فصل: باب ما جاء في المبارزة

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: نيل الأوطار شرح منتقى الأخبار **


 باب الكف عن المثلة والتحريق وقطع الشجر وهدم العمران إلا لحاجة ومصلحة

1- عن صفوان بن عسال قال‏:‏ ‏(‏بعثنا رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم في سرية فقال‏:‏ سيروا باسم اللّه وفي سبيل اللّه قاتلوا من كفر باللّه ولا تمثلوا ولا تغدروا ولا تقتلوا وليدًا‏)‏‏.‏

رواه أحمد وابن ماجه‏.‏

2- وعن أبي هريرة قال‏:‏ ‏(‏بعثنا رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم في بعث فقال‏:‏ إن وجدتم فلانًا وفلانًا لرجلين فأحرقوهما بالنار ثم قال حين أردنا الخروج إني كنت أمرتكم أن تحرقوا فلانًا وفلانًا وإن النار لا يعذب بها إلا اللّه فإن وجدتموهما فاقتلوهما‏)‏‏.‏

رواه أحمد والبخاري وأبو داود والترمذي وصححه‏.‏

3- وعن يحيى بن سعيد‏:‏ ‏(‏أن أبا بكر بعث جيوشًا إلى الشام فخرج يمشي مع يزيد بن أبي سفيان وكان يزيد أمير ربع من تلك الأرباع فقال إني موصيك بعشر خلال لا تقتل امرأة ولا صبيًا ولا كبيرًا هرمًا ولا تقطع شجرًا مثمرًا ولا تخرب عامرًا ولا تعقرن شاة ولا بعيرًا إلا لمأكله ولا تعقرن نخلًا ولا تحرقه ولا تغلل ولا تخبن‏)‏

رواه مالك في الموطأ عنه‏.‏

حديث صفوان بن عسال قال ابن ماجه‏:‏ حدثنا الحسن بن علي الخلال حدثنا أبو أسامة قال حدثني عطية بن الحارث بن روق الهمداني قال حدثني أبو العريف عبد اللّه بن خليفة عن صفوان فذكره‏.‏ وعطية صدوق وعبد اللّه بن خليفة ثقة وأخرجه أيضًا النسائي‏.‏ وهذا الحديث هو مثل حديث ابن عباس المتقدم في الباب الأول وجميع ما اشتمل عليه قد تقدم أيضًا في حديث بريدة المتقدم في باب الدعوة قبل القتال‏.‏ وأثر يحيى بن سعيد المذكور مرسل لأنه لم يدرك زمن أبي بكر ورواه البيهقي من حديث يونس عن ابن شهاب عن سعيد بن المسيب‏.‏ ورواه سيف في الفتوح عن الحسن بن أبي الحسن مرسلًا‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏ولا تمثلوا‏)‏ فيه دليل على تحريم المثلة وقد وردت في ذلك أحاديث كثيرة قد سبق في هذا المشروح وشرحه بعض منها‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏بعثنا رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم‏)‏ الخ زاد الترمذي‏:‏ إن هذين الرجلين من قريش‏.‏

وفي رواية لأبي داود‏:‏ ‏(‏إن وجدتم فلانًا فاحرقوه بالنار‏)‏ هكذا بالإفراد وروى في فوائد علي بن حرب عن ابن عيينة عن ابن أبي نجيح أن اسمه هبار بن الأسود‏.‏ ووقع في رواية ابن إسحاق إن وجدتم هبار بن الأسود والرجل الذي سبق منه إلى زينب ما سبق فحرقوهما بالنار يعني زينب بنت رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم وكان زوجها أبو العاص بن الربيع لما أسره الصحابة ثم أطلقه النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم من المدينة شرط عليه أن يجهز إليه ابنته زينب فجهزها فتبعها هبار بن الأسود ورفيقه فنخسا بعيرها فأسقطت ومرضت من ذلك والقصة مشهورة عن ابن إسحاق وغيره‏.‏ وقال في روايته وكان نخسا بزينب بنت رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم حين خرجت من مكة‏.‏

وقد أخرجه سعيد بن منصور عن ابن عيينة عن أبي ابن نجيح إن هبار بن الأسود أصاب زينب بنت رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم بشيء في خدرها فأسقطت فبعث رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم سرية فقال إن وجدتموه فاجعلوه بين حزمتي حطب ثم أشعلوا فيه النار ثم قال لا نستحي من اللّه لا ينبغي لأحد أن يعذب بعذاب اللّه الحديث فكأن إفراد هبار بالذكر في الرواية السابقة لكونه كان الأصل في ذلك والآخر كان تبعًا له وسمى ابن السكن في روايته من طريق ابن إسحاق الرجل الآخر نافع بن عبد قيس وبه جزم ابن هشام في رواية السيرة عنه‏.‏ وحكى السهيلي عن مسند البزار أنه خالد بن عبد قيس فلعله تصحف عليه وإنما هو نافع كذلك هو في النسخ المعتمدة من مسند البزار وكذلك أورده ابن السكن أولًا من مسند البزار وأخرجه محمد بن عثمان بن أبي شيبة في تاريخه من طريق ابن لهيعة كذلك‏.‏ قال الحافظ‏:‏ وقد أسلم هبار هذا ففي رواية ابن أبي نجيح المذكور فلم تصبه السرية وأصابه الإسلام فهاجر فذكر قصة إسلامه وله حديث عند الطبراني وآخر عند ابن منده وعاش إلى أيام معاوية وهو بفتح الهاء وتشديد الباء الموحدة قال الحافظ أيضًا ولم أقف لرفيقه على ذكر في الصحابة فلعله مات قبل أن يسلم‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وإن النار لا يعذب بها إلا اللّه‏)‏ هو خبر بمعنى النهي وقد اختلف السلف في التحريق فكره ذلك عمر وابن عباس وغيرهما مطلقًا سواء كان في سبب كفر أو في حال مقاتلة أو في قصاص وأجازه علي وخالد بن الوليد وغيرهما‏.‏

