فصل: باب الحاكم يشفع للخصم ويستوضع له

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: نيل الأوطار شرح منتقى الأخبار **


 باب تعليق الولاية بالشرط

1 - عن ابن عمر قال‏:‏ ‏(‏أمر رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم في غزوة موتة زيد بن حارثة وقال‏:‏ إن قتل زيد فجعفر وإن قتل جعفر فعبد اللّه بن رواحة‏)‏‏.‏

رواه البخاري‏.‏ ولأحمد من حديث أبي قتادة وعبد اللّه بن جعفر نحوه‏.‏

حديث ابن عمر هو طرف من حديث طويل في ذكر غزوة موتة وكذلك حديث أبي قتادة وعبد اللّه بن جعفر هما في وصف الغزوة المذكورة وقد اشتمل على جميع ذلك كتب الحديث والسير فلا نطول بذكره‏.‏

وقد استدل المصنف رحمه اللّه بالحديث على جواز تعليق الولايات بالشرط المستقبل كما في ولاية جعفر فإنها مشروطة بقتل زيد وكذلك ولاية عبد اللّه بن رواحة فإنها مشروطة بقتل جعفر ولا أعرف الآن دليلًا يدل على المنع من تعليق الولاية بالشرط فلعل خلاف من خالف في ذلك مستند إلى قاعدة فقهية كما يقع ذلك في كثير من المسائل‏.‏

 باب نهي الحاكم عن الرشوة واتخاذ حاجب لبابه في مجلس حكمه

1 - عن أبي هريرة قال‏:‏ ‏(‏قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم‏:‏ لعنة اللّه على الراشي والمرتشي في الحكم‏)‏‏.‏

رواه أحمد وأبو داود والترمذي‏.‏

2 - وعن عبد اللّه بن عمرو قال‏:‏ ‏(‏قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم‏:‏ لعنة اللّه على الراشي والمرتشي‏)‏‏.‏

رواه الخمسة إلا النسائي وصححه الترمذي‏.‏

3 - وعن ثوبان قال‏:‏ ‏(‏لعن رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم الراشي والمرتشي والرائش‏)‏ يعني الذي يمشي بينهما‏.‏

رواه أحمد‏.‏

4 - وعن عمرو بن مرة قال‏:‏ ‏(‏سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم يقول‏:‏ ما من إمام أو وال يغلق بابه دون ذوي الحاجة والخلة والمسكنة إلا غلق اللّه أبواب السماء دون خلته وحاجته ومسكنته‏)‏‏.‏

رواه أحمد والترمذي‏.‏

حديث أبي هريرة أخرجه أيضًا ابن حبان وصححه وحسنه الترمذي وقد عزاه الحافظ في بلوغ المرام إلى أحمد والأربعة وهو وهم فإنه ليس في سنن أبي داود غير حديث ابن عمرو المذكور ووهم أيضًا بعض الشراح فقال إن أبا داود زاد في روايته لحديث ابن عمرو لفظ في الحكم وليست تلك الزيادة عند أبي داود بل لفظه‏:‏ لعن رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم الراشي والمرتشي‏.‏ قال ابن رسلان في شرح السنن‏:‏ وزاد الترمذي والطبراني بإسناد جيد في الحكم‏.‏

وحديث ابن عمرو أخرجه أيضًا ابن حبان والطبراني والدارقطني قال الترمذي‏:‏ وقواه الدارمي اهـ‏.‏ وإسناده لا مطعن فيه فإن أبا داود قال حدثنا أحمد بن يونس يعني اليربوعي حدثنا ابن أبي ذئب عن الحارث بن عبد الرحمن يعني القرشي العامري خال ابن أبي ذئب ذكره ابن حبان في الثقات عن أبي سلمة يعني ابن عبد الرحمن عن عبد اللّه بن عمرو بن العاص‏.‏

وحديث ثوبان أخرجه أيضًا الحاكم وفي إسناده ليث ابن أبي سليم قال البزار‏:‏ إنه تفرد به‏.‏ وقال في مجمع الزوائد‏:‏ إنه أخرجه أحمد والبزار والطبراني في الكبير وفي إسناده أبو الخطاب وهو مجهول اهـ‏.‏ وفي الباب عن عبد الرحمن بن عوف عند الحاكم وعن عائشة وأم سلمة أشار إليهما الترمذي قال في التلخيص‏:‏ ينظر من خرجهما‏.‏

وحديث عمرو بن مرة أخرجه أيضًا الحاكم والبزار وفي الباب عن أبي مريم الأزدي مرفوعًا أخرجه أبو داود والترمذي بلفظ‏:‏ ‏(‏من تولى شيئًا من أمر المسلمين فاحتجب عن حاجتهم وفقيرهم احتجب اللّه دون حاجته‏)‏ قال الحافظ في الفتح‏:‏ إن سنده جيد‏.‏ وعن ابن عباس عند الطبراني في الكبير بلفظ‏:‏ ‏(‏أيما أمير احتجب عن الناس فأهمهم احتجب اللّه عنه يوم القيامة‏)‏ قال ابن أبي حاتم‏:‏ هو حديث منكر‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏على الراشي‏)‏ هو دافع الرشوة والمرتشي القابض لها والرائش هو ما ذكره في الرواية التي في الباب‏.‏ قال ابن رسلان‏:‏ ويدخل في إطلاق الرشوة الرشوة للحاكم والعامل على أخذ الصدقات وهي حرام بالإجماع اهـ‏.‏

قال الإمام المهدي في البحر في كتاب الإجارات منه‏:‏ مسألة وتحرم رشوة الحاكم إجماعًا لقوله صلى اللّه عليه وآله وسلم‏:‏ ‏(‏لعن اللّه الراشي والمرتشي‏)‏ قال الإمام يحيى‏:‏ ويفسق للوعيد‏.‏ والراشي إن طلب باطلًا عمه الخبر‏.‏ قال المنصور باللّه وأبو جعفر وبعض أصحاب الشافعي‏:‏ وإن طلب بذلك حقًا مجمعًا عليه جاز‏.‏ قيل وظاهر المذهب المنع لعموم الخبر وإن كان مختلفًا فيه فكالباطل إذ لا تأثير لحكمه اهـ قلت والتخصيص لطالب الحق بجواز تسليم الرشوة منه للحاكم لا أدري بأي مخصص فالحق التحريم مطلقًا أخذًا بعموم الحديث ومن زعم الجواز في صورة من الصور فإن جاء بدليل مقبول وإلا كان تخصيصه ردًا عليه فإن الأصل في مال المسلم التحريم ‏{‏ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل‏}‏ ‏(‏لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيبة من نفسه‏)‏ وقد انضم إلى هذا الأصل كون الدافع إنما دفعه لأحد أمرين إما لينال به حكم اللّه إن كان محقًا وذلك لا يحل لأن المدفوع في مقابلة أمر واجب أوجب اللّه عز وجل على الحاكم الصدع به فكيف لا يفعل حتى يأخذ عليه شيئًا من الحطام وإن كان الدفع للمال من صاحبه لينال به خلاف ما شرعه اللّه إن كان مبطلًا فذلك أقبح لأنه مدفوع في مقابلة أمر محظور فهو أشد تحريمًا من المال المدفوع للبغي في مقابلة الزنا بها لأن الرشوة يتوصل بها إلى أكل مال الغير الموجب لإحراج صدره والإضرار به بخلاف المدفوع إلى البغي فالتوصل به إلى شيء محرم وهو الزنا لكنه مستلذ للفاعل والمفعول به وهو أيضًا ذنب بين العبد وربه وهو أسمح الغرماء ليس بين العاصي وبين المغفرة إلا التوبة ما بينه وبين اللّه وبين الأمرين بون بعيد‏.‏ ومن الأدلة الدالة على تحريم الرشوة ما حكاه ابن رسلان في شرح السنن عن الحسن وسعيد بن جبير أنهما فسرا قوله تعالى ‏{‏أكالون للسحت‏}‏ بالرشوة‏.‏

