فصل: كِتَابُ الْعَارِيَّةِ:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: نصب الراية في تخريج أحاديث الهداية (نسخة منقحة)



.كِتَابُ الْعَارِيَّةِ:

قَالَ: (الْعَارِيَّةُ جَائِزَةٌ)، لِأَنَّهَا نَوْعُ إحْسَانٍ، وَقَدْ «اسْتَعَارَ النَّبِيُّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ دُرُوعًا مِنْ صَفْوَانَ» (وَهِيَ تَمْلِيكُ الْمَنَافِعِ بِغَيْرِ عِوَضٍ) وَكَانَ الْكَرْخِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ يَقُولُ: هِيَ إبَاحَةُ الِانْتِفَاعِ بِمِلْكِ الْغَيْرِ، لِأَنَّهَا تَنْعَقِدُ بِلَفْظَةِ الْإِبَاحَةِ، وَلَا يُشْتَرَطُ فِيهَا ضَرْبُ الْمُدَّةِ وَمَعَ الْجَهَالَةِ لَا يَصِحُّ التَّمْلِيكُ وَلِذَلِكَ يُعْمَلُ فِيهَا النَّهْيُ، وَلَا يَمْلِكُ الْإِجَارَةَ مِنْ غَيْرِهِ، وَنَحْنُ نَقُولُ: إنَّهُ يُنْبِئُ عَنْ التَّمْلِيكِ، فَإِنَّ الْعَارِيَّةَ مِنْ الْعَرِيَّةِ وَهِيَ الْعَطِيَّةُ، وَلِهَذَا تَنْعَقِدُ بِلَفْظَةِ التَّمْلِيكِ وَالْمَنَافِعُ قَابِلَةٌ لِلْمِلْكِ كَالْأَعْيَانِ.
وَالتَّمْلِيكُ نَوْعَانِ: بِعِوَضٍ وَبِغَيْرِ عِوَضٍ، ثُمَّ الْأَعْيَانُ تَقْبَلُ النَّوْعَيْنِ فَكَذَا الْمَنَافِعُ وَالْجَامِعُ بَيْنَهُمَا دَفْعُ الْحَاجَةِ، وَلَفْظَةُ الْإِبَاحَةِ اُسْتُعِيرَتْ لِلتَّمْلِيكِ كَمَا فِي الْإِجَارَةِ فَإِنَّهَا تَنْعَقِدُ بِلَفْظَةِ الْإِبَاحَةِ وَهِيَ تَمْلِيكٌ، وَالْجَهَالَةُ لَا تُفْضِي إلَى الْمُنَازَعَةِ لِعَدَمِ اللُّزُومِ فَلَا تَكُونُ ضَائِرَةً، وَلِأَنَّ الْمِلْكَ إنَّمَا يَثْبُتُ بِالْقَبْضِ وَهُوَ الِانْتِفَاعُ وَعِنْدَ ذَلِكَ لَا جَهَالَةَ، وَالنَّهْيُ مَنْعٌ عَنْ التَّحْصِيلِ فَلَا يَتَحَصَّلُ الْمَنَافِعُ عَلَى مِلْكِهِ وَلَا يَمْلِكُ الْإِجَارَةَ لِدَفْعِ زِيَادَةِ الضَّرَرِ عَلَى مَا نَذْكُرُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
الشرح:
كِتَابُ الْعَارِيَّةِ:
الْحَدِيثُ الْأَوَّلُ: رُوِيَ «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اسْتَعَارَ دُرُوعًا مِنْ صَفْوَانَ».
قُلْت: أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُد، وَالنَّسَائِيُّ عَنْ شَرِيكٍ عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ رُفَيْعٍ عَنْ أُمَيَّةَ بْنِ صَفْوَانَ بْنِ أُمَيَّةَ عَنْ أَبِيهِ «صَفْوَانَ بْنِ أُمَيَّةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اسْتَعَارَ مِنْهُ دُرُوعًا يَوْمَ حُنَيْنٍ، فَقَالَ: أَغَصْبًا يَا مُحَمَّدُ؟ قَالَ: بَلْ عَارِيَّةٌ مَضْمُونَةٌ»، انْتَهَى.
وَرَوَاهُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ، وَالْحَاكِمُ فِي الْمُسْتَدْرَكِ فِي الْبُيُوعِ، وَسَكَتَ عَنْهُ، وَإِنَّمَا قَالَ: وَلَهُ شَاهِدٌ صَحِيحٌ، ثُمَّ أَخْرَجَهُ عَنْ خَالِدٍ الْحَذَّاءِ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اسْتَعَارَ مِنْ صَفْوَانَ بْنِ أُمَيَّةَ أَدْرُعًا وَسِلَاحًا فِي غَزْوَةِ حُنَيْنٍ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَعَارِيَّةٌ مُؤَدَّاةٌ؟ قَالَ: نَعَمْ عَارِيَّةٌ مُؤَدَّاةٌ»، انْتَهَى.
وَقَالَ: حَدِيثٌ صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ. انْتَهَى.
وَأَخْرَجَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ، ثُمَّ الْبَيْهَقِيُّ عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ عَبْدِ الْوَاحِدِ ثَنَا خَالِدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ خَالِدٍ الْحَذَّاءِ، قَالَ فِي التَّنْقِيحِ: قَالَ أَبُو عَلِيٍّ الْحَافِظُ: إِسْحَاقُ بْنُ عَبْدِ الْوَاحِدِ مَتْرُوكُ الْحَدِيثِ. انْتَهَى.
