فصل: باب ما جاء في لبس الأبيض والأسود والأخضر والمزعفر والملونات

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: نيل الأوطار شرح منتقى الأخبار **


 باب نهي الرجال عن المعصفر وما جاء في الأحمر

1 - عن عبد اللَّه بن عمرو قال‏:‏ ‏(‏رأى رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم عليَّ ثوبين معصفرين فقال‏:‏ إن هذه من ثياب الكفار فلا تلبسها‏)‏‏.‏

رواه أحمد ومسلم والنسائي‏.‏

قوله ‏(‏معصفرين‏)‏ المعصفر هو المصبوغ بالعصفر كما في كتب اللغة وشروح الحديث‏.‏

وقد استدل بهذا الحديث من قال بتحريم لبس الثوب المصبوغ بعصفر وهم العترة واستدلوا أيضًا على ذلك بحديث ابن عمرو وحديث علي المذكورين بعد هذا وغيرهما وسيأتي بعض ذلك‏.‏ وذهب جمهور العلماء من الصحابة والتابعين ومن بعدهم وبه قال الشافعي وأبو حنيفة ومالك إلى الإباحة كذا قال ابن رسلان في شرح السنن قال‏:‏ وقال جماعة من العلماء بالكراهة للتنزيه وحملوا النهي على هذا لما في الصحيحين من حديث ابن عمر قال‏:‏ ‏(‏رأيت رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم يصبغ بالصفرة‏)‏ زاد في رواية أبي داود والنسائي ‏(‏وقد كان يصبغ بها ثيابه كلها‏)‏ وقال الخطابي‏:‏ النهي منصرف إلى ما صبغ من الثياب وكأنه نظر إلى ما في الصحيحين من ذكر مطلق الصبغ بالصفرة فقصره على صبغ اللحية دون الثياب وجعل النهي متوجهًا إلى الثياب ولم يلتفت إلى تلك الزيادة المصرحة بأنه كان يصبغ ثيابه بالصفرة ويمكن الجمع بأن الصفرة التي كان يصبغ بها رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم غير صفرة العصفر المنهي عنه‏.‏

ويؤيد ذلك ما سيأتي في باب لبس الأبيض والأسود من حديث ابن عمر ‏(‏أن النبي صلى اللَّه عليه وآله وسلم كان يصبغ بالزعفران‏)‏ وقد أجاب من لم يقل بالتحريم عن حديث ابن عمرو المذكور في الباب وحديثه الذي بعده بأنه لا يلزم من نهيه له نهي سائر الأمة وكذلك أجاب عن حديث علي الآتي بأن ظاهر قوله نهاني أن ذلك مختص به ولهذا ثبت في رواية عنه أنه قال‏:‏ ولا أقول نهاكم وهذا الجواب ينبني على الخلاف المشهور بين أهل الأصول في حكمه صلى اللَّه عليه وآله وسلم على الواحد من الأمة هل يكون حكمًا على بقيتهم أو لا والحق الأول فيكون نهيه لعلي وعبد اللَّه نهيًا لجميع الأمة ولا يعارضه صبغه بالصفرة على تسليم أنها من العصفر لما تقرر في الأصول من أن فعله الخالي عن دليل التأسي الخاص لا يعارض قوله الخاص بأمته فالراجح تحريم الثياب المعصفرة والعصفر وإن كان يصبغ صبغًا أحمر كما قال ابن القيم فلا معارضة بينه وبين ما ثبت في الصحيحين من أنه صلى اللَّه عليه وآله وسلم كان يلبس حلة حمراء كما يأتي لأن النهي في هذه الأحاديث يتوجه إلى نوع خاص من الحمرة وهي الحمرة الحاصلة عن صباغ العصفر وسيأتي ما حكاه الترمذي عن أهل الحديث بمعنى هذا‏.‏ وقد قال البيهقي رادًا لقول الشافعي‏:‏ إنه لم يحك أحد عن النبي صلى اللَّه عليه وآله وسلم النهي عن الصفرة إلا ما قال علي نهاني ولا أقول نهاكم إن الأحاديث تدل على أن النهي على العموم ثم ذكر أحاديث ثم قال بعد ذلك‏:‏ ولو بلغت هذه الأحاديث الشافعي رحمه اللَّه لقال بها ثم ذكر بإسناده ما صح عن الشافعي أنه قال‏:‏ إذا صح الحديث خلاف قولي فاعملوا بالحديث‏.‏

2 - وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال‏:‏ ‏(‏أقبلنا مع رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم من ثنية فالتفت إليَّ وعليَّ ربطة مضرجة بالعصفر فقال‏:‏ ما هذه فعرفت ما كره فأتيت أهلي وهم يسجرون تنورهم فقذفتها فيه ثم أتيته من الغد فقال‏:‏ يا عبد اللَّه ما فعلت الربطة فأخبرته فقال‏:‏ ألا كسوتها بعض أهلك‏)‏‏.‏

رواه أحمد وكذلك أبو داود وابن ماجه وزاد‏:‏ ‏(‏فإنه لا بأس بذلك للنساء‏)‏‏.‏

الحديث في إسناده عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده وفيه مقال مشهور ومن دونه ثقات‏.‏

قوله ‏(‏من ثنية‏)‏ هي الطريقة في الجبل وفي لفظ ابن ماجه‏:‏ ‏(‏من ثنية أذاخر‏)‏ وأذاخر بفتح الهمزة والذال المعجمة المخففة وبعدها ألف ثم خاء معجمة على وزن أفاعل ثنية بين مكة والمدينة‏.‏

قوله ‏(‏ريطة‏)‏ بفتح الراء المهملة وسكون المثناة تحت ثم طاء مهملة ويقال رائطة‏.‏ قال المنذري‏:‏ جاءت الرواية بهما وهي كل ملاءة منسوجة بنسج واحد وقيل كل ثوب رقيق لين والجمع ريط ورياط‏.‏

