فصل: باب تحريم الخمر ونسخ إباحتها المتقدمة

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: نيل الأوطار شرح منتقى الأخبار **


 باب آداب الأكل

1 - عن عائشة قالت‏:‏ ‏(‏قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم‏:‏ إذا أكل أحدكم طعامًا فليقل بسم اللّه فإن نسي في أوله فليقل بسم اللّه على أوله وآخره‏)‏‏.‏

رواه أحمد وأبو داود وابن ماجه والترمذي وصححه‏.‏

الحديث أخرجه أيضًا النسائي وهو من حديث عبد اللّه بن عبيد عن امرأة منهم يقال لها أم كلثوم عن عائشة ولم يقل الترمذي عن امرأة منهم إنما قال عن أم كلثوم ووقع في بعض رواياته أم كلثوم الليثية وهو الأشبه لأن عبيد بن عمير ليثي‏.‏

وقد أخرج أبو بكر ابن أبي شيبة هذا الحديث في مسنده عن عبد اللّه بن عبيد بن عمير عن عائشة ولم يذكر فيه أم كلثوم‏.‏

وفي الباب عن جابر عند مسلم وأبي داود والنسائي وابن ماجه‏:‏ ‏(‏سمع النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم يقول‏:‏ إذا دخل الرجل بيته فذكر اللّه عند دخوله وعند طعامه قال الشيطان لا مبيت لكم ولا عشاء وإذا دخل فلم يذكر اللّه عند دخوله قال الشيطان أدركتم المبيت فإذا لم يذكر اللّه عند طعامه قال أدركتم المبيت والعشاء‏)‏ وعن حذيفة بن اليمان عند مسلم وأبي داود والنسائي قال‏:‏ ‏(‏كنا إذا حضرنا مع النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم طعامًا لم يضع أحدنا يده في الطعام حتى يبدأ رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم وإنا حضرنا معه طعامًا فجاء أعرابي كأنما يدفع فذهب ليضع يده في الطعام فأخذ رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم بيده ثم جاء جارية كأنما تدفع فذهبت لتضع يدها في الطعام فأخذ رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم بيدها وقال‏:‏ إن الشيطان ليستحل الطعام الذي لم يذكر اسم اللّه عليه وإنه جاء بهذا الأعرابي ليستحل بيده فأخذت بيده وجاء بهذه الجارية ليستحل بيدها فأخذت بيدها والذي نفسي بيده إن يده لفي يدي مع أيديهما‏)‏ وأخرج الترمذي عن عائشة قالت‏:‏ ‏(‏كان رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم يأكل طعامًا في ستة من أصحابه فجاء أعرابي فأكل بلقمتين فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم‏:‏ أما إنه لو سمى لكفى لكم‏)‏ وقال حديث حسن‏.‏

وأخرج ابن السني عن ابن مسعود قال‏:‏ ‏(‏قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم‏:‏ من نسي أن يذكر اللّه في أول طعامه فليقل حين يذكر بسم اللّه أوله وآخره فإنه يستقبل طعامًا جديدًا ويمنع الخبيث مما كان يصيب منه‏.‏

وفي الباب أيضًا عن عمر بن أبي سلمة وسيأتي‏.‏

وفي هذه الأحاديث دليل على مشروعية التسمية للأكل وإن نسي بقول في أثنائه بسم اللّه على أوله وآخره وكذا التارك للتسمية عمدًا يشرع له التدارك في أثنائه‏.‏

قال في الهدي‏:‏ والصحيح وجوب التسمية عند الأكل وهو أحد الوجهين لأصحاب أحمد وأحاديث الأمر بها صحيحة صريحة لا معارض لها ولا إجماع يسوغ مخالفتها ويخرجها عن ظاهرها وتاركها يشركه الشيطان في طعامه وشرابه اهـ‏.‏

والذي عليه الجمهور من السلف والخلف من المحدثين وغيرهم أن أكل الشيطان محمول على ظاهره وأن للشيطان يدين ورجلين وفيهم ذكر وأنثى وأنه يأكل حقيقة بيده إذا لم يدفع وقيل إن أكلهم على المجاز والاستعارة وقيل إن أكلهم شم واسترواح ولا ملجئ إلى شيء من ذلك‏.‏

وقد ثبت في الصحيح كما سيأتي أن الشيطان يأكل بشماله ويشرب بشماله وروي عن وهب بن منبه أنه قال‏:‏ الشياطين أجناس فخالص الجن لا يأكلون ولا يشربون ولا يتناكحون وهم ريح ومنهم جنس يفعلون ذلك كله ويتوالدون وهم السعالى والغيلان ونحوهم‏.‏

2 - وعن ابن عمر‏:‏ ‏(‏أن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم قال‏:‏ لا يأكل أحدكم بشماله ولا يشرب بشماله فإن الشيطان يأكل بشماله ويشرب بشماله‏)‏‏.‏

رواه أحمد ومسلم وأبو داود والترمذي وصححه‏.‏

3 - وعن ابن عباس‏:‏ ‏(‏أن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم قال‏:‏ البركة تنزل في وسط الطعام فكلوا من حافتيه ولا تأكلوا من وسطه‏)‏‏.‏

رواه أحمد وابن ماجه والترمذي وصححه‏.‏

4 - وعن عمر ابن أبي سلمة قال‏:‏ ‏(‏كنت غلامًا في حجر النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم وكانت يدي تطيش في الصفحة فقال لي‏:‏ يا غلام سم اللّه وكل بيمينك وكل مما يليك‏)‏‏.‏

متفق عليه‏.‏

5 - وعن أبي جحيفة قال‏:‏ ‏(‏قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم‏:‏ أما أنا فلا آكل متكئًا‏)‏‏.‏