وحكي عن مسروق عن ابن مسعود أنه لما سئل عن السحت أهو الرشوة فقال لا ومن لم يحكم بما أنزل اللّه فأولئك هم الكافرون والظالمون والفاسقون ولكن السحت أن يستعينك الرجل على مظلمته فيهدي لك فإن أهدى لك فلا تقبل‏.‏

وقال أبو وائل شقيق بن سلمة أحد أئمة التابعين‏:‏ القاضي إذا أخذ الهدية فقد أكل السحت وإذا أخذ الرشوة بلغت به الكفر‏.‏ رواه ابن أبي شيبة بإسناد صحيح اهـ‏.‏ ما حكاه ابن رسلان‏.‏ ويدل على المنع من قبول هدية من استعان بها على دفع مظلمته ما أخرجه أبو داود عن أبي أمامة عن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم قال‏:‏ ‏(‏من شفع لأخيه شفاعة فأهدى له هدية عليها فقبلها فقد أتى بابًا عظيمًا من أبواب الربا‏)‏ وفي إسناده القاسم بن عبد الرحمن أبو عبد الرحمن الأموي مولاهم الشامي وفيه مقال‏.‏ ويدل على تحريم قبول مطلق الهدية على الحاكم وغيره من الأمراء حديث هدايا الأمراء غلول أخرجه البيهقي وابن عدي من حديث أبي حميد‏.‏

قال الحافظ‏:‏ وإسناده ضعيف ولعل وجه الضعف أنه من رواية إسماعيل بن عياش عن أهل الحجاز وأخرجه الطبراني في الأوسط من حديث أبي هريرة قال الحافظ‏:‏ وإسناده أشد ضعفًا‏.‏

وأخرجه سنيد بن داود في تفسيره عن عبيدة بن سليمان عن إسماعيل بن مسلم عن الحسن عن جابر وإسماعيل ضعيف وأخرجه الخطيب في تلخيص المتشابه من حديث أنس بلفظ‏:‏ هدايا العمال سحت وقد تقدم في كتاب الزكاة في باب العاملين عليها حديث بريدة عن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم بلفظ‏:‏ من استعملناه على عمل فرزقناه رزقًا فما أخذه بعد ذلك فهو غلول أخرجه أبو داود وقد بوب البخاري في أبواب القضاء باب هدايا العمال وذكر حديث ابن اللتبية المشهور والظاهر أن الهدايا التي تهدى للقضاة ونحوهم هي نوع من الرشوة لأن المهدي إذا لم يكن معتادًا للإهداء إلى القاضي قبل ولايته لا يهدي إليه إلا لغرض وهو إما التقوي به على باطله أو التوصل لهديته له إلى حق والكل حرام كما تقدم وأقل الأحوال أن يكون طالبًا لقربه من الحاكم وتعظيمه ونفوذ كلامه ولا غرض له بذلك إلا الاستطالة على خصومه أو الأمن من مطالبتهم له فيحتشمه من له حق عليه ويخافه ما لا يخافه قبل ذلك وهذه الأغراض كلها تؤل إلى ما آلت إليه الرشوة فليحذر الحاكم المتحفظ لدينه المستعد للوقوف بين يدي ربه من قبول هدايا من أهدى إليه بعد توليه للقضاء فإن للإحسان تأثير في طبع الإنسان والقلوب مجبولة على حب من أحسن إليها فربما مالت نفسه إلى المهدي إليه ميلًا يؤثر الميل عن الحق عند عروض المخاصمة بين المهدي وبين غيره والقاضي لا يشعر بذلك ويظن أنه لم يخرج عن الصواب بسبب ما قد زرعه الإحسان في قلبه والرشوة لا تفعل زيادة على هذا ومن هذه الحيثية امتنعت عن قبول الهدايا بعد دخولي في القضاء ممن كان يهدي إلي قبل الدخول فيه بل من الأقارب فضلًا عن سائر الناس فكان في ذلك من المنافع ما لا يتسع المقام لبسطه أسأل اللّه أن يجعله خالصًا لوجهه‏.‏

وقد ذكر المغربي في شرح بلوغ المرام في شرح حديث الرشوة كلامًا في غاية السقوط فقال ما معناه‏:‏ إنه يجوز أن يرشي من كان يتوصل بالرشوة إلى نيل حق أو دفع باطل وكذلك قال يجوز للمرتشي أن يرشي إذا كان ذلك في حق لا يلزمه فعله وهذا أعم مما قاله المنصور باللّه ومن معه كما تقدمت الحكاية لذلك عنهم لأنهم خصوا الجواز بالراشي وهذا عممه في الراشي والمرتشي وهو تخصيص بدون مخصص ومعارضة لعموم الحديث بمحض الرأي الذي ليس عليه أثارة من علم ولا يغتر بمثل هذا إلا من لا يعرف كيفية الاستدلال والقائل رحمه اللّه كان قاضيًا‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏والخلة‏)‏ في النهاية الخلة بالفتح الحاجة والفقر فيكون العطف على ما قبله من عطف العام على الخاص ـ وفي الحديث ـ دليل على أنه لا يحل احتجاب أولي الأمر عن أهل الحاجات قال الشافعي وجماعة‏:‏ إنه ينبغي للحاكم أن لا يتخذ حاجبًا قال في الفتح‏:‏ وذهب آخرون إلى جوازه وحمل الأول على زمن سكون الناس واجتماعهم على الخير وطواعيتهم للحاكم وقال آخرون‏:‏ بل يستحب الاحتجاب حينئذ لترتيب الخصوم ومنع المستطيل ودفع الشر‏.‏ ونقل ابن التين عن الداودي قال الذي أحدثه القضاة من شدة الاحتجاب وإدخال بطائق من الخصوم لم يكن من فعل السلف اهـ‏.‏ قلت‏:‏ صدق لم يكن من فعل السلف ولكن من لنا بمثل رجال السلف في آخر الزمان فإن الناس اشتغلوا بالخصومة لبعضهم بعضًا فلو لم يحتجب الحاكم لدخل الخصوم وقت طعامه وشرابه وخلوه بأهله وصلاته الواجبة وجميع أوقات ليله ونهاره وهذا مما لم يتعبد اللّه به أحدًا من خلقه ولا جعله في وسع عبد من عباده وقد كان المصطفى صلى اللّه عليه وآله وسلم يحتجب في بعض أوقاته وقد ثبت في الصحيح من حديث أبي موسى أنه كان بوابًا للنبي صلى اللّه عليه وآله وسلم لما جلس على قف البئر في القصة المشهورة وإذا جعل لنفسه بوابًا في ذلك المكان وهو منفرد عن أهله خارج عن بيته فبالأولى اتخاذه في مثل البيت وبين الأهل وقد ثبت أيضًا في الصحيح في قصة حلفه صلى اللّه عليه وآله وسلم أن لا يدخل على نسائه شهرًا أن عمر استأذن له الأسود لما قال له يا رباح استأذن لي فذلك دليل على أنه صلى اللّه عليه وآله وسلم كان يتخذ لنفسه بوابًا ولولا ذلك لاستأذن عمر لنفسه ولم يحتج إلى قوله استأذن لي وقد ورد ما يخالف هذا في الظاهر وهو ما ثبت في الصحيح في قصة المرأة التي وجدها تبكي عند قبر فجاءت إلى بابه فلم تجد عليه بوابًا والجمع ممكن أما أولًا فلأن النساء لا يحجبن عن الدخول في الغالب لأن الأمر الأهم من اتخاذ الحاجب هو منع دخول من يخشى الإنسان من إطلاعه على ما لا يحل الإطلاع عليه وأما ثانيًا فلأن النفي للحاجب في بعض الأوقات لا يستلزم النفي مطلقًا وغاية ذلك أنه لم يكن له صلى اللّه عليه وآله وسلم حاجب راتب‏.‏