وَأَخْرَجَهُ الْحَاكِمُ أَيْضًا فِي الْمَغَازِي مِنْ طَرِيقِ ابْنِ إِسْحَاقَ حَدَّثَنِي عَاصِمُ بْنُ عُمَرَ بْنِ قَتَادَةَ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ جَابِرٍ عَنْ أَبِيهِ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا أَرَادَ الْمَسِيرَ إلَى حُنَيْنٍ بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى صَفْوَانَ بْنِ أُمَيَّةَ فَسَأَلَهُ أَدْرَاعًا، مِائَةَ دِرْعٍ، وَمَا يُصْلِحُهَا مِنْ عُدَّتِهَا، فَقَالَ: أَغَصْبًا يَا مُحَمَّدُ؟ فَقَالَ: بَلْ عَارِيَّةٌ مَضْمُونَةٌ حَتَّى نُؤَدِّيَهَا إلَيْك، ثُمَّ خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ» مُخْتَصَرٌ، وَقَالَ: صَحِيحُ الْإِسْنَادِ، وَلَمْ يُخَرِّجَاهُ. انْتَهَى.
وَلَهُ طَرِيقٌ أُخْرَى مُرْسَلَةٌ فِي السُّنَنِ فَأَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُد عَنْ جَرِيرٍ عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ رُفَيْعٍ عَنْ أُنَاسٍ مِنْ آلِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ صَفْوَانَ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: يَا صَفْوَانُ، هَلْ عِنْدَك مِنْ سِلَاحٍ»؟ الْحَدِيثَ، وَعَنْ أَبِي الْأَحْوَصِ عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ رُفَيْعٍ عَنْ عَطَاءٍ عَنْ نَاسٍ مِنْ آلِ صَفْوَانَ، قَالَ: «اسْتَعَارَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ».
وَأَخْرَجَهُ النَّسَائِيّ عَنْ إسْرَائِيلَ عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ رُفَيْعٍ عَنْ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ صَفْوَانَ بْنِ أُمَيَّةَ: «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اسْتَعَارَ مِنْ صَفْوَانَ».
وَعَنْ هَاشِمٍ عَنْ حَجَّاجٍ عَنْ عَطَاءٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَذَكَرَهُ، يَبْقَى الْإِشْكَالُ فِي الرِّوَايَتَيْنِ، إحْدَاهُمَا قَالَ: «بَلْ عَارِيَّةٌ مَضْمُونَةٌ»، وَالْأُخْرَى قَالَ: «بَلْ عَارِيَّةٌ مُؤَدَّاةٌ»، وَالرِّوَايَتَانِ عِنْدَ أَبِي دَاوُد، وَالنَّسَائِيُّ، كِلَاهُمَا فِي عَارِيَّةِ صَفْوَانَ، قَالَ: صَاحِبُ التَّنْقِيحِ بَعْدَ ذِكْرِهِ الرِّوَايَتَيْنِ: وَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْعَارِيَّةَ مُنْقَسِمَةٌ إلَى مُؤَدَّاةٍ، وَمَضْمُونَةٍ، قَالَ: وَيَرْجِعُ ذَلِكَ إلَى الْمُعِيرِ، فَإِنْ شَرَطَ الضَّمَانَ كَانَتْ مَضْمُونَةً، وَإِلَّا فَهِيَ أَمَانَةٌ قَالَ: وَهُوَ مَذْهَبُ أَحْمَدَ، وَعَنْهُ أَنَّهَا مَضْمُونَةٌ بِكُلِّ حَالٍ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا يَضْمَنُ إلَّا إذَا فَرَّطَ فِيهَا، وَحُجَّتُهُ: «لَيْسَ عَلَى الْمُسْتَعِيرِ غَيْرِ الْمُغِلِّ ضَمَانٌ»، انْتَهَى.
قُلْت: بَلْ هُمَا وَاقِعَتَانِ، يَدُلُّ عَلَيْهِ مَا رَوَاهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ فِي مُصَنَّفِهِ فِي أَثْنَاءِ الْبُيُوعِ أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنْ بَعْضِ بَنِي صَفْوَانَ عَنْ صَفْوَانَ «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اسْتَعَارَ مِنْهُ عَارِيَّتَيْنِ: إحْدَاهُمَا بِضَمَانٍ، وَالْأُخْرَى بِغَيْرِ ضَمَانٍ» انْتَهَى.
أَحَادِيثُ الْبَابِ:
أَخْرَجَ أَبُو دَاوُد، وَالنَّسَائِيُّ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ عَنْ صَفْوَانَ بْنِ يَعْلَى بْنِ أُمَيَّةَ عَنْ أَبِيهِ يَعْلَى بْنِ أُمَيَّةَ، قَالَ: «قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إذَا أَتَتْك رُسُلِي فَأَعْطِهِمْ ثَلَاثِينَ بَعِيرًا، وَثَلَاثِينَ دِرْعًا، قَالَ: فَقُلْت: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَعَارِيَّةٌ مَضْمُونَةٌ، أَوْ عَارِيَّةٌ مُؤَدَّاةٌ؟ قَالَ: بَلْ مُؤَدَّاةٌ»، انْتَهَى.
وَرَوَاهُ ابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ فِي النَّوْعِ الْحَادِيَ عَشَرَ، مِنْ الْقِسْمِ الرَّابِعِ، قَالَ عَبْدُ الْحَقِّ فِي أَحْكَامِهِ: حَدِيثُ يَعْلَى بْنِ أُمَيَّةَ أَصَحُّ مِنْ حَدِيثِ صَفْوَانَ بْنِ أُمَيَّةَ، قَالَ ابْنُ الْقَطَّانِ: وَذَلِكَ، لِأَنَّ حَدِيثَ صَفْوَانَ هُوَ مِنْ رِوَايَةِ شَرِيكٍ عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ رُفَيْعٍ، وَلَمْ يَقُلْ: حَدَّثَنَا، وَهُوَ مُدَلِّسٌ، وَأَمَّا أُمَيَّةُ بْنُ صَفْوَانَ فَخَرَّجَ لَهُ مُسْلِمٌ، انْتَهَى كَلَامُهُ.
وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: وَهُمْ ثَلَاثَةٌ وُلُّوا الْقَضَاءَ، فَسَاءَ حِفْظُهُمْ بِالِاشْتِغَالِ عَنْ الْحَدِيثِ: مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى، وَشَرِيكٌ، وَقَيْسُ بْنُ الرَّبِيعِ، ثُمَّ إنَّ شَرِيكًا مُدَلِّسٌ، وَلَمْ يَذْكُرْ السَّمَاعَ، انْتَهَى.
حَدِيثٌ آخَرُ: أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ، وَمُسْلِمٌ عَنْ شُعْبَةَ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَنَسٍ، قَالَ: «كَانَ فَزَعٌ بِالْمَدِينَةِ، فَاسْتَعَارَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَرَسًا مِنْ أَبِي طَلْحَةَ، يُقَالُ لَهُ: الْمَنْدُوبُ: فَرَكِبَ، فَلَمَّا رَجَعَ، قَالَ: مَا رَأَيْنَا مِنْ شَيْءٍ، وَإِنْ وَجَدْنَاهُ لَبَحْرًا»، انْتَهَى.
رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي الْجِهَادِ، وَمُسْلِمٌ فِي الْفَضَائِلِ.
حَدِيثٌ آخَرُ: رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي مُعْجَمِهِ حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ الْوَهَّابِ بْنِ نَجْدَةَ الْحَوْطِيُّ ثَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ بْنُ الضَّحَّاكِ ثَنَا إسْمَاعِيلُ بْنُ عَيَّاشٍ عَنْ الْأَوْزَاعِيِّ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ الشِّفَاءِ بِنْتِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَتْ: «أَتَيْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَسْأَلُهُ، فَجَعَلَ يَعْتَذِرُ إلَيَّ وَأَنَا أَلُومُهُ، فَحَضَرَتْ الصَّلَاةُ، فَخَرَجْت فَدَخَلْت عَلَى ابْنَتِي وَهِيَ تَحْتَ شُرَحْبِيلَ بْنِ حَسَنَةَ، فَوَجَدْت شُرَحْبِيلَ فِي الْبَيْتِ، فَقُلْت: قَدْ حَضَرَتْ الصَّلَاةُ، وَأَنْتَ فِي الْبَيْتِ؟ فَجَعَلْت أَلُومُهُ، فَقَالَ: يَا خَالَةُ لَا تَلُومِينِي، فَإِنَّهُ كَانَ لَنَا ثَوْبٌ، فَاسْتَعَارَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقُلْت: بِأَبِي وَأُمِّي، كُنْت أَلُومُهُ مُنْذُ الْيَوْمِ، وَهَذِهِ حَالُهُ، وَلَا أَشْعُرُ؟ فَقَالَ شُرَحْبِيلُ: مَا كَانَ إلَّا دِرْعٌ دَفَعْنَاهُ»، انْتَهَى.
الْحَدِيثُ الثَّانِي: قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الْمِنْحَةُ مَرْدُودَةٌ، وَالْعَارِيَّةُ مُؤَدَّاةٌ».
قُلْت: رُوِيَ مِنْ حَدِيثِ أَبِي أُمَامَةَ، وَمِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ، وَمِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَمِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ.
فَحَدِيثُ أَبِي أُمَامَةَ: أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُد عَنْ إسْمَاعِيلَ بْنِ عَيَّاشٍ عَنْ شُرَحْبِيلَ بْنِ مُسْلِمٍ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ، قَالَ: سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «إنَّ اللَّهَ قَدْ أَعْطَى كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ، فَلَا وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ»، إلَى أَنْ قَالَ: «الْعَارِيَّةُ مُؤَدَّاةٌ، وَالْمِنْحَةُ مَرْدُودَةٌ»، قَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَدِيثٌ حَسَنٌ، وَأَخْرَجَهُ ابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ فِي النَّوْعِ السَّادِسِ وَالسِّتِّينَ، مِنْ الْقِسْمِ الثَّالِثِ عَنْ الْجَرَّاحِ بْنِ مَلِيحٍ النَّهْرَانِيِّ ثَنَا حَاتِمُ بْنُ حُرَيْثٍ الطَّائِيُّ، سَمِعْت أَبَا أُمَامَةَ يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الْعَارِيَّةُ مُؤَدَّاةٌ، وَالْمِنْحَةُ مَرْدُودَةٌ»، انْتَهَى.
وكَذَلِكَ أَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي مُعْجَمِهِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى الْحَدِيثِ فِي الْكَفَالَةِ.
وَأَمَّا حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ: فَرَوَاهُ الْبَزَّارُ فِي مُسْنَدِهِ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ شَبِيبٍ ثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ مُحَمَّدٍ ثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الْعَارِيَّةُ مُؤَدَّاةٌ»، انْتَهَى.
وَقَالَ: لَا نَعْلَمُهُ يُرْوَى عَنْ ابْنِ عُمَرَ إلَّا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ بِهَذَا الْإِسْنَادِ.
وَأَمَّا حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ: فَأَخْرَجَهُ ابْنُ عَدِيٍّ فِي الْكَامِلِ عَنْ إسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي زِيَادٍ السَّكُونِيِّ قَاضِي الْمَوْصِلِ ثَنَا سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ عَنْ سَالِمٍ الْأَفْطَسِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «الزَّعِيمُ غَارِمٌ، وَالدَّيْنُ مَقْضِيٌّ، وَالْعَارِيَّةُ مُؤَدَّاةٌ، وَالْمِنْحَةُ مَرْدُودَةٌ»، انْتَهَى.
