فصل: باب التشديد في اليمين الكاذبة

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: نيل الأوطار شرح منتقى الأخبار **


 باب الثناء على من أعلم صاحب الحق بشهادة له عنده وذم من أدى شهادة من غير مسألة

1 - عن زيد بن خالد الجهني‏:‏ ‏(‏أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم قال‏:‏ ألا أخبركم بخير الشهداء الذي يأتي بشهادته قبل أن يسئلها‏)‏‏.‏

رواه أحمد ومسلم وأبو داود وابن ماجه‏.‏

وفي لفظ‏:‏ ‏(‏الذين يبدؤون بشهادتهم من غير أن يسئلوا عنها‏)‏ رواه أحمد‏.‏

2 - وعن عمران بن حصين‏:‏ ‏(‏عن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم قال‏:‏ خير أمتي قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم قال عمران‏:‏ فلا أدري أذكر بعد قرنه قرنين أو ثلاثة ثم إن من بعدهم قومًا يشهدون ولا يستشهدون ويخونون ولا يؤتمنون وينذرون ولا يوفون ويظهر فيهم السمن‏)‏‏.‏

متفق عليه‏.‏

3 - وعن أبي هريرة قال‏:‏ ‏(‏قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم‏:‏ خير أمتي القرن الذي بعثت فيه ثم الذين يلونهم واللّه أعلم أذكر الثالث أم لا قال‏:‏ ثم يحلف بقوم يشهدون قبل أن يستشهدوا‏)‏‏.‏

رواه أحمد ومسلم‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏ألا أخبركم بخير الشهداء‏)‏ جمع شهيد كظرفاء جمع ظريف ويجمع أيضًا على شهود‏.‏ والمراد بخير الشهداء أكملهم في رتبة الشهادة وأكثرهم ثوابًا عند اللّه‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏قبل أن يسئلها‏)‏ في رواية قبل أن يستشهد وهذه هي شهادة الحسبة فشاهدها خير الشهداء لأنه لو لم يظهرها لضاع حكم من أحكام الدين وقاعدة من قواعد الشرع‏.‏ وقيل إن ذلك في الأمانة والوديعة ليتيم لا يعلم مكانها غيره فيخبر بما يعلم من ذلك‏.‏ وقيل هذا مثل في سرعة إجابة الشاهد إذا استشهد فلا يمنعها ولا يؤخرها كما يقال الجواد يعطي قبل سؤاله عبارة عن حسن عطائه وتعجيله‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏خير أمتي قرني‏)‏ قال في القاموس‏:‏ القرن يطلق من عشرة إلى مائة وعشرين سنة ورجح الإطلاق على المائة‏.‏ وقال صاحب المطالع‏:‏ القرن أمة هلكت فلم يبق منهم أحد‏.‏ قال في النهاية‏:‏ القرن أهل كل زمان وهو مقدار المتوسط في أعمار أهل كل زمان مأخوذ من الاقتران فكأنه المقدار الذي يقترن فيه أهل ذلك الزمان في أعمارهم وأحوالهم‏.‏ قيل القرن أربعون سنة وقيل ثمانون وقيل مائة وقيل هو مطلق من الزمان وهو مصدر قرن يقرن اهـ‏.‏

قال الحافظ‏:‏ لم نر من صرح بالتسعين ولا بمائة وعشرة وما عدا ذلك فقد قال به قائل‏.‏ والمراد بقرنه صلى اللّه عليه وآله وسلم في هذا الحديث هم الصحابة كما في حديث أبي هريرة المذكور بلفظ‏:‏ ‏(‏الذي بعثت فيه‏)‏ والمراد بالذين يلونهم التابعون والذين يلونهم تابعوا التابعين‏.‏

وفيه دليل على أن الصحابة أفضل الأمة والتابعين أفضل من الذين بعدهم وتابعي التابعين أفضل ممن بعدهم‏.‏ وثم أحاديث معارضة في الظاهر لهذا الحديث وسيأتي الكلام على ذلك إن شاء اللّه في باب ذكر من حلف قبل أن يستحلف وهو آخر أبواب الكتاب‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏يخونون‏)‏ بالخاء المعجمة مشتق من الخيانة‏.‏ وزعم ابن حزم أنه وقع في نسخة‏:‏ ‏(‏يحربون‏)‏ بسكون المهملة وكسر الراء بعدها موحدة قال فإن كان محفوظًا فهو من قولهم حربه يحربه إذا أخذ ماله وتركه بلا شيء ورجل محروب أي مسلوب المال‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏ولا يؤتمنون‏)‏ من الأمانة أي لا يثق الناس بهم لخيانتهم‏.‏ وقال النووي‏:‏ وقع في نسخ مسلم‏:‏ ‏(‏ولا يتمنون‏)‏ بتشديد الفوقية‏.‏ قال غيره‏:‏ هو نظير قوله‏:‏ ‏(‏يتزر‏)‏ بالتشديد موضع يأتزر‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏ويظهر فيهم السمن‏)‏ بكسر المهملة وفتح الميم بعدها نون أي يحبون التوسع في المآكل والمشارب وهي أسباب السمن‏.‏ وقال ابن التين‏:‏ المراد ذم محبته وتعاطيه لا من يخلق كذلك‏.‏ وقيل المراد يظهر فيهم كثرة المال‏.‏ وقيل المراد أنهم يتسمنون أي يتكثرون بما ليس فيهم ويدعون ما ليس لهم من الشرف‏.‏ قال في الفتح‏:‏ ويحتمل أن يكون جميع ذلك مرادًا‏.‏

وقد ورد في لفظ من حديث عمران عند الترمذي بلفظ‏:‏ ‏(‏ثم يجيء قوم متسمنون ويحبون السمن‏)‏ قال الحافظ‏:‏ وهو ظاهر في تعاطي السمن على حقيقته فهو أولى ما حمل عليه خبر الباب وإنما كان ذلك مذمومًا لأن السمين غالبًا يكون بليد الفهم ثقيلًا عن العبادة كما هو مشهور‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏ويشهدون ولا يستشهدون‏)‏ يحتمل أن يكون التحمل بدون تحميل أو الأداء بدون طلب‏.‏ قال الحافظ‏:‏ والثاني أقرب وأحاديث الباب متعارضة فحديث زيد بن خالد الجهني يدل على استحباب شهادة الشاهد قبل أن يستشهد‏.‏ وحديث عمران وأبي هريرة يدلان على كراهة ذلك‏.‏