قال المهلب‏:‏ ليس هذا النهي على التحريم بل على سبيل التواضع ويدل على جواز التحريق فعل الصحابة وقد سمل النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم أعين العرنيين بالحديد كما تقدم وقد أحرق أبو بكر بالنار في حضرة الصحابة‏.‏ وحرق خالد بن الوليد ناس من أهل الردة وكذلك حرق علي كما تقدم في كتاب الحدود‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏ولا تعقرن‏)‏ بالعين المهملة والقاف والراء في كثير من النسخ وفي نسخ ولا تعزقن بالعين المهملة والزاي المكسورة والقاف ونون التوكيد‏.‏

قال في النهاية‏:‏ هو القطع وظاهر النهي في حديث الباب التحريم وهو نسخ للأمر المتقدم سواء كان بوحي إليه أو اجتهاد وهو محمول على من قصد إلى ذلك في شخص بعينه‏.‏

4- وعن جرير بن عبد اللّه قال‏:‏ ‏(‏قال لي رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم‏:‏ ألا تريحني من ذي الخلصة قال فانطلقت في خمسين ومائة فارس من أحمس وكانوا أصحاب خيل وكان ذو الخلصة بيتًا في اليمن لخنعم وبجيلة فيه نصب يعبد يقال له كعبة اليمانية قال فأتاها فحرقها بالنار وكسرها ثم بعث رجلًا من أحمس يكنى أبا أرطاة إلى النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم يبشره بذلك فلما أتاه قال يا رسول اللّه والذي بعثك بالحق ما جئت حتى تركتها كأنها جمل أجرب قال فبرك النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم على خيل أحمس ورجالها خمس مرات‏)‏‏.‏

متفق عليه‏.‏

5- وعن ابن عمر‏:‏ ‏(‏أن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم قطع نخل بني النضير وحرق ولها يقول حسان‏:‏

وهان على بني لؤي ** حريق بالبويرة مستطير

وفي ذلك نزلت ‏{‏ما قطعتم من لينة أو تركتموها‏}‏‏)‏ الآية‏.‏

متفق عليه ولم يذكر أحمد الشعر‏.‏

6- وعن أسامة بن زيد قال‏:‏ ‏(‏بعثني رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم إلى قرية يقال لها أبني فقال ائتها صباحًا ثم حرق‏)‏‏.‏

رواه أحمد وأبو داود وابن ماجه‏.‏ وفي إسناده صالح بن أبي الأخضر قال البخاري هو لين‏.‏

حديث أسامة بن زيد سكت عنه أبو داود والمنذري وفي إسناده من ذكره المصنف‏.‏ وقال يحيى بن معين‏:‏ هو ضعيف‏.‏ وقال أحمد‏:‏ يعتبر به وقال العجلي‏:‏ يكتب حديثه وليس بالقوي‏.‏ وقال في التقريب‏:‏ ضعيف‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏ذي الخلصة‏)‏ بفتح المعجمة واللام والمهملة وحكى بتسكين اللام قال في القاموس‏:‏ وذو الخلصة محركة وبضمتين بيت كان يدعى الكعبة اليمانية لخثعم كان فيه صنم اسمه الخلصة أو لأنه كان منبت الخلصة انتهى‏.‏ وهي نبات له حب أحمر‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏من أحمس‏)‏ بالمهملتين على وزن أحمد قال في القاموس‏:‏ الحمس الأمكنة الصلبة جمع أحمس وبه لقب قريش وكنانة وجديلة ومن تابعهم في الجاهلية لتحمسهم في دينهم أو لالتجائهم بالحمساء وهي الكعبة لأن حجرها أبيض إلى السواد والحماسة الشجاعة والأحمس الشجاع كالحميس كذا في القاموس وفي الفتح هم رهط ينسبون إلى أحمس بن الغوث بن أنمار قال وفي العرب قبيلة أخرى يقال لها أحمس ليست مرادة هنا ينسبون إلى أحمس بن ضبيعة بن ربيعة بن نزار‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏نصب‏)‏ بضم النون والصاد أي صنم‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏كعبة يمانية‏)‏ أي كعبة الجهة اليمانية‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏فبرك‏)‏ بفتح الموحدة وتشديد الراء أي دعا لهم بالبركة‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏كأنها جمل أجرب‏)‏ بالجيم والموحدة وهو كناية عن نزع زينتها وإذهاب بهجتها‏.‏ وقال الحافظ‏:‏ أحسب المراد أنها صارت مثل الجمل المطلي بالقطران من جربه أشار إلى أنها صارت سوداء لما وقع فيها من التحريق‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏سراة‏)‏ بفتح المهملة وتخفيف الراء جمع سرى وهو الرئيس‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏بني لؤي‏)‏ بضم اللام وفتح الهمزة وهو أحد أجداد النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم وبنوهم قريش وأراد حسان تعيير مشركي قريش بما وقع في حلفائهم من بني النضير‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏بالبويرة‏)‏ بالباء الموحدة تصغير بورة وهي الحفرة وهي هنا مكان معروف بين الحديبية وتيماء وهي من جهة قبلة مسجد قباء إلى جهة الغرب ويقال لها أيضًا البويلة باللام بدل الراء‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏من لينة‏)‏ قال السهيلي في تخصيص اللينة بالذكر إيماء إلى أن الذي يجوز قطعه من شجر العدو هو ما لا يكون معدًا للاقتيات لأنهم كانوا يقتاتون العجوة والبرني دون اللينة وكذا ترجم البخاري في التفسير فقال ما قطعتم من لينة نخلة ما لم تكن برنية أو عجوة‏.‏ وقيل اللينة الدقل‏.‏ وفي معالم التنزيل اللينة فعلة من اللون وتجمع على ألوان وقيل من اللين ومعناه النخلة الكريمة وجمعها ليان‏.‏

وقال في القاموس‏:‏ إنها الدقل من النخل‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏يقال له أبني‏)‏ بضم الهمزة والقصر ذكره في النهاية وحكى أبو داود أن أبا مسهر قيل له أبني فقال نحن أعلم هي يبنا فلسطين والأحاديث المذكورة فيها دليل على جواز التحريق في بلاد العدو‏.‏

