فصل: باب أن الجهاد فرض كفاية وأنه شرع مع كل بر وفاجر

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: نيل الأوطار شرح منتقى الأخبار **


 باب حكم أموال المرتدين وجناياتهم

1ـ عن طارق بن شهاب قال‏:‏ ‏(‏جاء وفد بزاخة من أسد وغطفان إلى أبي بكر يسألونه الصلح فخيرهم بين الحرب المجلية والسلم المخزية فقالوا هذه المجلية قد عرفناها فما المخزية قال‏:‏ تنزع منكم الحلقة والكراع ونغنم ما أصبنا منكم وتردون علينا ما أصبتم منا وتدون قتلانا وتكون قتلاكم في النار وتتركون أقوامًا يتبعون أذناب الإبل حتى يرى اللّه خليفة رسوله والمهاجرين والأنصار أمرًا يعذرونكم له فعرض أبو بكر ما قال على القوم فقام عمر بن الخطاب فقال قد رأيت رأيًا وسنشير عليك أما ما ذكرت من الحرب المجلية والسلم المخزية فنعم ما ذكرت وأما ما ذكرت إن نغنم ما أصبنا منكم وتردون ما أصبتم منا فنعم ما ذكرت وأما ما ذكرت تدون قتلانا وتكون قتلاكم في النار فإن قتلانا قاتلت فقتلت على أمر اللّه أجورها على اللّه ليس لها ديات فتبايع القوم على ما قال عمر‏)‏‏.‏

رواه البرقاني على شرط البخاري‏.‏

هذا الأثر أخرج بعضه البخاري في صحيحه وأخرج بقيته البرقاني في مستخرجه بطوله كما ذكره المصنف وأخرجه أيضًا البيهقي من حديث ابن إسحاق عن عاصم بن حمزة‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏بزاخة‏)‏ بضم الباء الموحدة ثم زاي وبعد الألف خاء معجمة هو موضع قيل بالبحرين وقيل ماء لبني أسد كذا في التلخيص‏.‏ وفي القاموس وبزاخة بالضم موضع به وقعة أبو بكر رضي اللّه عنه انتهى‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏المجلية‏)‏ يحتمل أن يكون بالخاء المعجمة أي المهلكة قال في القاموس‏:‏ خلا مكانه مات وقال أيضًا خلا المكان خلوا وخلاء وأخلى واستخلى فرغ وكان خلاء ما فيه أحد وأخلاه جعله أو وجده خاليًا وخلا وقع في موضع خال لا تزاحم فيه انتهى‏.‏ ويحتمل أن يكون بالجيم قال في القاموس‏:‏ جلا القوم عن الموضع ومنه جلوا وجلاه وأجلوا تفرقوا أو جلا من الخوف وأجلى من الجدب انتهى‏.‏ والمراد الحرب المفرقة لأهلها لشدة وقعها وتأثيرها‏.‏

وقال في الفتح‏:‏ المجلية بضم الميم وسكون الجيم بعدها لام مكسورة ثم تحتانية من الجلاء بفتح الجيم وتخفيف اللام مع المد ومعناه الخروج عن جميع المال‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏والسلم المخزية‏)‏ بالخاء المعجمة والزاي أي المذلة قال في القاموس‏:‏ خزي كرضي خزيًا بالكسر وخزي وقع في شهرة فذل بذلك كأخزوزي وأخزاه اللّه فضحه ومن كلامهم لمن أتى بمستهجن ماله أخزاه اللّه‏.‏ قال‏:‏ وخزي بالكسر خزي وخزاية بالقصر استحيا انتهى‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏الحلقة‏)‏ بفتح الحاء المهملة وسكون اللام بعدها قاف قال في القاموس‏:‏ الحلقة الدرع والخيل انتهى‏.‏ وقال في النهاية‏:‏ والحلقة بسكون اللام السلاح عامًا وقيل الدروع خاصة والمراد بالكراع الخيل‏.‏ قال في القاموس‏:‏ هو اسم لجميع الخيل فعلى هذا يكون المراد بالحلقة الدروع أو هي وسائر السلاح الذي يحارب به‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏يتبعون أذناب الإبل‏)‏ أي يمتهنون بخدمة الإبل ورعيها والعمل بها لما في ذلك من الذلة والصغار‏.‏ وقد استدل بالأثر المذكور على أنه يجوز مصالحة الكفار المرتدين على أخذ أسلحتهم وخيلهم ورد ما أصابوه من المسلمين وقد اختلف هل يملك الكفار ما أخذوه على المسلمين فذهب الهادي وأبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد إلى أنهم يملكون علينا ما استولوا عليه قهرًا وإذا استولينا عليه فصاحبه أحق بعينه ما لم يقسم فإن قسم لم يستحقه إلا بدفع القيمة لمن صار في يده وذهب أبو بكر الصديق وعمر وعبادة بن الصامت وعكرمة والشافعي والمؤيد باللّه إلى أنهم لا يملكون علينا ولو أدخلوه قهرًا فصاحبه أحق به قبل القسمة وبعدها بلا شيء وأما ما أخذوه من أموال أهل الإسلام في دارهم قهرًا كالعبد الآبق فذهب الهادي والنفس الزكية وأبو حنيفة إلى أنهم لا يملكونه علينا إذ دار الحرب دار إباحة فالملك فيها غير حقيقي وذهب مالك والأوزاعي والزهري وعمرو بن دينار وأبو يوسف ومحمد إلى أنهم يملكونه علينا وهو مروي عن أبي طالب ولعله يأتي تحقيق هذا البحث إن شاء اللّه تعالى‏.‏

 كتاب الجهاد والسير

 باب الحث على الجهاد وفضل الشهادة والرباط والحرس

1ـ عن أنس‏:‏ ‏(‏أن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم قال‏:‏ لغدوة أو روحة في سبيل اللّه خير من الدنيا وما فيها‏)‏‏.‏ متفق عليه‏.‏

