فصل: أبواب صفة الصلاة

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: نيل الأوطار شرح منتقى الأخبار **


 أبواب استقبال القبلة

 باب وجوبه للصلاة

1 - عن أبي هريرة في حديث يأتي ذكره قال‏:‏ ‏(‏قال النبي صلى اللَّه عليه وآله وسلم‏:‏ فإذا قمت إلى الصلاة فأسبغ الوضوء ثم استقبل القبلة فكبر‏)‏‏.‏

هذا الحديث الذي أشار إليه المصنف هو حديث المسيء وسيأتي في باب السجدة الثانية ولزوم الطمأنينة ويأتي إن شاء اللَّه شرحه هنالك وهذا اللفظ الذي ذكره المصنف هو لفظ مسلم وهو يدل على وجوب الاستقبال وهو إجماع المسلمين إلا في حالة العجز أو في الخوف عند التحام القتال أو في صلاة التطوع كما سيأتي‏.‏ وقد دل على الوجوب القرآن والسنة المتواترة‏.‏ وفي الصحيح من حديث أنس قال‏:‏ ‏(‏قال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم‏:‏ أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا اللَّه فإذا قالوها وصلوا صلاتنا واستقبلوا قبلتنا وذبحوا ذبيحتنا فقد حرمت علينا دماؤهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على اللَّه عز وجل‏)‏‏.‏

وقالت الهادوية‏:‏ إن استقبال القبلة من شروط صحة الصلاة وقد عرفناك فيما سبق أن الأوامر بمجردها لا تصلح للاستدلال بها على الشرطية إلا على القول بأن الأمر بالشيء نهي عن ضده ولكن ههنا ما يمنع من الشرطية وهو خبر السرية الذي أخرجه الترمذي وأحمد والطبراني من حديث عامر بن ربيعة بلفظ‏:‏ ‏(‏كنا مع النبي صلى اللَّه عليه وآله وسلم في ليلة مظلمة فلم ندر أين القبلة وصلى كل رجل منا على حياله فلما أصبحنا ذكرنا ذلك للنبي صلى اللَّه عليه وآله وسلم فنزل ‏{‏فأينما تولوا فثم وجه اللَّه‏}‏‏)‏ فإن الاستقبال لو كان شرطًا لوجبت الإعادة في الوقت وبعده لأن الشرط يؤثر عدمه في العدم مع أن الهادوية يوافقون في عدم وجوب الإعادة بعد الوقت وهو يناقض قولهم إن الاستقبال شرط وهذا الحديث وإن كان فيه مقال عند المحدثين ولكن له شواهد تقويه منها حديث جابر عند البيهقي بلفظ‏:‏ ‏(‏صلينا ليلة في غيم وخفيت علينا القبلة فلما انصرفنا نظرنا فإذا نحن قد صلينا إلى غير القبلة فذكرنا ذلك لرسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم فقال‏:‏ قد أحسنتم ولم يأمرنا أن نعيد‏)‏‏.‏

وله طريق أخرى عنه بنحو هذه وفيها أنه قال صلى اللَّه عليه وآله وسلم ‏(‏قد أجزأت صلاتكم‏)‏ ولكنه تفرد به محمد بن سالم ومحمد بن عبيد اللَّه العرزمي عن عطاء وهما ضعيفان‏.‏ وكذا قال الدارقطني قال البيهقي‏:‏ وكذلك روي عن عبد الملك العرزمي عن عطاء ثم رواه من طريق أخرى بنحو ما هنا وقال‏:‏ لا نعلم لهذا الحديث إسنادًا صحيحًا قويًا والصحيح أن الآية إنما نزلت في التطوع خاصة كما في صحيح مسلم وسيأتي ذلك في باب تطوع المسافر‏.‏ ومنها حديث معاذ عند الطبراني في الأوسط بلفظ‏:‏ ‏(‏صلينا مع رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم في يوم غيم في سفر إلى غير القبلة فلما قضى الصلاة وسلم تجلت الشمس فقلنا‏:‏ يا رسول اللَّه صلينا إلى غير القبلة فقال‏:‏ قد رفعت صلاتكم بحقها إلى اللَّه عز وجل‏)‏ وفي إسناده أبو عبلة واسمه شمر بن عطاء وقد ذكره ابن حبان في الثقات‏.‏

وهذه الأحاديث يقوي بعضها بعضًا فتصلح للاحتجاج بها وفي حديث معاذ التصريح بأن ذلك كان بعد الفراغ من الصلاة قبل انقضاء الوقت وهو أصرح في الدلالة على عدم الشرطية وفيها أيضًا رد لمذهب من فرق في وجوب الإعادة بين بقاء الوقت وعدمه‏.‏

2 - وعن ابن عمر قال‏:‏ ‏(‏بينما الناس بقبا في صلاة الصبح إذ جاءهم آت فقال‏:‏ إن النبي صلى اللَّه عليه وآله وسلم قد أنزل عليه الليلة قرآن وقد أمر أن يستقبل القبلة فاستقبلوها وكانت وجوههم إلى الشام فاستداروا إلى الكعبة‏)‏‏.‏

متفق عليه‏.‏

3 - وعن أنس‏:‏ ‏(‏أن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم كان يصلي نحو بيت المقدس فنزلت ‏{‏قد نرى تقلب وجهك في السماء فلنولينك قبلة ترضاها فول وجهك شطر المسجد الحرام‏}‏ فمر رجل من بني سلمة وهم ركوع في صلاة الفجر وقد صلوا ركعة فنادى ألا إن القبلة قد حولت فمالوا كما هم نحو القبلة‏)‏‏.‏

رواه أحمد ومسلم وأبو داود‏.‏

وفي الباب عن البراء عند الجماعة إلا أبا داود‏.‏ وعن ابن عباس عند أحمد والبزار والطبراني قال العراقي‏:‏ وإسناده صحيح‏.‏ وعن عمارة بن أوس عند أبي يعلى في مسنده والطبراني في الكبير‏.‏ وعن عمرو بن عوف المزني عند البزار والطبراني أيضًا‏.‏ وعن سعد ابن أبي وقاص عند البيهقي وإسناده صحيح‏.‏ وعن سهل بن سعد عند الطبراني والدارقطني‏.‏ وعن عثمان بن حنيف عند الطبراني أيضًا‏.‏ وعن عمارة بن رويبة عند الطبراني أيضًا‏.‏ وعن أبي سعيد بن المعلى عند البزار والطبراني أيضًا‏.‏ وعن تويلة بنت أسلم عند الطبراني أيضًا‏.‏

قوله ‏(‏في صلاة الصبح‏)‏ هكذا في صحيح مسلم من حديث أنس بلفظ‏:‏ ‏(‏وهم ركوع في صلاة الفجر‏)‏ وكذا عند الطبراني من حديث سهل بن سعد بلفظ‏:‏ ‏(‏فوجدهم يصلون صلاة الغداة‏)‏ وفي الترمذي من حديث البراء بلفظ‏:‏ ‏(‏فصلى رجل معه العصر‏)‏ وساق الحديث وهو مصرح بذلك في رواية البخاري من حديث البراء وليس عند مسلم تعيين الصلاة من حديث البراء‏.‏ وفي حديث عمارة بن أوس أن التي صلاها النبي صلى اللَّه عليه وآله وسلم إلى الكعبة إحدى صلاتي العشي وهكذا في حديث عمارة ابن رويبة وحديث تويلة وفي حديث أبي سعيد بن المعلى أنها الظهر‏.‏ والجمع بين هذه الروايات أن من قال إحدى صلاتي العشي شك هل هي الظهر أو العصر وليس من شك حجة على من جزم فنظرنا فيمن جزم فوجدنا بعضهم قال الظهر وبعضهم قال العصر ووجدنا رواية العصر أصح لثقة رجالها وإخراج البخاري لها في صحيحه‏.‏

وأما حديث كونها الظهر ففي إسنادها مروان بن عثمان وهو مختلف فيه‏.‏ وأما رواية ‏(‏أن أهل قبا كانوا في صلاة الصبح‏)‏ فيمكن أنه أبطأ الخبر عنهم إلى صلاة الصبح‏.‏

قال ابن سعد في الطبقات حاكيًا عن بعضهم‏:‏ إن ذلك كان بمسجد المدينة فقال‏:‏ ويقال صلى رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم ركعتين من الظهر في مسجده بالمسلمين ثم أمر أن يوجه إلى المسجد الحرام فاستدار إليه وكان معه المسلمون ويكون المعنى برواية البخاري أنها العصر أي أن أول صلاة صلاها إلى الكعبة كاملة صلاة العصر‏.‏

قوله ‏(‏إذ جاءهم آت‏)‏ قيل هو عباد ابن بشر وقيل عباد بن نهيك وقيل غيرهما‏.‏

قوله ‏(‏فاستقبلوها‏)‏ بفتح الموحدة للأكثر أي فتحولوا إلى جهة الكعبة وفاعل استقبلوها المخاطبون بذلك وهم أهل قبا ويحتمل أن يكون فاعل استقبلوها النبي صلى اللَّه عليه وآله وسلم ومن معه‏.‏ وفي رواية في البخاري بكسر الموحدة بصيغة الأمر ويؤيد الكسر ما عند البخاري في التفسير بلفظ‏:‏ ‏(‏ألا فاستقبلوها‏)‏‏.‏

قوله ‏(‏وكانت وجوههم‏)‏ هو تفسير من الراوي للتحول المذكور والضمير في وجوههم فيه الاحتمالان وقد وقع بيان كيفية التحول في خبر تويلة قالت‏:‏ فتحول النساء مكان الرجال والرجال مكان النساء‏.‏ قال الحافظ‏:‏ وتصويره أن الإمام تحول من مكانه في مقدم المسجد إلى مؤخر المسجد لأن من استقبل الكعبة استدبر بيت المقدس وهو لو دار في مكانه لم يكن خلفه مكان يسع الصفوف ولما تحول الإمام تحولت الرجال حتى صاروا خلفه وتحول النساء حتى صرن خلف الرجال وهذا يستدعي عملًا كثيرًا في الصلاة فيحتمل أن ذلك وقع قبل تحريم العمل الكثير كما كان قبل تحريم الكلام ويحتمل أن يكون اغتفر العمل المذكور من أجل المصلحة المذكورة أو وقعت الخطوات غير متوالية عند التحول بل وقعت مفرقة‏.‏

