فصل: باب قضاء الفوائت

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: نيل الأوطار شرح منتقى الأخبار **


الجزء الثاني

تابع كتاب الصلاة

 باب قضاء الفوائت

بسم اللَّه الرحمن الرحيم

-1 عن أنس بن مالك‏:‏ ‏(‏أن النبي صلى اللَّه عليه وآله وسلم قال‏:‏ من نسي صلاة فليصلها إذا ذكرها لا كفارة لها إلا ذلك‏)‏‏.‏

متفق عليه‏.‏

ولمسلم‏:‏ ‏(‏إذا رقد أحدكم عن الصلاة أو غفل عنها فليصلها إذا ذكرها فإن اللَّه عز وجل يقول ‏{‏أقم الصلاة لذكري‏}‏‏)‏‏.‏

2 - وعن أبي هريرة‏:‏ ‏(‏عن النبي صلى اللَّه عليه وآله وسلم قال‏:‏ من نسي صلاة فليصلها إذا ذكرها فإن اللَّه تعالى يقول ‏{‏أقم الصلاة لذكري‏}‏‏)‏‏.‏

رواه الجماعة إلا البخاري والترمذي‏.‏

قوله ‏(‏من نسي‏)‏ تمسك بدليل الخطاب من قال إن العامد لا يقضي الصلاة لأن انتفاء الشرط يستلزم انتفاء المشروط فيلزم منه إن من لم ينس لا يصلي وإلى ذلك ذهب داود وابن حزم وبعض أصحاب الشافعي وحكاه في البحر عن ابني الهادي والأستاذ ورواية عن القاسم والناصر‏:‏ قال ابن تيمية حفيد المصنف‏:‏ والمنازعون لهم ليس لهم حجة قط يرد إليها عند التنازع وأكثرهم يقولون لا يجب القضاء إلا بأمر جديد وليس معهم هنا أمر ونحن لا ننازع في وجوب القضاء فقط بل ننازع في قبول القضاء منه وصحة الصلاة في غير وقتها وأطال البحث في ذلك واختار ما ذكره داود ومن معه والأمر كما ذكره فإني لم أقف مع البحث الشديد للموجبين للقضاء على العامد وهم من عدا من ذكرنا على دليل ينفق في سوق المناظرة ويصلح للتعويل عليه في مثل هذا الأصل العظيم إلا حديث ‏(‏فدين اللَّه أحق أن يقضى‏)‏ باعتبار ما يقتضيه اسم الجنس المضاف من العموم ـ وأيضًا عمومات الأدلة القاضية بالقضاء على من أفطر في رمضان وغير ذلك ولا فرق بين الصلاة والصيام في الوجوب على أن الصلاة لا تسقط بخلاف الصيام فهي أولى بالقضاء ـ‏.‏ ولكنهم لم يرفعوا إليه رأسًا وأنهض ما جاؤوا به في هذا المقام قولهم إن الأحاديث الواردة بوجوب القضاء على الناسي يستفاد من مفهوم خطابها وجوب القضاء على العامد لأنها من باب التنبيه بالأدنى على الأعلى فتدل بفحوى الخطاب وقياس الأولى على المطلوب وهذا مردود لأن القائل بأن العامد لا يقضي لم يرد أنه أخف حالًا من الناسي بل صرح بأن المانع من وجوب القضاء على العامد أنه لا يسقط الإثم عنه فلا فائدة فيه فيكون إثباته مع عدم النص عبثًا بخلاف الناسي والنائم فقد أمرهما الشارع بذلك وصرح بأن القضاء كفارة لهما لا كفارة لهما سواه ومن جملة حججهم أن قوله في الحديث ‏(‏لا كفارة لها إلا ذلك‏)‏ يدل على العامد مراد بالحديث لأن النائم والناسي لا إثم عليهما قالوا‏:‏ فالمراد بالناسي التارك سواء كان عن ذهول أم لا ومنه قوله تعالى ‏{‏نسوا اللَّه فنسيهم‏}‏ وقوله تعالى ‏{‏نسوا اللَّه فأنساهم أنفسهم‏}‏ ولا يخفى عليك أن هذا الكلام يستلزم عدم وجوب القضاء على الناسي والنائم لعدم الإثم الذي جعلوا الكفارة منوطة به والأحاديث الصحيحة قد صرحت بوجوب ذلك عليهما وقد استضعف الحافظ في الفتح هذا الاستدلال وقال‏:‏ الكفارة قد تكون عن الخطأ كما تكون عن العمد على أنه قد قيل أن المراد بالكفارة هي الإتيان بها تنبيهًا على أنه لا يكفي مجرد التوبة والاستغفار من دون فعل لها‏.‏ وقد أنصف ابن دقيق العيد فرد جميع ما تشبثوا به والمحتاج إلى إمعان النظر ما ذكرنا لك سابقًا من عموم حديث ‏(‏فدين اللَّه أحق أن يقضى‏)‏ لا سيما على قول من قال‏:‏ إن وجوب القضاء بدليل هو الخطاب الأول الدال على وجوب الأداء فليس عنده في وجوب القضاء على العامد فيما نحن بصدده تردد لأنه يقول المتعمد للترك قد خوطب بالصلاة ووجب عليه تأديتها فصارت دينًا عليه والدين لا يسقط إلا بأدائه إذا عرفت هذا علمت أن المقام من المضايق وأن قول النووي في شرح مسلم بعد حكاية قول من قال لا يجب القضاء على العامد أنه خطأ من قائله وجهالة من الإفراط المذموم‏.‏ وكذلك قول المقبلي في المنار أن باب القضاء ركب على غير أساس ليس فيه كتاب ولا سنة إلى آخر كلامه من التفريط‏.‏

قوله ‏(‏لا كفارة لها إلا ذلك‏)‏ استدل بالحصر الواقع في هذه العبارة على الاكتفاء بفعل الصلاة عند ذكرها وعدم وجوب إعادتها عند حضور وقتها من اليوم الثاني وسيأتي الكلام على ذلك عند الكلام على حديث عمران بن حصين من آخر هذا الباب‏.‏ والأمر بفعلها عند الذكر يدل على وجوب المبادرة بها فيكون حجة لمذهب من قال بوجوبه على الفور وهو الهادي والمؤيد باللَّه والناصر وأبو حنيفة وأبو يوسف والمزني والكرخي‏.‏ وقال القاسم ومالك والشافعي‏:‏ وروي عن المؤيد باللَّه أنه على التراخي واستدلوا في قضاء الصلاة بما في بعض الروايات حديث نوم الوادي من أنه لما استيقظ النبي صلى اللَّه عليه وآله وسلم بعد فوات الصلاة بالنوم أخر قضائها واقتادوا رواحلهم حتى خرجوا من الوادي ورد بأن التأخير لمانع آخر وهو ما دل عليه الحديث بأن ذلك الوادي كان به شيطان ولأهل القول الأول حجج غير مختصة بقضاء الصلاة وكذلك أهل القول الآخر‏.‏ واعلم أن الصلاة المتروكة في وقتها لعذر النوم والنسيان لا يكون فعلها بعد خروج وقتها المقدر لها لهذا العذر قضاء وإن لزم باصطلاح الأصول لكن الظاهر من الأدلة أنها أداء لا قضاء فالواجب الوقوف عند مقتضى الأدلة حتى ينتهض دليل يدل على القضاء‏.‏ والحديثان يدلان على وجوب فعل الصلاة إذا فاتت بنوم أو نسيان وهو إجماع‏.‏

قال المصنف رحمه اللَّه تعالى بعد أن ساق حديث أبي هريرة‏:‏ وفيه أن الفوائت يجب قضاؤها على الفور وأنها تقضى في أوقات النهي وغيرها وأن من مات وعليه صلاة فإنها لا تقضى عنه ولا يطعم عنه لها لقوله ‏(‏لا كفارة لها إلا ذلك‏)‏ وفيه دليل على أن شرع من قبلنا شرع لنا ما لم يرد نسخه انتهى‏.‏

3 - وعن أبي قتادة قال‏:‏ ‏(‏ذكروا للنبي صلى اللَّه عليه وسلم نومهم عن الصلاة فقال‏:‏ إنه ليس في النوم تفريط إنما التفريط في اليقظة فإذا نسي أحدكم صلاة أو نام عنها فليصلها إذا ذكرها‏)‏‏.‏

رواه النسائي والترمذي وصححه‏.‏

الحديث أخرجه أيضًا أبو داود من حديثه‏.‏ قال الحافظ‏:‏ وإسناده على شرط مسلم ورواه مسلم بنحوه في قصة نومهم في صلاة الفجر ولفظه‏:‏ ‏(‏ليس في النوم تفريط إنما التفريط على من لم يصل الصلاة حتى يجيء وقت الصلاة الأخرى فمن فعل ذلك فليصلها حتى ينتبه لها فإذا كان الغد فليصلها عند وقتها‏)‏ الحديث يدل على أن النائم ليس بمكلف حال نومه وهو إجماع ولا ينافيه إيجاب الضمان عليه لما أتلفه وإلزامه أرش ما جناه لأن ذلك من الأحكام الوضعية لا التكليفية وأحكام الوضع تلزم النائم والصبي والمجنون بالاتفاق‏.‏

وظاهر الحديث أنه لا تفريط في النوم سواء كان قبل دخول وقت الصلاة أو بعده قبل تضيقه‏.‏ وقيل إنه إذا تعمد النوم قبل تضيق الوقت واتخذ ذلك ذريعة إلى ترك الصلاة لغلبة ظنه أنه لا يستيقظ إلا وقد خرج الوقت كان آثمًا والظاهر أنه لا إثم عليه بالنظر إلى النوم لأنه فعله في وقت يباح فعله فيه فيشمله الحديث وأما إذا نظر إلى التسبب به للترك فلا إشكال في العصيان بذلك ولا شك في إثم من نام بعد تضيق الوقت لتعلق الخطاب به والنوم مانع من الامتثال والواجب إزالة المانع وقد تقدم الكلام على قوله في الحديث ‏(‏فإذا نسي أحدكم صلاة‏)‏ الخ‏.‏