2ـ وعن أبي عبس الحارثي قال‏:‏ ‏(‏سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم يقول‏:‏ من أغبرت قدماه في سبيل اللّه حرمه اللّه على النار‏)‏‏.‏ رواه أحمد والبخاري والنسائي والترمذي‏.‏

3ـ وعن أبي أيوب قال‏:‏ ‏(‏قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم‏:‏ غدوة أو روحة في سبيل اللّه خير مما طلعت عليه الشمس وغربت‏)‏‏.‏

رواه أحمد ومسلم والنسائي‏.‏ وللبخاري من حديث أبي هريرة مثله‏.‏

4ـ وعن أبي هريرة‏:‏ ‏(‏أن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم قال‏:‏ من قاتل في سبيل اللّه فواق ناقة وجبت له الجنة‏)‏‏.‏ رواه أحمد والترمذي‏.‏

5ـ وعن أبي موسى قال‏:‏ ‏(‏قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم‏:‏ إن أبواب الجنة تحت ظلال السيوف‏)‏‏.‏ رواه أحمد ومسلم والترمذي‏.‏

6ـ وعن ابن أبي أوفى‏:‏ ‏(‏أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم قال‏:‏ إن الجنة تحت ظلال السيوف‏)‏‏.‏ رواه أحمد والبخاري‏.‏

7ـ وعن سهل بن سعد قال‏:‏ ‏(‏قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم‏:‏ رباط يوم في سبيل اللّه خير من الدنيا وما عليها وموضع سوط أحدكم من الجنة خير من الدنيا وما عليها والروحة يروحها العبد أو الغدوة خير من الدنيا وما عليها‏)‏‏.‏

متفق عليه‏.‏

حديث أبي هريرة الآخر قال الترمذي هو حديث حسن ولفظه عن أبي هريرة قال‏:‏ ‏(‏مر رجل من أصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم بشعب فيه عيينة من ماء عذبة فأعجبته لطيبها فقال لو اعتزلت الناس فأقمت في هذا الشعب ولن أفعل حتى أستأذن رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم فذكر ذلك لرسول اللّه صلىاللّه عليه وآله وسلم فقال‏:‏ لا تفعل فإن مقام أحدكم في سبيل اللّه أفضل من صلاته في بيته سبعين عامًا ألا تحبون أن يغفر اللّه لكم ويدخلكم الجنة اغزوا في سبيل اللّه من قاتل في سبيل اللّه فواق ناقة وجبت له الجنة‏)‏‏.‏ قوله‏:‏ ‏(‏كتاب الجهاد‏)‏ قال في الفتح‏:‏ بكسر الجيم أصله لغة المشقة يقال جاهدت جهادًا أي بلغت المشقة وشرعًا بذل الجهد في قتال الكفار ويطلق أيضًا على مجاهدة النفس والشيطان والفساق‏.‏ فأما مجاهدة النفس فعلى تعلم أمور الدين ثم على العمل بها ثم على تعليمها‏.‏ وأما مجاهدة الشيطان فعلى دفع ما يأتي به من الشبهات وما يزينه من الشهوات‏.‏ وأما مجاهدة الكفار فتقع باليد والمال واللسان والقلب وأما الفساق فباليد ثم اللسان ثم القلب ثم قال واختلف في جهاد الكفار هل كان أولًا فرض عين أو فرض كفاية ثم قال في باب وجوب النفير فيه قولان مشهوران للعلماء وهما في مذهب الشافعي‏.‏ وقال الماوردي‏:‏ كان عينًا على المهاجرين دون غيرهم ويؤيده وجوب الهجرة قبل الفتح في حق كل من أسلم إلى المدينة لنصر الإسلام وقال السهيلي‏:‏ كان عينًا على الأنصار دون غيرهم ويؤيده مبايعتهم النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم ليلة العقبة على أن يؤوا رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم وينصروه فيخرج من قولهما أنه كان عينًا على الطائفتين كفاية في حق غيرهم ومع ذلك فليس في حق الطائفتين على التعميم بل في حق الأنصار إذا طرق المدينة طارق وفي حق المهاجرين إذا أريد قتال أحد من الكفار ابتداء‏.‏

وقيل كان عينًا في الغزوة التي يخرج فيها النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم دون غيرها والتحقيق أنه كان عينًا على من عينه النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم في حقه وإن لم يخرج وأما بعده صلى اللّه عليه وآله وسلم فهو فرض كفاية على المشهور إلا أن تدعو الحاجة كأن يدهم العدو ويتعين على من عينه الإمام ويتأدى فرض الكفاية بفعله في السنة مرة عند الجمهور ومن حججهم أن الجزية تجب بدلًا عنه ولا تجب في السنة أكثر من مرة اتفاقًا فليكن بدلها كذلك وقيل يجب كلما أمر وهو قوي قال‏:‏ والتحقيق أن جنس جهاد الكفار متعين على كل مسلم إما بيده وإما بلسانه وإما بماله وإما بقلبه انتهى‏.‏ وأول ما شرع الجهاد بعد الهجرة النبوية إلى المدينة اتفاقًا‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏لغدوة أو روحة‏)‏ الغدوة بالفتح واللام للابتداء وهي المرة الواحدة من الغدو وهو الخروج في أي وقت كان من أول النهار إلى انتصافه‏.‏ والروحة المرة الواحدة من الرواح وهو الخروج في أي وقت كان من زوال الشمس إلى غروبها‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏في سبيل اللّه‏)‏ أي الجهاد‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏خير من الدنيا وما فيها‏)‏ قال ابن دقيق العيد‏:‏ يحتمل وجهين أحدهما أن يكون من باب تنزيل الغائب منزلة المحسوس تحقيقًا له في النفس لكون الدنيا محسوسة في النفس مستعظمة في الطباع ولذلك وقعت المفاضلة بها وإلا فمن المعلوم أن جميع ما في الدنيا لا يساوي ذرة مما في الجنة والثاني إن المراد أن هذا القدر من الثواب خير من الثواب الذي يحصل لمن لو حصلت له الدنيا كلها لأنفقها في طاعة اللّه تعالى ويؤيد هذا الثاني ما رواه ابن المبارك في كتاب الجهاد من مرسل الحسن قال‏:‏ ‏(‏بعث رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم جيشًا فيهم عبد اللّه بن رواحة فتأخر ليشهد الصلاة مع النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم فقال له النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم‏:‏ والذي نفسي بيده لو أنفقت ما في الأرض ما أدركت فضل غدوتهم‏)‏‏.‏