قوله ‏(‏مضرجة‏)‏ بفتح الراء المشددة أي ملطخة‏.‏

قوله ‏(‏يسجرون‏)‏ أي يوقدون‏.‏

قوله ‏(‏بعض أهلك‏)‏ يعني زوجته أو بعض نساء محارمه وأقاربه‏.‏

ـ وفيه دليل ـ على جواز لبس المعصفر للنساء وفيه الإنكار على إحراق الثوب المنتفع به لبعض الناس دون بعض لأنه من إضاعة المال المنهي عنها ولكنه يعارض هذا ما أخرجه مسلم من حديث عبد اللَّه بن عمر‏.‏ وأيضًا قال‏:‏ ‏(‏رأى علي النبي صلى اللَّه عليه وآله وسلم ثوبين معصفرين فقال‏:‏ أمك أمرتك بهذا قال‏:‏ قلت أغسلهما يا رسول اللَّه قال‏:‏ بل احرقهما‏)‏ وقد جمع بعضهم بين الروايتين بأنه صلى اللَّه عليه وآله وسلم أمر أولًا بإحراقهما ندبًا ثم لما أحرقهما قال له النبي صلى اللَّه عليه وآله وسلم‏:‏ ‏(‏لو كسوتهما بعض أهلك‏)‏ إعلامًا له بأن هذا كان كافيًا لو فعله وأن الأمر للندب ولا يخفى ما في هذا من التكلف الذي عنه مندوحة لأن القضية لم تكن واحدة حتى يجمع بين الروايتين بمثل هذا بل هما قضيتان مختلفتان وغايته أنه صلى اللَّه عليه وآله وسلم في إحدى القضيتين غلظ عليه وعاقبه فأمره بإحراقهما ولعل هذه المرة التي أمره فيها بالإحراق كانت بعد تلك المرة التي أخبره فيها بأن ذلك غير واجب وهذا وإن كان بعيدًا من جهة أن صاحب القصة يبعد أن يقع منه اللبس للمعصفر مرة أخرى بعد أن سمع فيه ما سمع المرة الأولى ولكنه دون البعد الذي في الجمع الأول لأن احتمال النسيان كائن وكذا احتمال عروض شبهة توجب الظن بعدم التحريم ولا سيما وقد وقعت منه صلى اللَّه عليه وآله وسلم المعاتبة على الإحراق‏.‏ قال القاضي عياض‏:‏ أمره صلى اللَّه عليه وآله وسلم بإحراقهما من باب التغليظ والعقوبة انتهى‏.‏ وفيه حجة على جواز المعاقبة بالمال

والحديث يدل على المنع من لبس الثياب المصبوغة بالعصفر وقد تقدم الكلام في ذلك‏.‏

3 - وعن علي عليه السلام قال‏:‏ ‏(‏نهاني رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم عن التختم بالذهب وعن لباس القسي وعن القراءة في الركوع والسجود وعن لباس المعصفر‏)‏‏.‏

رواه الجماعة إلا البخاري وابن ماجه‏.‏

قوله ‏(‏نهاني‏)‏ هذا لفظ مسلم وفي لفظ لأبي داود وغيره نهى وقد تقدم جواب من أجاب عن الحديث باختصاصه بعلي عليه السلام وتعقبه‏.‏

قوله ‏(‏القسي‏)‏ قد تقدم ضبطه وتفسيره في شرح حديث علي في باب افتراش الحرير كلبسه‏.‏

قوله ‏(‏وعن القراءة في الركوع والسجود‏)‏ فيه دليل على تحريم القراءة في هذين المحلين لأن وظيفتهما إنما هي التسبيح والدعاء لما في صحيح مسلم وغيره عنه صلى اللَّه عليه وآله وسلم‏:‏ ‏(‏نهيت أن أقرأ القرآن راكعًا أو ساجدًا فأما الركوع فعظموا فيه الرب وأما السجود فاجتهدوا في الدعاء‏)‏‏.‏

قوله ‏(‏وعن لبس المعصفر‏)‏ فيه دليل على تحريم لبسه وقد تقدم البحث عن ذلك‏.‏

4 - وعن البراء بن عازب قال‏:‏ ‏(‏كان رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم مربوعًا بعيد ما بين المنكبين له شعر يبلغ شحمة أذنيه رأيته في حلة حمراء لم أر شيئًا قط أحسن منه‏)‏‏.‏

متفق عليه‏.‏

الحديث أخرجه أيضًا الترمذي والنسائي وأبي داود‏.‏ وفي الباب عن أبي جحيفة عند البخاري وغيره‏:‏ ‏(‏أنه رأى النبي صلى اللَّه عليه وآله وسلم خرج في حلة حمراء مشمرًا صلى إلى العنزة بالناس ركعتين‏)‏ وعن عامر المزني عند أبي داود بإسناد فيه اختلاف قال‏:‏ ‏(‏رأيت رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم بمنى وهو يخطب على بغلة وعليه برد أحمر وعلي عليه السلام أمامه يعبر عنه‏)‏ قال في البدر المنير‏:‏ وإسناده حسن وأخرج البيهقي عن جابر أنه كان له صلى اللَّه عليه وآله وسلم ثوب أحمر يلبسه في العيدين والجمعة‏.‏ وروى ابن خزيمة في صحيحه نحوه بدون ذكر الأحمر‏.‏

ـ والحديث ـ احتج به من قال بجواز لبس الأحمر وهم الشافعية والمالكية وغيرهم‏.‏ وذهبت العترة والحنفية إلى كراهة ذلك واحتجوا بحديث عبد اللَّه بن عمرو الذي سيأتي بعد هذا وسيأتي في شرحه إن شاء اللَّه تعالى ما يتبين به عدم انتهاضه للاحتجاج‏.‏

واحتجوا أيضًا بالأحاديث الواردة في تحريم المصبوغ بالعصفر قالوا لأن العصفر يصبغ صباغًا أحمر وهي أخص من الدعوى وقد عرفناك أن الحق أن ذلك النوع من الأحمر لا يحل لبسه‏.‏

ـ ومن أدلتهم ـ حديث رافع بن خديج عند أبي داود قال‏:‏ ‏(‏خرجنا مع رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم في سفر فرأى على رواحلنا وعلى إبلنا أكسية فيها خيوط عهن أحمر فقال‏:‏ ألا أرى هذه الحمرة قد علتكم فقمنا سراعًا لقول رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم فأخذنا الأكسية فنزعناها عنها‏)‏ وهذا الحديث لا تقوم به حجة لأن في إسناده رجلًا مجهولًا‏.‏