وقد اختلف أهل العلم في ذلك فبعضهم جنح إلى الترجيح فرجح ابن عبد البر حديث زيد بن خالد لكونه من رواية أهل المدينة فقدمه على حديث عمران لكونه من رواية أهل العراق وبالغ فزعم أن حديث عمران المذكور لا أصل له وجنح غيره إلى ترجيح حديث عمران لاتفاق صاحبي الصحيح عليه وانفراد مسلم بإخراج حديث زيد وذهب آخرون إلى الجمع فمنهم من قال أن المراد بحديث زيد من عنده شهادة لإنسان بحق لا يعلم بها صاحبها فيأتي إليه فيخبره بها أو يموت صاحبها العالم بها ويخلف ورثة فيأتي الشاهد إلى ورثته فيعلمهم بذلك قال الحافظ‏:‏ وهذا أحسن الأجوبة وبه أجاب يحيى بن سعيد شيخ مالك ومالك وغيرهما ثانيها أن المراد بحديث زيد شهادة الحسبة وهي ما لا يتعلق بحقوق الآدميين المختصة بهم محضًا ويدخل في الحسبة مما يتعلق بحق اللّه أو فيه شائبة منه العتاق والوقف والوصية العامة والعدة والطلاق والحدود ونحو ذلك ـ وحاصله ـ أن المراد بحديث زيد الشهادة في حقوق اللّه وبحديث عمران وأبي هريرة الشهادة في حقوق الآدميين ثالثها أنه محمول على المبالغة في الإجابة إلى الأداء فيكون لشدة استعداده لها كالذي أداها قبل أن يسئلها وهذه الأجوبة مبنية على أن الأصل في أداء الشهادة عند الحاكم أنه لا يكون إلا بعد الطلب من صاحب الحق فيخص ذم من يشهد قبل أن يستشهد بمن ذكر ممن يخبر بشهادته ولا يعلم بها صاحبها وذهب بعضهم إلى جواز أداء الشهادة قبل السؤال على ظاهر عموم حديث زيد وتأولوا حديث عمران بتأويلات‏:‏ أحدها أنه محمول على شهادة الزور أي يؤدون شهادة لم يسبق لهم تحملها وهذا حكاه الترمذي عن بعض أهل العلم‏.‏ ثانيها المراد بها الشهادة في الحلف يدل عليه ما في البخاري من حديث ابن مسعود بلفظ‏:‏ ‏(‏كانوا يضربوننا على الشهادة‏)‏ أي قول الرجل أشهد باللّه ما كان إلا كذا على معنى الحلف فكره ذلك كما كره الإكثار من الحلف واليمين قد تسمى شهادة كما تقدم وهذا جواب الطحاوي‏.‏ ثالثها المراد بها الشهادة على المغيب من أمر الناس فيشهد على قوم أنهم في النار وعلى قوم أنهم في الجنة بغير دليل كما يصنع ذلك أهل الأهواء حكاه الخطابي‏.‏ رابعها المراد به من ينتصب شاهدًا وليس من أهل الشهادة‏.‏ خامسها المراد به التسارع إلى الشهادة وصاحبها بها عالم من قبل أن يسأله ـ والحاصل ـ أن الجمع مهما أمكن فهو مقدم على الترجيح فلا يصار إلى الترجيح في أحاديث الباب وقد أمكن الجمع بهذه الأمور‏.‏

 باب التشديد في شهادة الزور

1 - عن أنس قال‏:‏ ‏(‏ذكر رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم الكبائر أو سئل عن الكبائر فقال‏:‏ الشرك باللّه وقتل النفس وعقوق الوالدين وقال‏:‏ ألا أنبئكم بأكبر الكبائر قول الزور أو قال شهادة الزور‏)‏‏.‏

2 - وعن أبي بكرة قال‏:‏ ‏(‏قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم‏:‏ ألا أنبئكم بأكبر الكبائر قلنا‏:‏ بلى يا رسول اللّه قال‏:‏ الإشراك باللّه وعقوق الوالدين وكان متكئًا فجلس وقال‏:‏ ألا وقول الزور وشهادة الزور فما زال يكررها حتى قلنا ليته سكت‏)‏‏.‏

متفق عليهما‏.‏

3 - وعن ابن عمر قال‏:‏ ‏(‏قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم‏:‏ لن تزول قدم شاهد الزور حتى يوجب اللّه له النار‏)‏‏.‏