ـ والحاصل ـ أن المراد تسهيل أمر الدنيا وتعظيم أمر الجهاد وأن من حصل له من الجنة قدر سوط يصير كأنه حصل له أعظم من جميع ما في الدنيا فكيف لمن حصل منها أعلى الدرجات‏.‏ والنكتة في ذلك أن سبب التأخير عن الجهاد الميل إلى سبب من أسباب الدنيا‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏من اغبرت قدماه‏)‏ زاد أحمد من حديث أبي هريرة ساعة من نهار وفيه دليل على عظم قدر الجهاد في سبيل اللّه فإن مجرد مس الغبار للقدم إذا كان من موجبات السلامة من النار فكيف بمن سعى وبذل جهده واستفرغ وسعه‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏خير مما طلعت عليه الشمس وغربت‏)‏ هذا هو المراد بقوله في الحديث الأول‏:‏ ‏(‏خير من الدنيا وما فيها‏)‏‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏فواق ناقة‏)‏ هو قدر ما بين الحلبتين من الاستراحة‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏تحت ظلال السيوف‏)‏ الظلال جمع ظل وإذا تدانى الخصمان صار كل واحد منهم تحت ظل سيف صاحبه لحرصه على رفعه عليه ولا يكون ذلك إلا عند التحام القتال قال القرطبي‏:‏ وهو من الكلام النفيس الجامع الموجز المشتمل على ضروب من البلاغة مع الوجازة وعذوبة اللفظ فإنه أفاد الحض على الجهاد والإخبار بالثواب عليه والحض على مقاربة العدو واستعمال السيوف والاجتماع حين الزحف حتى تصير السيوف تظل المقاتلين‏.‏ وقال ابن الجوزي‏:‏ المراد أن الجنة تحصل بالجهاد‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وموضع سوط أحدكم‏)‏ في رواية للبخاري‏:‏ ‏(‏وقاب قوس أحدكم‏)‏ أي قدره‏.‏

8ـ وعن معاذ بن جبل‏:‏ ‏(‏أن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم قال‏:‏ من قاتل في سبيل اللّه من رجل مسلم فواق ناقة وجبت له الجنة ومن جرح جرحًا في سبيل اللّه أو نكب نكبة فإنها تجيء يوم القيامة كأغزر ما كانت لونها الزعفران وريحها المسك‏)‏‏.‏

رواه أبو داود والنسائي والترمذي وصححه‏.‏

9ـ وعن عثمان بن عفان قال‏:‏ ‏(‏سمعت النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم يقول‏:‏ رباط يوم في سبيل اللّه خير من ألف يوم فيما سواه من المنازل‏)‏‏.‏

رواه أحمد والترمذي والنسائي‏.‏ ولابن ماجه معناه‏.‏

10ـ وعن سلمان الفارسي قال‏:‏ ‏(‏سمعت رسول اللّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم يقول‏:‏ رباط يوم وليلة خير من صيام شهر وقيامه وإن مات جرى عليه عمله الذي كان يعمله وأجري عليه رزقه وأمن الفتان‏)‏‏.‏ رواه أحمد ومسلم والنسائي‏.‏

11ـ وعن عثمان بن عفان قال‏:‏ ‏(‏سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم يقول‏:‏ حرس ليلة في سبيل اللّه أفضل من ألف ليلة بقيام ليلها وصيام نهارها‏)‏‏.‏

رواه أحمد‏.‏

12ـ وعن ابن عباس قال‏:‏ ‏(‏سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم يقول‏:‏ عينان لا تمسهما النار عين بكت من خشيت اللّه وعين باتت تحرس في سبيل اللّه‏)‏‏.‏ رواه الترمذي وقال‏:‏ حديث حسن غريب‏.‏

13ـ وعن أبي أيوب قال‏:‏ ‏(‏إنما أنزلت هذه الآية فينا معشر الأنصار لما نصر اللّه نبيه صلى اللّه عليه وآله وسلم وأظهر الإسلام قلنا هل نقيم في أموالنا ونصلحها فأنزل اللّه تعالى ‏{‏وأنفقوا في سبيل اللّه ولا تلقوا بأيديكم في التهلكة‏}‏ فالإلقاء بأيدينا إلى التهلكة أن نقيم في أموالنا ونصلحها وندع الجهاد‏)‏‏.‏

رواه أبو داود‏.‏

14ـ وعن أنس قال‏:‏ ‏(‏قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم‏:‏ جاهدوا المشركين بأموالكم وأيديكم وألسنتكم‏)‏‏.‏ رواه أحمد وأبو داود والنسائي‏.‏