ـ ومن أدلتهم ـ حديث ‏(‏إن امرأة من بني أسد قالت‏:‏ كنت يومًا عند زينب امرأة رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم ونحن نصبغ ثيابها بمغرة والمغرة صباغ أحمر قالت‏:‏ فبينا نحن كذلك إذ طلع علينا رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم فلما رأى المغرة رجع فلما رأت ذلك زينب علمت أنه صلى اللَّه عليه وآله وسلم قد كره ما فعلت وأخذت فغسلت ثيابها ووارت كل حمرة ثم إن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم رجع فاطلع فلما لم ير شيئًا دخل‏)‏ الحديث أخرجه أبو داود وفي إسناده إسماعيل بن عياش وابنه وفيهما مقال مشهور‏.‏

وهذه الأدلة غاية ما فيها لو سلمت صحتها وعدم وجدان معارض لها الكراهة لا التحريم فكيف وهي غير صالحة للاحتجاج بها لما في أسانيدها من المقال الذي ذكرنا ومعارضة بتلك الأحاديث الصحيحة نعم من أقوى حججهم ما في صحيح البخاري من النهي عن المياثر الحمر وكذلك ما في سنن أبي داود والنسائي وابن ماجه والترمذي من حديث علي قال‏:‏ ‏(‏نهاني رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم عن لبس القسي والميثرة الحمراء‏)‏ ولكنه لا يخفى عليك أن هذا الدليل أخص من الدعوى وغاية ما في ذلك تحريم الميثرة الحمراء فما الدليل على تحريم ما عداها مع ثبوت لبس النبي صلى اللَّه عليه وآله وسلم له مرات ومن أصرح أدلتهم حديث رافع بن برد أو رافع بن خديج كما قال ابن قانع مرفوعًا بلفظ‏:‏ ‏(‏إن الشيطان يحب الحمرة فإياكم والحمرة وكل ثوب ذي شهرة‏)‏ أخرجه الحاكم في الكنى وأبو نعيم في المعرفة وابن قانع وابن السكن وابن منده وابن عدي ويشهد له ما أخرجه الطبراني عن عمران بن حصين مرفوعًا بلفظ‏:‏ ‏(‏إياكم والحمرة فإنها أحب الزينة إلى الشيطان‏)‏ وأخرج نحوه عبد الرزاق من حديث الحسن مرسلًا وهذا إن صح كان أنص أدلتهم على المنع ولكنك قد عرفت لبسه صلى اللَّه عليه وآله وسلم للحلة الحمراء في غير مرة ويبعد منه صلى اللَّه عليه وآله وسلم أن يلبس ما حذرنا من لبسه معللًا ذلك بأن الشيطان يحب الحمرة‏:‏ ولا يصح أن يقال ههنا فعله لا يعارض القول الخاص بنا كما صرح بذلك أئمة الأصول لأن تلك العلة مشعرة بعدم اختصاص الخطاب بنا إذ تجنب ما يلابسه الشيطان هو صلى اللَّه عليه وآله وسلم أحق الناس به‏.‏

ـ فإن قلت‏:‏ ـ فما الراجح إن صح ذلك الحديث قلت‏:‏ قد تقرر في الأصول أن النبي صلى اللَّه عليه وآله وسلم إذا فعل فعلًا لم يصاحبه دليل خاص يدل على التأسي به فيه كان مخصصًا له عن عموم القول الشامل له بطريق الظهور فيكون على هذا لبس الأحمر مختصًا به ولكن ذلك الحديث غير صالح للاحتجاج به كما صرح بذلك الحافظ وجزم بضعفه لأنه من رواية أبي بكر البدلي‏.‏ وقد بالغ الجوزقاني فقال باطل فالواجب البقاء على البراءة الأصلية المعتضدة بأفعاله الثابتة في الصحيح لا سيما مع ثبوت لبسه لذلك بعد حجة الوداع ولم يلبث بعدها إلا أيامًا يسيرة‏.‏

وقد زعم ابن القيم أن الحلة الحمراء بردان يمانيان منسوجان بخطوط حمر مع الأسود وغلط من قال إنها كانت حمراء بحتًا قال‏:‏ وهي معروفة بهذا الاسم ولا يخفاك أن الصحابي قد وصفها بأنها حمراء وهو من أهل اللسان والواجب الحمل على المعنى الحقيقي وهو الحمراء البحت والمصير إلى المجاز أي كون بعضها أحمر دون بعض لا يحمل ذلك الوصف عليه إلا لموجب فإن أراد أن ذلك معنى الحلة الحمراء لغة فليس في كتب اللغة ما يشهد لذلك وإن أراد أن ذلك حقيقة شرعية فيها فالحقائق الشرعية لا تثبت بمجرد الدعوى والواجب حمل مقالة ذلك الصحابي على لغة العرب لأنها لسانه ولسان قومه فإن قال إنما فسرها بذلك التفسير للجمع بين الأدلة فمع كون كلامه آبيًا عن ذلك لتصريحه بتغليظ من قال إنها الحمراء البحت لا ملجئ إليه لإمكان الجمع بدونه كما ذكرنا مع أن حمله الحلة الحمراء على ما ذكر ينافي ما احتج به في أثناء كلامه من إنكاره صلى اللَّه عليه وسلم على القوم الذين رأى على رواحلهم أكسية فيها خطوط حمر‏.‏

ـ وفيه دليل ـ على كراهية ما فيه الخطوط وتلك الحلة كذلك بتأويله‏.‏

قوله في الحديث يبلغ شحمة أذنيه هي اللين في الأذن في أسفلها وهو معلق القرط منها وقد اختلفت الروايات الصحيحة في شعره فههنا إلى شحمة أذنيه وفي رواية كان يبلغ شعره منكبيه وفي رواية إلى أنصاف أذنيه وعاتقه‏.‏

قال القاضي‏:‏ الجمع بين هذه الروايات أن ما يلي الأذن هو الذي يبلغ شحمة أذنيه وهو الذي بين أذنه وعاتقه وما خلفه هو الذي يضرب منكبيه‏.‏ وقيل كان ذلك لاختلاف الأوقات فإذا غفل عن تقصيرها بلغت المنكب وإذا قصرها كانت إلى أنصاف أذنيه وكان يقصر ويطول بحسب ذلك‏.‏ وقد تقدم نحو هذا في باب اتخاذ الشعر‏.‏

