فصل: أبواب أحكام العيوب

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: نيل الأوطار شرح منتقى الأخبار **


 باب بيع اللحم بالحيوان

1 - عن سعيد بن المسيب ‏(‏إن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم نهى عن بيع اللحم بالحيوان‏)‏

رواه مالك في الموطأ‏.‏

الحديث أخرجه أيضا الشافعي مرسلا من حديث سعيد وأبو داود في المراسيل ووصله الدارقطني في الغريب عن مالك عن الزهري عن سهل بن سعد وحكم بضعفه وصوب الرواية المرسلة المذكورة وتبعه ابن عبد البر وله شاهد من حديث ابن عمر عند البزار في إسناده ثابت بن زهير وهو ضعيف‏.‏ وأخرجه أيضا من رواية أبي أمية بن يعلى عن نافع أيضا وأبو أمية ضعيف وله شاهد أقوى منه من رواية الحسن عن سمرة عند الحاكم والبيهقي وابن خزيمة وقد اختلف في صحة سماعه منه وروى الشافعي عن ابن عباس ان جزورا نحرت على عهد أبي بكر فجاء رجل بعناق فقال أعطوني منها فقال أبو بكر لا يصلح هذا وفي إسناده إبراهيم بن أبي يحيى وهو ضعيف ولا يخفى إن الحديث ينتهض للاحتجاج بمجموع طرقه فيدل على عدم جواز بيع اللحم بالحيوان وإلى ذلك ذهبت العترة والشافعي إذا كان الحيوان مأكولا وإن كان غير مأكول جاز عند العترة ومالك وأحمد والشافعي في أحد قوليه لاختلاف الجنس‏.‏ وقال الشافعي في أحد قوليه لا يجوز لعموم النهي‏.‏ وقال أبو حنيفة يجوز مطلقا واستدل على ذلك بعموم قوله تعالى ‏{‏وأحل اللّه البيع‏}‏ وقال محمد بن الحسن الشيباني إن غلب اللحم جاز ليقابل الزائد منه الجلد‏.‏

 باب جواز التفاضل والنسيئة في غير المكيل والموزون

1 - عن جابر ‏(‏أن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم اشترى عبدا بعبدين‏)‏

رواه الخمسة وصححه الترمذي ولمسلم معناه‏.‏

2 - وعن أنس ‏(‏أن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم اشترى صفية بسبعة أرؤس من دحية الكلبي‏)‏

رواه أحمد ومسلم وابن ماجه‏.‏

قوله ـ ولمسلم معناه ـ ولفظه عن جابر قال ‏(‏جاء عبد فبايع النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم على الهجرة ولم يشعر أنه عبد فجاء سيده يريده فقال له النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم بعنيه واشتراه بعدبدين أسودين ثم لم يبايع أحدا بع حتى يسأله أعبد هو‏)‏ وفي الحديثين دليل على جواز بيع الحيوان بالحيوان متفاضلا إذا كان يدا بيد وهذا مما خلاف فيه وإنما الخلاف في بيع الحيوان بالحيوان نسيئة وسيأتي‏.‏ وقصة صفية أشار إليها البخاري في البيع وذكرها في غزوة خيبر‏.‏

3 - وعن عبد اللّه بن عمرو قال ‏(‏أمرني رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم أن أبعث جيشا على إبل كانت عندي قال فحملت الناس عليها حتى نفدت الأبل وبقيت بقية من الناس قال فقلت يا رسول اللّه الأبل قد نقدت وقد بقيت بقية من الناس لا ظهر لهم فقال بي ابتع علينا ابلا بقلائص من إبل الصدقة إلى محلها حتى تنفذ هذا البعث قال وكنت أبتاع البعير بقلوصين وثثلاث قلائص من إبل الصدقة إلى محلها حتى نفذت ذلك البعث فلما جاءت إبل الصدقة أداها رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم‏)‏‏.‏

رواه أحمد وأبو داود والدارقطني بمعناه‏.‏

4 - وعن علي بن أبي طالب رضي اللّه عنه ‏(‏أنه باع جملا يدعى عصيفيرا بعشرين بعيرا إلى أجل‏)‏

رواه مالك في الموطأ والشافعي في مسنده‏.‏

5 - وعن الحسن عن سمرة قال ‏(‏نهى النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم عن بيع الحيوان بالحيوان نسيئة‏)‏‏.‏

رواه الخمسة وصححه الترمذي‏.‏ وروى عبد اللّه بن أحمد مثله من رواية جابر بن سمرة‏.‏

حديث ابن عمرو في إسناده محمد بن إسحاق وفيه مقال معروف وقوى الحافظ في الفتح إسناده وقال الخطابي في إسناده مقال ولعله يعني من أجل محمد بن إسحاق ولكن قد رواه البيهقي في سننه من طريق عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده‏.‏ وأثر علي عليه السلام هو م طريق الحسن بن محمد بن علي عن علي عليه السلام وفيه انقطاع بين الحسن وعلي‏.‏ وقد روى عنه ما يعارض هذا فأخرج عبد الرزاق من طريق ابن المسيب عنه أنه كره بعيرا ببعيرين نسيئة‏.‏ وروى ابن أبي شيبة عنه نحوه وحديث سمرة صححه ابن الجارود ورجاله ثقات كما قال في الفتح الا أنه اختلف في سماع الحسن من سمرة‏.‏ وقال الشافعي هو غير ثابت عن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم‏.‏ وحديث جابر بن سمرة عزاه صاحب الفتح إلى زيادات المسند لعبد اللّه بن أحمد كما فعل المصنف وسكت عنه ـ وفي الباب ـ عن ابن عباس عند البزار والطحاوي وابن حبان والدارقطني بنحو حديث سمرة قال في الفتح ورجاله ثقات الا انه اختلف في وصله وإرساله فرجح البخاري وغير واحد إرساله انتهى‏.‏ قال البخاري حديث النهي عن بيع الحيوان بالحيوان نسيئة من طريق عكرمة عن ابن عباس رواه الثقات عن ابن عباس موقوفا‏.‏ وعن عكرمة عن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم مرسلا ـ وفي الباب ـ أيضا عن ابن عمر عند الطحاوي والطبراني وعنه أيضا عند مالك في الموطأ والشافعي أنه اشترى راحلة بأربعة أبعرة يوفيها صاحبها بالربذة‏.‏ وذكره البخاري تعليقا وعنه أيضا عند عبد الرزاق وابن أبي شيبة إنه سئل عن بعير بيعيرين فكرهه‏.‏ وروى البخاري تعليقا عن ابن عباس ووصله الشافعي أنه قال قد يكون خيرا من البعيرين‏.‏ وروى البخاري تعليقا أيضا عن رافع بن خديج ووصله عبد الرزاق أنه اشترى بعيرا ببعيرين فأعطه أحدهما وقال آتيك بالآخر غدا‏.‏ وروى البخاري أيضا عن مالك وابن أبي شيبة عن ابن المسيب أنه أنه قال لا ربا في الحيوان‏.‏ وروى البخاري أيضا وعبد الرزاق عن ابن سيرين أنه قال لا بأس ببعيرين‏.‏ قوله ‏(‏حتى نفدت الأبل‏)‏ بفتح النون وكسر الفاء وفتح الدال المهملة وآخره تاء التأنيث‏.‏ قوله ‏(‏بقلائص‏)‏ قال ابن رسلان جمع قلوص وهي الناقة الشابة‏:‏ قوله ‏(‏حتى نفدت ذلك البعث‏)‏ بفتح النون وتشديد الفاء بعدها دال معجمة ثم تاء المتكلم أي حتى تجهز ذلك الجيش وذهب إلى مقصده والأحاديث والآثار المذكورة في الباب متعارضة كما ترى فذهب الجمهور إلى جواز بيع الحيوان بالحيوان نسيئة متفاضلا مطلقا وشرط مالك أن يختلف الجنس ومنع من ذلك مطلقا مع النسيئة أحمد بن حنبل وأبو حنيفة وغيره من الكوفيين والهادوية وتمسك الأولون بحديث ابن عمرو وما ورد في معناه من الآثار وأجابوا عن حديث سمرة بما فيه من المقال‏.‏ وقال الشافعي المراد به النسيئة من الطرفين لأن اللفظ يحتمل ذلك كما يحتمل النسيئة من طرف وإذ كانت النسيئة من الطرفين فهي من بيع الكاليء بالكاليء وهو لا يصح عند الجميع واحتج المانعون بحديث سمرة وجابر بن سمرة وابن عباس وما في معناها من الآثار وأجابوا عن حديث ابن عمرو بأنه منسوخ ولا يخفى ان النسخ لا يثبت الا بعد نقرر تأخر الناسخ ولم ينقل ذلك فلم يبق ههنا إلا الطلب لطريق الجمع إن أمكن ذلك أو المصير إلى التعارض قيل وقد أمكن الجمع بما سلف عن الشافعي ولكنه متوقف على صحة إطلاق النسيئة على بيع المعدوم بالمعدوم فإن ثبت ذلك في لغة العرب أو في اصطلاح الشرع فذاك وإلا فلا شك أن أحاديث النهي وإن كان كل واحد منها لا يخلو عن مقال لكنها ثبتت من طريق ثلاثة من الصحابة سمرة وجابر بن سمرة وابن عباس وبعضها يقوي بعضا فهي أرجح من حديث واحد غير خال عن المقال وهو حديث عبد اللّه بن عمرو ولا سيما وقد صحح الترمذي وابن الجارود حديث سمرة فإن ذلك مرجح آخر‏.‏ وأيضا قد تقرر في الأصول إن دليل التحريم أرجح من دليل الإباحة وهذا أيضا مرجح ثالث‏.‏ وأما الآثار الواردة عن الصحابة فلا حجة فيها وعلى فرض ذلك فهي مختلفة كما عرفت‏.‏