وَأَعَلَّهُ بِإِسْمَاعِيلَ هَذَا، وَقَالَ: إنَّهُ مُنْكَرُ الْحَدِيثِ، وَعَامَّةُ مَا يَرْوِيهِ لَا يُتَابَعُ عَلَيْهِ.
وَأَمَّا حَدِيثُ أَنَسٍ: فَرَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي مُسْنَدِ الشَّامِيِّين، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي الْكَفَالَةِ.
حَدِيثٌ آخَرُ: مُرْسَلٌ، أَخْرَجَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ، ثُمَّ الْبَيْهَقِيُّ فِي سُنَنَيْهِمَا فِي الْبُيُوعِ عَنْ عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ، قَالَ: «أَسْلَمَ قَوْمٌ فِي أَيْدِيهِمْ عَوَارِيُّ الْمُشْرِكِينَ، فَقَالُوا: قَدْ أَحْرَزَ لَنَا الْإِسْلَامُ مَا بِأَيْدِينَا مِنْ عَوَارِيِّ الْمُشْرِكِينَ، فَبَلَغَ ذَلِكَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: إنَّ الْإِسْلَامَ لَا يُحْرِزُ لَكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ، الْعَارِيَّةُ مُؤَدَّاةٌ، فَأَدَّى الْقَوْمُ مَا بِأَيْدِيهِمْ مِنْ الْعَوَارِيِّ»، انْتَهَى.
قَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ: هَذَا مُرْسَلٌ، وَلَا تَقُومُ بِهِ حُجَّةٌ. انْتَهَى.
قَالَ: (وَتَصِحُّ بِقَوْلِهِ أَعَرْتُك)، لِأَنَّهُ صَرِيحٌ فِيهِ (وَأَطْعَمْتُك هَذِهِ الْأَرْضَ)، لِأَنَّهُ مُسْتَعْمَلٌ فِيهِ (وَمَنَحْتُك هَذَا الثَّوْبَ وَحَمَّلْتُك عَلَى هَذِهِ الدَّابَّةِ إذَا لَمْ يُرِدْ بِهِ الْهِبَةَ)، لِأَنَّهُمَا لِتَمْلِيكِ الْعَيْنِ وَعِنْدَ عَدَمِ إرَادَتِهِ الْهِبَةَ تُحْمَلُ عَلَى تَمْلِيكِ الْمَنَافِعِ تَجَوُّزًا.
قَالَ: (وَأَخْدَمْتُك هَذَا الْعَبْدَ)، لِأَنَّهُ أَذِنَ لَهُ فِي اسْتِخْدَامِهِ (وَدَارِي لَك سُكْنَى)، لِأَنَّ مَعْنَاهُ سُكْنَاهَا لَك (وَدَارِي لَك عُمْرِي سُكْنَى)، لِأَنَّهُ جَعَلَ سُكْنَاهَا لَهُ مُدَّةَ عُمْرِهِ، وَجَعَلَ قَوْلَهُ سُكْنَى تَفْسِيرًا لِقَوْلِهِ لَك، لِأَنَّهُ يَحْتَمِلُ تَمْلِيكَ الْمَنَافِعِ فَحُمِلَ عَلَيْهِ بِدَلَالَةِ آخِرِهِ.
قَالَ: (وَلِلْمُعِيرِ أَنْ يَرْجِعَ فِي الْعَارِيَّةِ مَتَى شَاءَ) لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ «الْمِنْحَةُ مَرْدُودَةٌ، وَالْعَارِيَّةُ مُؤَدَّاةٌ»، وَلِأَنَّ الْمَنَافِعَ تُمْلَكُ شَيْئًا فَشَيْئًا عَلَى حَسَبِ حُدُوثِهَا فَالتَّمْلِيكُ فِيمَا لَمْ يُوجَدْ لَمْ يَتَّصِلْ بِهِ الْقَبْضُ فَيَصِحُّ الرُّجُوعُ عَنْهُ.
قَالَ: (وَالْعَارِيَّةُ أَمَانَةٌ إنْ هَلَكَتْ مِنْ غَيْرِ تَعَدٍّ لَمْ يَضْمَنْ).
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: يَضْمَنُ، لِأَنَّهُ قَبَضَ مَالَ غَيْرِهِ لِنَفْسِهِ لَا عَنْ اسْتِحْقَاقٍ فَيَضْمَنُهُ وَالْإِذْنُ ثَبَتَ ضَرُورَةَ الِانْتِفَاعِ فَلَا يَظْهَرُ فِيمَا وَرَاءَهُ وَلِهَذَا كَانَ وَاجِبَ الرَّدِّ، وَصَارَ كَالْمَقْبُوضِ عَلَى سَوْمِ الشِّرَاءِ.
وَلَنَا أَنَّ اللَّفْظَ لَا يُنْبِئُ عَنْ الْتِزَامِ الضَّمَانِ، لِأَنَّهُ لِتَمْلِيكِ الْمَنَافِعِ بِغَيْرِ عِوَضٍ أَوْ لِإِبَاحَتِهَا وَالْقَبْضُ لَمْ يَقَعْ تَعَدِّيًا لِكَوْنِهِ مَأْذُونًا فِيهِ، وَالْإِذْنُ وَإِنْ ثَبَتَ لِأَجْلِ الِانْتِفَاعِ فَهُوَ مَا قَبَضَهُ إلَّا لِلِانْتِفَاعِ فَلَمْ يَقَعْ تَعَدِّيًا، وَإِنَّمَا يَجِبُ الرَّدُّ مُؤْنَةً كَنَفَقَةِ الْمُسْتَعَارِ فَإِنَّهَا عَلَى الْمُسْتَعِيرِ لَا لِنَقْضِ الْقَبْضِ، وَالْمَقْبُوضُ عَلَى سَوْمِ الشِّرَاءِ مَضْمُونٌ بِالْعَقْدِ، لِأَنَّ الْأَخْذَ فِي الْعَقْدِ لَهُ حُكْمُ الْعَقْدِ عَلَى مَا عُرِفَ فِي مَوْضِعِهِ.