قال ابن بطال‏:‏ الجمع بينهما أنه صلى اللّه عليه وآله وسلم إذا لم يكن في شغل من أهله ولا انفراد بشيء من أمره رفع حجابه بينه وبين الناس ويبرز لطالب الحاجة وبمثله قال الكرماني‏.‏

وقد ثبت في قصة عمر في منازعة أمير المؤمنين علي والعباس في فدك أنه كان له حاجب يقال له يرفا‏.‏

قال ابن التين متعقبًا لما نقله عن الداودي في كلامه المتقدم إن كان مراده البطائق التي فيها الإخبار بما جرى فصحيح يعني أنه حادث وإن كان مراده البطائق التي يكتب فيها للسبق ليبدأ بالنظر في خصومة من سبق فهو من العدل في الحكم اهـ‏.‏ قلت ومن العدل والتثبت في الحكم أن لا يدخل الحاكم جميع من كان ببابه من المتخاصمين إلى مجلس حكمه دفعة واحدة إذا كانوا جمعًا كثيرًا ولا سيما إذا كانوا مثل أهل هذه الديار اليمنية فإنهم إذا وصلوا إلى مجلس القاضي صرخوا جميعًا فيتشوش فهمه ويتغير ذهنه فيقل تدبره وتثبته بل يجعل ببابه من يرقم الواصلين من الخصوم الأول فالأول ثم يدعوهم إلى مجلس حكمه كل خصمين على حدة فالتخصيص لعموم المنع بمثل ما ذكرناه معلوم من كليات الشريعة وجزئياتها مثل حديث نهي الحاكم عن القضاء حال الغضب والتأذي بأمر من الأمور كما سيأتي وكذلك أمره بالتثبت والاستماع لحجة كل واحد من الخصمين وكذلك أمره باجتهاد الرأي في الخصومة التي تعرض‏.‏

قال بعض أهل العلم‏:‏ وظيفة البواب أو الحاجب أن يطالع الحاكم بحال من حضر ولا سيما من الأعيان لاحتمال أن يجيء مخاصمًا والحاكم يظن أنه جاء زائرًا فيعطيه حقه من الإكرام الذي لا يجوز لمن يجيء مخاصمًا انتهى‏.‏ ولا شك في أنه يكره دوام الاحتجاب إن لم يكن محرمًا لما في حديث الباب‏.‏

قال في الفتح‏:‏ واتفق العلماء على أنه يستحب تقديم الأسبق فالأسبق والمسافر على المقيم ولا سيما إن خشي فوات الرفقة وأن من اتخذ بوابًا أو حاجبًا أن يتخذه أمينًا ثقة عفيفًا عارفًا حسن الأخلاق عارفًا بمقادير الناس انتهى‏.‏

 باب ما يلزم اعتماده في أمانة الوكلاء والأعوان

1 - عن ابن عمر‏:‏ ‏(‏عن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم قال‏:‏ من خاصم في باطل وهو يعلم لم يزل في سخط اللّه حتى ينزع‏)‏‏.‏

وفي لفظ‏:‏ ‏(‏من أعان على خصومة بظلم فقد باء بغضب من اللّه‏)‏‏.‏

رواهما أبو داود‏.‏

2 - وعن أنس قال‏:‏ ‏(‏إن قيس بن سعد كان يكون بين يدي النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم بمنزلة صاحب الشرط من الأمير‏)‏‏.‏

رواه البخاري‏.‏

حديث ابن عمر أخرجه أبو داود بإسنادين الأول لا مطعن فيه لأنه قال حدثنا أحمد بن يونس يعني اليربوعي حدثنا زهير حدثنا عمارة بن غزية عن يحيى بن راشد يعني الدمشقي الطويل وهو ثقة قال جلسنا لعبد اللّه بن عمر فذكره والإسناد الثاني قال حدثنا علي بن الحسين بن إبراهيم يعني العامري وثقه النسائي حدثنا عمر بن يونس يعني اليمامي وهو ثقة حدثنا عاصم بن محمد بن زيد العمري يعني ابن عبد اللّه بن عمر حدثنا المثنى بن يزيد قال المنذري‏:‏ هو مجهول انتهى‏.‏

وقد أخرج له النسائي في عمل اليوم والليلة عن مطر يعني ابن طمهان الخراساني الوراق قال المنذري ضعفه غير واحد انتهى‏.‏

وقد أخرج له مسلم في مواضع عن نافع عن ابن عمر فذكره بمعناه‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏من خاصم‏)‏ قال الغزالي‏:‏ الخصومة لجاج في الكلام ليستوفي بها مال أو حق مقصود وتارة تكون ابتداء وتارة تكون اعتراضًا والمراء لا يكون إلا اعتراضًا على كلام سابق قال بعضهم إياك والخصومة فإنها تمحق الدين ويقال ما خاصم قط ورع‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏لم يزل في سخط اللّه‏)‏ هذا ذم شديد له شرطان أحدهما أن تكون المخاصمة في باطل والثاني أن يعلم أنه باطل فإن اختل أحد الشرطين فلا وعيد وإن كان الأولى ترك المخاصمة ما وجد إليه سبيلًا‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏من أعان على خصومة بظلم‏)‏ في معنى ذلك ما أخرجه الطبراني في الكبير من حديث أوس ين شرحبيل‏:‏ ‏(‏أنه سمع رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم يقول‏:‏ من مشى مع ظالم ليعينه وهو يعلم أنه ظالم فقد خرج من الإسلام‏)‏ وأما ما ورد في الحديث الصحيح بلفظ‏:‏ ‏(‏انصر أخاك ظالمًا أو مظلومًا‏)‏ فقد ورد تفسيره في آخر الحديث ‏(‏أن نصر الظالم كفه عن الظلم‏)‏‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏فقد باء بغضب من اللّه‏)‏ أي انقلب ورجع بغضب لازم له‏.‏ ومعنى الغضب في صفات اللّه إرادة العقوبة‏.‏

