فصل: مناسبة الباب لما قبله

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: مجموع فتاوى ورسائل فضيلة الشيخ محمد بن صالح العثيمين **


فيه مسائل‏:‏

الأولى‏:‏ تفسير آية البقرة‏.‏ وهي قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ومن الناس من يتخذ من دون الله أندادا يحبونهم كحب الله‏}‏، وسبق ذلك‏.‏

الثانية‏:‏ تفسير آية براءة‏.‏ وهي قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية، وسبق تفسيرها‏.‏

الثالثة‏:‏ وجوب محبته ـ صلى الله عليه وسلم ـ على النفس والأهل والمال‏.‏ وفي نسخه ‏(‏وتقديمها على النفس والأهل والمال‏)‏‏.‏

ولعل الصواب‏:‏ وجوب تقديم محبته كما هو مقتضى الحديث، وأيضا قوله‏:‏ ‏(‏على النفس‏)‏ يدل على أنها قد سقطت كلمة تقديم أو تقديمها، وتؤخذ من حديث أنس السابق ومن قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏ أحب إليكم من الله ورسوله، فذكر الأقارب والأموال‏.‏

الرابعة‏:‏ أن نفي الإيمان لا يدل على الخروج من الإسلام‏.‏ سبق أن المحبة كسبية، وذكرنا في ذلك حديث عمر رضى الله لما قال‏:‏ ‏(والله إنك لأحب إلى من كل شيء إلا نفسي، فقال له ومن نفسك‏.‏ فقال الآن، أنت أحب إلى من نفسي‏)‏، وقوله‏:‏ ‏(‏الآن‏)‏ يدل على حدوث هذه المحبة، وهذا أمر ظاهر، وفيه أيضا أن نفي الإيمان المذكور في قوله ‏(‏لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده‏.‏‏.‏‏.‏‏)‏ لا يدل على الخروج من الإسلام لقوله في الحديث الآخر ‏(‏ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان‏)‏ لأن حلاوة الإيمان أمر زائد على أصله، أي إن الدليل مركب من الدليلين‏.‏

ونفي الشيء له ثلاث حالات‏:‏ فالأصل أنه نفي للوجود، وذلك مثل‏:‏ ‏(‏لا إيمان لعابد صنم‏)‏، فإن منع مانع من نفي الوجود، فهي نفي للصحة، مثل‏:‏ ‏(‏لا صلاة بغير وضوء‏)‏ فإن منع مانع من نفي الصحة، فهو نفي للكمال، مثل ‏(‏لا صلاة بحضرة الطعام‏)‏، فقوله‏:‏ ‏(‏لا يؤمن أحدكم‏)‏ نفي للكمال الواجب لا المستحب، قال شيءخ الإسلام ابن تميمة رحمه الله (1)

الخامسة أن للإيمان حلاوة قد يجدها الإنسان وقد لا يجدها‏.‏ تؤخذ من قوله‏:‏ ‏(‏ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان‏)‏، وهذا دليل انتفاء الحلاوة إذا انتفت هذه الأشياء‏.‏

السادسة‏:‏ أعمال القلب الأربعة آلتي لا تنال ولاية الله إلا بها، ولا يجد أحد طعم الإيمان إلا بها‏.‏ وهي‏:‏ الحب في الله، والبغض في الله، والولاء في الله، والعداء في الله‏.‏

لا تنال ولاية الله إلا بها، فلو صلى الإنسان وصام ووالى أعداء الله، فإنه

السابعة‏:‏ فهم الصحابي للواقع، أن عامة المؤاخاة على أمر الدنيا‏.‏

الثامنة‏:‏ تفسير‏(‏تقطعت بهم الأسباب‏)‏‏.‏ التاسعة‏:‏ أن من المشركين من يحب الله حبا شديدا‏.‏

لا ينال ولاية الله، قال ابن القيم‏:‏

أتحب أعداء الحبيب وتدّعي ** حبا له ما ذاك في إمكان

وهذا لا يقبله حتى الصبيان أن توالى من عاداهم‏.‏

وقوله‏:‏ ‏(‏ولا يجد أحد طعم الإيمان إلا بها‏)‏ مأخوذة من قول ابن عباس ‏(‏ولن يجد عبد طعم الإيمان‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏)‏ الخ‏.‏

* سابعة فهم الصحابي للواقع أن عامة المؤاخاة على أمر الدنيا‏.‏ الصحابي يعني به ابن عباس رضى الله عنهما، وقوله‏:‏ ‏(‏إن عامة المؤاخاة على أمر الدنيا‏)‏ هذا زمنه، فكيف بزمننا‏؟‏‏!‏

الثامنة‏:‏ تفسير قولة‏:‏ ‏(‏تقطعت بهم الأسباب‏)‏ فسرها بالمودة، وتفسير الصحابي إذا كانت الآية من صيغ العموم تفسير بالمثال، لأن العبرة في نصوص الكتاب والسنة بعموماتها، فإذا ذكر فرد من أفراد هذا العموم، فإنما يقصد به التمثيل، أي‏:‏ مثل المودة، لكن حتى الأسباب الأخرى التي يتقربون بها إلى الله وليست بصحيحة، فإنها تنقطع بهم ولا ينالون منها خيرا‏.‏