رواه ابن ماجه‏.‏

حديث ابن عمر انفرد ابن ماجه بإخراجه كما في الجامع وغيره وسياق إسناده في سنن ابن ماجه هكذا حدثنا سويد بن سعيد حدثنا محمد بن الفرات عن محارب بن دثار عن ابن عمر فذكره ومحمد بن الفرات هو كوفي كذبه أحمد وقال في التقريب كذبوه‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏ذكر الكبائر أو سئل عنها‏)‏ هذه رواية محمد بن جعفر ورواية في البخاري سئل عن الكبائر‏.‏ ورواية أحمد أو ذكرها قال في الفتح‏:‏ وكأن المراد بالكبائر أكبرها لما في حديث أبي بكرة المذكور وليس القصد حصر الكبائر فيما ذكر وقد ذكر اللّه الثلاث المذكورة في الحديث في آيتين الأولى ‏{‏وقضى ربك أن لا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانًا‏}‏ والثانية ‏{‏فاجتنبوا الرجس من الأوثان واجتنبوا قول الزور‏}‏‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وكان متكئًا فجلس‏)‏ هذا يشعر باهتمامه صلى اللّه عليه وآله وسلم بذلك حتى جلس بعد أن كان متكئًا ويفيد ذلك تأكيد تحريمه وعظيم قبحه وسبب الاهتمام بشهادة الزور كونها أسهل وقوعًا على الناس والتهاون بها أكثر فإن الإشراك ينبو عنه قلب المسلم والعقوق يصرف عنه الطبع وأما الزور فالحوامل عليه كثيرة كالعداوة والحسد وغيرهما فاحتيج إلى الاهتمام به وليس ذلك لعظمه بالنسبة إلى ما ذكر معه من الإشراك قطعًا بل لكون مفسدته متعدية إلى الغير بخلاف الإشراك فإن مفسدته مقصورة عليه غالبًا وقول الزور أعم من شهادة الزور لأنه يشمل كل زور من شهادة أو غيبة أو بهت أو كذب ولذا قال ابن دقيق العيد يحتمل أن يكون من الخاص بعد العام لكن ينبغي أن يحمل على التوكيد فإنا لو حملنا القول على الإطلاق لزم أن تكون الكذبة الواحدة كبيرة وليس كذلك قال‏:‏ ولا شك في عظم الكذب ومراتبه متفاوتة بحسب تفاوت مفاسده ومنه قوله تعالى ‏{‏ومن يكسب خطيئة أو إثمًا ثم يرم به بريئًا فقد احتمل بهتانًا وإثمًا مبينًا‏}‏‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏حتى قلنا ليته سكت‏)‏ أي شفقة عليه وكراهية لما يزعجه وفيه ما كانوا عليه من كثرة الأدب معه صلى اللّه عليه وآله وسلم والمحبة له والشفقة عليه‏.‏

ـ وفي الحديث ـ انقسام الذنوب إلى كبير وأكبر وليس هذا موضع بسط الكلام على الكبائر وستأتي إشارة إلى طرف من ذلك في باب التشديد في اليمين الكاذبة ويؤخذ من الحديث ثبوت الصغائر لأن الكبائر بالنسبة إليها أكبر منها والاختلاف في ثبوت الصغائر مشهور وأكثر ما تمسك به من قال ليس في الذنوب صغيرة كونه نظر إلى عظم المخالفة لأمر اللّه ونهيه فالمخالفة بالنسبة إلى جلال اللّه كبيرة لكن لمن أثبت الصغائر أن يقول وهي بالنسبة إلى ما فوقها صغيرة كما دل عليه حديث الباب وقد فهم الفرق بين الصغيرة والكبيرة من مدارك الشرع ويدل على ثبوت الصغائر قوله تعالى ‏{‏إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم‏}‏ فلا ريب أن السيئات المكفرة ههنا هي غير الكبائر المجتنبة لأنه لا يكفر إلا ذنب قد فعله المذنب لا ما كان مجتنبًا من الذنوب فإنه لا معنى لتكفيره والكبائر المرادة في الآية مجتنبة فالسيئات المكفرة غيرها وليست إلا الصغائر لأنها المقابلة لها وكذلك يؤيد ثبوت الصغائر حديث تكفير الذنوب الوارد في الصلاة والوضوء مقيدًا باجتناب الكبائر فثبت أن من الذنوب ما يكفر بالطاعات ومنها ما لا يكفر وذلك عين المدعى‏.‏ ولهذا قال الغزالي إنكار الفرق بين الكبيرة والصغيرة لا يليق بالفقيه‏.‏ ثم إن مراتب الصغائر والكبائر تختلف بحسب تفاوت مفاسدها‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏حتى يوجب اللّه له النار‏)‏ في هذا وعيد شديد لشاهد الزور حيث أوجب اللّه له النار قبل أن ينتقل من مكانه‏.‏ ولعل ذلك مع عدم التوبة‏.‏ أما لو تاب وأكذب نفسه قبل العمل بشهادته فاللّه يقبل التوبة عن عباده‏.‏

 باب تعارض البينتين والدعوتين

1 - عن أبي موسى‏:‏ ‏(‏أن رجلين ادعيا بعيرًا على عهد رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم فبعث كل واحد منهما بشاهدين فقسمه النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم بينهما نصفين‏)‏‏.‏

رواه أبو داود‏.‏

2 - وعن أبي موسى‏:‏ ‏(‏أن رجلين اختصما إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم في دابة ليست لواحد منهما بينة فجعلها بينهما نصفين‏)‏‏.‏

رواه الخمسة إلا الترمذي‏.‏

3 - وعن أبي هريرة‏:‏ ‏(‏أن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم عرض على قوم اليمين فأسرعوا فأمر أن يسهم بينهم في اليمين أيهم يحلف‏)‏‏.‏

رواه البخاري‏.‏

وفي رواية‏:‏ ‏(‏أن رجلين تدارآ في دابة ليست لواحد منهما بينة فأمرهما رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم أن يستهما على اليمين أحبا أو كرها‏)‏ رواه أحمد وأبو داود وابن ماجه‏.‏

وفي رواية‏:‏ ‏(‏تدارآ في بيع‏)‏‏.‏

وفي رواية‏:‏ ‏(‏أن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم قال‏:‏ إذا كره الاثنان اليمين أو استحباها فليستهما عليها‏)‏ رواه أحمد وأبو داود‏.‏

حديث أبي موسى أخرجه أيضًا الحاكم والبيهقي وذكر الاختلاف فيه على قتادة وقال هو معلول فقد رواه حماد بن سلمة عن قتادة عن النضر بن أنس عن بشير بن نهيك عن أبي هريرة‏.‏ ومن هذا الوجه أخرجه ابن حبان في صحيحه واختلف فيه على سعيد بن أبي عروبة فقيل عنه عن قتادة عن سعيد بن أبي بردة عن أبيه عن أبي موسى‏.‏ وقيل عنه عن سماك بن حرب عن تميم بن طرفة قال‏:‏ ‏(‏أنبئت أن رجلين‏)‏ قال البخاري‏:‏ قال سماك بن حرب أنا حدثت بردة بهذا الحديث‏.‏ فعلى هذا لم يسمع أبو بردة هذا الحديث من أبيه ورواه أبو كامل عن أبيه‏.‏ ورواه أبو كامل مطهر بن مدرك عن حماد عن قتادة عن النضر بن أنس عن أبي بردة مرسلًا‏.‏