ـ وفي الحديث ـ دليل على أنه ينبغي للحاكم إذا رأى مخاصمًا أو معينًا على خصومة بتلك الصفة أن يزجره ويردعه لينتهي عن غيه‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏أن قبس بن سعد‏)‏ يعني ابن عبادة الأنصاري الخزرجي‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏كان يكون‏)‏ قال الكرماني‏:‏ فائدة تكرار لفظ الكون إرادة بيان الدوام والاستمرار‏.‏ وقد وقع في رواية الترمذي وابن حبان والإسماعيلي وأبي نعيم وغيرهم بلفظ‏:‏ ‏(‏كان قيس بن سعد‏)‏ الخ‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏بمنزلة صاحب الشرط‏)‏ زاد الترمذي‏:‏ ‏(‏لما يلي من أموره‏)‏ وقد ترجم ابن حبان لهذا الحديث فقال‏:‏ ‏(‏احتراز المصطفى من المشركين في مجلسه إذا دخلوا‏)‏ وقد روى الإسماعيلي‏:‏ ‏(‏أن سعدًا سأل النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم في قيس أن يصرفه عن الموضع الذي وضعه فيه مخافة أن يقدم على شيء فصرفه عن ذلك‏)‏ والشرط بضم المعجمة والراء والنسبة إليها شرطي بضمتين وقد يفتح الراء فيهما أعوان الأمير‏.‏ والمراد بصاحب الشرط كبيرهم فقيل سموا بذلك لأنهم رذالة الجند‏.‏ ومنه في حديث الزكاة المتقدم‏:‏ ‏(‏ولا الشرط اللئيمة‏)‏ أي رديء المال وقيل لأنهم الأشداء الأقوياء من الجند‏.‏ ومنه في حديث الملاحم‏:‏ ‏(‏ويتشرط شرطة للموت‏)‏ أي يتعاقدون على أن لا يفروا ولو ماتوا‏.‏

قال الأزهري‏:‏ شرطة كل شيء خياره ومنه الشرط لأنهم نجبة الجند وقيل هم أول طائفة تتقدم الجيش‏.‏

وقيل سموا شرطًا لأن لهم علامات يعرفون بها في اللباس والهيئة وهو اختيار الأصمعي‏.‏

وقيل لأنهم أعدوا أنفسهم لذلك يقال أشرط فلان نفسه لأمر كذا إذا أعدها قاله أبو عبيد‏.‏

وقيل مأخوذ من الشريط وهو الحبل المبروم لما فيهم من الشدة‏.‏

وفي الحديث جواز اتخاذ الأعوان لدفع ما يرد على الإمام والحاكم‏.‏

 باب النهي عن الحكم في حال الغضب إلا أن يكون يسيرًا لا يشغل

1 - عن أبي بكرة قال‏:‏ ‏(‏سمعت النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم يقول‏:‏ لا يقضين حاكم بين اثنين وهو غضبان‏)‏‏.‏

رواه الجماعة‏.‏

2 - وعن عبد اللّه بن الزبير عن أبيه‏:‏ ‏(‏أن رجلًا من الأنصار خاصم الزبير عند رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم في شراج الحرة التي يسقون بها النخل فقال الأنصاري سرح الماء يمر فأبى عليه فاختصما عند رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم للزبير‏:‏ اسق يا زبير ثم أرسل إلى جارك فغضب الأنصاري ثم قال يا رسول اللّه أن كان ابن عمتك فتلون وجه رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم ثم قال للزبير‏:‏ اسق يا زبير ثم احبس الماء حتى يرجع إلى الجدر فقال الزبير‏:‏ واللّه إني لا أحسب أن هذه الآية نزلت إلا في ذلك ‏{‏فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم‏}‏ الآية‏)‏‏.‏

رواه الجماعة لكنه للخمسة إلا النسائي من رواية عبد اللّه بن الزبير لم يذكر فيه عن أبيه‏.‏ وللبخاري في رواية قال‏:‏ ‏(‏خاصم الزبير رجلًا وذكر نحوه وزاد فيه فاستوعى رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم حينئذ للزبير حقه وكان قبل ذلك قد أشار على الزبير برأي فيه سعة له وللأنصاري فلما أحفظ الأنصاري رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم استوعى للزبير حقه في صريح الحكم‏)‏ قال عروة قال الزبير‏:‏ ‏(‏فواللّه ما أحسب هذه الآية نزلت إلا في ذلك ‏{‏فلا وربك‏}‏ الآية‏)‏ رواه أحمد كذلك لكن قال عن عروة بن الزبير‏:‏ ‏(‏أن الزبير كان يحدث أنه خاصم رجلًا وذكره‏)‏ جعله من مسنده‏.‏ وزاد البخاري في رواية‏:‏ ‏(‏قال ابن شهاب‏:‏ فقدرت الأنصار والناس قول رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم اسق يا زبير ثم احبس الماء حتى يرجع إلى الجدر‏)‏ فكان ذلك إلى الكعبين‏.‏

وفي الخبر من الفقه جواز الشفاعة للخصم والعفو عن التعزير‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏لا يقضين‏)‏ الخ قال المهلب‏:‏ سبب هذا النهي أن الحكم حالة الغضب قد يتجاوز بالحاكم إلى غير الحق فمنع وبذلك قال فقهاء الأمصار‏.‏

وقال ابن دقيق العيد‏:‏ النهي عن الحكم حالة الغضب لما يحصل بسببه من التغير الذي يختل به النظر فلا يحصل استيفاء الحكم على الوجه قال وعداه الفقهاء بهذا المعنى إلى كل ما يحصل به تغير الفكر كالجوع والعطش المفرطين وغلبة النعاس وسائر ما يتعلق به القلب تعلقًا يشغله عن استيفاء النظر وهو قياس مظنة على مظنة وكأن الحكمة في الاقتصار على ذكر الغضب لاستيلائه على النفس وصعوبة مقاومته بخلاف غيره وقد أخرج البيهقي بسند ضعيف عن أبي سعيد رفعه‏:‏ ‏(‏لا يقضي القاضي إلا وهو شبعان ريان‏)‏ انتهى‏.‏ وسبب ضعفه أن في إسناده القاسم العمري وهو متهم بالوضع‏.‏

وظاهر النهي التحريم ولا موجب لصرفه عن معناه الحقيقي إلى الكراهة فلو خالف الحاكم فحكم في حال الغضب فذهب الجمهور إلى أنه يصح إن صادف الحق لأنه صلى اللّه عليه وآله وسلم قضى للزبير بعد أن أغضبه كما في حديث الباب فكأنهم جعلوا ذلك قرينة صارفة للنهي إلى الكراهة ولا يخفى أنه لا يصح إلحاق غيره صلى اللّه عليه وآله وسلم به في مثل ذلك لأنه معصوم عن الحكم بالباطل في رضائه وغضبه بخلاف غيره فلا عصمة تمنعه عن الخطأ ولهذا ذهب بعض الحنابلة إلى أنه لا ينفذ الحكم في حال الغضب لثبوت النهي عنه والنهي يقتضي الفساد وفصل بعضهم بين أن يكون الغضب طرأ عليه بعد أن استبان له الحكم فلا يؤثر وإلا فهو محل الخلاف‏.‏

