فصل: باب لا يجاهد من عليه دين إلا برضا غريمه

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: نيل الأوطار شرح منتقى الأخبار **


 باب استئذان الأبوين في الجهاد

1- عن ابن مسعود قال‏:‏ ‏(‏سألت رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم أي العمل أحب إلى اللّه قال‏:‏ الصلاة على وقتها قلت‏:‏ ثم أي قال‏:‏ بر الوالدين قلت‏:‏ ثم أي قال‏:‏ الجهاد في سبيل اللّه حدثني بهن ولو استزدته لزادني‏)‏‏.‏ تفق عليه‏.‏

2- وعن عبد اللّه بن عمرو قال‏:‏ ‏(‏جاء رجل إلى النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم فاستأذنه في الجهاد فقال أحيٌّ والداك قال نعم قال ففيهما فجاهد‏)‏‏.‏

رواه البخاري والنسائي وأبو داود والترمذي وصححه‏.‏

3- وفي رواية‏:‏ ‏(‏أتى رجل فقال‏:‏ يا رسول اللّه إني جئت أريد الجهاد معك ولقد أتيت وإن والدي يبكيان قال‏:‏ فارجع إليهما فأضحكهما كما أبكيتهما‏)‏‏.‏

رواه أحمد وأبو داود وابن ماجه‏.‏

4- وعن أبي سعيد‏:‏ ‏(‏أن رجلًا هاجر إلى النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم من اليمن فقال‏:‏ هل لك أحد باليمن فقال‏:‏ أبواي فقال‏:‏ أذنا لك فقال‏:‏ لا فقال‏:‏ ارجع إليهما فاستأذنهما فإن أذنا لك فجاهد وإلا فبرهما‏)‏‏.‏ رواه أبو داود‏.‏

5- وعن معاوية بن جاهمة السلمي‏:‏ ‏(‏أن جاهمة أتى النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم فقال‏:‏ يا رسول اللّه أردت الغزو وجئتك أستشيرك فقال‏:‏ هل لك من أم قال‏:‏ نعم فقال‏:‏ الزمها فإن الجنة عند رجليها‏)‏‏.‏

رواه أحمد والنسائي‏.‏

وهذا كله إن لم يتعين عليه الجهاد فإذا تعين فتركه معصية ولا طاعة لمخلوق في معصية اللّه عز وجل

الرواية الثانية من حديث عبد اللّه بن عمرو أخرجها أيضًا النسائي وابن حبان وأخرجها أيضًا مسلم وسعيد بن منصور من وجه آخر في نحو هذه القصة قال ارجع إلى والدتك فأحسن صحبتها‏.‏

وحديث أبي سعيد صححه ابن حبان‏.‏ وحديث معاوية بن جاهمة أخرجه أيضًا البيهقي من طريق ابن جريج عن محمد بن طلحة ابن ركانة عن معاوية وقد اختلف في إسناده على محمد بن طلحة اختلافًا كثيرًا ورجال إسناد النسائي ثقات إلا محمد بن طلحة وهو صدوق يخطئ‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏أي العمل أحب إلى اللّه‏)‏ في رواية للبخاري وغيره أي العمل أفضل وظاهره أن الصلاة أحب الأعمال وأفضلها‏.‏

قال في الفتح‏:‏ وحاصل ما أجاب به العلماء عن هذا الحديث ونحوه مما اختلف فيه الأجوبة بأنه أفضل الأعمال إن الجواب اختلف لاختلاف أحوال السائلين بأن أعلم كل قوم بما يحتاجون إليه أو بمالهم فيه رغبة أو بما هو لائق بهم أو كان الاختلاف باختلاف الأوقات بأن يكون العمل في ذلك الوقت أفضل منه في غيره فقد كان الجهاد في أول الإسلام أفضل الأعمال لأنه الوسيلة إلى القيام بها والتمكن من أدائها وقد تظافرت النصوص على أن الصلاة أفضل من الصدقة ومع ذلك ففي وقت مواساة الفقراء المضطرين تكون الصدقة أفضل أو أن أفضل ليست على بابها بل المراد بها الفضل المطلق أو المراد من أفضل الأعمال فحذفت من وهي مرادة‏.‏

وقال ابن دقيق العيد‏:‏ الأعمال في هذا الحديث محمولة على البدنية وأريد بذلك الاحتراز عن الإيمان لأنه من أعمال القلوب فلا تعارض بينه وبين حديث أبي هريرة أفضل الأعمال إيمان باللّه‏.‏ الحديث‏.‏ وقال غيره‏:‏ المراد بالجهاد هنا ما ليس بفرض عين لأنه يتوقف على إذن الوالدين فيكون برهما مقدمًا عليه‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏الصلاة على وقتها‏)‏ قال ابن بطال‏:‏ فيه أن البدار إلى الصلاة في أول الوقت أفضل من التراخي فيها لأنه إنما شرط فيها أن تكون أحب الأعمال إذا أقيمت لوقتها المستحب‏.‏ قال الحافظ‏:‏ وفي أخذ ذلك من اللفظ المذكور نظر‏.‏

قال ابن دقيق العيد‏:‏ ليس في هذا اللفظ ما يقتضي أولًا ولا آخرًا وكان المقصود به الاحتراز عما إذا وقعت قضاء وتعقب بأن إخراجها عن وقتها محرم ولفظ أحب يقتضي المشاركة في الاستحباب فيكون المراد الاحتراز عن إيقاعها آخر الوقت وأجيب بأن المشاركة إنما هي بالنسبة إلى الصلاة وغيرها من الأعمال فإن وقعت الصلاة في وقتها كانت أحب إلى اللّه من غيرها من الأعمال فوقع الاحتراز عما إذا وقعت خارجة عن وقتها من معذور كالنائم والناسي فإن إخراجهما لها عن وقتها لا يوصف بالتحريم ولا يوصف بكونه أفضل الأعمال مع كونه محبوبًا لكن إيقاعها في الوقت أحب‏.‏

وقد روى الحديث الدارقطني والحاكم والبيهقي بلفظ الصلاة في أول وقتها وهذا اللفظ مما تفرد به علي بن حفص وهو شيخ صدوق من رجال مسلم‏.‏

قال الدارقطني‏:‏ ما أحسبه حفظه لأنه كبر وتغير حفظه‏.‏ قال الحافظ‏:‏ ورواه الحسين المعمري في اليوم والليلة عن أبي موسى محمد بن المثنى عن غندر عن شعبة كذلك قال الدارقطني تفرد به المعمري فقد رواه أصحاب أبي موسى عنه بلفظ‏:‏ ‏(‏على وقتها‏)‏ ثم أخرجه الدارقطني عن المحاملي عن أبي موسى كرواية الجماعة وكذا رواه أصحاب غندر عنه والظاهر أن المعمري وهم فيه لأنه كان يحدث من حفظه وقد أطلق النووي في شرح المهذب أن رواية في أول وقتها ضعيفة وتعقبه الحافظ بأن لها طريقًا أخرى أخرجها ابن خزيمة في صحيحه والحاكم وغيرهما من طريق عثمان بن عمر عن مالك بن مغول عن الوليد وتفرد عثمان بذلك والمعروف عن مالك بن مغول كرواية الجماعة وكان من رواها كذلك ظن أن المعنى واحد ويمكن أن يكون أخذه من لفظة على لأنها تقتضي الاستعلاء على جميع الوقت فتعين أوله والظاهر أن على بمعنى اللام أي لوقتها‏.‏

قال القرطبي وغيره‏:‏ إن اللام في لوقتها للاستقبال مثل ‏{‏فطلقوهن لعدتهن‏}‏ أي مستقبلات عدتهن وقيل للابتداء كقوله ‏{‏أقم الصلاة لدلوك الشمس‏}‏ وقيل بمعنى في أي في وقتها وقيل إنها لإرادة الاستعلاء على الوقت وفائدته تحقق دخول الوقت ليقع الأداء فيه‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏ثم أي‏)‏ قيل الصواب أنه غير منون لأنه موقوف عليه في الكلام والسائل ينتظر الجواب والتنوين لا يوقف عليه فتنوينه ووصله بما بعده خطأ فيوقف عليه ثم يؤتى بما بعده‏.‏