4 - وعن أبي قتادة في قصة نومهم عن صلاة الفجر قال‏:‏ ‏(‏ثم أذن بلال بالصلاة فصلى رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم ركعتين ثم صلى الغداة فصنع كما كان يصنع كل يوم‏)‏‏.‏

رواه أحمد ومسلم‏.‏

- الحديث أورده مسلم مطولًا وذكر فيه قصة أبي قتادة مع رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم في نومه على راحلته وأن أبا قتادة دعمه ثلاث مرات‏.‏ وأخرج النسائي وابن ماجه طرفًا منه‏.‏

قوله ‏(‏ثم أذن بلال‏)‏ فيه استحباب الأذان للصلاة الفائتة‏.‏

قوله ‏(‏فصلى‏)‏ الخ فيه استحباب قضاء السنة الراتبة لأن الظاهر أن هاتين الركعتين اللتين قبل الغداة هما سنة الصبح‏.‏

قوله ‏(‏كما كان يصنع كل يوم‏)‏ فيه إشارة إلى أن صفة قضاء الفائتة كصفة أدائها فيؤخذ منه أن فائتة الصبح يقنت فيها وإلى ذلك ذهب الشافعية وسيأتي الكلام على القنوت وتحقيق ما هو الحق فيه‏.‏ ويؤخذ منه أيضًا أنه يجهر في الصبح المقضية بعد طلوع الشمس‏.‏ ولهذا قال المصنف رحمه اللَّه‏:‏ وفيه دليل على الجهر في قضاء الفجر نهارًا انتهى‏.‏ وقال بعض أصحاب الشافعي‏:‏ إنه يسن فقط وحمل قوله ‏(‏كما كان يصنع‏)‏ على الأفعال فقط وفيه ضعف‏.‏

5 - وعن عمران بن حصين قال‏:‏ ‏(‏سرينا مع النبي صلى اللَّه عليه وسلم فلما كان في آخر الليل عرسنا فلم نستيقظ حتى أيقظنا حر الشمس فجعل الرجل منا يقوم دهشًا إلى طهوره ثم أمر بلالًا فأذن ثم صلى الركعتين قبل الفجر ثم أقام فصلينا فقالوا‏:‏ يا رسول اللَّه ألا نعيدها في وقتها من الغد فقال‏:‏ أينهاكم ربكم تعالى عن الربا ويقبله منكم‏)‏‏.‏

رواه أحمد في مسنده‏.‏

- الحديث أخرجه ابن خزيمة وابن حبان في صحيحيهما وابن أبي شيبة والطبراني وأخرجه البخاري ومسلم مطولًا عن أبي رجاء العطاردي عن عمران وليس فيهما ذكر الأذان والإقامة ولا قوله فقالوا‏:‏ يا رسول اللَّه ألا نعيدها إلى آخره‏.‏ وأخرجه أبو داود من حديث الحسن عن عمران وفيه ذكر الأذان والإقامة دون قوله فقالوا يا رسول اللَّه إلى آخر الحديث المذكور ولكنه أخرج هذه الزيادة التي في حديث الباب النسائي وذكرها الحافظ في الفتح واحتج بها ويعارضها ما في صحيح مسلم من حديث أبي قتادة بلفظ‏:‏ ‏(‏فإذا كان الغد فليصلها عند وقتها‏)‏ وما في سنن أبي داود من حديث عمران بن حصين بلفظ‏:‏ ‏(‏من أدرك منكم صلاة الغداة من غد صالحًا فليقض مثلها‏)‏ ويشهد لصحة تلك الرواية ما تقدم في أول الباب من حديث أنس بلفظ‏:‏ ‏(‏لا كفارة لها إلا ذلك‏)‏ ويدل على صحتها إجماع المسلمين على عدم وجوب قضاء تلك الصلاة التي فعلها النائم عند استيقاظه والساهي عند ذكره إذا حضر وقتها كما صرح بذلك الخطابي والحافظ ابن حجر والمعارضة برواية مسلم السابقة غير صحيحة لاحتمال أن يريد بقوله ‏(‏فليصلها عند وقتها‏)‏ أي الصلاة التي تحضر لأنه ربما توهم أن وقتها قد تحول إلى ذلك الوقت الذي ذكرها فيه ولا يريد أنه يعيد الصلاة بعد خروج وقتها ذكر معنى ذلك النووي والحافظ وغيرهما‏.‏ وأما رواية أبي داود فقال الحافظ‏:‏ إنها خطأ من راويها قال‏:‏ وحكى ذلك الترمذي وغيره عن البخاري‏.‏ وقد ذكر الحافظ في الفتح أنه رواها أبو داود من حديث عمران بن حصين ورأيناها في السنن من حديث أبي قتادة الأنصاري ولم يتفرد بها عمران حتى يقال في تضعيفها إنها من رواية الحسن عنه‏.‏ وقد صرح علي بن المديني وأبو حاتم وغيرهما أن الحسن لم يسمع منه ولكنها لا تنتهض لمعارضة حديث الباب بعد تأييده بما أسلفنا لا سيما بعد تصريح الحافظ بأنها خطأ‏.‏

قال المصنف رحمه اللَّه بعد سياقه لحديث الباب‏:‏ فيه دليل على أن الفائتة يسن لها الأذان والإقامة والجماعة وإن النداءين مشروعان في السفر وإن السنن الرواتب تقضى انتهى‏.‏

قوله ‏(‏عرسنا‏)‏ التعريس نزول المسافر آخر الليل للنوم والاستراحة هكذا قاله الخليل‏.‏ وقال أبو زيد‏:‏ هو النزول أي وقت كان من ليل أو نهار‏.‏

قوله ‏(‏فأذن ثم أقام‏)‏ سيأتي الكلام على الأذان والإقامة في القضاء في باب من عليه فائتة آخر الأذان إن شاء اللَّه تعالى‏.‏

 باب الترتيب في قضاء الفوائت

1 - عن جابر بن عبد اللَّه‏:‏ ‏(‏أن عمر جاء يوم الخندق بعد ما غربت الشمس فجعل يسب كفار قريش وقال‏:‏ يا رسول اللَّه ما كدت أصلي العصر حتى كادت الشمس تغرب فقال النبي صلى اللَّه عليه وآله وسلم‏:‏ واللَّه ما صليتها فتوضأ وتوضأنا فصلى العصر بعد ما غربت الشمس ثم صلى بعدها المغرب‏)‏‏.‏

متفق عليه‏.‏

قوله ‏(‏عن جابر‏)‏ قد اتفق الحفاظ من الرواة أن هذا الحديث من رواية جابر عن النبي صلى اللَّه عليه وآله وسلم إلا حجاج بن نصير فإنه رواه عن علي بن المبارك عن يحيى بن أبي كثير فقال فيه‏:‏ عن جابر عن عمر فجعله في مسند عمر‏.‏ قال الحافظ‏:‏ تفرد بذلك حجاج وهو ضعيف‏.‏

قوله ‏(‏يسب كفار قريش‏)‏ لأنهم كانوا السبب في تأخيرهم الصلاة عن وقتها‏.‏

قوله ‏(‏ما كدت‏)‏ لفظة كاد من أفعال المقاربة فإذا قلت كاد زيد يقوم فهم منه أنه قارب القيام ولم يقم كما تقرر في النحو‏.‏

والحديث يدل على وجوب قضاء الصلاة المتروكة لعذر الاشتغال بالقتال وقد وقع الخلاف في سبب ترك النبي صلى اللَّه عليه وآله وسلم وأصحابه لهذه الصلاة فقيل تركوها نسيانًا وقيل شغلوا فلم يتمكنوا وهو الأقرب كما قال الحافظ‏.‏ وفي سنن النسائي عن أبي سعيد أن ذلك قبل أن ينزل اللَّه في صلاة الخوف ‏{‏فرجالًا أو ركبانًا‏}‏ وسيأتي الحديث‏.‏

وقد استدل بهذا الحديث على وجوب الترتيب بين الفوائت المقضية والمؤداة فأبو حنيفة ومالك والليث والزهري والنخعي وربيعة قالوا بوجوب تقديم الفائتة على خلاف بينهم‏.‏ وقال الشافعي والهادي والقاسم‏:‏ لا يجب‏.‏ ولا ينتهض استدلال الموجبين بالحديث للمطلوب لأن الفعل بمجرده لا يدل على الوجوب‏.‏

قال الحافظ‏:‏ إلا أن يستدل بعموم قوله صلى اللَّه عليه وآله وسلم ‏(‏صلوا كما رأيتموني أصلي‏)‏ فيقوى قال‏:‏ وقد اعتبر ذلك الشافعية في أشياء غير هذه انتهى‏.‏ وقد استدل للموجبين أيضًا بأن توقيت المقضية بوقت الذكر أضيق من توقيت المؤداة فيجب تقديم ما تضيق‏.‏ والخلاف في جواز التراخي إنما هو في المطلقات لا المؤقتات المضيقة‏.‏ وقد اختلف أيضًا في الترتيب بين المقضيات أنفسها وسنذكره في شرح الحديث الآتي‏.‏

2 - وعن أبي سعيد قال‏:‏ ‏(‏حبسنا يوم الخندق عن الصلاة حتى كان بعد المغرب بهوى من الليل كفينا وذلك قول اللَّه عز وجل ‏{‏وكفى اللَّه المؤمنين القتال وكان اللَّه قويًا عزيزًا‏}‏ قال‏:‏ فدعا رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم بلالًا فأقام الظهر فصلاها فأحسن صلاتها كما كان يصليها في وقتها ثم أمره فأقام العصر فصلاها فأحسن صلاتها كما كان يصليها في وقتها ثم أمره فأقام المغرب فصلاها كذلك قال‏:‏ وذلك قبل أن ينزل اللَّه عز وجل في صلاة الخوف ‏{‏فإن خفتم فرجالًا أو ركبانًا‏}‏‏)‏‏.‏

