فصل: ومناسبة الآية للباب ظاهرة

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: مجموع فتاوى ورسائل فضيلة الشيخ محمد بن صالح العثيمين **


باب قوله تعالى

‏{‏أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشيطان أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالاً بَعِيداً‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏60‏]‏

****

الآية الأولى ما جعلها ترجمة للباب، وهي قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أم تر‏}‏‏.‏

الاستفهام يراد به التقرير والتعجب من حالهم، والخطاب للنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك‏}‏‏.‏ هذا يعين أن يكون الخطاب للنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ هنا، ولم يقل الذين آمنوا، لأنهم لم يؤامنوا، بل يزعمون ذلك وهم كاذبون‏.‏

والذي أنزل على النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ الكتاب والحكمة، قال تعالى‏:‏ ‏{‏وأنزل الله عليك الكتاب والحكمة‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 113‏]‏ قال المفسرون‏:‏ الحكمة السنة، وهم يزعمون أنهم آمنوا بذلك، لكن أفعالهم تكذب أقوالهم، حيث يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت لا إلى الله ورسوله‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏إلى الطاغوت‏}‏‏.‏ صيغة مبالغة من الطغيان، ففيه اعتداء وبغي، والمراد به هنا كل حكم خالف حكم الله ورسوله، وكل حاكم يحكم بغير ما أنزل الله على رسوله، أما الطاغوت بالمعنى الأعم فقد حده ابن القيم بأنه‏:‏ ‏(‏كل ما تجاوز العبد به حده من معبود أو متبوع أو مطاع‏)‏ وقد تقدم الكلام عليه في أول كتاب التوحيد‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏وقد أمروا أن يكفروا‏}‏‏.‏ أي‏:‏ أمرهم الله بالكفر بالطاغوت أمرا ليس فيه لبس ولا خفاء، فمن أراد التحاكم إليه، فهذه الإرادة على بصيرة، إذ الأمر بين لهم‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏ويريد الشيطان‏}‏‏.‏ جنس يشمل شيءاطين الإنس والجن‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏أن يضلهم ضلالا بعيدا‏}‏‏.‏ أي‏:‏ يوقعهم في الضلال البعيد عن الحق، ولكن لا يلزم من ذلك أن ينقلهم إلى الباطل مرة واحدة، ولكن بالتدريج‏.‏

فقوله‏:‏ ‏(‏بعيدا‏)‏‏.‏ أي‏:‏ ليس قريبا، لكن بالتدرج شيئا فشيئا حتى يوقعهم في الضلال البعيد‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول‏}‏‏.‏ أي‏:‏ قال لهم الناس‏:‏ أقبلوا ‏{‏إلى ما أنزل الله‏}‏ من القرآن ‏{‏وإلى الرسول‏}‏ نفسه في حياته وسنته بعد وفاته، والمراد هنا الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ نفسه في حياته‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏رأيت المنافقين يصدون عنك صدودا‏}‏‏.‏ الرؤية هنا رؤية حال لا رؤية بصر، بدليل قوله‏:‏ ‏{‏تعالوا‏}‏، فهي تدل على أنهم ليسوا حاضرين عنده‏.‏ والمعنى‏:‏ كأنما تشاهدهم‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏رأيت المنافقين‏}‏‏.‏ إظهار في موضع الإضمار لثلاث فوائد‏:‏

الأولى‏:‏ أن هؤلاء الذين يزعمون الإيمان كانوا منافقين‏.‏

الثانية‏:‏ أن هذا لا يصدر إلا من منافق، لأن المؤمن حقا لا بد أن ينقاد لأمر الله ورسوله بدون صد‏.‏

الثالثة‏:‏ التنبيه، لأن الكلام إذا كان على نسق واحد قد يغفل الإنسان عنه، فإذا تغير، حصل له انتباه‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏رأيت المنافقين‏)‏ جواب ‏(‏إذا‏)‏، وكلمة ‏(‏صد‏)‏ تستعمل لازمة، أي‏:‏ يوصف به الشخص ولا يتعداه إلى غيره، ومصدرها صدود، كما في هذه الآية، ومتعدية، أي‏:‏ صد غيره، ومصدرها صد، كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وصدوكم عن المسجد الحرام‏}‏ ‏[‏الفتح‏:‏ 25‏]‏‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏فكيف إذا أصابتهم مصيبة بما قدمت أيديهم ثم جاؤوك يحلفون بالله إن أردنا إلا إحسانا وتوفيقا‏}‏‏.‏ الاستفهام هنا يراد به التعجب، أي‏:‏ كيف حالهم إذا أصابتهم مصيبة، والمصيبة هنا تشمل المصيبة الشرعية والدنيوية لعد تضاد المعنيين‏.‏