رواه الجماعة إلا مسلمًا والنسائي‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏لا يأكل أحدكم بشماله‏)‏ فيه النهي عن الأكل والشرب بالشمال والنهي حقيقة في التحريم كما تقرر في الأصول ولا يكون لمجرد الكراهة فقط إلا مجازًا مع قيام صارف‏.‏ قال النووي‏:‏ وهذا إذا لم يكن عذر فإن كان عذر يمنع الأكل أو الشرب باليمين من مرض أو جراحة أو غير ذلك فلا كراهة في الشمال‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏فإن الشيطان يأكل‏)‏ الخ إشارة إلى أنه ينبغي اجتناب الأفعال التي تشبه أفعال الشيطان وقد تقدم الخلاف هل ذلك على الحقيقة أم على المجاز‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏البركة تنزل في وسط الطعام‏)‏ لفظ أبي داود‏:‏ ‏(‏إذا أكل أحدكم طعامًا فلا يأكل من أعلى الصفحة ولكن ليأكل من أسفلها فإن البركة تنزل من أعلاها‏)‏ وفيه مشروعية الأكل من جوانب الطعام قبل وسطه قال الرافعي وغيره‏:‏ يكره أن يأكل من أعلى الثريد ووسط القصعة وأن يأكل مما يلي أكيله ولا بأس بذلك في الفواكه‏.‏ وتعقبه الأسنوي بأن الشافعي نص على التحريم فإن لفظه في الأم فإن أكل مما يليه أو من رأس الطعام أثم بالفعل الذي فعله إذا كان عالمًا واستدل بالنهي عن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم وأشار إلى هذا الحديث قال الغزالي‏:‏ وكذا لا يأكل من وسط الرغيف بل من استدارته إلا إذا قل الخبز فليكسر الخبز والعلة في ذلك ما في الحديث من كون البركة تنزل في وسط الطعام‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏تطيش‏)‏ بكسر الطاء وبعدها مثناة تحتية ساكنة أي تتحرك وتمتد إلى نواحي الصفحة ولا تقتصر على موضع واحد‏.‏

قال النووي‏:‏ والصفحة دون القصعة وهي ما تسع ما يشبع خمسة والقصعة ما تشبع عشرة كذا قال الكسائي فيما حكاه الجوهري وغيره عنه‏.‏ وقيل الصفحة كالقصعة وجمعها صحاف‏.‏

قال النووي أيضًا‏:‏ وفي هذا الحديث ثلاث سنن من سنن الأكل وهي‏:‏ التسمية والأكل باليمين وقد سبق بيانهما والثالثة الأكل مما يليه لأن أكله من موضع يد صاحبه سوء عشرة وترك مروءة قد يتقذر صاحبه لا سيما في الأمراق وشبهها وهذا في الثريد والأمراق وشبههما فإن كان تمرًا وأجناسًا فقد نفلوا إباحة اختلاف الأيدي في الطبق ونحوه والذي ينبغي تعميم النهي حملًا للنهي على عمومه حتى يثبت دليل مخصص واللّه أعلم‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏أما أنا فلا آكل متكئًا‏)‏ سبب هذا الحديث قصة الأعرابي المذكور في حديث عبد اللّه بن بسر عند ابن ماجه والطبراني بإسناد حسن قال‏:‏ ‏(‏أهديت للنبي صلى اللّه عليه وآله وسلم شاة فجثى على ركبتيه يأكل فقال له أعرابي‏:‏ ما هذه الجلسة فقال‏:‏ إن اللّه جعلني عبدًا كريمًا ولم يجعلني جبارًا عنيدًا‏)‏ قال ابن بطال‏:‏ إنما فعل النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم ذلك تواضعًا للّه‏.‏ ثم ذكر من طريق أيوب عن الزهري قال‏:‏ ‏(‏أتى النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم ملك لم يأته قبلها فقال‏:‏ إن ربك يخيرك بين أن تكون عبدًا نبيًا أو ملكًا نبيًا قال‏:‏ فنظر إلى جبريل كالمستشير له فأومأ إليه أن تواضع فقال‏:‏ بل عبدًا نبيًا قال‏:‏ فما أكل متكئًا‏)‏ اهـ‏.‏

قال الحافظ‏:‏ وهذا مرسل أو معضل وقد وصله النسائي من طريق الزبيدي عن الزهري عن محمد بن عبد اللّه بن عباس قال كان ابن عباس يحدث فذكر نحوه‏.‏

وأخرج أبو داود من حديث عبد اللّه بن عمرو بن العاص قال‏:‏ ما رؤي النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم يأكل متكئًا قط‏.‏

وأخرج ابن أبي شيبة عن مجاهد قال‏:‏ ما أكل النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم متكئًا إلا مرة ثم نزع فقال‏:‏ ‏(‏اللّهم إني عبدك ورسولك‏)‏ وهذا مرسل ويمكن الجمع بأن تلك المرة التي في أثر مجاهد ما اطلع عليها عبد اللّه بن عمرو‏.‏

وقد أخرج ابن شاهين في ناسخه من مرسل عطاء بن يسار أن جبريل رأى النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم يأكل متكئًا فنهاه‏.‏

ومن حديث أنس أن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم لما نهاه جبريل عن الأكل متكئًا لم يأكل متكئًا بعد ذلك‏.‏ واختلف في صفة الاتكاء فقيل أن يتمكن في الجلوس للأكل على أي صفة كان وقيل أن يميل على أحد شقيه وقيل أن يعتمد على يده اليسرى من الأرض‏.‏

قال الخطابي‏:‏ يحسب العامة أن المتكئ هو الآكل على أحد شقيه وليس كذلك بل هو المعتمد على الوطاء عند الأكل لأنه صلى اللّه عليه وآله وسلم قال‏:‏ إني أذم فعل من يستكثر من الطعام فإني لا آكل إلا البلغة من الزاد فلذلك أقعد مستوفزًا‏.‏

وفي حديث أنس‏:‏ ‏(‏أنه صلى اللّه عليه وآله وسلم أكل تمرًا وهو مقع‏)‏ والمراد الجلوس على وركيه غير متمكن‏.‏

وأخرج ابن عدي بسند ضعيف‏:‏ ‏(‏زجر النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم أن يعتمد الرجل على يده اليسرى عند الأكل‏)‏ قال مالك‏:‏ هو نوع من الاتكاء‏.‏

قال الحافظ‏:‏ وفي هذا إشارة من مالك إلى كراهة ما يعد الآكل فيه متكئًا ولا يختص بصفة بعينها‏.‏ وجزم ابن الجوزي في تفسير الاتكاء بأنه الميل على أحد الشقين ولم يلتفت لإنكار الخطابي ذلك‏.‏ وحكى ابن الأثير في النهاية أن من فسر الاتكاء بالميل على أحد الشقين تأوله على مذهب الطب بأنه لا ينحدر في مجاري الطعام سهلًا ولا يسيغه هنيئًا‏.‏

واختلف السلف في حكم الأكل متكئًا فزعم ابن القاص أن ذلك من الخصائص النبوية وتعقبه البيهقي فقال‏:‏ يكره لغيره أيضًا لأنه من فعل المتعظمين وأصله مأخوذ من ملوك العجم قال‏:‏ فإن كان بالمرء مانع لا يتمكن معه الآكل إلا متكئًا لم يكن في ذلك كراهة ثم ساق عن جماعة من السلف أنهم أكلوا كذلك وأشار إلى حمل ذلك عنهم على الضرورة وفي الحمل نظر‏.‏