قال حماد‏:‏ فحدثت به سماك بن حرب فقال أنا حدثت به أبا بردة‏.‏

وقال الدارقطني والبيهقي والخطيب‏:‏ الصحيح أنه عن سماك مرسلًا‏.‏ ورواه ابن أبي شيبة عن أبي الأحوص عن سماك عن تميم بن طرفة‏:‏ ‏(‏أن رجلين ادعيا بعيرًا فأقام كل واحد منهما بينة أنه له فقضى به صلى اللّه عليه وآله وسلم بينهما‏)‏ ووصله الطبراني بذكر جابر بن سمرة فيه بإسنادين في أحدهما حجاج بن أرطأة والراوي عنه سويد بن عبد العزيز‏.‏ وفي الآخر ياسين الزيات والثلاثة ضعفاء كذا قال الحافظ قال المنذري في مختصر السنن حاكيًا عن النسائي أنه قال هذا خطأ‏.‏ ومحمد بن كثير المصيصي هو صدوق إلا أنه كثير الخطأ‏.‏ وذكر أنه خولف في إسناده ومتنه‏.‏

قال المنذري‏:‏ ولم يخرجه أبو داود من حديث محمد بن كثير وإنما أخرجه بإسناد كلهم ثقات انتهى‏.‏ وقد ذكر أبو داود لحديث أبي موسى ثلاثة أسانيد ليس في واحد منها محمد بن كثير‏.‏ وحديث أبي هريرة أخرج الرواية الثانية عنه النسائي أيضًا‏.‏ والرواية الثالثة عزاها المنذري إلى البخاري‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏فقسمه النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم بينهما نصفين‏)‏ فيه أنه لو تنازع رجلان في عين دابة أو غيرها فادعى كل واحد منهما أنها ملكه دون صاحبه ولم يكن بينهما بينة وكانت العين في يديهما فكل واحد مدع في نصف ومدعى عليه في نصف أو أقاما البينة كل واحد على دعواه تساقطتا وصارتا كالعدم وحكم به الحاكم نصفين بينهما لاستوائهما في اليد‏.‏ وكذا إذا لم يقيما بينة كما في الرواية الثانية‏.‏ وكذا إذا حلفا أو نكلا‏.‏

قال ابن رسلان‏:‏ يحتمل أن تكون القصة في حديث أبي موسى الأول والثاني واحدة إلا أن البينتين لما تعارضتا تساقطتا وصارتا كالعدم‏.‏ ويحتمل أن يكون أحدهما في عين كانت في يديهما‏.‏ والآخر كانت العين في يد ثالث لا يدعيها بدليل ما وقع في رواية للنسائي‏:‏ ‏(‏ادعيا دابة وجداها عند رجل فأقام كل منهما شاهدين فلما أقام كل واحد منهما شاهدين نزعت من يد الثالث ودفعت إليهما‏)‏ قال‏:‏ وهذا أظهر لأن حمل الإسنادين على معنيين متعددين أرجح من حملهما على معنى واحد لأن القاعدة ترجيح ما فيه زيادة علم على غيره‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏أحبا أو كرها‏)‏ قال الخطابي‏:‏ الإكراه هنا لا يراد به حقيقته لأن الإنسان لا يكره على اليمين وإنما المعنى إذا توجهت اليمين على اثنين وأرادا الحلف سواء كانا كارهين لذلك بقلبهما وهو معنى الإكراه أو مختارين لذلك بقلبهما وهو معنى المحبة وتنازعا أيهما يبدأ فلا يقدم أحدهما على الآخر بالتشهي بل بالقرعة وهو المراد بقوله فليستهما أي فليقترعا وقيل صورة الاشتراك في اليمين أن يتنازع اثنان عينًا ليست في يد أحدهما ولا بينة لواحد منهما فيقرع بينهما فمن خرجت له القرعة حلف واستحقها ويدل على ذلك الرواية الثانية من حديث أبي هريرة ويحتمل أن تكون قصة أخرى فيكون القوم المذكورون مدعى عليهم بعين في أيديهم مثلًا وأنكروا ولا بينة للمدعى عليهم فتوجهت عليهم اليمين فسارعوا إلى الحلف والحلف لا يقع معتبرًا إلا بتلقين المحلف فقطع النزاع بينهم بالقرعة فمن خرجت له بدئ به‏.‏ وقال البيهقي في بيان معنى الحديث‏:‏ إن القرعة في أيهما تقدم عند إرادة تحليف القاضي لهما وذلك أنه يحلف واحد ثم يحلف الآخر فإن لم يحلف الثاني بعد حلف الأول قضى بالعين كلها للحالف أولًا وإن حلف الثاني فقد استويا في اليمين فتكون العين بينهما كما كانت قبل أن يحلفا وهذا يشهد له الرواية الثالثة في حديث أبي هريرة المذكورة في الباب وقد حمل ابن الأثير في جامع الأصول الحديث على الاقتراع في المقسوم بعد القسمة وهو بعيد ويرده الرواية الثالثة فإنها بلفظ فليستهما عليها أي على اليمين‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏فليستهما عليها‏)‏ وجه القرعة أنه إذا تساوى الخصمان فترجيح أحدهما بدون مرجح لا يسوغ فلم يبق إلا المصير إلى ما فيه التسوية بين الخصمين وهو القرعة وهذا نوع من التسوية المأمور بها بين الخصوم وقد طول أئمة الفقه الكلام على قسمة الشيء المتنازع فيه بين متنازعيه إذا كان في يد كل واحد منهم أو في يد غيرهم مقر به لهم وأما إذا كان في يد أحدهما فالقول قوله واليمين عليه والبينة على خصمه وأما القرعة في تقديم أحدهما في الحلف فالذي في فروع الشافعية أن الحاكم يعين لليمين منهما من شاء على ما يراه‏.‏ قال البرماوي‏:‏ لكن الذي ينبغي العمل به هو القرعة للحديث وقد قدمنا في كتاب الصلح في العمل بالقرعة كلامًا مفيدًا‏.‏

