فصل: باب ما جاء في لبس القميص والعمامة والسراويل

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: نيل الأوطار شرح منتقى الأخبار **


 باب ما جاء في لبس القميص والعمامة والسراويل

1 - عن أبي أمامة قال‏:‏ ‏(‏قلنا يا رسول اللَّه إن أهل الكتاب يتسرولون ولا يأتزرون فقال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم‏:‏ تسرولوا وائتزروا وخالفوا أهل الكتاب‏)‏‏.‏

رواه أحمد‏.‏

2 - وعن مالك بن عمير قال‏:‏ ‏(‏بعت رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم رجل سراويل قبل الهجرة فوزن لي فأرجح لي‏)‏‏.‏

رواه أحمد وابن ماجه‏.‏

أما حديث أبي أمامة فلم أقف فيه على كلام لأحد إلا ما ذكره في مجمع الزوائد فإنه قال‏:‏ رواه أحمد والطبراني ورجال أحمد رجال الصحيح خلا القاسم وهو ثقة وفيه كلام لا يضر انتهى‏.‏ وفيه الأذن بلبس السراويل وأن مخالفة أهل الكتاب تحصل بمجرد الإتزار في بعض الأوقات لا بترك لبس السراويل في جميع الحالات فإنه غير لازم وإن كان أدخل في المخالفة‏.‏

وأما حديث مالك بن عمير فأخرجه أيضًا أبو داود والنسائي ورجال إسناده رجال الصحيح ويشهد لصحته حديث سويد بن قيس قال‏:‏ ‏(‏جلبت أنا ومخرمة العبدي بزًا من هجر فأتينا به مكة فجاءنا رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم يمشي فساومنا سراويل فبعناه وثم رجل يزن بالأجر فقال له‏:‏ زن وأرجح‏)‏ رواه الخمسة وصححه الترمذي وسيأتي في أبواب الإجارة إن شاء اللَّه‏.‏ وحديث مالك بن عمير المذكور هو عند أحمد من طريق يزيد بن هارون عن شعبة عن سماك بن حرب عنه وقد صرح كثير من الأئمة بثبوت شرائه صلى اللَّه عليه وآله وسلم للسراويل‏:‏

ـ قال في الهدي ـ فصل‏:‏ واشترى صلى اللَّه عليه وآله وسلم سراويل والظاهر أنه إنما اشترها ليلبسها وقد روي في غير حديث أنه لبس السراويل وكانوا يلبسون السراويلات بإذنه انتهى‏.‏

وقال في الفصل الذي بعد هذا في الهدي‏:‏ ولبس البرود اليمانية والبرد الأخضر ولبس الجبة والقباء والقميص والسراويل انتهى‏.‏