قال الحافظ ابن حجر‏:‏ وهو تفصيل معتبر وقيد إمام الحرمين والبغوي الكراهة بما إذا كان الغضب لغير اللّه واستغرب الروياني هذا واستبعده غيره لمخالفته لظاهر الحديث وللمعنى الذي لأجله نهي عن الحكم حال الغضب وذكر ابن المنير أن الجمع بين حديثي الباب بأن يجعل الجواز خاصًا بالنبي صلى اللّه عليه وآله وسلم لوجود العصمة في حقه والأمن من التعدي أو أن غضبه إنما كان للحق فمن كان في مثل حاله جاز وإلا منع وقد تعقب القول بالتحريم وعدم انعقاد الحكم بأن النهي الذي يفيد فساد المنهي عنه هو ما كان لذات المنهي عنه أو لجزئه أو لوصفه الملازم له لا المفارق كما هنا وكما في النهي عن البيع حال النداء للجمعة وهذه قاعدة مقررة في الأصول مع اضطراب فيها وطول نزاع وعدم اطراد‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏أن رجلًا من الأنصار‏)‏ اسمه ثعلبة بن حاطب وقيل حميد وقيل حاطب ابن أبي بلتعة ولا يصح لأنه ليس بأنصاري وقيل إنه ثابت بن قيس بن شماس وإنما ترك صلى اللّه عليه وآله وسلم قتله بعد أن جاء في مقاله بما يدل على أنه صلى اللّه عليه وآله وسلم جار في الحكم لأجل القرابة لأن ذلك كان في أوائل الإسلام وقد كان صلى اللّه عليه وآله وسلم يتألف الناس إذ ذاك كما ترك قتل عبد اللّه بن أبي بعد أن جاء بما يسوغ به قتله وقال القرطبي‏:‏ يحتمل أنه لم يكن منافقًا بل صدر منه ذلك عن غير قصد كما اتفق لحاطب بن أبي بلتعة ومسطح وحمنة وغيرهم ممن بدره لسانه بدرة شيطانية‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏في شراج‏)‏ بكسر الشين المعجمة وراء مهملة بعد الألف جيم وهي مسايل النخل والشجر واحدتها شرجة وإضافتها إلى الحرة لكونها فيها والحرة بفتح الحاء المهملة هي أرض ذات حجارة سود‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏سرح الماء‏)‏ بفتح السين المهملة وتشديد الراء المكسورة ثم حاء مهملة أي أرسله‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏ثم أرسل إلى جارك‏)‏ كان هذا على سبيل الصلح‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏أن كان ابن عمتك‏)‏ بفتح الهمزة لأنه استفهام للاستكثار أي حكمت بهذا لكونه ابن عمتك‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏حتى يرجع الماء إلى الجدر‏)‏ بفتح الجيم وسكون الدال المهملة وهو الجدار والمراد به أصل الحائط وقيل أصول الشجر والصحيح الأول وفي الفتح أن المراد به هنا المسناة وهي ما وضع بين شريات النخل كالجدار ويروى الجدر بضم الجيم والدال جمع جدار‏.‏ وحكى الخطابي الجذر بسكون الذال المعجمة وهو جذر الحساب والمعنى حتى يبلغ تمام الشرب‏.‏ وفي بعض طرق الحديث‏:‏ ‏(‏حتى يبلغ الماء الكعبين‏)‏ رواه أبو داود‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏فلما أحفظ الأنصاري رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم‏)‏ بالحاء المهملة أي أثار حفيظته‏.‏ قال في الفتح‏:‏ أحفظه بالمهملة والظاء المشالة أي أغضبه‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏فاستوعى‏)‏ أي استوفى وهو من الوعاء كأنه جمعه له في وعائه‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏فقدرت الأنصار والناس‏)‏ هو من عطف العام على الخاص‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏فكان ذلك إلى الكعبين‏)‏ يعني أنهم لما رأوا أن الجدر يختلف بالطول والقصر قاسوا ما وقعت فيه القصة فوجدوه يبلغ الكعبين فجعلوا ذلك معيار الاستحقاق الأول فالأول والمراد بالأول هنا من يكون مبدأ الماء من ناحيته وقد تقدم الكلام على ذلك في باب الناس شركاء في ثلاث من كتاب إحياء الموات‏.‏

 باب جلوس الخصمين بين يدي الحاكم والتسوية بينهما

1 - عن عبد اللّه بن الزبير قال‏:‏ ‏(‏قضى رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم أن الخصمين يقعدان بين يدي الحاكم‏)‏‏.‏

رواه أحمد وأبو داود‏.‏

2 - وعن علي عليه السلام‏:‏ ‏(‏أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم قال‏:‏ يا علي إذا جلس إليك الخصمان فلا تقض بينهما حتى تسمع من الآخر كما سمعت من الأول فإنك إذا فعلت ذلك تبين لك القضاء‏)‏‏.‏

رواه أحمد وأبو داود والترمذي‏.‏

حديث عبد اللّه بن الزبير أخرجه أيضًا البيهقي والحاكم وفي إسناده مصعب بن ثابت بن عبد اللّه بن الزبير وهو ضعيف كما قال ابن معين وابن حبان وبين الذهبي ذلك الضعف فقال‏:‏ فيه لين لغلطه وقال أبو حاتم‏:‏ صدوق كثير الغلط وقال النسائي‏:‏ ليس بالقوي وقال المنذري‏:‏ لا يحتج بحديثه وقد صحح الحديث الحاكم كما حكاه الحافظ في بلوغ المرام‏.‏

وحديث أمير المؤمنين علي عليه السلام أخرجه أيضًا ابن حبان وصححه وحسنه الترمذي وله طرق منها عند البزار وفيها عمرو بن أبي المقدام وفيها أيضًا اختلاف على عمرو بن مرة ففي رواية أبي يعلى أنه رواه عنه شعبة عن أبي البختري قال حدثني من سمع أمير المؤمنين عليًا ومنهم من أخرجه عن أبي البختري عن أمير المؤمنين علي عليه السلام‏.‏ ومنهم من رواه عن حارثة بن مضرب عن أمير المؤمنين علي‏.‏ ومنهم من رواه عن سماك بن حرب عن حنش بن المعتمر عن أمير المؤمنين علي‏.‏ ومنهم من رواه من طريق سماك عن عكرمة عن ابن عباس عن أمير المؤمنين علي عليه السلام‏.‏ ورواه أبو يعلى والدارقطني والطبراني في الكبير من حديث أم سلمة بلفظ‏:‏ ‏(‏من ابتلي بالقضاء بين المسلمين فليعدل بينهم في لحظه وإشارته ومقعده ومجلسه ولا يرفع صوته على أحد الخصمين ما لا يرفع على الآخر‏)‏ وفي إسناده عبادة بن كثير وهو ضعيف‏.‏