 باب استحلاف المنكر إذا لم تكن بينة وأنه ليس للمدعي الجمع بينهما

1 - عن الأشعث بن قيس قال‏:‏ ‏(‏كان بيني وبين رجل خصومة في بئر فاختصمنا إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم فقال‏:‏ شاهداك أو يمينه فقلت‏:‏ إنه إذًا يحلف ولا يبالي فقال‏:‏ من حلف على يمين يقتطع بها مال امرئ مسلم هو فيها فاجر لقي اللّه وهو عليه غضبان‏)‏‏.‏

متفق عليه‏.‏

واحتج به من لم ير الشاهد واليمين ومن رأى العهد يمينًا‏.‏

وفي لفظ‏:‏ ‏(‏خاصمت ابن عم لي إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم في بئر كانت لي في يده فجحدني فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم‏:‏ بينتك أنها بئرك وإلا فيمينه قلت‏:‏ ما لي بينة وإن يجعلها يمينه تذهب بئري إن خصمي امرؤ فاجر فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم‏:‏ من اقتطع مال امرئ مسلم بغير حق لقي اللّه وهو عليه غضبان‏)‏ رواه أحمد‏.‏

2 - وعن وائل بن حجر قال‏:‏ ‏(‏جاء رجل من حضرموت ورجل من كندة إلى النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم فقال الحضرمي‏:‏ يا رسول اللّه إن هذا قد غلبني على أرض كانت لأبي قال الكندي‏:‏ هي أرضي في يدي أزرعها ليس له فيها حق فقال النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم للحضرمي‏:‏ ألك بينة قال‏:‏ لا قال‏:‏ فلك يمينه فقال‏:‏ يا رسول اللّه الرجل فاجر لا يبالي على ما حلف عليه وليس يتورع من شيء قال‏:‏ ليس لك منه إلا ذلك فانطلق ليحلف فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم لما أدبر الرجل‏:‏ أما لئن حلف على ماله ليأكله ظلمًا ليلقين اللّه وهو عنه معرض‏)‏‏.‏

رواه مسلم والترمذي وصححه وهو حجة على عدم الملازمة والتكفيل وعدم رد اليمين‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏كان بيني وبين رجل خصومة‏)‏ قد تقدم في كتاب الغصب أن الأشعث بن قيس قال إن رجلًا من كندة ورجلًا من حضرموت اختصما إلى النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم وهكذا وقع في رواية أبي داود وذلك يقتضي أن الخصومة بين رجلين غيره ورواية حديث الباب تقتضي أنه أحد الخصمين ويمكن الجمع بالحمل على تعدد الواقعة فإن في رواية لأبي داود في حديث الأشعث هذا بلفظ‏:‏ ‏(‏كان بيني وبين رجل من اليهود أرض فجحدني فيها‏)‏ ففي هذا تصريح بأن خصمه كان يهوديًا بخلاف ما تقدم في الغصب فإنه قال إن رجلًا من كندة ورجلًا من حضرموت والكندي هو امرؤ القيس بن عابس الصحابي الشاعر والحضرمي هو ربيعة بن عبدان بكسر العين وكذلك حديث وائل المذكور ههنا بأن الخصومة فيه بين الكندي والحضرمي وهما المذكوران في حديث الأشعث المتقدم فلعل الرواية لقصة الكندي والحضرمي من طريق الأشعث ومن طريق وائل‏.‏ وأما المخاصمة بين الأشعث وغريمه فقصة أخرى رواها الأشعث واللّه أعلم‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏في بئر‏)‏ في رواية أبي داود في أرض ولا امتناع أن يكون المجموع صحيحًا فتارة ذكرت الأرض لأن البئر داخلة فيها وتارة ذكرت البئر لأنها المقصودة‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏يقتطع بها مال امرئ مسلم‏)‏ التقييد بالمسلم ليس لإخراج غير المسلم بل كأن تخصيص المسلمين بالذكر لكون الخطاب معهم ويحتمل أن تكون العقوبة العظيمة مختصة بالمسلمين وإن كان أصل العقوبة لازمًا في حق الكفار‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏لقي اللّه وهو عليه غضبان‏)‏ هذا وعيد شديد لأن غضب اللّه سبب لانتقامه وانتقامه بالنار فالغضب منه عز وجل يستلزم دخول المغضوب عليه النار ولهذا وقع عليه في رواية لمسلم‏:‏ ‏(‏من اقتطع حق امرئ مسلم بيمينه فقد أوجب اللّه له النار‏)‏ ولا بد من تقييد ذلك بعدم التوبة وسيأتي بقية الكلام على هذا في باب التشديد في اليمين الكاذبة‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏ليس يتورع من شيء‏)‏ أصل الورع الكف عن الحرام والمضارع بمعنى النكرة في سياق النفي فيعم ويكون التقدير ليس له ورع عن شيء‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏ليس لك منه إلا ذلك‏)‏ في هذا دليل على أنه لا يجب للغريم على غريمه اليمين المردودة ولا يلزمه التكفيل ولا يحل الحكم عليه بالملازمة ولا بالحبس ولكنه قد ورد ما يخصص هذه الأمور من عموم هذا النفي وقد تقدم بعض ذلك ولنذكر ههنا ما ورد في جواز الحبس لمن استحقه فأخرج أبو داود والترمذي والنسائي من حديث بهز بن حكيم عن أبيه عن جده أن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم حبس رجلًا في تهمة قال الترمذي حسن وزاد هو والنسائي ثم خلى عنه وقد تقدم الكلام على حديث بهز بن حكيم عن أبيه عن جده ولكنه قد روى هذا الحديث الحاكم وقال صحيح الإسناد وله شاهد من حديث أبي هريرة ثم أخرجه ولعله ما رواه ابن القاص بسنده عن عراك بن مالك عن أبيه عن جده عن أبي هريرة أن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم حبس في تهمة يومًا وليلة استظهارًا وطلبًا لإظهار الحق بالاعتراف‏.‏