رواه أحمد والنسائي ولم يذكر المغرب‏.‏

الحديث رجال إسناده رجال الصحيح وسيأتي ذكر من صححه‏.‏

وفي الباب عن عبد اللَّه بن مسعود عند الترمذي والنسائي بلفظ‏:‏ ‏(‏إن المشركين شغلوا رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم عن أربع صلوات يوم الخندق‏)‏ وساقا نحو الحديث‏.‏ وأخرج نحوه مالك في الموطأ‏.‏

قوله ‏(‏بهوى‏)‏ الهوى بفتح الهاء وكسر الواو وبياء مشددة السقوط والمراد بعد دخول طائفة من الليل‏.‏

والحديث يدل على وجوب قضاء الصلاة المتروكة لعذر الاشتغال بحرب الكفار ونحوهم لكن إنما كان هذا قبل شرعية صلاة الخوف كما في آخر الحديث والواجب بعد شرعيتها على من حبس بحرب العدو أن يفعلها‏.‏ وقد ذهب الجمهور إلى أن هذا منسوخ بصلاة الخوف وذهب مكحول وغيره من الشاميين إلى جواز تأخير صلاة الخوف إذا لم يتمكن من أدائها والصحيح الأول لما في آخر هذا الحديث والحديث مصرح بأنها فائتة صلاة الظهر والعصر وحديث جابر المتقدم مصرح بأنها العصر وحديث عبد اللَّه بن مسعود مصرح بأنها أربع صلوات فمن الناس من اعتمد الجمع فقال‏:‏ إن وقعة الخندق بقيت أيامًا فكان في بعض الأيام الفائت العصر فقط وفي بعضها الفائت العصر والظهر وفي بعضها الفائت أربع صلوات ذكره النووي وغيره‏.‏ ومن الناس من اعتمد الترجيح فقال‏:‏ إن الصلاة التي شغل عنها رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم واحدة وهي العصر ترجيحًا لما في الصحيحين على ما في غيرهما ذكره أبو بكر ابن العربي قال ابن سيد الناس‏:‏ والجمع أرجح لأن حديث أبي سعيد رواه الطحاوي عن المزني عن الشافعي حدثنا ابن أبي فديك عن ابن أبي ذئب عن المقبري عن عبد الرحمن بن أبي سعيد عن أبيه قال‏:‏ وهذا إسناد صحيح جليل انتهى‏.‏ وأخرجه أيضًا ابن خزيمة وابن حبان في صحيحيهما وصححه ابن السكن وقد تقدم نحو هذا في باب الصلاة الوسطى على أن حديث الباب ونحوه متضمن للزيادة فالمصير إليه متحتم واقتصار الراوي على ذكر العصر فقط لا يقدح في قول غيره أنها العصر والظهر أو الأربع الصلوات وغايته أنه روى ما علم وترك ما لم يعلم ومن علم حجة على من لم يعلم ولا يحتاج إلى الجمع بتعدد واقعة الخندق مع هذا‏.‏

والحديث أيضًا يدل على الترتيب بين الفوائت المقضية وقد قال بوجوبه زيد بن علي والناصر وأبو حنيفة وقال الشافعي والهادي والإمام يحيى‏:‏ إنه غير واجب وهو الظاهر لأن مجرد الفعل لا يدل على الوجوب إلا أن يستدل بعموم قوله صلى اللَّه عليه وآله وسلم ‏(‏صلوا كما رأيتموني أصلي‏)‏ كما سبق ولكنه غير خالص عن شوب اعتراض ومعارضة‏.‏

وفي الحديث دليل على استحباب قضاء الفوائت في الجماعة وخالف فيه الليث بن سعد والحديث يرد عليه‏.‏

قال المصنف رحمه اللَّه تعالى‏:‏ وفيه دليل على الإقامة للفوائت وعلى أن صلاة النهار وإن قضيت ليلًا لا يجهر فيها‏.‏ وعلى أن تأخيره يوم الخندق نسخ بشرع صلاة الخوف انتهى‏.‏

 أبواب الأذان

الأذان لغة الإعلام نقل ذلك النووي في شرح مسلم عن أهل اللغة‏.‏

وشرعًا الإعلام بوقت الصلاة بألفاظ مخصوصة وهو مع قلة ألفاظه مشتمل على مسائل العقائد كما بين ذلك الحافظ في الفتح نقلًا عن القرطبي‏.‏ وقد اختلف في الأفضل من الأذان والإمامة وسيأتي ما يرشد إلى الصواب‏.‏ وقد اختلف في أي وقت كان ابتداء شرعية الأذان فقيل نزل على رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم مع فرض الصلاة وقد روى ذلك ابن حبان عن ابن عباس بإسناد فيه عبد العزيز بن عمران وهو ممن لا تقوم به حجة‏.‏ وعند الدارقطني من حديث أنس‏.‏ قال الحافظ‏:‏ وإسناده ضعيف‏.‏ وعند الطبراني عن ابن عمر وذكر أنه في ليلة الإسراء وفي إسناده طلحة بن زيد وهو متروك‏.‏ وعند ابن مردويه من حديث عائشة مثله وفيه من لا يعرف‏.‏ وعند البزار وغيره عن علي رضي اللَّه عنه وفي إسناده زياد بن المنذر أبو الجارود وهو متروك‏.‏ قال الحافظ‏:‏ والحق أنه لا يصح شيء من هذه وقد أطال الكلام في ذلك في الفتح فليرجع إليه‏.‏ وقيل كان فرض الأذان عند قدوم المسلمين المدينة لما ثبت عند البخاري ومسلم والترمذي وقال‏:‏ حسن صحيح والنسائي من حديث عبد اللَّه بن عمر قال‏:‏ ‏(‏كان المسلمون حين قدموا المدينة يجتمعون فيتحينون الصلاة وليس ينادي بها أحد فتكلموا يومًا في ذلك فقال بعضهم‏:‏ اتخذوا ناقوسًا مثل ناقوس النصارى وقال بعضهم‏:‏ اتخذوا قرنًا مثل قرن اليهود قال‏:‏ فقال عمر‏:‏ ألا تبعثون رجلًا ينادي بالصلاة فقال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم ‏(‏يا بلال قم فناد بالصلاة‏)‏ وهذا أصح ما ورد في تعيين ابتداء وقت الأذان‏.‏

 باب وجوبه وفضيلته

1 - عن أبي الدرداء قال‏:‏ ‏(‏سمعت رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم يقول‏:‏ ما من ثلاثة لا يؤذنون ولا تقام فيهم الصلاة إلا استحوذ عليهم الشيطان‏)‏‏.‏

رواه أحمد‏.‏

الحديث أخرجه أبو داود والنسائي وابن حبان والحاكم وقال‏:‏ صحيح الإسناد ولكن لفظ أبي داود‏:‏ ‏(‏ما من ثلاثة في قرية ولا بدو لا تقام فيهم الصلاة إلا استحوذ عليهم الشيطان فعليك بالجماعة فإنما يأكل الذئب القاصية‏)‏ الحديث استدل به على وجوب الأذان والإقامة لأن الترك الذي هو نوع من استحواذ الشيطان يجب تجنبه‏.‏ وإلى وجوبهما ذهب أكثر العترة وعطاء وأحمد بن حنبل ومالك والأصطخري كذا في البحر ومجاهد والأوزاعي وداود كذا في شرح الترمذي وقد حكى الماوردي عنهم تفصيلًا في ذلك فحكى عن مجاهد أن الأذان والإقامة واجبان معًا لا ينوب أحدهما عن الآخر فإن تركهما أو أحدهما فسدت صلاته‏.‏ وقال الأوزاعي‏:‏ يعيد إن كان وقت الصلاة باقيًا وإلا لم يعد‏.‏ وقال عطاء‏:‏ الإقامة واجبة دون الأذان فإن تركها لعذر أجزأه ولغير عذر قضى‏.‏ وفي البحر أن القائل بوجوب الإقامة دون الأذان الأوزاعي وروي عن أبي طالب أن الأذان واجب دون الإقامة‏.‏ وعند الشافعي وأبي حنيفة أنهما سنة واختلف أصحاب الشافعي على ثلاثة أقوال‏:‏ الأول أنهما سنة‏.‏ الثاني فرض كفاية‏.‏ الثالث سنة في غير الجمعة وفرض كفاية فيها‏.‏ وروى ابن عبد البر عن مالك وأصحابه أنهما سنة مؤكدة واجبة على الكفاية‏.‏ وقال آخرون‏:‏ الأذان فرض على الكفاية‏.‏ ومن أدلة الموجبين للأذان قوله في حديث مالك بن الحويرث الآتي‏:‏ ‏(‏فليؤذن لكم أحدكم‏)‏ وفي لفظ للبخاري‏:‏ ‏(‏فأذنا ثم أقيما‏)‏ ومنها حديث أنس المتفق عليه بلفظ‏:‏ ‏(‏أمر بلال أن يشفع الأذان ويوتر الإقامة‏)‏ والآمر له النبي صلى اللَّه عليه وآله وسلم كما سيأتي ومنها ما في حديث عبد اللَّه بن زيد الآتي من قوله‏:‏ ‏(‏إنها لرؤيا حق إن شاء اللَّه ثم أمر بالتأذين‏)‏ وما سيأتي من قوله صلى اللَّه عليه وسلم لعثمان بن أبي العاص ‏(‏اتخذ مؤذنًا لا يأخذ على أذانه أجرًا‏)‏ ومنها حديث أنس عند البخاري وغيره قال‏:‏ ‏(‏إن النبي صلى اللَّه عليه وسلم كان إذا أغزى بنا قومًا لم يكن يغزينا حتى يصبح وينظر فإن سمع أذانًا كف عنهم وإن لم يسمع أذانًا أغار عليهم‏)‏ ومنها طول الملازمة من أول الهجرة إلى الموت لم يثبت أنه ترك ذلك في سفر ولا حضر إلا يوم المزدلفة فقد صحح كثير من الأئمة أنه لم يؤذن فيها وإنما أقام على أنه قد أخرج البخاري من حديث ابن مسعود أنه صلى اللَّه عليه وسلم صلاهما في جمع بأذانين وإقامتين وبهذا الترك على ما فيه من الخلاف احتج من قال بعدم الوجوب وخص بعض القائلين بالوجوب الرجال بوجوبهما ولم يوجبهما على النساء استدلالًا بحديث ‏(‏ليس على النساء أذان ولا إقامة‏)‏ عند البيهقي من حديث ابن عمر بإسناد صحيح إلا أنه قال ابن الجوزي‏:‏ لا يعرف مرفوعًا‏.‏ وقد رواه البيهقي وابن عدي من حديث أسماء مرفوعًا وفي إسناده الحكم بن عبد اللَّه الأيلي وفيه ضعف جدًا‏.‏ وبحديث ‏(‏النساء عي وعورات فاستروا عيهن بالسكوت وعوراتهن بالبيوت‏)‏‏.‏