حديث معاذ أخرجه أيضًا ابن ماجه وإسناد الترمذي وابن ماجه صحيح وأما إسناد أبو داود ففيه بقية بن الوليد وهو متكلم فيه ولفظه عند أبي داود‏:‏ ‏(‏من قاتل في سبيل اللّه فواق ناقة فقد وجبت له الجنة ومن سئل اللّه القتل من نفسه صادقًا ثم مات أو قتل فإن له أجر شهيد ومن جرح جرحًا في سبيل اللّه أو نكب نكبة فإنها تجيء يوم القيامة كأغزر ما كانت لونها لون الزعفران وريحها ريح المسك ومن خرج به خراج في سبيل اللّه عز وجل فإن عليه طابع الشهداء‏)‏ وذكر المصنف رحمه اللّه أن الترمذي صحح حديث معاذ المذكور ولم نجد ذلك في جامعه وإنما صحح حديث أبي هريرة بمعناه ولكنه قد وافق المصنف على حكاية تصحيح الترمذي لحديث معاذ جماعة منهم المنذري في مختصر السنن والحافظ في الفتح وصححه أيضًا ابن حبان والحاكم وحديث عثمان قال الترمذي بعد إخراجه إنه حديث حسن صحيح غريب‏.‏ وحديث سلمان الفارسي أخرجه أيضًا الترمذي‏.‏ وحديث عثمان الثاني أشار إليه الترمذي‏.‏ وحديث ابن عباس قال الترمذي بعد إخراجه حديث حسن غريب لا نعرفه إلا من حديث شعيب بن زريق‏.‏ وحديث أبي أيوب أخرجه أيضًا النسائي والترمذي وقال حسن صحيح وصححه أيضًا ابن حبان والحاكم ولفظ الحديث عند أبي داود عن أسلم بن عمران قال‏:‏ غزونا من المدينة نريد القسطنطينية وعلى الجماعة عبد الرحمن بن خالد بن الوليد والروم ملصقوا ظهورهم بحائط المدينة فحمل رجل على العدو فقال الناس مه مه لا إله إلا اللّه يلقي بيده إلى التهلكة فقال أبو أيوب إنما أنزلت هذه الآية فذكره‏.‏ وفي الترمذي فضالة بن عبيد بدل عبد الرحمن بن خالد بن الوليد‏.‏

وحديث أنس سكت عنه أبو داود والمنذري ورجال إسناده رجال الصحيح وصححه النسائي ـ والأحاديث ـ في فضل الجهاد كثيرة جدًا لا يتسع لبسطها إلا مؤلف مستقل‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏من جرح جرحًا‏)‏ ظاهر هذا أنه لا يختص بالشهيد الذي يموت من تلك الجراحة بل هو حاصل لكل من جرح ويحتمل أن يكون المراد بهذا الجرح هو ما يموت صاحبه بسببه قبل اندماله لا ما يندمل في الدنيا فإن أثر الجراحة وسيلان الدم يزول ولا ينفي ذلك كونه له فضل في الجملة قال في الفتح‏:‏ قال العلماء الحكمة في بعثه كذلك أن يكون معه شاهد فضيلته ببذل نفسه في طاعة اللّه‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏أو نكب نكبة‏)‏ بضم النون من نكب وكسر الكاف قال في القاموس‏:‏ نكب عنه كنصر وفرح نكبًا ونكبًا ونكوبًا عدل كنكب وتنكب ونكبه تنكبًا نحاه لازم متعد وطريق منكوب على غير قصد ونكبه الطريق ونكب به عنه عدل والنكب الطرح انتهى‏.‏ وقال في الفتح‏:‏ النكبة أن يصيب العضو شيء فيدميه انتهى‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏لونها الزعفران‏)‏ في حديث أبي هريرة عند الترمذي وغيره اللون لون الدم والريح ريح المسك‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏رباط يوم في سبيل اللّه‏)‏ بكسر الراء وبعدها موحدة ثم طاء مهملة قال في القاموس‏:‏ المرابطة أن يربط كل من الفريقين خيولهم في ثغرة وكل معد لصاحبه فسمي المقام في الثغر رباطًا ومنه قوله تعالى ‏{‏وصابروا ورابطوا‏}‏ انتهى‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏أمن الفتان‏)‏ بفتح الفاء وتشديد التاء الفوقية وبعد الألف نون قال في القاموس‏:‏ الفتان اللص والشيطان كالفاتن والصانع والفتانان الدرهم والدينار ومنكر ونكير قال في النهاية‏:‏ وبالفتح هو الشيطان لأنه يفتن الناس عن الدين انتهى‏.‏ والمراد ههنا الشيطان أو منكر ونكير‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏حرس‏)‏ هو مصدر حرس والمراد هنا حراسة الجيش يتولاها واحد منهم فيكون له الأجر لما في ذلك من العناية بشأن المجاهدين والتعب في مصالح الدين ولذلك قال في الحديث الآخر‏:‏ ‏(‏عينان لا تمسهما النار عين بكت من خشية اللّه وعين باتت تحرس في سبيل اللّه‏)‏‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏فالإلقاء بأيدينا إلى التهلكة أن نقيم في أموالنا‏)‏ الخ هذا فرد من أفراد ما تصدق عليه الآية لأنها متضمنة للنهي لكل أحد عن كل ما يصدق عليه أنه من باب الإلقاء بالنفس إلى التهلكة والاعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص السبب فإذا كانت تلك الصورة التي قال الناس إنها من باب الإلقاء لما رأوا الرجل الذي حمل على العدو كما سلف من صور الإلقاء لغة أو شرعًا فلا شك أنها داخلة تحت عموم الآية ولا يمنع من الدخول اعتراض أبي أيوب بالسبب الخاص وقد تقرر في الأصول رجحان قول من قال إن الاعتبار بعموم اللفظ ولا حرج في اندراج التهلكة باعتبار الدين وباعتبار الدنيا تحت قوله‏:‏ ‏{‏ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة‏}‏ ويكون ذلك من باب استعمال المشترك في جميع معانيه وهو أرجح الأقوال الستة المعروفة في الأصول في استعمال المشترك‏.‏

وفي البخاري في التفسير إن التهلكة هي ترك النفقة في سبيل اللّه وذكر صاحب الفتح هنالك أقوالًا أخر فليراجع‏.‏

وقد أخرج الحاكم من حديث أنس‏:‏ ‏(‏أن رجلًا قال‏:‏ يا رسول اللّه أرأيت إن انغمست في المشركين فقاتلتهم حتى قتلت أإلى الجنة قال‏:‏ نعم فانغمس الرجل في صف المشركين فقاتل حتى قتل‏)‏‏.‏ وفي الصحيحين عن جابر قال‏:‏ ‏(‏قال رجل‏:‏ أين أنا يا رسول اللّه إن قتلت قال‏:‏ في الجنة فألقى تمرات كن بيده ثم قاتل حتى قتل‏)‏ وروى ابن إسحاق في المغازي عن عاصم بن عمر بن قتادة قال‏:‏ ‏(‏لما التقى الناس يوم بدر قال عوف بن الحارث‏:‏ يا رسول اللّه ما يضحك الرب من عبده قال‏:‏ أن يراه غمس يده في القتال يقاتل حاسرًا فنزع درعه ثم تقدم فقاتل حتى قتل‏)‏‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏جاهدوا المشركين‏)‏ الخ فيه دليل على وجوب المجاهدة للكفار بالأموال والأيدي والألسن‏.‏ وقد ثبت الأمر القرآني بالجهاد بالأنفس والأموال في مواضع‏.‏