قال الفاكهاني‏:‏ وحكى ابن الجوزي وابن الخشاب الجزم بتنوينه لأنه معرب غير مضاف وتعقب بأنه مضاف تقديرًا والمضاف إليه محذوف لفظًا والتقدير ثم أي العمل أحب فوقف عليه بلا تنوين‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏بر الوالدين‏)‏ كذا للأكثر وللمستملي ثم بر الوالدين بزيادة ثم وفي الحديث فضل تعظيم الوالدين وأن أعمال البدن يفضل بعضها على بعض وفيه فوائد غير ذلك‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏ففيهما فجاهد‏)‏ أي خصصهما بجهاد النفس في رضائهما‏.‏ قال في الفتح‏:‏ ويستفاد منه جواز التعبير عن الشيء بضده إذا فهم المعنى لأن صيغة الأمر في قوله فجاهد ظاهرها إيصال الضرر الذي كان يحصل لغيرهما بهما وليس ذلك مرادًا قطعًا وإنما المراد إيصال القدر المشترك من كلفة الجهاد وهو تعب البدن وبذل المال ويؤخذ منه أن كل شيء يتعب النفس يسمى جهادًا اهـ ولا يخفى أن كون المفهوم من تلك الصيغة إيصال الضرر بالأبوين إنما يصح قبل دخول لفظ في عليها وأما بعد دخولها كما هو الواقع في الحديث فليس ذلك المعنى هو المفهوم منها فإنه لا يقال جاهد في الكفار بمعنى جاهدهم كما يقال جاهد في اللّه فالجهاد الذي يراد منه إيصال الضرر لمن وقعت المجاهدة له هو جاهده لا جاهد فيه وله‏.‏ وفي الحديث دليل على أن بر الوالدين قد يكون أفضل من الجهاد‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏فإن أذنا لك فجاهد‏)‏ فيه دليل على أنه يجب استئذان الأبوين في الجهاد وبذلك قال الجمهور وجزموا بتحريم الجهاد إذا منع منه الأبوان أو أحدهما لأن برهما فرض عين والجهاد فرض كفاية فإذا تعين الجهاد فلا أذن ويشهد له ما أخرجه ابن حبان من حديث عبد اللّه بن عمرو قال‏:‏ ‏(‏جاء رجل إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم فسأله عن أفضل الأعمال قال الصلاة قال ثم مه قال الجهاد قال فإن لي والدين فقال آمرك بوالديك خيرًا فقال والذي بعثك نبيًا لأجاهدن ولأتركنهما قال فأنت أعلم‏)‏ وهو محمول على جهاد فرض العين توفيقًا بين الحديثين وهذا بشرط أن يكون الأبوان مسلمين وهل يلحق بهما الجد والجدة الأصح عند الشافعية ذلك وظاهره عدم الفرق بين الأحرار والعبيد‏.‏

قال في الفتح‏:‏ واستدل بالحديث على تحريم السفر بغير إذنهما لأن الجهاد إذا منع منه مع فضيلته فالسفر المباح أولى نعم إن كان سفره لتعلم فرض عين حيث يتعين السفر طريقًا إليه فلا منع وإن كان فرض كفاية ففيه خلاف‏.‏

 باب لا يجاهد من عليه دين إلا برضا غريمه

1- عن أبي قتادة‏:‏ ‏(‏عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم أنه قام فيهم فذكر لهم أن الجهاد في سبيل اللّه والإيمان باللّه أفضل الأعمال فقام رجل فقال‏:‏ يا رسول اللّه أرأيت إن قتلت في سبيل اللّه تكفر عني خطاياي فقال له رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم‏:‏ نعم إن قتلت في سبيل اللّه وأنت صابر محتسب مقبل غير مدبر ثم قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم‏:‏ كيف قلت قال‏:‏ أرأيت إن قتلت في سبيل اللّه تكفر عني خطاياي فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم‏:‏ نعم وأنت صابر محتسب مقبل غير مدبر إلا الدين فإن جبريل عليه السلام قال لي ذلك‏)‏‏.‏

رواه أحمد ومسلم والنسائي والترمذي وصححه‏.‏ ولأحمد والنسائي من حديث أبي هريرة مثله‏.‏

2- وعن عبد اللّه بن عمرو‏:‏ ‏(‏أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم قال‏:‏ يغفر اللّه للشهيد كل ذنب إلا الدين فإن جبريل عليه السلام قال لي ذلك‏)‏‏.‏

رواه أحمد ومسلم‏.‏

3- وعن أنس قال‏:‏ ‏(‏قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم‏:‏ القتل في سبيل اللّه يكفر كل خطيئة فقال جبريل إلا الدين فقال النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم إلا الدين‏)‏‏.‏رواه الترمذي وقال حديث حسن غريب‏.‏

حديث أبي هريرة رجال إسناده في سنن النسائي ثقات وقد أشار إليه الترمذي فقال بعد إخراجه لحديث أبي قتادة‏:‏ وفي الباب عن أنس ومحمد بن جحش وأبي هريرة اهـ‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏أفضل الأعمال‏)‏ فيه دليل على أن الجهاد في سبيل اللّه والإيمان باللّه أفضل من غيرهما من أعمال الخير وهو يعارض في الظاهر ما تقدم في الباب الأول ويتوجه الجمع بما سلف‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏نعم‏)‏ فيه دليل على أن الجهاد بشرط أن يكون في سبيل اللّه مع الاحتساب وعدم الانهزام من مكفرات جميع الذنوب والخطايا فيكون الشهيد بالشهادة مستحقًا للمغفرة العامة إلا ما كان من الديون اللازمة للآدميين فإنها لا تغفر للشهيد ولا تسقط عنه بمجرد الشهادة وذلك لكونه حقًا لآدمي وسقوطه إنما يكون برضاه واختياره ولهذا امتنع صلى اللّه عليه وآله وسلم من الصلاة على من عليه دين كما تقدم في الضمانة ويلحق بالدين ما كان حقًا لآدمي من دم أو عرض بجامع أن كل واحد حق لآدمي يتوقف سقوطه على إسقاطه‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏فإن جبريل قال لي ذلك‏)‏ لعل الجواب منه صلى اللّه عليه وآله وسلم بقوله نعم من غير استثناء كان بالاجتهاد ثم لما أخبره جبريل بما أخبر استعاد النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم من السائل سؤاله ثم أخبره بأن استثناء الدين ليس هو من جهته وإنما هو بأمر اللّه له بذلك‏.‏

وقد استدل بأحاديث الباب على أنه لا يجوز لمن عليه دين أن يخرج إلى الجهاد إلا بإذن من له الدين لأنه حق لآدمي والجهاد حق للّه تعالى وينبغي أن يلحق بذلك سائر حقوق الآدميين كما تقدم لعدم الفرق بين حق وحق‏.‏ ووجه الاستدلال بأحاديث الباب على عدم جواز خروج المديون إلى الجهاد بغير إذن غريمه أن الدين يمنع من فائدة الشهادة وهي المغفرة العامة وذلك يبطل ثمرة الجهاد وقد أشار صاحب البحر إلى مثل ذلك فقال ومن عليه دين حال لم يخرج إلا بإذن الغريم لقوله صلى اللّه عليه وآله وسلم‏:‏ ‏(‏نعم إلا الدين‏)‏ الخبر فإذا منع الشهادة بطلت ثمرة الجهاد اهـ ولا يخفى أن بقاء الدين في ذمة الشهيد لا يمنع من الشهادة بل هو شهيد مغفور له كل ذنب إلا الدين وغفران ذنب واحد يصح جعله ثمرة للجهاد فكيف بمغفرة جميع الذنوب إلا واحدًا منها فالقول بأن ثمرة الشهادة مغفرة جميع الذنوب ممنوع كما أن القول بأن عدم غفران ذنب واحد يمنع من الشهادة ويبطل ثمرة الجهاد ممنوع أيضًا وغاية ما اشتملت عليه أحاديث الباب هو أن الشهيد يغفر له جميع ذنوبه إلا ذنب الدين وذلك لا يستلزم عدم جواز الخروج إلى الجهاد إلا بإذن من له الدين بل إن أحب المجاهد أن يكون جهاده سببًا لمغفرة كل ذنب استأذن صاحب الدين في الخروج وإن رضي بأن يبقى عليه ذنب واحد منها جاز له الخروج بدون استئذان وهذا إذا كان الدين حالًا وأما إذا كان مؤجلًا ففي ذلك وجهان‏.‏