2 - وعن مالك بن الحويرث‏:‏ ‏(‏أن النبي صلى اللَّه عليه وآله وسلم قال‏:‏ إذا حضرت الصلاة فليؤذن لكم أحدكم وليؤمكم أكبركم‏)‏‏.‏

متفق عليه‏.‏

- قوله ‏(‏أحدكم‏)‏ يدل على أنه لا يعتبر السن والفضل في الأذان كما يعتبر في إمامة الصلاة‏.‏ وقد استدل بهذا من قال بأفضلية الإمامة على الأذان لأن كون الأشرف أحق بها مشعر بمزيد شرف لها‏.‏ وفي لفظ للبخاري‏:‏ ‏(‏فإذا أنتما خرجتما فأذنا‏)‏ ولا تعارض بينه وبين ما في حديث الباب لأن المراد بقوله أذنا أي من أحب منكما أن يؤذن فليؤذن وذلك لاستوائهما في الفضل‏.‏

والحديث استدل به من قال بوجوب الأذان لما فيه من صيغة الأمر وقد تقدم الخلاف في ذلك‏.‏

3 - وعن معاوية‏:‏ ‏(‏أن النبي صلى اللَّه عليه وآله وسلم قال‏:‏ إن المؤذنين أطول الناس أعناقًا يوم القيامة‏)‏‏.‏

رواه أحمد ومسلم وابن ماجه‏.‏

وفي الباب عن أبي هريرة وابن الزبير بألفاظ مختلفة‏.‏

قوله ‏(‏أطول الناس أعناقًا‏)‏ هو بفتح الهمزة جمع عنق واختلف السلف والخلف في معناه فقيل معناه أكثر الناس تشوفًا إلى رحمة اللَّه لأن المتشوف يطيل عنقه لما يتطلع إليه فمعناه كثرة ما يرونه من الثواب وقال النضر بن شميل‏:‏ إذا ألجم الناس العرق يوم القيامة طالت أعناقهم لئلا ينالهم ذلك الكرب والعرق‏.‏ وقيل معناه أنهم سادة ورؤساء والعرب تصف السادة بطول العنق‏.‏ وقيل معناه أكثر إتباعًا وقال ابن الأعرابي‏:‏ أكثر الناس أعمالًا قال القاضي عياض وغيره‏:‏ وروى بعضهم إعناقًا بكسر الهمزة أي إسراعًا إلى الجنة وهو من سير العنق قال ابن أبي داود‏:‏ سمعت أبي يقول‏:‏ معناه أن الناس يعطشون يوم القيامة فإذا عطش الإنسان انطوت عنقه والمؤذنون لا يعطشون فأعناقهم قائمة‏.‏ وفي صحيح ابن حبان من حديث أبي هريرة‏:‏ ‏(‏يعرفون بطول أعناقهم يوم القيامة‏)‏ زاد السراج لقولهم ‏(‏لا إله إلا اللَّه‏)‏ وظاهره الطول الحقيقي فلا يجوز المصير إلى التفسير بغيره إلا لملجئ‏.‏

والحديث يدل على فضيلة الأذان وأن صاحبه يوم القيامة يمتاز عن غيره ولكن إذا كان فاعله غير متخذ أجرًا عليه وإلا كان فعله لذلك من طلب الدنيا والسعي للمعاش وليس من أعمال الآخرة‏.‏ وقد استدل بهذا الحديث من قال إن الأذان أفضل من الإمامة وهو نص الشافعي في الأم وقول أكثر أصحابه‏.‏ وذهب بعض أصحابه إلى أن الإمامة أفضل وهو نص الشافعي أيضًا قاله النووي‏.‏ وبعضهم ذهب إلى أنهما سواء وبعضهم إلى أنه إن علم من نفسه القيام بحقوق الإمامة وجمع خصالها فهي أفضل وإلا فالأذان قاله أبو علي وأبو القاسم بن كج والمسعودي والقاضي حسين من أصحاب الشافعي‏.‏

واختلف في الجمع بين الأذان والإمامة فقال جماعة من أصحاب الشافعي‏:‏ إنه يستحب أن لا يفعله‏.‏ وقال بعضهم‏:‏ يكره وقال محققوهم وأكثرهم‏:‏ لا بأس به بل يستحب‏.‏ قال النووي‏:‏ وهذا أصح وفي البيهقي مرفوعًا من حديث جابر النهي عن ذلك قال الحافظ‏:‏ لكن سنده ضعيف‏.‏

4 - وعن أبي هريرة قال‏:‏ ‏(‏قال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم الإمام ضامن والمؤذن مؤتمن اللَّهم أرشد الأئمة واغفر للمؤذنين‏)‏‏.‏

رواه أحمد وأبو داود والترمذي‏.‏

- الحديث رواه الشافعي من طريق إبراهيم بن أبي يحيى وابن حبان وابن خزيمة كلهم من طريق سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة‏.‏ وأخرجه من ذكر المصنف عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة‏.‏ وروي أيضًا عن أبي صالح عن عائشة قال أبو زرعة‏:‏ حديث أبي هريرة أصح من حديث عائشة‏.‏ وقال محمد عكسه وذكر علي بن المديني أنه لم يثبت واحد منهما‏.‏ وقال أيضًا‏:‏ لم يسمع سهيل هذا الحديث من أبيه إنما سمعه من الأعمش ولم يسمعه الأعمش من أبي صالح بيقين لأنه يقول فيه نبئت عن أبي صالح وكذا قال البيهقي في المعرفة‏.‏ وقال الدارقطني في العلل‏:‏ رواه سليمان وروح بن القاسم ومحمد بن جعفر وغيره عن سهيل عن الأعمش قال‏:‏ وقال أبو بدر عن الأعمش حدثت عن أبي صالح وقال ابن فضيل عنه عن رجل عن أبي صالح‏.‏ وقال الثوري‏:‏ لم يسمع الأعمش هذا الحديث من أبي صالح وصحح حديث أبي هريرة جميعًا ابن حبان وقال‏:‏ قد سمع أبو صالح هذين الخبرين من عائشة وأبي هريرة جميعًا‏.‏ وقال ابن عبد الهادي أخرج مسلم بهذا الإسناد يعني سهيلًا عن أبيه نحوًا من أربعة عشر حديثًا‏.‏

وفي الباب عن ابن عمر أخرجه أبو العباس السراج وصححه الضياء في المختارة‏.‏ وعن أبي أمامة عند أحمد‏.‏ وعن جابر عند ابن الجوزي في العلل‏.‏ ورواه البزار عن أبي هريرة وزاد فيه بذلك الإسناد‏:‏ ‏(‏قالوا‏:‏ يا رسول اللَّه لقد تركتنا نتنافس في الأذان فقال‏:‏ إنه يكون بعدكم قومًا سفلتهم مؤذنوهم‏)‏ قال الدارقطني‏:‏ هذه الزيادة ليست محفوظة وأشار ابن القطان إلى أن البزار هو المنفرد بها قال الحافظ‏:‏ وليس كذلك فقد جزم ابن عدي بأنها من أفراد أبي حمزة وكذا قال الخليلي وابن عبد البر وأخرجه البيهقي من غير طريق البزار فبرئ من عهدتها‏.‏ وأخرجها ابن عدي في ترجمة عيسى بن عبد اللَّه عن يحيى بن عيسى الرملي عن الأعمش واتهم بها عيسى وقال‏:‏ إنما تعرف هذه الزيادة بأبي حمزة‏.‏ قال ابن القطان‏:‏ أبو حمزة ثقة ولا عيب للإسناد إلا ما ذكر من الانقطاع ويجاب عنه بأن الواسطة قد عرفت وهو الأعمش كما تقدم فلا يضر هذا الانقطاع ولا تعد علة وأما الانقطاع الثاني بين الأعمش وأبي صالح الذي تقدم فيه قوله عن رجل فيجاب عنه بأن ابن نمير قد قال عن الأعمش عن أبي صالح ولا أراني إلا قد سمعته منه‏.‏ وقال إبراهيم بن حميد الرواسي‏:‏ قال الأعمش وقد سمعته من أبي صالح‏.‏ وقال هشيم عن الأعمش حدثنا أبو صالح عن أبي هريرة ذكر ذلك الدارقطني فبينت هذه الطرق أن الأعمش سمعه عن غير أبي صالح ثم سمعه منه‏.‏ قال اليعمري‏:‏ والكل صحيح والحديث متصل‏.‏

قوله ‏(‏الإمام ضامن‏)‏ الضمان في اللغة الكفالة والحفظ والرعاية والمراد أنهم ضمناء على الإسرار بالقراءة والأذكار حكي ذلك عن الشافعي في الأم‏.‏ وقيل المراد ضمان الدعاء أن يعم القوم به ولا يخص نفسه‏.‏ وقيل لأنه يتحمل القيام والقراءة عن المسبوق‏.‏ وقال الخطابي‏:‏ معناه أنه يحفظ على القوم صلاتهم وليس من الضمان الموجب للغرامة‏.‏

قوله ‏(‏والمؤذن مؤتمن‏)‏ قيل المراد أنه أمين على مواقيت الصلاة‏.‏ وقيل أمين على حرم الناس لأنه يشرف على المواضع العالية‏.‏

والحديث استدل به على فضيلة الأذان وعلى أنه أفضل من الإمامة لأن الأمين أرفع حالًا من الضمين وقد تقدم الخلاف في ذلك ويؤيد قول من قال إن الإمامة أفضل أن النبي صلى اللَّه عليه وآله وسلم والخلفاء الراشدين بعده أموا ولم يؤذنوا وكذا كبار العلماء بعدهم‏.‏