قال في المواهب اللدنية للقسطلاني‏:‏ وأما السراويل فاختلف هل لبسها النبي صلى اللَّه عليه وآله وسلم أم لا فجزم بعض العلماء بأنه صلى اللَّه عليه وآله وسلم لم يلبسه ويستأنس له بما جزم به النووي في ترجمة عثمان رضي اللَّه عنه من كتاب تهذيب الأسماء واللغات أنه لم يلبس السراويل في جاهلية ولا إسلام إلى يوم قتله فإنهم كانوا أحرص شيء على إتباعه لكن قد ورد في حديث أبي يحيى الموصلي بسند ضعيف جدًا عن أبي هريرة قال‏:‏ ‏(‏دخلت السوق يومًا مع رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم فجلس إلى البزاز فاشترى منه سراويل بأربعة دراهم وكان لأهل السوق وزان يزن فقال له رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم‏:‏ أتزن راحجًا فقال الوزان‏:‏ إن هذه كلمة ما سمعتها من أحد قال أبو هريرة‏:‏ فقلت له كفى بك من الجفاء في دينك أن لا تعرف نبيك فطرح الميزان ووثب إلى يد رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم يريد أن يقبلها فجذب يده رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم وقال له‏:‏ يا هذا إنما تفعل هذا الأعاجم بملوكها ولست بملك إنما أنا رجل منكم فأخذ فوزن وأرجح وأخذ رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم السراويل قال أبو هريرة‏:‏ فذهبت لأحمله عنه فقال‏:‏ صاحب الشيء أحق بشيئه أن يحمله إلا أن يكون ضعيفًا يعجز عنه فيعينه أخوه المسلم قال‏:‏ قلت يا رسول اللَّه وإنك لتلبس السراويل قال‏:‏ أجل في السفر والحضر والليل والنهار فإني أمرت بالستر فلم أجد شيئًا أستر منه‏)‏ وكذا أخرجه ابن حبان في الضعفاء عن أبي يعلى ورواه الطبراني في الأوسط والدارقطني في الأفراد والعقيلي في الضعفاء ومداره على يوسف بن زياد الواسطي وهو ضعيف عن شيخه عبد الرحمن بن زياد بن أنعم الأفريقي وهو أيضًا ضعيف لكن قد صح شراء النبي صلى اللَّه عليه وآله وسلم للسراويل وأما اللبس فلم يأت من طريق صحيحة ولهذا قال أبو عبد اللَّه الحجازي في حاشيته على الشفاء ما لفظه‏:‏ وما قاله في الهدي من أنه صلى اللَّه عليه وآله وسلم لبس السراويل سبق قلم واللَّه أعلم‏.‏

وقد أورد أبو سعيد النيسابوري ذكر الحديث في السراويل وأورد فيه حديث المحرم لكونه لم يرد فيه شيء على شرطه‏.‏

3 - وعن أم سلمة قالت‏:‏ ‏(‏كان أحبَّ الثياب إلى رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم القمص‏)‏‏.‏

رواه أحمد وأبو داود والترمذي‏.‏

الحديث أخرجه أيضًا النسائي وقال الترمذي‏:‏ حسن غريب إنما نعرفه من حديث عبد المؤمن بن خالد تفرد به وهو مروزي‏.‏ وروى بعضهم هذا الحديث عن أبي ثميلة عن عبد المؤمن بن خالد عن عبد اللَّه بن بريدة عن أمه عن أم سلمة قال‏:‏ وسمعت محمد بن إسماعيل يقول‏:‏ حديث عبد اللَّه بن بريدة عن أمه عن أم سلمة أصح‏.‏ هذا آخر كلامه‏.‏ وعبد المؤمن هذا قاضي مرو‏.‏ قال المنذري‏:‏ ولا بأس به وأبو ثميلة يحيى بن واضح أدخله البخاري في الضعفاء ووثقه يحيى بن معين‏.‏

ـ والحديث ـ يدل على استحباب لبس القميص وإنما كان أحب الثياب إلى رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم لأنه أمكن في الستر من الرداء والإزار اللذين يحتاجان كثيرًا إلى الربط والإمساك وغير ذلك بخلاف القميص‏.‏ ويحتمل أن يكون المراد من أحب الثياب إليه القميص لأنه يستر عورته ويباشر جسمه فهو شعار الجسد بخلاف ما يلبس فوقه من الدثار ولا شك أن كل ما قرب من الإنسان كان أحب إليه من غيره ولهذا شبه صلى اللَّه عليه وآله وسلم الأنصار بالشعار الذي يلي البدن بخلاف غيرهم فإنه شبههم بالدثار وإنما سمى القميص قميصًا لأن الآدمي يتقمص فيه أي يدخل فيه ليستره وفي حديث المرجوم أنه يتقمص في أنهار الجنة أي ينغمس فيها‏.‏

4 - وعن أسماء بنت بريد قالت‏:‏ ‏(‏كانت يد كم قميص رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم إلى الرسغ‏)‏‏.‏