التاسعة‏:‏ أن من المشركين من يحب الله حبا شديدا‏.‏ كحب‏.‏ تؤخذ من قوله تعالى ‏(‏ومن الناس من يتخذ من دون الله أندادا يحبونهم كحب الله‏)‏، وهم يحبون الأصنام حبا شديدا، وتؤخذ من قوله ‏(‏والذين آمنوا أشد حبا لله‏)‏، فاشد‏:‏ اسم تفضيل يدل على الاشتراك بالمعنى مع الزيادة، فقد اشتركوا في شدة الحب، وزاد المؤمنون بكونهم أشد حبا لله من هؤلاء لأصنامهم‏.‏

العاشرة‏:‏ الوعيد على من كان الثمانية أحب إليه من دينه‏.‏ الثمانية هي المذكورة في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشيءرَتُكُمْ وَأَمْوَالُ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةُ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 24‏]‏

والوعيد في قوله‏:‏ ‏(‏فتربصوا‏)‏، فأفاد المؤلف رحمه الله تعالى إن الأمر هنا للوعيد‏.‏

الحادية عشرة‏:‏ أن من اتخذ ندا تساوى محبته محبة الله فهو الشرك الأكبر‏.‏ لقوله تعالى‏:‏ ‏(‏يحبونهم كحب الله‏)‏، ثم بين في سياق الآيات أنهم مشركون شركا أكبر، بدليل ما لهم من عذاب‏.‏

****

باب قوله تعالى

{‏إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشيطان يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏175‏]‏

مناسبة الباب لما قبله

أن المؤلف رحمه الله أعقب باب المحبة بباب الخوف، لأن العبادة ترتكز على شيءئين‏:‏ المحبة، والخوف‏.‏

فالمحبة يكون امتثال الأمر، وبالخوف يكون اجتناب النهي، وإن كان تارك المعصية يطلب الوصول إلى الله، ولكن هذا من لازم ترك المعصية، وليس هو الأساس‏.‏

فلو سألت من لا يزني لماذا، لقال‏:‏ خوفا من الله‏.‏

ولو سألت الذي يصلى، لقال‏:‏ طمعا في ثواب الله ومحبه له‏.‏

كل منهما ملازم الآخرة، فالخائف والمطيع يريدان النجاة من عذاب الله والوصول إلى رحمته‏.‏

وهل الأفضل للإنسان أن يغلب جانب الخوف أو يغلب جانب الرجاء‏؟‏

اختلف في ذلك‏:‏

فقيل‏:‏ ينبغي أن يغلب جانب الخوف، ليحمله ذلك على اجتناب المعصية ثم فعل الطاعة‏.‏

وقيل‏:‏يغلب جانب الرجاء، ليكون متفائلا، والرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ كان يعجبه الفأل‏.‏

وقيل في فعل الطاعة‏:‏ يغلب جانب الرجاء، فالذي منّ بفعل هذه الطاعة سيمن عليه بالقبول، ولهذا قال بعض السلف‏:‏ إذا وفقك الله للدعاء، فانتظر الإجابة، لأن الله يقول‏:‏ ‏{‏قال ربكم ادعوني أستجب لكم‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 60‏]‏ وفي فعل المعصية يغلب جانب الخوف، لأجل أن يمنعه منها إذا خاف من العقوبة تاب‏.‏

وهذا أقرب شيء، ولكن ليس بذاك القرب الكامل، لأن الله يقول‏:‏ ‏{‏وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةُ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ‏}‏ ‏[‏المؤمنون‏:‏60‏]‏، أي‏:‏ يخافون أن لا يقبل منهم، لكن قد يقال بأن هذه الآية يعارضها أحاديث أخرى، كقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ في الحديث القدسي عن ربه ‏(‏أنا عند ظن عبدي بي، وأنا معه حين يذكرني‏)‏‏.‏

وقيل‏:‏ في حال المرض يغلب جانب الرجاء، وفي حال الصحة يغلب جانب الخوف، فهذه أربعة أقوال‏.‏

وقال الإمام أحمد‏:‏ ينبغي أن يكون خوفه ورجاؤه واحدا، فأيهما غلب هلك صاحبه، أي‏:‏ يجعلهما كجناحي الطائر، والجناحان للطائر إذا لم يكونا متساويين سقط‏.‏

وخوف الله تعالى درجات، فمن الناس من يغلو في خوفه، ومنهم من يفرط، ومنهم من يعتدل في خوفه‏.‏

والخوف العدل هو الذي يرد عن محارم الله فقط، وإن زدت على هذا فإنه يوصلك إلى اليأس من روح الله‏.‏

ومن الناس من يفرط في خوفه بحيث لا يردعه عما نهى الله عنه‏.‏

والخوف أقسام‏:‏

الأول‏:‏ خوف العبادة والتذلل والتعظيم والخضوع، وهو ما يسمى من خوف السر‏.‏

وهذا لا يصلح إلا لله - سبحانه وتعالى - فمن أشرك فيه مع الله غيره، فهو مشرك شركا أكبر، وذلك مثل‏:‏ من يخاف من الأصنام أو الأموات، أو من يزعمونهم أولياء ويعتقدون نفعهم وضرهم، كما يفعله بعض عباد القبور‏:‏ يخاف من صاحب القبر أكثر مما يخاف الله‏.‏

الثاني‏:‏ الخوف الطبيعي والجبلَّي، فهذا في الأصل مباح، لقوله‏:‏ تعالى عن موسى ‏(‏فخرج منها خائفا يترقب‏)‏ وقوله عنه أيضا‏:‏ ‏(‏رب إنى قتلت منهم نفسا فأخاف أن يقتلون‏)‏،

لكن إن حمل على ترك واجب أو فعل محرم، فهو محرم، وإن استلزم شيئا مباحا كان مباحا، فمثلا من خاف من شيء لا يؤثر عليه وحمله هذا الخوف على ترك صلاة الجماعة مع وجوبها، فهذا الخوف محرم، والواجب عليه أن لا يتأثر به‏.‏

