فصل: مناسبة الحديث للباب

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: مجموع فتاوى ورسائل فضيلة الشيخ محمد بن صالح العثيمين **


مناسبة الآية لباب المحبة

منع الإنسان أن يحب أحدا كمحبة الله، لأن هذا من الشرك الأكبر المخرج عن الملة، وهذا يوجد في بعض العُبّاد وبعض الخدم، فبعض العباد يعظمون ويحبون بعض القبور أو الأولياء كمحبة الله أو أشد، وكذلك بعض

الخدم تجدهم يحبون هؤلاء الرؤساء أكثر مما يحبون الله ويعظمونهم أكثر مما يعظمون الله، قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلا* رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْناً كَبِيراً‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 67 - 68‏]‏‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشيءرَتُكُمْ وَأَمْوَالُ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةُ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏24‏]‏‏.‏

***

الآية الثانية قوله تعالى ‏{‏قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ‏}‏‏.‏

‏{‏آباؤكم‏}‏‏.‏اسم كان، وباقي الآية مرفوع معطوف عليه، وخبر كان ‏{‏أحب إليكم من الله ورسوله‏}‏، والخطاب في قوله‏:‏‏(‏قل‏)‏ للرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ والمخاطب في قوله‏:‏‏{‏آباؤكم‏}‏ الأمة‏.‏

والأمر في قوله ‏{‏فتربصوا‏}‏ يراد به التهديد، أي‏:‏ انتظروا عقاب الله، ولهذا قال‏:‏ ‏{‏حتى يأتي الله بأمره‏}‏ بإهلاك هؤلاء المؤثرين لمحبة هؤلاء الأصناف الثمانية على محبة الله ورسوله وجهاد في سبيله‏.‏فدلت الآية على أن محبة هؤلاء وإن كانت غير محبة العبادة إذا فضلت على محبة الله صارت سببا للعقوبة‏.‏

ومن هنا نعرف أن الإنسان إذا كان يهمل أوامر الله لأوامر والده، فهو يحب أباه أكثر من ربه‏.‏

وما في القلوب وإن كان لا يعلمه إلا الله، لكن له شاهد في الجوارح، ولذا يروى عن الحسن رحمه الله أنه قال‏:‏ (1) فالجوارح مرآة القلب‏.‏

فإن قيل‏:‏ المحبة في القلب و لا يستطيع الإنسان أن يملكها، ولهذا يروى عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أنه قال ‏(‏اللهم هذا قسمي فيما أملك، فلا تلمني فيما لا أملك‏)‏ وكيف للإنسان أن يحب شيئا وهو يبغضه، وهل هذا إلا من محاولات جعل الممتنع ممكنا‏؟‏

أجيب‏:‏ أن هذا إيراد ليس بوارد، فالإنسان قد تنقلب محبته لشيء كراهة وبالعكس، إما لسبب ظاهر أو لإرادة صادقة، فمثلا‏:‏ لك صديق تحبه فيسرق منك وينتهك حرمتك، فتكرهه لهذا السبب، أو لإرادة كرجل يحب شرب الدخان، فصار عنده إرادة صادقة وعزيمة ثابتة، فكره الدخان، فأقلع عنه‏.‏

وقال عمر رضى الله عنه للنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ‏(‏إنك لأحب إلى من كل شيء إلا من نفسي‏.‏ قال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ‏:‏ لا والذي نفسي بيده حتى أكون أحب إليك من نفسك‏.‏ قال‏:‏ الآن والله لأنت أحب إلي من نفسي‏.‏ فقال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ‏:‏ الآن يا عمر‏)‏، فقد ازدادت محبة عمر ـ رضى الله عنه ـ للنبي صلى الله، وأقره النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ على أن الحب قد يتغير‏.‏

وربما تسمع عن شخص كلاما وأنت تحبه فتكرهه، ثم يتبين لك أن هذا الكلام كذب، فتعود محبتك إياه‏.‏

عن أنس، أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال‏:‏ ‏(‏لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين‏)‏‏.‏ أخرجاه

****

قوله في حديث أنس‏:‏ ‏(‏لا يؤمن‏)‏‏.‏ هذا نفي للإيمان، ونفي الإيمان تارة يراد به نفي الكمال الواجب، وتارة يراد به نفى الوجود، أي‏:‏ نفي الأصل‏.‏