وفي فتح الباري إن في لبس الثوب الأحمر سبعة مذاهب‏:‏

الأول الجواز مطلقًا جاء عن علي عليه السلام وطلحة وعبد اللَّه بن جعفر والبراء وغير واحد من الصحابة وعن سعيد بن المسيب والنخعي والشعبي وأبي قلابة وطائفة من التابعين‏.‏

والثاني المنع مطلقًا ولم ينسبه الحافظ إلى قائل معين إنما ذكر أخبارًا وآثارًا يعرف بها من قال بذلك‏.‏

الثالث يكره لبس الثوب المشبع بالحمرة دون ما صبغه خفيفًا جاء ذلك عن عطاء وطاوس ومجاهد‏.‏

الرابع يكره لبس الأحمر مطلقًا لقصد الزينة والشهرة ويجوز في البيوت والمهنة جاء ذلك عن ابن عباس‏.‏

الخامس يجوز لبس ما كان صبغ غزله ثم نسج ويمنع ما صبغ بعد النسج جنح إلى ذلك الخطابي‏.‏

السادس اختصاص النهي بما يصبغ بالعصفر ولم ينسبه إلى أحد‏.‏

السابع تخصيص المنع بالثوب الذي يصنع كله وأما ما فيه لون آخر غير أحمر فلا‏.‏ حكي عن ابن القيم أنه قال بذلك بعض العلماء ثم قال الحافظ‏:‏ والتحقيق في هذا المقام أن النهي عن لبس الأحمر إن كان من أجل أنه لبس الكفار فالقول فيه كالقول في الميثرة الحمراء وإن كان من أجل أنه زي النساء فهو راجع إلى الزجر عن التشبه بالنساء فيكون النهي عنه لا لذاته وإن كان من أجل الشهرة أو خرم المروءة فيمنع حيث يقع ذلك وإلا فلا فيقوى ما ذهب إليه مالك من التفرقة بين لبسه في المحافل وفي البيوت‏.‏

5 - وعن عبد اللَّه بن عمرو قال‏:‏ ‏(‏مر على النبي صلى اللَّه عليه وآله وسلم رجل عليه ثوبان أحمران فسلم فلم يرد النبي صلى اللَّه عليه وسلم‏)‏‏.‏

رواه الترمذي وأبو داود‏.‏ وقال معناه عند أهل الحديث أنه كره المعصفر وقال‏:‏ ورأوا أن ما صبغ بالحمرة من مدر أو غيره فلا بأس به إذا لم يكن معصفرًا‏)‏‏.‏

الحديث قال الترمذي‏:‏ إنه حسن غريب من هذا الوجه اهـ‏.‏

وفي إسناده أبو يحيى القتات وقد اختلف في اسمه فقيل عبد الرحمن ابن دينار وقيل زازان وقيل عمران وقيل مسلم وقيل زياد وقيل يزيد‏.‏ قال المنذري‏:‏ وهو كوفي لا يحتج بحديثه‏.‏ قال أبو بكر البزار‏:‏ وهذا الحديث لا نعلمه يروى بهذا اللفظ إلا عن عبد اللَّه بن عمرو ولا نعلم له طريقًا إلا هذه الطريق ولا نعلم رواه إسرائيل إلا عن إسحاق بن منصور‏.‏ قال الحافظ في الفتح‏:‏ هو حديث ضعيف الإسناد وإن وقع في نسخ الترمذي أنه حسن‏.‏

ـ والحديث ـ احتج به القائلون بكراهية لبس الأحمر وقد تقدم ذكرهم وأجاب المبيحون عنه بأنه لا ينتهض للاستدلال به في مقابلة الأحاديث القاضية بالإباحة لما فيه من المقال وبأنه واقعة عين فيحتمل أن يكون ترك الرد عليه بسبب آخر وحمله البيهقي على ما صبغ بعد النسج لا ما صبغ غزلًا ثم نسج فلا كراهة فيه‏.‏

قال ابن التين‏:‏ زعم بعضهم أن لبس النبي صلى اللَّه عليه وآله وسلم الحلة كان لأجل الغزو وفيه نظر لأنه كان عقيب حجة الوداع ولم يكن له إذ ذاك غزو وقد قدمنا الكلام على حجج الفريقين مستوفى‏.‏

قوله ‏(‏فلم يرد النبي صلى اللَّه عليه وآله وسلم عليه‏)‏ فيه جواز ترك الرد على من سلم وهو مرتكب لمنهي عنه ردعًا له وزجرًا عن معصيته‏.‏

قال ابن رسلان‏:‏ ويستحب أن يقول المسلم عليه أنا لم أرد عليك لأنك مرتكب لمنهي عنه‏.‏ وكذلك يستحب ترك السلام على أهل البدع والمعاصي الظاهرة تحقيرًا لهم وزجرًا ولذلك قال كعب بن مالك‏:‏ فسلمت عليه فو اللَّه ما رد السلام علي والجمع الذي ذكره الترمذي ونسبه إلى أهل الحديث جمع حسن لانتهاض الأحاديث القاضية بالمنع من لبس ما صبغ بالعصفر‏.‏

 باب ما جاء في لبس الأبيض والأسود والأخضر والمزعفر والملونات

1 - عن سمرة بن جندب قال‏:‏ ‏(‏قال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم‏:‏ البسوا ثياب البياض فإنها أطهر وأطيب وكفنوا فيها موتاكم‏)‏‏.‏

رواه أحمد والنسائي والترمذي وصححه‏.‏

الحديث أخرجه أيضًا ابن ماجه والحاكم واختلف في وصله وإرساله قال الحافظ في الفتح‏:‏ وإسناده صحيح وصححه الحاكم‏.‏

وفي الباب عن ابن عباس عند الشافعي وأحمد وأصحاب السنن إلا النسائي بلفظ‏:‏ ‏(‏البسوا من ثيابكم البياض فإنها من خير ثيابكم وكفنوا فيها موتاكم‏)‏ وأخرجه ابن حبان والحاكم والبيهقي بمعناه‏.‏ وفي لفظ للحاكم‏:‏ ‏(‏خير ثيابكم البياض فألبسوها أحياءكم وكفنوا بها موتاكم‏)‏ وصحح حديث ابن عباس ابن القطان والترمذي وابن حبان‏.‏