قال في الفتح‏:‏ ذهب الجمهور إلى جواز التحريق والتخريب في بلاد العدو وكرهه الأوزاعي والليث وأبو ثور واحتجوا بوصية أبي بكر لجيوشه أن لا يفعلوا شيئًا من ذلك وقد تقدمت في أول الباب‏.‏ وأجاب الطبري بأن النهي محمول على القصد لذلك بخلاف ما إذا أصابوا ذلك في حال القتال كما وقع في نصب المنجنيق على الطائف وهو نحو مما أجاب به في النهي عن قتل النساء والصبيان وبهذا قال أكثر أهل العلم وقال غيره إنما نهى أبو بكر عن ذلك لأنه قد علم أن تلك البلاد تفتح فأراد بقاءها على المسلمين انتهى‏.‏ ولا يخفى أن ما وقع من أبي بكر لا يصلح لمعارضة ما ثبت عن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم لما تقرر من عدم حجية قول الصحابي‏.‏

 باب تحريم الفرار من الزحف إذا لم يزد العدو على ضعف المسلمين إلا المتحيز إلى فئة وإن بعدت

1- عن أبي هريرة‏:‏ ‏(‏عن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم قال‏:‏ اجتنبوا السبع الموبقات قالوا وما هن يا رسول اللّه قال‏:‏ الشرك باللّه والسحر وقتل النفس التي حرم اللّه إلا بالحق وأكل الربا وأكل مال اليتيم والتولي يوم الزحف وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات‏)‏‏.‏

متفق عليه‏.‏

2- وعن ابن عباس‏:‏ ‏(‏لما نزلت ‏{‏إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين‏}‏ فكتب عليهم أن لا يفر عشرون من مائتين ثم نزلت ‏{‏الآن خفف اللّه عنكم‏}‏ الآية فكتب أن لا تفر مائة من مائتين‏)‏‏.‏

رواه البخاري وأبو داود‏.‏

3- وعن ابن عمر قال‏:‏ ‏(‏كنت في سرية من سرايا رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم فحاص الناس حيصة وكنت فيمن حاص فقلنا كيف نصنع وقد فررنا من الزحف وبؤنا بالغضب ثم قلنا لو دخلنا المدينة فبتنا ثم قلنا لو عرضنا نفوسنا على رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم فإن كانت لنا توبة وإلا ذهبنا فأتيناه قبل صلاة الغداة فخرج فقال من الفرارون فقلنا نحن الفرارون قال بل أنتم العكارون أنا فئتكم وفئة المسلمين قال فأتيناه حتى قبلنا يده‏)‏‏.‏

رواه أحمد وأبو داود‏.‏

حديث ابن عمر أخرجه أيضًا الترمذي وابن ماجه وقال الترمذي حسن لا نعرفه إلا من حديث يزيد بن أبي زياد انتهى‏.‏ ويزيد بن أبي زياد تكلم فيه غير واحد من الأئمة‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏الموبقات‏)‏ أي المهلكات قال في القاموس‏:‏ وبق كوعد ووجل وورث وبوقا هلك كاستوبق وكمجلس المهلك والموعد والمجلس وواد في جهنم وكل شيء حال بين شيئين وأوبقه حبسه وأهلكه اهـ‏.‏

ـ وفي الحديث ـ دليل على أن هذه السبع المذكورة من كبائر الذنوب والمقصود من إيراد الحديث ههنا هو قوله فيه‏:‏ ‏(‏والتولي يوم الزحف‏)‏ فإن ذلك يدل على الفرار من الكبائر المحرمة وقد ذهب جماعة من أهل العلم إلى أن الفرار من موجبات الفسق‏.‏

قال في البحر‏:‏ مسألة ومهما حرمت الهزيمة فسق المنهزم لقوله تعالى ‏{‏فقد باء بغضب من اللّه‏}‏ وقوله‏:‏ ‏(‏الكبائر سبع إلا متحرفًا لقتال‏)‏ وهو أن يرى القتال في غير موضعه أصلح وأنفع فينتقل إليه قال ابن عباس‏:‏ وكانت هزيمة المسلمين في أوطاس انحرافًا من مكان إلى مكان أو متحيزًا إلى فئة وإن بعدت إذ لم تفصل الآية ولقوله صلى اللّه عليه وآله وسلم لأهل غزوة موتة أنا فئة كل مسلم‏.‏ الخبر ونحوه انتهى‏.‏ ومن ذلك قوله في حديث الباب‏:‏ ‏(‏أنا فئتكم وفئة المسلمين‏)‏ والأصل في جواز ذلك قوله تعالى ‏{‏ومن يولهم يومئذ دبره إلا متحرفًا لقتال أو متحيزًا إلى فئة فقد باء بغضب من اللّه‏}‏ وقد جوزت الهادوية الفرار إلى منعة من جبل أو نحوه وإن بعدت ولخشية استئصال المسلمين أو ضرر عام للإسلام وأما إذا ظنوا أنهم يغلبون إذا لم يفروا ففي جواز فرارهم وجهان‏.‏

قال الإمام يحيى‏:‏ أصحهما أنه يجب الهرب لقوله تعالى ‏{‏ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة‏}‏ ولا إذ قال له رجل يا رسول اللّه أرأيت لو انغمست في المشركين وقد تقدم في أول الجهاد وتقدم تفسير الآية‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏لما نزلت إن يكن منكم عشرون صابرون‏)‏ الخ قال في البحر‏:‏ وكانت الهزيمة محرمة وإن كثر الكفار لقوله تعالى ‏{‏فلا تولوهم الأدبار‏}‏ ثم خفف عنهم بقوله ‏{‏إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين‏}‏ فأوجب على كل واحد مصابرة عشرة ثم خفف عنهم وأوجب على الواحد مصابرة اثنين بقوله ‏{‏الآن خفف اللّه عنكم‏}‏ الآية واستقر الشرع على ذلك فحينئذ حرمت الهزيمة لقول ابن عباس من فر من اثنين فقد فر ومن فر من ثلاثة لم يفر انتهى‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏فحاص الناس حيصة‏)‏ بالمهملات‏.‏ قال ابن الأثير‏:‏ حصت عن الشيء حدت عنه وملت عن جهته هكذا قال الخطابي‏.‏ قال المصنف رحمه اللّه تعالى‏:‏ وقوله حاصوا أي حادوا حيدة ومنه قوله تعالى ‏{‏ما لهم من محيص‏}‏ ويروى جاضوا جيضة بالجيم والضاد المعجمتين وهو بمعنى حادوا انتهى‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏ثم قلنا لو دخلنا المدينة‏)‏ الخ لفظ أبي داود فقلنا ندخل المدينة فنبيت فيها لنذهب ولا يرانا أحد فدخلنا فقلنا لو عرضنا أنفسنا على رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم فإن كانت لنا توبة أقمنا وإن كان غير ذلك ذهبنا فجلسنا لرسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم قبل صلاة الفجر فلما خرج قمنا إليه فقلنا نحن الفرارون فأقبل إلينا فقال لا أنتم العكارون فدنونا فقبلنا يده فقال أنا فئة المسلمين‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏العكارون‏)‏ بفتح العين المهملة وتشديد الكاف قيل هم الذين يعطفون إلى الحرب وقيل إذا حاد الإنسان عن الحرب ثم عاد إليها يقال قد عكر وهو عاكر وعكار‏.‏ قال في القاموس‏:‏ العكار الكرار العطاف واعتكروا اختلطوا في الحرب والعكر رجع بعضه فلم يقدر على عده انتهى‏.‏