5 - وعن عقبة بن عامر قال‏:‏ ‏(‏سمعت رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم يقول‏:‏ يعجب ربك عز وجل من راعي غنم في شظية بجبل يؤذن للصلاة ويصلي فيقول اللَّه عز وجل انظروا إلى عبدي هذا يؤذن ويقيم الصلاة يخاف مني فقد غفرت لعبدي وأدخلته الجنة‏)‏‏.‏

رواه أحمد وأبو داود والنسائي‏.‏

- الحديث رجال إسناده ثقات وقد أخرجه أيضًا سعيد بن منصور والطبراني والبيهقي وفي البخاري والموطأ والنسائي بلفظ‏:‏ ‏(‏إذا كنت في غنمك أو باديتك فأذنت بالصلاة فارفع صوتك بالنداء فإنه لا يسمع مدى صوت المؤذن جن ولا إنس ولا شيء إلا شهد له يوم القيامة‏)‏ قال أبو سعيد‏:‏ سمعته من رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم وأخرج عبد الرزاق والمقدسي والنسائي في المواعظ من سننه عن سلمان رفعه‏:‏ ‏(‏إذا كان الرجل في أرض في أي قفر فتوضأ فإن لم يجد الماء تيمم ثم ينادي بالصلاة ثم يقيمها ويصليها إلا أم من جنود اللَّه صفًا‏)‏ ورواه عبد الرزاق وابن أبي شيبة عن معتمر التيمي عن أبيه وروى نحوه البيهقي والطبراني في الكبير‏.‏

والحديث يدل على شرعية الأذان للمنفرد فيكون صالحًا لرد قول من قال إن شرعية الأذان تختص بالجماعة وفيه أيضًا أن الأذان من أسباب المغفرة للذنوب وقد أخرج أبو داود والنسائي وابن ماجه وابن خزيمة وابن حبان من حديث أبي هريرة مرفوعًا بلفظ‏:‏ ‏(‏يغفر للمؤذن مدى صوته ويشهد له كل رطب ويابس‏)‏ وفي إسناده أبو يحيى الراوي له عن أبي هريرة‏.‏ قال ابن القطان‏:‏ لا يعرف وادعى ابن حبان في الصحيح أن اسمه سمعان وقد رواه البيهقي من وجهين آخرين عن الأعمش قال تارة عن أبي صالح وتارة عن مجاهد عن أبي هريرة ومن طريق أخرى عن مجاهد عن ابن عمر‏.‏ ورواه أحمد والنسائي من حديث البراء بن عازب بلفظ‏:‏ ‏(‏المؤذن يغفر له مد صوته ويصدقه من يسمعه من رطب ويابس وله مثل أجر من صلى معه‏)‏ وصححه ابن السكن ورواه أحمد والبيهقي من حديث مجاهد عن ابن عمر‏.‏

وفي فضل الأذان أحاديث كثيرة في الصحيحين وغيرهما مصرحة بعظيم فضله وارتفاع درجته وأنه من أجل الطاعات التي يتنافس فيها المتنافسون ولكن بذلك الشرط الذي عرفناك في شرح حديث معاوية‏.‏

قال المصنف رحمه اللَّه بعد أن ساق حديث الباب‏:‏ وفيه دليل على أن الأذان يسن للمنفرد وإن كان بحيث لا يسمعه أحد‏.‏ الشظية الطريقة كالجدة انتهى‏.‏ ويقال الشظية للقطعة المرتفعة من الجبل وهي بالظاء المعجمة‏.‏

 باب صفة الأذان

1 - عن محمد بن إسحاق عن الزهري عن سعيد بن المسيب عن عبد اللَّه بن زيد بن عبد ربه قال‏:‏ ‏(‏لما أجمع رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم أن يضرب بالناقوس وهو له كاره لموافقته النصارى طاف بي من الليل طائف وأنا نائم رجل عليه ثوبان أخضران وفي يده ناقوس يحمله قال‏:‏ فقلت يا عبد اللَّه أتبيع الناقوس قال‏:‏ وما تصنع به قال‏:‏ قلت ندعو به إلى الصلاة قال‏:‏ أفلا أدلك على خير من ذلك فقلت بلى قال‏:‏ تقول اللَّه أكبر اللَّه أكبر اللَّه أكبر اللَّه أكبر أشهد أن لا إله إلا اللَّه أشهد أن لا إله إلا اللَّه أشهد أن محمدًا رسول اللَّه أشهد أن محمدًا رسول اللَّه حي على الصلاة حي على الصلاة حي على الفلاح حي على الفلاح اللَّه أكبر اللَّه أكبر لا إله إلا اللَّه قال‏:‏ ثم استأخر غير بعيد قال‏:‏ ثم تقول إذا أقمت الصلاة اللَّه أكبر اللَّه أكبر أشهد أن لا إله إلا اللَّه أشهد أن محمدًا رسول اللَّه حي على الصلاة حي على الفلاح قد قامت الصلاة قد قامت الصلاة اللَّه أكبر اللَّه أكبر لا إله إلا اللَّه قال‏:‏ فلما أصبحت أتيت رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم فأخبرته بما رأيت فقال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم‏:‏ إن هذه الرؤيا حق إن شاء اللَّه ثم أمر بالتأذين فكان بلال مولى أبي بكر يؤذن بذلك ويدعو رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم إلى الصلاة قال‏:‏ فجاءه فدعاه ذات غداة إلى الفجر فقيل له إن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم نائم فصرخ بلال بأعلى صوته الصلاة خير من النوم قال سعيد بن المسيب‏:‏ فأدخلت هذه الكلمة في التأذين إلى صلاة الفجر‏)‏‏.‏

رواه أحمد وأبو داود من طريق محمد بن إسحاق عن محمد بن إبراهيم التيمي عن محمد بن عبد اللَّه بن زيد عن أبيه وفيه‏:‏ ‏(‏فلما أصبحت أتيت رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم فأخبرته بما رأيت فقال‏:‏ إنها لرؤيا حق إن شاء اللَّه فقم مع بلال فألق عليه ما رأيت فإنه أندى صوتًا منك قال‏:‏ فقمت مع بلال فجعلت ألقيه عليه ويؤذن به قال‏:‏ فسمع ذلك عمر بن الخطاب رضي اللَّه عنه وهو في بيته فخرج يجر رداءه يقول‏:‏ والذي بعثك بالحق لقد رأيت مثل الذي أرى فقال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم فللَّه‏:‏ الحمد‏)‏ وروى الترمذي هذا الطرف منه بهذه الطريق وقال‏:‏ حديث عبد اللَّه بن زيد حديث حسن صحيح‏.‏

الحديث أخرجه أيضًا من الطريقة الأولى الحاكم وقال‏:‏ هذه أمثل الروايات في قصة عبد اللَّه بن زيد لأن سعيد بن المسيب قد سمع من عبد اللَّه بن زيد ورواه يونس ومعمر وشعيب وابن إسحاق عن الزهري ومتابعة هؤلاء لمحمد بن إسحاق عن الزهري ترفع احتمال التدليس الذي تحتمله عنعنة ابن إسحاق‏.‏ وأخرجه أيضًا من الطريقة الثانية ابن خزيمة وابن حبان في صحيحيهما والبيهقي وابن ماجه‏.‏ قال محمد بن يحيى الذهلي‏:‏ ليس في أخبار عبد اللَّه بن زيد أصح من حديث محمد بن إسحاق عن محمد بن إبراهيم التيمي يعني هذا لأن محمدًا قد سمع من أبيه عبد اللَّه بن زيد وقال ابن خزيمة في صحيحه‏:‏ هذا حديث صحيح ثابت من جهة النقل لأن محمدًا من أبيه وابن إسحاق سمع من التيمي وليس هذا مما دلسه‏.‏ وقد صحح هذه الطريقة البخاري فيما حكاه الترمذي في العلل عنه‏.‏ وأخرجه أيضًا أحمد وأبو داود من حديث محمد بن عمرو الواقفي عن محمد بن عبد اللَّه عن عمه عبد اللَّه بن زيد ومحمد بن عمرو ضعيف واختلف عليه فيه فقيل عن محمد بن عبد اللَّه‏.‏ وقيل عبد اللَّه بن محمد‏.‏ قال ابن عبد البر‏:‏ إسناده حسن من حديث الإفريقي قال الحاكم‏:‏ وأما أخبار الكوفة في هذه القصة يعني في تثنية الأذان والإقامة فمدارها على حديث عبد الرحمن بن أبي ليلى واختلف عليه فيه فمنهم من قال عن معاذ بن جبل‏.‏ ومنهم من قال عن عبد اللَّه بن زيد‏.‏ ومنهم من قال غير ذلك‏.‏

الحديث فيه تربيع التكبير‏.‏ وقد ذهب إلى ذلك الشافعي وأبو حنيفة وأحمد وجمهور العلماء كما قال النووي‏.‏ ومن أهل البيت الناصر والمؤيد باللَّه والإمام يحيى واحتجوا بهذا الحديث فإن المشهور فيه التربيع وبحديث أبي محذورة الآتي‏.‏ وبأن التربيع عمل أهل مكة وهي مجمع المسلمين في المواسم وغيرها ولم ينكر ذلك أحد من الصحابة وغيرهم‏.‏

وذهب مالك وأبو يوسف ومن أهل البيت زيد بن علي والصادق والهادي والقاسم إلى تثنيته محتجين بما وقع في بعض روايات هذا الحديث من التثنية وبحديث أبي محذورة الآتي في رواية مسلم عنه وفيه أن الأذان مثنى فقط وبأن التثنية عمل أهل المدينة وهم أعرف بالسنن وبحديث أمره صلى اللَّه عليه وآله وسلم لبلال بتشفيع الأذان وإيتار الإقامة وسيأتي‏.‏ والحق أن روايات التربيع أرجح لاشتمالها على الزيادة وهي مقبولة لعدم منافاتها وصحة مخرجها‏.‏