وقد أخرج ابن أبي شيبة عن ابن عباس وخالد بن الوليد وعبيدة السلماني ومحمد بن سيرين وعطاء بن يسار والزهري جواز ذلك مطلقًا وإذا ثبت كونه مكروهًا أو خلاف الأولى فالمستحب في صفة الجلوس للأكل أن يكون جاثيًا على ركبتيه وظهور قدميه أو ينصب الرجل اليمنى ويجلس على اليسرى واستثنى الغزالي من كراهة الأكل مضطجعًا أكل البقل واختلف في علة الكراهة وأقوى ما ورد في ذلك ما أخرجه ابن أبي شيبة من طريق إبراهيم النخعي قال‏:‏ كانوا يكرهون أن يأكلوا تكأة مخافة أن تعظم بطونهم وإلى ذلك يشير بقية ما ورد من الأخبار‏.‏ ووجه الكراهة فيه ظاهر وكذلك ما أشار إليه ابن الأثير من جهة الطب‏.‏

6 - وعن أنس‏:‏ ‏(‏أن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم كان إذا طعم طعامًا لعق أصابعه الثلاث وقال‏:‏ إذا وقعت لقمة أحدكم فليمط عنها الأذى وليأكلها ولا يدعها للشيطان وأمرنا أن نسلت القصعة وقال‏:‏ إنكم لا تدرون في أي طعامكم البركة‏)‏‏.‏

رواه أحمد ومسلم وأبو داود والترمذي وصححه‏.‏

7 - وعن المغيرة بن شعبة قال‏:‏ ‏(‏ضفت النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم ذات ليلة فأمر بجنب فشوى قال فأخذ الشفرة فجعل يحتز لي بها منه‏)‏‏.‏

رواه أحمد‏.‏

8 - وعن جابر‏:‏ ‏(‏أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم أتى بعض حجر نسائه فدخل ثم أذن لي فدخلت فقال‏:‏ هل من غداء فقالوا‏:‏ نعم فأتي بثلاثة أقرصة فأخذ رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم قرصًا فوضعه بين يديه وأخذ قرصًا آخر فوضعه بين يدي ثم أخذ الثالث فكسره باثنتين فجعل نصفه بين يديه ونصفه بين يدي ثم قال‏:‏ هل من أدم قالوا‏:‏ لا إلا شيء من خل قال‏:‏ هاتوه فنعم الأدم هو‏)‏‏.‏

رواه أحمد ومسلم‏.‏

حديث المغيرة بن شعبة أخرجه أيضًا أبو داود والترمذي وابن ماجه ولفظ أبي داود في باب ترك الوضوء مما مست النار عن المغيرة بن شعبة قال‏:‏ ‏(‏ضفت النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم ذات يوم ليلة فأمر بجنب فشوى فأخذ الشفرة فجعل يحز لي بها منه قال‏:‏ فجاء بلال فآذنه بالصلاة قال‏:‏ فألقى السكين وقال‏:‏ ما له تربت يداه وقام يصلي‏)‏ زاد الأنباري‏:‏ ‏(‏وكان بشاربي وفاء فقصه على سواك أو قال أقصه لك على سواك‏)‏‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏لعق أصابعه‏)‏ فيه استحباب لعق الأصابع محافظة على بركة الطعام وتنظيفًا وسيأتي تمام الكلام على ذلك‏.‏

وفيه استحباب الأكل بثلاث أصابع ولا يضم إليها الرابعة والخامسة إلا لعذر بأن يكون مرقًا أو غيره مما لا يمكن بثلاث وغير ذلك من الأعذار‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏فليمط عنها الأذى‏)‏ فيه مشروعية أكل اللقمة الساقطة بعد مسح أذى يصيبها هذا إذا لم تقع على موضع نجس ولا بد من غسلها إن أمكن فإن تعذر قال النووي‏:‏ أطعمها حيوانًا ولا يتركها للشيطان‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏إن نسلت القصعة‏)‏ قال الخطابي‏:‏ سلت القصعة تتبع ما يبقى فيها من الطعام وفيه أن لعق القصعة مشروع والعلة في ذلك ما ذكرناه عقبه أنهم لا يدرون في أي طعامهم البركة أي أن الطعام الذي يحضر الإنسان فيه بركة ولا يدرى هل البركة فيما أكل أو فيما بقي على أصابعه أو فيما بقي في أسفل القصعة أو في اللقمة الساقطة فينبغي أن يحافظ على هذا كله لتحصل البركة وأصل البركة الزيادة وثبوت الخير والإمتاع به‏.‏

قال النووي‏:‏ والمراد هنا واللّه أعلم ما تحصل به التغذية وتسلم عاقبته من أذى ويقوى على طاعة اللّه وغير ذلك وسيأتي حديث استغفار القصعة قريبًا وهو صالح للتعليل به‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏ضفت النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم‏)‏ بكسر الضاد المعجمة من ضاف يضيف مثل باع يبيع وقال في النهاية‏:‏ ضفت الرجل إذا نزلت به في ضيافته‏.‏

وقال في الضياء‏:‏ إذا تعرض به ليضيفه‏.‏ قال في النهاية‏:‏ وأضفته إذا أنزلته وتضيفته إذا نزلت به‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏فأخذ الشفرة فجعل يحتز لي بها‏)‏ فيه دليل على جواز قطع اللحم بالسكين‏.‏