الشرح:
أَحَادِيثُ ضَمَانِ الْعَارِيَّةِ:
لِأَصْحَابِنَا فِي الْقَوْلِ بِعَدَمِ الضَّمَانِ حَدِيثُ: «لَيْسَ عَلَى الْمُسْتَعِيرِ، غَيْرِ الْمُغِلِّ ضَمَانٌ»، وَقَدْ تَقَدَّمَ، وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ فِي مُصَنَّفِهِ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، قَالَ: الْعَارِيَّةُ بِمَنْزِلَةِ الْوَدِيعَةِ، لَا ضَمَانَ فِيهَا، إلَّا أَنْ يَتَعَدَّى، انْتَهَى.
وَأَخْرَجَ عَنْ عَلِيٍّ، قَالَ: لَيْسَ عَلَى صَاحِبِ الْعَارِيَّةِ ضَمَانٌ.
أَحَادِيثُ الْخُصُومِ:
اسْتَدَلُّوا بِحَدِيثٍ أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ عَنْ شَرِيكٍ، وَقَيْسِ بْنِ الرَّبِيعِ عَنْ أَبِي الْحُصَيْنِ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَدِّ الْأَمَانَةَ إلَى مَنْ ائْتَمَنَك، وَلَا تَخُنْ مَنْ خَانَك»، انْتَهَى.
وَقَالَ: حَسَنٌ غَرِيبٌ، قَالَ ابْنُ الْقَطَّانِ: وَالْمَانِعُ مِنْ تَصْحِيحِهِ أَنَّ شَرِيكًا، وَقَيْسَ بْنَ الرَّبِيعِ مُخْتَلَفٌ فِيهِمَا، انْتَهَى.
وَبِحَدِيثِ الْحَسَنِ عَنْ سَمُرَةَ مَرْفُوعًا: «عَلَى الْيَدِ مَا أَخَذَتْ حَتَّى تُؤَدِّيَ».
قَالَ ابْنُ الْقَطَّانِ فِي كِتَابِهِ: وَهَذَا يُمْكِنُ الِاسْتِدْلَال بِهِ لِإِغْرَامِ الْقِيَمِ فِي الْمُتْلَفَاتِ مِنْ الْعَوَارِيِّ، قَالَ: وَقَدْ رَوَاهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ عَنْ عَبْدَةَ بْنِ سُلَيْمَانَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي عَرُوبَةَ بِإِسْنَادِهِ، فَقَالَ فِيهِ: حَتَّى تُؤَدِّيَهُ، فَهُوَ بِزِيَادَةِ الْهَاءِ، مُوجِبٌ لِرَدِّ الْعَيْنِ بِحَسَبِ مَا كَانَتْ قَائِمَةً، كَقَوْلِهِ: «الْعَارِيَّةُ مُؤَدَّاةٌ» ذَكَرَ ذَلِكَ الْبَزَّارُ، انْتَهَى كَلَامُهُ.
وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ فِي مُصَنَّفِهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: الْعَارِيَّةُ تُغْرَمُ، وَأَخْرَجَ ابْنُ عَبَّاسٍ نَحْوَهُ.
قَالَ: (وَلَيْسَ لِلْمُسْتَعِيرِ أَنْ يُؤَاجِرَ مَا اسْتَعَارَهُ، فَإِنْ آجَرَهُ فَعَطِبَ ضَمِنَ)، لِأَنَّ الْإِعَارَةَ دُونَ الْإِجَارَةِ وَالشَّيْءُ لَا يَتَضَمَّنُ مَا هُوَ فَوْقَهُ، وَلِأَنَّا لَوْ صَحَّحْنَاهُ لَا يَصِحُّ إلَّا لَازِمًا، لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ يَكُونُ بِتَسْلِيطٍ مِنْ الْمُعِيرِ، وَفِي وُقُوعِهِ لَازِمًا زِيَادَةُ ضَرَرٍ بِالْمُعِيرِ لِسَدِّ بَابِ الِاسْتِرْدَادِ إلَى انْقِضَاءِ مُدَّةِ الْإِجَارَةِ فَأَبْطَلْنَاهُ، فَإِنْ آجَرَهُ ضَمِنَهُ حِينَ سَلَّمَهُ، لِأَنَّهُ إذَا لَمْ تَتَنَاوَلْهُ الْعَارِيَّةُ كَانَ غَصْبًا، وَإِنْ شَاءَ الْمُعِيرُ ضَمَّنَ الْمُسْتَأْجِرَ لِأَنَّهُ قَبَضَهُ بِغَيْرِ إذْنِ الْمَالِكِ لِنَفْسِهِ، ثُمَّ إنْ ضَمَّنَ الْمُسْتَعِيرَ لَا يَرْجِعُ عَلَى الْمُسْتَأْجِرِ، لِأَنَّهُ ظَهَرَ أَنَّهُ آجَرَ مِلْكَ نَفْسِهِ، وَإِنْ ضَمَّنَ الْمُسْتَأْجِرَ يَرْجِعُ عَلَى الْمُؤَاجِرِ إذَا لَمْ يَعْلَمْ أَنَّهُ كَانَ عَارِيَّةً فِي يَدِهِ دَفْعًا لِضَرَرِ الْغَرَرِ بِخِلَافِ مَا إذَا عَلِمَ.
قَالَ: (وَلَهُ أَنْ يُعِيرَهُ إذَا كَانَ مِمَّا لَا يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْمُسْتَعْمِلِ).
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: لَيْسَ لَهُ أَنْ يُعِيرَهُ، لِأَنَّهُ إبَاحَةُ الْمَنَافِعِ عَلَى مَا بَيَّنَّا مِنْ قَبْلُ وَالْمُبَاحُ لَهُ لَا يَمْلِكُ الْإِبَاحَةَ وَهَذَا، لِأَنَّ الْمَنَافِعَ غَيْرُ قَابِلَةٍ لِلْمِلْكِ لِكَوْنِهَا مَعْدُومَةً، وَإِنَّمَا جَعَلْنَاهَا مَوْجُودَةً فِي الْإِجَارَةِ لِلضَّرُورَةِ، وَقَدْ انْدَفَعَتْ الْإِبَاحَةُ هَاهُنَا، وَنَحْنُ نَقُولُ: هُوَ تَمْلِيكُ الْمَنَافِعِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا فَيَمْلِكُ الْإِعَارَةَ كَالْمُوصَى لَهُ بِالْخِدْمَةِ، وَالْمَنَافِعُ اُعْتُبِرَتْ قَابِلَةً لِلْمِلْكِ فِي الْإِجَارَةِ فَتُجْعَلُ كَذَلِكَ فِي الْإِعَارَةِ دَفْعًا لِلْحَاجَةِ، وَإِنَّمَا لَا تَجُوزُ فِيمَا يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْمُسْتَعْمِلِ دَفْعًا لِمَزِيدِ الضَّرَرِ عَنْ الْمُعِيرِ، لِأَنَّهُ رَضِيَ بِاسْتِعْمَالِهِ لَا بِاسْتِعْمَالِ غَيْرِهِ.
قَالَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: وَهَذَا إذَا صَدَرَتْ الْإِعَارَةُ مُطْلَقَةً، وَهِيَ عَلَى أَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: أَنْ تَكُونَ مُطْلَقَةً فِي الْوَقْتِ وَالِانْتِفَاعِ، وَلِلْمُسْتَعِيرِ فِيهِ أَنْ يَنْتَفِعَ بِهِ أَيَّ نَوْعٍ شَاءَ فِي أَيِّ وَقْتٍ شَاءَ عَمَلًا بِالْإِطْلَاقِ.
وَالثَّانِي: أَنْ تَكُونَ مُقَيَّدَةً فِيهِمَا، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُجَاوِزَ فِيهِ مَا سَمَّاهُ عَمَلًا بِالتَّقْيِيدِ إلَّا إذَا كَانَ خِلَافًا إلَى مِثْلِ ذَلِكَ أَوْ إلَى خَيْرٍ مِنْهُ، وَالْحِنْطَةُ مِثْلُ الْحِنْطَةِ، وَالشَّعِيرُ خَيْرٌ مِنْ الْحِنْطَةِ إذَا كَانَ كَيْلًا.
وَالثَّالِثُ: أَنْ تَكُونَ مُقَيَّدَةً فِي حَقِّ الْوَقْتِ مُطْلَقَةً فِي حَقِّ الِانْتِفَاعِ.
وَالرَّابِعُ: عَكْسُهُ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَتَعَدَّى مَا سَمَّاهُ، فَلَوْ اسْتَعَارَ دَابَّةً وَلَمْ يُسَمِّ شَيْئًا، لَهُ أَنْ يَحْمِلَ وَيُعِيرَ غَيْرَهُ لِلْحَمْلِ، لِأَنَّ الْحَمْلَ لَا يَتَفَاوَتُ، وَلَهُ أَنْ يَرْكَبَ وَيُرْكِبَ غَيْرَهُ وَإِنْ كَانَ الرُّكُوبُ مُخْتَلِفًا، لِأَنَّهُ لَمَّا أَطْلَقَ فِيهِ فَلَهُ أَنْ يُعَيِّنَ حَتَّى لَوْ رَكِبَ بِنَفْسِهِ لَيْسَ لَهُ أَنْ يُرْكِبَ غَيْرَهُ، لِأَنَّهُ تَعَيَّنَ رُكُوبُهُ، وَلَوْ أَرْكَبَ غَيْرَهُ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَرْكَبَهُ حَتَّى لَوْ فَعَلَهُ ضَمِنَ، لِأَنَّهُ تَعَيَّنَ الْإِرْكَابُ.
قَالَ: (وَعَارِيَّةُ الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ وَالْمَكِيلِ وَالْمَوْزُونِ وَالْمَعْدُودِ قَرْضٌ)، لِأَنَّ الْإِعَارَةَ تَمْلِيكُ الْمَنَافِعِ وَلَا يُمْكِنُ الِانْتِفَاعُ بِهَا إلَّا بِاسْتِهْلَاكِ عَيْنِهَا فَاقْتَضَى تَمْلِيكَ الْعَيْنِ ضَرُورَةً.
وَذَلِكَ بِالْهِبَةِ أَوْ الْقَرْضِ وَالْقَرْضُ أَدْنَاهُمَا فَيَثْبُتُ، أَوْ لِأَنَّ مِنْ قَضِيَّةِ الْإِعَارَةِ الِانْتِفَاعَ وَرَدَّ الْعَيْنِ، فَأُقِيمَ رَدُّ الْمِثْلِ مَقَامَهُ، قَالُوا هَذَا إذَا أَطْلَقَ الْإِعَارَةَ، وَأَمَّا إذَا عَيَّنَ الْجِهَةَ بِأَنْ اسْتَعَارَ دَرَاهِمَ لِيُعَايِرَ بِهَا مِيزَانًا أَوْ يُزَيِّنَ بِهَا دُكَّانًا لَمْ تَكُنْ قَرْضًا، وَلَا يَكُونُ لَهُ إلَّا الْمَنْفَعَةُ الْمُسَمَّاةُ فَصَارَ كَمَا إذَا اسْتَعَارَ آنِيَةً يَتَجَمَّلُ بِهَا أَوْ سَيْفًا مُحَلًّى يَتَقَلَّدُهُ.