والمنفي في هذا الحديث هو كمال الإيمان الواجب، إلا إذا خلا القلب من محبة الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ إطلاقا، فلا شك أن هذا نفي لأصل الإيمان‏.‏قوله‏:‏‏(‏من ولده‏)‏‏.‏ يشمل الذكر والأنثى، وبدأ بمحبة الولد، لأن تعلق القلب به أشد من تعلقه بأبيه غالبا‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏ووالده‏)‏ يشمل أباه، وجده وإن علا، وأمه، وجدته وإن علت‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏والناس أجمعين‏)‏‏.‏ يشمل إخوته وأعمامه وأبناءهم وأصحابه ونفسه، لأنه من الناس، فلا يتم الإيمان حتى يكون حب الرسول أحب إليه من جميع المخلوقين‏.‏

وإذا كان هذا في محبة الرسول صلى الله عليه وسلم، فكيف بمحبة الله تعالى‏؟‏

ومحبة الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ تكون لأمور‏:‏

الأول‏:‏ أنه رسول الله، وإذا كان الله أحب إليك من كل شيء، فرسوله أحب إليك من كل مخلوق‏.‏

الثاني‏:‏ لما قام به من عبادة الله وتبليغ رسالته‏.‏

الثالث‏:‏ لما آتاه الله من مكارم الأخلاق ومحاسن الأعمال‏.‏

الرابع‏:‏ أنه سبب هدايتك وتعليمك وتوجيهك‏.‏

الخامس لصبره على الأذى في تبليغ الرسالة‏.‏

الخامس‏:‏ لبذل جهده بالمال والنفس لإعلاء كلمة الله‏.‏

***

ويستفاد من هذا الحديث‏:‏

1‏.‏ وجوب تقديم محبة الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ على محبة النفس‏.‏

2‏.‏ فداء الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ بالنفس والمال، لأنه يجب أن تقدم محبته على نفسك ومالك‏.‏

3‏.‏ أنه يجب على الإنسان أن ينصر سنة رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ويبذل لذلك نفسه و ماله وكل طاقته، لأن ذلك من كمال محبة رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ولذلك قال بعض أهل العلم في قوله‏:‏ ‏(‏إن شانئك هو الأبتر‏)‏ ‏[‏الكوثر‏:‏ 3‏]‏، أي‏:‏ مبغضك، قالوا‏:‏ وكذلك من أبغض شريعته ـ صلى الله عليه وسلم ـ فهو مقطوع لا خير فيه‏.‏

4‏.‏ جواز المحبة التي للشفقة والإكرام والتعظيم، لقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ‏:‏ ‏(‏أحب إليه من ولده ووالده‏.‏‏.‏‏.‏‏)‏ فأثبت أصل المحبة، وهذا أمر طبيعي لا ينكره أحد‏.‏

5‏.‏ وجوب تقديم قول الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ على قول كل الناس، لأن من لازم كونه أحب من كل أحد أن يكون قوله مقدما على كل أحد من الناس، حتى على نفسك، فمثلا‏:‏ أنت تقول شيئا وتهواه وتفعله، فيأتي إليك رجلا ويقول لك‏:‏ هذا يخالف قول الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ فإذا كان الرسول أحب إليك من نفسك فأنت تنتصر للرسول أكثر مما تنصر لنفسك، وترد على نفسك بقول الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ فتدع ما تهواه من أجل طاعة الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ وهذا عنوان تقديم محبته على محبة النفس، ولهذا قال بعضهم‏:‏

تعصي الإله وأنت تزعم حبه ** هذا لعمري في القياس بديع

لو كان حبك صادق لأطعته ** إن المحب لمن يحب مطيع

إذا يؤخذ من هذا الحديث وجوب تقديم قول الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ على قول كل الناس حتى على قول أبي بكر وعمر وعثمان، وعلى قول الأئمة الأربعة ومن بعدهم، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ من الآية36‏]‏‏.‏

لكن إذا وجدنا حديثا يخالف الأحاديث الأخرى الصحيحة أو مخالفا لقول أهل العلم وجمهور الأمة، فالواجب التثبت والتأني في الأمر، لأن اتباع الشذوذ يؤدي إلى الشذوذ‏.‏