وقد أخرج أبو داود عن عائشة قالت‏:‏ ‏(‏قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم‏:‏ لا تقطعوا اللحم بالسكين فإنه من صنع الأعاجم وانهشوه فهو أهنأ وأمرأ‏)‏ ويؤيد حديث الباب ما رواه البخاري وغيره من حديث عمرو بن أمية الضمري أنه ‏(‏رأى رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم يحتز من كتف شاة فدعي إلى الصلاة فألقى السكين فصلى ولم يتوضأ‏)‏ على أن حديث عائشة المذكور في إسناده أبو معشر السندي المدني واسمه نجيح كان يحيى بن سعيد القطان لا يحدث عنه ويستضعفه جدًا ويضحك إذا ذكره غيره‏.‏ قال المنذري‏:‏ وتكلم فيه غير واحد من الأئمة وقال النسائي‏:‏ أبو معشر له أحاديث مناكير منها هذا‏.‏ ومنها عن أبي هريرة ما بين المشرق والمغرب قبلة وأما أحمد بن حنبل فقال صدوق وعلى كل حال فحديث عائشة لا يعادل ما عارضه من حديث عمرو بن أمية وحديث الباب ويروي عن الإمام أحمد أنه سئل عن حديث عائشة فقال ليس بمعروف‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏فأخذ قرصًا‏)‏ الخ فيه استحباب التسوية بين الحاضرين على الطعام وإن كان بعضهم أفضل من بعض‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏هل من أدم‏)‏ قال أهل اللغة‏:‏ الإدام بكسر الهمزة ما يؤتدم به يقال أدم الخبز يأدمه بكسر الدال وجمع الإدام أدم بضم الهمزة كأهاب وأهب وكتاب وكتب والإدام بإسكان الدال مفرد كالإدام كذا قال النووي‏.‏ قال الخطابي والقاضي عياض‏:‏ معنى الحديث مدح الاقتصار في المأكل ومنع النفس عن ملاذ الأطعمة تقديره ائتدموا بالخل وما في معناه مما تخف مؤنته ولا يعز وجوده ولا تتأنقوا في الشهوات فإنها مفسدة للدين مسقمة للبدن‏.‏

قال النووي‏:‏ والصواب الذي ينبغي أن يجزم به أنه مدح للخل نفسه‏.‏

وأما الاقتصار في المطعم وترك الشهوات فمعلوم من قواعد أخر‏.‏

قال‏:‏ وأما قول جابر فما زلت أحب الخل منذ سمعتها من نبي اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم فهو كقول أنس ما زلت أحب الدباء وهذا يؤيد ما قلناه في معنى الحديث أنه مدح للخل نفسه وقد كررنا مرات أن تأويل الراوي إذا لم يخالف الظاهر يتعين المصير إليه والعمل به عند جماهير العلماء من الفقهاء والأصوليين وهذا كذلك بل تأويل الراوي هنا هو ظاهر اللفظ فيتعين اعتماده اهـ‏.‏ وقيل وهو الصواب أنه ليس فيه تفضيل على اللحم واللبن والعسل والمرق وإنما هو مدح له في تلك الحال التي حضر فيها ولو حضر لحم أو لبن لكان أولى بالمدح منه‏.‏

9 - وعن أبي مسعود عقبة بن عمرو‏:‏ ‏(‏أن رجلًا من قومه يقال له أبو شعيب صنع للنبي صلى اللّه عليه وآله وسلم طعامًا فأرسل إلى النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم ائتني أنت وخمسة معك قال‏:‏ فبعث إليه أن ائذن لي في السادس‏)‏‏.‏

متفق عليه‏.‏

10 - وعن ابن عباس‏:‏ ‏(‏أن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم قال‏:‏ إذا أكل أحدكم طعامًا فلا يمسح يده حتى يلعقها أو يلعقها‏)‏‏.‏

متفق عليه ورواه أبو داود وقال فيه بالمنديل‏.‏

11 - وعن جابر‏:‏ ‏(‏أن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم أمر بلعق الأصابع والصحفة وقال‏:‏ إنكم لا تدرون في أي طعامكم البركة‏)‏‏.‏

رواه أحمد ومسلم‏.‏

12 - وعن نبيشة الخير‏:‏ ‏(‏أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم قال‏:‏ من أكل في قصعة ثم لحسها استغفرت له القصعة‏)‏‏.‏

رواه أحمد وابن ماجه والترمذي‏.‏

13 - وعن جابر‏:‏ ‏(‏أنه سئل عن الوضوء مما مسته النار فقال لا لقد كنا في زمن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم لا نجد مثل ذلك من الطعام إلا قليلًا فإذا نحن وجدناه لم يكن لنا مناديل إلا أكفنا وسواعدنا وأقدامنا ثم نصلي ولا نتوضأ‏)‏‏.‏

رواه البخاري وابن ماجه‏.‏

14 - وعن أبي هريرة قال‏:‏ ‏(‏قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم‏:‏ من بات وفي يده غمر ولم يغسله فأصابه شيء فلا يلومن إلا نفسه‏)‏‏.‏

رواه الخمسة إلا النسائي‏.‏

حديث نبيشة الخير رواه الترمذي من طريق نصر بن علي الجهضمي قال‏:‏ أخبرنا أبو اليمان المعلى بن راشد قال حدثتني جدتي أم عاصم وكانت أم ولد لسنان بن سلمة قالت‏:‏ دخل علينا نبيشة الخير ونحن نأكل في قصعة فحدثنا‏:‏ ‏(‏أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم قال‏:‏ من أكل في قصعة ثم لحسها استغفرت له القصعة‏)‏ قال الترمذي‏:‏ هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من حديث المعلى بن راشد وقد روى يزيد بن هارون وغير واحد من الأئمة عن المعلى بن راشد هدا الحديث اهـ‏.‏

وحديث أبي هريرة سكت عنه أبو داود ورجال إسناده رجال الصحيح وأخرجه الترمذي معلقًا وأخرجه الضياء من حديث سعيد المقبري عن أبي هريرة وقال غريب‏.‏ وأخرجه أيضًا من حديث الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة وقال حسن غريب لا نعرفه من حديث الأعمش إلا من هذا الوجه‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏فبعث إليه أن ائذن لي في السادس‏)‏ فيه أن المدعو إذا تبعه رجل من غير استدعاء ينبغي له أن لا يأذن له ولا ينهاه وإذا بلغ باب دار صاحب الطعام أعلمه به ليأذن له أو يمنعه وأن صاحب الطعام يستحب له أن يأذن له إن لم يترتب على حضوره مفسدة بأن يؤذي الحاضرين أو يشيع عنهم ما يكرهونه أو يكون جلوسه معهم مزريًا بهم لشهرته بالفسوق ونحو ذلك فإن خيف من حضوره شيء من هذا لم يأذن له وينبغي أن يتلطف في رده ولو بإعطائه شيئًا من الطعام إن كان يليق به ليكون ردًا جميلًا كذا قال النووي‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏فلا يمسح يده‏)‏ يحتمل أن يكون أطلق اليد على الأصابع الثلاث لما تقدم في حديث أنس بلفظ‏:‏ ‏(‏لعق أصابعه الثلاث‏)‏ وفي مسلم من حديث كعب بن مالك بلفظ‏:‏ ‏(‏يأكل بثلاث أصابع فإذا فرغ لعقها‏)‏ ويحتمل أن يطلق على جميع أصابع اليد لأن الغالب اتصال شيء من آثار الطعام بجميعها ويحتمل أن يكون المراد باليد الكف كلها‏.‏