وإن هدده إنسان على فعل محرم، فخاف وهو لا يستطيع أن ينفذ ما هدده به، فهذا خوف محرم يؤدي إلى فعل محرم بلا عذر، وإن رأى نارا ثم هرب منها ونجا بنفسه، فهذا خوف مباح، وقد يكون واجبا إذا كان يتوصل به إلى إنقاذ نفسه‏.‏

وهناك ما يسمى بالوهم وليس بخوف، مثل أن يرى ظل شجرة تهتز، فيظن أن هذا عدو يهدده، فهذا لا ينبغي للمؤمن أن يكون كذلك، بل يطارد هذه الأوهام لأنه لا حقيقة لها، وإذا لم تطاردها، فإنه تهلك‏.‏ مناسبة الخوف للتوحيد‏:‏ أن من أقسام الخوف ما يكون شركا منافيا للتوحيد‏.‏

***

وقد ذكر المؤلف فيه ثلاث آيات‏:‏

أولها ما جعلها ترجمة للباب، وهي قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إنما ذلكم الشيطان يخوف أولياءه‏}

‏{‏إنما ذلكم‏}‏ صيغة حصر والمشار إليه التخويف من المشركين‏.‏

‏(‏ذلكم‏)‏‏:‏ ذا‏:‏ مبتدأ، و‏(‏الشيطان‏)‏‏:‏ يحتمل أن يكون خبر المبتدأ وجملة ‏(‏يخوف‏)‏ حال من الشيطان‏.‏

ويحتمل أن يكون ‏(‏الشيطان‏)‏ صفة ل ‏(‏ذلكم‏)‏، أو عطف بيان، ‏(‏ويخوف‏)‏ خبر المبتدأ والمعنى‏:‏ ما هذا التخويف الذي حصل إلا من شيءطان يخوف أولياه‏.‏

و‏(‏يخوف‏)‏ تنصب مفعولين، الأول محذوف تقديره‏:‏ يخوفكم، والمفعول الثاني‏:‏ ‏(‏أولياه‏)‏‏.‏

ومعنى يخوفكم، أي‏:‏ يوقع الخوف في قلوبكم منهم، ‏(‏أولياه‏)‏ أي‏:‏ أنصاره الذين ينصرون الفحشاء والمنكر، لأن الشيطان يأمر بذلك، فكل من نصر الفحشاء والمنكر، فهو من أولياء الشيطان، ثم يكون النصر في الشرك وما ينافي التوحيد، فيكون عظيما وقد يكون دون ذلك‏.‏

وقوله‏:‏ ‏(‏يخوف أولياه‏)‏ من ذلك ما وقع في الآية التي قبلها، حيث قالوا‏:‏ ‏{‏إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 173‏]‏، وذلك ليصدوهم عن واجب من واجبات الدين، وهو الجهاد، فيخوفهم بذلك، وكذلك ما يحصل في نفس من أراد أن يأمر بالمعروف أو ينهى عن المنكر، فيخوفه الشيطان ليصده عن هذا العمل، وكذلك ما يقع في قلب الداعية‏.‏

والحاصل‏:‏ أن الشيطان يخوف كل من أراد أن يقوم بواجب، فإذا ألقى الشيطان نفسك في الخوف، فالواجب عليك أن تعلم أن الإقدام على كلمة الحق ليس هو الذي يدني الأجل، فكم من داعية صدع بالحق ومات على فراشه‏؟‏ وكم من جبان قتل في بيته‏؟‏

وانظر خالد بن الوليد،كان شجاعا مقداما ومات على فراشه، ومادام الإنسان قائما بأمر الله، فليثق بأن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون، وحزب الله هم الغالبون‏.‏

باب قول الله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏165‏]‏‏.‏ قوله‏:‏ ‏{‏فلا تخافوهم‏}‏‏.‏ لا ناهية، والضمير يعود على أولياء الشيطان، وهذا النهي للتحريم بلا شك، أي‏:‏ بل أمضوا فيما أمرتكم به وفيما أوجبته عليكم من الجهاد، ولا تخافوا هؤلاء، وإذا كان الله مع الإنسان، فإنه لا يغلبه أحد، لكن نحتاج في الحقيقة إلى صدق النية والإخلاص والتوكل التام، ولهذا قال تعالى‏:‏ ‏{‏إن كنتم مؤمنين‏}‏، وعلم من هذه الآية أن للشيءطان وساوس يلقيها في قلب ابن آدم منها التخويف من أعدائه، وهذا ما وقع فيه كثير من الناس، وهو الخوف من أعداء الله فكانوا فريسة لهم، وإلا تكلموا على الله وخافوه قبل كل شيء، ومن اتقى الله اتقاه كل شيء، ومن خاف غير الله خاف من كل شيء‏.‏

ويفهم من الآية أن الخوف من الشيطان وأوليائه مناف للإيمان، فإن كان الخوف يؤدي إلى الشرك، فهو مناف لأصله، وإلا ‏,‏ فهو مناف لكماله‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏18‏]‏

ـ

****

* الآية الثانية قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إنما يعمر‏}‏‏.‏