وفي الباب أيضًا عن عمران بن الحصين عند الطبراني وعن أنس عند أبي حاتم في العلل وعند البزار في مسنده وعن ابن عمر عند ابن عدي في الكامل وعن أبي الدرداء يرفعه عند ابن ماجه بلفظ‏:‏ ‏(‏أحسن ما زرتم اللَّه به في قبوركم ومساجدكم البياض‏)‏‏.‏

‏(‏والحديث‏)‏ يدل على مشروعية لبس البياض وتكفين الموتى به لعله كونه أطهر من غيره وأطيب أما كونه أطيب فظاهر وأما كونه أطهر فلأن أدنى شيء يقع عليه يظهر فيغسل إذا كان من جنس النجاسة فيكون نقيًا كما ثبت عنه صلى اللَّه عليه وسلم في دعائه‏:‏ ‏(‏ونقني من الخطايا كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس‏)‏ والأمر المذكور في الحديث ليس للوجوب أما في اللباس فلما ثبت عنه صلى اللَّه عليه وآله وسلم من لبس غيره وإلباس جماعة من الصحابة ثيابًا غير بيض وتقريره لجماعة منهم على غير لبس البياض وأما في الكفن فلما ثبت عند أبي داود قال الحافظ‏:‏ بإسناد حسن من حديث جابر مرفوعًا‏:‏ ‏(‏إذا توفي أحدكم فوجد شيئًا فليكفن في ثوب حبرة‏)‏‏.‏

2 - وعن أنس قال‏:‏ ‏(‏كان أحب الثياب إلى رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم أن يلبسها الحبرة‏)‏‏.‏

رواه الجماعة إلا ابن ماجه‏.‏

قوله ‏(‏الحبرة‏)‏ بكسر الحاء المهملة وفتح الباء الموحدة بعدها‏.‏ قال الجوهري‏:‏ الحبرة كعنبة برد يمان يكون من كتان أو قطن سميت حبرة لأنها محبرة أي مزينة والتحبير التزيين والتحسين والتخطيط ومنه حديث أبي ذر ‏(‏الحمد للَّه الذي أطعمنا الخمير وألبسنا الحبير‏)‏ وإنما كانت الحبرة أحب الثياب إلى رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم لأنه ليس فيها كثير زينة ولأنها أكثر احتمالًا للوسخ من غيرها‏.‏

3 - وعن أبي رمثة قال‏:‏ ‏(‏رأيت النبي صلى اللَّه عليه وآله وسلم وعليه بردان أخضران‏)‏‏.‏

رواه الخمسة إلا ابن ماجه‏.‏

الحديث حسنه الترمذي وقال‏:‏ لا نعرفه إلا من حديث عبيد اللَّه بن إياد انتهى‏.‏

وعبيد اللَّه وأبوه ثقتان وأبو رمثة بكسر الراء وسكون الميم بعدها ثاء مثلثة مفتوحة واسمه رفاعة بن يثربي كذا قال صاحب التقريب‏.‏ وقال الترمذي‏:‏ اسمه حبيب بن وهب ويدل على استحباب لبس الأخضر لأنه لباس أهل الجنة وهو أيضًا من أنفع الألوان للأبصار ومن أجملها في أعين الناظرين‏.‏

4 - وعن عائشة رضي اللَّه عنها قالت‏:‏ ‏(‏خرج النبي صلى اللَّه عليه وآله وسلم ذات غداة وعليه مرط مرحل من شعر أسود‏)‏‏.‏

رواه أحمد ومسلم والترمذي وصححه‏.‏

قوله ‏(‏مرط‏)‏ بكسر الميم وسكون الراء المهملة كساء من صوف أو خز الجمع مروط كذا في القاموس‏.‏ وقيل كساء من خز أو كتان‏.‏

قوله ‏(‏مرحل‏)‏ بميم مضمومة وراء مهملة مفتوحة وحاء مهملة مشددة ولام كمعظم وهو برد فيه تصاوير‏.‏ قال في القاموس‏:‏ وتفسير الجوهري إياه بإزار خز فيه علم غير جيد إنما ذلك تفسير المرجل بالجيم انتهى‏.‏ وتلك التصاوير هي صور الرحال والرحال تطلق على المنازل وعلى الرواحل وعلى ما يوضع على الرواحل يستوي عليه الراكب والترحيل مصدر رحل البرد أي وشاه‏.‏ قال النووي‏:‏ والمراد تصاوير رحال الإبل ولا بأس بهذه الصورة انتهى‏.‏ وسيأتي الكلام على حكم ما فيه صورة في الباب الذي بعد هذا‏.‏

ـ والحديث ـ يدل على أنه لا كراهة في لبس السواد‏.‏ وقد أخرج أبو داود والنسائي من حديث عائشة قالت‏:‏ ‏(‏صبغت للنبي صلى اللَّه عليه وآله وسلم بردة سوداء فلبسها فلما عرق فيها وجد ريح الصوف فقذفها قال‏:‏ وأحسبه قال‏:‏ وكان يعجبه الريح الطيبة‏)‏‏.‏

5 - وعن أم خالد قالت‏:‏ ‏(‏أتى النبي صلى اللَّه عليه وآله وسلم بثياب فيها خميصة سوداء فقال‏:‏ من ترون نكسو هذه الخميصة فأسكت القوم فقال‏:‏ ائتوني بأم خالد فأتي بيَّ إلى النبي صلى اللَّه عليه وآله وسلم فألبسنيها بيده وقال‏:‏ أبلي وأخلقي مرتين وجعل ينظر إلى علم الخميصة ويشير بيده إليَّ ويقول‏:‏ يا أم خالد هذا سنا يا أم خالد هذا سنا‏)‏‏.‏ السنا بلسان الحبشة الحسن