ولهذا إذا رأيت حديثا يخالف ما عليه أكثر الأمة أو يخالف الأحاديث الصحيحة التي كالجبال في رسوها، فلا تتعجل في قبوله، بل يجب عليك أن تراجع وتطالع في سنده حتى يتبين لك الأمر، فإذا تبين، فإنه لا بأس أن يخصص الأقوى بأضعف منه إذا كان حجة، فالمهم التثبت في الأمر، وهذه القاعدة تنفعك في كثير من الأقوال التي ظهرت أخيرا، وتركها الأقدمون وصارت محل نقاش بين الناس، فإنه يجب اتباع هذه القاعدة، ويقال‏:‏ أين الناس من هذه الأحاديث‏؟‏ ولو كانت هذه الأحاديث من شريعة الله،لكانت منقولة باقية معلومة مثل ما ذكر أن الإنسان إذا لم يطف طواف الإفاضة قبل أن تغرب الشمس يوم العيد، فإنه يعود محرما، فأن هذا الحديث وإن كان ظاهر سنده الصحة، لكنه ضعيف وشاذ، ولهذا لم يذكر أن عمل به إلا رجل أو رجلان من التابعين، وإلا، فلأمة على خلافه، فمثل هذه الأحاديث يجب أن يتحرى الإنسان فيه ويتثبت، ولا نقول‏:‏ إنها لا يمكن أن تكون صحيحة‏.‏

مناسبة الحديث للباب

مناسبة هذا الحديث ظاهرة، إذ محبة الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ من محبة الله، ولأنه إذا كان لا يكمل الإيمان حتى يكون الرسول صلى الله عليه أحب إلى الإنسان من نفسه والناس أجمعين، فمحبة الله أولى وأعظم‏.‏

ولهما عنه، قال‏:‏ قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ‏:‏‏(‏ثلاث من كن فيه، وجد بهن حلاوة الإيمان‏:‏ أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب

قوله في حديث أنس الثاني‏:‏‏(‏ثلاث من كن فيه‏)‏‏.‏ أي‏:‏ ثلاث خصال، ‏(‏كن‏)‏ بمعنى وجدن فيه‏.‏

وإعراب ‏(‏ثلاث‏)‏‏:‏ مبتدأ، وجاز الابتداء بها لأنه مفيدة على حد قول ابن مالك‏:‏

المرء لا يحبه إلا الله، وأن يكره أن يعود في الكفر بعد إذ أنقذه الله منه، كما يكره أن يقذف في النار‏)‏‏.‏

ولا يجوز الابتداء بالنكرة ** ما لم تفد‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏

وقوله‏:‏ ‏(‏من كن فيه‏)‏‏.‏ ‏(‏من‏)‏‏:‏ شرطيه، ‏(‏كن‏)‏‏:‏ أصلها كان، فتكون فعلا ماضيا ناسخا، والنون اسمها، و‏(‏فيه‏)‏‏:‏ خبرها‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وجد بهن‏)‏‏.‏ وجد‏:‏ فعل ماضي في محل جزم جواب الشرط، والجملة من فعل الشرط وجوابه في محل رفع خبر المبتدأ‏.‏

وقوله‏:‏ ‏(‏وجد بهن حلاوة الإيمان‏)‏‏.‏الباء للسببية، وحلاوة‏:‏ مفعول وجد، وحلاوة الإيمان‏:‏ ما يجده الإنسان في نفسه وقلبه من الطمأنينة والراحة والانشراح، وليست مدركة باللهاب و الفم، والمقصود بالحلاوة هنا الحلاوة القلبية‏.‏

الخصلة الأولى من الخصال الواردة في الحديث‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما‏)‏ الرسول محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ وكذا جميع الرسل تجب محبتهم‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏أحب إليه مما سواهما‏)‏‏.‏ أي احب إليه من الدنيا كلها ونفسه وولده ووالده وزوجته وكل شيء سواهما، فإن قيل‏:‏ لماذا جاء الحديث بالواو ‏(‏الله ورسوله‏)‏ وجاء الخبر لهما جميعا ‏(‏أحب إليه مما سواهما‏)‏‏؟‏

وفي رواية‏:‏ ‏(‏لا يجد أحد حلاوة الإيمان حتى‏.‏‏.‏‏.‏‏)‏ إلى آخره‏.‏

فالجواب‏:‏ لأن محبة الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ من محبة الله، ولهذا جعل قوله‏:‏ أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ركنا واحدا، لأن الإخلاص لا يتم إلا بالمتابعة التي جاءت عن طريق النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ‏.‏