وفي الحديث ذكر الشهادتين مثنى مثنى وقد اختلف الناس في ذلك فذهب أبو حنيفة والكوفيون والهادوية والناصر إلى عدم استحباب الترجيع تمسكًا بظاهر الحديث والترجيع هو العود إلى الشهادتين مرتين مرتين برفع الصوت بعد قولها مرتين مرتين يخفض الصوت ذكر ذلك النووي في شرح مسلم‏.‏ وفي كلام الرافعي ما يشعر بأن الترجيع اسم للمجموع من السر والجهر‏.‏ وفي شرح المهذب والتحقيق والدقائق والتحرير أنه اسم للأول‏.‏

وذهب الشافعي ومالك وأحمد وجمهور العلماء كما قال النووي إلى أن الترجيع في الأذان ثابت لحديث أبي محذورة الآتي وهو حديث صحيح مشتمل على زيادة غير منافية فيجب قولها وهو أيضًا متأخر عن حديث عبد اللَّه بن زيد‏.‏ قال في شرح مسلم‏:‏ إن حديث أبي محذورة سنة ثمان من الهجرة بعد حنين وحديث عبد اللَّه بن زيد في أول الأمر ويرجحه أيضًا عمل أهل مكة والمدينة به‏.‏ قال النووي‏:‏ وقد ذهب جماعة من المحدثين وغيرهم إلى التخيير بين فعل الترجيع وتركه‏.‏

وفيه التثويب في صلاة الفجر لقول سعيد بن المسيب‏:‏ فأدخلت هذه الكلمة في التأذين إلى صلاة الفجر‏.‏ يعني قول بلال الصلاة خير من النوم وزاد ابن ماجه فأقرها رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم وفي إسناده ضعف جدًا‏.‏ وروى أيضًا ابن ماجه وأحمد والترمذي من حديث بلال بلفظ‏:‏ ‏(‏لا تثويب في شيء من الصلاة إلا في صلاة الفجر‏)‏ وفيه أبو إسماعيل الملائي وهو ضعيف مع انقطاعه بين عبد الرحمن بن أبي ليلى وبلال‏.‏ قال ابن السكن‏:‏ لا يصح إسناده‏.‏ ورواه الدارقطني من طريق أخرى وفيه أبو سعيد البقال وهو نحو أبي إسماعيل في الضعف‏.‏ وبيان الانقطاع بين ابن أبي ليلى وبلال أن ابن أبي ليلى مولده سنة سبع عشرة ووفاة بلال سنة عشرين أو إحدى وعشرين بالشام وكان مرابطًا بها قبل ذلك من أوائل فتوحها فهو شامي وابن أبي ليلى كوفي فكيف يسمع منه مع حداثة السن وتباعد الديار‏.‏

وقد روى إثبات التثويب من حديث أبي محذورة قال‏:‏ ‏(‏علمني رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم الأذان وقال‏:‏ إذا كنت في أذان الصبح فقلت حيَّ على الفلاح فقل الصلاة خير من النوم‏)‏ أخرجه أبو داود وابن حبان مطولًا من حديثه وفيه هذه الزيادة وفي إسناده محمد بن عبد الملك ابن أبي محذورة وهو غير معروف الحال والحارث بن عبيد وفيه مقال‏.‏ وذكره أبو داود من طريق أخرى عن أبي محذورة وصححه ابن خزيمة من طريق ابن جريج‏.‏ ورواه النسائي من وجه آخر وصححه أيضًا ابن خزيمة ورواه بقي بن مخلد‏.‏ وروى التثويب أيضًا الطبراني والبيهقي بإسناد حسن عن ابن عمر بلفظ‏:‏ ‏(‏كان الأذان بعد حيَّ على الفلاح الصلاة خير من النوم مرتين‏)‏ قال اليعمري‏:‏ وهذا إسناد صحيح‏.‏ وروى ابن خزيمة والدارقطني والبيهقي عن أنس أنه قال‏:‏ ‏(‏من السنة إذا قال المؤذن في الفجر حيَّ على الفلاح قال الصلاة خير من النوم‏)‏ قال ابن سيد الناس اليعمري ـ هو الحافظ أبو الفتح محمد بن محمد سيد الناس اليعمري المتوفى سنة 734 هـ شرح سنن الترمذي شرحًا وافيًا ولم يكمله‏.‏ بلغ فيه دون ثلثيه في نحو عشر مجلدات ثم كمله الحافظ زين الدين عبد الرحيم بن حسين العراقي المتوفى سنة 806 هـ‏.‏ اهـ من الكشف ـ‏:‏ وهو إسناد صحيح‏.‏

وفي الباب عن عائشة عند ابن حبان وعن نعيم النحام عند البيهقي‏.‏ وقد ذهب إلى القول بشرعية التثويب عمر بن الخطاب وابنه وأنس والحسن البصري وابن سيرين والزهري ومالك والثوري وأحمد وإسحاق وأبو ثور وداود وأصحاب الشافعي وهو رأي الشافعي في القديم ومكروه عنده في الجديد وهو مروي عن أبي حنيفة واختلفوا في محله فالمشهور أنه في صلاة الصبح فقط وعن النخعي وأبي يوسف إنه سنة في كل الصلوات وحكى القاضي أبو الطيب عن الحسن بن صالح إنه يستحب في أذان العشاء وروي عن الشعبي وغيره إنه يستحب في العشاء والفجر والأحاديث لم ترد بإثباته إلا في صلاة الصبح لا في غيرها فالواجب الاقتصار على ذلك والجزم بأن فعله في غيرها بدعة كما صرح بذلك ابن عمر وغيره وذهبت العترة والشافعي في أحد قوليه إلى أن التثويب بدعة قال في البحر‏:‏ أحدثه عمر فقال ابنه‏:‏ هذه بدعة‏.‏ وعن علي عليه السلام حين سمعه‏:‏ لا تزيدوا في الأذان ما ليس منه ثم قال بعد أن ذكر حديث أبي محذورة‏:‏ وبلال قلنا لو كان لما أنكره علي وابن عمر وطاوس سلمنا فأمر به إشعارًا في حال لا شرعًا جمعًا بين الآثار انتهى ـ عبارة البحر هكذا في الأصل وفيها غموض كما لا يخفى على المتأمل ولم نتمكن من مراجعة البحر لعدم وجود نسخ منه لدينا‏.‏ واللَّه أعلم ـ‏.‏ وأقول‏:‏ قد عرفت مما سلف رفعه إلى النبي صلى اللَّه عليه وسلم والأمر به على جهة العموم من دون تخصيص بوقت دون وقت وابن عمر لم ينكر مطلق التثويب بل أنكره في صلاة الظهر ورواية الإنكار عن علي عليه السلام بعد صحتها لا تقدح في مروي غيره لأن المثبت أولى ومن علم حجة والتثويب زيادة ثابتة فالقول بها لازم والحديث ليس فيه ذكر حيَّ على خير العمل‏.‏ وقد ذهبت العترة إلى إثباته وأنه بعد قول المؤذن حيَّ على الفلاح قالوا‏:‏ يقول مرتين حيَّ على خير العمل ونسبه المهدي في البحر إلى أحد قولي الشافعي وهو خلاف ما في كتب الشافعية فإنا لم نجد في شيء منها هذه المقالة بل خلاف ما في كتب أهل البيت قال في الانتصار‏:‏إن الفقهاء الأربعة لا يختلفون في ذلك يعني في أن حيَّ على خير العمل ليس من ألفاظ الأذان وقد أنكر هذه الرواية الإمام عز الدين في شرح البحر وغيره ممن له إطلاع على كتب الشافعية‏.‏

ـ احتج القائلون بذلك ـ بما في كتب أهل البيت كأمالي أحمد بن عيسى والتجريد والأحكام وجامع آل محمد من إثبات ذلك مسندًا إلى رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم‏.‏ قال في الأحكام‏:‏ وقد صح لنا أن حيَّ على خير العمل كانت على عهد رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم يؤذن بها ولم تطرح إلا في زمن عمر وهكذا قال الحسن بن يحيى روي ذلك عنه في جامع آل محمد وبما أخرج البيهقي في سننه الكبرى بإسناد صحيح عن عبد اللَّه بن عمر أنه كان يؤذن بحيَّ على خير العمل أحيانًا‏.‏

وروي فيها عن علي بن الحسين أنه قال‏:‏ هو الأذان الأول‏.‏ وروى المحب الطبري في أحكامه عن زيد بن أرقم أنه أذن بذلك‏.‏ قال المحب الطبري‏:‏ ورواه ابن حزم ورواه سعيد بن منصور في سننه عن أبي أمامة ابن سهل البدري ولم يرو ذلك من طريق غير أهل البيت مرفوعًا‏.‏

وقول بعضهم وقد صحح ابن حزم والبيهقي والمحب الطبري وسعيد بن منصور ثبوت ذلك عن علي بن الحسين وابن عمر وأبي أمامة ابن سهل موقوفًا ومرفوعًا ليس بصحيح اللَّهم إلا أن يريد بقوله مرفوعًا قول علي بن الحسين هو الأذان الأول ولم يثبت عن ابن عمر وأبي أمامة الرفع في شيء من كتب الحديث‏.‏

ـ وأجاب الجمهور ـ عن أدلة إثباته بأن الأحاديث الواردة بذكر ألفاظ الأذان في الصحيحين وغيرهما من دواوين الحديث ليس في شيء منها ما يدل على ثبوت ذلك قالوا‏:‏ وإذا صح ما روي من أنه الأذان الأول فهو منسوخ بأحاديث الأذان لعدم ذكره فيها‏.‏ وقد أورد البيهقي حديثًا في نسخ ذلك ولكنه من طريق لا يثبت النسخ بمثلها‏.‏

وفي الحديث إفراد الإقامة إلا التكبير في أولها وآخرها وقد قامت الصلاة وقد اختلف الناس في ذلك وسنذكر ذلك وما هو الحق في شرح حديث أنس الآتي بعد هذا‏.‏

