في عينه، قال الشاعر‏:‏

ألم تر أن السيف ينقص قدره ** إذا قيل إن السيف أمضى من العصا

ومن ذلك أيضاً‏:‏ ‏(‏آية الله، حجة الله، حجة الإسلام‏)‏؛ فإنها ألقاب حادثة لا تنبغي لأنه لا حجة لله على عباده إلا الرسل‏.‏

وأما آية الله، فإن أُريد به المعنى الأعم؛ فلا مدح فيه لأن كل شيء آية لله، كما قيل‏:‏

وفي كل شيء له آية ** تدل على أنه واحد

وإن أريد المعنى الأخص؛ أي‏:‏ أن هذا الرجل آية خارقة؛ فهذا في الغالب يكون مبالغاً فيه، والعبارة السليمة أن يقال‏:‏ عالم مفت، قاض، حاكم، إمام لم كان مستحقاً لذلك‏.‏

** *

قوله ‏(‏في الصحيح‏)‏ انظر الكلام عليها ‏(‏ص 146‏)‏

قوله‏:‏ ‏(‏إن أخنع اسم‏)‏‏.‏ أي‏:‏ أوضع اسم، والمراد بالاسم المسمى، فأوضع اسم عند الله رجل تسمى ملك الأملاك، لأنه جعل نفسه في مرتبة عليا، فالملوك أعلى طبقات البشر من حيث السلطة؛ فجعل مرتبته فوق مرتبتهم، وهذا لا يكون إلا لله -عز وجل- ولهذا عوقب بنقيض قصده؛ فصار أوضع اسم عند الله إذا قصده أن يتعاظم حتى على الملوك، فأُهين، ولهذا كان أحبُّ اسم عند الله ما دل على التذلل والخضوع، مثل‏:‏ عبدالله وعبدالرحمن، وأبغض اسم عند الله ما دل على الجبروت والسلطة والتعظيم‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏لا مالك إلا الله‏)‏‏.‏ أي لا مالك على الحقيقة الملك المطلق إلا الله تعالى‏.‏

وأيضاً لا ملك إلا الله -عز وجل- ولهذا جاءت آية الفاتحة بقراءتين‏:‏ ‏(‏ملك يوم الدين‏)‏ و‏(‏مالك يوم الدين‏)‏ ‏(‏الفاتحة‏:‏ 4‏)‏؛ لكي يجمع بين الملك وتمام السلطان؛ فهو -سبحانه- ملك مالك، ملك ذو سلطان وعظمة وقول نافذ، ومالك متصرف مدبر لجميع مملكته‏.‏

فالله له الخلق والملك والتدبير؛ فلا خالق إلا الله، ولا مدبر إلا الله، ولا مالك إلا الله، قال تعالى‏:‏ ‏{‏هل من خالق غير الله يرزقكم من السماء والأرض‏}‏ ‏[‏فاطر‏:‏ 3‏]‏؛ فالاستفهام بمعنى النفي، وقد أُشرب معنى التحدي، أي إن وجدتموه فهاتوه، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏إن ربك هو الخلاق العليم‏}‏ ‏[‏الحجر‏:‏ 86‏]‏ فيها توكيد وحصر، وهذا دليل انفراده بالخلق، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏إن الذين تدعون من دون الله لن يخلقوا ذباباً ولو اجتمعوا له‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏ 73‏]‏؛ فـ‏(‏الذين‏)‏‏:‏ اسم موصول يشمل كل من يُدعى من دون الله ‏{‏لن يخلقوا ذباباً‏}‏، وهذا على سبيل المبالغة؛ وما كان على سبيل المبالغة؛ فلا مفهوم له كثرة أو قلة‏.‏

وقال تعالى‏:‏ ‏{‏تبارك الذي بيده الملك‏}‏ ‏[‏الملك‏:‏ 1‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏قل اللهم مالك الملك‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 26‏]‏، وهذا دليل انفراده بالملك، وقال تعالى‏:‏