قال الحافظ‏:‏ وهو الأولى فيشمل الحكم من أكل بكفه كلها أو بأصابعه فقط أو ببعضها وقال ابن العربي في شرح الترمذي‏:‏ يدل على الأكل بالكف كلها أنه صلى اللّه عليه وآله وسلم كان يتعرق العظم وينهش اللحم ولا يمكن ذلك عادة إلا بالكف كلها قيل وفيه نظر لأنه يمكن بالثلاث سلمنا لكن هو ممسك بكفه كلها لا آكل بها سلمنا لكن محل الضرورة لا يدل على عموم الأحوال ويؤخذ من حديث كعب بن مالك أن السنة الأكل بثلاث أصابع وإن كان الأكل بأكثر منها جائزًا‏.‏

وقد أخرج سعيد بن منصور عن سفيان عن عبيد اللّه بن يزيد أنه رأى ابن عباس إذا أكل لعق أصابعه الثلاث‏.‏

قال عياض‏:‏ والأكل بأكثر منها من الشره وسوء الأدب وتكبير اللقم ولأنه غير مضطر إلى ذلك لجمعه اللقمة وإمساكها من جهاتها الثلاث فإن اضطر إلى ذلك لخفة الطعام وعدم تلفيفه بالثلاث فيدعمه بالرابعة أو الخامسة‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏حتى يلعقها أو يلعقها‏)‏ الأول بفتح حرف المضارعة والثاني بضمها أي يلعقها زوجته أو جاريته أو خادمه أو ولده وكذا من كان في معناهم كتلميذ يعتقد البركة بلعقها وكذا لو ألعقها شاة ونحوها‏.‏

وقال البيهقي‏:‏ إن قوله أو يلعقها شك من الراوي ثم قال فإن كانا جميعًا محفوظين فإنما أراد أن يلعقها صغيرًا أو من يعلم أنه لا يتقذر بها ويحتمل أن يكون أراد أن يلعق إصبعه فمه فيكون بمعنى يلعقها فتكون أو للشك‏.‏

قال ابن دقيق العيد‏:‏ جاءت علة هذا مبينة في بعض الروايات أنه لا يدري في أي طعامه البركة وقد يعلل أن مسحها قبل ذلك فيه زيادة تلويث لما يمسح به مع الاستغناء عنه بالريق لكن إذا صح الحديث بالتعليل لم يعدل عنه وقد عرفت أنه في صحيح مسلم كما في الباب‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وقال فيه بالمنديل‏)‏ هو أيضًا في صحيح مسلم بلفظ‏:‏ ‏(‏فلا يمسح يده بالمنديل حتى يلعق أصابعه‏)‏ وفي حديث جابر أنهم لم يكن لهم مناديل ومفهومه يدل على أنها لو كانت لهم مناديل لمسحوا بها‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏استغفرت له القصعة‏)‏ فيه أن ذلك من القرب التي ينبغي المحافظة عليها لأن استغفار القصعة دليل على كون الفعل مما يثاب عليه الفاعل‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏إلا أكفنا وسواعدنا‏)‏ فيه الإخبار بما كان عليه الصحابة رضي اللّه عنهم من التقلل من الدنيا والزهد فيها والانتفاع بالأكف والسواعد كما ينتفع غيرهم بالمناديل وقد تقدم الكلام على الوضوء مما مست النار‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏غمر‏)‏ بفتح الغين المعجمة والميم معًا هو ريح دسم اللحم وزهومته كالوضر من السمن ذكر معنى ذلك في النهاية‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏ولم يغسله‏)‏ إطلاقه يقتضي حصول السنة بمجرد الغسل بالماء قال ابن رسلان‏:‏ والأولى غسل اليد منه بالأشنان والصابون وما في معناهما‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وأصابه شيء‏)‏ في رواية للطبراني من بات وفي يده ريح غمر فأصابه وضح أي برص‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏فلا يلومن إلا نفسه‏)‏ أي لأنه الذي فرط بترك الغسل فأتى الشيطان فلحس يده فوقع بها البرص‏.‏ وأخرج الترمذي عن أنس قال‏:‏ ‏(‏قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم‏:‏ إن الشيطان حساس لحاس فاحذروه على أنفسكم من بات وفي يده غمر فأصابه شيء فلا يلومن إلا نفسه‏)‏ وقد جاء في الحديث تخصيص غسل اليد بأكل اللحم فأخرج أبو يعلى بإسناد ضعيف من حديث ابن عمر‏:‏ ‏(‏أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم قال‏:‏ من أكل من هذه اللحوم شيئًا فليغسل يده من ريح وضره‏)‏‏.‏

15 - وعن أبي أمامة‏:‏ ‏(‏أن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم كان إذا رفع مائدته قال الحمد للّه كثيرًا طيبًا مباركًا فيه غير مكفي ولا مودع ولا مستغنى عنه ربنا‏)‏‏.‏

رواه أحمد والبخاري وأبو داود وابن ماجه والترمذي وصححه‏.‏

وفي لفظ‏:‏ ‏(‏كان إذا فرغ من طعامه قال الحمد للّه الذي كفانا وأروانا غير مكفي ولا مكفور‏)‏ رواه البخاري‏.‏

16 - وعن أبي سعيد قال‏:‏ ‏(‏كان إذا أكل أو شرب قال الحمد للّه الذي أطعمنا وسقانا وجعلنا مسلمين‏)‏‏.‏

رواه أحمد وأبو داود والترمذي وابن ماجه‏.‏

17 - وعن معاذ بن أنس قال‏:‏ ‏(‏قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم‏:‏ من أكل طعامًا فقال الحمد للّه الذي أطعمني هذا ورزقنيه من غير حول مني ولا قوة غفر اللّه له ما تقدم من ذنبه‏)‏‏.‏

رواه أحمد وابن ماجه والترمذي وقال حديث حسن غريب‏.‏

18 - وعن ابن عباس قال‏:‏ ‏(‏قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم‏:‏ من أطعمه اللّه طعامًا فليقل اللّهم بارك لنا فيه وأطعمنا خيرًا منه ومن سقاه اللّه لبنًا فليقل اللّهم بارك لنا فيه وزدنا منه وقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم‏:‏ ليس شيء يجزي مكان الشراب والطعام غير اللبن‏)‏‏.‏