 باب أن من باع سلعة بنسيئة لا يشتريها أقل مما باعها

1 - عن ابن إسحاق السبيعي عن امرأته ‏(‏أنها دخلت على عائشة فدخلت معها أم ولد زيد بن أرقم فقالت يا أم المؤمنين أني بعت غلاما من زيد بن أرقم بثمانمائة درهم نسيئة وأني ابتعته منه بستمائة نقدا فقالت لها عائشة بئس ما اشتريت وبئس ما شريت إن جهاده مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم قد بطل إلا أن يتوب‏)‏

رواه الدارقطني‏.‏

الحديث في إسناده الغالية بنت أيفع وقد روى عن الشافعي أنه لا يصح وقرر كلامه ابن كثير في إسناده وفيه دليل على أنه لا يجوز لمن باع شيئا بثمن نسيئة أن يشتريه من المشتري بدون ذلك الثمن نقدا قبل قبض الثمن الأول إما إذا كان المقصود التحيل لأخذ النقد في الحال ورد أكثر منه بعد أيام فلا شك إن ذلك من الربا المحرم الذي لا ينفع في تحليله الحيل الباطلة وسيأتي الخلاف في بيع العينة في الباب الذي بعد هذا‏.‏ والصورة المذكورة هي صورة بيع العينة وليس في حديث الباب ما يدل على أن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم نهى عن هذا البيع ولكن تصريح عائشة بأن مثل هذا الفعل موجب لبطلان الجهاد مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم يدل على أنها قد علمت تحريم ذلك بنص من الشارع إما على جهة العموم كالأحاديث القاضية بتحريم الربا الشامل لمثل هذه الصورة أو على جهة الخصوص كحديث العينة الآتي ولا ينبغي أن يظن بها أنها قالت هذه المقالة من دون أن تعلم بدليل على التحريم لأن مخالفة الصحابي لرأي صحابي آخر لا تكون من جهة الموجبات للإحباط‏.‏

 باب ما جاء في بيع العينة

1 - عن ابن عمر‏(‏أن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم قال إذا ضن الناس بالدينار والدرهم وتبايعوا بالعينة واتبعوا أذناب البقر وتركوا الجهاد في سبيل اللّه أنزل اللّه بهم بلاء فلا يرفعه حتى يراجعوا دينهم‏)‏‏.‏

رواه أحمد وأبو داود‏.‏ ولفظه ‏(‏إذا تبايعتم بالعينة وأخذتم أذناب البقر ورضيتم بالزرع وتركتم الجهاد سلط اللّه عليكم ذلا لا ينزعه حتى ترجعوا إلى دينكم‏)‏‏.‏

الحديث أخرجه أيضا الطبراني وابن القطان وصححه‏.‏ قال الحافظ في بلوغ المرام ورجاله ثقات‏.‏ وقال في التلخيص وعندي إن إسناد الحديث الذي صححه ابن القطان معلول لأنه لا يلزم من كون رجاله ثقات أن يكون صحيحا لأن الأعمش مدلس ولم يذكر سماعه من عطاء وعطاء يحتمل أن يكون عطاء الخراساني فيكون فيه تدليس التسوية باسقاط نافع بين عطاء وابن عمر انتهى‏.‏ وإنما قال هكذا لأن الحديث رواه أحمد والطبراني من طريق أبي بكر بن عياش عن الأعمش عن عطاء عن ابن عمر ورواه أحمد وأبو داود من طريق عطاء الخراساني عن نافع عن ابن عمر‏.‏ وقال المنذري في مختصر السنن مالفظه في إسناده إسحاق بن أسيد أبو عبد الرحمن الخراساني نزيل مصر لا يحتج بحديثه وفيه أيضا عطاء الخراساني وفيه مقال انتهى‏.‏ قال الذهبي فيل الميزان إن هذا الحديث مناكيره وقد ورد النهي عن العينة من طرق عقد لها البيهقي في سننه بابا ساق فيه جميع ما ورد في ذلك وذكر عللّه‏.‏ وقال روى حديث العينة من وجهين ضعيفين عن عطاء بن أبي رياح عن عبد اللّه بن عمر بن الخطاب قال ورورى عن ابن عمر موقوفا أنه كره ذلك‏.‏ قال ابن كثير وروى من وجه ضعيف أيضا عن عبد اللّه بن عمرو بن العاص مرفوعا وبعضده حديث عائشة يعني المتقدم في الباب الذي قبل هذا وهذه الطرق يشد بعضها بعضا‏:‏ قوله ‏(‏بالعينة‏)‏ بكسر العين المهملة ثم ياء تحتية ساكنة ثم نون‏.‏ قال الجوهري العينة بالكسر السلف‏.‏ وقال في القاموس وعين أخذ بالعينة بالكسر أي السلف أو أعطى بها قال والتاجر باع سلعته بثمن لي أجل ثم اشتراها منه بأقل من ذلك الثمن انتهى‏.‏ قال الرافعي وبيع العينة هو أن يبيع شيئا من غيره بثمن مؤجل ويسلمه إلى المشتري ثم يشتريه قبل قبض الثمن بثمن نفد أقل من ذلك القدر انتهى‏.‏ قال ابن رسلان في شرح السنن وسميت هذا المبايعة عينة لحصول النقد لصاحب العينة لأن العين هو المال الحاضر والمشتري إنما يشتريها ليبيعها بعين حاضرة تصل إليه من فوره ليصل به إلى مقصورده اه‏.‏ وقد ذهب إلى عدم جواز بيع العينة مالك وأبو حنيفة وأحمد والهادوية وجوز ذلك الشافعي وأصحابه مستدلين على الجواز بما وقع من ألفاظ البيع التي لا يراد بها حصول مضمونه وطرحوا الأحاديث المذكورة في الباب واستدل ابن القيم على عدم جواز العينة بما روى عن الأوزاعي عن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم أنه قال يأتي على الناس زمان يستحلون الربا بالبيع قال وهذا الحديث وإن كان مرسلا فإنه صالح للاعتضاد به بالأتفاق وله من المسندات ما يشهد له وهي الأحاديث الدالة على تحريم العينة فإنه من المعلوم إن العينة عند من يستعملها إنما يسميها بيعا وقد اتفقا على حقيقة الربا الصريح قبل العقد ثم غير اسمها إلى المعاملة وصورتها إلى التبايع الذي لا قصد لهما فيه البتة وإنما هو حيلة ومكر وخديعة للّه تعال فمن أسهل الحيل على من أراد فعله أن يعطيه مثلا ألفا الا درهما باسم القرض ويبيعه خرقة تساوي درهما بخمسمائة درهم‏:‏ وقوله صلى اللّه عليه وآله وسلم ‏(‏إنما الأعمال بالنيات‏)‏ أصل في إبطال الحيل فإن من أراد أن يعامله معاملة يعطيه فيها ألفا بألف وخمسمائة أنما نوى بالأقراض تحصيل الربح الزائد الذي أظهر أنه ثمن الثوب فهو في الحقيقة أعطاه الفا حالة بالف وخمسمائة مؤجلة وجعل صورة القرض وصورة البيع محللا لهذا المحرم ومعلوم إن هذا لا يرفع التحريم ولا يرفع المفسدة التي حرم الربا لاجلها بل يزيدها قوة وتأكيدا من وجوه عديدة منها أنه يقدم على مطالبة الغريم المحتاج من جهة السلطان والحكام اقداما لا يفعله المربى لأنه واثق بصورة العقد الذي تحيل به‏.‏ هذا معنى كلام ابن القيم‏.‏