‏(‏إنما‏)‏ أداة حصر، والمراد بالعمارة العمارة المعنوية، وهي عمارتها بالصلاة والذكر وقراءة القرآن ونحوها، وكذلك الحسية بالبناء الحسي، فأن عمارتها به حقيقة لا تكون إلا ممن ذكرهم الله، لأن من يعمرها وهو لم يؤمن بالله واليوم الآخر لم يعمرها حقيقة، لعدم انتفاعه بهذه العمارة، فالعمارة النافعة الحسية والمعنوية من الذين آمنوا بالله واليوم الآخر، ولهذا لما افتخر المشركون بعمارة المسجد الحرام، قال تعالى ‏{‏إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِر‏}‏، وأضاف سبحانه المساجد إلى نفسه تشريفا، لأنها موضوع عبادته‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏ومن آمن بالله‏)‏‏.‏ ‏(‏من‏)‏‏:‏ فاعل يعمر، والإيمان بالله يتضمن أربعة أمور هي‏:‏

الإيمان بوجوده، وربوبيته، وألوهيته، وأسمائه وصفاته‏.‏

واليوم الآخر‏:‏ هو يوم القيامة، وسمي بذلك لأنه لا يوم بعده‏.‏

وقال شيءخ الإسلام‏:‏ ويدخل في الأيمان بالله واليوم الآخر كل ما أخبر به النبي صلى الله عليه لأن حقيقة الأمر أن الإنسان إذا مات قامت قيامته وارتحل إلى دار الجزاء‏.‏

ويقرن الله الإيمان به بالإيمان باليوم الآخر كثيرا، لأن الإيمان باليوم الآخر يحمل الإنسان إلى الامتثال، فإنه إذا آمن أن هناك بعثا وجزاء، حمله ذلك على العمل لذلك اليوم، ولكن من لا يؤمن باليوم الآخر لا يعمل، إذ كيف يعمل لشيء وهو لا يؤمن به‏؟‏‏!‏

قوله‏:‏ ‏(‏وأقام الصلاة‏)‏‏.‏ أي‏:‏ أتى بها على وجه قويم لا نقص فيه، والإقامة نوعان‏:‏

إقامة واجبة، وهي التي يقتصر فيها على فعل الواجب من الشروط والأركان والواجبات‏.‏

و إقامة مستحبة‏:‏ وهي التي يزيد فيها على فعل ما يجب فيأتي بالواجب والمستحب‏.‏

و قوله‏:‏ ‏(‏وآتي الزكاة‏)‏‏.‏ ‏(‏آتي‏)‏ تنصب مفعولين‏:‏ الأول هنا الزكاة، والثاني‏:‏ محذوف تقديره مستحقها‏.‏

والزكاة‏:‏ هي المال الذي أوجبه الشارع في الأموال الزكوية وتختلف مقاديرها حسب ما تقتضيه حكمة الله - عز وجل -‏.‏

وقوله‏:‏ ‏(‏ولم يخش إلا الله‏)‏‏.‏ في هذه الآية حصر طريقة الإثبات والنفي‏.‏

‏(‏لم يخش‏)‏ نفي، ‏(‏إلا الله‏)‏ إثبات، والمعنى‏:‏ أن خشيءته انحصرت في الله -عز وجل، فلا يخشى غيره‏.‏

والخشيءة نوع من الخوف، لكنها أخص منه والفرق بينهما‏:‏

1‏.‏ أن الخشيءة تكون مع العلم بالمخشيء وحاله، لقوله تعالى ‏{‏إنما يخشى الله من عباده العلماء‏}‏ ‏[‏فاطر‏:‏ 28‏]‏، والخوف قد يكون من الجاهل‏.‏

2‏.‏ أن الخشيءة تكون بسبب عظمة المخشى، بخلاف الخوف، فقد يكون من ضعف الخائف لا من قوة المخّوف‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏فعسى أولئك أن يكونوا من المهتدين‏}‏‏.‏ قال ابن عباس‏:‏ ‏(‏عسى من الله واجبه‏)‏ وجاءت بصيغة الترجي، لئلا يأخذ الإنسان الغرور بأنه حصل على هذا الوصف، وهذا كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إلا المستضعفين من الرجال والنساء والوالدان لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون * فَأُولَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوّاً غَفُوراً‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 98- 99‏]‏ فالله لا يكلف نفسا إلا وسعها، فالذين لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلا جديرون بالعفو‏.‏ الشاهد من الآية‏:‏ قوله‏:‏‏{‏ولم يخش إلا الله‏}‏، ولهذا قال تعالى‏:‏ ‏{‏فلا تخشوا الناس واخشون‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 44‏]‏ ومن علامات صدق الإيمان أن لا يخشى إلا الله في كل ما يقول ويفعل‏.‏

ومن أراد أن يصحح هذا المسير، فليتأمل قول الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ‏:‏ ‏(‏واعلم أن الأمة لو اجتمعوا على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، ولو اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك‏)‏‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ‏}‏ ‏[‏العنكبوت‏:‏ من الآية10‏]‏‏.‏

الآية الثالثة قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ومن الناس‏}‏‏.‏ جار ومجرور خبر مقدم، ‏(‏ومن‏)‏ تبعيضية‏.‏

وقوله‏:‏ ‏(‏من يقول‏)‏‏.‏ ‏(‏من‏)‏‏:‏ مبتدأ مؤخر، والمراد بهؤلاء‏:‏ من لا يصل الإيمان إلى قرارة قلبه، فيقول‏:‏ آمنا بالله، لكنه إيمان متطرف، كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ومن الناس من يعبد الله على حرف فإن أصابه خير اطمأن به وإن أصابته فتنة انقلب على وجهه‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏ 11‏]‏، ‏(‏على حرف‏)‏، أي‏:‏ على طرف‏.‏