قوله في الحديث ‏(‏أن يضرب بالناقوس‏)‏ هو الذي تضرب به النصارى لأوقات صلاتهم وجمعه نواقيس والنقس ضرب الناقوس‏.‏

قوله ‏(‏حيَّ على الصلاة حيَّ على الفلاح‏)‏ اسم فعل معناه أقبلوا إليها وهلموا إلى الفوز والنجاة وفتحت الياء لسكونها وسكون الياء السابقة المدغمة‏.‏

قوله ‏(‏فإنه أندى صوتًا منك‏)‏ أي أحسن صوتًا منك‏.‏ وفيه دليل على استحباب اتخاذ مؤذن حسن الصوت‏.‏ وقد أخرج الدارمي وأبو الشيخ بإسناد متصل بأبي محذورة أن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم أمر بنحو عشرين رجلًا فأذنوا فأعجبه صوت أبي محذورة فعلمه الأذان‏.‏ وأخرجه أيضًا ابن حبان من طريق أخرى‏.‏ ورواه ابن خزيمة في صحيحه قال الزبير بن بكار‏:‏ كان أبو محذورة أحسن الناس صوتًا وأذانًا‏.‏ ولبعض شعراء قريش في أذان أبي محذورة‏:‏

أما ورب الكعبة المستورة ** وما تلا محمد من سوره

والنغمات من أبي محذورة ** لأفعلن فعلة مذكوره

وفي رواية للترمذي بلفظ‏:‏ ‏(‏فقم مع بلال فإنه أندى أو أمد صوتًا منك فألق عليه ما قيل لك‏)‏ والمراد بقوله أو أمد صوتًا منك أي أرفع صوتًا منك وفيه استحباب رفع الصوت بالأذان وسيذكر المصنف لذلك بابًا بعد هذا الباب‏.‏

2 - وعن أنس قال‏:‏ ‏(‏أمر بلال أن يشفع الأذان ويوتر الإقامة إلا الإقامة‏)‏‏.‏

رواه الجماعة‏.‏

وليس فيه للنسائي والترمذي وابن ماجه إلا الإقامة‏.‏

قوله ‏(‏أمر بلال‏)‏ هو في معظم الروايات على البناء للمفعول‏.‏ وقد اختلف أهل الأصول والحديث في اقتضاء هذه الصيغة للرفع والمختار عند محققي الطائفتين أنها تقتضيه لأن الظاهر أن المراد بالآمر من له الأمر الشرعي الذي يلزم إتباعه وهو الرسول صلى اللَّه عليه وآله وسلم لا سيما في أمور العبادة فإنها إنما تؤخذ عن توقيف ويؤيد هذا ما وقع في رواية روح عن عطاء ‏(‏فأمر بلالًا‏)‏ بالنصب وفاعل أمر هو النبي صلى اللَّه عليه وآله وسلم وأصرح من ذلك رواية النسائي وغيره عن قتيبة عن عبد الوهاب بلفظ‏:‏ ‏(‏أن النبي صلى اللَّه عليه وآله وسلم أمر بلالًا‏)‏ قال الحاكم‏:‏ صرح برفعه إمام الحديث بلا مدافعة قتيبة قال الحافظ‏:‏ ولم يتفرد به فقد أخرجه أبو عوانة من طريق عبدان المروزي ويحيى بن معين كلاهما عن عبد الوهاب وطريق يحيى عند الدارقطني أيضًا ولم يتفرد عبد الوهاب‏.‏ وقد رواه البلاذري من طريق أبي شهاب الحناط عن أبي قلابة وقضية وقوع ذلك عقب المشاورة في أمر النداء والآمر بذلك النبي صلى اللَّه عليه وآله وسلم من غير شك‏.‏ وقد روى البيهقي فيه بالسند الصحيح عن أنس‏:‏ ‏(‏أن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم أمر بلالًا أن يشفع الأذان ويوتر الإقامة‏)‏ لا ما حكي عن بعضهم من أن الآمر لبلال بذلك كان من بعد رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم إذ من المنقول أن بلالًا لم يؤذن لأحد بعد رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم إلا لأبي بكر وقيل لم يؤذن لأحد بعد موت رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم إلا مرة واحدة بالشام‏.‏

قوله ‏(‏أن يشفع الأذان‏)‏ بفتح أوله وفتح الفاء أي يأتي بألفاظه شفعًا وهو مفسر بقوله مثنى مثنى‏.‏ قال الحافظ‏:‏ لكن لم يختلف في أن كلمة التوحيد التي في آخره مفردة فيحمل قوله مثنى على ما سواها انتهى‏.‏ فتكون أحاديث تشفيع الأذان وتثنيته مخصصة بالأحاديث التي ذكرت فيها كلمة التوحيد مرة واحدة كحديث عبد اللَّه بن زيد ونحوه‏.‏

قوله ‏(‏إلا الإقامة‏)‏ ادعى ابن منده والأصيلي أن قوله إلا الإقامة من كلام أيوب وليس من الحديث وفيما قالاه نظر لأن عبد الرزاق رواه عن معمر عن أيوب بسنده متصلًا بالخبر مفسرًا وكذا أبو عوانة في صحيحه والسراج في مسنده والأصل أن كل ما كان من الخبر فهو منه حتى يقوم دليل على خلافه ولا دليل‏.‏ وفي رواية أيوب زيادة من حافظ فلا يقدح في صحتها عدم ذكر خالد الحذاء لها وقد ثبت تكرير لفظ قد قامت الصلاة في حديث ابن عمر مرفوعًا وسيأتي‏.‏

وقد استشكل عدم استثناء التكبير في الإقامة فإنه يثنى كما تقدم في حديث عبد اللَّه بن زيد وأجيب بأنه وتر بالنسبة إلى تكبير الأذان فإن التكبير في أول الأذان أربع وهذا إنما يتم في تكبير أول الأذان لا في آخره كما قال الحافظ‏.‏ وأنت خبير بأن ترك استثنائه في هذا الحديث لا يقدح في ثبوته لأن روايات التكرير زيادة مقبولة‏.‏

الحديث يدل على وجوب الأذان والإقامة وعلى أن الأذان مثنى وقد تقدم الكلام على ذلك‏.‏

ويدل على إفراد الإقامة إلا الإقامة وقد اختلف الناس في ذلك فذهب الشافعي وأحمد وجمهور العلماء إلى أن ألفاظ الإقامة إحدى عشرة كلمة كلها مفردة إلا التكبير في أولها وآخرها ولفظ قد قامت الصلاة فإنها مثنى مثنى واستدلوا بهذا الحديث‏.‏ وحديث ابن عمر الآتي‏:‏ وحديث عبد اللَّه بن زيد السابق‏.‏

قال الخطابي‏:‏ مذهب جمهور العلماء والذي جرى به العمل في الحرمين والحجاز والشام واليمن ومصر والمغرب إلى أقصى بلاد الإسلام أن الإقامة فرادى قال أيضًا‏:‏ مذهب كافة العلماء أنه يكرر قوله قد قامت الصلاة إلا مالكًا فإن المشهور عنه أنه لا يكررها‏.‏ وذهب الشافعي في قديم قوليه إلى ذلك‏.‏ قال النووي‏:‏ ولنا قول شاذ إنه يقول في التكبير الأول اللَّه أكبر مرة وفي الأخير مرة ويقول قد قامت الصلاة مرة‏.‏ قال ابن سيد الناس‏:‏ وقد ذهب إلى القول بأن الإقامة إحدى عشرة كلمة عمر بن الخطاب وابنه وأنس والحسن البصري والزهري والأوزاعي وأحمد وإسحاق وأبو ثور ويحيى بن يحيى وداود وابن المنذر‏.‏ قال البيهقي‏:‏ وممن قال بإفراد الإقامة سعيد بن المسيب وعروة بن الزبير وابن سيرين وعمر بن عبد العزيز‏.‏ قال البغوي‏:‏ هو قول أكثر العلماء‏.‏ وذهبت الحنفية والهادوية والثوري وابن المبارك وأهل الكوفة إلى أن ألفاظ الإقامة مثل الأذان عندهم مع زيادة قد قامت الصلاة مرتين واستدلوا بهما في رواية من حديث عبد اللَّه بن زيد عند الترمذي وأبي داود بلفظ‏:‏ ‏(‏كان أذان رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم شفعًا شفعًا في الأذان والإقامة‏)‏ وأجيب عن ذلك بأنه منقطع كما قال الترمذي وقال الحاكم والبيهقي‏:‏ الروايات عن عبد اللَّه بن زيد في هذا الباب كلها منقطعة وقد تقدم ما في سماع ابن أبي ليلى عن عبد اللَّه بن زيد‏.‏ ويجاب عن هذا الانقطاع بأن الترمذي قال بعد إخراج هذا الحديث عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن عبد اللَّه بن زيد ما لفظه‏:‏ وقال شعبة عن عمرو بن مرة عن عبد الرحمن بن أبي ليلى حدثنا أصحاب محمد صلى اللَّه عليه وآله وسلم أن عبد اللَّه بن زيد رأى الأذان في المنام‏.‏ قال الترمذي‏:‏ وهذا أصح انتهى‏.‏