 باب من خشي الأسر فله أن يستأسر وله أن يقاتل حتى يقتل

1- عن أبي هريرة قال‏:‏ ‏(‏بعث رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم عشرة رهطًا عينًا وأمر عليهم عاصم بن ثابت الأنصاري فانطلقوا حتى إذا كانوا بالهداة وهو بين عسفان ومكة ذكروا لبني لحيان فنفروا لهم قريبًا من مائتي رجل كلهم رام فاقتصوا أثرهم فلما رآهم عاصم وأصحابه لجؤوا إلى فدفد وأحاط بهم القوم فقال لهم انزلوا وأعطوا بأيديكم ولكم العهد والميثاق أن لا نقتل منكم أحدًا قال عاصم بن ثابت أمير السرية أما أنا فواللّه لا أنزل اليوم في ذمة كافر اللّهم خبر عنا نبيك فرموهم بالنبل فقتلوا عاصم في سبعة فنزل إليهم ثلاثة رهط بالعهد والميثاق منهم خبيب الأنصاري وابن دئنة ورجل آخر فلما استمكنوا منهم أطلقوا أوتار قسيهم فأوثقوهم فقال الرجل الثالث هذا أول الغدر واللّه لا أصحبكم إن لي في هؤلاء لأسوة يريد القتلى فجروه وعالجوه على أن يصحبهم فأبى فقتلوه وانطلقوا بخبيب وابن دثنة حتى باعوهم بمكة بعد وقعة بدر وذكر قصة قتل خبيب إلى أن قال استجاب اللّه لعاصم بن ثابت يوم أصيب فأخبر النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم أصحابه خبرهم وما أصيبوا‏)‏‏.‏

مختصر لأحمد والبخاري وأبو داود‏.‏

تمام الحديث‏:‏ ‏(‏فاشترى خبيب بنو الحارث بن عامر بن نوفل وكان خبيب هو قتل يوم بدر الحارث فمكث عندهم أسيرًا حتى أجمعوا على قتله فاستعار موسى من بعض بنات الحارث ليستحد بها فأعارته قالت فغفلت عن صبي لي فدرج إليه حتى أتاه فوضعه على فخذه فلما رأيته فزعت فزعة حتى عرف ذلك مني وفي يده الموسى فقال أتخشين أن أقتله ما كنت لأفعل ذلك إن شاء اللّه تعالى وكانت تقول ما رأيت أسيرًا قط خيرًا من خبيب لقد رأيته يأكل من قطف عنب وما بمكة يومئذ ثمرة وإنه لموثق بالحديد وما كان إلا رزقًا رزقه اللّه خبيبًا فخرجوا به من الحرم ليقتلوه فقال دعوني أصلي ركعتين ثم انصرف إليهم فقال لولا أن تروا أن ما بي جزع من الموت لزدت فكان أول من صلى الركعتين عند القتل وقال اللّهم أحصهم عددًا وقال‏:‏

ولست أبالي حين أقتل مسلمًا ** على أي شق كان في اللّه مصرعي

وذلك في ذات الإله وإن يشأ ** يبارك علي أوصال شلو ممزع

ثم قام إليه عقبة بن الحارث فقتله وبعث قريش إلى عاصم ليأتوا بشيء من جسده بعد موته وكان قتل عظيمًا من عظمائهم يوم بدر فبعث اللّه عليه مثل الظلة من الدبر فحمته من رسلهم فلم يقدروا منه على شيء هكذا في صحيح البخاري وسنن أبي داود‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏عينًا‏)‏ العين الجاسوس على ما في القاموس وغيره وفيه مشروعية بعث الأعيان‏.‏ وقد أخرج مسلم وأبو داود من حديث أنس‏:‏ ‏(‏أن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم بعث بسبسة عينًا ينظر ما صنعت عير أبي سفيان‏)‏‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏بالهدأة‏)‏ بفتح الهاء وسكون الدال المهملة بعدها همزة مفتوحة كذا للأكثر وللكشميهني بفتح الدال وتسهيل الهمزة‏.‏ وعند ابن إسحاق الهدة بتشديد الدال بغير ألف قال وهي على سبعة أميال من عسفان‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏لبني لحيان‏)‏ هم قبيلة معروفة اسم أبيهم لحيان بكسر اللام وقيل بفتحها وسكون المهملة وهو ابن هذيل بن مدركة بن إلياس بن مضر‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏فنفروا لهم‏)‏ أي أمروا جماعة منهم أن ينفروا إلى الرهط المذكورين‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏الفدفد‏)‏ بفاءين ودالين مهملتين الموضع الغليظ المرتفع‏.‏ قال في مختصر النهاية‏:‏ هو المكان المرتفع‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏خبيب‏)‏ بضم الخاء المعجمة وفتح الموحدة وسكون التحتية وآخره موحدة أيضًا وهو ابن عدي من الأنصار‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏دئنة‏)‏ بفتح الدال المهملة وكسر المثلثة بعدها نون واسمه زيد‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏ورجل آخر‏)‏ هو عبد اللّه بن طارق وعالجوه أي مارسوه والمراد أنهم خادعوه ليتبعهم فأبى‏.‏ والاستحداد حلق العانة‏.‏ والقطف العنقود وهو اسم لكل ما تقطفه‏.‏ والشلو العضو من الإنسان‏.‏ والممزع بتشديد الزاي بعدها مهملة المفرق والظلة الشيء المظل من فوق‏.‏ والدبر بتشديد الدال السكون الباء وبعدها راء مهملة جماعة النحل‏.‏