الخصلة الثانية‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏وأن يحب المرء لا يحبه إلا الله‏)‏

قوله‏:‏ ‏(‏وأن يحب المرء‏)‏ يشمل الرجل والمرأة‏.‏ قوله‏:‏ ‏(‏لا يحبه إلا الله‏)‏‏:‏ اللام للتعليل، أي‏:‏ من أجل الله، لأنه قائم بطاعة الله - عز وجل -‏.‏

وحب الإنسان للمرء له أسباب كثيرة‏:‏ يحبه للدنيا، ويحبه للقرابة، ويحبه للزمالة، ويحب المرء زوجته الاستمتاع، ويحب من أحسن إليه، ولكن إذا أحببت هذا المرء لله، فإن ذلك من أسباب وجود حلاوة الإيمان‏.‏

الخصلة الثالثة‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏وأن يكره أن يعود في الكفر بعد إذ أنقذه الله منه كما يكره أن يقذف في النار‏)‏‏.‏

هذه الصورة في كافر أسلم، فهو يكره أن يعود في الكفر بعد إذ أنقذه الله منه، كما يكره أن يقذف في النار، وإنما ذكر هذه الصورة، لأن الكافر يألف ما كان عليه أولا، فربما يرجع إليه بخلاف من لا يعرف الكفر أصلا‏.‏

فمن كره العود في الكفر كما يكره القذف في النار،فإن هذا من أسباب وجود حلاوة الإيمان‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وفى رواية لا يجد أحد حلاوة الإيمان‏)‏‏.‏

أتى المؤلف بهذه الرواية، لأن انتفاء وجدان حلاوة الإيمان بالنسبة للرواية الأولى عن طريق المفهوم، وهذه المفهوم، وهذه عن طريق المنطوق، ودلالة المنطوق أقوى دلالة المفهوم‏.‏

وعن ابن عباس، قال‏:‏ ‏(‏من أحبّ في الله، وأبغض في الله، ووالى في الله، وعادى في الله، فإنما تنال ولاية الله بذلك، ولن يجد عبدُُُ طعم الإيمان - وإن كثرت صلاته وصومه -

حتى يكون كذلك، وقد صارت عامة مُؤاخاة الناس على أمر الدنيا وذلك لا يُجدي على أهله

شيئا‏)‏ رواه ابن جرير‏.‏

****

قوله في أثر ابن عباس رضى الله عنهما‏:‏ ‏(‏من أحب في الله‏)‏‏.‏ ‏(‏من‏)‏ شرطية، وفعل الشرط أحب، وجوابه جملة‏:‏ ‏(‏فإنما تنال ولاية الله بذلك‏)‏‏.‏

و‏(‏في‏)‏‏:‏ يحتمل أن تكون للظرفية، لأن الأصل فيها للظرفية، ويحتمل أن تكون للسببية، لأن في‏)‏ تأتي أحيانا للسببية كما في قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ‏(‏دخلت امرأة النار في هرة‏)‏ أي‏:‏ بسبب هرة‏.‏

وقوله‏:‏‏(‏في الله‏)‏‏.‏ أي‏:‏ من أجله، إذا قلنا‏:‏ إن في للسببية، وأما إذا قلنا‏:‏ إنها للظرفية، فالمعنى‏:‏ من أحب في ذات الله، أي في دينه وشرعه لا عرض الدنيا‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وأبغض في الله‏)‏‏.‏ البغض الكره، لأي‏:‏ أبغض في ذات الله إذا رأى من يعصي الله كرهه‏.‏ وفرق بين ‏(‏في‏)‏ التي للسببية و‏(‏في‏)‏ التي للظرفية، فالسببية الحامل له على المحبة أو البغضاء هو الله، والظرفية موضع الحب أو الكراهة هو في ذات الله ـ عز وجل ـ فيبغض من أبغضه الله، ويحب من أحبه‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏ووالى في الله‏)‏‏.‏ الموالاة‏:‏ هي المحبة والنصرة وما أشبه ذلك ‏.‏

قوله‏:‏‏(‏وعادى في الله‏)‏‏.‏ المعاداة ضد الموالاة، أي‏:‏ يبتعد عنهم ويبغضهم ويكرههم في الله‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏فإنما تنال ولاية الله بذلك‏)‏‏.‏ هذا جواب الشرط، أي‏:‏ يدرك اإنسان ولاية الله ويصل إليها، لأنه جعل محبته وبغضه وولايته ومعاداته لله‏.‏