رواه الخمسة إلا النسائي‏.‏

حديث أبي سعيد أخرجه أيضًا النسائي وذكره البخاري في تاريخه الكبير وساق اختلاف الرواة فيه وقد سكت عنه أبو داود والمنذري وفي إسناده إسماعيل ابن رباح السلمي وهو مجهول‏.‏

وحديث معاذ بن أنس أخرجه الترمذي من طريق محمد بن إسماعيل قال حدثنا عبد اللّه بن يزيد المقبري حدثنا سعيد بن أيوب حدثني أبو مرحوم وهو عبد الرحمن بن ميمون عن سهل بن معاذ بن أنس عن أبيه وساق الحديث ثم قال هذا حديث حسن غريب‏.‏

وحديث ابن عباس وغيره ولكن لفظ أبي داود‏:‏ ‏(‏إذا أكل أحدكم طعامًا فليقل اللّهم بارك لنا فيه وأطعمنا خيرًا منه وإذا سقي لينًا فليقل اللّهم بارك لنا فيه وزدنا منه فإنه ليس شيء يجزي من الطعام والشراب إلا اللبن‏)‏ ولفظ الترمذي‏:‏ ‏(‏من أطعمه اللّه طعامًا فليقل اللّهم بارك لنا فيه وأطعمنا خيرًا منه ومن سقاه اللّه لبنًا فليقل اللّهم بارك لنا فيه وزدنا منه وقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم ليس شيء يجزي مكان الطعام والشراب غير اللبن‏)‏ وقد حسن هذا الحديث الترمذي ولكن في إسناده علي بن يزيد بن جدعان عن عمر بن حرملة وقد ضعف علي بن زيد جماعة من الحفاظ‏.‏ وعمر بن حرملة سئل عنه أبو زرعة الرازي فقال بصري لا أعرفه إلا في هذا الحديث‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏إذا رفع مائدته‏)‏ قد ثبت أنه صلى اللّه عليه وآله وسلم لم يأكل على خوان قط كما في حديث أنس والمائدة هي خوان عليه طعام فأجاب بعضهم بأن أنسًا ما رأى ذلك ورآه غيره والمثبت يقدم على النافي‏.‏ قال في الفتح‏:‏ وقد تطلق المائدة ويراد بها نفس الطعام‏.‏ وقد نقل عن البخاري أنه قال‏:‏ إذا أكل الطعام على شيء ثم رفع قيل رفعت المائدة‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏غير مكفي‏)‏ بفتح الميم وسكون الكاف وكسر الفاء وتشديد التحتانية قال ابن بطال‏:‏ يحتمل أن يكون من كفأت الإناء فالمعنى غير مردود عليه إنعامه ويحتمل أن يكون من الكفاية أي أن اللّه غير مكفي رزق عباده لأنه لا يكفيهم أحد غيره‏.‏

وقال ابن التين‏:‏ أي غير محتاج إلى أحد لكنه هو الذي يطعم عباده ويكفيهم هذا قول الخطابي‏.‏ وقال القزاز‏:‏ معناه أنا غير مكتف بنفسي عن كفايته وقال الداودي‏:‏ معناه لم أكتف من فضل اللّه ونعمته قال ابن التين‏:‏ وقول الخطابي أولى لأن مفعولًا بمعنى مفتعل فيه بعد وخروج عن الظاهر‏.‏

قال في الفتح‏:‏ وهذا كله على أن الضمير للّه ويحتمل أن يكون الضمير للحمد‏.‏ وقال إبراهيم الحربي‏:‏ الضمير للطعام ومكفي بمعنى مقلوب من الإكفاء وهو القلب‏.‏ وذكر ابن الجوزي عن أبي منصور الجواليقي أن الصواب غير مكافأ بالهمز أي أن نعمة اللّه لا تكافأ اهـ‏.‏ وقد ثبت هكذا في حديث أبي هريرة ويؤيد هذا لفظ كفانا الواقع في الرواية الأخرى لأن الضمير فيه يعود إلى اللّه تعالى بلا ريب إذ هو تعالى هو الكافي لا المكفي وكفانا هو من الكفاية وهو أعم من الشبع والري وغيرهما فأروانا على هذا من الخاص بعد العام ووقع في رواية ابن السكن وآوانا بالمد من الإيواء‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏ولا مودع‏)‏ بفتح الدال الثقيلة أي غير متروك ويحتمل أنه حال من القائل أي غير تارك‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏ولا مستغنى عنه‏)‏ بفتح النون وبالتنوين‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏ربنا‏)‏ بالرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف أي هو ربنا أو على أنه مبتدأ وخبره متقدم عليه ويجوز النصب على المدح أو الاختصاص أو إضمار أعني‏.‏

قال ابن التين‏:‏ ويجوز الجر على أنه بدل من الضمير في عنه وقال غيره‏:‏ على البدل من الاسم في قوله الحمد للّه‏.‏ وقال ابن الجوزي‏:‏ ربنا بالنصب على النداء مع حذف أداة النداء‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏ولا مكفور‏)‏ أي مجحود فضله ونعمته وهذا أيضًا مما يقوي أن الضمير للّه تعالى‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏إذا أكل أو شرب‏)‏ لفظ أبي داود‏:‏ ‏(‏كان إذا فرغ من طعامه‏)‏ والمذكور في الباب لفظ الترمذي‏.‏ وفي حديث أبي هريرة عند النسائي والحاكم وقال صحيح على شرط مسلم مرفوعًا‏:‏ ‏(‏الحمد للّه الذي أطعم من الطعام وسقى من الشراب وكسا من العري وهدى من الضلال وبصر من العمى وفضل على كثير ممن خلق تفضيلًا‏)‏‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وزدنا منه‏)‏ هذا يدل على الروايات التي ذكرناها أنه ليس في الأطعمة والأشربة خير من اللبن وظاهره أنه خير من العسل الذي هو شفاء لكن قد يقال إن اللبن باعتبار التغذي والري خير من العسل ومرجح عليه والعسل باعتبار التداوي من كل داء وباعتبار الحلاوة مرجح على اللبن ففي كل منهما خصوصية يترجح بها ويحتمل أن المراد وزدنا لبنًا من جنسه وهو لبن الجنة كما في قوله تعالى ‏{‏هذا الذي رزقنا من قبل‏}‏‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏فإنه ليس يجزي‏)‏ بضم أوله من الطعام أي بدل الطعام كقوله تعالى ‏{‏أرضيتم بالحياة الدنيا من الآخرة‏}‏ أي بدلها‏.‏