وفي الباب عن أمير المؤمنين علي عليه السلام أنه جلس بجنب شريح في خصومة له مع يهودي فقال لو كان خصمي مسلمًا جلست معه بين يديك ولكني سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم يقول‏:‏ لا تساووهم في المجالس‏.‏ أخرجه أبو أحمد الحاكم في الكنى في ترجمة أبي سمية عن الأعمش عن إبراهيم التيمي قال عرف علي درعًا مع يهودي فذكره مطولًا وقال منكر‏.‏ وأورده ابن الجوزي في العلل من هذا الوجه وقال لا يصح تفرد به أبو سمية ورواه البيهقي من وجه آخر من طريق جابر عن الشعبي قال خرج أمير المؤمنين على السوق فإذا هو بنصراني يبيع درعًا فعرف أمير المؤمنين علي عليه السلام الدرع وذكر الحديث وفي إسناده عمرو بن سمرة عن جابر الجعفي وهما ضعيفان‏.‏ قال ابن الصلاح في كلامه على الوسيط‏:‏ لم أجد له إسنادًا يثبت‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏إن الخصمين يقعدان‏)‏ الخ هذا فيه دليل لمشروعية قعود الخصمين بين يدي الحاكم ولعل هذه الهيئة مشروعة لذاتها لا لمجرد التسوية بين الخصمين فإنها ممكنة بدون القعود بين يدي الحاكم بأن يقعد أحدهما عن يمينه والآخر عن شماله أو أحدهما في جانب المجلس والآخر في جانب يقابله ويساويه أو نحو ذلك والوجه في مشروعية هذه الهيئة أن ذلك هو مقعد الإهانة والإصغار وموقف من لا يعتد بشأنه من الخدم ونحوهم لقصد الإعزاز للشريعة المطهرة والرفع من منارها وتواضع المتكبرين لها وكثيرًا ما ترى من كان متمسكًا بأذيال الكبر يعظم عليه قعوده في ذلك المقعد فلعل هذه هي الحكمة واللّه أعلم ‏(‏ويؤخذ‏)‏ من الحديث أيضًا مشروعية التسوية بين الخصمين لأنهما لما أمرا بالقعود جميعًا على تلك الصفة كان الاستواء في الموقف لازمًا لها وأوضح من ذلك حديث أم سلمة وقصة أمير المؤمنين علي عليه السلام مع خصمه عند شريح كما تقدم وفيها تخصيص المسلم إذا كان خصمه كافرًا فلا يساويه في الموقف بل يرفع موقف المؤمن على موقف الكافر لأن الإسلام يعلو ويستفاد من الحديث أن الخصمين لا يتنازعان قائمين أو مضطجعين أو أحدهما‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏حتى تسمع من الآخر كما سمعت من الأول‏)‏ فيه دليل على أنه يحرم على الحاكم أن يحكم قبل سماع حجة كل واحد من الخصمين واستفصال ما لديه والإحاطة بجميعه والنهي يدل على قبح المنهي عنه والقبح يستلزم الفساد فإذا قضى قبل السماع من أحد الخصمين كان حكمه باطلًا فلا يلزم قبوله بل يتوجه عليه نقضه ويعيده على وجه الصحة أو يعيده حاكم آخر فإن امتنع أحد الخصمين من الإجابة لخصمه جاز القضاء عليه لتمرده ولكن بعد التثبت المسوغ للحكم كما في الغائب على خلاف فيه معروف‏.‏

 باب ملازمة الغريم إذا ثبت عليه الحق وإعداء الذمي على المسلم

1 - عن هرماس بن حبيب رجل من أهل البادية عن أبيه قال‏:‏ ‏(‏أتيت النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم بغريم لي فقال لي‏:‏ الزمه ثم قال لي‏:‏ يا أخا بني تميم ما تريد أن تفعل بأسيرك‏)‏‏.‏

رواه أبو داود وابن ماجه وقال فيه‏:‏ ‏(‏ثم مر بي آخر النهار فقال ما فعل أسيرك يا أخا بني تميم‏)‏ وقال في مسنده عن أبيه عن جده وعن ابن أبي حدرد الأسلمي‏:‏ ‏(‏أنه كان ليهودي عليه أربعة دراهم فاستعدى عليه رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم فقال‏:‏ يا محمد إن لي على هذا أربع دراهم وقد غلبني عليها فقال‏:‏ أعطه حقه قال‏:‏ والذي بعثك بالحق ما أقدر عليها قال‏:‏ أعطه حقه قال‏:‏ والذي بعثك بالحق ما أقدر عليها قد أخبرته أنك تبعثنا إلى خيبر فأرجو أن تغنمنا شيئًا فأرجع فأقضيه قال‏:‏ أعطه حقه قال‏:‏ وكان النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم إذا قال ثلاثًا لم يراجع فخرج به ابن أبي حدرد إلى السوق وعلى رأسه عصابة وهو متزر ببردة فنزع العمامة عن رأسه فاتزر بها ونزع البردة ثم قال اشتر مني هذه البردة فباعها منه بأربعة دراهم فمرت عجوز فقالت‏:‏ ما لك يا صاحب رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم فأخبرها فقالت‏:‏ ها دونك هذا البرد عليها طرحته عليه‏)‏‏.‏

رواه أحمد‏.‏

وفيه أن الحاكم يكرر على الناكل وغيره ثلاثًا‏.‏

2 - ومثله ما روى أنس قال‏:‏ ‏(‏كان رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم إذا سلم سلم ثلاثًا وإذا تكلم بكلمة أعادها ثلاثًا‏)‏‏.‏

رواه أحمد والبخاري والترمذي وصححه‏.‏

حديث هرماس أخرجه البخاري في تاريخه الكبير عن أبيه عن جده وقال ابن أبي حاتم هرماس ابن حبيب العنبري روى عن أبيه عن جده ولجده صحبة وذكر أنه سأل أحمد بن حنبل ويحيى بن معين عن الهرماس بن حبيب العنبري فقالا‏:‏ لا نعرفه‏.‏ وقال‏:‏ سألت أبي عن هرماس بن حبيب فقال‏:‏ هو شيخ أعرابي لم يرو عنه غير النضر بن شميل ولا يعرف أبوه ولا جده‏.‏

وحديث ابن أبي حدرد قال في مجمع الزوائد‏:‏ رواه أحمد والطبراني في الصغير والأوسط ورجاله ثقات إلا أن محمد بن أبي يحيى لم أجد له رواية عن الصحابة فيكون مرسلًا صحيحًا انتهى‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏الزمه‏)‏ بفتح الزاي فيه دليل على جواز ملازمة من له الدين لمن هو عليه بعد تقرره بحكم الشرع وقد حكاه في البحر عن أبي حنيفة وأحد وجهي أصحاب الشافعي فقالوا إنه يسير حيث سار ويجلس حيث جلس غير مانع له من الاكتساب ويدخل معه داره وذهب أحمد إلى أن الغريم إذا طلب ملازمة غريمه حتى يحضر ببينته القريبة أجيب إلى ذلك لأنه لو لم يمكن من ملازمته ذهب من مجلس الحاكم وهذا بخلاف البينة البعيدة وذهب الجمهور إلى أن الملازمة غير معمول بها بل إذا قال لي بينة غائبة قال الحاكم لك يمينه أو أخره حتى تحضر بينتك وحملوا الحديث على أن المراد الزم غريمك بمراقبتك له بالنظر من بعد ولعل الاعتذار عن الحديث بما فيه من المقال أولى من هذا التأويل المتعسف وأما حديث ابن أبي حدرد فليس فيه دليل على الملازمة بل فيه التشديد على المديون بإيجاب القضاء وعدم قبول دعواه الإعسار لمجردها من دون بينة وعدم الاعتداد بيمينه من غير فرق بين أن يكون صاحب المال مسلمًا أو كافرًا‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏ما تريد أن تفعل بأسيرك‏)‏ سماه أسيرًا باعتبار ما يحصل له من المذلة بالملازمة له وكثرة تذلله عند المطالبة وكأنه صلى اللّه عليه وآله وسلم يعرض بالشفاعة وقد زاد رزين بعد قوله ما تريد أن تفعل بأسيرك فأطلقه‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وإذا تكلم بكلمة أعادها ثلاثًا‏)‏ لعل هذا في الأمور التي يريد صلى اللّه عليه وآله وسلم أن تحفظ عنه وتنقلها الناس إلى بعضهم بعضًا بخلاف الكلام في المحاورات التي تجري من دون قصد إلى حفظها لكونها ليست من الأمور الشرعية فلعل التكرار فيها لم يقع منه صلى اللّه عليه وآله وسلم لعدم الفائدة في ذلك مثلًا لو أنه صلى اللّه عليه وآله وسلم أراد أن يخبر رجلًا بأنه خرج إلى المسجد وصلى ورجع إلى بيته فكرر كل كلمة من هذا الخبر ثلاث مرات لم يكن ذلك بمكان من الحسن والقبول‏.‏