{‏قل من يرزقكم من السماء والأرض أم من يملك السمع والأبصار ومن يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي ومن يدبر الأمر فسيقولون الله‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 31‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏قل من بيده ملكوت كل شيء وهو يجير ولا يجار عليه إن كنتم تعلمون سيقولون الله‏}‏ ‏[‏المؤمنون‏:‏ 88‏]‏‏.‏

قال سفيان‏:‏ ‏(‏مثل شاهان شاه‏)‏ وفي رواية ‏(‏أغيظ رجل على الله يوم القيامة أخبثه‏)‏ ‏[‏ومسلم كتاب الآداب / باب تحريم التسمي بملك الأملاك‏]‏

قوله‏:‏ ‏(‏أخنع‏)‏ يعني‏:‏ أوضع

* * *

قولـه‏:‏ ‏(‏قال سفيان ‏(‏هو ابن عيينة‏)‏‏:‏ مثل شاهان شاه‏)‏‏.‏ وهذا يدل باللغة الفارسية؛ فشاهان‏:‏ جمع بمعنى أملاك، وشاه مفرد بمعنى ملك، والتقدير أملاك ملك؛ أي‏:‏ ملك الأملاك، لكنهم في اللغة الفارسية يقدمون المضاف إليه على المضاف‏.‏

قوله‏:‏ وفي رواية‏:‏ ‏(‏أغيظ رجل على الله يوم القيامة وأخبثه‏)‏‏.‏

أغيظ‏:‏ من الغيظ وهو الغضب؛ أي‏:‏ إن أغضب شيء عند الله ـ عز وجل ـ وأخبثه هو هذا الاسم، وإذا كان سبباً لغضب الله وخبيثاً؛ فإن التسمي به من الكبائر‏.‏

وقوله‏:‏ ‏(‏أغيظ‏)‏‏.‏ فيه إثبات الغيظ لله - عز وجل- فهي صفة تليق بالله - عز وجل ـ كغيرها من الصفات، والظاهر أنها أشد من الغضب‏.‏

الرابعة‏:‏ التفطن أن هذا لأجل الله ـ سبحانه ـ‏.‏ يؤخذ من قوله‏:‏ ‏(‏لا مالك إلا الله‏)‏؛ فالرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ أشار إلى العلة، وهي‏:‏ ‏(‏لا مالك إلا الله‏)‏؛ فكيف تقول‏:‏ ملك الأملاك وهو لا مالك إلا الله ـ عز وجل ـ‏؟‏‏!‏

* الفرق بين ملك ومالك‏:‏

ليس كل ملك مالكاً، وليس كل مالك ملكاً؛ فقد يكون الإنسان ملكاً، ولكنه لا يكون بيده التدبير، وقد يكون الإنسان مالكاً ويتصرف فيما يملكه فقط؛ فالملكُ من ملك السلطة المطلقة، لكن قد يملك التصرف فيكون ملكاً مالكاً، وقد لا يملك فيكون ملكاً وليس بمالك، أما المالك؛ فهو الذي له التصرف بشيء معين؛ كمالك البيت، ومالك السيارة وما أشبه ذلك؛ فهذا ليس بملك؛ يعني‏:‏ ليس له سلطة عامة‏.‏

ويستفاد من الحديث أيضاً‏:‏

1- إثبات صفة الغيظ لله ـ عز وجل ـ وأنه يتفاضل لقوله‏:‏ ‏(‏أغيظ‏)‏، وهو اسم تفضيل‏.‏

2- حكمة الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ في التعليم؛ لأنه لما بيّن أن هذا أخنع اسم وأغيظه أشار إلى العلة، وهو‏:‏ ‏(‏لا مالك إلا الله‏)‏، وهذا من أحسن التعليم والتعبير، ولهذا ينبغي لكل إنسان يعلم الناس أن يقرن الأحكام بما تطمئن إليه النفوس من أدلة شرعية أو علل مرعية، قال ابن القيم‏:‏

العلم معرفة الهدى بدليله ** ما ذاك والتقليد يستويان

فالعلم أن تربط الأحكام بأدلتها الأثرية أو النظرية؛ فالأثرية ما كان من كتاب أو سنة أو إجماع، والنظرية‏:‏ العقلية؛ أي‏:‏ العلل المرعية التي يعتبرها الشرع‏.‏