فإذا امتحنه الله بما يقدر عليه من إيذاء الأعداء في الله جعل فتنة الناس كعذاب الله‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏فإذا أوذى في الله‏)‏ ‏(‏في‏)‏‏:‏ للسببية، أي‏:‏ بسبب الإيمان بالله وإقامة دينه‏.‏

ويجوز أن تكون ‏(‏في‏)‏ للظرفية على تقدير‏:‏ ‏(‏فإذا أوذى في شرع الله‏)‏، أي‏:‏ إيذاء في هذا الشرع الذي تمسك به‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏جعل فتنة الناس‏)‏‏.‏ ‏(‏جعل‏)‏‏:‏ صيّر، والمراد بالفتنة هنا الإيذاء، وسمي فتنة، لأن الإنسان يفتن به، فيصد عن سبيل الله، كما قال تعالى‏:‏‏{‏إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ‏}‏ ‏[‏البروج‏:‏ من الآية10‏]‏، وأضاف الفتنة إلى الناس من باب إضافة المصدر إلى فاعله‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏كعذاب الله‏)‏‏.‏ ومعلوم أن الإنسان يفر من عذاب الله، فيوافق أمره، فهذا يجعل فتنة الناس كعذاب الله، فيفر من إيذائهم بموافقة أهوائهم وأمرهم جعلا هذه الفتنة كالعذاب، فحينئذ يكون قد خاف من هؤلاء كخوفه من الله، لأنه جعل إيذاءهم كعذاب الله، ففر منه بموافقة أمرهم، فالآية موافقة للترجمة‏.‏

وفي هذه الآية من الحكمة العظيمة، وهي ابتلاء الله للعبد لأجل أن يمحص إيمانه، وذلك على قسمين‏:‏

الأول‏:‏ ما يقدره الله نفسه على العبد، كقوله تعالى‏:‏‏{‏ومن الناس من يعبد الله على حرف فإن أصابه خير اطمأن قلبه وإن أصابته فتنة انقلب على وجهه خسر الدنيا والآخرة‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏ 11‏]‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وبشر الصابرين الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله و إنا إليه راجعون‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 155-156‏]‏‏.‏

الثاني‏:‏ ما يقدره الله على أيدي الخلق من الإيذاء امتحانا واختبارا، وذلك كالآية التي ذكر المؤلف‏.‏ وبعض الناس إذا أصابته مصائب لا يصبر، فيكفر ويرتد أحيانا - والعياذ بالله - وأحيانا يكفر بما خالف فيه أمر الله - عز وجل - في موقفه في تلك المصيبة، وكثير من الناس ينقص إيمانه بسبب المصائب نقصا عظيما، فليكن المسلم على حذر، فالله حكيم يمتحن عباده بما يتبين به تحقق الإيمان، قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ‏}‏ ‏[‏محمد‏:‏31‏]‏

قوله‏:‏ ‏(‏الآية‏)‏ أي‏:‏ إلى آخر الآية، وهي قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولئن جاء نصر من ربك ليقولن إنا كنا معكم أو ليس الله بأعلم بما في صدور العالمين‏}‏‏.‏

كانوا يدعون أن ما يحصل لهم من الإيذاء بسبب الإيمان، فإذا انتصر المسلمون قالوا‏:‏ نحن معكم نريد أن يصيبنا مثل ما أصابكم من غنيمة وغيرها‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏أو ليس الله بأعلم بما في صدور العالمين‏}‏‏.‏ قيل في مثل هذا السياق‏:‏ إن الواو عاطفة على محذوف يقدر بحسب ما يقتضيه السياق‏.‏

وقيل‏:‏ إنها عاطفة على ما سبقها على تقدير أن الهمزة بعده، أي‏:‏ وأليس الله‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏أعلم‏)‏ مجرور بالفتحة، لأنه ممنوع من الصرف للوصفية ووزن الفعل‏.‏

فالله أعلم بما في صدور العالمين، أي بما في صدور الجميع، فالله أعلم بما في نفسك منك، وأعلم بما في نفس غيرك، لأن علم الله عام‏.‏

وكلمة ‏(‏أعلم‏)‏‏:‏ اسم تفضيل، وقال بعض المفسرين ولا سيما المتأخرون منهم‏:‏ ‏(‏أعلم‏)‏ بمعنى عالم، وذلك فرارا من أن يقع التفضيل بين الخالق والمخلوق، وهذا التفسير الذي ذهبوا إليه كما أنه خلاف اللفظ، ففيه فساد للمعنى، لأنك إذا قلت‏:‏ أعلم بمعنى عالم ،فإن كلمة عالم تكون لإنسان وتكون لله، ولا تدل على التفاضل، فالله عالم والإنسان عالم‏.‏

وأما تحريم اللفظ، فهو ظاهر، حيث حرفوا اسم التفضيل الدال على ثبوت المعنى وزيادة إلى اسم فاعل لا يدل على ذلك‏.‏

والصواب أن ‏(‏أعلم‏)‏ على بابها، وأنها اسم تفضيل، وإذا كانت اسم تفضيل، فهي دالة دلالة واضحة على عدم تماثل علم الخالق وعلم المخلوق، وأن علم الخالق أكمل‏.‏

وقوله‏:‏ ‏(‏بما في صدور العالمين‏)‏‏.‏ المراد بالعالمين‏:‏ كل من سوى الله، لأنهم علم على خالقهم، فجميع المخلوقات دالة على كمال الله وقدرته وربوبيته‏.‏