وقوله‏:‏‏(‏ولاية‏)‏‏.‏ يجوز في الواو وجهان‏:‏الفتح والكسر،قيل‏:‏معناهما واحد، وقيل‏:‏ بالفتح بمعنى النصرة،قال تعالى‏:‏‏(‏ما لكم من ولايتهم من شيء‏)‏، وبالكسر بمعنى الولاية على الشيء‏.‏

قوله‏:‏‏(‏بذلك‏)‏‏.‏الباء للسببية، والمشار إليه الحب في الله والبغض فيه، والموالاة فيه والمعاداة فيه‏.‏

وهذا الأثر موقوف، لكنه بمعنى المرفوع، لأن ترتيب الجزاء على العمل لا يكون إلا بتوقيف، إلا أن الأثر ضعيف‏.‏ فمعنى الحديث‏:‏ أن الإنسان لا يجد طعم الإيمان وحلاوته ولذته حتى يكون كذلك، ولو كثرت صلاته وصومه، وكيف يستطيع عاقلا فضلا عن مؤمن أن يوالي أعداء الله، فيرى أعداء الله يشركون به ويكفرون به ويصفونه بالنقائص والعيوب، ثم يواليهم ويحبهم‏؟‏ ‏!‏ فهذا لو صلى وقام الليل كله وصام الدهر كله، فإنه يكون لا يمكن أن ينال طعم الإيمان، فلا بد أن يكون قلبك مملوء بمحبة الله وموالاته، ويكون مملوء ببغض أعداء الله ومعاداتهم، وقال ابن القيم رحمه الله تعالى‏:‏

أتحب أعداء الحبيب وتدّعي ** حبا ما ذاك في إمكان

وقال الإمام احمد رحمه الله‏:‏ (2)‏‏.‏

هذا الذي يجد طعم الإيمان، أما - والعياذ بالله - الذي يرى أن اليهود أو النصارى على دين مرضي ومقبول عند الله بعد بعثت النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فهو خارج عن الإسلام، مكذب بقول الله‏:‏ ‏{‏ورضيت لكم الإسلام دينا‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 3‏]‏ وقوله ‏{‏إن الدين عند الله الإسلام}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 19‏]‏ وقوله ‏{‏ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 85‏]‏، ولكثرة اليهود والنصارى والوثنين صار في هذه المسالة خطر على المجتمع، وأصبح كثير من الناس الآن لا يفرقون بين مسلم وكافر، ولا يدري أن غير المسلم عدو لله - عز وجل - بل هو عدو له أيضا، لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ‏}‏ ‏[‏الممتحنة‏:‏ من الآية1‏]‏ فهم أعداء لنا ولو تظاهروا بالصداقة، قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظالمين‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ من الآية51‏]‏‏.‏

فالآن أصبحنا في محنة وخطر عظيم، لأنه يخشى على أبنائنا وأبناء قومنا أن يركنوا إلى هؤلاء و يوادوهم يحبوهم، ولذلك يجب أن تخلص هذه البلاد بالذات منهم، فهذه البلاد قال فيها الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ ‏(‏لأخرجن اليهود والنصارى من جزيرة العرب حتى لا أدع إلا مسلما‏)‏ وقال‏:‏ ‏(‏أخرجوا اليهود والنصارى من جزيرة العرب‏)‏ وقال ‏(‏أخرجوا المشركين من جزيرة العرب‏)‏، وهذا كله من أجل أن لا يشتبه الأمر على الناس ويختلط الله بأعدائه‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وقد صارت عامة مؤاخاة الناس على أمر الدنيا، وذلك لا يجدي على أهله شيئا‏)‏‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏عامة‏)‏ أي‏:‏ أغلبية‏.‏

وقوله‏:‏ ‏(‏مؤاخاة الناس‏)‏‏.‏ أي‏:‏ مودتهم ومصاحبتهم‏.‏

أي‏:‏ أكثر مودة الناس ومصاحبتهم على أمر الدنيا، وهذا ما قاله ابن عباس، وهو بعيد العهد منا قريب العهد من النبوة، فإذا كان الناس قد تغيروا في زمنه، فما بالك بالناس اليوم‏؟‏