قوله ‏(‏واتبعوا أذناب البقر‏)‏ المراد الاشتغال بالحرث‏.‏ وفي الرواية الأخرى ‏(‏وأخذتم أذناب البقر ورضيتم بالزرع‏)‏ وقد حمل هذا على الأشتغال بالزرع في زمن يتعين فيه الجهاد‏.‏ قوله ‏(‏وتركوا الجهاد‏)‏ أي المتعين فعله‏.‏ وقد روى الترمذي بإسند صحيح عن ابن عمر كنا بمدينة الروم فأخرجوا إلينا صفا عظيما من الروم فخرج إليهم من المسلمين مثلهم أو أكثر وعلى أهل مصر عقبة بن عامر وعلى الجماعة فضالة بن عبيد فحمل من المسلمين على صف الروم حتى دخل بينهم فصاح المسلمون وقالوا سبحان اللّه يلقى بيده إلى التهلكة فقام أبو أيوب فقال يا أيها الناس إنكم لتأولون هذا التأويل وإنما نزلت هذه الآية لما أعز اللّه الكلام وكثر ناصروه فقال بعضنا لبعض سرا أن أموالنا قد ضاعت وإن اللّه قد أعز الإسلام وكثر ناصروه فلو أقمنا في أموالنا وأصلحنا ما ضاع منا فأنزل اللّه على نبيه ما يرد علينا فقال ‏{‏ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة‏}‏ فكانت التهلكة الأموال واصلاحها وترك الغزو‏:‏ قوله ‏(‏ذلا‏)‏ بضم الذال المعجمة وكسرها أي صغارا ومسكنة‏.‏ ومن أنواع الذل الخراج الذي يسلمونه كل سنة لملاك الأرض وسبب هذا الذل واللّه أعلم أنهم لما تركوا الجهاد في سبيل اللّه الذي فيه عز الاسلام وإظهاره على كل دين عاملهم اللّه بنقيضه وهو انزال الذلة بهم فصاروا يمشون خلف أذناب البقر بعد أن كانوا يركبون على ظهور الخيل التي هي أعز مكان‏:‏ قوله ‏(‏حتى ترجعوا إلى دينكم‏)‏ فيه زجر بليغ لأنه نزل الوقوع في هذه الأمور منزلة الخروج من الدين وبذلك تمسك من قال بتحريم العينة وقيل إن دلالة الحديث على تحريم غير واضحة لأنه قرن العينة بالأخذ بأذناب البقر والأشتغال بالزرع وذلك غير محرم وتوعد عليه بالذل وهو لا يدل على التحريم ولكنه لا يخفى ما في دلالة الاقتران من التضعف ولانسلم إن الوعد بالذل لا يدل على التحريم لان طلب أسباب العزة الدينية وتجنب أسباب الذلة المنافية للدين واجبان على كل مؤمن وقد توعد على ذلك بإنزال البلاء وهو لا يكون إلا لذنب شديد وجعل الفاعل لذلك بمنزلة الخارج من الدين المرتد على عقبه وصرحت عائشة بأنه من المحبطات للجهاد مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم كما في الحديث السالف وذلك إنما هو شأن الكبائر‏.‏

 باب ما جاء في الشبهات

1 - عن النعمان بن بشير أن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم قال ‏(‏الحلال بين والحرام بين وبينهما أمور مشتبهة فمن ترك ما يشتبه عليه من الأثم كان لما استبان أترك وم أجترأ على ما يشك فيه من الأثم أو شك أو يواقع ما استبان والمعاصي حمي اللّه من يرتع حول الحمى يوشك أن يواقعه‏)‏‏.‏

متفق عليه‏.‏

قوله ‏(‏الحلال بين‏)‏ الخ فيه تقسم للأحكام إلى ثلاثة أشياء وهو تقسيم صحيح لان الشيء إما أن ينص الشارع على طلبه مع الوعيد على تركه أو ينص على تركه مع الوعيد على فعله أو لانيص على واحد منهما‏.‏ فالأول الحلال البين‏.‏ والثاني الحرام البين‏.‏ والثالث المشتبه لخفائه فلا يدري احلال هو أم حرام وما كان هذا سبيله ينبغي اجتنابه لانه إن كان في نفس الأمر حراما فقد برئ من التبعة وإن كان حلالا فقد استحق الأجر على الترك لهذا القصد لأن الأصل مختلف فيه حظرا وإباحة‏.‏ وهذا التقسيم قد وافق قول من قال ممن سيأتي إن المباح والمكروه من المشبهات ولكنه يشكل عليه المندوب فإنه لا يدخل في قسم الحلال البين على ما زعمه صاحب هذا التقسيم والمراد بكون كل واحد من القسمين الأولين بينا أنه مما لا يحتاج إلى بيان أو مما يشترك في معرفته كل أحد وقد يرد أن جميعا أي ما يدل على الحل والحرمة فإن علم المتأخر منهما فذاك وإلا كان ما ورد فيه القسم الثالث‏:‏ قوله ‏(‏أمور مشتبهة‏)‏ أي شبهت بغيرها مما لم يتبين فحكمه على التعيين زاد في رواية للبخاري ‏(‏لا يعلمها كثير من الناس‏)‏ أي لا يعلم حكمها وجاء واضحا في رواية للترمذي ولفظه ‏(‏لا يدري كثير من الناس أمن الحلال هي أم من الحرام‏)‏ ومفهوم قوله كثير أن معرفة حكمها ممكن لكن للقليل من الناس وهم المجتهدون فالشبهات على هذا في حق غيرهم وقد تقع لهم حيث لا يظهر لهم ترجيح أحد الدليلين‏.‏ قوله ‏(‏والمعاصي حمى اللّه‏)‏ في رواية للبخاري وغيره ‏(‏ألا أن حمى اللّه تعالى في أرضه محارمه‏)‏ والمراد بالمحارم والمعاصي فعل المنهى المحرم أوترك المأمور الواجب والحمي المحمي أطلق المصدر على اسم المفعول‏.‏ وفي اختصاص التمثيل بالحمى نكتة وهي إن ملوك العرب كانوا يحمون لمراعي مواشيهم أماكن مخصبة يتوعدون من رعى فيها بغير إذنهم بالعقوبة الشديدة فمثل لهم النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم بما هو مشهور عندهم فالخائف من العقوبة المراقب لرضا الملك يبعد عن ذلك الحمى خشية أن تقع مواشيه في شيء منه فبعده أسلم له وغير الخائف المراقب يقرب منه ويرعى من جوانبه فلا يأمن أن يقع الخصب في الحمى فال يملك نفسه أن يقع فيه فاللّه سبحانه هو الملك حقا وحماه محارمه ـ وقد اختلف ـ في حكم الشبهات فقيل التحريم وهو مردود وقيل الكراهة‏.‏ وقيل الوقف وهو كالخلاف فيما قبل الشرع واختلف العلماء أيضا في تفسير الشبهات‏.‏ فمنهم من قال إنها ما تعارضت فيه الأدلة‏.‏ ومنهم من قال إنها ما اختلف فيه العلماء وهو منتزع من التفسير الأول‏.‏ ومنهم من قال إن المراد بها قسم المكروه لأنه يجتذبه جانبا الفعل والترك ومنهم من قال هي المباح ونقل ابن المنير عن بعض مشايخه أنه كان يقول المكروه عقبة بين العبد والحرام فمن استكثر من المكروه تطرق إلى الحرام والمباح عقبة بينه وبين المكروه فمن استكثر من تطرق إلى المكروه‏.‏ ويؤيد هذا ما وقع في رواية لابن حبان من الزيادة بلفظ ‏(‏اجعلوا بينكم وبين الحرام سترة من الحلال من فعل ذلك استبرأ لعرضه ودينه‏)‏ قال في الفتح بعد أن ذكر التفاسير للمشتبهات التي قدمناها ما لفظه والذي يظهر لي رجحان الوجه الأول قال ولا يبعد أن يكون كل من الأوجه مرادا ويختلف ذلك باختلاف الناس فالعالم الفطن عليه تمييز الحكم فلا يقع له ذلك إلا في الاستكثار من المباح أو المكروه ومن دونه تقع له الشبهة في جميع ما ذكر بحسب اختلاف الأحوال ولا يخفى أن المستكثر من المكروه تصير فيه جراءة على ارتكاب المنهي في الجملة أو يحمله اعتياده لارتكاب المنهي غير المحرم على ارتكاب المنهي المحرم أو يكون ذلك لسر فيه وهو أن من تعاطي مانهى عنه يصير مظلم القلب لفقدان نور الورع فيقع في الحرام ولو لم يختر الوقوع فيه ولهذا قال صلى اللّه عليه وآله وسلم ‏(‏فمن ترك ما يشتبه عليه من الإثم‏)‏ الخ‏.‏ ـ وأعلم أن العلماء ـ قد عظموا أمر هذا الحديث فعدوه رابع أربعة تدور عليها الأحكام كما نقل عن أبي داود وغيره وقد جمعها من قال‏.‏