 كتاب الأشربة

 باب تحريم الخمر ونسخ إباحتها المتقدمة

1 - عن ابن عمر‏:‏ ‏(‏أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم قال‏:‏ من شرب الخمر في الدنيا ثم لم يتب منها حرمها في الآخرة‏)‏‏.‏

رواه الجماعة إلا الترمذي‏.‏

2 - وعن أبي هريرة قال‏:‏ ‏(‏قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم‏:‏ مدمن الخمر كعابد وثن‏)‏‏.‏

رواه ابن ماجه‏.‏

3 - وعن أبي سعيد قال‏:‏ ‏(‏سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم يقول‏:‏ يا أيها الناس إن اللّه يبغض الخمر ولعل اللّه سينزل فيها أمرًا فمن كان عنده منها شيء فليبعه ولينتفع به قال‏:‏ فما لبثنا إلا يسيرًا حتى قال صلى اللّه عليه وآله وسلم‏:‏ إن اللّه حرم الخمر فمن أدركته هذه الآية وعنده منها شيء فلا يشرب ولا يبيع قال‏:‏ فاستقبل الناس بما عندهم منها طرق المدينة فسفكوها‏)‏‏.‏

رواه مسلم‏.‏

4 - وعن ابن عباس قال‏:‏ ‏(‏كان لرسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم صديق من ثقيف ودوس فلقيه يوم الفتح براحلة أو راوية من الخمر يهديها إليه فقال‏:‏ يا فلان أما علمت أن اللّه حرمها فأقبل الرجل على غلامه فقال‏:‏ اذهب فبعها فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم‏:‏ إن الذي حرم شربها حرم بيعها فأمر بها فأفرغت في البطحاء‏)‏‏.‏

رواه أحمد ومسلم والنسائي‏.‏

وفي رواية لأحمد‏:‏ أن رجلًا خرج والخمر حلال فأهدى لرسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم راوية خمر فذكر نحوه وهو دليل على أن الخمور المحرمة وغيرها تراق ولا تستصلح بتخليل ولا غيره‏.‏

5 - وعن أبي هريرة‏:‏ ‏(‏أن رجلًا كان يهدي النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم راوية خمر فأهداها إليه عامًا وقد حرمت فقال النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم‏:‏ إنها قد حرمت فقال الرجل‏:‏ أفلا أبيعها فقال‏:‏ إن الذي حرم شربها حرم بيعها قال‏:‏ أفلا أكارم بها اليهود قال‏:‏ إن الذي حرمها حرم أن يكارم بها اليهود قال‏:‏ فكيف أصنع بها قال شنها على البطحاء‏)‏‏.‏

رواه الحميدي في مسنده‏.‏

6 - وعن ابن عمر قال‏:‏ ‏(‏نزل في الخمر ثلاث آيات فأول شيء نزلت ‏{‏يسألونك عن الخمر والميسر‏}‏ الآية‏.‏ فقيل حرمت الخمر فقيل يا رسول اللّه ننتفع بها كما قال اللّه عز وجل فسكت عنهم ثم أنزلت هذه الآية ‏{‏لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى‏}‏ فقيل حرمت الخمر بعينها فقالوا يا رسول اللّه إنا لا نشربها قرب الصلاة فسكت عنهم ثم نزلت ‏{‏يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان‏}‏ الآية‏.‏ فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم‏:‏ حرمت الخمر‏)‏‏.‏

رواه أبو داود الطيالسي في مسنده‏.‏

7 - وعن علي عليه السلام قال‏:‏ ‏(‏صنع لنا عبد الرحمن بن عوف طعامًا فدعانا وسقانا من الخمر فأخذت الخمر منا وقد حضرت الصلاة فقدموني فقرأت قل يا أيها الكافرون لا أعبد ما تعبدون ونحن نعبد ما تعبدون قال فأنزل اللّه عز وجل ‏{‏يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون‏}‏‏)‏‏.‏

رواه الترمذي وصححه‏.‏

حديث أبي هريرة الأول إسناده في سنن ابن ماجه هكذا حدثنا أبو بكر ابن أبي شيبة ومحمد بن الصباح قالا حدثنا محمد بن سليمان الأصبهاني عن سهيل ابن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة فذكره ورجال إسناده ثقات إلا محمد بن سليمان فصدوق لكنه يخطئ وقد ضعفه النسائي وقال أبو حاتم لا بأس به وليس بحجة‏.‏

وحديث علي عليه السلام سيأتي الكلام عليه آخر البحث‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏من شرب الخمر في الدنيا ثم لم يتب منها حرمها‏)‏ بضم المهملة وكسر الراء الخفيفة من الحرمان والمراد بقوله لم يتب منها أي من شربها فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه‏.‏

قال الخطابي والبغوي في شرح السنة‏:‏ معنى الحديث لا يدخل الجنة لأن الخمر شراب أهل الجنة فإذا حرم شربها دل على أنه لا يدخل الجنة‏.‏

وقال ابن عبد البر‏:‏ هذا وعيد شديد يدل على حرمان دخول الجنة لأن اللّه تعالى أخبر أن في الجنة أنهارًا من خمر لذة للشاربين وأنهم لا يصدعون عنها ولا ينزفون فلو دخلها وقد علم أن فيها خمرًا أو أنه حرمها عقوبة له لزم وقوع الهم والحزن والجنة لا هم فيها ولا حزن وإن لم يعلم بوجودها في الجنة ولا أنه حرمها عقوبة له لم يكن عليه في فقدها ألم فلهذا قال بعض من تقدم أنه لا يدخل الجنة أصلًا قال وهو مذهب غير مرضي قال ويحمل الحديث عند أهل السنة على أنه لا يدخلها ولا يشرب الخمر فيها إلا إن عفا اللّه عنه كما في بقية الكبائر وهو في المشيئة فعلى هذا معنى الحديث جزاؤه في الآخرة أن يحرمها لحرمانه دخول الجنة إلا إن عفا اللّه عنه قال وجائز أن يدخل الجنة بالعفو ثم لا يشرب فيها خمرًا ولا تشتهيها نفسه وإن علم بوجودها فيها ويؤيده حديث أبي سعيد مرفوعًا‏:‏ من لبس الحرير في الدنيا لم يلبسه في الآخرة وإن دخل الجنة لبسه أهل الجنة ولم يلبسه وقد أخرجه الطبراني وصححه ابن حبان وقريب منه حديث عبد اللّه بن عمرو رفعه‏:‏ ‏(‏من مات من أمتي وهو يشرب الخمر حرم اللّه عليه شربها في الجنة‏)‏ أخرجه أحمد بسند حسن وقد زاد عياض على ما ذكره ابن عبد البر احتمالًا وهو أن المراد بحرمانه شربها أنه يحبس عن الجنة مدة إذا أراد اللّه عقوبته ومثله الحديث الآخر لم يرح رائحة الجنة قال ومن قال لا يشربها في الجنة بأن ينساها أو لا يشتهيها يقول ليس عليه في ذلك حسرة ولا يكون ترك شهوته إياها عقوبة في حقه بل هو نقص نعم بالنسبة إلى من هو أتم نعيمًا منه كما تختلف درجاتهم ولا يلحق من هو أنقص درجة بمن هو أعلى درجة منه استغناء بما أعطي واغتباطًا به‏.‏