ـ وللحديث الأول فوائد ـ منها أن حكم الناسخ لا يثبت في حق المكلف حتى يبلغه لأن أهل قبا لم يؤمروا بالإعادة‏.‏ ومنها جواز الاجتهاد في زمن النبي صلى اللَّه عليه وآله وسلم في أمر القبلة لأن الأنصار تحولوا إلى جهة الكعبة بالاجتهاد ونظره الحافظ قال‏:‏ يحتمل أن يكون عندهم بذلك نص سابق‏.‏ ومنها جواز تعليم من ليس في الصلاة من هو فيها‏.‏ ومنها جواز نسخ الثابت بطريق العلم والقطع بخبر الواحد وتقريره أن النبي صلى اللَّه عليه وآله وسلم لم ينكر على أهل قبا عملهم بخبر الواحد وأجيب عن ذلك بأن الخبر المذكور احتف بالقرائن والمقدمات التي أفادت القطع لكونه في زمن تقلب وجهه في السماء ليحول إلى جهة الكعبة وقد عرفت منه الأنصار ذلك بملازمتهم له فكانوا يتوقعون ذلك في كل وقت فلما فجأهم الخبر عن ذلك أفادهم العلم لما كانوا يتوقعون حدوثه‏.‏

وأجاب العراقي بأجوبة أخر‏:‏ منها أن النسخ بخبر الواحد كان جائزًا على عهد النبي صلى اللَّه عليه وآله وسلم وإنما امتنع بعده‏.‏ قال الحافظ‏:‏ ويحتاج إلى دليل‏.‏ ومنها أنه تلا عليهم الآية التي فيها ذكر النسخ بالقرآن وهم أعلم الناس بإطالته وإيجازه وأعرفهم بوجوه إعجازه‏.‏ ومنها أن العمل بخبر الواحد مقطوع به ثم قال‏:‏ الصحيح أن النسخ للمقطوع بالمظنون كنسخ نص الكتاب أو السنة المتواترة بخبر الواحد جائز عقلًا وواقع سمعًا في عهد النبي صلى اللَّه عليه وآله وسلم وزمانه ولكن أجمعت الأمة على منعه بعد الرسول فلا مخالف فيه وإنما الخلاف في تجويزه في عهد الرسول صلى اللَّه عليه وآله وسلم انتهى‏.‏

ـ ومن فوائد الحديث ـ ما ذكره المصنف قال‏:‏ وهو حجة في قبول أخبار الآحاد انتهى وذلك لأنه أجمع عليه الذين بلغ إليهم ولم ينكر عليهم النبي صلى اللَّه عليه وسلم بل روى الطبراني في آخر حديث تويلة أن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم قال فيهم‏:‏ ‏(‏أولئك رجال آمنوا بالغيب‏)‏‏.‏

 باب حجة من رأى فرض البعيد إصابة الجهة لا العين

1 - عن أبي هريرة‏:‏ ‏(‏أن النبي صلى اللَّه عليه وآله وسلم قال‏:‏ ما بين المشرق والمغرب قبلة‏)‏‏.‏

رواه ابن ماجه والترمذي وصححه‏.‏ وقوله عليه السلام في حديث أبي أيوب‏:‏ ‏(‏ولكن شرقوا أو غربوا‏)‏ يعضد ذلك‏.‏

الحديث الأول أخرجه الترمذي وابن ماجه من طريق أبي معشر وقد تابع أبا معشر عليه علي بن ظبيان قاضي حلب كما رواه ابن عدي في الكامل قال‏:‏ ولا أعلم يرويه عن محمد بن عمرو غير علي بن ظبيان وأبي معشر وهو بأبي معشر أشهر منه بعلي بن ظبيان قال‏:‏ ولعل علي بن ظبيان سرقه منه وذكر قول ابن معين فيه‏:‏ إنه ليس بشيء وقول النسائي‏:‏ متروك الحديث وقد تابعه عليه أيضًا أبو جعفر الرازي رواه البيهقي في الخلافيات‏.‏ وأبو جعفر وثقه ابن معين وابن المديني وأبو حاتم وقال أحمد والنسائي‏:‏ ليس بقوي وقال العلاسي‏:‏ سيئ الحفظ‏.‏ وأبو معشر المذكور ضعيف‏.‏

ـ والحديث ـ رواه أيضًا الحاكم والدارقطني وقد أخرج الحديث الترمذي من طريق غير طريق أبي معشر وقال‏:‏ حديث حسن صحيح وقد خالفه البيهقي فقال بعد إخراجه من هذه الطريق‏:‏ هذا إسناد ضعيف فنظرنا في الإسناد فوجدنا عثمان بن محمد بن المغيرة بن الأخنس بن شريق قد تفرد به عن المقبري وقد اختلف فيه فقال علي بن المديني‏:‏ إنه روى أحاديث مناكير ووثقه ابن معين وابن حبان فكان الصواب ما قاله الترمذي‏.‏

وأما الحديث الثاني أعني حديث أبي أيوب فهو متفق عليه وقد تقدم شرحه في أبواب التخلي‏.‏

وفي الباب عن ابن عمر عند البيهقي‏.‏ وفي الباب أيضًا من قول عمر عند الموطأ وابن أبي شيبة والبيهقي‏.‏ ومن قول علي عند ابن أبي شيبة‏.‏ ومن قول عثمان عند ابن عبد البر في التمهيد‏.‏ ومن قول ابن عباس أشار إلى ذلك الترمذي‏.‏

ـ والحديث ـ يدل على أن الفرض على من بعد عن الكعبة الجهة لا العين وإليه ذهب مالك وأبو حنيفة وأحمد وهو ظاهر ما نقله المزني عن الشافعي وقد قال الشافعي أيضًا‏:‏ إن شطر البيت وتلقاء وجهته واحد في كلام العرب واستدل لذلك أيضًا بحديث أخرجه البيهقي عن ابن عباس‏:‏ ‏(‏أن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم قال‏:‏ البيت قبلة لأهل المسجد والمسجد قبلة لأهل الحرم والحرم قبلة لأهل الأرض مشارقها ومغاربها من أمتي‏)‏ قال البيهقي‏:‏ تفرد به عمر بن حفص المكي وهو ضعيف قال‏:‏ وروي بإسناد آخر ضعيف لا يحتج بمثله‏.‏ وإلى هذا المذهب ذهب الأكثر وذهب الشافعي في أظهر القولين عنه إلى أن فرض من بعد العين وأنه يلزمه ذلك بالظن لحديث أسامة بن زيد أنه صلى اللَّه عليه وآله وسلم ‏(‏لما دخل البيت دعا في نواحيه ولم يصل فيه حتى خرج فلما خرج ركع ركعتين في قبل قبلة وقال هذه القبلة‏)‏ ورواه البخاري من حديث ابن عباس مختصرًا وقد عرفت ما قدمنا في باب صلاة التطوع في الكعبة من ترجيح أنه صلى اللَّه عليه وآله وسلم صلى في الكعبة‏.‏

وقد اختلف في معنى حديث الباب الأول فقال العراقي‏:‏ ليس عامًا في سائر البلاد وإنما هو بالنسبة إلى المدينة المشرفة وما وافق قبلتها وهكذا قال البيهقي في الخلافيات وهكذا قال أحمد بن خالويه الوهبي قال‏:‏ ولسائر البلدان من السعة في القبلة مثل ذلك بين الجنوب والشمال ونحو ذلك قال ابن عبد البر‏:‏ وهذا صحيح لا مدفع له ولا خلاف بين أهل العلم فيه‏.‏

وقال الأثرم‏:‏ سألت أحمد بن حنبل عن معنى الحديث فقال هذا في كل البلدان إلا بمكة عند البيت فإنه إن زال عنه شيئًا وإن قل فقد ترك القبلة ثم قال هذا المشرق وأشار بيده وهذا المغرب وأشار بيده وما بينهما قبلة‏.‏ قلت له‏:‏ فصلاة من صلى بينهما جائزة قال‏:‏ نعم وينبغي أن يتحرى الوسط‏.‏ قال ابن عبد البر‏:‏ تفسير قول أحمد هذا في كل البلدان يريد أن البلدان كلها لأهلها في قبلتهم مثل ما لمن كانت قبلتهم بالمدينة الجنوب التي يقع لهم فيها الكعبة فيستقبلون جهتها ويتسعون يمينًا وشمالًا فيها ما بين المشرق والمغرب يجعلون المغرب عن أيمانهم والمشرق عن يسارهم وكذلك لأهل اليمن من السعة في قبلتهم مثل ما لأهل المدينة ما بين المشرق والمغرب إذا توجهوا أيضًا قبل القبلة إلا أنهم يجعلون المشرق عن أيمانهم والمغرب عن يسارهم وكذلك أهل العراق وخراسان لهم من السعة في استقبال القبلة ما بين الجنوب والشمال مثل ما كان لأهل المدينة من السعة فيما بين المشرق والمغرب وكذلك ضد العراق على ضد ذلك أيضًا وإنما تضيق القبلة كل الضيق على أهل المسجد الحرام وهي لأهل مكة أوسع قليلًا ثم هي لأهل الحرم أوسع قليلًا ثم لأهل الآفاق من السعة على حسب ما ذكرنا اهـ‏.‏

قال الترمذي‏:‏ قال ابن عمر‏:‏ إذا جعلت المغرب عن يمينك والمشرق عن يسارك فما بينهما قبلة إذا استقبلت القبلة‏.‏ وقال ابن المبارك‏:‏ ما بين المشرق والمغرب قبلة هذا لأهل المشرق واختار ابن المبارك التياسر لأهل مرو اهـ‏.‏

وقد يستشكل قول ابن المبارك من حيث أن من كان بالمشرق إنما يكون قبلته المغرب فإن مكة بينه وبين المغرب والجواب عنه أنه أراد بالمشرق البلاد التي يطلق عليها اسم المشرق كالعراق مثلًا فإن قبلتهم أيضًا بين المشرق والمغرب قبلة لأهل العراق قال‏:‏ وقد ورد مقيدًا بذلك في بعض طرق حديث أبي هريرة ‏(‏ما بين المشرق والمغرب قبلة لأهل العراق‏)‏ رواه البيهقي في الخلافيات وروى ابن أبي شيبة عن ابن عمر أنه قال‏:‏ إذا جعلت المغرب عن يمينك والمشرق عن يسارك فما بينهما قبلة لأهل المشرق‏.‏