عمدة الدين عندنا كلمات مسندات من قول خير البرية

اترك الشبهات وازهد ودع ما ليس بعينيك واعملن بنية

والإشارة بقوله ازهد إلى حديث ‏(‏ازهد فيما في أيدي الناس‏)‏ أخرجه ابن ماجه وحسن إسناده الحافظ وصححه الحاكم عن سهل بن سعد مرفوعا بلفظ ‏(‏ازهد في الدنيا يحبك اللّه وازهد فيما عند الناس يحبك الناس‏)‏ وله شاهد عند أبي نعيم من حديث أنس ورجاله ثقات‏.‏ والمشهور عن أبي داود عد حديث ‏(‏ما نهيتكم عنه فاجتنبوه‏)‏ مكان حديث ‏(‏ازهد‏)‏ المذكور‏.‏ وعد حديث الباب بعضهم ثالث ثلاثة وحذف الثاني وأشار ابن العربي أنه يمكن أن ينزع منه وحده جميع الأحكام قال القرطبي لأنه اشتمل على التفصيل بين الحلال وغيره وعلى تعلق جميع الأعمال بالقلب فمن هناك يمكن أن ترد جميع الأحكام إليه‏.‏ وقد ادعى أبو عمر الداني أن هذا الحديث لم يروه عن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم غير النعمان بن بشير فمن أراد من وجهه صحيح فمسلم وان أراد على الإطلاق فمردود فإنه في الأوسط للطبراني من حديث ابن عمر وعمار وفي الكبير له من حديث ابن عباس وفي الترغيب للأصبهاني من حديث وائلة وفي أسانيدها مقال كما قال الحافظ‏.‏

2 - وعن عطية السعدي أن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم قال ‏(‏لا يبلغ العبد أن يكون من المتقين حتى يدع ما لا بأس به حذرا لما به البأس‏)‏‏.‏

رواه الترمذي‏.‏

3 - وعن أنس قال ‏(‏أن كان النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم ليصيب التمرة فيقول لولا أني أخشى أنها من الصدقة لأكلتها‏)‏‏.‏

متفق عليه‏.‏

4 - وعن أبي هريرة قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم ‏(‏إذا دخل أحدكم على أخيه المسلم فأطعمه طعاما فليأكل من طعامه ولا يسأله عنه وإن سقاه شربا من شرابه فليشرب من شرابه ولا يسأله عنه‏)‏‏.‏

رواه أحمد‏.‏

5 - وعن أنس بن مالك قال ‏(‏إذا دخلت على مسلم لا يتهم فكل من طعامه واشرب من شرابه‏)‏‏.‏

ذكره البخاري في صحيحه‏.‏

حديث عطية السعدي حسنه الترمذي وأخرج ابن أبي الدنيا في كتاب التقوى عن أبي الدرداء نحوه ولفظه ‏(‏تمام التقوى أن يتقي اللّه حتى يترك ما يرى أنه حلال خشية أن يكون حراما‏)‏‏.‏ وحديث أبي هريرة أخرجه أيضا الطبراني في الأوسط وفي إسناده مسلم بن خالد الزنجي ضعفه الجمهور وقد وثق قال في مجمع الزوائد وبقية رجال أحمد رجال الصحيح‏.‏ هذه الأحاديث ذكرها المصنف رحمه اللّه للإشارة إلى ما فيه شبهة كحديث أنس وإلى ما لا شبهة فيه كحديث أبي هريرة وقد ذكر البخاري في تفسير الشبهات حديث عقبة بن الحرث في الرضاع لقوله صلى اللّه عليه وآله وسلم ‏(‏كيف وقد قيل‏)‏ وحديث عائشة في قصة ابن وليدة زمعة لقوله صلى اللّه عليه وآله وسلم ‏(‏واحتجبي منه يا سودة‏)‏ فإن الظاهر أن الأمر بالمفارقة في الحديث الأول والاحتجاب في الثاني لأجل الاحتياط وتوقي الشبهات وفي ذلك نزاع يأتي بيانه إن شاء اللّه تعالى‏.‏ قال الخطابي ما شككت فيه فالورع اجتنابه وهو على ثلاثة أقسام واجب ومستحب ومكروه فالواجب اجتناب ما يستلزم ارتكاب المحرم والمندوب اجتناب معاملة من أكثر ماله حرام والمكروه اجتناب الرخص المشروعة اهـ‏.‏ وقد أرشد الشارع إلى اجتناب ما لا يتيقن المرء حله بقوله ما يريبك غل ىما لا يريبك واخرجه الترمذي والنسائي وأحمد وابن حبان والحاكم من حديث الحسن بن علي رضي اللّه عنهما ـ وفي الباب ـ عن أنس عند أحمد‏.‏ وعن ابن عمر عند الطبراني وعن أبي هريرة ووائلة بن الأسقع‏.‏ ومن قول ابن عمر وابن مسعود وغيرهما‏.‏ وروى البخاري وأحمد وأبو نعيم عن حسان بن أبي سنان البصري أحد العباد في زمن التابعين أنه إذا شككت في امر فاتركه‏.‏ ولأبي نعيم من وجه آخر أنه اجتمع يونس ابن عبيد وحسان بن أبي سنان فقال يونس ما عالجت شيئا أهون علي منه قال كيف قال حسان تركت ما يريبني إلى ما لا يريبني فاسترحت‏.‏ قال الغزالي الورع أقسام ورع الصديقين وهو ترك ما لم يكن عليه ببنية واضحة‏.‏ وورع المتقين وهو ترك ما لا شبهة فيه ولكن يخشى أن يجر إلى الحرام‏.‏ وورع الصالحين وهو ترك ما يتطرق إليه احتمال التحريم بشرط أن يكون لذلك الاحتمال موقع فإن لم يكن فهو روع الموسوسين‏.‏ قال ووراء ذلك ورع الشهود وهو ترك ما يسقط الشهادة أي أعم من أن يكون ذلك متروك حراما أم لا اهـ‏.‏ وقد أشار البخاري إلى أن الوساوس ونحوها ليست من الشبهات‏.‏ فقال باب من لم ير الوساوس ونحوها من الشبهات‏.‏ قال في الفتح هذه الترجمة معقودة لبيان ما يكره من التنطيع في الورع‏.‏