وأما تكرير التسليم فلعله التسليم المراد به الاستئذان وقد ثبتت مشروعية تكريره لإيقاظ رب المنزل الذي وقع الاستئذان عليه لا أنه كان يكرر السلام الواقع لمحض التحية مثلًا لا يلقى رجلًا في طريق فيقوم بين يديه ويسلم عليه ثلاث مرات‏.‏

 باب الحاكم يشفع للخصم ويستوضع له

1 - عن كعب بن مالك‏:‏ ‏(‏أنه تقاضى ابن أبي حدرد دينًا كان له عليه في المسجد فارتفعت أصواتهما حتى سمعهما رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم وهو في بيته فخرج إليهما حتى كشف سجف حجرته فنادى يا كعب فقال لبيك يا رسول اللّه قال‏:‏ ضع من دينك هذا وأومأ إليه أي الشطر قال‏:‏ قد فعلت يا رسول اللّه قال‏:‏ قم فاقضه‏)‏‏.‏

رواه الجماعة إلا الترمذي‏.‏

وفيه من الفقه جواز الحكم في المسجد وأن من قيل له بع أو هب أو أبر فقال قد فعلت صح ذلك منه وأن الإيماء المفهوم يقوم مقام النطق‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏سجف حجرته‏)‏ بكسر السين المهملة وفتحها وسكون الجيم وهو الستر وقيل الرقيق منه يكون في مقدم البيت ولا يسمى سجفًا إلا أن يكون مشقوق الوسط كالمصراعين والحجرة ما يجعل عليه الرجل حاجرًا في بيته‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏ضع من دينك هذا وأومأ إليه‏)‏ فيه دليل على أن الإشارة المفهمة بمنزلة الكلام لأنها تدل كما تدل عليه الحروف والأصوات فيصح بيع الأخرس وشراؤه وإجارته وسائر عقوده إذا فهم ذلك عنه‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏أي الشطر‏)‏ هو النصف على المشهور ووقع في حديث الإسراء ما يدل على أن الشطر يطلق على الجزء والمراد بهذا الأمر الواقع منه صلى اللّه عليه وآله وسلم الإرشاد إلى الصلح والشفاعة في ترك بعض الدين وفيه فضيلة الصلح وحسن التوسط بين المتخاصمين‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏قد فعلت‏)‏ الخ يحتمل أن يكون نزاعهما في مقدار الدين كأن يدعى صاحب الدين مقدارًا زائدًا على ما يقر به المديون فأمره صلى اللّه عليه وآله وسلم أن يضع الشطر من المقدار الذي ادعاه فيكون الصلح حينئذ عن إنكار ويدل الحديث على جوازه‏.‏ ويحتمل أن يكون النزاع بينهما في التقاضي باعتبار حلول الأجل وعدمه مع الاتفاق على مقدار أصل الدين فلا يكون في الحديث دليل على جواز الصلح عن إنكار وقد ذهب إلى بطلان الصلح عن إنكار الشافعي ومالك وأبو حنيفة والهادوية‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏قم فاقضه‏)‏ قيل هذا أمر على جهة الوجوب لأن رب الدين لما طاوع بوضع الشطر تعين على المديون أن يعجل إليه دينه لئلا يجمع على رب المال بين الوضيعة والمطل‏.‏

 باب أن حكم الحاكم ظاهرًا لا باطنًا

1 - عن أم سلمة‏:‏ ‏(‏أن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم قال‏:‏ إنما أنا بشر وإنكم تختصمون إلي ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض فأقضي بنحو مما أسمع فمن قضيت له من حق أخيه شيئًا فلا يأخذه فإنما أقطع له قطعة من النار‏)‏‏.‏

رواه الجماعة وقد احتج به من لم ير أن يحكم الحاكم بعلمه‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏إنما أنا بشر‏)‏ البشر يطلق على الجماعة والواحد بمعنى أنه منهم والمراد أنه مشارك للبشر في أصل الخلقة ولو زاد عليهم بالمزايا التي اختص بها في ذاته وصفاته والحصر هنا مجازي لأنه يختص بالعلم الباطن ويسمى قصر قلب لأنه أتى به ردًا على من زعم أن من كان رسولًا فإنه يعلم كل غيب حتى لا يخفى عليه المظلوم من الظالم وقد أطال الكلام على بيان معنى هذا الحصر علماء المعاني والبيان فليرجع إلى ذلك‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏ألحن‏)‏ بالنصب على أنه خبر كان أي أفطن بها ويجوز أن يكون معناه أفصح تعبيرًا عنها وأظهر احتجاجًا حتى يخيل أنه محق وهو في الحقيقة مبطل‏.‏ والأظهر أن معناه أبلغ كما وقع في رواية في الصحيحين أي أحسن إيرادًا للكلام ولا بد في هذا التركيب من تقدير محذوف لتصحيح معناه أي وهو كاذب ويسمى هذا عند الأصوليين دلالة اقتضاء لأن هذا المحذوف اقتضاه اللفظ الظاهر المذكور بعده‏.‏ وقال في النهاية‏:‏ اللحن الميل عن جهة الاستقامة يقال لحن فلان في كلامه إذا مال عن صحيح المنطق وأراد أن بعضهم يكون أعرف بالحجة وأفطن لها من غيره ويقال لحنت لفلان إذا قلت له قولًا يفهمه ويخفى على غيره لأنك تميله بالتورية عن الواضح المفهوم انتهى‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏فإنما أقطع له قطعة من النار‏)‏ أي الذي قضيت له بحسب الظاهر إذا كان في الباطن لا يستحقه فهو عليه حرام يؤل به إلى النار وهو تمثيل يفهم منه شدة التعذيب على ما يتعاطاه فهو من مجاز التشبيه كقوله تعالى ‏{‏إنما يأكلون في بطونهم نارًا‏}‏ وقد قدمنا الكلام على بعض ألفاظ الحديث في كتاب الصلح فوقع تكرار البعض هنا لتكرار الفائدة ـ وفي الحديث ـ دليل على إثم من خاصم في باطل حتى استحق به في الظاهر شيئًا هو في الباطن حرام عليه وأن من احتال لأمر باطل بوجه من وجوه الحيل حتى يصير حقًا في الظاهر ويحكم له به أنه لا يحل له تناوله في الباطن ولا يرتفع عنه الإثم بالحكم وفيه أن المجتهد إذا أخطأ لا يلحقه إثم بل يؤجر كما في الحديث الصحيح وإن اجتهد فأخطأ فله أجر وفيه أنه صلى اللّه عليه وآله وسلم كان يقضي بالاجتهاد فيما لم ينزل عليه فيه شيء وخالف في ذلك قوم وهذا الحديث من أصرح ما يحتج به عليهم وفيه أنه ربما أداه اجتهاده إلى أمر فيحكم به ويكون في الباطن بخلاف ذلك‏.‏

قال الحافظ‏:‏ لكن مثل ذلك لو وقع لم يقر عليه صلى اللّه عليه وآله وسلم لثبوت عصمته واحتج من منع مطلقًا بأنه لو جاز وقوع الخطأ في حكمه للزم أمر المكلفين بالخطأ لثبوت الأمر بإتباعه في جميع أحكامه حتى قال تعالى ‏{‏فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم‏}‏ الآية وبأن الإجماع معصوم من الخطأ فالرسول أولى بذلك وأجيب عن الأول بأن الأمر إذا استلزم الخطأ لا محذور فيه لأنه موجود في حق المقلدين فإنهم مأمورون بإتباع المفتي والحاكم ولو جاز عليه الخطأ وأجيب عن الثاني برد الملازمة فإن الإجماع إذا فرض وجوده دل على أن مستندهم ما جاء عن الرسول صلى اللّه عليه وآله وسلم فرجع الإتباع إلى الرسول لا إلى نفس الإجماع‏.‏