وظاهر الأمر الوجوب وقد تقدم الكلام على ذلك وسيأتي أيضًا‏.‏

 باب أن الجهاد فرض كفاية وأنه شرع مع كل بر وفاجر

1ـ عن عكرمة عن ابن عباس قال‏:‏ ‏(‏إلا تنفروا يعذبكم عذابًا أليمًا وما كان لأهل المدينة إلى قوله يعملون نسختها الآية التي تليها وما كان المؤمنون‏)‏‏.‏

رواه أبو داود‏.‏

2ـ وعن عروة بن الجعد البارقي‏:‏ ‏(‏عن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم قال‏:‏ الخيل معقود في نواصيها الأجر والمغنم إلى يوم القيامة‏)‏‏.‏

متفق عليه‏.‏ ولأحمد ومسلم والنسائي من حديث جرير البجلي مثله وفيه مستدل بعمومه على الإسهام لجميع أنواع الخيل وبمفهومه على عدم الإسهام لبقية الدواب‏.‏

وعن أنس قال‏:‏ ‏(‏قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم‏:‏ ثلاث من أصل الإيمان الكف عمن قال لا إله إلا اللّه لا نكفره بذنب ولا نخرجه من الإسلام بعمل وجهاد ماض مذ بعثني اللّه إلى أن يقاتل أخر أمتي الدجال لا يبطله جور جائر ولا عدل عادل والإيمان بالأقدار‏)‏‏.‏ رواه أبو داود وحكاه أحمد في رواية ابنه عبد اللّه‏.‏

حديث ابن عباس سكت عنه أبو داود والمنذري وإسناده ثقات إلا علي بن الحسين بن واقد وفيه مقال وهو صدوق وبوب عليه أبو داود باب في نسخ نفير العامة بالخاصة وحسنه الحافظ في الفتح‏.‏ وأخرج أبو داود عن ابن عباس أنه سأله نجدة بن نفيع عن هذه الآية ‏{‏إلا تنفروا يعذبكم عذابًا أليمًا‏}‏ قال‏:‏ فأمسك عنهم المطر وكان عذابهم‏.‏ ونجدة بن نفيع الحنفي مجهول كما قاله صاحب الخلاصة‏.‏

وحديث أنس سكت عنه أبو داود والمنذري وفي إسناده يزيد بن أبي نشبة وهو مجهول‏.‏ وأخرجه أيضًا سعيد بن منصور وفيه ضعف وله شواهد‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏نسختها الآية التي تليها وما كان المؤمنون لينفروا كافة‏)‏ قال الطبري‏:‏ يجوز أن يكون إلا تنفروا يعذبكم عذابًا أليمًا خاصًا والمراد به من استنفره النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم فامتنع‏.‏

قال الحافظ‏:‏ والذي يظهر أنها مخصوصة وليست بمنسوخة وقد وافق ابن عباس على دعوى النسخ عكرمة والحسن البصري كما روى ذلك الطبري عنهما وزعم بعضهم أن قوله تعالى ‏{‏انفروا ثبات‏}‏ ناسخة لقوله تعالى ‏{‏انفروا خفافًا وثقالًا‏}‏ وثبات جمع ثبة ومعناه جماعات متفرقة ويؤيده قوله تعالى بعده أو انفروا جميعًا‏.‏ قال الحافظ‏:‏ والتحقيق أنه لا نسخ بل المرجع في الآيتين يعني هذه وقوله تعالى ‏{‏إلا تنفروا‏}‏ مع قوله ‏{‏وما كان المؤمنون لينفروا كافة‏}‏ إلى تعيين الإمام وإلى الحاجة‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏الخيل معقود‏)‏ الخ المراد بها المتخذة للغزو بأن يقاتل عليها أو ترتبط لأجل ذلك وقد روى أحمد من حديث أسماء بنت يزيد مرفوعًا‏:‏ ‏(‏الخيل في نواصيها الخير معقود أبدًا إلى يوم القيامة فين ربطها عدة في سبيل اللّه وأنفق عليها احتسابًا كان شبعها وجوعها وريها وظمأها وأرواثها وأبوالها فلاحًا في موازينه يوم القيامة‏)‏‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏الأجر والمغنم‏)‏ بدل من قوله الخير أو هو خبر مبتدأ محذوف أي هو الأجر والمغنم ووقع عند مسلم من رواية جرير‏:‏ ‏(‏فقالوا لم ذاك يا رسول اللّه قال الأجر والمغنم‏)‏ قال الطيبي‏:‏ يحتمل أن يكون الخير الذي فسر بالأجر والمغنم استعارة لظهوره وملازمته وخص الناصية لرفعة قدرها فكأنه شبهه لظهوره بشيء محسوس معقود على ما كان مرتفعًا فنسب الخير إلى لازم المشبه به وذكر الناصية تجريد للاستعارة والمراد بالناصية هنا الشعر المسترسل على الجبهة قال الخطابي وغيره‏:‏ قالوا ويحتمل أن يكون كنى بالناصية عن جميع ذات الفرس كما يقال فلان مبارك الناصية ويبعده ما رواه مسلم من حديث جرير قال‏:‏ ‏(‏رأيت رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم يلوي ناصية فرسه بإصبعه ويقول‏)‏ فذكر الحديث فيحتمل أن تكون خصت بذلك لكونها المقدم منها إشارة إلى أن الفضل في الإقدام بها على العدو دون المؤخر لما فيه من الإشارة إلى الإدبار‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏والجهاد ماض‏)‏ الخ فيه دليل على أن الجهاد لا يزال ما دام الإسلام والمسلمون إلى ظهور الدجال‏.‏ وأخرج أبو داود وأبو يعلى مرفوعًا وموقوفًا من حديث أبي هريرة‏:‏ ‏(‏الجهاد ماض مع البر والفاجر‏)‏ ولا بأس بإسناده إلا أنه من رواية مكحول عن أبي هريرة ولم يسمع منه‏.‏