فالدنيوية مثل‏:‏ الفقر، والجدب، وما أشبه ذلك، فيأتون يشكون إلى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فيقولون‏:‏ أصابتنا هذه المصائب ونحن ما أردنا إلا الإحسان والتوفيق‏.‏

والشرعية‏:‏ إذا أظهر الله رسوله على أمرهم، خافوا وقالوا‏:‏ يا رسول الله‏!‏ ما أردنا إلا الإحسان والتوفيق‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏بما قدمت أيديهم‏)‏‏.‏ الباء‏:‏ هنا للسببية، و‏(‏ما‏)‏ اسم موصول، و‏(‏قدمت‏)‏ صلته، والعائد محذوف تقديره بما قدمته أيديهم، وفي اللغة العربية يطلق هذا التعبير باليد ويراد به نفس الفاعل، أي‏:‏ بما قدموه من الأعمال السيئة‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏إن أردنا إلا إحسانا وتوفيقا‏}‏‏.‏ ‏{‏إن‏}‏ بمعني‏:‏ ‏{‏ما‏}‏، أي‏:‏ ما أردنا إلا إحسانا بكوننا نسلم من الفضيحة والعار، وتوفيقا بين المؤمنين والكافرين أو بين طريق الكفر وطريق الإيمان،أي‏:‏ نمشيء معكم ونمشيء الكفار، وهذه حال المنافقين، فهم قالوا‏:‏ أردنا أن حسن المنهج والمسلك مع هؤلاء وهؤلاء ونوفق بين الطرفين‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏أولئك الذين يعلم الله ما في قلوبهم‏}‏‏.‏ توعدهم الله بأنه يعلم ما في قلوبهم من النفاق والمكر والخداع، فالله علام الغيوب، قال تعالى‏:‏ ‏{‏ولقد خلقنا الإنسان ونعلم ما توسوس به نفسه‏}‏ ‏[‏ق‏:‏ 16‏]‏ بل الله أعلم منك بما فيك، قال تعالى‏:‏ ‏{‏واعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏ 24‏]‏، وهذا من أعظم ما يكون من العلم والخبرة أن الله يحول بين المرء وقلبه، ولهذا قيل لأعرابي‏:‏ ‏(‏بم عرفت ربك‏؟‏‏)‏ قال‏:‏ بنقض العزائم، وصرف الهمم‏)‏‏.‏

فالإنسان يعزم على الشيء ثم لا يدري إلا وعزيمته منتقضة بدون سبب ظاهر‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏فأعرض عنهم‏)‏ وهذا من أبلغ ما يكون من الإهانة والاحتقار‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏وعظهم‏}‏‏.‏ أي‏:‏ ذكرهم وخوفهم، ولكن لا تجعلهم أكبر همك، فلا تخافهم، وقم بما يجب عليك من الموعظة لتقوم عليهم الحجة‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏وقل لهم في أنفسهم قولا بليغا‏}‏ ‏.‏ اختلف المفسرون فيها على ثلاثة أقوال‏:‏

الأول‏:‏ أن الجار والمجرور في أنفسهم متعلق ببليغ، أي‏:‏ قل لهم قولا بليغا في أنفسهم، أي‏:‏ يبلغ في أنفسهم مبلغا مؤثرا‏.‏

الثاني‏:‏ أن المعنى‏:‏ انصحهم سرا في أنفسهم‏.‏

الثالث‏:‏ أن المعنى‏:‏ قل لهم في أنفسهم ‏(‏أي‏:‏ في شأنهم وحالهم‏)‏ قولا بليغا في قلوبهم يؤثر عليها، والصحيح أن الآية تشمل المعاني الثلاثة، لأن اللفظ صالح لها جميعا، ولا منافاة بينها، وهذه قاعدة في التفسير ينبغي التنبيه لها، وهي أن المعاني المحتملة للآية والتي قال بها أهل العلم إذا كانت الآية تحتملها وليس بينها تعارض‏:‏ فإنه يؤخذ بجميع المعاني‏.‏