ويدل على ذلك أيضًا تبويب البخاري على حديث أبي أيوب بلفظ باب قبلة أهل المدينة وأهل الشام والمشرق ليس في المشرق ولا المغرب قبلة‏.‏ قال ابن بطال في تفسير هذه الترجمة‏:‏ يعني وقبلة مشرق الأرض كلها إلا ما قابل مشرق مكة من البلاد التي تكون تحت الخط المار عليها من المشرق إلى المغرب فحكم مشرق الأرض كلها كحكم مشرق أهل المدينة والشام في الأمر بالانحراف عند الغائط لأنهم إذا شرقوا أو غربوا لم يستقبلوا القبلة ولم يستدبروها قال‏:‏ وأما ما قابل مشرق مكة من البلاد التي تكون تحت الخط المار عليها من شرقها إلى مغربها فلا يجوز لهم استعمال هذا الحديث ولا يصح لهم أن يشرقوا ولا أن يغربوا لأنهم إذا شرقوا استدبروا القبلة وإذا غربوا استقبلوها وكذلك من كان موازيًا بالمغرب مكة إذ العلة فيه مشتركة مع المشرق فاكتفى بذكر المشرق عن المغرب لأن المشرق أكثر الأرض المعمورة وبلاد الإسلام في جهة مغرب الشمس قليل قال‏:‏ وتقدير الترجمة بأن قبلة أهل المدينة وأهل الشام والمشرق ليس في التشريق ولا في التغريب يعني أنهم عند الانحراف للتشريق والتغريب ليسوا بمواجهين للقبلة ولا مستدبرين لها والعرب تطلق المشرق والمغرب بمعنى التغريب والتشريق وأنشد ثعلب في المجالس‏:‏

أبعد مغربهم نجدًا وساحتها

قال ثعلب‏:‏ معناه أبعد تغريبهم انتهى‏.‏ وقد أطلنا الكلام في تفسير معنى الحديث لأنه كثيرًا ما يسأل عنه الناس ويستشكلونه لا سيما مع زيادة لفظ لأهل المشرق‏.‏

 باب ترك القبلة لعذر الخوف

1 - عن نافع عن ابن عمر‏:‏ ‏(‏أنه كان إذا سئل عن صلاة الخوف وصفها ثم قال‏:‏ فإن كان خوف هو أشد من ذلك صلوا رجالًا قيامًا على أقدامهم وركبانًا مستقبلي القبلة وغير مستقبليها قال نافع‏:‏ ولا أرى ابن عمر ذكر ذلك إلا عن النبي صلى اللَّه عليه وآله وسلم‏)‏‏.‏

رواه البخاري‏.‏

الحديث ذكره البخاري في تفسير سورة البقرة وأخرجه مالك في الموطأ وقال في آخره‏:‏ قال نافع‏:‏ لا أرى عبد اللَّه بن عمر ذكر ذلك إلا عن النبي صلى اللَّه عليه وآله وسلم‏.‏ ورواه ابن خزيمة وأخرجه مسلم وصرح بأن الزيادة من قول ابن عمر ورواه البيهقي من حديث موسى بن عقبة عن نافع عن ابن عمر‏.‏ وقال النووي في شرح المهذب‏:‏ هو بيان حكم من أحكام صلاة الخوف لا تفسير للآية‏.‏ وقد أخرجه البخاري في صلاة الخوف بلفظ وزاد ابن عمر عن النبي صلى اللَّه عليه وآله وسلم‏:‏ ‏(‏وإذا كانوا أكثر من ذلك فليصلوا قيامًا وركبانًا‏)‏‏.‏

ـ والحديث ـ يدل على أن صلاة الخوف لا سيما إذا كثر العدو تجوز حسب الإمكان فينتقل عن القيام إلى الركوب وعن الركوع والسجود إلى الإيماء ويجوز ترك ما لا يقدر عليه من الأركان‏.‏ وبهذا قال الجمهور لكن قالت المالكية لا يصنعون ذلك إلا إذا خشي فوات الوقت وسيأتي للمصنف في باب الصلاة في شدة الخوف نحو ما هنا ويأتي شرحه هنالك إن شاء اللَّه‏.‏

 باب تطوع المسافر على مركوبه حيث توجه به

1 - عن ابن عمر قال‏:‏ ‏(‏كان النبي صلى اللَّه عليه وآله وسلم يسبح على راحلته قبل أي وجهة توجه ويوتر عليها غير أنه لا يصلي عليها المكتوبة‏)‏‏.‏

متفق عليه‏.‏ وفي رواية‏:‏ ‏(‏كان يصلي على راحلته وهو مقبل من مكة إلى المدينة حيثما توجهت به وفيه نزلت ‏{‏فأينما تولوا فثم وجه اللَّه‏}‏‏)‏ رواه أحمد ومسلم والترمذي وصححه‏.‏

الحديث قد تقدم شرحه والكلام على فقهه في باب صلاة الفرض على الراحلة لأن المصنف رحمه اللَّه ذكره هنالك بنحو ما هنا من حديث عامر بن ربيعة‏.‏ ولفظ الرواية الآخرة في الترمذي‏:‏ ‏(‏أن النبي صلى اللَّه عليه وآله وسلم صلى إلى بعيره أو راحلته وكان يصلي على راحلته حيثما توجهت به‏)‏‏.‏ ولم يذكر نزول الآية‏.‏

قوله ‏(‏حيثما توجهت به‏)‏ قيدت الشافعية الحديث بالمذهب فقالت إذا توجهت به نحو مقصده وأما إذا توجهت به إلى غير مقصده فإن كان إلى جهة القبلة لم يضره وإن كان إلى غيرها بطلت صلاته وقد تقدم في أول أبواب الاستقبال ما يدل على أن الآية نزلت في صلاة الفريضة ولكن الصحيح ما هنا كما تقدم‏.‏

2 - وعن جابر قال‏:‏ ‏(‏رأيت النبي صلى اللَّه عليه وآله وسلم يصلي وهو على راحلته النوافل في كل جهة ولكن يخفض السجود من الركوع ويومئ إيماء‏)‏‏.‏

رواه أحمد وفي لفظ‏:‏ ‏(‏بعثني النبي صلى اللَّه عليه وآله وسلم في حاجة فجئت وهو يصلي على راحلته نحو المشرق والسجود أخفض من الركوع‏)‏ رواه أبو داود والترمذي وصححه‏.‏

الحديث أخرجه البخاري عن جابر ولكن بلفظ‏:‏ ‏(‏كان يصلي التطوع وهو راكب‏)‏ وفي لفظ‏:‏ ‏(‏كان يصلي على راحلته نحو المشرق فإذا أراد أن يصلي المكتوبة نزل فاستقبل القبلة‏)‏ وأخرجه أيضًا مسلم بنحو ذلك‏.‏

وفي الباب عن جماعة من الصحابة وقد قدمنا في باب صلاة الفرض على الراحلة أنه يجوز التطوع عليها للمسافر بالإجماع وقدمنا الخلاف في جواز ذلك في الحضر وفي جواز صلاة الفريضة‏.‏

ـ والحديث ـ يدل على أن سجود من صلى على الراحلة يكون أخفض من ركوعه ولا يلزمه وضع الجبهة على السرج ولا بذل غاية الوسع في الانحناء بل يخفض سجوده بمقدار يفترق به السجود عن الركوع‏.‏

3 - وعن أنس بن مالك قال‏:‏ ‏(‏كان رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم إذا أراد أن يصلي على راحلته تطوعًا استقبل القبلة فكبر للصلاة ثم خلى عن راحلته فصلى حيثما توجهت به‏)‏‏.‏

رواه أحمد وأبو داود‏.‏

الحديث أخرجه أيضًا الشيخان بنحو ما هنا‏.‏ وأخرجه أيضًا النسائي من رواية يحيى بن سعيد عن أنس وقال‏:‏ حديث يحيى بن سعيد عن أنس الصواب موقوف وأما أبو داود فأخرجه من رواية الجارود بن أبي سبرة عن أنس‏.‏

ـ والحديث ـ يدل على جواز التنفل على الراحلة وقد تقدم الكلام على ذلك وعلى أنه لا بد من الاستقبال حال تكبيرة الإحرام ثم لا يضر الخروج بعد ذلك عن سمت القبلة كما أسلفنا‏.‏

 أبواب صفة الصلاة

 باب افتراض افتتاحها بالتكبير

1 - عن علي بن أبي طالب رضي اللَّه عنه‏:‏ ‏(‏عن النبي صلى اللَّه عليه وآله وسلم قال‏:‏ مفتاح الصلاة الطهور وتحريمها التكبير وتحليلها التسليم‏)‏‏.‏

رواه الخمسة إلا النسائي وقال الترمذي‏:‏ هذا أصح شيء في هذا الباب وأحسن‏.‏

الحديث أخرجه أيضًا الشافعي والبزار والحاكم وصححه وابن السكن من حديث عبد اللَّه بن محمد بن عقيل عن ابن الحنفية عن علي قال البزار‏:‏ لا نعلمه عن علي إلا من هذا الوجه‏.‏

وقال أبو نعيم‏:‏ تفرد به ابن عقيل وقال العقيلي‏:‏ في إسناده لين‏.‏ وقال‏:‏ هو أصح من حديث جابر الآتي وعكس ذلك ابن العربي فقال‏:‏ حديث جابر أصح شيء في هذا الباب والعقيلي أقعد منه بمعرفة الفن‏.‏ وقال ابن حبان‏:‏ هذا حديث لا يصح لأن له طريقين‏:‏ إحداهما عن علي وفيه ابن عقيل وهو ضعيف‏.‏ والثانية عن أبي نضرة عن أبي سعيد تفرد به أبو سفيان عنه‏.‏

ـ وفي الباب ـ عن جابر عند أحمد والبزار والترمذي والطبراني وفي إسناده أبو يحيى القتات وهو ضعيف‏.‏ وقال ابن عدي‏:‏ أحاديثه عندي حسان‏.‏ وعن أبي سعيد عند الترمذي وابن ماجه وفي إسناده أبو سفيان طريف بن شهاب وهو ضعيف ورواه الحاكم عن سعيد بن مسروق الثوري عن أبي سعيد وهو معلول قاله الحافظ‏.‏

ـ وفي الباب ـ أيضًا عن عبد اللَّه بن زيد عند الطبراني وفي إسناده الواقدي‏.‏ وعن ابن عباس عند الطبراني أيضًا وفي إسناده نافع بن هرمز وهو متروك‏.‏ وعن أنس عند ابن عدي وفي إسناده أيضًا نافع بن هرمز‏.‏ وعن عبد اللَّه بن مسعود عند أبي نعيم‏.‏ قال الحافظ‏:‏ وإسناده صحيح وهو موقوف‏.‏ وعن عائشة عند مسلم وغيره بلفظ‏:‏ ‏(‏كان يفتتح الصلاة بالتكبير والقراءة بالحمد للَّه رب العالمين‏)‏ الحديث وآخره‏:‏ ‏(‏وكان يختم الصلاة بالتسليم‏)‏ وروى الحديث الدارقطني من حديث أبي إسحاق والبيهقي من حديث شعبة وهذه الطرق يقوي بعضها بعضًا فيصلح الحديث للاحتجاج به‏.‏

قوله ‏(‏مفتاح‏)‏ بكسر الميم والمراد أنه أول شيء يفتتح به من أعمال الصلاة لأنه شرط من شروطها‏.‏

قوله ‏(‏الطهور‏)‏ بضم الطاء وقد تقدم ضبطه في أول الكتاب وفي رواية‏:‏ ‏(‏الوضوء مفتاح الصلاة‏)‏‏.‏