وأخرج أبو داود من حديث بهز بن حكيم عن أبيه عن جده أنه قام إلى النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم فقال جيراني بما أخذوا فأعرض عنه مرتين لكونه كلمه في حال الخطبة ثم ذكر شيئًا فقال النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم‏:‏ خلوا له عن جيرانه فهذا يدل على أنهم كانوا محبوسين ويدل أيضًا على جواز الحبس ما تقدم في باب ملازمة الغريم فإن تسليط ذي الحق عليه وملازمته له نوع من الحبس وكذلك يدل على الجواز حديث‏:‏ ‏(‏مطل الغني ظلم يحل عرضه وعقوبته‏)‏ لأن العقوبة مطلقة والحبس من جملة ما يصدق عليه المطلق وقد تقدم الحديث في كتاب التفليس وحكى أبو داود عن ابن المبارك أنه قال في تفسير الحديث يحل عرضه أي يغلظ عليه وعقوبته يحبس له‏.‏

وروى البيهقي أن عبدًا كان بين رجلين فأعتق أحدهما نصيبه فحبسه النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم حتى باع غنيمة له وفيه انقطاع وقد روي من طريق أخرى عن عبد اللّه بن مسعود مرفوعًا وقد بوب البخاري على ذلك في صحيحه فقال في الأبواب التي قبل كتاب اللقطة ما لفظه باب الربط والحبس في الحرم قال في الفتح‏:‏ كأنه أشار بهذا التبويب إلى رد ما نقل عن طاوس أنه كان يكره السجن بمكة ويقول لا ينبغي لبيت عذاب أن يكون في بيت رحمة‏.‏ وأورد البخاري في الرد عليه أن نافع بن عبد الحارث اشترى دارًا للسجن بمكة وكان نافع عاملًا لعمر على مكة‏.‏

وأخرج عمر بن شبة في كتاب مكة عن محمد بن يحيى بن غسان الكناني عن هشام بن سليمان عن ابن جريج أن نافع بن عبد الحارث الخزاعي كان عاملًا لعمر على مكة فابتاع دار السجن من صفوان فذكر نحو ما ذكره البخاري وزاد في آخره وهو الذي يقال له سجن عارم بمهملتين قال البخاري وسجن ابن الزبير بمكة انتهى‏.‏

ـ والحاصل ـ أن الحبس وقع في زمن النبوة وفي أيام الصحابة والتابعين فمن بعدهم إلى الآن في جميع الأعصار والأمصار من دون إنكار وفيه من المصالح ما لا يخفى لو لم يكن منها إلا حفظ أهل الجرائم المنتهكين للمحارم الذين يسعون في الإضرار بالمسلمين ويعتادون ذلك ويعرف من أخلاقهم ولم يرتكبوا ما يوجب حدًا ولا قصاصًا حتى يقام ذلك عليهم فيراح منهم العباد والبلاد فهؤلاء إن تركوا وخلى بينهم وبين المسلمين بلغوا من الإضرار بهم إلى كل غاية وإن قتلوا كان سفك دمائهم بدون حقها فلم يبق إلا حفظهم في السجن والحيلولة بينهم وبين الناس بذلك حتى تصح منهم التوبة أو يقضي اللّه في شأنهم ما يختاره وقد أمرنا اللّه تعالى بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والقيام بهما في حق من كان كذلك لا يمكن بدون الحيلولة بينه وبين الناس بالحبس كما يعرف ذلك من عرف أحوال كثير من هذا الجنس‏.‏

وقد استدل البخاري على جواز الربط بما وقع منه صلى اللّه عليه وآله وسلم من ربط ثمامة بن أثال بسارية من سواري مسجده الشريف كما في القصة المشهورة في الصحيح‏.‏

 باب استحلاف المدعى عليه في الأموال والدماء وغيرهما

1 - عن ابن عباس‏:‏ ‏(‏أن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم قضى باليمين على المدعى عليه‏)‏‏.‏

متفق عليه‏.‏

وفي رواية‏:‏ ‏(‏أن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم قال‏:‏ لو يعطى الناس بدعواهم لادعى ناس دماء رجال وأموالهم ولكن اليمين على المدعى عليه‏)‏ رواه أحمد ومسلم‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏قضى باليمين على المدعى عليه‏)‏ اختلف الفقهاء في تعريف المدعي والمدعى عليه‏.‏ قال في الفتح‏:‏ والمشهور فيه تعريفان الأول أن المدعي من تخالف دعواه الظاهر والمدعى عليه بخلافه والثاني من إذا سكت ترك وسكوته والمدعى عليه من لا يخلى إذا سكت‏.‏ والأول أشهر والثاني أسلم وقد أورد على الأول بأن المودع إذا ادعى الردأ والتلف فإن دعواه تخالف الظاهر ومع ذلك فالقول قوله‏.‏

ـ واستدل بالحديث ـ على أن اليمين على المدعى عليه وقد ذهب إلى ذلك الجمهور وحملوه على عمومه في حق كل أحد سواء كان بين المدعي والمدعى عليه اختلاط أم لا‏.‏ وعن مالك لا تتوجه اليمين إلا على من بينه وبين المدعي اختلاط لئلا يبتذل أهل السفه أهل الفضل بتحليفهم مرارًا وقريب من مذهب مالك قول الأصطخري من الشافعية أن قرائن الحال إذا شهدت بكذب المدعي لم يلتفت إلى دعواه‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏لو يعطى الناس‏)‏ الخ هذا هو وجه الحكمة في جعل اليمين على المدعى عليه وقال جماعة من أهل العلم الحكمة في ذلك جانب المدعي ضعيف لأنه يقول بخلاف الظاهر فكلف الحجة القوية وهي البينة لأنها لا تجلب لنفسها نفعًا ولا تدفع عنها ضررًا فيقوى بها ضعف المدعي وأما جانب المدعى عليه فهو قوي لأن الأصل فراغ ذمته فاكتفى فيه باليمين وهي حجة ضعيفة لأن الحالف يجلب لنفسه النفع ويدفع عنها الضرر فكان ذلك في غاية الحكمة‏.‏