رواه البخاري‏.‏

قوله ‏(‏خميصة‏)‏ بفتح المعجمة وكسر الميم وبالصاد المهملة كساء مربع له علمان‏.‏

قوله ‏(‏نكسو هذه‏)‏ بالنون للمتكلم‏.‏

قوله ‏(‏فأسكت القوم‏)‏ بضم الهمزة على البناء للمجهول‏.‏

قوله ‏(‏أبلي وأخلقي‏)‏ هذا من باب التفاؤل والدعاء لللابس بأن يعمر ويلبس ذلك الثوب حتى يبلى ويصير خلقًا وفيه أنه يستحب أن يقال لمن لبس ثوبًا جديدًا كذلك وأخرج ابن ماجه عن ابن عمر‏:‏ ‏(‏أن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم رأى على عمر قميصًا أبيض فقال‏:‏ البس جديدًا وعش حميدًا ومت شهيدًا‏)‏ وأخرج أبو داود وسعيد بن منصور من حديث أبي نضرة قال‏:‏ ‏(‏كان أصحاب النبي صلى اللَّه عليه وآله وسلم إذا لبس أحدهم ثوبًا جديدًا قيل له تبلي ويخلف اللَّه تعالى‏)‏ وسنده صحيح‏.‏

قوله ‏(‏هذا سنا‏)‏ بفتح السين المهملة وتشديد النون وفيه جواز التكلم باللغة العجمية ومعناه حسن‏.‏

ـ والحديث ـ يدل على أنه يجوز للنساء لباس الثياب السود ولا أعلم في ذلك خلافًا‏.‏

6 - وعن ابن عمر‏:‏ ‏(‏أنه كان يصبغ ثيابه ويدهن بالزعفران فقيل له لم تصبغ ثيابك وتدهن بالزعفران فقال‏:‏ إني رأيته أحب الأصباغ إلى رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم يدهن به ويصبغ به ثيابه‏)‏‏.‏

رواه أحمد وكذلك أبو داود والنسائي بنحوه وفي لفظهما‏:‏ ‏(‏ولقد كان يصبغ ثيابه كلها حتى عمامته‏)‏‏.‏

الحديث في إسناده اختلاف كما قال المنذري‏.‏ ولم يذكر أبو داود والنسائي الزعفران وأخرج البخاري ومسلم من حديث عبيد بن جريج عن ابن عمر أنه قال‏:‏ ‏(‏وأما الصفرة فإني رأيت رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم يصبغ بها فإني أحب أن أصبغ بها‏)‏ قال المنذري‏:‏ واختلف الناس في ذلك فقال بعضهم‏:‏ أراد الخضاب للحية بالصفرة وقال آخرون‏:‏ أراد يصفر ثيابه ويلبس ثيابًا صفرًا انتهى‏.‏ ويؤيد القول الثاني تلك الزيادة التي أخرجها أبو داود والنسائي‏.‏

قوله ‏(‏حتى عمامته‏)‏ بالنصب‏.‏

ـ والحديث ـ يدل على مشروعية صبغ الثياب بالصفرة وقد تقدم الكلام على ذلك في باب نهي الرجال عن المعصفر‏.‏

وفيه أيضًا مشروعية الإدهان بالزعفران‏.‏ ومشروعية صباغ اللحية بالصفرة لقوله صلى اللَّه عليه وآله وسلم في رواية النسائي وغيره‏:‏ ‏(‏أن اليهود والنصارى لا تصبغ فخالفوهم واصبغوا‏)‏ قال ابن الجوزي‏:‏ قد اختضب جماعة من الصحابة والتابعين بالصفرة‏.‏ ورأى أحمد بن حنبل رجلًا قد خضب لحيته فقال‏:‏ إني لأرى الرجل يحيي ميتًا من السنة‏.‏ وقد تقدم الكلام على الخضاب في باب تغيير الشيب بالحناء والكتم‏.‏

 باب حكم ما فيه صورة من الثياب والبسط والستور والنهي عن التصوير

1 - عن عائشة‏:‏ ‏(‏أن النبي صلى اللَّه عليه وآله وسلم لم يكن يترك في بيته شيئًا فيه تصاليب إلا نقضه‏)‏‏.‏

رواه البخاري وأبو داود وأحمد‏.‏ ولفظه‏:‏ ‏(‏لم يكن يدع في بيته ثوبًا فيه تصليب إلا نقضه‏)‏‏.‏

الحديث أخرجه أيضًا النسائي‏.‏

قوله ‏(‏لم يكن يترك في بيته شيئًا‏)‏ يشمل الملبوس والستور والبسط والآلات وغير ذلك‏.‏

قوله ‏(‏فيه تصاليب‏)‏ أي صورة صليب من نقش ثوب أو غيره والصليب فيه صورة عيسى عليه السلام تعبده النصارى‏.‏

قوله ‏(‏نقضه‏)‏ بفتح النون والقاف والضاد المعجمة أي كسره وأبطله وغير صورة الصليب‏.‏ وفي رواية أبي داود ‏(‏قضبه‏)‏ بالقاف المفتوحة والضاد المعجمة والباء الموحدة أي قطع موضع التصليب منه دون غيره والقضب القطع كذا قال ابن رسلان‏.‏

ـ والحديث ـ يدل على عدم جواز اتخاذ الثياب والستور والبسط وغيرها التي فيها تصاوير وعلى جواز تغيير المنكر باليد من غير استئذان مالكه زوجة كانت أو غيرها لما ثبت عنه صلى اللَّه عليه وآله وسلم يوم فتح مكة ‏(‏أنه كان يهوي بالقضيب الذي في يده إلى كل صنم فيخر لوجهه ويقول‏:‏ ‏{‏جاء الحق وزهق الباطل‏}‏ حتى مر على ثلاثمائة وستين صنمًا‏)‏‏.‏

وأخرج البخاري من حديث ابن عباس قال‏:‏ ‏(‏لما رأى النبي صلى اللَّه عليه وآله وسلم الصور التي في البيت لم يدخل حتى أمر بها فمحيت ورأى صورة إبراهيم وإسماعيل بأيديهما الأزلام فقال‏:‏ قاتلهم اللَّه واللَّه إن استقسما بالأزلام قط‏)‏‏.‏

قال النووي‏:‏ قال أصحابنا وغيرهم من العلماء‏:‏ تصوير صورة الحيوان حرام شديد التحريم وهو من الكبائر لأنه متوعد عليه بالوعيد الشديد المذكور في الأحاديث وسواء صنعه لما يمتهن أو لغيره فصنعته حرام بكل حال لأن فيه مضاهاة لخلق اللَّه تعالى وسواء ما كان في ثوب أو بساط أو درهم أو دينار وفلس وإناء وحائط وغيرها‏.‏