 أبواب أحكام العيوب

 باب وجوب تبيين العيب

1 - عن عقبة بن عامر قال سمعت النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم يقول ‏(‏المسلم أخو المسلم لا يحل لمسلم باع من أخيه بيعا وفيه عيب إلا بينه له‏)‏‏.‏

رواه ابن ماجه‏.‏

2 - وعن واثلة قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم ‏(‏لا يحل لاحد أن يبيع شيئا الا بين مافيه ولا يحل لأحد يعلم ذلك الا بينه‏)‏

رواه أحمد‏.‏

3 - وعن أبي هريرة أن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم مر برجل يبيع طعاما فادخل يده فيه فإذا هو مبلول فقال ‏(‏من غشنا فليس منا‏)‏‏.‏

رواه الجماعة إلا البخاري والنسائي‏.‏

4 - وعن العداء بن خالد بن هوذة قال ‏(‏كتب لي رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم كتابا هذا ما اشترى العداء بن خالد بن هوذة من محمد رسول اللّه اشترى منه عبدا أو أمة لاداء ولا غائلة ولا خبثة بيع المسلم المسلم‏)‏

رواه ابن ماجه والترمذي‏.‏

حديث عبقة أخرجه أيضا أحمد والدارقطني والحاكم والطبراني من حديث أبي شماسة عنه على يحيى بن أيوب وتابعه ابن لهيعة قال في الفتح وإسناده حسن وحديث واثلة أخرجه أيضا ابن ماجه والحاكم في المستدرك وفي إسناد أحمد أبو جعفر الرازي وأبو سباع والأول مختلف فيه والثاني قيل إنه مجهول‏.‏ وحديث أبي هريرة أخرجه أيضا الحاكم وفيه قصة وادعى أن مسلما لم يخرجها فلم يصب‏.‏ وقد أخرج نحوه أحمد والدارمي من حديث ابن عمر وابن ماجه من حديث أبي الحمراء والطبراني وابن حبان في صحيحه من حديث ابن مسعود وأحمد من حديث أبي بردة بن نيار والحاكم من حديث عمير بن سعيد عن عمه‏.‏ وحديث العداء أخرجه أيضا النسائي وابن الجارود وعلقه البخاري‏.‏ قوله ‏(‏لا يحل لمسلم‏)‏ الخ وكذلك قوله ‏(‏لا يحل لأحد‏)‏ الخ فيهما دليل على تحريم كتم اليب ووجوب تبيينه للمشتري‏.‏ قوله ‏(‏فليس منا‏)‏ لفظ مسلم ‏(‏فليس مني‏)‏ قال النووي كذا في الأصول ومعناه ليس ممن اهتدى بهدبي واقتدى بعلمي وعملي وحسن طريقتي كما يقول الرجل لولده إذا لم يرض فعله لست مني وهكذا في نظائره مثل قوله ‏(‏من حمل علينا السلاح فليس منا‏)‏ وكان سفيان ابن عيينة يكره تفسير مثل هذا ويقول بئس مثل القول بل يمسك عن تأويله ليكون أوقع في النفوس وأبلغ في الزجر اه وهو يدل على تحريم الغش وهو مجمع على ذلك قول ‏(‏العداء‏)‏ بفتح العين المهملة وتشديد الدال المهملة أيضا وآخره همزة بوزن الفعال وهوذة هو ابن ربيعة بن عمرو بن عامر أبو صعصعة والعداء صحابي قليل الحديث أسلم بعد حنين‏.‏ قوله ‏(‏لاداء‏)‏ قال المطرزي المراد به الباطن سواء ظهر منه شيء أم لا كوجع الكبد والسعال‏.‏ وقال ابن المنير لا داء أي يكتمه البائع وإلا فلو كان بالعبد داء وبينه البائع كان من بيع المسلم للمسلم ـ ومحصله ـ إنه لم يرد بقوله لا داء نفي الداء مطلقا بل نفى داء مخصوص وهو مالم يطلع عليه‏.‏ قوله ‏(‏ولا غائلة‏)‏ قيل المراد بها إلا باق‏.‏ وقال ابن بطال هو من قولهم اغتالني فلان إذا احتال بحيلة سلب بها مالي‏.‏ قوله ‏(‏ولا خبثة‏)‏ بكسر المعجمة وبضمها وسكون الموحدة وبعدها مثلثة قيل المراد الاخلاق الخبيثة كالاباق‏.‏ وقال صاحب العين هي الدنية وقيل المراد الحرام كما عبر عن الحلال بالطيب وقيل الداء كان في الخلق بفتح الخاء والخبثة ما كان في الخلق بضمها والغائلة سكوت البائع عن بيان من مكروه في المبيع قاله ابن العربي‏.‏

 باب أن الكسب الحادث لا يمنع الرد بالعيب

1 - عن عائشة ‏(‏ان النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم قضى أن الخراج بالضمان‏)‏‏.‏

رواه الخمسة‏.‏ وفي رواية ‏(‏أن رجلا ابتاع غلاما فاستغله ثم وجد به عيبا فرده بالعيب فقال البائع غلة عبدي فقال النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم الغلة بالضمان‏)‏ رواه أحمد وأبو داود وابن ماجه‏.‏ وفيه حجة لمن يرى تلف العبد المشتري قبل القبض من المشتري‏.‏

الحديث أخرجه أيضا الشافعي وأبو داود الطيالسي وصححه الترمذي وابن حبان وابن الجارود والحاكم وابن القطان ـ ومن جملة ـ من صححه ابن خزيمة كما حكى ذلك عنه في بلوغ المرام وحكى عنه في التلخيص أنه قال لا يصح وضعفه البخاري‏.‏ ولهذا الحديث في سنن أبي داود ثلاث طرق اثنتان رجالهما رجال الصحيح والثالثة قال أبو داود إسنادها ليس بذاك ولعل سبب ذلك أن فيه مسلم بن خالد الزنجي شيخ الشافعي وقد وثقه يحيى بن معين وتابعه عمر بن علي المقدمي وهو متفق على الأحتجاج به‏:‏ قوله ‏(‏إن الخراج بالضمان‏)‏ الخراج هو الدخل والمنفعة أي يملك المشتري الخراج الحاصل من المبيع بضمان الأصل الذي عليه أي بسببه فالباء سببية فإذا أشترى الرجل أرض فاستغلها أو ذآبة فركبها أو عبدا فاستخدمه ثم وجد به عيبا قديما فله الرد ويستحق الغلة في مقابلة الضمان للمبيع الذي كان عليه‏.‏ وظاهر الحديث عدم الفرق بين الفوائد الأصلية والفرعية وإلى ذلك ذهب الشافعي وفصل مالك فقال يستحق المشتري الصوف والشعر دون الولد وفرق أهل الرأي والهادوية بين الفوائد الفرعية والأصلية فقالوا يستحق المشتري الفرعية كالكراء دون الأصلية كالولد والثمر وهذا الخلاف إنما هو مع انفصال الفوائد عن المبيع وأما إذا كانت متصلة وقت الرد ردها الإجماع قيل إن هذا الحكم مختص بمن له ملك في العين التي انتفع بخراجها كالمشتري الذي هو سبب ورود الحديث وإلى ذلك مال الجمهور‏.‏ وقالت الحنفية إن الغاصب كالمشتري قياسا ولا يخفى ما في هذا القياس لان الملك فارق يمنع الالحاق والأولى أن يقال أن الغاصب داخل تحت عموم اللفظ ولا عبرة بخصوص السبب كما تقرر في الأصول‏:‏ قوله ‏(‏فاستغله‏)‏ بالغين المعجمة وتشديد اللام أي أخذ غلته‏.‏