قال الإمام يحيى‏:‏ أصحهما يعتبر الأذن أيضًا إذ الدين مانع للشهادة وقيل لا كالخروج للتجارة قال في البحر‏:‏ ويصح الرجوع عن الأذن قبل التحام القتال إذ الحق له لا بعده لما فيه من الوهن‏.‏

 باب ما جاء في الاستعانة بالمشركين

1- عن عائشة قالت‏:‏ ‏(‏خرج النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم قبل بدر فلما كان بحرة الوبرة أدركه رجل قد كان تذكر منه جرأة ونجدة ففرح به أصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم حين رأوه فلما أدركه قال‏:‏ جئت لأتبعك فأصيب معك فقال له رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم‏:‏ تؤمن باللّه ورسوله قال‏:‏ لا قال‏:‏ فارجع فلن أستعين بمشرك قالت‏:‏ ثم مضى حتى إذا كان بالشجرة أدركه الرجل فقال له كما قال أول مرة فقال له النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم كما قال أول مرة فقال لا قال فارجع فلن أستعين بمشرك قال فرجع فأدركه بالبيداء فقال له كما قال أول مرة تؤمن باللّه ورسوله قال نعم فقال له فانطلق‏)‏‏.‏ رواه أحمد ومسلم‏.‏

2- وعن خبيب بن عبد الرحمن عن أبيه عن جده قال‏:‏ ‏(‏أتيت النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم وهو يريد غزوًا أنا ورجل من قومي ولم نسلم فقلنا إنا نستحي أن يشهد قومنا مشهدًا لا نشهده معهم فقال‏:‏ أسلمتما فقلنا‏:‏ لا فقال‏:‏ إنا لا نستعين بالمشركين على المشركين فأسلمنا وشهدنا معه‏)‏‏.‏

رواه أحمد‏.‏

3- وعن أنس قال‏:‏ ‏(‏قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم‏:‏ لا تستضيئوا بنار المشركين ولا تنقشوا على خواتيمكم عربيًا‏)‏‏.‏ رواه أحمد والنسائي‏.‏

4- وعن ذي مخبر قال‏:‏ ‏(‏سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم يقول‏:‏ ستصالحون الروم صلحًا وتغزون أنتم وهم عدوًا من ورائكم‏)‏‏.‏

رواه أحمد وأبو داود‏.‏

5- وعن الزهري‏:‏ ‏(‏أن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم استعان بناس من اليهود في خيبر في حربه فأسهم لهم‏)‏‏.‏

رواه أبو داود في مراسيله‏.‏

حديث خبيب بن عبد الرحمن أخرجه الشافعي والبيهقي وأورده الحافظ في التلخيص وسكت عنه وقال في مجمع الزوائد‏:‏ أخرجه أحمد والطبراني ورجالهما ثقات‏.‏

وحديث أنس في إسناده عند النسائي أزهر بن راشد وهو ضعيف وبقية رجال إسناده ثقات‏.‏

وحديث ذي مخبر أخرجه أيضًا ابن ماجه وسكت عنه أبو داود والمنذري ورجال إسناد أبي داود رجال الصحيح‏.‏

وحديث الزهري أخرجه أيضًا الترمذي مرسلًا والزهري مراسيله ضعيفة‏.‏ ورواه الشافعي فقال أخبرنا يوسف حدثنا حسن بن عمارة عن الحكم عن مقسم عن ابن عباس قال استعان النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم فذكر مثله وقال ولم يسهم لهم‏.‏

قال البيهقي‏:‏ لم أجده إلا من طريق الحسن بن عمارة وهو ضعيف والصحيح ما أخبرنا الحافظ أبو عبد اللّه فساق بسنده إلى أبي حميد الساعدي قال‏:‏ ‏(‏خرج رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم حتى إذا خلف ثنية الوداع إذا كتيبة قال‏:‏ من هؤلاء قالوا‏:‏ بنو قينقاع رهط عبد اللّه بن سلام قال‏:‏ أو تسلموا قالوا‏:‏ فأمرهم أن يرجعوا وقال إنا لا نستعين بالمشركين فأسلموا‏.‏

وحديث عائشة فيه دليل على أنها لا تجوز الاستعانة بالكافر وكذلك حديث خبيب بن عبد الرحمن ويعارضهما في الظاهر حديث ذي مخبر وحديث الزهري المذكوران وقد جمع بأوجه منها ما ذكره البيهقي عن نص الشافعي أن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم تفرس الرغبة في الذين ردهم فردهم رجاء أن يسلموا فصدق اللّه ظنه‏.‏ وفيه نظر لأن قوله لا أستعين بمشرك نكرة في سياق النفي تفيد العموم‏.‏

ومنها أن الأمر في ذلك إلى رأي الإمام وفيه النظر المذكور بعينه‏.‏ ومنها أن الاستعانة كانت ممنوعة ثم رخص فيها قال الحافظ في التلخيص‏:‏ وهذا أقربها وعليه نص الشافعي وإلى عدم جواز الاستعانة بالمشركين ذهب جماعة من العلماء وهو مروي عن الشافعي وحكي في البحر عن العترة وأبي حنيفة وأصحابه أنها تجوز الاستعانة بالكفار والفساق حيث يستقيمون على أوامره ونواهيه واستدلوا باستعانته صلى اللّه عليه وآله وسلم بناس من اليهود كما تقدم وباستعانته صلى اللّه عليه وآله وسلم بصفوان بن أمية يوم حنين وبإخباره صلى اللّه عليه وآله وسلم بأنها ستقع من المسلمين مصالحة الروم ويغزون جميعًا عدوًا من وراء المسلمين‏.‏

قال في البحر‏:‏ وتجوز الاستعانة بالمنافق إجماعًا لاستعانته صلى اللّه عليه وآله وسلم بابن أبي وأصحابه وتجوز الاستعانة بالفساق على الكفار إجماعًا وعلى البغاة عندنا لاستعانة علي عليه السلام بالأشعث انتهى‏.‏

وقد روي عن الشافعي المنع من الاستعانة بالكفار على المسلمين لأن في ذلك جعل سبيل للكافر على المسلم وقد قال تعالى ‏{‏ولن يجعل اللّه للكافرين على المؤمنين سبيلًا‏}‏ وأجيب بأن السبيل هو اليد وهي للإمام الذي استعان بالكافر وشرط بعض أهل العلم ومنهم الهادوية أنها لا يجوز الاستعانة بالكفار والفساق إلا حيث مع الإمام جماعة من المسلمين يستقل بهم في إمضاء الأحكام الشرعية على الذين استعان بهم ليكونوا مغلوبين لا غالبين كما كان عبد اللّه بن أبي ومن معه من المنافقين يخرجون مع النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم للقتال وهم كذلك ومما يدل على جواز الاستعانة بالمشركين أن قزمان خرج مع أصحاب النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم يوم أحد وهو مشرك فقتل ثلاثة من بني عبد الدار حملة لواء المشركين حتى قال صلى اللّه عليه وآله وسلم وآله وسلم إن اللّه ليأزر هذا الدين بالرجل الفاجر كما ثبت ذلك عند أهل السير وخرجت خزاعة مع النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم على قريش عام الفتح ـ والحاصل ـ أن الظاهر من الأدلة عدم جواز الاستعانة بمن كان مشركًا مطلقًا لما في قوله صلى اللّه عليه وآله وسلم إنا لا نستعين بالمشركين من العموم‏.‏