وأخرج أبو داود من حديث عمران بن حصين قال‏:‏ ‏(‏قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم‏:‏ لا تزال طائفة من أمتي يقاتلون على الحق ظاهرين على من ناوأهم حتى يقاتل آخرهم المسيح الدجال‏)‏‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏لا يبطله جور جائر ولا عدل عادل‏)‏ فيه دليل على أنه لا فرق في حصول فضيلة الجهاد بين أن يكون الغزو مع الإمام العادل أو الجائر‏.‏ وقد استدل المصنف بما ذكره في الباب على أن الجهاد فرض كفاية وقد تقدم الكلام على ذلك في أول الكتاب‏.‏

وقد حكي في البحر عن العترة والشافعية والحنفية أنه فرض كفاية وعن ابن المسيب أنه فرض عين وعن قوم فرض عين في زمن الصحابة‏.‏

 باب ما جاء في إخلاص النية في الجهاد وأخذ الأجرة عليه والإعانة

1ـ عن أبي موسى قال‏:‏ ‏(‏سئل رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم عن الرجل يقاتل شجاعة ويقاتل حمية ويقاتل رياء فأي ذلك في سبيل اللّه فقال من قاتل لتكون كلمة اللّه العليا فهو في سبيل اللّه‏)‏‏.‏

رواه الجماعة‏.‏

2ـ وعن عبد اللّه بن عمرو قال‏:‏ ‏(‏سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم يقول‏:‏ ما من غازية تغزو في سبيل اللّه فيصيبون غنيمة إلا تعجلوا ثلثي أجرهم في الآخرة ويبقى لهم الثلث وإن لم يصيبوا غنيمة تم لهم أجرهم‏)‏‏.‏

رواه البخاري والترمذي‏.‏

3ـ وعن أبي أمامة قال‏:‏ ‏(‏جاء رجل إلى النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم فقال له‏:‏ أرأيت رجلًا غزا يلتمس الأجر والذكر ما له فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم‏:‏ لا شيء له فأعادها ثلاث مرات يقول له رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم لا شيء له ثم قال‏:‏ إن اللّه لا يقبل من العمل إلا ما كان له خالصًا وابتغي به وجهه‏)‏‏.‏ رواه أحمد والنسائي‏.‏

حديث أبي أمامة جود الحافظ إسناده في فتح الباري وقد أخرج أبو موسى المديني في الصحابة عن لاحق بن ضميرة الباهلي قال وفدت على النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم فسألته عن الرجل يلتمس الأجر والذكر فقال لا شيء له وفي إسناده ضعف‏.‏ وأخرج أبو داود من حديث أبو هريرة‏:‏ ‏(‏أن رجلًا قال للنبي صلى اللّه عليه وآله وسلم‏:‏ رجل يريد الجهاد في سبيل اللّه وهو يبتغي عرضًا من عرض الدنيا فقال النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم‏:‏ لا أجر له فأعاد ذلك مرة أخرى ثم ثالثة والنبي صلى اللّه عليه وآله وسلم يقول لا أجر له‏)‏‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏يقاتل شجاعة‏)‏ في رواية للبخاري في الجهاد والرجل يقاتل للذكر أي ليذكر بين الناس ويشتهر بالشجاعة‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏ويقاتل رياء‏)‏ في رواية للبخاري والرجل يقاتل ليري مكانه ومرجعه إلى الرياء والمراد بالمقاتلة لأجل الحمية أن يقاتل لأجل من يقاتل لأجله من أهل أو عشيرة أو صاحب ويحتمل أن تفسر الحمية بالقتال لدفع المضرة والقتال غضبًا لجلب المنفعة‏.‏ وفي رواية للبخاري والرجل يقاتل للمغنم وفي أخرى له والرجل يقاتل غضبًا والحاصل من الروايات أن القتال يقع بسبب خمسة أشياء طلب المغنم وإظهار الشجاعة والرياء والحمية والغضب وكل منها يتناوله المدح والذم ولهذا لم يحصل الجواب بالإثبات ولا بالنفي‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏من قاتل لتكون كلمة اللّه هي العليا فهو في سبيل اللّه‏)‏ المراد بكلمة اللّه دعوة اللّه إلى الإسلام ويحتمل أن يكن المراد به أن لا يكون في سبيل اللّه إلا من كان سبب قتاله طلب إعلاء كلمة اللّه فقط بمعنى أنه لو أضاف إلى ذلك سببًا من الأسباب المذكورة أخل به‏.‏ وصرح الطبري بأنه لا يخل إذا حصل ضمنًا لا أصلًا ومقصودًا به قال الجمهور كما حكاه صاحب الفتح ولكنه يعكر على هذا ما في حديث أبي أمامة المذكور من أن اللّه لا يقبل من العمل إلا ما كان خالصًا ويمكن أن يحمل على قصد الأمرين معًا على حد واحد فلا يخالف ما قاله الجمهور ـ فالحاصل ـ أنه إما أن يقصد الشيئين معًا أو يقصد أحدهما فقط أو يقصد أحدهما ويحصل الآخر ضمنًا والمحذور أن يقصد غير الإعلاء سواء حصل الإعلاء ضمنًا أو لم يحصل ودونه أن يقصدهما معًا فإنه محذور على ما دل عليه حديث أبي أمامة والمطلوب أن يقصد الإعلاء فقط سواء حصل غير الإعلاء ضمنًا أو لم يحصل‏.‏