وأما تصوير صورة الشجر وجبال الأرض وغير ذلك مما ليس فيه صورة حيوان فليس بحرام هذا حكم نقش التصوير‏.‏ وأما اتخاذ ما فيه صورة حيوان فإن كان معلقًا على حائط أو ثوبًا أو عمامة أو نحو ذلك مما لا يعد ممتهنًا فهو حرام وإن كان في بساط يداس ومخدة ووسادة ونحوها مما يمتهن فليس بحرام ولكن هل يمنع دخول ملائكة الرحمة ذلك البيت وسيأتي قال‏:‏ ولا فرق في ذلك كله بين ماله ظل وما لا ظل له قال‏:‏ هذا تلخيص مذهبنا في المسألة وبمعناه قال جماهير العلماء من الصحابة والتابعين فمن بعدهم وهو مذهب الثوري ومالك وأبي حنيفة وغيرهم‏.‏

وقال بعض السلف‏:‏ إنما ينهى عما كان له ظل ولا بأس بالصور التي ليس لها ظل وهذا مذهب باطل فإن الستر الذي أنكر النبي صلى اللَّه عليه وآله وسلم الصور فيه لا يشك أحد أنه مذموم وليس لصورته ظل مع باقي الأحاديث المطلقة في كل صورة‏.‏ وقال الزهري‏:‏ النهي في الصورة على العموم وكذلك استعمال ما هي فيه ودخول البيت الذي هي فيه سواء كانت رقمًا في ثوب أو غير رقم وسواء كانت في حائط أو ثوب أو بساط ممتهن أو غير ممتهن عملًا بظاهر الأحاديث لا سيما حديث النمرقة الذي ذكره مسلم وهذا مذهب قوي‏.‏

وقال آخرون‏:‏ يجوز منها ما كان رقمًا في ثوب سواء أمتهن أم لا وسواء علق في حائط أم لا قال‏:‏ وهو مذهب القاسم بن محمد وأجمعوا على منع ما كان له ظل ووجوب تغييره‏.‏ قال القاضي عياض‏:‏ إلا ما ورد في اللعب بالبنات لصغار البنات والرخصة في ذلك لكن كره مالك شراء الرجل ذلك لابنته وادعى بعضهم أن إباحة اللعب بالبنات منسوخ بهذه الأحاديث انتهى‏.‏

2 - وعن عائشة‏:‏ ‏(‏أنها نصبت سترًا وفيه تصاوير فدخل رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم فنزعه قالت‏:‏ فقطعته وسادتين فكان يرتفق عليهما‏)‏‏.‏

متفق عليه‏.‏ وفي لفظ أحمد‏:‏ ‏(‏فقطعته مرفقتين فلقد رأيته متكئًا على إحداهما وفيها صورة‏)‏‏.‏

قوله ‏(‏فنزعه‏)‏ فيه الإرشاد إلى إزالة التصاوير المنقوشة على الستور‏.‏

قوله ‏(‏فقطعته وسادتين‏)‏ فيه أن الصورة والتمثال إذا غيرا لم يكن بهما بأس بعد ذلك وجاز افتراشهما والارتفاق عليهما‏.‏

قوله ‏(‏فكان يرتفق‏)‏ في القاموس ارتفق اتكأ على مرفق يده أو على المخدة‏.‏

قوله ‏(‏فقطعته مرفقتين‏)‏ تثنية مرفقة كمكنسة وهي المخدة‏.‏

ـ والحديث ـ يدل على جواز افتراش الثياب التي كانت فيها تصاوير وعلى استحباب الارتفاق لما يشعر به لفظ كان من استمراره على ذلك وكثيرًا ما يتجنبه الرؤساء تكبرًا‏.‏

3 - وعن أبي هريرة قال‏:‏ ‏(‏قال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم أتاني جبريل فقال‏:‏ إني كنت أتيتك الليلة فلم يمنعني أن أدخل البيت الذي أنت فيه إلا أنه كان فيه تمثال رجل وكان في البيت قرام ستر فيه تماثيل وكان في البيت كلب فمر برأس التمثال الذي في باب البيت يقطع يصير كهيئة الشجرة وأمر بالستر يقطع فيجعل وسادتين منتبذتين توطآن وأمر بالكلب يخرج ففعل رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم وإذا الكلب جرو وكان للحسن والحسين تحت نضد لهم‏)‏‏.‏

رواه أحمد وأبو داود والترمذي وصححه‏.‏

الحديث أخرجه أيضًا النسائي‏.‏

قوله ‏(‏الليلة‏)‏ وفي رواية أبي داود البارحة‏.‏

قوله ‏(‏قرام ستر‏)‏ بكسر القاف وتخفيف الراء والتنوين وروي بحذف التنوين والإضافة وهو الستر الرقيق من صوف ذي ألوان‏.‏

قوله ‏(‏فيه تماثيل‏)‏ وفي رواية لمسلم ‏(‏وقد سترت سهوة لي بقرام‏)‏ والسهوة الخزانة الصغيرة وفي رواية للنسائي ‏(‏قال جبريل كيف أدخل وفي بيتك ستر فيه تصاوير‏)‏ واختلاف الروايات يبين بعضها بعضًا‏.‏

قوله‏(‏فمر‏)‏ بضم الميم أي فقال جبريل عليه السلام للنبي صلى اللَّه عليه وآله وسلم مر‏.‏

قوله ‏(‏يصير كهيئة الشجرة‏)‏ لأن الشجر ونحوه مما لا روح فيه لا يحرم صنعته ولا التكسب به من غير فرق بين الشجرة المثمرة وغيرها‏.‏ قال ابن رسلان‏:‏ وهذا مذهب العلماء كافة إلا مجاهد فإنه جعل الشجرة المثمرة من المكروه لما روي عنه صلى اللَّه عليه وآله وسلم أنه قال حاكيًا عن اللَّه تعالى ‏(‏ومن أظلم ممن ذهب يخلق خلقًا كخلقي‏)‏‏.‏

قوله ‏(‏وأمر بالستر‏)‏ رواية أبي داود ومر وكذلك قوله وأمر بالكلب‏.‏

قوله ‏(‏منتبذتين‏)‏ أي مطروحتين على الأرض ولفظ أبي داود منبوذتين‏.‏

قوله ‏(‏وكان للحسن والحسين‏)‏ فيه جواز تربية جرو الكلب للولد الصغير وقد يستدل به على طهارة الكلب وقد تقدم الكلام على ذلك وعلى جواز اتخاذه لغير الاصطياد‏.‏