فقد صارت مؤاخاة الناس - إلا نادر- على أمر الدنيا، بل صار أعظم من ذلك، يبيعون دينهم بدنياهم، قال تعالى‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏27‏]‏، ولما كان غالب ما يحمل على الخيانة هو المال وحب الدنيا أعقبها بقوله‏:‏ ‏{‏وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةُ وَأَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرُ عَظِيمُ‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏28‏]‏

ويستفاد من أثر بن عباس رضى الله عنهما‏:‏ أن لله تعالى أولياء، وهو ثابت بنص القرآن، قال تعالى‏:‏ ‏{‏الله ولي الذين آمنوا‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 257‏]‏ وقال تعالى‏:‏ ‏{‏إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 55‏]‏ فلله أولياء يتولون أمره ويقيمون دينه، وهو يتولاهم بالمعونة والتسديد والحفظ والتوفيق، والميزان لهذه الولاية قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفُ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏62‏]‏‏.‏

قال شيخ الإسلام‏:‏ (3)، والولاية سبق أنها النصرة والتأييد والإعانة‏.‏

والولاية تنقسم إلى‏:‏ولاية من الله للعبد،وولاية من العبد لله،فمن الأولى قوله تعالى‏:‏ ‏{‏الله ولى الذين آمنوا‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏257‏]‏ ومن الثانية قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ومن يتولى الله ورسوله والذين آمنوا‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 56‏]‏‏.‏

والولاية التي من الله للعبد تنقسم إلى عامة وخاصة، فالولاية العامة هي الولاية على العباد بالتدبير والتصريف، وهذه تشمل المؤمن والكافر وجميع الخلق، فالله هو الذي يتولى عباده بالتدبير والتصريف والسلطان وغير ذلك، ومنه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ثم ردوا إلى الله مولاهم الحق ألا له الحكم وهو أسرع الحاسبين‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 62‏]‏‏.‏

والولاية الخاصة‏:‏ أن يتولى الله العبد بعنايته وتوفيقه وهدايته، وهذه خاصة بالمؤمنين، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ من الآية257‏]‏ وقال‏:‏ ‏{‏أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفُ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏63‏]‏‏.‏

وقال ابن عباس في قوله تعالى‏:‏‏{‏وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏من الآية166‏]‏ قال‏:‏‏"‏المودة‏"‏‏.‏

***

قوله‏:‏ ‏(‏وقال ابن عباس رضى الله عنهما في قوله‏:‏ ‏{‏وتقطعت بهم الأسباب‏}‏، قال‏:‏ ‏(‏المودة‏)‏‏.‏ يشيءر إلى قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏166‏]‏

الأسباب‏:‏ جمع سبب، وهو كل ما يتوصل به إلى شيء‏.‏

وفي اصطلاح الأصوليين‏:‏ ما يلزم من وجوده الوجود ومن عدمه العدم، فكل ما يوصل إلى شيء، فهو سبب، قال تعالى‏:‏ ‏{‏مَنْ كَانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ ثُمَّ لْيَقْطَعْ‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏ من الآية15‏]‏، وسمي الحبل سببا، لأن الإنسان يتوصل به إلى استخراج الماء من البئر‏.‏

وقوله‏:‏ ‏(‏قال‏:‏ المودة‏)‏‏.‏ هذا الأثر ضعفه بعضهم، لكن معناه صحيح، فإن جمع الأسباب التي يتعلق بها المشركون لتنجيهم تتقطع بهم، ومنها محبتهم لأصنامهم وتعظيمهم إياها، فإنها لا تنفعهم، ولعل ابن عباس رضى الله عنهما أخذ من سياق الآيات، فقد قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ من الآية165‏]‏ ثم قال‏:‏ ‏{‏إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِين اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏166‏]‏‏.‏

وبه تعرف أن مراده المودة الشركية، فأما المودة الإيمانية كمودة الله تعالى ومودة ما يحبه من الأعمال والأشخاص، فإنها نافعة موصلة للمراد، وقال الله تعالى‏:‏ ‏{‏الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوُّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ‏}‏ ‏[‏الزخرف‏:‏67‏]‏‏.‏

****

فيه مسائل‏:‏

الأولى‏:‏ تفسير آية البقرة‏.‏ الثانية‏:‏ تفسير آية براءة‏.‏ الثالثة‏:‏ وجوب محبته ـ صلى الله عليه وسلم ـ على النفس والأهل والمال‏.‏ الرابعة‏:‏ نفي الإيمان لا يدل على الخروج من الإسلام‏.‏