والله أعلم بنفسك منك ومن غيرك، لعموم الآية‏.‏

وفي الآية تحذير من أن يقول الإنسان خلاف ما في قلبه، ولهذا لما تخلف كعب بن مالك في غزوة تبوك قال للرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ حين رجع‏:‏ إني قد أُوتيت جدلا، ولو جلست إلى غيرك من ملوك الدنيا، لخرجت منهم بعذر، لكن لا أقول شيئا تعذرني فيه فيفضحني الله فيه‏)‏‏.‏

الشاهد من الآية‏:‏ قوله‏:‏ ‏{‏فإذا أُوذي في الله جعل فتنة الناس كعذاب الله‏}‏ فحذف الناس مثل خوف الله تعالى‏.‏

عن أبي سعيد رضى الله عنه مرفوعا‏:‏ ‏(‏إن من ضعف اليقين أن ترضي الناس بسخط الله، وأن تحمدهم على رزق الله، وأن تذمهم على ما لم يؤتك الله، أن رزق الله لا يجره حرص حريص، ولا يرده كراهية كاره‏)‏ ‏[‏أبو نعيم في ‏(‏الحلية‏)‏ ‏(‏5/106، 10/410‏)‏، والبيهقى في ‏(‏شعب الإيمان‏)‏ رقم ‏(‏203‏)‏‏.‏‏]‏

****

قوله في حديث أبي سعيد‏:‏ ‏(‏إن من ضعف اليقين‏)‏‏.‏ ‏(‏من‏)‏ للتبعيض، والضعف ضد القوة، ويقال‏:‏ ضَعف بفتح الضاد، أو ضُعف بضم الضاد، وكلاهما بمعني واحد، أي من علامة ضعف اليقين‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏أن ترضى الناس‏)‏‏.‏ ‏(‏أن ترضى الناس‏)‏‏:‏ اسم مؤخر، و‏(‏من ضعف اليقين‏)‏ خبرها مقدما، والتقدير‏:‏ إن إرضاء الناس بسخط الله من ضعف اليقين‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏بسخط الله‏)‏‏.‏ الباء للعوض، يعني‏:‏ أي تجعل عوض إرضاء الناس سخط الله، فتستبدل هذا بهذا، فهذا من ضعف اليقين‏.‏

واليقين أعلى درجات الإيمان، وقد يراد به العلم، وكما تقول‏:‏ تيقنت هذا الشيء، أي علمته يقينا لا يعتريه الشك، فمن ضعف اليقين أن ترضى الناس بسخط الله، إذ إنك خفت الناس أكثر مما تخاف الله، وهذا مما ابتليت به الأمة الإسلامية اليوم، فتجد الإنسان يجيء إلى شخص فيمدحه، وقد يكون خاليا من هذا المدح، ولا يبين ما فيه من عيوب، وهذا من النفاق وليس من النصح والمحبة، بل النصح أن تبين له عيوبه ليتلافاها ويحترز منها، ولا بأس أن تذكر له محامده تشجيعا إذا أُمن في ذلك من الغرور‏.‏

قوله‏:‏‏(‏وأن تحمدهم على رزق الله‏)‏‏.‏ الحمد‏:‏ وصف المحمود بالكمال مع المحبة والتعظيم‏.‏

ولكن هنا ليس بشرط المحبة والتعظيم، لأنه يشمل المدح‏.‏

و‏(‏رزق الله‏)‏‏:‏ عطاء الله، أي‏:‏ إذا أعطوك شيئا حمدتهم ونسيت المسبب وهو الله، والمعنى‏:‏ أن تجعل الحمد كله لهم متناسيا بذلك المسبب، وهو الله، ولهذا قال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ‏(‏إنما أنا قاسم، والله يعطي‏)‏‏.‏

أما إن كان في قلبك أن الله هو الذي من عليك بسياق هذا الرزق، ثم شكرت الذي أعطاك، فليس هذا داخلا في الحديث، بل هو من الشرع، لقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ‏:‏ ‏(‏من صنع إليكم معروفا، فكافئوه، فإن لم تجدوا ما تكافئوه به، فادعوا له حتى تروا أنكم قد كافأتموه‏)‏‏.‏

إذاً الحديث ليس على ظاهره من كل وجه، فالمراد بالحمد‏:‏ أن تحمدهم الحمد المطلق ناسيا أن المسبب هو الله - عز وجل - وهذا من ضعف اليقين، كأنك نسيت المنعم الأصلى، وهو الله - عز وجل - الذي له النعمة الأولى، وهو سفه أيضا، لأن حقيقة الأمر أن الذي أعطاك هو الله، فالبشر الذي أعطاك هذا الرزق لم يخلق ما أعطاك، فالله هو الذي خلق ما بيده، وهو الذي عطف قلبه حتى أعطاك، أرأيت لو أن إنسانا له طفل، فأعطى طفله ألف درهم وقال له‏:‏ أعطها فلانا، فالذي أحذ الدراهم يحمد الأب، لأنه لو حمد الطفل فقط لعد هذا سفها، لأن الطفل ليس إلا مرسلا فقط، وعلى هذا، فنقول‏:‏ إنك إذا حمدتهم ناسيا بذلك ما يجب لله من الحمد والثناء، فهذا هو الذي من ضعف اليقين، أما إذا حمدتهم على أنهم سبب من الأسباب، وأن الحمد كله لله - عز وجل - فهذا حق، وليس من ضعف اليقين‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وأن تذمهم على ما لم يؤتك الله‏)‏‏.‏ هذه عكس الأولى، فمثلا‏:‏ لو أن إنسانا جاء إلى شخص يوزع دراهم، فلم يعطه، فسبه وشتمه، فهذا من الخطأ لأن ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن‏.‏