قوله ‏(‏تحت نضد‏)‏ بفتح النون والضاد المعجمة فعل بمعنى مفعول أي تحت متاع البيت المنضود بعضه فوق بعض‏.‏ وقيل هو السرير سمي بذلك لأن النضد يوضع عليه أي يجعل بعضه فوق بعض وفي حديث مسروق شجر الجنة نضد من أصلها إلى فرعها أي ليس لها سوق بارزة ولكنها منضودة بالورق والثمار من أسفلها إلى أعلاها‏.‏

ـ الحديث ـ يدل على أنها لا تدخل الملائكة البيوت التي فيها تماثيل أو كلب كما ورد من حديث أبي طلحة الأنصاري عند البخاري ومسلم وأبي داود والترمذي والنسائي بلفظ‏:‏ قال‏:‏ قال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم‏:‏ ‏(‏لا تدخل الملائكة بيتًا فيه كلب ولا تماثيل‏)‏ زاد أبو داود والنسائي عن علي مرفوعًا‏:‏ ‏(‏ولا جنب‏)‏ قيل أراد بالملائكة السياحين غير الحفظة وملائكة الموت‏.‏ قال في معالم السنن‏:‏ الملائكة الذي ينزلون بالبركة والرحمة وأما الحفظة فلا يفارقون الجنب وغيره‏.‏

قال النووي في شرح مسلم‏:‏ سبب امتناع الملائكة من بيت فيه صورة كونها معصية فاحشة وسبب امتناعهم من بيت فيه كلب كثرة أكله النجاسات ولأن بعضها يسمى شيطانًا كما جاء في الحديث والملائكة ضد الشياطين وخص الخطابي ذلك بما كان يحرم اقتناؤه من الكلاب وبما لا يجوز تصويره من الصور لا كلب الصيد والماشية ولا الصورة التي في البساط والوسادة وغيرهما فإن ذلك لا يمنع دخول الملائكة والأظهر أنه عام في كل كلب وفي كل صورة وأنهم يمتنعون من الجميع لإطلاق الأحاديث ولأن الجرو الذي كان في بيت النبي صلى اللَّه عليه وآله وسلم تحت السرير كان له فيه عذر فإنه لم يعلم به ومع هذا امتنع جبريل من دخول البيت لأجل ذلك الجرو‏.‏

4 - وعن ابن عمر‏:‏ ‏(‏أن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم قال‏:‏ الذين يصنعون هذه الصور يعذبون يوم القيامة يقال لهم أحيوا ما خلقتم‏)‏‏.‏

5 - وعن ابن عباس‏:‏ ‏(‏وجاءه رجل فقال‏:‏ إني أصور هذه التصاوير فأفتني فيها فقال‏:‏ سمعت رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم يقول‏:‏ كل مصور في النار يجعل له بكل صورة صورها نفسًا تعذبه في جهنم فإن كنت لا بد فاعلًا فاجعل الشجر وما لا نفس له‏)‏‏.‏

متفق عليهما‏.‏

الحديثان يدلان على أن التصوير من أشد المحرمات للتوعد عليه بالتعذيب في النار وبأن كل مصور من أهل النار ولورود لعن المصورين في أحاديث أخر وذلك لا يكون إلا على محرم متبالغ في القبح وإنما كان التصوير من أشد المحرمات الموجبة لما ذكر لأن فيه مضاهاة لفعل الخالق جل جلاله ولهذا سمى الشارع فعلهم خلقًا وسماهم خالقين وظاهر قوله كل مصور‏.‏

وقوله ‏(‏بكل صورة صورها‏)‏ أنه لا فرق بين المطبوع في الثياب وبين ما له جرم مستقل‏.‏ ويؤيد ذلك ما في حديث عائشة المتقدم من التعميم وما في حديث مسلم وغيره ‏(‏أن النبي صلى اللَّه عليه وآله وسلم هتك درنوكًا لعائشة كان فيه صور الخيل ذوات الأجنحة حتى اتخذت منه وسادتين‏)‏ والدرنوك ضرب من الثياب أو البسط‏.‏ وما أخرج البخاري ومسلم والموطأ والنسائي من حديث عائشة قالت‏:‏ ‏(‏قدم رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم من سفر وقد سترت سهوة لي بقرام فيه تماثيل فلما رآه هتكه وتلون وجهه وقال‏:‏ يا عائشة أشد الناس عذابًا يوم القيامة الذين يضاهون بخلق اللَّه‏)‏ وما أخرجه البخاري والترمذي والنسائي من حديث ابن عباس قال‏:‏ ‏(‏قال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم‏:‏ من صور صورة عذبه اللَّه بها يوم القيامة حتى ينفخ فيها الروح وما هو بنافخ‏)‏‏.‏

فهذه الأحاديث قاضية بعدم الفرق بين المطبوع من الصور والمستقل لأن اسم الصورة صادق على الكل إذ هي كما في كتب اللغة الشكل وهو يقال لما كان منها مطبوعًا على الثياب شكلًا نعم حديث أبي طلحة عند مسلم وأبي داود وغيرهما بلفظ‏:‏ سمعت رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم يقول‏:‏ ‏(‏لا تدخل الملائكة بيتًا فيه كلب ولا تمثال‏)‏ وفيه أنه قال‏:‏ ‏(‏إلا رقمًا في ثوب‏)‏ فهذا إن صح رفعه كان مخصصًا لما رقم في الأثواب من التماثيل‏.‏

قوله ‏(‏أحيوا ما خلقتم‏)‏ هذا من باب التعليق بالمحال والمراد أنهم يعذبون يوم القيامة ويقال لهم لا تزالون في عذاب حتى تحيوا ما خلقتم وليسوا بفاعلين وهو كناية عن دوام العذاب واستمراره وهذا الذي قدرناه في تفسير الحديث مصرح بمعناه في حديث ابن عباس المتقدم والأحاديث يفسر بعضها بعضًا‏.‏

قوله ‏(‏فاجعل الشجر وما لا نفس له‏)‏ فيه الإذن بتصوير الشجر وكل ما ليس له نفس وهو يدل على اختصاص التحريم بتصوير الحيوانات قال في البحر‏:‏ ولا يكره تصوير الشجر ونحوها من الجماد إجماعًا‏.‏