وقد أخرج الحديث البيهقي بإسناد صحيح كما قال الحافظ بلفظ البينة على المدعي واليمين على من أنكر‏.‏ وزعم الأصيلي أن قوله البينة الخ إدراج في الحديث‏.‏ وأخرج ابن حبان عن ابن عمر نحوه‏.‏ وأخرج الترمذي عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده نحوه‏.‏ وأخرجه أيضًا الدارقطني بإسناد فيه مسلم بن خالد الزنجي وهو ضعيف‏.‏

وظاهر أحاديث الباب أن اليمين على المنكر والبينة على المدعي ومن كانت اليمين عليه فالقول قوله مع يمينه ولكنه ورد ما يدل على أنه إذا اختلف البيعان فالقول قول البائع فأخرج أبو داود والنسائي من حديث الأشعث سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم يقول‏:‏ إذا اختلف البيعان ليس بينهما بينة فهو ما يقول رب السلعة أو يتتاركان‏.‏ وأخرجه أيضًا الترمذي وابن ماجه من حديث عون بن عبد اللّه بن عتبة بن مسعود عن ابن مسعود قال الترمذي هذا مرسل عون بن عبد اللّه لم يدرك ابن مسعود انتهى‏.‏

قال المنذري‏:‏ في إسناده محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى ولا يحتج به وعبد الرحمن لم يسمع من أبيه فهو منقطع وقد روي هذا الحديث من طرق عن عبد اللّه بن مسعود كلها لا تصح قال البيهقي‏:‏ وأصح إسناد روي في هذا الباب رواية أبي العميس عن عبد الرحمن بن قيس بن محمد بن الأشعث عن أبيه عن جده وقد تقدم الكلام على هذا الحديث في كتاب البيوع في باب ما جاء في اختلاف المتبايعين بما هو أبسط من هذا وبين أحاديث الباب وهذه الأحاديث عموم وخصوص من وجه فظاهر أحاديث الباب أن اليمين على المدعى عليه فيكون القول قوله من غير فرق بين كونه بائعًا أم لا ما لم يكن مدعيًا فإن كان كذلك فعليه البينة فلا يكون القول قوله‏.‏

وظاهر الأحاديث المتقدمة في كتاب البيع أن القول قول البائع وذلك يستلزم أنه لا بينة عليه بل عليه اليمين فقط سواء كان مدعيًا أو مدعى عليه وقد وقع التصريح باستحلاف البائع كما تقدم في رواية في البيع فمادة التعارض حيث كان البائع مدعيًا والواجب في مثل ذلك الرجوع إلى الترجيح وأحاديث الباب أرجح فيكون القول ما يقوله البائع ما لم يكن مدعيًا ـ فإن قيل ـ الجمع ممكن يجعل الأحاديث الواردة في المتبايعين مخصصة لعموم أحاديث الباب فيبنى العام على الخاص ويكون القول قول البائع مطلقًا سواء كان مدعيًا أو مدعى عليه إذا كان التنازع بينه وبين المشتري وما عدا البائع فإن كان مدعيًا فعليه البينة وإن كان مدعى عليه فالقول قوله مع يمينه قلت‏:‏ هذا متوقف على أمرين أحدهما أن أحاديث الباب أعم مطلقًا من أحاديث اختلاف المتبايعين والثاني أن أحاديث اختلاف البيعين صالحة للاحتجاج بها منتهضة لتخصيص أحاديث الباب وفي كلا الأمرين نظر أما الأول فلأن التخصيص إنما يكون بإخراج فرد من العام عن الأمر المحكوم به عليه والعام ههنا هو المدعى عليه والمحكوم به عليه هو وجوب اليمين عليه‏.‏ وحديث اختلاف البيعين له صورتان إحداهما أن يكون البائع مدعى عليه والثانية أن يكون مدعيًا والأولى موافقة للعام داخلة تحت حكمه غير مستثناة منه والثانية مخالفة للعام لأن العام هو باعتبار المدعى عليه وهذا مدع لا مدعى عليه فهو مخالف له فلا يصح أن يقال بأنه مخصص له وإن كان التخصيص بالنسبة إلى عموم الأحاديث الدالة على وجوب البينة على المدعي‏.‏ ووجه التخصيص أن يقال هذا مدع ولم تجب عليه البينة فهذا مستقيم وإن لم يدعه القائل بالتخصيص ولكن حديث فالقول ما يقول البائع مع قوله في بعض ألفاظ الحديث كما تقدم في البيع أن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم أمر بالبائع أن يستحلف هو أعم من الأحاديث القاضية بوجوب البينة على المدعي من وجه لشموله لصورة أخرى وهي حيث كان البائع مدعى عليه فالأظهر العموم والخصوص من وجه لا مطلقًا وأما الثاني فقد عرفت عدم انتهاض الأحاديث المذكورة للتخصيص لما فيها من المقال‏.‏

 باب التشديد في اليمين الكاذبة

1 - عن أبي أمامة الحارثي‏:‏ ‏(‏أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم قال‏:‏ من اقتطع حق امرئ مسلم بيمينه فقد أوجب اللّه له النار وحرم عليه الجنة فقال رجل‏:‏ وإن كان شيئًا يسيرًا قال‏:‏ وإن كان قضيبًا من أراك‏)‏‏.‏

رواه أحمد ومسلم وابن ماجه والنسائي‏.‏

2 - وعن عبد اللّه بن عمرو‏:‏ ‏(‏عن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم قال‏:‏ الكبائر الإشراك باللّه وعقوق الوالدين وقتل النفس واليمين الغموس‏)‏‏.‏

رواه أحمد والبخاري والنسائي‏.‏

3 - وعن عبد اللّه بن أنيس الجهني قال‏:‏ ‏(‏قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم‏:‏ إن من الكبائر الشرك باللّه وعقوق الوالدين واليمين الغموس وما حلف حالف باللّه يمين صبر فأدخل فيها مثل جناح بعوضة إلا جعله اللّه نكتة في قلبه إلى يوم القيامة‏)‏‏.‏