لكن من قصر بواجب عليه، فيذم لأجل أنه قصر بالواجب لا لأجل لأنه لم يعط، فلا يذم من حيث القدر، لأن الله لو قدر ذلك لوجدت الأسباب التي يصل بها إليك هذا العطاء‏.‏

وقوله‏:‏ ‏(‏ما لم يؤتك‏)‏‏.‏ علامة جزمه حذف الياء، والمفعول الثاني محذوف، لأنه فضلة، والتقدير‏:‏ ما لم يؤتك‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏إن رزق الله لا يجره حرص حريص ولا يرده كراهية كاره‏)‏

هذا تعليل، لقوله‏:‏ ‏(‏أن تحمدهم وأن تذمهم‏)‏‏.‏

و‏(‏رزق الله‏)‏‏:‏ عطاؤه، لكن حرص الحريص من سببه بلا شك، فإذا بحث عن الرزق وفعل الأسباب، فإنه يكون فعل الأسباب الموجبة للرزق، لكن ليس المعنى أن هذا السبب موجب مستحق، وإنما الذي يرزق هو الله تعالى، وكم من إنسان يفعل أسبابا كثيرة للرزق ولا يرزق، وكم من إنسان يفعل أسباب قليلة فيرزق، وكم من إنسان يأتيه الرزق بدون سعي، كما لو وجد ركازا في الأرض أو مات له قريب غني يرثه، أو ما أشبه ذلك‏.‏

وقوله‏:‏ _ ولا يرده كراهية كاره‏)‏‏.‏ أي‏:‏ أن رزق الله إذا قدر للعبد، فلن يمنعه عنه كراهية كاره، فكم من إنسان حسده الناس، وحاولوا منع رزق الله فلم يستطيعوا إلى ذلك سبيلا‏.‏

وعن عائشة رضى الله عنها، أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال‏:‏ ‏(‏من التمس

****

قوله في حديث عائشة رضى الله عنها‏:‏ ‏(‏من التمس رضا الله بسخط الناس‏)‏‏.‏

‏(‏التمس‏)‏‏:‏ طلب، ومنه قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ في ليلة القدر‏:‏ ‏(‏التمسوها في العشر‏)‏

رضا الله بسخط الناس، رضى الله عنه وأرضى عنه الناس، ومن التمس رضا الناس بسخط الله، سخط الله عليه وأسخط عليه الناس‏)‏ رواه ابن حبان في ‏(‏صحيحه‏)‏‏[‏ ابن حبان ‏(‏1- 248‏)‏، والترمذي‏:‏ كتاب الزهد / باب من التمس رضى الله بسخط الناس، ‏(‏7/ 132‏)‏‏]‏‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏رضا الله‏)‏‏.‏ أي‏:‏ أسباب رضاه، وقوله‏:‏ ‏(‏بسخط الناس‏)‏‏:‏ الباء للعوض، أي أنه طلب ما يرضي الله ولو سخط الناس به بدلا من هذا الرضا، وجواب الشرط‏:‏ ‏(‏رضى الله عنه وأرضى عنه الناس‏)‏‏.‏

وقوله‏:‏ ‏(‏رضى الله عنه وأرضى الناس‏)‏‏.‏ هذا ظاهر، فإذا التمس العبد رضا ربه بنية صادقة رضى الله عنه، لأنه أكرم من عبده، وأرضى عنه الناس، وذلك بما يلقى في قلوبهم من الرضا عنه ومحبته، لأن القلوب بين إصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف يشاء‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏ومن التمس رضا الناس بسخط الله‏)‏‏.‏ ‏(‏التمس‏)‏‏:‏ طلب، أي‏:‏ طلب ما يرضى الناس، ولو كان يسخط الله، فنتيجة ذلك أن يعامل بنقيض قصده، ولهذا قال‏:‏ ‏(‏سخط الله عليه وأسخط عليه الناس‏)‏، فألقى في قلوبهم سخط وكراهيته‏.‏

مناسبة الحديث للترجمة

قوله‏:‏ ‏(‏من التمس رضا الناس بسخط الله‏)‏، أي‏:‏ خوفا منهم حتى يرضوا عنه، فقدم خوفهم على مخافة الله تعالى‏.‏

فيستفاد من الحديث ما يلي‏:‏

1‏.‏ وجوب طلب ما يرضي الله وإن سخط الناس، لأن الله هو الذي ينفع ويضر‏.‏

2‏.‏ أنه لا يجوز أن يلتمس ما يسخط الله من أجل إرضاء الناس كائنا من كان‏.‏

3‏.‏ إثبات الرضا والسخط لله على وجه الحقيقة، لكن بلا مماثلة للمخلوقين، لقوله تعالى‏:‏ ‏(‏ليس كمثله شيء‏)‏ وهذا مذهب أهل السنة والجماعة، وأما أهل التعطيل، فأنكروا حقيقة ذلك، قالوا‏:‏ لأن الغضب غليان دم القلب لطلب الانتقام، وهذا لا يليق بالله، وهذا خطأ، لأنهم قاسوا سخط الله أو غضبه بغضب المخلوق، فنرد عليهم بأمرين‏:‏ بالمنع، ثم النقض‏:‏

فالمنع‏:‏ أن تمنع أن يكون معنى الغضب المضاف إلى الله - عز وجل - كغضب المخلوقين‏.‏

والنقض‏:‏ فنقول للأشاعرة‏:‏ أنتم أثبتم لله - عز وجل - الإرادة، وهي ميل النفس إلى جلب منفعة أو دفع مضرة، والرب عز وجل لا يليق به ذلك، فإذا قالوا‏:‏ هذه إرادة المخلوق‏.‏ نقول‏:‏ والغضب الذي ذكرتم هو غضب المخلوق‏.‏