قوله ‏(‏وتحريمها التكبير‏)‏ فيه دليل على أن افتتاح الصلاة لا يكون إلا بالتكبير دون غيره من الأذكار وإليه ذهب الجمهور‏.‏ وقال أبو حنيفة‏:‏ تنعقد الصلاة بكل لفظ قصد به التعظيم والحديث يرد عليه لأن الإضافة في قوله تحريمها تقتضي الحصر فكأنه قال جميع تحريمها التكبير أي انحصرت صحة تحريمها في التكبير لا تحريم لها غيره كقولهم مال فلان الإبل وعلم فلان النحو‏.‏

ـ وفي الباب ـ أحاديث كثيرة تدل على تعين لفظ التكبير من قوله صلى اللَّه عليه وآله وسلم وفعله‏.‏ وعلى هذا فالحديث يدل على وجوب التكبير وقد اختلف في حكمه‏:‏ فقال الحافظ‏:‏ إنه ركن عند الجمهور وشرط عند الحنفية ووجه عند الشافعي وسنة عند الزهري‏.‏ قال ابن المنذر‏:‏ ولم يقل به أحد غيره وروي عن سعيد بن المسيب والأوزاعي ومالك ولم يثبت عن أحد منهم تصريحًا وإنما قالوا فيمن أدرك الإمام راكعًا يجزيه تكبيرة الركوع‏.‏ قال الحافظ‏:‏ نعم نقله الكرخي من الحنفية عن ابن علية وأبي بكر الأصم ومخالفتهما للجمهور كثيرة‏.‏

وذهب إلى الوجوب جماعة من السلف قال في البحر‏:‏ إنه فرض إلا عن نفاة الأذكار والزهري ويدل على وجوبه ما في حديث المسيء عند مسلم وغيره من حديث أبي هريرة بلفظ‏:‏ ‏(‏فإذا قمت إلى الصلاة فأسبغ الوضوء ثم استقبل القبلة فكبر‏)‏ وعند الجماعة من حديثه بلفظ‏:‏ ‏(‏إذا قمت إلى الصلاة فكبر‏)‏ وقد تقرر أن حديث المسيء هو المرجع في معرفة واجبات الصلاة وأن كل ما هو مذكور فيه واجب وما خرج عنه وقامت عليه أدلة تدل على وجوبه ففيه خلاف سنذكره إن شاء اللَّه في شرحه في الموضع الذي سيذكره فيه المصنف‏.‏

ويدل للشرطية حديث رفاعة في قصة المسيء صلاته عند أبي داود بلفظ‏:‏ ‏(‏لا تتم صلاة أحد من الناس حتى يتوضأ فيضع الوضوء مواضعه ثم يكبر‏)‏ ورواه الطبراني بلفظ‏:‏ ‏(‏ثم يقول اللَّه أكبر‏)‏ والاستدلال بهذا على الشرطية صحيح إن كان نفي التمام يستلزم نفي الصحة وهو الظاهر لأنا متعبدون بصلاة لا نقصان فيها قالتا قصة غير صحيحة ومن ادعى صحتها فعليه البيان وقد جعل صاحب ضوء النهار نفي التمام هنا هو نفي الكمال بعينه واستدل على ذلك بقوله صلى اللَّه عليه وآله وسيلم في حديث المسيء‏:‏ ‏(‏فإن انتقصت من ذلك شيئًا فقد انتقصت من صلاتك‏)‏ وأنت خبير بأن هذا من محل النزاع أيضًا لأنا نقول الانتقاص يستلزم عدم الصحة لذلك الدليل الذي أسلفناه ولا نسلم أن ترك مندوبات الصلاة ومسنوناتها انتقاص منها لأنها أمور خارجة عن ماهية الصلاة فلا يرد الإلزام بها وكونها تزيد في الثواب لا يستلزم أنها منها كما أن الثياب الحسنة تزيد في جمال الذات وليست منها نعم وقع في بعض روايات الحديث بلفظ‏:‏ أنه لما قال صلى اللَّه عليه وآله وسلم‏:‏ فإنك لم تصل كبر على الناس أنه من أخف صلاته لم يصل حتى قال صلى اللَّه عليه وآله وسلم‏:‏ فإن انتقصت من ذلك شيئًا فقد انتقصت من صلاتك فكان أهون عليهم‏.‏ فكون هذه المقالة كانت أهون عليهم يدل على أن نفي التمام المذكور بمعنى نفي الكمال إذ لو كان بمعنى نفي الصحة لم يكن فرق بين المقالتين ولما كانت هذه أهون عليهم ولا يخفاك أن الحجة في الذي جاءنا عن الشارع من قوله وفعله وتقريره لا في فهم بعض الصحابة سلمنا أن فهمهم حجة لكونهم أعرف بمقاصد الشارع فنحن نقول بموجب ما فهموه ونسلم أن بين الحالتين تفاوتًا ولكن ذلك التفاوت من جهة أن من أتى ببعض واجبات الصلاة فقد فعل خيرًا من قيام وذكر وتلاوة وإنما يؤمر بالإعادة لدفع عقوبة ما ترك وترك الواجب سبب للعقاب فإذا كان يعاقب بسبب ترك البعض لزمه أن يفعله إن أمكن فعله وحده وإلا فعله مع غيره والصلاة لا يمكن فعل المتروك منها إلا بفعل جميعها‏.‏

وقد أجاب بمعنى هذا الجواب الحافظ ابن تيمية حفيد المصنف وهو حسن ثم إنا نقول غاية ما ينتهض له دعوى من قال إن نفي التمام بمعنى نفي الكمال هو عدم الشرطية لا عدم الوجوب لأن المجيء بالصلاة تامة كاملة واجب‏.‏

وما أحسن ما قاله ابن تيمية في المقام ولفظه‏:‏ ومن قال من الفقهاء إن هذا لنفي الكمال قيل إن أردت الكمال المستحب فهذا باطل لوجهين أحدهما أن هذا لا يوجد قط في لفظ الشارع إنه ينفي عملًا فعله العبد على الوجه الذي وجب عليه ثم ينفيه لترك المستحبات بل الشارع لا ينفي عملًا إلا إذا لم يفعله العبد كما وجب عليه‏.‏ والثاني لو نفي لترك مستحب لكان عامة الناس لا صلاة لهم ولا صيام فإن الكمال المستحب متفاوت إذ كل من لم يكملها كتكميل رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم يقال لا صلاة له اهـ‏.‏

قوله ‏(‏وتحليلها التسليم‏)‏ سيأتي إن شاء اللَّه الكلام عليه في باب كون السلام فرضًا‏.‏

2 - وعن مالك بن الحويرث‏:‏ ‏(‏أن النبي صلى اللَّه عليه وآله وسلم قال‏:‏ صلوا كما رأيتموني أصلي‏)‏‏.‏

رواه أحمد والبخاري وقد صح عنه أنه كان يفتتح بالتكبير‏.‏

الحديث يدل على وجوب جميع ما ثبت عنه صلى اللَّه عليه وآله وسلم في الصلاة من الأقوال والأفعال ويؤكد الوجوب كونها بيانًا لمجمل قوله ‏{‏أقيموا الصلاة‏}‏ وهو أمر قرآني يفيد الوجوب وبيان المجمل الواجب واجب كما تقرر في الأصول إلا أنه ثبت أنه صلى اللَّه عليه وآله وسلم اقتصر في تعليم المسيء صلاته على بعض ما كان يفعله ويداوم عليه فعلمنا بذلك أنه لا وجوب لما خرج عنه من الأقوال والأفعال لأن تأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز كما تقرر في الأصول بالإجماع ووقع الخلاف إذا جاءت صيغة أمر بشيء لم يذكر في حديث المسيء فمنهم من قال يكون قرينة تصرف الصيغة إلى الندب ومنهم من قال تبقى الصيغة على الظاهر الذي تدل عليه ويؤخذ بالزائد فالزائد وسيأتي ترجيح ما هو الحق عند الكلام على الحديث إن شاء اللَّه تعالى‏.‏

 باب أن تكبير الإمام بعد تسوية الصفوف والفراغ من الإقامة

1 - عن النعمان بن بشير قال‏:‏ ‏(‏كان صلى اللَّه عليه وآله وسلم يسوي صفوفنا إذا قمنا إلى الصلاة فإذا استوينا كبر‏)‏‏.‏

رواه أبو داود‏.‏

الحديث أخرجه أبو داود بهذا اللفظ وبلفظ أخر من طريق سماك بن حرب عن النعمان قال‏:‏ ‏(‏كان رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم يسوينا في الصفوف كما يقوم القدح حتى إذا ظن أن قد أخذنا عنه ذلك وفقهنا أقبل ذات يوم بوجهه إذا رجل منتبذ بصدره فقال لتسون صفوفكم أو ليخالفن اللَّه بين وجوهكم‏)‏ قال المنذري‏:‏ والحديث المذكور في الباب طرف من هذا الحديث وهذا الحديث أخرجه مسلم والترمذي وصححه والنسائي وابن ماجه‏.‏ وأخرج البخاري ومسلم من حديث سالم بن أبي الجعد عن النعمان بن بشير الفصل الأخير منه‏.‏

ـ وفي الباب ـ عن جابر بن سمرة عند مسلم وعن البراء عند مسلم أيضًا‏.‏ وعن أنس عند البخاري ومسلم‏.‏ وله حديث آخر عند البخاري وعن جابر عند عبد الرزاق‏.‏ وعن أبي هريرة عند مسلم‏.‏ وعن عائشة عند أحمد وابن ماجه‏.‏ وعن ابن عمر عند أحمد وأبي داود‏.‏ وروي عن عمر أنه‏:‏ ‏(‏كان يوكل رجالًا بإقامة الصفوف فلا يكبر حتى يخبر أن الصفوف قد استوت‏)‏ أخرجه عنه الترمذي قال‏:‏ وروي عن علي وعثمان أنهما كان يتعاهدان ذلك ويقولان استووا وكان علي يقول تقدم يا فلان تأخر يا فلان اهـ‏.‏