 باب ما جاء في المُصَرّاة

1 - عن أبي هريرة أن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم قال ‏(‏لا تصروا الأبل والغنم فمن ابتاعها بعد ذلك فهو بخير النظرين بعد أن يحلبها ان رضيها أمسكها وإن سخطها ردها وصاعا من تمر‏)‏‏.‏

متفق عليه‏.‏ وللبخاري وأبي داود ‏(‏من اشترى غنما مصراة فاحتلبها فإن رضيها أمسكها وإن سخطها ففي حلبتها صاع من تمر وهو دليل على أن الصاع من التمر في مقابلة اللبن وأنه أخذ قسطا من الثمن‏)‏‏.‏ وفي رواية ‏(‏إذا ما اشترى أحدكم لقحة مصراة أو شاة مصراة فهو بخير النظرين بعد أن يحلبها أما هي وإلا فليردها وصاعا من تمر‏)‏ رواه مسلم وهو دليل على أنه يمسك بغير أرش‏.‏ وفي رواية ‏(‏من اشترى مصراة فهو منها بالخيار ثلاثة أيام إن شاء أمسكها وإن شاء ردها ومعها صاعا من تمر لا سمراء‏)‏ رواه الجماعة إلا البخاري‏.‏

2 - وعن أبي عثمان النهدي قال ‏(‏قال عبد اللّه من اشترى محفلة فردها فليرد معها صاعا‏)‏

رواه البخاري والبرقاني على شرطه وزاد ‏(‏من تمر‏)‏‏.‏

قوله ‏(‏لاتصروا‏)‏ بضم أوله وفتح الصاد المهملة وضم الراء المشددة من صربت اللبن في الضرع إذا جمعته وظن بعضهم أنه من صروت فقيده بفتح أوله وضم ثانيه‏.‏ قال في الفتح والأول أصح قال لأنه لو كان من صررت لقيل مصرورة أو مصررة لا مصراة على أنه سمع الأمر إن في كلام العرب ثم استدل على ذلك بشاهدين عربيين ثم قال وضبطه بعضهم بضم أوله وفتح ثانيه بغير واو على البناء للمجهول والمشهور الأول اهـ‏.‏ قال الشافعي التصرية هي ربط اخلاف الشاة أو الناقة وترك حلبها حتى يجتمع لبنها فيكثر فيظن المشتري أن ذلك عادتها فيزيد في ثمنها لما يرى من كثرة لبنها‏.‏ وأصل التصرية حبس الماء يقال منه صريت الماء إذا حبسته قال أبو عبيدة وأكثر أهل اللغة التصرية حبس اللبن في الضرح حتى يجتمع وإنما اقتصر على ذكر الأبل والغنم دون البقر لأن غالب مواشيهم كانت من الأبل والغنم والحكم واحد خلافا لداود‏:‏ قوله ‏(‏فمن ابتاعها بعد ذلك‏)‏ أي اشتراها بعد التصرية‏:‏ قوله ‏(‏بعد أن يحلبها‏)‏ ظاهره إن الخيار لا يثبت الا بعد الحلب والجمهور على أنه إذا علم بالتصرية ثبت له الخيار على الفور ولو لم يجلب لكن لما كانت التصرية لا يعرف غالبها الا بعد الحلب جعل قيدا في ثبوت الخيار قوله ‏(‏إن رضيها أمسكها‏)‏ استدل بهذا على صحة بيع المصراة مع ثبوت الخيار‏:‏ قوله ‏(‏وصاعا من تمر‏)‏ الواو عاطفة على الضمير في ردها ولكنه يعكر عليه إن الصاع مدفوع ابتداء لامر دود ويمكن أن يقال أنه مجاز عن فعل يشمل الأمرين نحو سلمها أو أدفعها كما في قول الشاعر علقتها تبنا وماء باردا‏.‏ أي ناولتها ويمكن أن يقدر قبل آخر يناسب المعطوف أي ردها وسلم أو أعط صاعا من تمر كما قيل أن التقدير في قول الشاعر المذكور وسقيتها ماء باردا‏.‏ وقيل يجوز أن تكون الواو بمعنى مع ولكنه يعكر عليه قول جمهور النحاة إن شرط المفعول معه إن يكون فاعلا في المعنى نحو جئت أنا وزيدا‏.‏ وقمت أنا وزيدا نعم جعله مفعولا معه صحيح عند من قال بجواز مصاحبته للمفعول به وهم القليل‏:‏ وقد استدل بالتنصيص على الصاع من التمر على أنه لا يجوز رد اللبن ولو كان باقيا على صفته لم يتغير ولا يلزم البائع قبوله لذهاب طراوته واختلاطه بما تجدد عند المشتري‏:‏ قوله ‏(‏لقحة‏)‏ هي الناقة الحلوب أو التي نتجت‏.‏ قوله ‏(‏ثلاثة أيام‏)‏ فيه دليل على امتداد الخيار هذا المقدار فتقيد بهذه الرواية الروايات القاضية بأن الخيار بعد الحلب على الفور كما في قوله ‏(‏بعد أن يحلبها‏)‏ وإلى هذا ذهب الشافعي والهادي والناصر وذهب بعض الشافعية إلى أن الخيار على الفور وحملوا ورواية الثلاث على ما إذا لم يعلم إنها مصراة قبل الثلاث قالوا وإنما وقع التنصيص عليها لأن الغالب أنه لا يعلم بالتصرية فيما دونها‏.‏

واختلفوا في ابتداء الثلاث فقيل من وقت بيان التصرية وإليه ذهبت الحنابلة وقيل من حين العقد وبه قال الشافعي‏.‏ وقيل من وقت التفرق قال في الفتح ويلزم عليه أن يكون الفور أوسع من الثلاث في بعض الصور وهو ما ذا تأخر ظهور التصريح إلى آخر الثلاث ويلزم عليه أن تحسب المدة قبل التمكن من الفسخ وأن يفوت المقصود من التوسع بالمدة اه‏:‏ قوله ‏(‏من تمر لاسمراء‏)‏ لفظ مسلم وأبي داود ‏(‏من طعام لاسمراء‏)‏ وينبغي أن تحمل الطعام على التمر المذكور في هذه الرواية وفي غيرها من الروايات ثم لما كان المتبادر من لفظ الطعام القمح نفاه بقوله لا سمراء ويشكل على هذا الجمع مافي رواية للبزار بلفظ ‏(‏صاع من بر لا سمراء‏)‏ وأجيب عن ذلك بأنه يحتمل أن يكون على وجه الرواية بالمعنى لما ظن الراوي أن الطعام مساو للبر عبر عنه بالبر لان المتبادر من الطعام البركما سلف في الفطرة ويشكل على ذلك الجمع أيضا ما في مسند أحمد بإسناد صحيح كما قال الحافظ عن رجل من الصحابة بلفظ ‏(‏صاعا من طعام أو صاعا من تمر‏)‏ فإن التخيير يقتضي المغايرة‏:‏ وأجاب عنه في الفتح باحتمال أن يكون شكا من الراوي والاحتمال قادح في الاستدلال فينبغي الرجوع إلى الروايات التي لم تختلف‏.‏ ويشكل أيضا ما أخرجه أبو داود من حديث ابن عمر بلفظ ‏(‏ردها ورد معها مثل أو مثلي لبنها قمحا‏)‏ وأجاب عن ذلك الحافظ بأن إسناد الحديث ضعيف قال وقال ابن قدامة أنه متروك الظاهر بالأتفاق‏:‏ قوله ‏(‏محفلة‏)‏ بضم الميم وفتح الحاء المهملة والفاء المشددة من التحفيل وهو التجمع قال أبو عبيده سميت بذلك لكون اللبن يكثر في ضرعها وكل شيء كثرته فقد حفلته‏.‏ تقول ضرع حافل أي عظيم واحتفل القوم إذا كثر جمعهم ومنه سمي المحفل‏.‏ وقد أخذ بظاهر الحديث الجمهور وقال في الفتح وافتي به ابن مسعود وأبو هريرة ولا مخالف لهما في الصحابة‏.‏ وقال به من التابعين ومن بعدهم لا يحصى عدده ولم يفرقوا بين أن يكون اللبن الذي احتلب قليلا كان أو كثيرا ولا بين أن يكون التمر قوت تلك البلد أم لا وخالف في أصل المسألة أكثر الحنفية وفي فروعها آخرون أما الحنفية فقالوا لا يرد بعيب التصرية ولا يجب رد الصاع من التمر وخالفهم زفر فقال بقول الجمهور إلا أنه قال مخير بين صاع من التمر أو نصف صاع من بر‏.‏ وكذا قال ابن أبي ليلى وأبو يوسف في رواية إلا أ،هما قالا لا يتعين صاع التمر بل قيمته‏.‏ وفي رواية عن مالك وبعض الشافعية كذلك ولكن قالوا يتعين قوت البلد قياسا على كل زكاة الفطر‏.‏ وحكى البغوي أنه لا خلاف في مذهب الشافعية أنهما لو تراضيا بغير التمر من قوت أو غيره كفى وأثبت ابن كج الخلاف في ذلك‏.‏ وحكى الماوردي وجهين فيما إذا عجز عن التمر هل يلزمه قيمته ببلد أو بأقرب البلاد التي فيها التمر إليه وبالثاني قالت الحنابلة اهـ كلام الفتح‏:‏ والهادوية يقولون أن الواجب رد اللبن إن كان باقيا وإن كان تالفا فمثله وإن لم يوجد المثل فالقيمة‏.‏