وكذلك قوله أنا لا أستعين بمشرك ولا يصلح مرسل الزهري لمعارضة ذلك لما تقدم من أن مراسيل الزهري ضعيفة والمسند فيه الحسن بن عمارة وهو ضعيف ويؤيد هذا قوله تعالى ‏{‏ولن يجعل اللّه للكافرين على المؤمنين سبيلًا‏}‏ وقد أخرج الشيخان عن البراء قال‏:‏ ‏(‏جاء رجل مقنع بالحديد فقال‏:‏ يا رسول اللّه أقاتل أو أسلم قال‏:‏ أسلم ثم قاتل فأسلم ثم قاتل فقتل فقال صلى اللّه عليه وآله وسلم‏:‏ عمل قليلًا وأجر كثيرًا‏)‏ وأما استعانته صلى اللّه عليه وآله وسلم بابن أبي فليس ذلك إلا لإظهاره الإسلام وأما مقاتلة قزمان مع المسلمين فلم يثبت أنه صلى اللّه عليه وآله وسلم أذن له بذلك في ابتداء الأمر وغاية ما فيه أنه يجوز للإمام السكوت عن كافر قاتل مع المسلمين‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏بحرة الوبرة‏)‏ الحرة بفتح الحاء المهملة وتشديد الراء والوبرة بفتح الواو والباء الموحدة بعدها راء وبسكون الموحدة أيضًا موضع على أربعة أميال من المدينة‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏بالشجرة‏)‏ اسم موضع وكذلك البيداء‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏ولا تنقشوا على خواتيمكم عربيًا‏)‏ بفتح العين المهملة والراء وبعدها موحدة‏.‏

قال في القاموس في مادة عرب ولا تنقشوا على خواتيمكم عربيًا أي لا تنقشوا محمد رسول اللّه كأنه قال نبيًا عربيًا يعني نفسه صلى اللّه عليه وآله وسلم انتهى‏.‏

نهى صلى اللّه عليه وآله وسلم أن ينقشوا على خواتيمهم مثل ما كان ينقش على خاتمه وهو محمد رسول اللّه لأنه كان علامة له في ذلك الوقت يختم به كتبه‏.‏

 باب ما جاء في مشاورة الإمام الجيش ونصحه لهم ورفقه بهم وأخذهم بما عليهم

1- عن أنس‏:‏ ‏(‏أن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم شاور حين بلغه إقبال أبي سفيان فتكلم أبو بكر فأعرض عنه ثم تكلم عمر فأعرض عنه فقام سعد بن عبادة فقال‏:‏ إيانا تريد يا رسول اللّه والذي نفسي بيده لو أمرتنا أن نخيضها البحر لاخضناها ولو أمرتنا أن نضرب أكبادها إلى برك الغماد لفعلنا قال‏:‏ فندب رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم الناس فانطلقوا‏)‏‏.‏

رواه أحمد ومسلم‏.‏

2- وعن أبي هريرة قال‏:‏ ‏(‏ما رأيت أحدًا قط كان أكثر مشورة لأصحابه من رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم‏)‏‏.‏

رواه أحمد والشافعي‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏حين بلغه إقبال أبي سفيان‏)‏ هذا الأمر كان في غزوة بدر وقد اقتصر المصنف ههنا على أول الحديث لكونه محل الحاجة وتمامه‏:‏ ‏(‏فانطلقوا حتى نزلوا بدرًا ووردت عليهم روايا قريش وفيهم غلام أسود لبني الحجاج فكان أصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم يسألونه عن أبي سفيان وأصحابه فيقول لهم ما لي علم بأبي سفيان ولكن هذا أبو جهل وعتبة وشيبة وأمية بن خلف في الناس فإذا قال ذلك ضربوه ورسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم قائم يصلي فلما رأى ذلك انصرف فقال والذي نفسي بيده إنكم لتضربونه إذا صدقكم وتتركونه إذا كذبكم ثم قال هذا مصرع فلان ويضع يده على الأرض ههنا ههنا قال فواللّه ما ماط أحد منهم عن موضعه‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏أن نخيضها‏)‏ أي الخيل وهو بالخاء المعجمة بعدها مثناة تحتية ثم ضاد معجمة قال في القاموس‏:‏ خاض الماء يخوضه خوضًا وخياضًا دخله كخوضه واختاضه وبالفرس أو رده كاخاضه انتهى‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏برك‏)‏ بكسر الباء الموحدة وفتحها مع سكون الراء‏.‏ والغماد بغين معجمة مثلثة كما في القاموس وهو موضع في ساحل البحر بينه وبين جدة عشرة أميال وهو البندر القديم‏.‏ وحكى صاحب القاموس عن ابن عليم في الباهر أنه أقصى معمور الأرض‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏ما رأيت أحدًا قط‏)‏ الخ فيه دليل على أنه يشرع للإمام أن يستكثر من استشارة أصحابه الموثوق بهم دينًا وعقلًا وقد ذهبت الهادوية إلى وجوب استشارة الإمام لأهل الفضل واستدلوا بظاهر قوله تعالى ‏{‏وشاورهم في الأمر‏}‏ وقيل إن الأمر في الآية للندب إيناسًا لهم وتطييبًا لخواطرهم وأجيب بأن ذلك نوع من التعظيم وهو واجب والاستدلال بالآية على الوجوب إنما يتم بعد تسليم أنها غير خاصة برسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم أو بعد تسليم أن الخطاب الخاص به يعم الأمة أو الأئمة وذلك مختلف فيه عند أهل الأصول‏.‏

3- وعن معقل بن يسار قال‏:‏ ‏(‏سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم يقول‏:‏ ما من عبد يسترعيه اللّه رعية يموت يوم يموت وهو غاش لرعيته إلا حرم اللّه عليه الجنة‏)‏‏.‏

متفق عليه‏.‏

وفي لفظ‏:‏ ‏(‏ما من أمير يلي أمور المسلمين ثم لا يجتهد لهم ولا ينصح لهم إلا لم يدخل الجنة‏)‏ رواه مسلم‏.‏

4- وعن عائشة قالت‏:‏ ‏(‏سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم يقول‏:‏ اللّهم من ولي من أمر أمتي شيئًا فشق عليهم فاشقق عليه ومن ولي من أمر أمتي شيئًا فرفق بهم فارفق به‏)‏‏.‏

رواه أحمد ومسلم‏.‏

5- وعن جابر قال‏:‏ ‏(‏كان رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم يتخلف في المسير فيزجي الضعيف ويردف ويدعو لهم‏)‏‏.‏

رواه أبو داود‏.‏

6- وعن سهل بن معاذ عن أبيه قال‏:‏ ‏(‏غزونا مع النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم غزوة كذا وكذا فضيق الناس الطريق فبعث رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم مناديًا فنادى من ضيق منزلًا أو قطع طريقًا فلا جهاد له‏)‏‏.‏

رواه أحمد وأبو داود‏.‏

حديث جابر سكت عنه أبو داود والمنذري ورجال إسناده رجال الصحيح إلا الحسن بن شوكر وقد قيل إن البخاري روى له كما ذكره صاحب التقريب وحديث سهل بن معاذ في إسناده إسماعيل بن عياش وفيه مقال قد تقدم وسهل بن معاذ ضعيف كما قال المنذري‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏إلا حرم اللّه عليه الجنة‏)‏ وفي رواية للبخاري‏:‏ ‏(‏لم يجد رائحة الجنة‏)‏ زاد الطبراني‏:‏ ‏(‏وعرفها يوجد يوم القيامة من مسيرة سبعين عامًا‏)‏ وأصل هذا الحديث أن عبيد اللّه بن زياد لما أفرط في سفك الدماء وكان معقل بن يسار حينئذ مريضًا مرضه الذي مات فيه فأتى عبيد اللّه يعوده فقال له معقل إني محدثك حديثًا سمعته من رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم فذكره‏.‏