قال ابن سيد الناس عن سويد بن غفلة قال‏:‏ كان بلال يضرب أقدامنا في الصلاة ويسوي مناكبنا قال‏:‏ والآثار في هذا الباب كثيرة عمن ذكرنا وعن غيرهم قال القاضي عياض‏:‏ ولا يختلف فيه أنه من سنن الجماعات وفي البخاري بزيادة‏:‏ ‏(‏فإن تسوية الصف من إقامة الصلاة‏)‏ وقد ذهب ابن حزم الظاهري إلى فرضية ذلك محتجًا بهذه الزيادة قال‏:‏ وإذا كان من إقامة الصلاة فهو فرض لأن إقامة الصلاة فرض وما كان من الفرض فهو فرض وأجاب عن هذا اليعمري فقال‏:‏ إن الحديث ثبت بلفظ الإقامة وبلفظ التمام ولا يتم له الاستدلال إلا برد لفظ التمام إلى لفظ الإقامة وليس ذلك بأولى من العكس قال‏:‏ وأما قوله وإقامة الصلاة فرض فإقامة الصلاة تطلق ويراد بها فعل الصلاة وتطلق ويراد بها الإقامة بالصلاة التي تلي التأذين وليس إرادة الأول كما زعم بأولى من إرادة الثاني إذ الأمر بتسوية الصفوف تعقب الإقامة وهو من فعل الإمام أو من يوكله الإمام وهو مقيم الصلاة غالبًا قال‏:‏ فما ذهب إليه الجمهور من الاستحباب أولى ويحمل لفظ الإقامة على الإقامة التي تلي التأذين أو يقدر له محذوف تقديره من تمام إقامة الصلاة وتنتظم به أعمال الألفاظ الواردة في ذلك كلها لأن إتمام الشيء زائد على وجود حقيقته فلفظ من تمام الصلاة يدل على عدم الوجوب‏.‏ وقد ورد من حديث أبي هريرة في صحيح مسلم مرفوعًا بلفظ‏:‏ ‏(‏فإن إقامة الصلاة من حسن الصلاة‏)‏‏.‏

3 - وعن أبي موسى قال‏:‏ ‏(‏علمنا رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم إذا قمتم إلى الصلاة فليؤمكم أحدكم وإذا قرأ الإمام فأنصتوا‏)‏‏.‏

رواه أحمد‏.‏

الفصل الأول من الحديث ثابت عند مسلم والنسائي وغيرهما من طرق‏.‏ والفصل الثاني ثابت عند أبي داود وابن ماجه والنسائي وغيرهم وقال مسلم هو صحيح كما سيأتي وسيأتي الكلام على الحديث في باب ما جاء في قراءة المأموم وإنصاته‏.‏ وفي أبواب الإقامة وقد ساقه المصنف هنا لأنه جعل إقامة الصلاة مقدمة على الأمر بالإمامة وهذا إنما يتم إذا جعلت الإقامة بمعنى تسوية الصلاة لا إذا كان المراد بها الإقامة التي تلي التأذين كما تقدم‏.‏

 باب رفع اليدين وبيان صفته ومواضعه

1 - عن أبي هريرة قال‏:‏ ‏(‏كان رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم إذا قام إلى الصلاة رفع يديه مدًا‏)‏‏.‏

رواه الخمسة إلا ابن ماجه‏.‏

الحديث لا مطعن في إسناده لأنه رواه أبو داود عن مسدد والنسائي عن عمرو بن علي كلاهما عن يحيى القطان عن ابن أبي ذئب وهؤلاء من أكابر الأئمة عن سعيد ابن سمعان وهو معدود في الثقات وقد ضعفه الأزدي وعن أبي هريرة وقد أخرجه الدارمي عن ابن أبي ذئب عن محمد بن عمرو بن عطاء عن محمد بن عبد الرحمن بن ثوبان عن أبي هريرة‏.‏

وأخرجه الترمذي أيضًا بهذا اللفظ المذكور في الكتاب وبلفظ‏:‏ ‏(‏كان إذا كبر للصلاة نشر أصابعه‏)‏ وقد تفرد بإخراج هذا اللفظ الآخر من طريق يحيى بن اليمان عن ابن أبي ذئب عن سعيد بن سمعان عن أبي هريرة وقال‏:‏ قد روى هذا الحديث غير واحد عن ابن أبي ذئب عن سعيد بن سمعان عن أبي هريرة‏:‏ ‏(‏أن النبي صلى اللَّه عليه وآله وسلم كان إذا دخل في الصلاة رفع يديه مدًا‏)‏‏.‏

وهذا أصح من رواية يحيى بن اليمان وأخطأ يحيى بن اليمان في هذا الحديث ثم قال‏:‏ وحدثنا عبد اللَّه بن عبد الرحمن أخبرنا عبد اللَّه بن عبد المجيد الحنفي حدثنا ابن أبي ذئب عن سعيد بن سمعان قال‏:‏ سمعت أبا هريرة يقول‏:‏ ‏(‏كان رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم إذا قام إلى الصلاة رفع يديه مدًا‏)‏ قال‏:‏ قال عبد اللَّه‏:‏ وهذا أصح من حديث يحيى بن اليمان وحديث يحيى بن اليمان خطأ انتهى كلام الترمذي‏.‏ وقال ابن أبي حاتم‏:‏ قال أبي‏:‏ وهم يحيى إنما أراد كان إذا قام إلى الصلاة رفع يديه مدًا كذا رواه الثقات من أصحاب ابن أبي ذئب‏.‏

قوله ‏(‏مدًا‏)‏ يجوز أن يكون منتصبًا على المصدرية بفعل مقدر وهو يمدهما مدًا ويجوز أن يكون منتصبًا على الحالية أي رفع يديه في حال كونه مادًا لهما إلى رأسه ويجوز أن يكون مصدرًا منتصبًا بقوله رفع لأن الرفع بمعنى المد وأصل المد في اللغة الجر قاله الراغب‏.‏ والارتفاع قال الجوهري‏:‏ ومد النهار ارتفاعه وله معان أخر ذكرها صاحب القاموس وغيره‏.‏ وقد فسر ابن عبد البر المذكور في الحديث بمد اليدين فوق الأذنين مع الرأس انتهى‏.‏ والمراد به ما يقابل النشر المذكور في الرواية الأخرى لأن النشر تفريق الأصابع‏.‏

ـ والحديث ـ يدل على مشروعية رفع اليدين عند تكبيرة الإحرام وقد قال النووي في شرح مسلم‏:‏ إنها أجمعت الأمة على ذلك عند تكبيرة الإحرام وإنما اختلفوا فيما عدا ذلك وحكى النووي أيضًا عن داود إيجابه عند تكبيرة الإحرام قال‏:‏ وبهذا قال الإمام أبو الحسن أحمد بن سيار والنيسابوري من أصحابنا أصحاب الوجوه وقد اعتذر له عن حكاية الإجماع أولًا وحكاية الخلاف في الوجوب ثانيًا بأن الاستحباب لا ينافي الوجوب أو بأنه أراد إجماع من قبل المذكورين أو بأنه لم يثبت ذلك عنده عنهم ولم يتفرد النووي بحكاية الإجماع فقد روى الإجماع على الرفع عند تكبيرة الإحرام ابن حزم وابن المنذر وابن السبكي وكذا حكى الحافظ في الفتح عن ابن عبد البر أنه قال‏:‏ أجمع العلماء على جواز رفع اليدين عند افتتاح الصلاة‏.‏

قال الحافظ‏:‏ وممن قال بالوجوب أيضًا الأوزاعي والحميدي شيخ البخاري وابن خزيمة من أصحابنا نقله عنه الحاكم في ترجمة محمد بن علي العلوي وحكاه القاضي حسين عن الإمام أحمد وقال ابن عبد البر‏:‏ كل من نقل عنه الإيجاب لا تبطل الصلاة بتركه إلا في رواية عن الأوزاعي والحميدي قال الحافظ‏:‏ ونقل بعض الحنفية عن أبي حنيفة أنه يأثم تاركه ونقل القفال عن أحمد بن سيار أنه يجب ولا تصح صلاة من لم يرفع ولا دليل يدل على الوجوب ولا على بطلان الصلاة بالترك نعم من ذهب من أهل الأصول إلى أن المداومة على الفعل تفيد الوجوب قال به هنا‏.‏

ونقل ابن المنذر والعبدري عن الزيدية أنه لا يجوز رفع اليدين عند تكبيرة الإحرام ولا عند غيرها انتهى‏.‏ وهو غلط على الزيدية فإن إمامهم زيد بن علي رحمه اللَّه ذكر في كتابه المشهور بالمجموع حديث الرفع وقال باستحبابه وكذا أكابر أئمتهم المتقدمين والمتأخرين صرحوا باستحبابه ولم يقل بتركه منهم إلا الهادي يحيى بن الحسين وروي مثل قوله عن جده القاسم بن إبراهيم وروي عنه أيضًا القول باستحبابه وروى صاحب التبصرة من المالكية عن مالك أنه لا يستحب وحكاه الباجي عن كثير من متقدميهم والمشهور عن مالك القول باستحباب الرفع عند تكبيرة الإحرام وإنما حكى عنه أنه لا يستحب عند الركوع والاعتدال منه قال ابن عبد الحكم‏:‏ لم يرو أحد عن مالك ترك الرفع فيهما إلا ابن القاسم‏.‏

ـ احتج القائلون ـ بالاستحباب بالأحاديث الكثيرة عن العدد الكثير من الصحابة حتى قال الشافعي‏:‏ روى الرفع جمع من الصحابة لعله لم يرو حديث قط بعدد أكثر منهم‏.‏ وقال البخاري في جزء رفع اليدين‏:‏ روى الرفع تسعة عشر نفسًا من الصحابة وسرد البيهقي في السنن وفي الخلافيات أسماء من روى الرفع نحوًا من ثلاثين صحابيًا وقال‏:‏ سمعت الحاكم يقول اتفق على رواية هذه السنة العشرة المشهود لهم بالجنة فمن بعدهم من أكابر الصحابة قال البيهقي وهو كما قال‏.‏ قال الحاكم والبيهقي أيضًا‏:‏ ولا يعلم سنة اتفق على روايتها العشرة فمن بعدهم من أكابر الصحابة على تفرقهم في الأقطار الشاسعة غير هذه السنة‏.‏ وروى ابن عساكر في تاريخه من طريق أبي سلمة الأعرج قال‏:‏ أدركت الناس كلهم يرفع يديه عند كل خفض ورفع قال البخاري في الجزء المذكور‏:‏ قال الحسن وحميد بن هلال‏:‏ كان أصحاب رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم يرفعون أيديهم ولم يستثن أحدًا منهم‏.‏

قال البخاري‏:‏ ولم يثبت عن أحد من أصحاب رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم أنه لم يرفع يديه وجمع العراقي عدد من روى رفع اليدين في ابتداء الصلاة فبلغوا خمسين صحابيًا منهم العشرة المشهود لهم بالجنة‏.‏ قال الحافظ في الفتح‏:‏ وذكر شيخنا الحافظ أبو الفضل أنه تتبع من رواه من الصحابة رضي اللَّه عنهم فبلغوا خمسين رجلًا‏.‏

ـ واحتج من قال ـ بعدم الاستحباب بحديث جابر بن سمرة عند مسلم وأبي داود قال‏:‏ ‏(‏خرج علينا رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم فقال‏:‏ ما لي أراكم رافعي أيديكم كأنها أذناب خيل شمس اسكنوا في الصلاة‏)‏‏.‏