قال ابن أبي جمرة‏:‏ ذهب المحققون إلى أنه لو إذا كان الباعث الأول قصد إعلاء كلمة اللّه لم يضره ما ينضاف إليه وعلى هذا يحمل حديث أبي هريرة الذي ذكرناه وأما حديث عبد اللّه بن عمرو المذكور فليس فيه ما يدل على جواز قصد غير الغزو في سبيل اللّه لأن الغنيمة إنما حصلت بعد أن كان الغزو في سبيل اللّه ولم يكن مقصوده في الابتداء ولهذا قال في أول الحديث ما من غازية تغزو في سبيل اللّه الخ‏.‏

قال في الفتح‏:‏ والحاصل مما ذكر أن القتال منشؤه القوة العقلية والقوة الغضبية والقوة الشهوانية ولا يكون في سبيل اللّه إلا الأول‏.‏

وقال ابن بطال‏:‏ إنما عدل النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم عن لفظ جواب السائل لأن الغضب والحمية قد يكونان للّه فعدل النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم عن ذلك إلى لفظ جامع فأفاد رفع الالتباس وزيادة الإفهام وفيه بيان أن الأعمال إنما تحتسب بالنية الصالحة وأن الفضل الذي ورد في المجاهدين يختص بمن ذكر‏.‏

4ـ وعن أبي هريرة قال‏:‏ ‏(‏سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم يقول‏:‏ إن أول الناس يقضى يوم القيامة عليه رجل استشهد فأتى به فعرّفه نعمه فعرفها قال فما عملت فيها قال قاتلت فيك حتى استشهدت قال كذبت ولكن قاتلت أن يقال جريء فقد قيل ثم أمر به فسحب على وجهه حتى يلقى في النار ورجل تعلم العلم وعلمه وقرأ القرآن فأتى به فعرفه نعمه فعرفها فقال ما عملت فيها قال تعلمت العلم وعلمته وقرأت فيك القرآن قال كذبت ولكنك تعلمت العلم ليقال عالم وقرأت القرآن ليقال قارئ فقد قيل ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار ورجل وسع اللّه عليه وأعطاه من أصناف المال كله فأتى به فعرفه نعمه فعرفها قال فما عملت فيها قال ما تركت من سبيل تحب أن ينفق فيها إلا أنفقت فيها لك قال كذبت ولكنك فعلت ليقال هو جواد فقد قيل ثم أمر به فسحب على وجهه فألقي في النار‏)‏‏.‏

رواه أحمد ومسلم‏.‏

5ـ وعن أبي أيوب‏:‏ ‏(‏أنه سمع النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم يقول‏:‏ ستفتح عليكم الأمصار وستكونون جنودًا مجندة يقطع عليكم بعوث فيكره الرجل منكم البعث فيها فيتخلص من قومه ثم يتصفح القبائل يعرض نفسه عليهم يقول من أكفيه بعث كذا من أكفيه بعث كذا ألا وذلك الأجير إلى آخر قطرة من دمه‏)‏‏.‏

رواه أحمد وأبو داود‏.‏

6ـ وعن عبد اللّه بن عمرو‏:‏ ‏(‏أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم قال‏:‏ للغازي أجره وللجاعل أجره وأجر الغازي‏)‏‏.‏

رواه أبو داود‏.‏

7ـ وعن زيد بن خالد قال‏:‏ ‏(‏قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم‏:‏ من جهز غازيًا في سبيل اللّه فقد غزا ومن خلفه في أهله بخير فقد غزا‏)‏‏.‏

متفق عليه‏.‏

حديث أبي أيوب سكت عنه أبو داود والمنذري وفي إسناده أبو سورة ابن أخي أبي أيوب وفيه ضعف وكذلك حديث عبد اللّه بن عمرو سكتا عنه ورجال إسناده ثقات‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏إن أول الناس‏)‏ الخ لفظ الترمذي أول ما يدعى به يوم القيامة رجل جمع القرآن ورجل قتل في سبيل اللّه ورجل كثير المال فيقول اللّه تعالى للقارئ ألم أعلمك ما أنزلت على رسولي فيقول بلى يا رب قال فما عملت فيما علمت فيقول كنت أقوم به آناء الليل وآناء النهار فيقول اللّه تعالى كذبت وتقول الملائكة كذبت إنما أردت أن يقال فلان قارئ وقد قيل ذلك‏.‏ وذكر نحو ذلك في الذي قتل في سبيل اللّه والذي له مال كثير‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏نعمه‏)‏ بكسر النون وفتح العين المهملة جمع نعمة بسكون العين وهذا الحديث فيه دليل على أن فعل الطاعات العظيمة مع سوء النية من أعظم الوبال على فاعله فإن الذي أوجب سحبه في النار على وجهه هو فعل تلك الطاعة المصحوبة بتلك النية الفاسدة وكفى بهذا رادعًا لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد اللّهم إنا نسألك صلاح النية وخلوص الطوية‏.‏

وقد أخرج مسلم من حديث أبي هريرة قال‏:‏ ‏(‏قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم‏:‏ يقول اللّه تعالى أنا أغنى الشركاء عن الشرك من عمل عملًا أشرك معي فيه غيري تركته وشركه‏)‏ وأخرج الترمذي عن كعب بن مالك قال‏:‏ ‏(‏سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم يقول‏:‏ من طلب العلم ليجاري به العلماء ويماري به السفهاء ويصرف به وجوه الناس إليه أدخله اللّه النار‏)‏ وأخرج الترمذي أيضًا عن أبي هريرة قال‏:‏ ‏(‏قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم‏:‏ تعوذوا باللّه من جب الحزن قالوا يا رسول اللّه وما جب الحزن قال واد في جهنم تتعوذ منه جهنم كل يوم مائة مرة قيل يا رسول اللّه ومن يدخله قال القراء المراؤون بأعمالهم‏)‏ وأخرج الترمذي أيضًا عن أبي هريرة وابن عمر قالا‏:‏ ‏(‏قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم‏:‏ يكون في آخر الزمان رجال يختلون الدنيا بالدين يلبسون الناس جلود الضأن ألسنتهم أحلى من العسل وقلوبهم قلوب الذئاب يقول اللّه تعالى أبي تغترون أم علي تجترؤن فبي حلفت لأبعثن على أولئك منهم فتنة تذر الحليم فيهم حيران‏)‏ وأخرج الشيخان عن أبي وائل قال‏:‏ ‏(‏سمعت أسامة يقول قال النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم‏:‏ يؤتى بالرجل يوم القيامة فيلقى في النار فتندلق أقتاب بطنه فيدور بها كما يدور الحمار بالرحى فتجتمع إليه أهل النار فيقولون يا فلان ألم تكن تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر فيقول بلى كنت آمر بالمعروف ولا آتيه وأنهى عن المنكر وآتيه‏)‏ وأخرج الحاكم من حديث معاذ يرفعه قال‏:‏ ‏(‏إن يسير الرياء شرك‏)‏ قال الحاكم هذا حديث صحيح الإسناد ولا يحفظ له علة‏.‏