وفي مسلم أنه لما حدثه بذلك قال ألا كنت حدثتني قبل هذا اليوم قال لم أكن لأحدثك قبل سبب ذلك والمراد بهذا السبب هو ما كان يقع منه من سفك الدماء ووقع في رواية الإسماعيلي من الوجه الذي أخرجه مسلم لولا أني ميت ما حدثتك فكأنه كان يخشى بطشه فلما نزل به الموت أراد أن يكف بعض شره عن المسلمين‏.‏ وأخرج الطبراني في الكبير عن الحسن قال قدم علينا عبيد اللّه بن زياد أميرًا أمره علينا معاوية غلامًا سفيهًا يسفك الدماء سفكًا شديدًا وفينا عبد اللّه بن معقل المزني فدخل عليه ذات يوم فقال له انته عما أراك تصنع فقال له وما أنت وذاك قال ثم خرج إلى المسجد فقلنا له ما كنت تصنع بكلام هذا السفيه على رؤوس الناس فقال أنه كان عندي علم فأحببت أن لا أموت حتى أقول به على رؤوس الناس ثم قام فما لبث أن مرض مرضه الذي توفى فيه فأتاه عبيد اللّه بن زياد يعوده فذكر نحو حديث الباب فيحتمل أن تكون القصة وقعت للصحابيين‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏ما من أمير‏)‏ في رواية للبخاري‏:‏ ما من وال يلي رعية من المسلمين‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏ثم لا يجتهد‏)‏ في رواية أبي المليح ثم لا يجد له بجيم ودال مشددة من الجد بالكسر ضد الهزل‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏يلي‏)‏ قال ابن التين‏:‏ يلي جاء على غير القياس لأن ماضيه ولي بالكسر فمستقبله يولي بالفتح وهو مثل ورث يرث قال ابن بطال‏:‏ هذا وعيد شديد على أئمة الجور فمن ضيع من استرعاه اللّه أو خانهم أو ظلمهم فقد توجه إليه الطلب بمظالم العباد يوم القيامة فكيف يقدر على التحلل من ظلم أمة عظيمة ومعنى حرم اللّه عليه الجنة أي أنفذ عليه الوعيد ولم يرض عنه المظلومين ونقل ابن التين عن الداودي نحوه قال‏:‏ ويحتمل أن يكون هذا في حق الكافر لأن المؤمن لا بد له من نصحه‏.‏

قال الحافظ‏:‏ وهو احتمال بعيد جدًا والتعليل مردود والكافر أيضًا قد يكون ناصحًا فيما تولاه ولا يمنعه ذلك الكفر انتهى‏.‏ ويمكن أن يجاب على هذا بأن النصح من الكافر لا حكم له لعدم كونه مثابًا عليه والأولى في الجواب أن يقال إن الواقع في الحديث نكرة في سياق النفي وهي تعم الكافر والمسلم فلا يقبل التخصيص إلا بدليل وقال بعضهم يحمل على المستحل‏.‏ قال الحافظ‏:‏ والأولى أنه محمول على غير المستحل وإنما أريد به الزجر والتغليظ قال‏:‏ وقد وقع في رواية لمسلم بلفظ‏:‏ ‏(‏لم يدخل معهم الجنة‏)‏ وهو يؤيد أن المراد أنه لا يدخل الجنة في وقت دون وقت انتهى‏.‏ ويجاب بأن الحمل على الزجر والتغليظ خلاف الظاهر فلا يصار إليه إلا لدليل ورواية مسلم لا تدل على أن الدخول في بعض الأوقات لأن النفي فيها مطلق وغاية ما فيه أنه غير مؤكد كما في النفي بلن‏.‏ قال الطيبي‏:‏ إن قوله وهو غاش قيد للفعل مقصود بالذكر يريد أن اللّه تعالى إنما ولاه على عباده ليديم لهم النصيحة لا ليغشهم حتى يموت على ذلك فمن قلب القضية استحق أن يعاقب‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏فيزجي الضعيف‏)‏ بضم التحتية وسكون الزاي بعدها جيم قال في القاموس‏:‏ زجاه ساقه ودفعه كزجاه وازجاه‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏ويردف‏)‏ قال في القاموس‏:‏ الردف بالكسر الراكب خلف الراكب انتهى والمراد أنه صلى اللّه عليه وآله وسلم كان يردف خلفه من ليس له راحلة إذا كان يضعف عن المشي وهذا من حسن خلقه الذي وصفه اللّه تعالى به وذكر عظمه فقال‏:‏ ‏{‏إنك لعلى خلق عظيم‏}‏ ‏{‏بالمؤمنين رؤف رحيم‏}‏‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏فلا جهاد له‏)‏ فيه أنه لا يجوز لأحد تضييق الطريق التي يمر بها الناس ونفي جهاد من فعل ذلك على طريق المبالغة في الزجر والتنفير وكذلك لا يجوز تضييق المنازل التي ينزل فيها المجاهدون لما في ذلك الإضرار بهم‏.‏

 باب لزوم طاعة الجيش لأميرهم ما لم يأمر بمعصية

1- عن معاذ بن جبل‏:‏ ‏(‏عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم قال‏:‏ الغزو غزوان فأما من ابتغى وجه اللّه وأطاع الإمام وأنفق الكريمة وياسر الشريك واجتنب الفساد فإن نومه ونبهه أجر كله وأما من غزا فخرًا ورياء وسمعة وعصى الإمام وأفسد في الأرض فإنه لن يرجع بالكفاف‏)‏‏.‏

رواه أحمد وأبو داود والنسائي‏.‏

2- وعن أبي هريرة‏:‏ ‏(‏أن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم قال‏:‏ من أطاعني فقد أطاع اللّه ومن عصاني فقد عصى اللّه ومن يطع الأمير فقد أطاعني ومن يعص الأمير فقد عصاني‏)‏‏.‏

متفق عليه‏.‏

3- وعن ابن عباس في قوله تعالى ‏{‏أطيعوا اللّه وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم‏}‏ قال‏:‏ ‏(‏نزلت في عبد اللّه بن حذافة بن قيس بن عدي بعثه رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم في سرية‏)‏‏.‏

رواه أحمد والنسائي‏.‏

4- وعن علي رضي اللّه عنه قال‏:‏ ‏(‏بعث رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم سرية واستعمل عليهم رجلًا من الأنصار وأمرهم أن يسمعوا له ويطيعوا فعصوه قي شيء فقال اجمعوا لي حطبًا فجمعوا ثم قال‏:‏ أوقدوا نارًا فأوقدوا ثم قال‏:‏ ألم يأمركم رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم أن تسمعوا وتطيعوا قالوا‏:‏ بلى قال‏:‏ فادخلوها فنظر بعضهم إلى بعض وقالوا‏:‏ إنما فررنا إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم من النار فكانوا كذلك حتى سكن غضبه وطفئت النار فلما رجعوا ذكروا ذلك لرسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم فقال‏:‏ لو دخلوها لم يخرجوا منها أبدًا وقال‏:‏ لا طاعة في معصية اللّه إنما الطاعة في المعروف‏)‏‏.‏

متفق عليه‏.‏

حديث معاذ في إسناده بقية بن الوليد وفيه مقال قال في التقريب‏:‏ صدوق كثير التدليس عن الضعفاء وقد صرح بالتحديث في سند هذا الحديث عن يجير وحديث ابن عباس أخرجه أبو داود قال المنذري في مختصر السنن وأخرجه البخاري ومسلم والترمذي والنسائي‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وأنفق الكريمة‏)‏ هي الفرس التي يغزى عليها قال في القاموس‏:‏ والكريمان الحج والجهاد ومنه خير الناس مؤمن بين كريمين أو معناه بين فرسين يغزو عليهما أو بعيرين يستقي عليهما اهـ ويحتمل أن يكون المراد إنفاق الخصلة الكريمة عند المنفق المحبوبة إليه من غير تعيين‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وياسر الشريك‏)‏ أي سامحه وعامله باليسر ولم يعاسره‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏ونبهه‏)‏ بفتح النون وسكون الموحدة أي انتباهه في سبيل اللّه‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏لن يرجع بالكفاف‏)‏ أي لم يرجع لا عليه ولا له من ثواب تلك الغزوة وعقابها بل يرجع وقد لزمه الإثم لأن الطاعات إذا لم تقع بصلاح سريرة انقلبت معاصي والعاصي آثم‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏من أطاعني فقد أطاع اللّه‏)‏ الخ هذا الحديث فيه دليل على أن طاعة من كان أميرًا طاعة له صلى اللّه عليه وآله وسلم وطاعته طاعة للّه وعصيانه عصيان له وعصيانه عصيان للّه وقد قدمنا من الأدلة الدالة على وجوب طاعة الأئمة والأمراء في باب الصبر على جور الأئمة من آخر كتاب الحدود ما فيه كفاية فليرجع إليه‏.‏