وأجيب عن ذلك بأنه ورد على سبب خاص فإن مسلمًا رواه أيضًا من حديث جابر بن سمرة قال‏:‏ ‏(‏كنا إذا صلينا مع النبي صلى اللَّه عليه وآله وسلم قلنا السلام عليكم ورحمة اللَّه السلام عليكم ورحمة اللَّه وأشار بيديه إلى الجانبين فقال لهم النبي صلى اللَّه عليه وآله وسلم‏:‏ علام تومؤن بأيديكم كأنها أذناب خيل شمس إنما يكفي أحدكم أن يضع يديه على فخذه ثم يسلم على أخيه من عن يمينه ومن عن شماله‏)‏‏.‏

ورد هذا الجواب بأنه قصر للعام على السبب وهو مذهب مرجوح كما تقرر في الأصول وهذا الرد متجه لولا أن الرفع قد ثبت من فعله صلى اللَّه عليه وآله وسلم ثبوتًا متواترًا كما تقدم وأقل أحوال هذه السنة المتواترة أن تصلح لجعلها قرينة لقصر ذلك العام على السبب أو لتخصيص ذلك العموم على تسليم عدم القصر وربما نازع في هذا بعضهم فقال‏:‏ قد تقرر عند بعض أهل الأصول أنه إذا جهل تاريخ العام والخاص اطرحا وهو لا يدري أن الصحابة قد أجمعت على هذه السنة بعد موته صلى اللَّه عليه وآله وسلم وهم لا يجمعون إلا على أمر فارقوا رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم على أنه قد ثبت من حديث ابن عمر عند البيهقي أنه قال بعد أن ذكر أن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم يرفع يديه عند تكبيرة الإحرام وعند الركوع وعند الاعتدال فما زالت تلك صلاته حتى لقي اللَّه تعالى‏.‏

وأيضًا المتقرر في الأصول بأن العام والخاص إذا جهل تاريخهما وجب البناء وقد جعله بعض أئمة الأصول مجمعًا عليه كما في شرح الغاية وغيره‏.‏ وربما احتج بعضهم بما رواه الحاكم في المدخل من حديث أنس بلفظ‏:‏ ‏(‏من رفع يديه في الصلاة فلا صلاة له‏)‏ وربما رواه ابن الجوزي عن أبي هريرة بنحو حديث أنس وهو لا يشعر أن الحاكم قال بعد إخراج حديث أنس‏:‏ إنه موضوع‏.‏ وقد قال في البدر المنير‏:‏ إن في إسناده محمد بن عكاشة الكرماني قال الدارقطني‏:‏ يضع الحديث وابن الجوزي جعل حديث أبي هريرة المذكور من جملة الموضوعات‏.‏

ـ وقد اختلفت الأحاديث ـ في محل الرفع عند تكبيرة الإحرام هل يكون قبلها أو بعدها أو مقارنًا لها ففي بعضها قبلها كحديث ابن عمر الآتي بلفظ‏:‏ ‏(‏رفع يديه حتى يكونا بحذو منكبيه ثم يكبر‏)‏ وفي بعضها بعدها كما في حديث مالك بن الحويرث عند مسلم بلفظ‏:‏ ‏(‏كبر ثم رفع يديه‏)‏ وفي بعضها ما يدل على المقارنة كحديث ابن عمر الآتي في هذا الباب بلفظ‏:‏ ‏(‏كان إذا دخل في الصلاة كبر ورفع يديه‏)‏ وفي ذلك خلاف بين العلماء والمرجح عند الشافعية المقارنة‏.‏

قال الحافظ‏:‏ ولم أر من قال بتقديم التكبير على الرفع‏.‏ ويرجح المقارنة حديث وائل بن حجر الآتي عند أبي داود بلفظ‏:‏ ‏(‏رفع يديه مع التكبير‏)‏ وقضية المعية أنه ينتهي بانتهائه وهو المرجح أيضًا عند المالكية‏.‏ وقال فريق من العلماء‏:‏ الحكمة في اقترانهما أنه يراه الأصم ويسمعه الأعمى وقد ذكرت في ذلك مناسبات أخر سيأتي ذكرها‏.‏

ونقل ابن عبد البر عن ابن عمر أنه قال رفع اليدين من زينة الصلاة‏.‏ وعن عقبة بن عامر أنه قال‏:‏ لكل رفع عشر حسنات لكل إصبع حسنة انتهى‏.‏ وهذا له حكم الرفع لأنه مما لا مجال للاجتهاد فيه هذا الكلام في رفع اليدين عند تكبيرة الإحرام وسيأتي الكلام على الرفع عند الركوع والاعتدال وعند القيام من التشهد الأوسط‏.‏

2 - وعن وائل بن حجر‏:‏ ‏(‏أنه رأى رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم يرفع يديه مع التكبيرة‏)‏‏.‏

رواه أحمد وأبو داود‏.‏

الحديث أخرجه البيهقي أيضًا من طريق عبد الرحمن بن عامر اليحصبي عن وائل‏.‏ ورواه أحمد وأبو داود من طريق عبد الجبار بن وائل قال حدثني أهل بيتي عن أبي قال المنذري‏:‏ وعبد الجبار بن وائل لم يسمع من أبيه وأهل بيته مجهولون وقد تقدم الكلام على فقه الحديث‏.‏

3 - وعن ابن عمر قال‏:‏ ‏(‏كان النبي صلى اللَّه عليه وآله وسلم إذا قام إلى الصلاة رفع يديه حتى يكونا بحذو منكبيه ثم يكبر فإذا أراد أن يركع رفعهما مثل ذلك وإذا رفع رأسه من الركوع رفعهما كذلك أيضًا وقال سمع اللَّه لمن حمده ربنا ولك الحمد‏)‏‏.‏

متفق عليه‏.‏ وللبخاري‏:‏ ‏(‏ولا يفعل ذلك حين يسجد ولا حين يرفع رأسه من السجود‏)‏ ولمسلم‏:‏ ‏(‏ولا يفعل حين يرفع رأسه من السجود‏)‏ وله أيضًا‏:‏ ‏(‏ولا يرفعهما بين السجدتين‏)‏‏.‏

الحديث أخرجه البيهقي بزيادة‏:‏ ‏(‏فما زالت تلك صلاته حتى لقي اللَّه تعالى‏)‏ قال ابن المديني‏:‏ هذا الحديث عندي حجة على الخلق كل من سمعه فعليه أن يعمل به لأنه ليس في إسناده شيء‏.‏ وقد صنف البخاري في هذه المسألة جزءًا مفردًا وحكى فيه عن الحسن وحميد ابن هلال أن الصحابة كانوا يفعلون ذلك يعني الرفع في الثلاثة المواطن ولم يستثن الحسن أحدًا قال ابن عبد البر‏:‏ كل من روي عنه ترك الرفع في الركوع والرفع منه روي عنه فعله إلا ابن مسعود‏.‏ وقال محمد بن نصر المروزي‏:‏ أجمع علماء الأمصار على مشروعية ذلك إلا بأهل الكوفة‏.‏

وقال ابن عبد الحكم‏:‏ لم يرو أحد عن مالك ترك الرفع فيهما إلا ابن القاسم والذي نأخذ به الرفع على حديث ابن عمر وهو الذي رواه ابن وهب وغيره عن مالك ولم يحكِ الترمذي عن مالك غيره‏.‏

ونقل الخطابي وتبعه القرطبي في المفهم أنه آخر قول مالك‏.‏ وإلى الرفع في الثلاثة المواطن ذهب الشافعي وأحمد وجمهور العلماء من الصحابة فمن بعدهم وروي عن مالك والشافعي قول‏:‏ إنه يستحب رفعهما في موضع رابع وهو إذا قام من التشهد الأوسط‏.‏ قال النووي‏:‏ وهذا القول هو الصواب فقد صح في حديث ابن عمر عن النبي صلى اللَّه عليه وآله وسلم أنه كان يفعله رواه البخاري‏.‏ وصح أيضًا من حديث أبي حميد الساعدي رواه أبو داود والترمذي بأسانيد صحيحة وسيأتي ذلك‏.‏ وقال أبو حنيفة وأصحابه وجماعة من أهل الكوفة‏:‏ لا يستحب في غير تكبيرة الإحرام قال النووي‏:‏ وهو أشهر الروايات عن مالك‏.‏

ـ واحتجوا ـ على ذلك بحديث البراء بن عازب عند أبي داود والدارقطني بلفظ‏:‏ ‏(‏رأيت رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم إذا افتتح الصلاة رفع يديه إلى قريب من أذنيه ثم لم يعد‏)‏ وهو من رواية يزيد بن أبي زياد عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عنه‏.‏

وقد اتفق الحفاظ أن قوله ثم لم يعد مدرج في الخبر من قول يزيد بن أبي زياد‏.‏ وقد رواه بدون ذلك شعبة والثوري وخالد الطحان وزهير وغيرهم من الحفاظ‏.‏ وقال الحميدي‏:‏ إنما روى هذه الزيادة يزيد ويزيد يزيد‏.‏ وقال أحمد بن حنبل‏:‏ لا يصح وكذا ضعفه البخاري وأحمد ويحيى والدارمي والحميدي وغير واحد‏.‏ قال يحيى بن محمد بن يحيى‏:‏ سمعت أحمد بن حنبل يقول هذا الحديث حديث واه‏.‏ وكان يزيد يحدث به برهة من دهره لا يقول فيه ثم لا يعود فلما لقنوه يعني أهل الكوفة تلقن وكان يذكرها وهكذا قال علي بن عاصم‏.‏ قال البيهقي‏:‏ اختلف فيه على عبد الرحمن بن أبي ليلى‏.‏ وقال البزار‏:‏ قوله في الحديث ‏(‏ثم لم يعد‏)‏ لا يصح‏.‏ وقال ابن حزم‏:‏ إن صح قوله لا يعود دل على أنه صلى اللَّه عليه وآله وسلم فعل ذلك لبيان الجواز فلا تعارض بينه وبين حديث ابن عمر وغيره‏.‏