وأخرج ابن حبان في صحيحه والحاكم وصححه من حديث عائشة مرفوعًا‏:‏ ‏(‏الشرك في هذه الأمة أخفى من دبيب النمل‏)‏ وفي الباب عن أبي سعيد رواه أحمد‏.‏ وعن أبي موسى وأبي بكر وحذيفة ومعقل بن يسار رواها الهيثمي‏.‏

وأخرج أحمد من حديث عبد اللّه بن عمرو مرفوعًا‏:‏ ‏(‏من سمع بعلمه سمع اللّه به سامع خلقه وصغره وحقره‏)‏‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏بعوث‏)‏ جمع بعث وهو طائفة من الجيش يبعثون في الغزو كالسرية وفيه دليل على أنه يحرم على الرجل أن يمتنع من الخروج إلى الغزو مع قومه ثم يذهب يعرض نفسه على غير قومه ممن طلبوا إلى الغزو ليكون عوضًا عن أحدهم بالأجرة فإن من فعل ذلك كان خروجه للدنيا لا للدين ولهذا قال صلى اللّه عليه وآله وسلم فهو الأجير إلى أخر قطرة من دمه أي لا يكون في سبيل اللّه من دمه شيء بل في سبيل ما أخذه من الأجرة‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وللجاعل أجره وأجر الغازي‏)‏ فيه دليل على أنه لا يستحق أجر الغزو من خرج بالأجرة بل يكون أجره للمستأجر وهو الذي أعطاه الجعالة أي ما جعله له من الأجرة ويكون ذلك أي أجر المجعول له منضمًا إلى أجر الجاعل إذا كان غازيًا وإن لم يكن غازيًا فله أجر الذي دفعه من الأجرة وأجر المجعول له‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏من جهز غازيًا‏)‏ أي هيأ له أسباب سفره وما يحتاج إليه مما لا بد منه‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏فقد غزا‏)‏ قال ابن حبان‏:‏ معناه أنه مثله في الأجر وإن لم يغز حقيقة ثم أخرج الحديث من وجه آخر بلفظ‏:‏ ‏(‏كتب له مثل أجره غير أنه لا ينقص من أجره شيء‏)‏ وأخرج ابن ماجه وابن حبان أيضًا من حديث ابن عمر بلفظ‏:‏ ‏(‏من جهز غازيًا حتى يستقل كان له مثل أجره حتى يموت أو يرجع‏)‏ وأما ما أخرجه مسلم من حديث أبي سعيد‏:‏ ‏(‏أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم بعث بعثًا وقال‏:‏ ليخرج من كل رجلين رجل والأجر بينهما‏)‏ وفي رواية له ثم قال للقاعد‏:‏ ‏(‏أيكم خلف الخارج في أهله وماله بخير كان له مثل نصف أجر الخارج‏)‏ ففيه إشارة إلى أن الغازي إذا جهز نفسه وقام بكفاية من يخلفه بعده كان له الأجر مرتين‏.‏

وقال القرطبي‏:‏ لفظة نصف يحتمل أن تكون مقحمة من بعض الرواة وقد احتج بها من ذهب إلى أن المراد بالأحاديث التي وردت بمثل ثواب الفعل حصول أصل الأجر له بغير تضعيف وإن التضعيف يختص بمن باشر العمل قال‏:‏ ولا حجة له في هذا الحديث لوجهين‏:‏ أحدهما أنه لا يتناول محل النزاع لأن المطلوب إنما هو أن الدال على الخير مثلًا هل له مثل أجر فاعله مع التضعيف أو بغير تضعيف والحديث المذكور إنما يقتضي المشاركة والمشاطرة فافترقا‏.‏ ثانيهما ما تقدم من احتمال كون لفظة نصف زائدة‏.‏ قال الحافظ‏:‏ لا حاجة لدعوى زيادتها بعد ثبوتها في الصحيح والذي يظهر في توجيهها أنها أطلقت بالنسبة إلى مجموع الثواب الحاصل للغازي والخالف له بخير فإن الثواب إذا انقسم بينهما نصفين كان لكل منهما مثل ما للآخر فلا تعارض بين الحديثين وأما من وعد بمثل ثواب العمل وإن لم يعمله إذا كان له فيه دلالة أو مشاركة أو نية صالحة فليس على إطلاقه في عدم التضعيف لكل أحد وصرف الخبر عن ظاهره يحتاج إلى مستند وكأن مستند القائل إن العامل يباشر المشقة بنفسه بخلاف الدال ونحوه لكن من يجهز الغازي بماله مثلًا وكذا من يخلفه فيمن ترك بعده يباشر شيئًا من المشقة أيضًا فإن الغازي لا يتأتى منه الغزو إلا بعد أن يكفى ذلك العمل فصار كأنه يباشر معه الغزو بخلاف من اقتصر على النية مثلًا انتهى‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏ومن خلفه في أهله بخير‏)‏ بفتح الخاء المعجمة واللام الخفيفة أي قام بحال من يتركه‏.‏