قال الحافظ‏:‏ وفي الحديث أيضًا أن من ادعى مالًا ولم يكن له بينة فحلف المدعى عليه وحكم الحاكم ببراءة الحالف أنه لا يبرأ في الباطن ولا يرتفع عنه الإثم بالحكم والحديث حجة لمن أثبت أنه قد يحكم صلى اللّه عليه وآله وسلم بالشيء في الظاهر ويكون الأمر في الباطن بخلافه ولا مانع من ذلك إذ لا يلزم منه محال عقلًا ولا نقلًا وأجاب من منع بأن الحديث يتعلق بالحكومات الواقعة في فصل الخصومات المبنية على الإقرار أو البينة ولا مانع من وقوع ذلك فيها ومع ذلك لا يقر على الخطأ وإنما الذي يمتنع وقوع الخطأ فيه أن يخبر عن أمر بأن الحكم الشرعي فيه كذا ويكون ذلك ناشئًا عن اجتهاده فإنه لا يكون إلا حقًا لقوله تعالى ‏{‏وما ينطق عن الهوى‏}‏ وأجيب أن ذلك يستلم الحكم الشرعي فيعود الإشكال كما كان والمقام يحتاج إلى بسط طويل ومحله الأصول فليرجع إليها قال الطحاوي‏:‏ ذهب قوم إلى أن الحكم بتمليك مال أو إزالة ملك أو إثبات نكاح أو فرقة أو نحو ذلك إن كان في الباطن كما هو في الظاهر نفذ على ما حكم به وإن كان في الباطن على خلاف ما استند إليه الحاكم من الشهادة أو غيرها لم يكن الحكم موجبًا للتمليك ولا الإزالة ولا النكاح ولا الطلاق ولا غيرها وهو قول الجمهور ومعهم أبو يوسف‏.‏

وذهب آخرون إلى أن الحكم إن كان في مال وكان الأمر في الباطن بخلاف ما استند إليه الحاكم من الظاهر لم يكن ذلك موجبًا لحله للمحكوم له وإن كان في نكاح أو طلاق فإنه ينفذ ظاهرًا وباطنًا وحملوا حديث الباب على ما ورد فيه وهو المال واحتجوا لما عداه بقصة المتلاعنين فإنه صلى اللّه عليه وآله وسلم فرق بين المتلاعنين مع احتمال أن يكون الرجل قد صدق فيما رماها به قالوا فيؤخذ من هذا أن كان قضاء ليس فيه تمليك مال أنه على الظاهر ولو كان الباطن بخلافه وأن حكم الحاكم يحدث في ذلك التحريم والتحليل بخلاف الأموال وتعقب بأن الفرقة في اللعان إنما وقعت عقوبة للعلم بأن أحدهما كاذب وهو أصل برأسه فلا يقاس عليه‏.‏

وقال بعض الحنفية مجيبًا على من استدل بالحديث لما تقدم بأن ظاهر الحديث يدل على أن ذلك مخصوص بما يتعلق بسماع كلام الخصم حيث لا بينة هناك ولا يمين وليس النزاع فيه وإنما النزاع في الحكم المرتب على الشهادة وبأن من في قوله‏:‏ ‏(‏فمن قضيت له‏)‏ شرطية وهي لا تستلزم الوقوع فيكون من فرض ما لم يقع وهو جائز فيما يتعلق به غرض وهو هنا محتمل لأن يكون للتهديد والزجر عن الإقدام على أخذ أموال الناس بالمبالغة في الخصومة وهو وإن كان جاز أن يستلزم عدم نفوذ الحكم باطنًا في العقود والفسوخ لكنه لم يسق لذلك فلا يكون فيه حجة لمن منع وبأن الاحتجاج به يستلزم أنه صلى اللّه عليه وآله وسلم يقر على الخطأ لأنه لا يكون ما قضى به قطعة من النار إلا إذا استمر الخطأ وإلا فمتى فرض أنه يطلع عليه فإنه يجب أن يبطل ذلك الحكم ويرد الحق لمستحقه‏.‏

وظاهر الحديث يخالف ذلك فإما أن يسقط الاحتجاج به ويؤول على ما تقدم وإما أن يستلزم استمرار التقرير على الخطأ وهو باطل والجواب عن الأول أنه خلاف الظاهر بل من التحريف الذي لا يفعله منصف وكذا الثاني والجواب عن الثالث أن الخطأ الذي لا يقر عليه هو الحكم الذي صدر عن اجتهاده فيما لم يوح إليه فليس النزاع فيه وإنما النزاع في الحكم الصادر منه عن شهادة زور أو يمين فاجرة فلا يسمى خطأ للاتفاق على العمل بالشهادة وبالأيمان وإلا لكان الكثير من الأحكام يسمى خطأ وليس كذلك لما في حديث‏:‏ ‏(‏أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا اللّه فإذا قالوها عصموا مني دماءهم‏)‏ فيحكم بإسلام من تلفظ بالشهادتين ولو كان في نفس الأمر يعتقد خلاف ذلك ولما في حديث المتلاعنين حيث قال‏:‏ ‏(‏لولا الأيمان لكان لي ولها شأن‏)‏ فإنه لو كان خطأ لم يترك استدراكه والعمل بما عرفه‏.‏ وكذلك حديث إني لم أؤمر بالتنقيب عن قلوب الناس فالحجة من حديث الباب شاملة للأموال والعقود والفسوخ وقد حكى الشافعي الإجماع على أن حكم الحاكم لا يحلل الحرام‏.‏

قال النووي‏:‏ والقول بأن حكم الحاكم يحلل ظاهرًا وباطنًا مخالف لهذا الحديث الصحيح وللإجماع المذكور ولقاعدة أجمع عليها العلماء ووافقهم القائل المذكور وهي أن الأبضاع أولى بالاحتياط من الأموال وفي المقام مقاولات ومطاولات ومع وضوح الصواب لا فائدة في الإطناب‏.‏

وقد استدل المصنف رحمه اللّه تعالى بالحديث على أن الحاكم لا يحكم بعلمه وسيأتي الكلام على ذلك في باب مستقل إن شاء اللّه تعالى وفيه الرد على من حكم بما يقع في خاطره من غير استناد إلى أمر خارجي من بينة ونحوها ووجه الرد عليه أنه صلى اللّه عليه وآله وسلم أعلى في ذلك من غيره مطلقًا ومع ذلك فقد دل حديثه هذا على أنه إنما يحكم بالظاهر في الأمور العامة فلو كان المدعى صحيحًا لكان الرسول أحق بذلك فإنه أعلم أنه تجري الأحكام على ظاهرها مع أنه يمكن أن اللّه يطلعه على غيب كل قضية وسبب ذلك أن تشريع الأحكام واقع على يده فكأنه أراد تعليم غيره من الحكام أن يعتمدوا ذلك نعم لو شهدت البينة مثلًا بخلاف ما يعلمه مشاهدة أو سماعًا أو ظنًا راجحًا لم يجز له أن يحكم بما قامت به البينة‏.‏

قال الحافظ‏:‏ ونقل بعضهم فيه الاتفاق وإن وقع الاختلاف فيه في القضاء بالعلم كما سيأتي‏.‏