وقد استدل المصنف رحمه اللّه تعالى بهذا الحديث على أنه يجوز لمن لم يقدر على المدافعة ولا أمكنه الهرب أن يستأسر وهكذا ترجم البخاري على هذا الحديث باب هل يستأسر الرجل ومن لم يستأسر أي هل يسلم نفسه للأسر أم لا‏.‏ ووجه الاستدلال بذلك أنه لم ينقل أن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم أنكر ما وقع من الثلاثة المذكورين من الدخول تحت أسر الكفار ولا أنكر ما وقع من السبعة المقتولين من الإصرار على الامتناع من الأسر ولو كان ما وقع من إحدى الطائفتين غير جائز لأخبر صلى اللّه عليه وآله وسلم أصحابه بعدم جوازه وأنكره فدل ترك الإنكار على أنه يجوز لمن لا طاقة له بعدوه أن يمتنع من الأسر وأن يستأسر‏.‏

 باب الكذب في الحرب

1- عن جابر‏:‏ ‏(‏أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم قال‏:‏ من لكعب ابن الأشرف فإنه قد آذى اللّه ورسوله قال محمد بن مسلمة أتحب أن أقتله يا رسول اللّه قال نعم قال فأذن لي فأقول قال قد فعلت قال فأتاه فقال إن هذا يعني النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم قد عنانا وسألنا الصدقة قال وأيضًا واللّه قال فإنا قد اتبعناه فنكره أن ندعه حتى ننظر إلى ما يصير أمره قال فلم يزل يكلمه حتى استمكن منه فقتله‏)‏‏.‏

متفق عليه‏.‏

2- وعن أم كلثوم بنت عقبة قالت‏:‏ ‏(‏لم أسمع النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم يرخص في شيء من الكذب مما تقول الناس إلا في الحرب والإصلاح بين الناس وحديث الرجل امرأته وحديث المرأة زوجها‏)‏‏.‏

رواه أحمد ومسلم وأبو داود‏.‏

حديث جابر هو في بعض الروايات كما ساقه المصنف مختصرًا وفي بعضها أنه قال له بعد قوله حتى تنظر إلى ما يصير إليه أمره قد أردت أن تسلفني سلفًا قال فما ترهنني ترهنني نساؤكم قال أنت أجمل العرب أترهنك نساءنا قال فترهنون أبناءكم قال يسب ابن أحدنا فيقال رهن في وسق أو وسقين من تمر ولكن نرهنك اللامة يعني السلاح قال نعم وواعده أن يأتيه بالحارث وأبي عبس بن جبر وعباد بن بشر قال فجاءوا فدعوه ليلًا فنزل إليهم فقالت له امرأته إني لأسمع صوتًا كأنه صوت الدم فقال إنما هو محمد بن مسلمة ورضيعي أبو نائلة إن الكريم إذا دعي إلى طعنة ليلًا أجاب قال محمد إذا جاء فسوف أمد يدي إلى رأسه فإذا استمكنت منه فدونكم قال فنزل وهو متوشح فقالوا نجد منك ريح الطيب فقال نعم تحتي فلانة أعطر نساء العرب فقال محمد أفتأذن لي أن أشم منك قال نعم فشم ثم قال أتأذن لي أن أعود قال نعم فاستمكن منه ثم قال دونكم فقتلوه‏.‏ أخرجه الشيخان وأبو داود‏.‏

وحديث أم كلثوم هو أيضًا في صحيح البخاري في كتاب الصلح منه ولكنه مختصر‏.‏ وقد ورد في معنى حديث أم كلثوم أحاديث أخر منها حديث أسماء بنت يزيد عند الترمذي قالت‏:‏ ‏(‏قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم‏:‏ يا أيها الناس ما يحملكم أن تتابعوا على الكذب كتتابع الفراش في النار الكذب كله على ابن آدم حرام إلا في ثلاث خصال رجل كذب على امرأة ليرضيها ورجل كذب في الحرب فإن الحرب خدعة ورجل كذب بين مسلمين ليصلح بينهما‏)‏ والتتابع التهافت في الأمر‏.‏ والفراش الطائر الذي يتواقع في ضوء السراج فيحترق‏.‏

وأخرج مالك في الموطأ عن صفوان بن سليم الزرقي‏:‏ ‏(‏أن رجلًا قال يا رسول اللّه أكذب امرأتي فقال صلى اللّه عليه وآله وسلم لا خير في الكذب قال فأعدها وأقول لها فقال صلى اللّه عليه وآله وسلم لا جناح عليك‏)‏‏.‏

وأخرج أحمد والنسائي وابن حبان والحاكم وصححاه من حديث أنس في قصة الحجاج بن علاط في استئذانه النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم أن يقول عنه ما شاء لمصلحته في استخلاص ماله من أهل مكة وأذن له النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم وإخباره لأهل مكة أن أهل خيبر هزموا المسلمين‏.‏

وأخرج الطبراني في الأوسط‏:‏ ‏(‏الكذب كله إثم إلا ما نفع به مسلم أو دفع به عن دين‏)‏ وأخرج الشيخان وغيرهما من حديث أبي هريرة قال‏:‏ ‏(‏قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم‏:‏ لم يكذب إبراهيم النبي عليه السلام إلا ثلاث كذبات ثنتين في كتاب اللّه تعالى قوله إني سقيم وقوله بل فعله كبيرهم هذا وواحدة في شأن سارة‏)‏ الحديث‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏فأذن لي فأقول‏)‏ أي أقول ما لا يحل في جانبك‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏عنانا‏)‏ بفتح العين المهملة وتشديد النون الأولى أي كلفنا بالأوامر والنواهي‏.‏