وقد نص القرآن على ذلك فقال ‏{‏أطيعوا اللّه وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم‏}‏ وهي نازلة في طاعة الأمراء كما في رواية ابن عباس المذكورة في الباب‏.‏

وقد قيل إن أولي الأمر هم العلماء كما وقع في الكشاف وغيره من كتب التفسير‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏رجلًا من الأنصار‏)‏ روى أحمد وابن ماجه وصححه ابن خزيمة وابن حبان والحاكم من حديث أبي سعيد أن الرجل المذكور هو علقمة بن مجزز وكذا ذكر ابن إسحاق‏.‏ وقيل إنه عبد اللّه بن حذافة السهمي وكان من أصحاب بدر وكانت فيه دعابة ويجمع بينهما بأن كل واحد منهما كان أميرًا على بعض من تلك السرية ويدل على ذلك حديث أبي سعيد الذي أشرنا إليه ولفظه‏:‏ ‏(‏بعث رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم علقمة بن مجزز على بعث أنا فيهم حتى إذا انتهينا إلى رأس غزاتنا إذ كنا ببعض الطريق إذ بطائفة من الجيش وأمر عليهم عبد اللّه بن حذافة السهمي وكان من أصحاب بدر وكان فيه دعابة‏)‏ الحديث‏.‏

وقد بوب البخاري على هذا الحديث فقال باب سرية عبد اللّه بن حذافة السهمي وعلقمة بن مجزز المدلجي‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏أوقد نارًا‏)‏ الخ قيل إنه لم يقصد دخولهم النار حقيقة وإنما أشار بذلك إلى أن طاعة الأمير واجبة ومن ترك الواجب دخل النار فإذا شق عليكم دخول هذه النار فكيف بالنار الكبرى وكان قصده أنه لو رأى منهم الجد في ولوجها لمنعهم‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏لو دخلوها لم يخرجوا منها‏)‏ قال الداودي‏:‏ يريد تلك النار لأنهم يموتون بتحريقها فلا يخرجون منها أحياء قال‏:‏ وليس المراد بالنار نار جهنم ولا أنهم يخلدون فيها لأنه قد ثبت في حديث الشفاعة أنه يخرج من النار من كان في قلبه مثقال حبة من إيمان قال‏:‏ وهذا من المعاريض التي فيها مندوحة يريد أنه سيق مساق الزجر والتخويف ليفهم السامع أن من فعل ذلك خلد في النار وليس ذلك مرادًا وإنما أريد به الزجر والتخويف وقد ذكر له صاحب الفتح توجيهات في كتاب المغازي‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏لا طاعة في معصية اللّه‏)‏ أي لا تجب بل تحرم على من كان قادرًا على الامتناع‏.‏ وفي حديث معاذ عند أحمد لا طاعة لمن لم يطع اللّه‏.‏ وعند البزار في حديث عمران بن حصين والحكم بن عمرو الغفاري لا طاعة في معصية اللّه وسنده قوي‏.‏

وفي حديث عبادة بن الصامت عند أحمد والطبراني لا طاعة لمن عصى اللّه ولفظ البخاري في حديث الباب‏:‏ ‏(‏فإذا أمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة‏)‏ وهذا تقييد لما أطلق في الأحاديث المطلقة القاضية بطاعة أولي الأمر على العموم والقاضية بالصبر على ما يقع من الأمير مما يكره والوعيد على مفارقة الجماعة والمراد بقوله لا طاعة في معصية اللّه نفي الحقيقة الشرعية لا الوجودية وقوله ‏(‏إنما الطاعة في المعروف‏)‏ فيه بيان ما يطاع فيه من كان من أولي الأمر وهو الآمر المعروف لا ما كان منكرًا والمراد بالمعروف ما كان من الأمور المعروفة في الشرع لا المعروف في العقل أو العادة لأن الحقائق الشرعية مقدمة على غيرها على ما تقرر في الأصول‏.‏

 باب الدعوة قبل القتال

1- عن ابن عباس قال‏:‏ ‏(‏ما قاتل رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم قومًا قط إلا دعاهم‏)‏‏.‏

رواه أحمد‏.‏

2- وعن سليمان بن بريدة عن أبيه قال‏:‏ ‏(‏كان رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم إذا أمر أميرًا على جيش أو سرية أوصاه في خاصته بتقوى اللّه ومن معه من المسلمين خيرًا ثم قال اغزوا بسم اللّه في سبيل اللّه قاتلوا من كفر باللّه اغزوا ولا تغلوا ولا تغدروا ولا تمثلوا ولا تقتلوا وليدًا وإذا لقيت عدوك من المشركين فادعهم إلى ثلاث خصال أو خلال فأيتهن ما أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم ادعهم إلى الإسلام فإن أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم ثم ادعهم إلى التحول من دارهم إلى دار المهاجرين وأخبرهم أنهم إن فعلوا ذلك فلهم ما للمهاجرين وعليهم ما على المهاجرين فإن أبوا أن يتحولوا منها فأخبرهم أنهم يكونون كأعراب المسلمين يجري عليهم الذي يجري على المسلمين ولا يكون لهم في الفيء والغنيمة شيء إلا أن يجاهدوا مع المسلمين فإن هم أبوا فسلهم الجزية فإن أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم وإن أبوا فاستعن باللّه عليهم وقاتلهم وإذا حاصرت أهل حصن فأرادوك أن تجعل لهم ذمة اللّه وذمة نبيه فلا تجعل لهم ذمة اللّه وذمة نبيه ولكن اجعل لهم ذمتك وذمة أصحابك فإنكم إن تخفروا ذمتكم وذمة أصحابكم أهون من أن تخفروا ذمة اللّه وذمة رسوله وإذا حاصرت أهل حصن وأرادوك أن تنزلهم على حكم اللّه فلا تنزلهم على حكم اللّه ولكن أنزلهم على حكمك فإنك لا تدري أتصيب فيهم حكم اللّه أم لا‏)‏‏.‏

رواه أحمد ومسلم وابن ماجه والترمذي وصححه‏.‏ وهو حجة في أن قبول الجزية لا يختص بأهل الكتاب وأن ليس كل مجتهد مصيبًا بل الحق عند اللّه واحد وفيه المنع من قتل الولدان ومن التمثيل‏.‏

حديث ابن عباس أخرجه أيضًا الحاكم من طريق عبد اللّه بن أبي نجيح عن أبيه عنه‏.‏ قال في مجمع الزوائد‏:‏ أخرجه أحمد وأبو يعلى والطبراني ورجاله رجال الصحيح‏.‏ وظاهر قوله إلا دعاهم يخالف حديث نافع عن ابن عمر‏:‏ ‏(‏أن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم أغار على بني المصطلق وهم غارون‏)‏‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏أو سرية‏)‏ هي القطعة من الجيش تنفصل عنه ثم تعود إليه وقيل هي قطعة من الخيل زهاء أربعمائة كذا قال إبراهيم الحربي‏.‏ وسميت سرية لأنها تسري ليلًا على خفية‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏ولا تغلوا‏)‏ بضم الغين أي لا تخونوا إذا غنمتم شيئًا‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏ولا تغدروا‏)‏ بكسر الدال وضمها وهو ضد الوفاء‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وليدًا‏)‏ هو الصبي‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏فادعهم‏)‏ وقع في نسخ مسلم ثم ادعهم‏.‏ قال عياض‏:‏ الصواب إسقاط ثم وقد أسقطها أبو عبيد في كتابه وأبو داود في سننه وغيرهما لأنه تفسير للخصال الثلاث‏.‏

وقال المازري‏:‏ إن ثم دخلت لاستفتاح الكلام وفي هذا دليل على أنه يشرع للإمام إذا أرسل قومه إلى قتال الكفار ونحوهم أن يوصيهم بتقوى اللّه وينهاهم عن المعاصي المتعلقة بالقتال كالغلول والغدر والمثلة وقتل الصبيان وفيه دليل على وجوب تقديم دعاء الكفار إلى الإسلام قبل المقاتلة وفي المسألة ثلاثة مذاهب‏:‏