ـ واحتجوا ـ أيضًا بما روي عن عبد اللَّه بن مسعود من طريق عاصم بن كليب عن عبد الرحمن بن الأسود عن علقمة عنه عند أحمد وأبي داود والترمذي أنه قال‏:‏ ‏(‏لأصلين لكم صلاة رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم فصلى فلم يرفع يديه إلا مرة واحدة‏)‏ ورواه ابن عدي والدارقطني والبيهقي من حديث محمد بن جابر عن حماد بن إبراهيم عن علقمة عنه بلفظ‏:‏ ‏(‏صليت مع النبي صلى اللَّه عليه وآله وسلم وأبي بكر وعمر فلم يرفعوا أيديهم إلا عند الاستفتاح‏)‏ وهذا الحديث حسنه الترمذي وصححه ابن حزم ولكنه عارض هذا التحسين والتصحيح قول ابن المبارك لم يثبت عندي وقول ابن أبي حاتم هذا حديث خطأ وتضعيف أحمد وشيخه يحيى بن آدم له وتصريح أبي داود بأنه ليس بصحيح وقول الدارقطني أنه لم يثبت وقول ابن حبان هذا أحسن خبر روى أهل الكوفة في نفي رفع اليدين في الصلاة عند الركوع وعند الرفع منه وهو في الحقيقة أضعف شيء يعول عليه لأن له عللًا تبطله‏.‏

قال الحافظ‏:‏ وهؤلاء الأئمة إنما طعنوا كلهم في طريق عاصم بن كليب أما طريق محمد بن جابر فذكرها ابن الجوزي في الموضوعات وقال عن أحمد‏:‏ محمد بن جابر لا شيء ولا يحدث عنه إلا من هو شر منه‏.‏

ـ واحتجوا ـ أيضًا بما روي عن ابن عمر عند البيهقي في الخلافيات بلفظ‏:‏ ‏(‏كان رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم يرفع يديه إذا افتتح الصلاة ثم لا يعود‏)‏ قال الحافظ‏:‏ وهو مقلوب موضوع‏.‏

ـ واحتجوا ـ أيضًا بما روي عن ابن عباس أنه قال‏:‏ ‏(‏كان رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم يرفع يديه كلما ركع وكلما رفع ثم صار إلى افتتاح الصلاة وترك ما سوى ذلك‏)‏ حكاه ابن الجوزي وقال‏:‏ لا أصل له ولا أعرف من رواه‏.‏

والصحيح عن ابن عباس خلافه ورووا نحو ذلك عن ابن الزبير قال ابن الجوزي‏:‏ لا أصل له ولا أعرف من رواه والصحيح عن ابن الزبير خلافه‏.‏ قال ابن الجوزي‏:‏ وما أبلد من يحتج بهذه الأحاديث لتعارض بها الأحاديث الثابتة انتهى‏.‏

ولا يخفى على المنصف أن هذه الحجج التي أوردوها منها ما هو متفق على ضعفه وهو ما عدا حديث ابن مسعود منها كما بينا ومنها ما هو مختلف فيه وهو حديث ابن مسعود لما قدمنا من تحسين الترمذي وتصحيح ابن حزم له ولكن أين يقع هذا التحسين والتصحيح من قدح أولئك الأئمة الأكابر فيه غاية الأمر ونهايته أن يكون ذلك الاختلاف موجبًا لسقوط الاستدلال به ثم لو سلمنا صحة حديث ابن مسعود ولم نعتبر بقدح أولئك الأئمة فيه فليس بينه وبين الأحاديث المثبتة للرفع في الركوع والاعتدال منه تعارض لأنها متضمنة للزيادة التي لا منافاة بينها وبين المزيد وهي مقبولة بالإجماع لا سيما وقد نقلها جماعة من الصحابة واتفق على إخراجها الجماعة فمن جملة من رواها ابن عمر كما في حديث الباب‏.‏ وعمر كما أخرجه البيهقي وابن أبي حاتم وعلي وسيأتي‏.‏ ووائل بن حجر عند أحمد وأبي داود والنسائي وابن ماجه ومالك بن الحويرث عند البخاري ومسلم وسيأتي‏.‏ وأنس بن مالك عند ابن ماجه‏.‏ وأبو هريرة عند ابن ماجه أيضًا وأبي داود‏.‏ وأبو أسيد وسهل بن سعد ومحمد بن مسلمة عند ابن ماجه‏.‏ وأبو موسى الأشعري عند الدارقطني‏.‏ وجابر عند ابن ماجه‏.‏ وعمير الليثي عند ابن ماجه أيضًا‏.‏ وابن عباس عند ابن ماجه أيضًا‏.‏ وله طريق أخرى عند أبي داود فهؤلاء أربعة عشر من الصحابة ومعهم أبو حميد الساعدي في عشرة من الصحابة كما سيأتي فيكون الجميع خمسة وعشرين أو اثنين وعشرين إن كان أبو أسيد وسهل بن سعد ومحمد بن مسلمة من العشرة المشار إليهم في رواية أبي حميد كما في بعض الروايات فهل رأيت أعجب من معارضة رواية مثل هؤلاء الجماعة بمثل حديث ابن مسعود السابق مع طعن أكثر الأئمة المعتبرين فيه ومع وجود مانع عن القول بالمعارضة وهو تضمن رواية الجمهور للزيادة كما تقدم‏.‏

قوله في حديث الباب ‏(‏حتى يكونا بحذو منكبيه‏)‏ وهكذا في رواية علي وأبي حميد وسيأتي ذكرهما وإلى هذا ذهب الشافعي والجمهور وفي حديث مالك بن الحويرث الآتي حتى يحاذي بهما أذنيه وعند أبي داود من رواية عاصم بن كليب عن أبيه عن وائل بن حجر أنه جمع بينهما فقال حتى يحاذي بظهر كفيه المنكبين بأطراف أنامله الأذنين‏.‏ ويؤيده رواية أخرى عن وائل عند أبي داود بلفظ‏:‏ ‏(‏حتى كانتا حيال منكبيه وحاذى بإبهاميه أذنيه‏)‏ وأخرج الحاكم في المستدرك والدارقطني من طريق عاصم الأحول عن أنس قال‏:‏ ‏(‏رأيت رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم كبر فحاذى بإبهاميه أذنيه‏)‏ ومن طريق حميد عن أنس‏:‏ ‏(‏كان إذا افتتح الصلاة كبر ثم رفع يديه حتى يحاذي بإبهاميه أذنيه‏)‏ وأخرج أبو داود عن ابن عمر‏:‏ ‏(‏أنه كان يرفع يديه حذو منكبيه في الافتتاح وفي غيره دون ذلك‏)‏ وأخرج أبو داود أيضًا عن البراء‏:‏ ‏(‏أن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم كان إذا افتتح الصلاة رفع يديه إلى قريب من أذنيه‏)‏ وفي حديث وائل عند أبي داود أنه رأى الصحابة يرفعون أيديهم إلى صدورهم‏.‏ والأحاديث الصحيحة وردت بأنه صلى اللَّه عليه وآله وسلم رفع يديه إلى حذو منكبيه وغيرها لا يخلو عن مقال إلا حديث مالك بن الحويرث‏.‏

قوله ‏(‏ولا يفعل ذلك حين يسجد ولا حين يرفع رأسه من السجود‏)‏ في الرواية الأخرى‏:‏ ‏(‏ولا يرفعهما بين السجدتين‏)‏ وسيأتي في حديث علي بلفظ‏:‏ ‏(‏ولا يرفع يديه في شيء من صلاته‏)‏ وقد عارض هذه الروايات ما أخرجه أبو داود عن ميمون المكي ‏(‏أنه رأى عبد اللَّه بن الزبير يشير بكفيه حين يقوم وحين يركع وحين يسجد وحين ينهض للقيام قال‏:‏ فانطلقت إلى ابن عباس فقلت‏:‏ إني رأيت ابن الزبير صلى صلاة لم أر أحدًا يصليها فوصفت له هذه الإشارة فقال‏:‏ إن أحببت أن تنظر إلى صلاة رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم فاقتد بصلاة عبد اللَّه بن الزبير‏)‏ وفي إسناده ابن لهيعة وفيه مقال مشهور وأخرج أبو داود والنسائي عن النضر بن كثير السعدي قال‏:‏ ‏(‏صلى إلى جنبي عبد اللَّه بن طاوس في مسجد الخيف فكان إذا سجد السجدة الأولى ورفع رأسه منها رفع يديه تلقاء وجهه فأنكرت ذلك فقلت لوهيب بن خالد فقال له وهيب‏:‏ تصنع شيئًا لم أر أحدًا يصنعه فقال ابن طاوس‏:‏ رأيت أبي يصنعه وقال أبي‏:‏ رأيت ابن عباس يصنعه ولا أعلم إلا أنه قال‏:‏ كان النبي صلى اللَّه عليه وآله وسلم يصنعه‏)‏ وفي إسناده النضر بن كثير وهو ضعيف الحديث‏.‏ قال الحافظ أبو أحمد النيسابوري‏:‏ هذا حديث منكر من حديث ابن طاوس وأخرج الدارقطني في العلل من حديث أبي هريرة‏:‏ ‏(‏أنه كان يرفع يديه في كل خفض ورفع ويقول أنا أشبهكم صلاة برسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم‏)‏‏.‏

وهذه الأحاديث لا تنتهض للاحتجاج بها على الرفع في غير تلك المواطن فالواجب البقاء على النفي الثابت في الصحيحين حتى يقوم دليل صحيح يقتضي تخصيصه كما قام في الرفع عند القيام من التشهد الأوسط وقد تقدم الكلام عليه‏.‏ وقد ذهب إلى استحبابه في السجود أبو بكر بن المنذر وأبو علي الطبري من أصحاب الشافعي وبعض أهل الحديث‏.‏

4 - وعن نافع أن ابن عمر‏:‏ ‏(‏كان إذا دخل في الصلاة كبر ورفع يديه وإذا ركع رفع يديه وإذا قال سمع اللَّه لمن حمده رفع يديه وإذا قام من الركعتين رفع يديه‏)‏ ورفع ذلك ابن عمر إلى النبي صلى اللَّه عليه وآله وسلم‏.‏

رواه البخاري والنسائي وأبو داود‏.‏

قوله ‏(‏ورفع ذلك ابن عمر‏)‏ قال أبو داود‏:‏ رواه الثقفي يعني عبد الوهاب عن عبيد اللَّه يعني ابن عمر بن حفص فلم يرفعه وهو الصحيح‏.‏ وكذا رواه الليث بن سعد وابن جريج ومالك يعني موقوفًا‏.‏ وحكى الدارقطني في العلل الاختلاف في رفعه ووقفه‏.‏

قال الحافظ‏:‏ وقفه معتمر وعبد الوهاب عن عبيد اللَّه عن نافع كما قال يعني الدارقطني لكن رفعاه عن سالم عن ابن عمر أخرجه البخاري في جزء رفع اليدين وفيه الزيادة وقد توبع نافع على ذلك عن ابن عمر قال‏:‏ ‏(‏كان النبي صلى اللَّه عليه وآله وسلم إذا قام من الركعتين كبر ورفع يديه‏)‏ وله شواهد كما تقدم وسيأتي‏.‏