وكل إنسان أبطل ظواهر النصوص بأقيسة عقلية، فهذه الأقيسة باطلة لوجوه‏:‏

الأول‏:‏ أنها تبطل دلالة النصوص، وهذا يقتضي أن تكون هي الحق ومدلول النصوص باطل، وهذا ممتنع‏.‏

الثاني‏:‏ أن تقول على الله بغير علم، لأن الذي يبطل ظاهر النص يؤوله إلى معنى آخر، فيقال له‏:‏ ما الذي أدراك أن الله أراد هذا المعنى دون ظاهر النص‏؟‏ ففيه تقول على الله في النفي والإثبات في نفي الظاهر، وفي إثبات ما لم يدل عليه دليل‏.‏

الثالث‏:‏ أن فيه جناية على النصوص، حيث اعتقد أنها دالة على التشبيه، لأنه لم يعطل إلا لهذا السبب، فيكون ما فهم من كتاب الله وسنة رسوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ كفرا أو ضلالا‏.‏

الرابع‏:‏ أن فيه طعنا في الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ وخلفائه الراشدين، لأننا نقول‏:‏ هذه المعاني التي صرفتم النصوص إليها هل الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ وخلفائه يعلمون بها أم لا‏؟‏

فإن قالوا‏:‏ لا يعلمون، فقد اتهموهم بالقصور، وإن قالوا‏:‏ يعلمون ولم يبينوها، فقد اتهموهم بالتقصير‏.‏

فلا تستوحش من نص دل على صفة أن تثبتها‏.‏ لكن يجب عليك أن تجتنب أمرين هما‏:‏

التمثيل والتكييف، لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فلا تضربوا لله الأمثال‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏74‏]‏ وقوله‏:‏ ‏{‏وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمُ‏)‏ ‏[‏الإسراء‏:‏36‏]‏

فإذا أثبت الله لنفسه وجها أو يدين، فلا تستوحش من إثبات ذلك، لأن الذي أخبر به عن نفسه أعلم بنفسه من غيره وأصدق قيلا وأحسن حديثا، وهو يريد لخلقه الهداية، وإذا أثبت رسوله ذلك له، فلا تستوحش من إثباته، لأنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ‏:‏ أصدق الخلق، وأعلمهم بما يقول عن الله، وأبلغهم نطقا وفصاحة، وأنصح الخلق للخلق‏.‏

فمن أنكر صفة أثبتها الله لنفسه أو أثبتها له رسوله، وقال‏:‏ هذا تقشعر منه الجلود وتنكره القلوب، فيقال‏:‏ هذا لا ينكره، فيقال‏:‏ هذا لا ينكره إلا إنسان في قلبه مرض، أما الذين آمنوا، فلا تنكره قلوبهم، بل تؤمن به وتطمئن إليه، ونحن لم نكلف إلا بما بلغنا، والله يريد لعباده البيان والهدى، قال تعالى‏:‏ ‏{‏يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏26‏]‏، فهو لا يريد أن يعمى عليهم الأمر، فيقول‏:‏ إنه يغضب وهو لا يغضب، وقول‏:‏ إنه يهرول وهو لا يهرول، هذا خلاف البيان‏.‏

فيه مسائل‏:‏

الأولى‏:‏ تفسير آية آل عمران‏.‏ وهي قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشيطان يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ‏}‏، وسبق‏.‏

الثانية‏:‏ تفسير آية براءة‏.‏ وهي قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ‏}‏‏.‏ وسبق‏.‏

الثالثة‏:‏ تفسير آية العنكبوت‏.‏ وهي قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّه‏}‏‏.‏ وقد تكلمنا على تفسيرها فيما سبق‏.‏

الرابعة‏:‏أن اليقين يضعف ويقوى‏.‏ تؤخذ من الحديث‏:‏ ‏(‏إن من ضعف اليقين‏.‏‏.‏‏.‏‏)‏ الحديث‏.‏

الخامسة‏:‏ علامة ضعفه، ومن ذلك هذه الثلاث‏.‏ وهي أن ترضى الناس بسخط الله، وأن تحمدهم على رزق الله، وأن تذمهم على ما لم يؤتك الله‏.‏

السادسة‏:‏أن إخلاص الخوف لله من الفرائض‏.‏وتؤخذ من قوله في الحديث‏:‏‏(‏من التمس‏)‏ الحديث، ووجهة ترتيب العقوبة على من قدم رضا الناس على رضا الله تعالى‏.‏

السابعة‏:‏ ذكر ثواب من فعله‏.‏ وهو رضا الله عنه، وأن يرضى عنه الناس، وهو العاقبة الحميدة‏.‏

الثامنة‏:‏ ذكر عقاب من تركه‏.‏ وهو أن يسخط الله عليه ويسخط عليه الناس، ولا ينال مقصوده‏.‏

وخلاصة الباب‏:‏

أنه يجب على المرء أن يجعل الخوف من الله فوق كل خوف، وأن لا يبالي بأحد في شريعة الله تعالى، وأن يعلم أن من التمس رضا الله تعالى وإن سخط الناس عليه، فالعاقبة له، وإن التمس رضا الناس وتعلق بهم وأسخط الله، انقلبت عليه الأحوال، ولم ينل مقصوده، بل حصل له عكس مقصوده، وهو أن يسخط الله عليه ويسخط عليه الناس‏.‏

***