الأول أنه يجب تقديم الدعاء للكفار إلى الإسلام من غير فرق بين من بلغته الدعوة منهم ومن لم تبلغه وبه قال مالك والهادوية وغيرهم وظاهر الحديث معهم‏.‏

والمذهب الثاني أنه لا يجب مطلقًا وسيأتي في هذا الباب دليل من قال به‏.‏

المذهب الثالث أنه يجب لمن لم تبلغهم الدعوة ولا يجب إن بلغتهم لكن يستحب قال ابن المنذر وهو قول جمهور أهل العلم وقد تظاهرت الأحاديث الصحيحة على معناه وبه يجمع بين ما ظاهره الاختلاف من الأحاديث وقد زعم الإمام المهدي أن وجوب تقديم دعوة من لم تبلغه الدعوة مجمع عليه ويرد ذلك ما ذكرنا من المذاهب الثلاثة وقد حكاها المازري وأبو بكر ابن العربي‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏ثم ادعهم إلى التحول‏)‏ فيه ترغيب الكفار بعد إجابتهم وإسلامهم إلى الهجرة إلى ديار المسلمين لأن الوقوف بالبادية ربما كان سببًا لعدم معرفة الشريعة لقلة من فيها من أهل العلم‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏ولا يكون لهم في الفيء والغنيمة شيء‏)‏ الخ ظاهر هذا أنه لا يستحق من كان بالبادية ولم يهاجر نصيبًا في الفيء والغنيمة إذا لم يجاهد وبه قال الشافعي وفرق بين مال الفيء والغنيمة وبين مال الزكاة وقال‏:‏ إن للأعراب حقًا في الثاني دون الأول‏.‏ وذهب مالك وأبو حنيفة والهادوية إلى عدم الفرق بينهما وأنه يجوز صرف كل واحد منهما في مصرف الآخر‏.‏ وزعم أبو عبيد أن هذا الحكم منسوخ وإنما كان في أوائل الإسلام وأجيب بمنع دعوى النسخ‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏فسلهم الجزية‏)‏ ظاهره عدم الفرق بين الكافر العجمي والعربي والكتابي وإلى ذلك ذهب مالك والأوزاعي وجماعة من أهل العلم وخالفهم الشافعي فقال لا تقبل الجزية إلا من أهل الكتاب والمجوس عربًا كانوا أو عجمًا واستدل بقوله تعالى ‏{‏حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون‏}‏ بعد ذكر أهل الكتاب وقوله صلى اللّه عليه وآله وسلم‏:‏ ‏(‏سنوا بهم سنة أهل الكتاب‏)‏ وأما سائر المشركين فهم داخلون تحت عموم ‏{‏اقتلوا المشركين حيث وجدتموهم‏}‏ وذهبت العترة وأبو حنيفة إلى أن الجزية لا تقبل من العربي غير الكتابي وتقبل من الكتابي ومن العجمي ولعله يأتي لهذا البحث مزيد بسط‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏ذمة اللّه‏)‏ الذمة عقد الصلح والمهادنة وإنما نهى عن ذلك لئلا ينقض الذمة من لا يعرف حقها وينتهك حرمتها بعض من لا تمييز له من الجيش فيكون ذلك أشد لأن نقض ذمة اللّه ورسوله أشد من نقض ذمة أمير الجيش أو ذمة جميع الجيش وإن كان نقض الكل محرمًا‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏إن تخفروا‏)‏ بضم التاء الفوقية وبعدها خاء معجمة ثم فاء مكسورة وراء يقال أخفرت الرجل إذا نقضت عهده وخفرته بمعنى أمنته وحميته‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏فلا تنزلهم على حكم اللّه‏)‏ الخ هذا النهي محمول على التنزيه والاحتياط وكذلك الذي قبله والوجه ما سلف ولهذا قال صلى اللّه عليه وآله وسلم فإنك لا تدري أتصيب فيهم حكم اللّه أم لا‏.‏

وفيه دليل لمن قال أن الحق مع واحد وأن ليس كل مجتهد مصيبًا والخلاف في المسألة مشهور مبسوط في مواضعه والحق أن كل مجتهد مصيب من الصواب لا من الإصابة‏.‏

وقد قيل إن هذا الحديث لا ينتهض للاستدلال به على أن ليس كل مجتهد مصيبًا لأن ذلك كان في زمن النبي والأحكام الشرعية إذ ذاك لا تزال تنزل وينسخ بعضها بعضًا ويخصص بعضها ببعض فلا يؤمن أن ينزل على النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم حكم خلاف الحكم الذي قد عرفه الناس‏.‏

3- وعن فروة بن مسيك قال‏:‏ ‏(‏قلت يا رسول اللّه أقاتل بمقبل قومي مدبرهم قال نعم فلما وليت دعاني فقال لا تقاتلهم حتى تدعوهم إلى الإسلام‏)‏‏.‏

رواه أحمد‏.‏

4- وعن ابن عوف قال‏:‏ ‏(‏كتبت إلى نافع أسأله عن الدعاء قبل القتال فكتب إليّ إنما كان ذلك في أول الإسلام وقد أغار رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم على بني المصطلق وهم غارون وأنعامهم تسقى على الماء فقتل مقاتلتهم وسبى ذراريهم وأصاب يومئذ جويرية ابنة الحارث حدثني به عبد اللّه بن عمر وكان في ذلك الجيش‏)‏‏.‏

متفق عليه‏.‏ وهو دليل على استرقاق العرب‏.‏

5- وعن سهل بن سعد‏:‏ ‏(‏أنه سمع النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم يوم خيبر فقال‏:‏ أين علي فقيل إنه يشتكي عينيه فأمر فدعا له فبصق في عينيه فبرأ مكانه حتى كأنه لم يكن به شيء فقال‏:‏ نقاتلهم حتى يكونوا مثلنا فقال‏:‏ على رسلك حتى تنزل بساحتهم ثم ادعهم إلى الإسلام وأخبرهم بما يجب عليهم فواللّه لأن يهتدي بك رجل واحد خير لك من حمر النعم‏)‏‏.‏

متفق عليه‏.‏

6- وعن البراء بن عازب قال‏:‏ ‏(‏بعث رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم رهطًا من الأنصار إلى أبي رافع فدخل عبد اللّه بن عتيك بيته ليلًا فقتله وهو نائم‏)‏‏.‏

رواه أحمد والبخاري‏.‏

حديث فروة أخرجه أبو داود والترمذي وحسنه وقد أورده الحافظ في التلخيص وسكت عنه‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏على بني المصطلق‏)‏ بضم الميم وسكون المهملة وفتح الطاء وكسر اللام بعدها قاف وهو بطن شهير من خزاعة‏.‏ والمصطلق أبوهم وهو المصطلق ابن سعد بن عمرو بن ربيعة ويقال المصطلق لقبه واسمه جذيمة بفتح الجيم وكسر الذال المعجمة‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وهم غارون‏)‏ بغين معجمة تشديد الراء جمع غار بالتشديد أي غافلون والمراد بذلك الأخذ على غرة أي غفلة‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وسبى ذراريهم‏)‏ فيه دليل على جواز استرقاق العرب لأن بني المصطلق عرب من خزاعة كما سلف وسيأتي الكلام على ذلك في باب جواز استرقاق العرب‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏فبصق في عينيه فبرأ مكانه‏)‏ فيه معجزة ظاهرة للنبي صلى اللّه عليه وآله وسلم وفيه منقبة لعلي عليه سلام اللّه ورحمته وبركاته فإن هذه الغزوة هي التي قال فيها صلى اللّه عليه وآله وسلم‏:‏ ‏(‏لأعطين الراية غدًا رجلًا يحب اللّه ورسوله ويحبه اللّه ورسوله فتطاول الناس لها فقال ادعوا لي عليًا فأتى به أرمد فبصق في عينيه ودفع إليه الراية ففتح اللّه عليه‏)‏ هذا لفظ مسلم والترمذي‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏حتى يكونوا مثلنا‏)‏ المراد من المثلية المذكورة أن يوصفوا بوصف الإسلام وذلك يكون في تلك الحال بالتكلم بالشهادتين وليس المراد أنهم يكونون مثلهم في القيام بأمور الإسلام كلها فإن ذلك لا يمكن امتثاله حال المقاتلة‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏على رسلك‏)‏ بكسر الراء وسكون السين أي أمشي إليهم على الرفق والتؤدة قال في القاموس‏:‏ الرسل بالكسر الرفق والتؤدة‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏بساحتهم‏)‏ قال في القاموس‏:‏ الساحة الناحية وفضاء بين دور الحي الجمع ساح وسوح وساحات انتهى‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏فواللّه لأن يهتدي بك رجل‏)‏ الخ فيه الترغيب في التسبب لهداية من كان على ضلالة وأن ذلك خير للإنسان من أجل النعم الواصلة إليه في الدنيا‏.‏