وقد اعتذر الحنفية عن حديث المصراة بأعذار بسطها صاحب فتح الباري وسنشير إلى ما ذكره باختصار ونزيد عليه ما لا يخلو عن فائدة العذر الأول الطعن في الحديث بكون راوية أبا هريرة وقالوا لم يكن كابن مسعود وغيره من فقهاء الصحابة فلا يؤخذ بما يرويه إذا كان مخالفا للقياس الجلي وبطلان هذا العذر أوضح من أن يشتغل ببيان وجهه فإن أبا هريرة رضي اللّه عنه من أحفظ الصحابة وأكثرهم حديثا عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم له بالحفظ كما ثبت في الصحيحين وغيرهما في قصة بسطه لردائه بين يدي رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم ومن كان بهذه المنزلة لا ينكر عليه تفرده بشيء من الأحكام الشرعية‏.‏ وقد اعتذر رضي اللّه عنه عن تفرده بكثير مما لا يشاركه فيه غيره بما ثبت عنه في الصحيح من قوله أن أصحابي من المهاجرين كان يشغلهم الصفق بالأسواق وكنت ألزم رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم فأشهد إذا غابوا وأحفظ إذا نسوا‏.‏ وأيضا لو سلم ما ادعوه من أنه ليس كغيره في الفقه لم يكن ذلك قادحا في الذي يتفرد به لأن كثيرا من الشريعة بل أكثرها وارد من غير طريق المشهورين بالفقه من الصحابة فطرح حديث أبي هريرة يستلزم طرح شطر الدين على أن أبا هريرة لم ينفرد برواية هذا الحكم عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم بل رواه معه ابن عمر كما أخرج ذلك من حديثه أبو داود والطبراني وأنس كما أخرجه ذلك من حديثه أو يعلى وعمرو بن عوف المزني كما أخرج ذلك عنه البيهقي ورجل من الصحابة لم يسم كما أخرجه أحمد بإسناد صحيح وابن مسعود كما أخرجه الإسماعيلي وإن كان قد خالفه الأكثر ورووه موقوفا عليه كما فعل البخاري وغيره وتبعهم المصنف ولكن مخالفة ابن مسعود للقياس الجلي مشعرة بثبوت حديث أبي هريرة‏.‏ قال ابن عبد البر ونعم ما قال ان هذا الحديث مجمع على صحته وثبوته من جهة النقل واعتل من لم يأخذ به بأشياء لا حقيقة لها‏.‏ العذر الثاني من أعذار الحنفية الاضطراب في متن الحديث قالوا لذكر التمر فيه تارة والقمح أخرى واللبن أخرى واعتبار الصاع تارة والمثل أو المثلين أخرى وأجيب بأن الطرق الصحيحة لا اختلاف فيها والضعيف لا يعل به الصحيح‏.‏ العذر الثالث أنه معارض لعموم قوله تعالى ‏{‏وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به‏}‏ وأجيب بأنه من ضمان المتلفات لا العقوبات ولو سلم دخوله تحت العموم فالصاع مثل لأنه عوض المتلف وجعله مخصوصا بالتمر دفا للشجار ولو سلم عدم صدق المثل عليه فعموم الآية مخصص بهذا الحديث اما على مذهب الجمهور فظاهر وأما على مذهب غيرهم فلأنه مشهور وهو صالح لتخصيص العمومات القرآنية‏.‏ العذر الرابع أن الحديث منسوخ وأجيب بأن النسخ لا يثبت بمجرد الاحتمال ولو كفى ذلك لرد من شاء ما شاء واختلفوا في تعيين الناسخ فقال بعضهم هو حديث ابن عمر عند ابن ماجه في النهي عن بيع الدين بالدين وذلك لأن لبن المصراة قد صار ينافي ذمة المشتري فإذا ألزم بصاع من تمر صار دينا بدين كذا قال الطحاوي وتعقب بأن الحديث ضعيف باتفاق المحدثين ولو سلمت صلاحيته فكون ما نحن فيه من بيع الدين بالدين ممنوع لأنه يرد الصاع من الصراة حاضرا لا نسيئة من غير فرق بين أن يكون اللبن موجودا أو غير موجود ولو سلم أنه من بيع الدين بالدين فحديث الباب مخصص لعموم ذلك النهي لأنه أخص منه مطلقا‏.‏ وقال بعضهم أن ناسخه حديث الخراج بالضمان وقد تقدم وذلك لأن اللبن فضلة من فضلات الشاة ولو تلفت لكانت من ضمان المشتري فتكون فضلاتها له وأجيب بأن المغروم هو ما كان فيها قبل البيع لا الحادث وأيضا حديث الخراج بالضمان بعد تسليم شمولة المحل النزاع عام مخصوص بحديث الباب فكيف يكون ناسخا‏.‏