وبلاغة القول تكون في أمور‏:‏

الأول‏:‏ هيئة المتكلم بأن يكون إلقاؤه على وجه مؤثر‏.‏

وكان النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ إذا خطب، احمرت عيناه وعلا صوته، واشتد غضبه حتى كأنه منذر جيشا، يقول‏:‏ صبحكم ومساكم ‏[‏مسلم‏:‏ كتاب الجمعة / باب تخفيف الصلاة والخطبة‏.‏‏]‏‏.‏

الثاني‏:‏ أن تكون ألفاظه جزلة مترابطة محددة الموضوع‏.‏

الثالث‏:‏ أن يبلغ من الفصاحة غايتها بحسب الإمكان، بأن يكون كلامه‏:‏ سليم التركيب، موافقا لللغة العربية، مطابقا لمقتضى الحال‏.‏

قال شيءخ الإسلام ابن تميمة‏:‏ ‏(‏إن هذه الآيات تنطبق تماما على أهل التحريف والتأويل في صفات الله، لأن هؤلاء يقولون‏:‏ أنهم يؤمنون بالله ورسوله، وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول، يعرضون، ويصدون، ويقولون‏:‏ نذهب إلى فلان وفلان، وإذا اعترض عليهم، قالوا‏:‏ نريد الإحسان والتوفيق، وأن نجمع بين دلالة العقل ودلالة السمع‏)‏ ذكره رحمه الله في ‏(‏الفتوى الحموية‏)‏‏.‏

***

قوله‏:‏ ‏{‏وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏11‏]‏

الآية الثانية قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض‏}‏‏.‏

الإفساد في الأرض نوعان‏:‏

الأول‏:‏ إفساد حسي مادي، وذلك مثل هدم البيوت وإفساد الطرق وما أشبه ذلك‏.‏

الثاني‏:‏ إفساد معنوي، وذلك بالمعاصي، فهي من أكبر الفساد في الأرض، قال تعالى‏:‏ ‏{‏ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ‏}‏ ‏[‏الروم‏:‏41‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير‏}‏ ‏[‏الشورى‏:‏ 30‏]‏ وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏96‏]‏

وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأَدْخَلْنَاهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيم *ولو أنهم أقاموا التوراة والإنجيل وما أنزل إليهم من ربهم لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 65 -66‏]‏‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏إنما نحن مصلحون‏}‏‏.‏ وهذه دعوى من أبطل الدعاوى، حيث قالوا‏:‏ ما حالنا وما شأننا إلا الإصلاح‏.‏

ولهذا قال تعالى‏:‏ ‏{‏ألا إنهم هم المفسدون‏}‏‏.‏ ‏{‏ألا‏}‏‏:‏ أداة استفتاح، والجملة مؤكدة بأربع مؤكدات، وهي ‏(‏ألا‏)‏، و‏(‏إن‏)‏، وضمير الفصل ‏(‏هم‏)‏ والجملة الاسمية، فالله قابل حصرهم بأعظم منه، فهؤلاء الذين يفسدون في الأرض ويدعون الإصلاح هم المفسدون حقيقة لا غيرهم‏.‏ ومناسبة الآية للباب ظاهرة

وذلك أن التحاكم إلى غير ما أنزل الله من أكبر الفساد في الأرض‏.‏

الآية الثالثة قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لا تفسدوا في الأرض‏}‏‏.‏يشمل الفساد المادي والمعنوي كما سبق‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏بعد إصلاحها‏}‏‏.‏ من قبل المصلحين، ومن ذلك الوقوف ضد دعوة أهل العلم والوقوف ضد دعوة السلف، والوقوف ضد من ينادي بأن يكون الحكم بما في كتاب الله وسنة رسوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ‏.‏

وقوله ‏{‏بعد إصلاحها‏}‏ من باب تأكيد اللوم والتوبيخ، إذ كيف يفسد الصالح وهذا غاية ما يكون من الوقاحة والخبث والشر‏؟‏ فالإفساد بعد الإصلاح أعظم وأشد من أن يمضي الإنسان في فساده قبل الإصلاح، وإن كان المطلوب هو الإصلاح قبل بعد الفساد‏.‏