وقوله‏:‏ ‏(‏سألنا الصدقة‏)‏ أي طلبها منا ليضعها مواضعها‏.‏

وقوله‏:‏ ‏(‏فنكره أن ندعه‏)‏ إلى آخره معناه نكره فراقه‏.‏

ـ والحديث ـ المذكور قد استدل به على جواز الكذب في الحرب وكذلك بوب عليه البخاري باب الكذب في الحرب‏.‏ قال ابن المنير‏:‏ الترجمة غير مطابقة لأن الذي وقع بينهم في قتل كعب ابن الأشرف يمكن أن يكون تعريضًا ثم ذكر أن الذي وقع في حديث الباب ليس فيه شيء من الكذب وأن معنى ما في الحديث هو ما ذكرناه في تفسير ألفاظه وهو صدق‏.‏ قال الحافظ‏:‏ والذي يظهر أنه لم يقع منهم فيما قالوه شيء من الكذب أصلًا وجميع ما صدر منهم تلويح كما سبق لكن ترجم يعني البخاري لقول محمد بن مسلمة أولًا ائذن لي أن أقول قال قل فإنه يدخل فيه الأذن في الكذب تصريحًا وتلويحًا‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏إلا في الحرب‏)‏ الخ قال الطبري‏:‏ ذهبت طائفة إلى جواز الكذب لقصد الإصلاح وقالوا إن الثلاث المذكورة كالمثال وقالوا إن الكذب المذموم إنما هو فيما فيه مضرة وليس فيه مصلحة وقال آخرون لا يجوز الكذب في شيء مطلقًا وحملوا الكذب المراد هنا على التورية والتعريض كمن يقول للظالم دعوت لك أمس وهو يريد قوله اللّهم اغفر للمسلمين ويعد امرأته بعطية شيء ويريد إن قدر اللّه ذلك وأن يظهر من نفسه قوة قلب وبالأول جزم الخطابي وبالثاني جزم المهلب والأصيلي وغيرهما‏.‏

قال النووي‏:‏ الظاهر إباحة حقيقة الكذب في الأمور الثلاثة لكن التعريض أولى‏.‏

وقال ابن العربي‏:‏ الكذب في الحرب من المستثنى الجائز بالنص رفقًا بالمسلمين لحاجتهم إليه وليس للعقل فيه مجال ولو كان تحريم الكذب بالعقل ما انقلب حلالًا انتهى‏.‏ ويقوي ذلك حديث الحجاج بن علاط المذكور ولا يعارض ما ورد في جواز الكذب في الأمور المذكورة ما أخرجه النسائي من طريق مصعب بن سعد عن أبيه في قصة عبد اللّه ابن أبي سرح وقول الأنصار للنبي صلى اللّه عليه وآله وسلم لما كف عن بيعته هلا أومأت إلينا بعينك قال ما ينبغي لنبي أن يكون له خائنة الأعين لأن طريق الجمع بينهما أن المأذون فيه بالخداع والكذب في الحرب حالة الحرب خاصة‏.‏

وأما حالة المبايعة فليست بحالة حرب كذا قيل وتعقب بأن قصة الحجاج بن علاط أيضًا لم تكن في حال حرب‏.‏ قال الحافظ‏:‏ والجواب المستقيم أن يقال المنع مطلقًا من خصائص النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم فلا يتعاطى شيئًا من ذلك وإن كان مباحًا لغيره ولا يعارض ذلك ما تقدم من أنه كان إذا أراد غزوة ورى بغيرها فإن المراد أنه كان يريد أمرًا فلا يظهره كأن يريد أن يغزو جهة الشرق فيسأل عن أمر في جهة المغرب ويتجهز للسفر فيظن من يراه ويسمعه أن يريد جهة المغرب وأما أنه يصرح بإرادته المغرب ومراده المشرق فلا‏.‏

قال ابن بطال‏:‏ سألت بعض شيوخي عن معنى هذا الحديث فقال الكذب المباح في الحرب ما يكون في المعاريض لا التصريح بالتأمين مثلًا وقال المهلب‏:‏ لا يجوز الكذب الحقيقي في شيء من الدين أصلًا قال ومحال أن يأمر بالكذب من يقول من كذب علي متعمدًا فليتبوأ مقعده من النار ويرده ما تقدم‏.‏

قال الحافظ‏:‏ واتفقوا على أن المراد بالكذب في حق المرأة والرجل إنما هو فيما لا يسقط حقًا عليه أو عليها أو أخذ ما ليس له أو لها وكذا في الحرب في غير التأمين واتفقوا على جواز الكذب عند الاضطرار كما لو قصد ظالم قتل رجل هو مختف عنده فله أن ينفي كونه عنده ويحلف على ذلك ولا يأثم انتهى‏.‏

وقال القاضي زكريا‏:‏ وضابط ما يباح من الكذب وما لا يباح أن الكلام وسيلة إلى المقصود فكل مقصود محمود إن أمكن التوصل إليه بالصدق فالكذب فيه حرام وإن لم يمكن إلا بالكذب فهو مباح إن كان المقصود مباحًا وواجب إن كان المقصود واجبًا انتهى‏.‏ والحق أن الكذب حرام كله بنصوص القرآن والسنة من غير فرق بين ما كان منه في مقصد محمود أو غير محمود ولا يستثنى منه إلا ما خصه الدليل من الأمور المذكورة في أحاديث الباب نعم إن صح ما قدمنا عن الطبراني في الأوسط كان من جملة المخصصات لعموم الأدلة القاضية بالتحريم على العموم‏.‏

 باب ما جاء في المبارزة

1- عن أمير المؤمنين علي رضوان اللّه عليه قال‏:‏ ‏(‏تقدم عتبة بن ربيعة ومعه ابنه وأخوه فنادى من يبارز فانتدب له شباب من الأنصار فقال من أنتم فأخبروه فقال لا حاجة لنا فيكم إنا أردنا بني عمنا فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم قم يا حمزة قم يا علي قم يا عبيدة بن الحارث فأقبل حمزة إلى عتبة وأقبلت إلي شيبة واختلف بين عبيدة والوليد ضربتان فأثخن كل واحد منا صاحبه ثم ملنا إلى الوليد فقتلناه واحتملنا عبيدة‏)‏‏.‏