وقد روى ابن أبي ليلى عن جماعة من الصحابة منهم عمر وعلي وعثمان وسعد بن أبي وقاص وأُبيَّ بن كعب والمقداد وبلال وكعب بن عجرة وزيد بن أرقم وحذيفة بن اليمان وصهيب وخلق يطول ذكرهم وقال‏:‏ أدركت عشرين ومائة من أصحاب النبي صلى اللَّه عليه وآله وسلم كلهم من الأنصار فلا علة للحديث لأنه على الرواية عن عبد اللَّه بدون توسيط الصحابة مرسل عن الصحابة وهو في حكم المسند وعلى روايته عن الصحابة عنه مسند ومحمد بن عبد الرحمن وإن كان بعض أهل الحديث يضعفه فمتابعة الأعمش إياه عن عمرو بن مرة ومتابعة شعبة كما ذكر ذلك الترمذي مما يصحح خبره وإن خالفاه في الإسناد وأرسلا فهي مخالفة غير قادحة‏.‏ واستدلوا أيضًا بما رواه الحاكم والبيهقي في الخلافيات والطحاوي من رواية سويد بن غفلة أن بلالًا كان يثني الأذان والإقامة وادعى الحاكم فيه الانقطاع‏.‏ قال الحافظ‏:‏ ولكن في رواية الطحاوي سمعت بلالًا ويؤيد ذلك ما رواه ابن أبي شيبة عن جبر بن علي عن شيخ يقال له الحفص عن أبيه عن جده وهو سعد القرظ قال‏:‏ أذن بلال حياة رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم ثم أذن لأبي بكر في حياته ولم يؤذن في زمان عمر وسويد بن غفلة هاجر في زمن أبي بكر‏.‏ وأما ما رواه أبو داود من أن بلالًا ذهب إلى الشام في حياة أبي بكر فكان بها حتى مات فهو مرسل وفي إسناده عطاء الخراساني وهو مدلس‏.‏ وروى الطبراني في مسند الشاميين من طريق جنادة بن أبي أمية عن بلال أنه كان يجعل الأذان والإقامة مثنى مثنى وفي إسناده ضعف‏.‏ قال الحافظ‏:‏ وحديث أبي محذورة في تثنية الإقامة مشهور عند النسائي وغيره انتهى‏.‏ وحديث أبي محذورة حديث صحيح قاسه الحازمي في الناسخ والمنسوخ وذكر فيه الإقامة مرتين مرتين وقال‏:‏ هذا حديث حسن على شرط أبي داود والترمذي والنسائي ـ أقول‏:‏ وقد ذكر الخلاف الحازمي في الناسخ والمنسوخ ودليل كل وأرجحية الحكم في ذلك قال ما حاصله‏:‏ فذهبت طائفة إلى أن الإقامة مثل الأذان مثنى وهو قول سفيان الثوري وأبي حنيفة وأهل الكوفة واحتجوا في الباب بهذا الحديث أي حديث أبي محذورة قال‏:‏ ‏(‏وعلمني الإقامة مرتين مرتين اللَّه أكبر اللَّه أكبر أشهد أن لا إله إلا اللَّه أشهد أن لا إله إلا اللَّه‏)‏ الخ وقد حسنه كما نقله الشوكاني عنه هنا ورأوه محكمًا وناسخًا لحديث بلال وذكره بسنده عن أنس ‏(‏أنهم ذكروا أن يعلموا وقت الصلاة بشيء يعرفونه فذكروا أن ينوروا نارًا أو يضربوا ناقوسًا فأمر بلال أن يشفع الأذان ويوتر الإقامة‏)‏ هذا الحديث صحيح متفق عليه أخرجه مسلم في الصحيح من حديث وهب وأخرجاه من حديث عبد الوهاب الثقفي عن خالد الحذاء‏.‏ قالوا‏:‏ وهذا ظاهر في النسخ لأن بلالًا أمر بإفراد الإقامة أول ما شرع الأذان على ما دل عليه حديث أنس وأما حديث أبي محذورة كان عام حنين وبين الوقتين مدة مديدة‏.‏ وخالفهم في ذلك أكثر أهل العلم فرأوا أن الإقامة فرادى وإلى هذا المذهب ذهب سعيد بن المسيب وعروة بن الزبير والزهري ومالك بن أنس وأهل الحجاز والشافعي وأصحابه‏.‏ وإليه ذهب عمر بن عبد العزيز ومكحول والأوزاعي وأهل الشام‏.‏ وإليه ذهب الحسن البصري ومحمد بن سيرين وأحمد بن حنبل ومن تبعهم من العراقيين‏.‏ وإليه ذهب يحيى بن يحيى وإسحاق بن إبراهيم الحنظلي ومن تبعهما من الخراسانيين وذهبوا في ذلك إلى حديث أنس وقالوا‏:‏ أما حديث أبي محذورة فالجواب عنه من وجوه نذكر بعضها‏:‏ منها أن شرط الناسخ أن يكون أصح سندًا وأقوم قاعدة في جميع جهات الترجيحات على ما قررناه في مقدمة الكتاب‏.‏ ونازعه في ذلك الشوكاني وغير خفي على من الحديث صناعته أن حديث أبي محذورة لا يوازي حديث أنس في جهة واحدة في الترجيحات فضلًا عن الجهات كلها‏.‏ ومنها أن جماعة من الحفاظ ذهبوا إلى أن هذه اللفظة في تثنية الإقامة غير محفوظة بدليل ما أخبرنا به وساق سنده إلى أبي محذورة ‏(‏أن النبي صلى اللَّه عليه وآله وسلم أمره أن يشفع الأذان ويوتر الإقامة‏)‏ ونحوه من الأحاديث‏.‏

ثم لو قدرنا أن هذه الزيادة محفوظة وأن الحديث ثابت ولكنه منسوخ وأذان بلال هو آخر الأذانين لأن النبي صلى اللَّه عليه وآله وسلم لما عاد من حنين ورجع إلى المدينة أقر بلالًا على أذانه وإقامته‏.‏ وعن الأثرم قال‏:‏ قيل لأبي عبد اللَّه‏:‏ أليس حديث أبي محذورة بعد حديث عبد اللَّه بن زيد لأن حديث أبي محذورة بعد فتح مكة فقال‏:‏ أليس قد رجع النبي صلى اللَّه عليه وآله وسلم إلى المدينة فأقر بلالًا على أذان عبد اللَّه بن زيد‏.‏ وعن الخلال قال‏:‏ أخبرني عبد اللَّه بن عبد الحميد قال‏:‏ ناظرت أبا عبد اللَّه في أذان أبي محذورة فقال‏:‏ نعم قد كان أبو محذورة يؤذن ويثبت تثنية أذان أبي محذورة ولكن إذ أن بلال هو آخر الأذان‏.‏ وبهذا تعلم أن ما ذكره الشارح بعد إنما هو مأخوذ من الحازمي بدون عزو واللَّه أعلم ـ‏.‏ وسيأتي ما أخرجه عنه الخمسة‏:‏ ‏(‏أن النبي صلى اللَّه عليه وآله وسلم علمه الأذان تسع عشرة كلمة والإقامة سبع عشرة‏)‏ وهو حديث صححه الترمذي وغيره وهو متأخر عن حديث بلال الذي فيه الأمر بإيتار الإقامة لأنه بعد فتح مكة لأن أبا محذورة من مسلمة الفتح وبلال أمر بإفراد الإقامة أول ما شرع الأذان فيكون ناسخًا‏.‏ وقد روى أبو الشيخ ‏(‏أن بلالًا أذن بمنى ورسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم ثم مرتين مرتين وأقام مثل ذلك‏)‏ إذا عرفت هذا تبين لك أن أحاديث تثنية الإقامة صالحة للاحتجاج بها لما أسلفناه وأحاديث إفراد الإقامة وإن كانت أصح منها لكثرة طرقها وكونها في الصحيحين لكن أحاديث التثنية مشتملة على الزيادة فالمصير إليها لازم لا سيما مع تأخر تاريخ بعضها كما عرفناك‏.‏ وقد ذهب بعض أهل العلم إلى جواز إفراد الإقامة وتثنيتها قال أبو عمر ابن عبد البر‏:‏ ذهب أحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه وداود بن علي ومحمد بن جرير إلى إجازة القول بكل ما روي عن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم في ذلك وحملوه على الإباحة والتخيير قالوا كل ذلك جائز لأنه قد ثبت عن النبي صلى اللَّه عليه وآله وسلم جمع ذلك وعمل به أصحابه فمن شاء قال اللَّه أكبر أربعًا في أول الأذان ومن شاء ثنى ومن شاء ثنى الإقامة ومن شاء أفردها إلا قوله قد قامت الصلاة فإن ذلك مرتان على كل حال انتهى‏.‏

وقد أجاب القائلون بإفراد الإقامة عن حديث أبي محذورة بأجوبة منها‏:‏

إن من شرط الناسخ أن يكون أصح سندًا وأقوم قاعدة وهذا ممنوع فإن المعتبر في الناسخ مجرد الصحة لا الأصحية ومنها أن جماعة من الأئمة ذهبوا إلى أن هذه اللفظة في تثنية الإقامة غير محفوظة ورووا من طريق أبي محذورة أن النبي صلى اللَّه عليه وآله وسلم أمره أن يشفع الأذان ويوتر الإقامة كما ذكر ذلك الحازمي في الناسخ والمنسوخ‏.‏ وأخرجه البخاري في تاريخه والدارقطني وابن خزيمة وهذا الوجه غير نافع لأن القائلين بأنها غير محفوظة غاية ما اعتذروا به عدم الحفظ وقد حفظ غيرهم من الأئمة كما تقدم ومن علم حجة على من لا يعلم‏.‏ وأما رواية إيتار الإقامة عن أبي محذورة فليست كروايته التشفيع على أن الاعتماد على الرواية المشتملة على الزيادة‏.‏

ومن الأجوبة أن تثنية الإقامة لو فرض أنها محفوظة وأن الحديث بها ثابت لكانت منسوخة فإن أذان بلال هو آخر الأمرين لأن النبي صلى اللَّه عليه وآله وسلم لما عاد من حنين ورجع إلى المدينة أقر بلالًا على أذانه وإقامته‏.‏ قالوا‏:‏ وقد قيل لأحمد بن حنبل‏:‏ أليس حديث أبي محذورة بعد حديث عبد اللَّه بن زيد لأن حديث أبي محذورة بعد فتح مكة قال‏:‏ أليس قد رجع رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم إلى المدينة فأقر بلالًا على أذان عبد اللَّه بن زيد وهذا أنهض ما أجابوا به ولكنه متوقف على نقل صحيح أن بلالًا أذن بعد رجوع النبي صلى اللَّه عليه وآله وسلم المدينة وأفرد الإقامة ومجرد قول أحمد بن حنبل لا يكفي فإن ثبت ذلك كان دليلًا لمذهب من قال بجواز الكل ويتعين المصير إليها لأن فعل كل واحد من الأمرين عقب الآخر مشعر بجواز الجميع لا بالنسخ‏.‏