قَالَ: (وَإِذَا اسْتَعَارَ أَرْضًا لِيَبْنِيَ فِيهَا أَوْ لِيَغْرِسَ فِيهَا جَازَ، وَلِلْمُعِيرِ أَنْ يَرْجِعَ فِيهَا وَيُكَلِّفَهُ قَلْعَ الْبِنَاءِ وَالْغَرْسِ) أَمَّا الرُّجُوعُ فَلِمَا بَيَّنَّا، وَأَمَّا الْجَوَازُ فَلِأَنَّهَا مَنْفَعَةٌ مَعْلُومَةٌ تُمْلَكُ بِالْإِجَارَةِ فَكَذَا بِالْإِعَارَةِ.
وَإِذَا صَحَّ الرُّجُوعُ بَقِيَ الْمُسْتَعِيرُ شَاغِلًا أَرْضَ الْمُعِيرِ فَيُكَلَّفُ تَفْرِيغَهَا، ثُمَّ إنْ لَمْ يَكُنْ وَقْتُ الْعَارِيَّةِ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ، لِأَنَّ الْمُسْتَعِيرَ مُغْتَرٌّ غَيْرُ مَغْرُورٍ حَيْثُ اعْتَمَدَ إطْلَاقَ الْعَقْدِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَسِقَ مِنْهُ الْوَعْدَ وَإِنْ كَانَ وَقْتُ الْعَارِيَّةِ وَرَجَعَ قَبْلَ الْوَقْتِ صَحَّ رُجُوعُهُ لِمَا ذَكَرْنَاهُ وَلَكِنَّهُ يُكْرَهُ لِمَا فِيهِ مِنْ خُلْفِ الْوَعْدِ (وَضَمِنَ الْمُعِيرُ مَا نَقَصَ الْبِنَاءُ وَالْغَرْسُ بِالْقَلْعِ)، لِأَنَّهُ مَغْرُورٌ مِنْ جِهَتِهِ حَيْثُ وَقَّتَ لَهُ وَالظَّاهِرُ هُوَ الْوَفَاءُ بِالْعَهْدِ وَيَرْجِعُ عَلَيْهِ دَفْعًا لِلضَّرَرِ عَنْ نَفْسِهِ كَذَا ذَكَرَهُ الْقُدُورِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي الْمُخْتَصَرِ.
وَذَكَرَ الْحَاكِمُ الشَّهِيدُ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ يَضْمَنُ رَبُّ الْأَرْضِ لِلْمُسْتَعِيرِ قِيمَةَ غَرْسِهِ وَبِنَائِهِ وَيَكُونَانِ لَهُ إلَّا أَنْ يَشَاءَ الْمُسْتَعِيرُ أَنَّهُ يَرْفَعُهُمَا وَلَا يُضَمِّنُهُ قِيمَتَهُمَا فَيَكُونُ لَهُ ذَلِكَ، لِأَنَّهُ مِلْكُهُ، قَالُوا إذَا كَانَ فِي الْقَلْعِ ضَرَرٌ بِالْأَرْضِ فَالْخِيَارُ إلَى رَبِّ الْأَرْضِ، لِأَنَّهُ صَاحِبُ أَصْلٍ وَالْمُسْتَعِيرُ صَاحِبُ تَبَعٍ وَالتَّرْجِيحُ بِالْأَصْلِ (وَلَوْ اسْتَعَارَهَا لِيَزْرَعَهَا لَمْ تُؤْخَذْ مِنْهُ حَتَّى يَحْصُدَ الزَّرْعَ وَقَّتَ أَوْ لَمْ يُوَقِّتْ)، لِأَنَّ لَهُ نِهَايَةً مَعْلُومَةً وَفِي التَّرْكِ بِالْأَجْرِ مُرَاعَاةُ الْحَقَّيْنِ، بِخِلَافِ الْغَرْسِ، لِأَنَّهُ لَيْسَ لَهُ نِهَايَةٌ مَعْلُومَةٌ فَيُقْلَعُ دَفْعًا لِلضَّرَرِ عَنْ الْمَالِكِ.
قَالَ: (وَأُجْرَةُ رَدِّ الْعَارِيَّةِ عَلَى الْمُسْتَعِيرِ)، لِأَنَّ الرَّدَّ وَاجِبٌ عَلَيْهِ لِمَا أَنَّهُ قَبَضَهُ لِمَنْفَعَةِ نَفْسِهِ وَالْأُجْرَةُ مُؤْنَةُ الرَّدِّ فَتَكُونُ عَلَيْهِ (وَأُجْرَةُ رَدِّ الْعَيْنِ الْمُسْتَأْجَرَةِ عَلَى الْمُؤَجِّرِ)، لِأَنَّ الْوَاجِبَ عَلَى الْمُسْتَأْجِرِ التَّمْكِينُ، وَالتَّخْلِيَةُ دُونَ الرَّدِّ فَإِنَّ مَنْفَعَةَ قَبْضِهِ سَالِمَةٌ لِلْمُؤَجِّرِ مَعْنًى فَلَا يَكُونُ عَلَيْهِ مُؤْنَةُ رَدِّهِ (وَأُجْرَةُ رَدِّ الْعَيْنِ الْمَغْصُوبَةِ عَلَى الْغَاصِبِ)، لِأَنَّ الْوَاجِبَ عَلَيْهِ الرَّدُّ وَالْإِعَادَةُ إلَى يَدِ الْمَالِكِ دَفْعًا لِلضَّرَرِ عَنْهُ فَتَكُونُ مُؤْنَتُهُ عَلَيْهِ.