رواه أحمد وأبو داود‏.‏

2- وعن قيس بن عباد عن علي قال‏:‏ ‏(‏أنا أول من يجثو للخصومة بين يدي الرحمن يوم القيامة قال قيس فيهم نزلت هذه الآية هذان خصمان اختصموا في ربهم قال هم الذين تبارزوا يوم بدر علي وحمزة وعبيدة بن الحارث وشيبة بن ربيعة وعتبة بن ربيعة والوليد بن عتبة‏)‏‏.‏

وفي رواية‏:‏ ‏(‏أن عليًا قال‏:‏ فينا نزلت هذه الآية وفي مبارزتنا يوم بدر هذان خصمان اختصموا في ربهم‏)‏‏.‏

رواهما البخاري‏.‏

3- وعن سلمة بن الأكوع قال‏:‏ ‏(‏بارز عمي يوم خيبر مرحب اليهودي‏)‏‏.‏

رواه أحمد في قصة طويلة ومعناه لمسلم‏.‏

حديث علي الأول سكت عنه أبو داود والمنذري ورجال إسناده ثقات وفي الباب عن أبي ذر عند الشيخين في ذكر المبارزة المذكورة مختصرًا وأخرج ابن إسحاق في المغازي أن عليًا بارز يوم الخندق عمرو بن عبدود‏)‏ ووصله الحاكم من حديث أنس بنحوه‏.‏ وأخرج ابن إسحاق أيضًا في المغازي عن جابر قال‏:‏ ‏(‏خرج مرحب اليهودي من حصن خيبر قد جمع سلاحه وهو يرتجز فذكر الشعر فقال النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم من لهذا فقال محمد بن مسلمة أنا يا رسول اللّه‏)‏ فذكر الحديث والقصة ورواه أحمد والحاكم وقال صحيح الإسناد والذي في صحيح مسلم من حديث سلمة بن الأكوع مطولًا أنه بارزه علي وفيه‏:‏ ‏(‏فخرج مرحب وهو يقول‏:‏

قد علمت خيبر أني مرحب ** شاكي السلاح بطل مجرب

فقال علي عليه السلام‏:‏

أنا الذي سمتن أمي حيدره ** كليث غابات كريه المنظره

وضرب رأس مرحب فقتله‏.‏

قال الحافظ في التلخيص‏:‏ إن الأخبار متواترة أن عليًا هو الذي قتل مرحبًا انتهى‏.‏ ورواية سلمة التي ذكرها المصنف في الباب تدل على أن الذي بارز مرحبا هو عمه‏.‏ ويمكن الجمع بأن يقال إن محمد بن مسلمة وكذلك عم سلمة بن الأكوع بارزاه أولًا ولم يقتلاه ثم بارزه علي آخرًا فقتله ومما يرشد إلى ذلك ما أخرجه الحاكم بسند فيه الواقدي أنه ضرب محمد بن مسلمة ساقي مرحب فقطعهما ولم يجهز عليه فمر به علي فضرب عنقه وأعطى رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم محمد بن مسلمة وروى الحاكم بسند منقطع فيه الواقدي أيضًا أن أبا دجانة قتله وجزم ابن إسحاق في السيرة أن محمد ين مسلمة هو الذي قتله‏.‏

قال الحافظ في التلخيص في باب قسمة الفيء والصحيح أن علي بن أبي طالب هو الذي قتله كما ثبت في صحيح مسلم من حديث سلمة بن الأكوع وفي مسند أحمد عن علي انتهى‏.‏

وفي الصحيحين من حديث عبد الرحمن بن عوف أن عوفًا ومعوذًا ابني عفراء خرجا يوم بدر إلى البراز فلم ينكر عليهما النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم وروى ابن إسحاق في المغازي أن عبد اللّه بن رواحة خرج يوم بدر إلى البراز هو ومعوذ وعوف ابنا عفراء وذكر القصة‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏فانتدب له شباب من الأنصار‏)‏ هم عبد اللّه بن رواحة ومعوذ وعوف ابنا عفراء كما بين ذلك ابن إسحاق في المغازي‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏قم يا عبيدة بن الحارث‏)‏ قال ابن إسحاق‏:‏ إن عبيدة بن الحارث وعتبة بن ربيعة كانا أسن القوم فبرز عبيدة لعتبة وحمزة لشيبة وعلي للوليد وروى موسى بن عقبة أنه برز حمزة لعتبة وعبيدة لشيبة وهو المناسب لحديث الباب فقتل علي وحمزة من بارزاهما واختلف عبيدة ومن بارزه بضربتين فوقعت الضربة في ركبة عبيدة فمات منها لما رجعوا بالصفراء ومال حمزة وعلي إلى الذي بارز عبيدة فأعاناه على قتله وفي الأحاديث التي ذكرها المصنف وذكرناها دليل على أنها تجوز المبارزة وإلى ذلك ذهب الجمهور والخلاف في ذلك للحسن البصري‏.‏ وشرط الأوزاعي والثوري وأحمد وإسحاق أذن الأمير كما في هذه الرواية فإن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم أذن للمذكورين‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏فأثخن كل واحد منا صاحبه‏)‏ لفظ أبي داود فأثخن كل واحد منهما صاحبه أي كل واحد من المذكورين وهما عبيدة والوليد ومعنى الرواية المذكورة في الباب أنه أثخن حمزة من بارزه وهو عتبة وأثخن علي من بارزه وهو شيبة ثم مالا إلى الوليد‏.‏ قال في القاموس‏:‏ أثخن في العدو بالغ في الجراحة فيهم وفلانًا أوهنه وحتى إذا أثخنتموهم أي غلبتموهم وكثر فيهم الجراح انتهى‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏ثم ملنا إلى الوليد‏)‏ فيه دليل على أنه يجوز أن تعين كل طائفة من الطائفتين المتبارزتين بعضهم بعضًا‏.‏

باب من أحب الإقامة بموضع النصر ثلاثًا

1- عن أنس عن أبي طلحة‏:‏ ‏(‏عن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم أنه كان إذا ظهر على قوم أقام بالعرصة ثلاث ليال‏)‏‏.‏