ـ والحديث ـ يدل على مشروعية الرفع في الأربعة المواطن وقد تقدم الكلام على ذلك‏.‏

5 - وعن علي ابن أبي طالب عن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم‏:‏ ‏(‏أنه كان إذا قام إلى الصلاة المكتوبة كبر ورفع يديه حذو منكبيه ويصنع مثل ذلك إذا قضى قراءته وإذا أراد أن يركع ويصنعه إذا رفع رأسه من الركوع ولا يرفع يديه في شيء من صلاته وهو قاعد وإذا قام من السجدتين رفع يديه كذلك وكبر‏)‏‏.‏

رواه أحمد وأبو داود والترمذي وصححه‏.‏

الحديث أخرجه أيضًا النسائي وابن ماجه وصححه أيضًا أحمد بن حنبل فيما حكاه الخلال‏.‏

قوله ‏(‏وإذا قام من السجدتين‏)‏ وقع في هذا الحديث وفي حديث ابن عمر في طريق ذكر السجدتين مكان الركعتين والمراد بالسجدتين الركعتان بلا شك كما جاء في رواية الباقين كذا قال العلماء من المحدثين والفقهاء إلا الخطابي فإنه ظن أن المراد السجدتان المعروفتان ثم استشكل الحديث الذي وقع فيه ذكر السجدتين وهو حديث ابن عمر وهذا الحديث مثله وقال‏:‏ لا أعلم أحدًا من الفقهاء قال به‏.‏ قال ابن رسلان‏:‏ ولعله لم يقف على طرق الحديث ولو وقف عليها لحمله على الركعتين كما حمله الأئمة‏.‏

ـ والحديث ـ يدل على استحباب الرفع في هذه الأربعة المواطن وقد عرفت الكلام على ذلك‏.‏

قال المصنف رحمه اللَّه تعالى‏:‏ وقد صح التكبير في المواضع الأربعة في حديث أبي حميد الساعدي وسنذكره إن شاء اللَّه انتهى‏.‏

6 - وعن أبي قلابة‏:‏ ‏(‏أنه رأى مالك بن الحويرث إذا صلى كبر ورفع يديه وإذا أراد أن يركع رفع يديه وإذا رفع رأسه رفع يديه وحدث أن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم صنع هكذا‏)‏‏.‏

متفق عليه‏.‏ وفي رواية‏:‏ ‏(‏أن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم كان إذا كبر رفع يديه حتى يحاذي بهما أذنيه وإذا ركع رفع يديه حتى يحاذي بهما أذنيه وإذا رفع رأسه من الركوع فقال سمع اللَّه لمن حمده فعل مثل ذلك‏)‏ رواه أحمد ومسلم وفي لفظ لهما‏:‏ ‏(‏حتى يحاذي بهما فروع أذنيه‏)‏‏.‏

قوله ‏(‏إذا صلى كبر‏)‏ في رواية مسلم‏:‏ ‏(‏ثم كبر‏)‏ وقد تقدم الكلام على اختلاف الأحاديث في الرفع هل يكون قبل التكبير أو بعده أو مقارنًا له‏.‏ والحديث قد تقدم البحث عن جميع أطرافه‏.‏

وقد اختلف في الحكمة في رفع اليدين‏:‏ فقال الشافعي‏:‏ هو إعظام للَّه تعالى وإتباع لرسوله‏.‏ وقيل استكانة واستسلام وانقياد وكان الأسير إذا غلب مد يديه علامة لاستسلامه‏.‏ وقيل هو إشارة إلى استعظام ما دخل فيه‏.‏ وقيل إشارة إلى طرح أمور الدنيا والإقبال بكليته على صلاته ومناجاته ربه كما تضمن ذلك قوله اللَّه أكبر فيطابق فعله قوله‏.‏ وقيل إشارة إلى تمام القيام‏.‏ وقيل إلى رفع الحجاب بينه وبين المعبود‏.‏ وقيل ليستقبل بجميع بدنه‏.‏ وقيل ليراه الأصم ويسمعه الأعمى‏.‏ وقيل إشارة إلى دخوله في الصلاة وهذا يختص بالرفع لتكبيرة الإحرام‏.‏ وقيل لأن الرفع نفي صفة الكبرياء عن غير اللَّه والتكبير إثبات ذلك له عز وجل والنفي سابق على الإثبات كما في كلمة الشهادة وقيل غير ذلك‏.‏ قال النووي‏:‏ وفي أكثرها نظر‏.‏

واعلم أن هذه السنة تشترك فيها الرجال والنساء ولم يرد ما يدل على الفرق بينهما فيها وكذا لم يرد ما يدل على الفرق بين الرجل والمرأة في مقدار الرفع‏.‏ وروي عن الحنفية أن الرجل يرفع إلى الأذنين والمرأة إلى المنكبين لأنه أستر لها ولا دليل على ذلك كما عرفت‏.‏

7 - وعن أبي حميد الساعدي‏:‏ ‏(‏أنه قال وهو في عشرة من أصحاب رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم أحدهم أبو قتادة‏:‏ أنا أعلمكم بصلاة رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم قالوا‏:‏ ما كنت أقدم منا له صحبة ولا أكثرنا له إتيانًا قال‏:‏ بلى قالوا‏:‏ فاعرض فقال‏:‏ كان رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم إذا قام إلى الصلاة اعتدل قائمًا ورفع يديه حتى يحاذي بهما منكبيه ثم يكبر فإذا أراد أن يركع رفع يديه حتى يحاذي بهما منكبيه ثم قال اللَّه أكبر وركع ثم اعتدل فلم يصوب رأسه ولم يقنع ووضع يديه على ركبتيه ثم قال سمع اللَّه لمن حمده ورفع يديه واعتدل حتى يرجع كل عظم في موضعه معتدلًا ثم هوى إلى الأرض ساجدًا ثم قال اللَّه أكبر ثم ثنى رجله وقعد عليها واعتدل حتى يرجع كل عظم في موضعه ثم نهض ثم صنع في الركعة الثانية مثل ذلك حتى إذا قام من السجدتين كبر ورفع يديه حتى يحاذي بهما منكبيه كما صنع حين افتتح الصلاة ثم صنع كذلك حتى إذا كانت الركعة التي تنقضي فيها صلاته أخر رجله اليسرى وقعد على شقه متوركًا ثم سلم قالوا صدقت هكذا صلى رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم‏)‏‏.‏

رواه الخمسة إلا النسائي وصححه الترمذي ورواه البخاري مختصرًا‏.‏

الحديث أخرجه أيضًا ابن حبان وأعله الطحاوي بأن محمد بن عمرو بن عطاء لم يدرك أبا قتادة قال ويزيد ذلك بيانًا أن عطاف بن خالد رواه عن محمد بن عمرو بلفظ حدثني رجل أنه وجد عشرة من أصحاب النبي صلى اللَّه عليه وآله وسلم جلوسًا‏.‏

وقال ابن حبان‏:‏ سمع هذا الحديث محمد بن عمرو عن أبي حميد وسمعه من عباس بن سهل بن سعد عن أبيه والطريقان محفوظان‏.‏

قال الحافظ‏:‏ السياق يأبى على ذلك كل الإباء والتحقيق عندي أن محمد بن عمرو الذي رواه عطاف بن خالد عنه هو محمد بن عمر بن علقمة بن وقاص الليثي وهو لم يلق أبا قتادة ولا قارب ذلك إنما يروى عن أبي سلمة بن عبد الرحمن وغيره من كبار التابعين‏.‏ وأما محمد بن عمرو الذي رواه عبد الحميد بن جعفر عنه فهو محمد بن عمرو بن عطاء تابعي كبير جزم البخاري بأنه سمع من أبي حميد وغيره وأخرج الحديث من طريقه انتهى‏.‏

وقد اختلف في موت أبي قتادة‏.‏ فقيل مات في سنة أربع وخمسين وعلى هذا فلقاء محمد له ممكن لأن محمدًا مات بعد سنة عشرين ومائة وله نيف وثمانون سنة‏.‏ وقيل مات أبو قتادة في خلافة علي رضي اللَّه عنه ولا يمكن على هذا أن محمدًا أدركه لأن عليًا قتل في سنة أربعين‏.‏

وقد أجيب عن هذا أنه إذا صح موته في خلافة علي فلعل من ذكر مقدار عمر محمد أو وقت وفاته وهم‏.‏

قوله ‏(‏أنا أعلمكم بصلاة رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم‏)‏ فيه مدح الإنسان نفسه لمن يأخذ عنه ليكون كلامه أوقع وأثبت عند السامع كما أنه يجوز مدح الإنسان نفسه وافتخاره في الجهاد ليوقع الرهبة في قلوب الكفار‏.‏

قوله ‏(‏فاعرض‏)‏ بوصل الهمزة وكسر الراء من قولهم عرضت الكتاب عرضًا قرأته عن ظهر قلب ويحتمل أن يكون من قولهم عرضت الشيء عرضًا من باب ضرب أي أظهرته‏.‏

قوله ‏(‏فلم يصوب‏)‏ بضم الياء المثناة من تحت وفتح الصاد وتشديد الواو وبعده باء موحدة أي يبالغ في خفضه وتنكيسه‏.‏

قوله ‏(‏ولم يقنع‏)‏ بضم الياء وإسكان القاف وكسر النون أي لا يرفعه حتى يكون أعلى من ظهره‏.‏

قوله ‏(‏حتى يرجع كل عظم‏)‏ وفي رواية ابن ماجه‏:‏ ‏(‏حتى يقر كل عظم في موضعه‏)‏ وفي رواية البخاري‏:‏ ‏(‏حتى يعود كل فقار‏)‏‏.‏

قوله ‏(‏ثم هوى‏)‏ الهوي السقوط من علو إلى أسفل‏.‏

قوله ‏(‏ثم ثنى رجله وقعد عليها‏)‏ وهذه تسمى قعدة الاستراحة وسيأتي الكلام فيها‏.‏

قوله ‏(‏حتى يرجع كل عظم في موضعه‏)‏ فيه فضيلة الطمأنينة في هذه الجلسة‏.‏

قوله ‏(‏متوركًا‏)‏ التورك في الصلاة القعود على الورك اليسرى والوركان فوق الفخذين كالكعبين فوق العضدين‏.‏

ـ والحديث ـ قد اشتمل على جملة كثيرة من صفة صلاته صلى اللَّه عليه وآله وسلم وقد تقدم الكلام على بعض ما فيه في هذا الباب وسيأتي الكلام على بقية فوائده في المواضع التي يذكرها المصنف فيها إن شاء اللَّه تعالى‏.‏ وقد رويت حكاية أبي حميد لصلاته صلى اللَّه عليه وسلم بالقول كما في حديث الباب وبالفعل كما في غيره‏.‏ قال الحافظ‏:‏ ويمكن الجمع بين الروايتين بأن يكون وصفها مرة بالفعل ومرة بالقول‏.‏