وايضا لم ينقل تأخره والنسخ لا يتم بدون ذلك ثم لو سلمنا مع عدم العلم بالتاريخ جواز المصير إلى التعارض وعدم لزوم بناء العام على الخاص لكان حديث الباب أرجح لكونه في الصحيحين وغيرهما ولتأيده بما ورد في معناه عن غير واحد من الصحابة‏.‏ وقال بعضهم ناسخة الأحاديث الوادرة في رفع العقوبة بالمال هكذا قال عيسى بن ابان وتعقبه الطحاوي بأن التصرية إنما وجدت من البائع فلو كان من ذلك الباب لكانت العقوبة له والعقوبة في حديث المصراة للمشتري فافترقا وأيضا عموم الأحاديث القاضية بمنع العقوبة بالمال على فرض ثبوتها مخصوصة بحديث المصراة وقد قدمنا البحث في التأديب بالمال مبسوطا في كتاب الزكاة‏.‏ وقال بعضهم ناسخه حديث ‏(‏البيعان بالخيار ما لم يفترقا‏)‏ وقد تقدم بذلك أجاب محمد بن شجاع‏.‏ ووجه الدلالة أن الفرقة قاطعة للخيار من غير فرق بين المصراة وغيرها‏.‏ وأجيب بأن الحنفية لا يثبتون خيار المجلس كما سلف فكيف يحتجون بالحديث المثبت له‏.‏ وأيضا بعد تسليم صحة احتجاجهم به هو مخصص بحديث الباب‏.‏ وأيضا قد أثبتوا خيار العيب بعد التفريق وما هو جوابهم فهو جوابنا‏.‏ العذر الخامس أن الخبر من الآحاد وهي لا تفيد إلا الظن وهو لا يعلم به إذا خالف قياس الأصول وقد تقرر أن المثلى يضمن بمثله والقيمى بقيمته من أحد النقدين فكيف يضمن بالتمر على الخصوص وأجيب بأن التوقف في خبر الواحد إنما هو إذا كان مخالفا للأصول لا لقياس الأصول والأصول الكتاب والسنة والإجماع والقياس والأولان هما الأصل والآخران مردودان إليهما فكيف يرد الأصل بالفرع ولو سلم أن الآحادي يتوقف فيه على الوجه الذي زعموا فلا أقل لهذا الحديث الصحيح من صلاحيته تخصيص ذلك القياس المدعي‏.‏ وقد أجيب عن هذا العذر بأجوبة غير ما ذكر ولكن أمثلها ما ذكرناه‏.‏ ومن جملة ما خالف فيه هذا الحديث القياس عندهم أن الأصول تقتضي أن يكون الضمان بقدر التالف وهو مختلف وقد قد ههنا بمقدار معين وهو الصاع وأجيب بمنع التعميم في جميع المضمونات فإن الموضحة أرشها مقدار مع اختلافها بالكبر والصغر وكذلك كثير من الجنايات‏.‏ والغرة مقدرة في الجنين مع اختلافه

ـ والحكمة ـ في تقدير الضمان ههنا بمقدار واحد لقطع التشاجر لما كان قد اختلط اللبن الحادث بعد العقد باللبن الموجود قبله فلا يعرف مقداره حتى يسلم المشتري نظيره

ـ والحكمة ـ في التقدير بالتمر أنه أقرب الأشياء إلى اللبن لأنه كان قوتهم إذ ذاك كالتمر ـ ومن جملة ـ ما خالف به الحديث القياس عندهم أنه جعل الخيار فيه ثلاثا مع أن خيار العيب لا يقدر بالثلاث وكذلك خيار الرؤية والمجلس وأجيب بأن حكم المصراة تفرد بأصله عن مماثلة فلا يستغرب أن ينفرد بوصف يخالف غيره وذلك لأن هذه المدة هي التي يتبين بها لبن الغرر بخلاف خيار والمجلس فلاج مدة‏.‏

ـ ومن جملة ـ ما خالف به القياس عندهم أنه يلزم من الأخذ به الجمع بين العوض والمعوض فيما إذا كان قيمة الشاة صاعا من تمر فإنها ترجع إليه مع الصاع الذي هو مقدار ثمنها وأجيب بأن التمر عوض اللبن لاعوض الشاة فلا يلزم ما ذكر

ـ ومن جملة ـ ما خالف به القياس عندهم أنه إذا استرد مع الشاة صاعا وكان ثمن الشاة صاعا كان قد باع شاة وصاع بصاع فيلزم الربا وأجيب بأن الربا إنما يعتر في العقود لا في الفسوخ بدليل أنهما لو تبايعا ذهبا بفضة لم يجز أن يتفرقا قبل القبض ولو تقابلا في هذا العقد بعينه جاز التفرق قبل القبض‏.‏ ـ ومن جملة ـ المخالفة أنه يلزم من الأخذ به ضمان الأعيان مع بقائها فيما إذا كان اللبن موجودا وأجيب بأنه تعذر رده لاختلاطه باللبن الحادت وتعذر تميزه فأشبه الآبق بعد الغصب فإنه يضمن قيمته مع بقاء عينة لتعذر رده ومنهما أنه يلزم من الأخذ به إثبات الرد بغير عيب ولا شرط وأجيب بأن اسباب الرد بالتدليس وقد أثبت به الشارع الرد في الركبان إذا تلقفوا كما سلف ولا يخفى على منصف أن هذه القواعد التي جعلوا هذا الحديث مخالفا لها لو سلم أنها قد قامت عليها الأدلة لم يقصر الحديث عن الصلاحية لتخصيصها فياللّه العجب من قوم يبلغون في المحاماة عن مذاهب اسلافهم وإيثارها على السنة المطهرة الصريحة الصحيحة إلى هذا الحد الذي يسر به ابليس وينفق في حصول مثل هذه القضية التي قل طعمه في مثلها لا سيما من علماء الإسلام النفس والنفيس وهكذا ففلتكن ثمرات التمذهبات وتقليد الرجال في مسائل الحرام والحلال‏.‏ العذر السادس أن الحديث محمول على صورة مخصوصة وهي ماذا اشترى شاة بشرط أنها تحلب مثلا خمسة ارطال وشرط فيها الخيار فالشرط فاسد فإن اتفقا على اسقاطه في مدة الخيار صح العقد وإن لم يتفقا بطل ووجب رد الصاع من التمر لأنه كان قيمة اللبن يومئذ وأجيب بأن الحديث معلق بالتصرية وما ذكروه يقتضي تعليقه بفساد الشرط سواء وجدت تصرية أم لا فهو تأويل متعسف‏.‏ وأيضا لو سلم أن ما ذكروه من جملة صور الحديث فالقصر على صورة معينة هي فرد من أفراد الدليل لا بد من إقامة دليل عليه‏.‏

قال في الفتح واختلف القائلون بالحديث في أشياء‏.‏ منها لو كان عالما بالتصرية هل يثبت له الخيار فيه وجه للشافعية قال‏.‏ ومنها لو صار لبن المصراة عادة واستمر على كثرته هل له الرد فيه وجه للشافعية قال‏.‏ ومنها لو صار لبن المصراة عادة واستمر على كثرته هل له الرد فيه وجه لهم أيضا خلافا للحنابلة في المسئلتين‏.‏ ومنها لو تصرت بنفسها أو صراها المالك لنفسه ثم بدا له فباعها فهل يثبت ذلك الحكم فيه خلاف فمن نظر إلى المعني لأن العيب يثبت الخيار ولا يشترط فيه تدليس ومن نظر إلى أن حكم التصرية خارج عن القياس خصه بمورده وهو حاله العمد فإن النهي إنما يتناولها فقط‏.‏ ومنها لو كان الضرع مملوءا لحما فظنه المشترى لبنا فاشتراها على ذلك ثم ظهر له أنه لحم هل يثبت له الخيار فيه وجهان حكاهما بعض المالكية‏.‏ ومنها لو اشترى غير مصراة ثم اطلع على عيب بها بعد حلبها فقد نص الشافعي على جواز الرد مجانا لأنه قليل غير معتني بجمعه‏.‏ وقيل يرد بدل اللبن كالمصراة‏.‏ وقال البغوي يرد صاعا من تمر انتهى‏.‏

والظاهر عدم ثبوت الخيار مع علم المشترى بالتصرية لأنتفاء الغرر الذي هو السبب للخيار‏.‏ وأما كون سبب الغرر حاصلا من جهة البائع فيمكن أن يكون معتبرا لأن حكمة صلى اللّه عليه وآله وسلم بثيوت الخيار بعد النهي عن التصرية مشعر بذلك وأيضا المصراة المذكورة في الحديث اسم مفعول وهو يدل على أن التصرية وقعت عليها من جهة الغير لأن اسم المفعول هو لمن وقع عليه فعل الفاعل ويمكن أن لا يكون معتبرا لأن تصري الدابة من غير قصد وكون ضرعها ممتلئا لحما يحصل به من الغرر ما يحصل بالتصرية عن قصد فينظر‏.‏ قال ابن عبد البر هذا الحديث أصل في النهي عن الغش وأصل في ثبوت الخيار لمن دلس عليه بعيب‏.‏ وأصل في أنه لا يفسد أصل البيع وأصل في أن مدة الخيار ثلاثة أيام‏.‏ وأصل في تحريم التصرية وثبوت الخيار بها‏.‏