متفق عليه‏.‏

وفي لفظ لأحمد والترمذي‏:‏ ‏(‏بعرصتهم‏)‏ وفي رواية لأحمد‏:‏ ‏(‏لما فرغ من أهل بدر أقام بالعرصة ثلاثًا‏)‏‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏أقام بالعرصة‏)‏ بفتح العين المهملة وسكون الراء بعدها صاد مهملة وهي البقعة الواسعة بغير بناء من دار أو غيرها ‏(‏وفي الحديث دليل‏)‏ على أنها تشرع الإقامة بالمكان الذي ظهر به حزب الحق على حزب الباطل ثلاث ليال‏.‏

قال المهلب‏:‏ حكمة الإقامة لإراحة الظهر والأنفس وقال ابن الجوزي‏:‏ إنما كان ذلك لإظهار تأثير الغلبة وتنفيذ الأحكام وقلة الاحتفال بالعدو وكأنه يقول من كانت فيه قوة منكم فليرجع إلينا‏.‏ وقال ابن المنير‏:‏ يحتمل أن يكون المراد أن تقع ضيافة الأرض التي وقعت فيها المعاصي بإيقاع الطاعة فيها بذكر اللّه تعالى وإظهار شعار المسلمين وإذا كان ذلك في حكم الضيافة ناسب أن يقيم عليها ثلاثًا لأن الضيافة ثلاث قال الحافظ‏:‏ ولا يخفى أن محله إذا كان في أمن من عدو طارق‏.‏

 باب أن أربعة أخماس الغنيمة للغانمين وأنها لم تكن لرسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم

1- عن عمرو بن عبسة قال‏:‏ ‏(‏صلى بنا رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم إلى بعير من المغنم فلما أخذ وبرة من جنب البعير ثم قال ولا يحل لي من غنائمكم مثل هذا إلا الخمس والخمس مردود فيكم‏)‏‏.‏

رواه أبو داود والنسائي بمعناه‏.‏

2- وعن عبادة بن الصامت‏:‏ ‏(‏أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم صلى بهم في غزوتهم إلى بعير من المقسم فلما سلم قام إلى البعير من المقسم فتناول وبرة بين أنملتيه فقال إن هذا من غنائمكم وإنه ليس لي فيها إلا نصيبي معكم إلا الخمس والخمس مردود عليكم فأدوا الخيط والمخيط وأكبر من ذلك وأصغر‏)‏‏.‏

رواه أحمد في المسند‏.‏

3- وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده في قصة هوازن‏:‏ ‏(‏أن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم دنا من بعير فأخذ وبرة من سنامه ثم قال يا أيها الناس إنه ليس لي من هذا الفيء شيء ولا هذه إلا الخمس والخمس مردود عليكم فأدوا الخيط والمخيط‏)‏‏.‏

رواه أحمد وأبو داود والنسائي ولم يذكر وأدوا الخيط والمخيط‏.‏

حديث عمرو بن عبسة سكت عنه أبو داود والمنذري ورجال إسناده ثقات وحديث عبادة بن الصامت أخرجه أيضًا النسائي وابن ماجه وحسنه الحافظ في الفتح‏.‏ قال المنذري‏:‏ وروي أيضًا من حديث جبير بن مطعم والعرباض بن سارية انتهى‏.‏

وحديث عمرو بن شعيب قد قدمنا الكلام على الأسانيد المروية عنه عن أبيه عن جده وقد أخرج هذا الحديث مالك والشافعي ووصله النسائي من وجه آخر عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده وحسنه الحافظ في الفتح‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وبرة‏)‏ بفتح الواو والباء الموحدة بعدها راء قال في القاموس الوبر محركة صوف الإبل والأرانب وتحوها الجمع أوبار‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏والمخيط‏)‏ هو ما يخاط به كالإبرة ونحوها وفيه دليل على التشديد في أمر الغنيمة وأنه لا يحل لأحد أن يكتم منها شيئًا وإن كان حقيرًا وسيأتي الكلام على ذلك في باب التشديد في الغلول‏.‏

ـ وأحاديث ـ الباب فيها دليل على أنه لا يأخذ الإمام من الغنيمة إلا الخمس ويقسم الباقي منها بين الغانمين والخمس الذي يأخذه أيضًا ليس هو له وحده بل يجب عليه أن يرده على المسلمين على حسب ما فصله اللّه تعالى في كتابه بقوله ‏{‏واعلموا إنما غنمتم من شيء فأن للّه خمسه وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل‏}‏ وروى الطبراني في الأوسط وابن مردويه في التفسير من حديث ابن عباس قال‏:‏ ‏(‏كان رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم إذا بعث سرية قسم وخمس الغنيمة فضرب ذلك الخمس في خمسة ثم قرأ ‏{‏واعلموا إنما غنمتم من شيء‏}‏ الآية فجعل سهم اللّه وسهم رسوله واحدًا وسهم ذوي القربى هو والذي قبله في الخيل والسلاح وجعل سهم اليتامى وسهم المساكين وسهم ابن السبيل لا يعطيه غيرهم ثم جعل الأربعة الأسهم الباقية للفرس سهمان ولراكبه سهم وللراجل سهم‏)‏ وروى أيضًا أبو عبيد في الأموال نحوه‏.‏

ـ وفي أحاديث ـ الباب أيضًا دليل على أنه لا يستحق الإمام السهم الذي يقال له الصفي‏.‏ واحتج من قال بأنه يستحقه بما أخرجه أبو داود عن الشعبي وابن سيرين وقتادة أنهم قالوا كان لرسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم سهم يدعى الصفي ولا يقوم بمثل هذا المرسل حجة‏.‏

وأما اصطفاؤه صلى اللّه عليه وآله وسلم سيفه ذا الفقار من غنائم بدر فقد قيل إن الغنائم كانت له يومئذ خاصة فنسخ الحكم بالتخميس كما حكى ذلك صاحب البحر عن الإمام يحيى‏.‏

وأما صفية بنت حيي بن أخطب فهي من خيبر ولم يقسم النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم للغانمين منها إلا البعض فكان حكمها حكم ذلك البعض الذي لم يقسم على أنه قد روي أنها وقعت في سهم دحية بن خليفة الكلبي فاشتراها منه النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم بسبعة أرؤس‏.‏

وقد ذهب إلى أن الإمام يستحق الصفي العترة وخالفهم الفقهاء وسيذكر المصنف رحمه اللّه الأدلة القاضية باستحقاق الإمام للصفي في باب مستقل سيأتي‏.‏