رواه أحمد والترمذي‏.‏

حديث عبد اللّه بن أنيس أخرجه أيضًا الحاكم وابن حبان وحسن الحافظ في الفتح إسناده وقال له شاهد من حديث عبد اللّه بن عمر‏.‏ وأخرجه ابن أبي حاتم بإسناد حسن‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وإن كان قضيبًا من أراك‏)‏ هذا مبالغة في القلة وإن استحقاق النار يكون بمجرد اليمين في اقتطاع الحق وإن كان شيئًا يسيرًا لا قيمة له‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏الكبائر‏)‏ الخ قد اختلف السلف في انقسام الذنوب إلى صغيرة وكبيرة فذهب إلى ذلك الجمهور ومنعه جماعة منهم الإسفرايني ونقله ابن عباس وحكاه القاضي عياض عن المحققين ونسبه ابن بطال إلى الأشعرية وقد تقدم قريبًا وجه القولين وبيان الراجح منهما‏.‏

قال الطيبي‏:‏ الكبيرة والصغيرة أمران نسبيان فلا بد من أمر يضافان إليه وهو أحد ثلاثة أشياء الطاعة والمعصية والثواب‏.‏ فأما الطاعة فكل ما تكفره الصلاة مثلًا فهو من الصغائر‏.‏ وأما المعصية فكل معصية يستحق فاعلها بسببها وعيدًا أو عقابًا أزيد من الوعيد أو العقاب المستحق بسبب معصية أخرى فهي كبيرة‏.‏ وأما الثواب ففاعل المعصية إن كان من المقربين فالصغيرة بالنسبة إليه كبيرة فقد وقعت المعاتبة في حق بعض الأنبياء على أمور لم تعد من غيرهم معصية انتهى‏.‏

قال الحافظ‏:‏ وكلامه فيما يتعلق بالوعيد والعقاب تخصيص عموم من أطلق أن علامة الكبيرة ورود الوعيد أو العقاب في حق فاعلها لكن يلزم منه أن مطلق قتل النفس مثلًا ليس كبيرة وإن ورد الوعيد فيه والعقاب لكن ورد الوعيد والعقاب في حق قاتل ولده أشد‏.‏ فالصواب ما قاله الجمهور وأن المثال المذكور وما أشبهه ينقسم إلى كبير وأكبر‏.‏

قال النووي‏:‏ واختلفوا في ضبط الكبيرة اختلافًا كثيرًا منتشرًا فروي عن ابن عباس أنها كل ذنب ختمه اللّه بنار أو غضب أو لعنة أو عذاب‏.‏ قال‏:‏ وجاء نحو هذا عن الحسن البصري‏.‏ وقال آخرون‏:‏ هي ما أوعد اللّه عليه بنار في الآخرة أو أوجب فيه جزاء في الدنيا ـ قلت ـ وممن نص على هذا الأخير الإمام أحمد فيما نقله القاضي أبو يعلى‏.‏ ومن الشافعية الماوردي ولفظه الكبيرة ما أوجبت فيها الحدود أو توجه إليها الوعيد‏.‏ والمنقول عن ابن عباس أخرجه ابن أبي حاتم بسند لا بأس به إلا أن فيه انقطاعًا‏.‏

وأخرج من وجه آخر متصل لا بأس برجاله أيضًا عن ابن عباس قال ما توعد اللّه عليه بالنار كبيرة‏.‏

وقد ضبط كثير من الشافعية الكبائر بضوابط أخر منها قول إمام الحرمين‏:‏ كل جريمة تؤذن بقلة اكتراث مرتكبها بالدين ورقة الديانة‏.‏ وقال الحليمي‏:‏ كل محرم لعينه منهي عنه لمعنى في نفسه‏.‏ وقال الرافعي‏:‏ هي ما أوجب الحد‏.‏ وقيل ما يلحق الوعيد بصاحبه بنص كتاب أو سنة هذا أكثر ما يوجد للأصحاب وهم إلى ترجيح الأول أميل لكن الثاني أوفق لما ذكروه عند تفصيل الكبائر انتهى‏.‏

وقد استشكل بأن كثيرًا مما وردت النصوص بكونه كبيرة لا حد فيه كالعقوق‏.‏ وأجيب بأن مراد قائله ضبط ما لم يرد فيه نص بكونه كبيرة‏.‏

وقال ابن عبد السلام في القواعد‏:‏ لم أقف لأحد من العلماء على ضابط للكبيرة لا يسلم من الاعتراض والأولى ضبطها بما يشعر بتهاون مرتكبها بذنبه إشعارًا دون الكبائر المنصوص عليها‏.‏ قال الحافظ‏:‏ وهو ضابط جيد‏.‏

وقال القرطبي في المفهم‏:‏ الراجح أن كل ذنب نص على كبره أو عظمه أو توعد عليه بالعقاب أو علق عليه حد أو اشتد النكير عليه فهو كبيرة‏.‏ وكلام ابن الصلاح يوافق ما نقل أولًا عن ابن عباس وزاد إيجاب الحد وعلى هذا يكثر عدد الكبائر‏.‏ وهذا الكلام في غير ما قد ورد النص الصريح فيه أنه كبيرة أو من الكبائر أو أكبر الكبائر‏.‏ وقال الواحدي‏:‏ ما لم ينص الشارع على كونه كبيرة فالحكمة في إخفائه أن يمتنع العبد من الوقوع فيه خشية أن يكون كبيرة كإخفاء ليلة القدر وساعة الجمعة والاسم الأعظم‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏يمين صبر‏)‏ أي ألزم بها وحبس عليها وكانت لازمة لصاحبها من جهة الحكم وإنما أطلق الصبر عليها وإن كان صاحبها هو المصبور لأنه إنما صبر من أجلها أي حبس فوصفت بالصبر وأضيفت إليه مجازًا كذا في النهاية والنكتة الأثر‏.‏