وقال ابن العربي‏:‏ ظاهر الحديثين أنه لا يشرب الخمر في الجنة ولا يلبس الحرير فيها وذلك لأنه استعجل ما أمر بتأخيره ووعد به فحرمه عند ميقاته وفصل بعض المتأخرين بين من شربها مستحلًا فهو الذي لا يشربها أصلًا لأنه لا يدخل الجنة أصلًا وعدم الدخول يستلزم حرمانها ومن شربها عالمًا بتحريمها فهو محل الخلاف وهو الذي يحرم شربها مدة ولو في حال تعذيبه إن عذب أو المعنى أن ذاك جزاؤه إن جوزي وفي الحديث أن التوبة تكفر المعاصي الكبائر وذلك في التوبة من الكفر قطعي وفي غيره من الذنوب خلاف بين أهل السنة هل هو قطعي أو ظني قال النووي‏:‏ الأقوى أنه ظني وقال القرطبي‏:‏ من استقرأ الشريعة علم أن اللّه يقبل توبة الصادقين قطعًا وللتوبة الصادقة شروط مدونة في مواطن ذلك‏.‏

وظاهر الوعيد أنه يتناول من شرب الخمر إن لم يحصل له السكر لأنه رتب الوعيد في الحديث على مجرد الشرب من غير تقييد‏.‏

قال في الفتح‏:‏ وهو مجمع عليه في الخمر المتخذ من عصير العنب وكذا فيما يسكر من غيرها وأما ما لا يسكر من غيرها فالأمر فيه كذلك عند الجمهور‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏مدمن الخمر كعابد وثن‏)‏ هذا وعيد شديد وتهديد ما عليه مزيد لأن عابد الوثن أشد الكافرين كفرًا فالتشبيه لفاعل هذه المعصية بفاعل العبادة للوثن من أعظم المبالغة والزجر لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد‏.‏

قوله ‏(‏إن اللّه حرم الخمر‏)‏ اختلف في بيان الوقت الذي حرمت فيه الخمر فقال الدمياطي في سيرته‏:‏ بأنه كان عام الحديبية والحديبية كانت سنة ست وذكر ابن إسحاق أنه كان في وقعة بني النضير وهي بعد أحد وذلك سنة أربع على الراجح‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏فمن أدركته هذه الآية‏)‏ لعله يعني قوله تعالى ‏{‏إنما الخمر والميسر‏}‏‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏أفلا أكارم بها اليهود‏)‏ قال في القاموس‏:‏ كارمه فكرمه كنصره غلبه فيه اهـ ولعل المراد هنا المهاداة‏.‏ قال في النهاية‏:‏ المكارمة أن تهدي لإنسان شيئًا ليكافئك عليه وهي مفاعلة من الكرم اهـ‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏ثم نزلت إنما الخمر والميسر‏)‏ أخرج أبو داود عن ابن عباس أن قوله تعالى ‏{‏يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى‏}‏ وقوله تعالى ‏{‏يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس‏}‏ نسختهما التي في المائدة ‏{‏إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس‏}‏ وفي إسناده علي بن الحسين بن واقد وفيه مقال‏.‏ ووجه النسخ أن الآية الآخرة فيها الأمر بمطلق الاجتناب وهو يستلزم أن لا ينتفع بشيء معه من الخمر في حال من حالاته في غير وقت الصلاة وفي حال السكر وحال عدم السكر وجميع المنافع في العين والثمن‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وعن علي رضي اللّه عنه قال صنع لنا عبد الرحمن‏)‏ الخ هذا الحديث صححه الترمذي كما رواه المصنف رحمه اللّه وأخرجه أيضًا النسائي وأبو داود وفي إسناده عطاء بن السائب لا يعرف إلا من حديثه وقد قال يحيى بن معين لا يحتج بحديثه وفرق مرة بين حديثه القديم وحديثه الحديث ووافقه على التفرقة الإمام أحمد‏.‏ وقال أبو بكر البزار‏:‏ وهذا الحديث لا نعلمه يروى عن علي رضي اللّه عنه متصل الإسناد إلا من حديث عطاء بن السائب عن أبي عبد الرحمن يعني السلمي وإنما كان ذلك قبل أن تحرم الخمر فحرمت من أجل ذلك‏.‏

قال المنذري‏:‏ وقد اختلف في إسناده ومتنه فأما الاختلاف في إسناده فرواه سفيان الثوري وأبو جعفر الرازي عن عطاء بن السائب فأرسلوه وأما الاختلاف في متنه ففي كتاب أبو داود والترمذي أن الذي صلى بهم علي عليه السلام وفي كتاب النسائي وأبو جعفر النحاس أن المصلي بهم عبد الرحمن بن عوف وفي كتاب أبي بكر البزار أمروا رجلًا فصلى بهم ولم يسمه‏.‏ وفي حديث غيره فتقدم بعض القوم اهـ‏.‏

وأخرج الحاكم في تفسير سورة النساء عن عطاء بن السائب عن أبي عبد الرحمن عن علي رضي اللّه عنه دعانا رجل من الأنصار قبل تحريم الخمر فحضرت صلاة المغرب فتقدم رجل فقرأ قل يا أيها الكافرون فألبس عليه فنزلت لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى ثم قال صحيح‏.‏ قال‏:‏ وفي هذا الحديث فائدة كبيرة وهي أن الخوارج تنسب هذا السكر وهذه القراءة إلى أمير المؤمنين علي بن أبي طالب دون غيره وقد برأه اللّه فإنه راوي الحديث‏.‏