قَالَ: (وَإِذَا اسْتَعَارَ دَابَّةً فَرَدَّهَا إلَى إصْطَبْلِ مَالِكِهَا فَهَلَكَتْ لَمْ يَضْمَنْ) وَهَذَا اسْتِحْسَانٌ، وَفِي الْقِيَاسِ يَضْمَنُ، لِأَنَّهُ مَا رَدَّهَا إلَى مَالِكِهَا بَلْ ضَيَّعَهَا.
وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّهُ أَتَى بِالتَّسْلِيمِ الْمُتَعَارَفِ، لِأَنَّ رَدَّ الْعَوَارِيِّ إلَى دَارِ الْمُلَّاكِ مُعْتَادٌ كَآلَةِ الْبَيْتِ تُعَارُ ثُمَّ تُرَدُّ إلَى الدَّارِ، وَلَوْ رَدَّهَا إلَى الْمَالِكِ فَالْمَالِكُ يَرُدُّهَا إلَى الْمَرْبِطِ فَصَحَّ رَدُّهُ (وَإِنْ اسْتَعَارَ عَبْدًا فَرَدَّهُ إلَى دَارِ الْمَالِكِ وَلَمْ يُسَلِّمْهُ إلَيْهِ لَمْ يَضْمَنْ) لِمَا بَيَّنَّا (وَلَوْ رَدَّ الْمَغْصُوبَ أَوْ الْوَدِيعَةَ إلَى دَارِ الْمَالِكِ وَلَمْ يُسَلِّمْهُ إلَيْهِ ضَمِنَ)، لِأَنَّ الْوَاجِبَ عَلَى الْغَاصِبِ فَسْخُ فِعْلِهِ، وَذَلِكَ بِالرَّدِّ إلَى الْمَالِكِ دُونَ غَيْرِهِ، الْوَدِيعَةُ لَا يَرْضَى الْمَالِكُ بِرَدِّهَا إلَى الدَّارِ، وَلَا إلَى يَدِ مَنْ فِي الْعِيَالِ، لِأَنَّهُ لَوْ ارْتَضَاهُ لَمَا أَوْدَعَهَا إيَّاهُ بِخِلَافِ الْعَوَارِيِّ، لِأَنَّ فِيهَا عُرْفًا حَتَّى لَوْ كَانَتْ الْعَارِيَّةُ عِقْدَ جَوْهَرٍ لَمْ يَرُدَّهَا إلَّا إلَى الْمُعِيرِ لِعَدَمِ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ الْعُرْفِ فِيهِ.
قَالَ: (وَمَنْ اسْتَعَارَ دَابَّةً فَرَدَّهَا مَعَ عَبْدِهِ أَوْ أَجِيرِهِ لَمْ يَضْمَنْ) وَالْمُرَادُ بِالْأَجِيرِ أَنْ يَكُونَ مُسَانَهَةً أَوْ مُشَاهَرَةً، لِأَنَّهَا أَمَانَةٌ فَلَهُ أَنْ يَحْفَظَهَا بِيَدِ مَنْ فِي عِيَالِهِ كَمَا فِي الْوَدِيعَةِ بِخِلَافِ الْأَجِيرِ مُيَاوَمَةً، لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي عِيَالِهِ (وَكَذَا إذَا رَدَّهَا مَعَ عَبْدِ رَبِّ الدَّابَّةِ أَوْ أَجِيرِهِ)، لِأَنَّ الْمَالِكَ يَرْضَى بِهِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ رَدَّهُ إلَيْهِ فَهُوَ يَرُدُّهُ إلَى عَبْدِهِ، وَقِيلَ هَذَا فِي الْعَبْدِ الَّذِي يَقُومُ عَلَى الدَّوَابِّ، وَقِيلَ فِيهِ وَفِي غَيْرِهِ وَهُوَ الْأَصَحُّ، لِأَنَّهُ إنْ كَانَ لَا يَدْفَعُ إلَيْهِ دَائِمًا يَدْفَعُ إلَيْهِ أَحْيَانًا (وَإِنْ رَدَّهَا مَعَ أَجْنَبِيٍّ ضَمِنَ) وَدَلَّتْ الْمَسْأَلَةُ عَلَى أَنَّ الْمُسْتَعِيرَ لَا يَمْلِكُ الْإِيدَاعَ قَصْدًا كَمَا قَالَهُ بَعْضُ الْمَشَايِخِ رَحِمَهُمُ اللَّهُ.
وَقَالَ بَعْضُهُمْ: يَمْلِكُهُ، لِأَنَّهُ دُونَ الْإِعَارَةِ، وَأَوَّلُوا هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ بِانْتِهَاءِ الْإِعَارَةِ لِانْقِضَاءِ الْمُدَّةِ.
قَالَ: (وَمَنْ أَعَارَ أَرْضًا بَيْضَاءَ لِلزِّرَاعَةِ يَكْتُبُ أَنَّك أَطْعَمْتنِي عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ.
وَقَالَا: يَكْتُبُ أَنَّك أَعَرْتنِي)، لِأَنَّ لَفْظَةَ الْإِعَارَةِ مَوْضُوعَةٌ لَهُ، وَالْكِتَابَةُ بِالْمَوْضُوعِ لَهُ أَوْلَى كَمَا فِي إعَارَةِ الدَّارِ.
وَلَهُ أَنَّ لَفْظَةَ الْإِطْعَامِ أَدَلُّ عَلَى الْمُرَادِ، لِأَنَّهَا تَخْتَصُّ بِالزِّرَاعَةِ وَالْإِعَارَةُ تَنْتَظِمُهَا وَغَيْرَهَا كَالْبِنَاءِ وَنَحْوِهِ فَكَانَتْ الْكِتَابَةُ بِهَا أَوْلَى بِخِلَافِ الدَّارِ، لِأَنَّهَا لَا تُعَارُ إلَّا لِلسُّكْنَى، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.