وفي حديث فروة وسهل بن سعد دليل على وجوب تقديم دعاء الكفار إلى الإسلام على الإطلاق وقد تقدم الخلاف في ذلك والصواب الجمع بين الأحاديث المختلفة بما سلف لحديث ابن عمر المذكور فإن فيه التصريح بأن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم لم يقدم الدعوة لبني المصطلق‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏إلى أبي رافع‏)‏ هو عبد اللّه بن أبي الحقيق وهذا طرف من الحديث ‏[‏ص 56‏]‏ أورده المصنف ههنا لأنه محل الحاجة باعتبار ترجمة الباب لتضمنه وقوع القتل لأبي رافع قبل تقديم الدعوة إليه وعدم أمره صلى اللّه عليه وآله وسلم لمن بعثه لقتله بأن يقدم الدعوة له إلى الإسلام والقصة مشهورة ساقها البخاري بطولها في المغازي من صحيحه‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏رهطًا من الأنصار‏)‏ هم عبد اللّه بن عتيك وعبد اللّه بن عتبة وعند ابن إسحاق ومسعود بن سنان وعبد اللّه بن أنيس وأبو قتادة وخزاعي بن الأسود‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏ابن عتيك‏)‏ بفتح المهملة وكسر المثناة وهو ابن قيس بن الأسود من بني سلمة بكسر اللام وكان سبب أمره صلى اللّه عليه وآله وسلم بقتله أنه كان يؤذي رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم ويعين عليه كما في الصحيح‏.‏

 باب ما يفعله الإمام إذا أراد الغزو من كتمان حاله والتطلع على حال عدوه

1- عن كعب بن مالك‏:‏ ‏(‏عن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم أنه كان إذا أراد غزوة ورى بغيرها‏)‏‏.‏

متفق عليه وهو لأبي داود وزاد والحرب خدعة‏.‏

2- وعن جابر قال‏:‏ ‏(‏قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم‏:‏ الحرب خدعة‏)‏‏.‏

3- وعن أبي هريرة قال‏:‏ ‏(‏سمى النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم الحرب خدعة‏)‏‏.‏

4- وعن جابر قال‏:‏ ‏(‏قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم‏:‏ من يأتيني بخبر القوم يوم الأحزاب فقال الزبير‏:‏ أنا ثم قال‏:‏ من يأتيني بخبر القوم قال الزبير‏:‏ أنا فقال النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم‏:‏ لكل نبي حواري وحواري الزبير‏)‏‏.‏

متفق عليهن‏.‏

5- وعن أنس قال‏:‏ ‏(‏بعث رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم بسبسا عينًا ينظر ما صنعت عير أبي سفيان فجاء فحدثه الحديث فخرج رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم فتكلم فقال‏:‏ إن لنا طلبة فمن كان ظهره حاضرًا فليركب معنا فجعل رجال يستأذنونه في ظهرهم في علو المدينة فقال‏:‏ لا إلا من كان ظهره حاضرًا فانطلق رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم وأصحابه حتى سبقوا ركب المشركين إلى بدر‏)‏‏.‏

رواه أحمد ومسلم‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏ورى‏)‏ أي ستر ويستعمل في إظهار شيء مع إرادة غيره وأصله من الورى بفتح الواو وسكون الراء هو ما يجعل وراء الإنسان لأن من ورى بشيء كأنه جعله وراءه‏.‏ وقيل هو في الحرب أخذ العدو على غرة وقيده السيرافي في شرح كتاب سيبويه بالهمزة قال وأصحاب الحديث لم يضبطوا فيه الهمزة فكأنهم سهلوها‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏خدعة‏)‏ بفتح الخاء المعجمة وضمها مع سكون الدال المهملة وبضم أوله وفتح ثانيه قال النووي‏:‏ اتفقوا على أن الأولى أفصح وبذلك جزم أبو ذر الهروي والقزاز والثانية ضبطت كذلك في رواية الأصيلي ورجح ثعلب الأولى وقال بلغنا بها النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم قال أبو بكر ابن طلحة أراد ثعلب أن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم كان يستعمل هذه البنية كثيرًا لوجازة لفظها ولكونها تعطي معنى البنيتين الآخرتين قال ويعطي معناهما أيضًا الأمر باستعمال الحيلة مهما أمكن ولو مرة قال فكانت مع اختصارها كثيرة المعنى‏.‏ ومعنى خدعة بالإسكان أنها تخدع أهلها من وصف الفاعل باسم المصدر أو من وصف المفعول كما يقال هذا الدرهم ضرب الأمير أي مضروبه‏.‏

وقال الخطابي‏:‏ معناها أنها مرة واحدة أي إذا خدع مرة واحدة لم تقل عثرته وقيل الحكمة في الإتيان بالتاء للدلالة على الوحدة فإن الخداع إن كان من المسلمين فكأنه حضهم على ذلك ولو مرة واحدة وإن كان من الكفار فكأنه حذرهم من مكرهم ولو وقع مرة واحدة فلا ينبغي التهاون بهم لما ينشأ عنه من المفسدة ولو قل وفي اللغة الثالثة صيغة المبالغة كهمزة ولمزة‏.‏ وحكى المنذري لغة رابعة بالفتح فيهما قال‏:‏ وهو جمع خادع أي أن أهلها بهذه الصفة فكأنه قال أهل الحرب خدعة وحكى مكي ومحمد بن عبد اللّه الواحد لغة خامسة كسر أوله مع الإسكان وأصله إظهار أمر وإضمار خلافه وفيه التحريض على أخذ الحذر في الحرب والندب إلى خداع الكفار وأن من لم يتيقظ لم يأمن أن ينعكس الأمر عليه‏.‏

قال النووي‏:‏ واتفقوا على جواز خداع الكفار في الحرب كيف ما أمكن إلا أن يكون فيه نقض عهد أو أمان فلا يجوز‏.‏ قال ابن العربي‏:‏ الخداع في الحرب يقع بالتعريض وبالكمين ونحو ذلك‏.‏

وفي الحديث الإشارة إلى استعمال الرأي في الحرب بل الاحتياج إليه آكد من الشجاعة قال ابن المنير‏:‏ معنى الحرب خدعة أي الحرب الجيدة لصاحبها الكاملة في مقصودها إنما هي المخادعة لا المواجهة وذلك لخطر المواجهة ولحصول الظفر مع المخادعة بغير خطر‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏بسبسا‏)‏ بضم الباء الموحدة الأولى وبعدها سين مهملة ساكنة وبعدها باء موحدة مفتوحة ثم سين مهملة وهو ابن عمرو ويقال ابن بشر‏.‏ وفي سنن أبي بسبسة بزيادة تاء التأنيث وقيل فيه أيضًا بسيسة بالباء الموحدة مضمومة في أوله وفتح السين المهملة ثم ياء مثناة تحتية ساكنة‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏فقال إن لنا طلبة‏)‏ بكسر اللام كما في القاموس‏.‏ وفي النهاية الطلبة الحاجة هذا فيه إبهام للمقصود وقد أورده المصنف للاستدلال به على أن الإمام يكتم أمره كما وقع في الترجمة‏.‏