رواه أبو داود والترمذي‏.‏

5 - وعن ابن عباس قال‏:‏ ‏(‏كان رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم يلبس قميصًا قصير اليدين والطول‏)‏‏.‏

رواه ابن ماجه‏.‏

الحديث الأول أخرجه النسائي أيضًا وقال الترمذي‏:‏ حسن غريب وفي إسناده شهر بن حوشب وفيه مقال مشهور‏.‏

والحديث الثاني رواه ابن ماجه في سننه من طريق عبيد بن محمد قال حدثنا الحسن بن صالح ورواه أيضًا من طريق شعبان بن وكيع عن أبيه عن الحسن بن صالح عن مسلم عن مجاهد عن ابن عباس وعبيد بن محمد ضعيف وشعبان بن وكيع أضعف منه ولكن شطره الأول يشهد له حديث أسماء هذا وشطره الثاني يشهد له حديث ابن عمر الآتي في إسبال الإزار والعمامة والقميص‏.‏

قوله ‏(‏إلى الرسغ‏)‏ بالسين المهملة هذا لفظ الترمذي ولفظ أبي داود الرصغ بالصاد المهملة الساكنة قبلها راء مكسورة وبعدها غين معجمة وهو مفصل ما بين الكف والساعد ويقال المفصل الساق والقدم رسغ أيضًا قاله ابن رسلان في شرح السنن‏.‏

ـ والحديثان ـ يدلان على أن السنة في الأكمام أن لا تجاوز الرسغ قال الحافظ ابن القيم في الهدي‏:‏ وأما الأكمام الواسعة الطوال التي هي كالأخراج فلم يلبسها هو ولا أحد من أصحابه البتة وهي مخالفة لسنته وفي جوازها نظر فإنها من جنس الخيلاء انتهى‏.‏ وقد صار أشهر الناس بمخالفة هذه السنة في زماننا هذا العلماء فيرى أحدهم وقد جعل لقميصه كمين يصلح كل واحد منهما أن يكون جبة أو قميصًا لصغير من أولاده أو يتيم وليس في ذلك شيء من الفائدة الدنيوية إلا العبث وتثقيل المؤونة على النفس ومنع الانتفاع باليد في كثير من المنافع وتعريضه لسرعة التمزق وتشويه الهيئة ولا الدينية إلا مخالفة السنة والإسبال والخيلاء‏.‏

قال ابن رسلان‏:‏ والظاهر أن نساءه صلى اللَّه عليه وآله وسلم كن كذلك يعني أن أكمامهن إلى الرسغ إذ لو كانت أكمامهن تزيد على ذلك لنقل ولو نقل لوصل إلينا كما نقل في الذيول من رواية النسائي وغيره أن أم سلمة لما سمعت من جر ثوبه خيلاء لم ينظر اللَّه إليه قالت‏:‏ ‏(‏يا رسول اللَّه فكيف يصنع النساء بذيولهن قال‏:‏ يرخينه شبرًا قال‏:‏ إذن ينكشف أقدامهن قال‏:‏ يرخينه ذراعًا ولا يزدن عليه‏)‏ ويفرق بين الكف إذا ظهر وبين القدم أن قدم المرأة عورة بخلاف كفها انتهى‏.‏

ـ وفي الحديث ـ الثاني دلالة على أن هديه صلى اللَّه عليه وآله وسلم كان تقصير القميص لأن تطويله إسبال وهو منهي عنه وسيأتي الكلام على ذلك‏.‏

6 - وعن نافع عن ابن عمر قال‏:‏ ‏(‏كان النبي صلى اللَّه عليه وآله وسلم إذا اعتم سدل عمامته بين كتفيه قال نافع‏:‏ وكان ابن عمر يسدل عمامته بين كتفيه‏)‏‏.‏

رواه الترمذي‏.‏

الحديث أخرج نحوه مسلم والترمذي وأبو داود والنسائي وابن ماجه من حديث جعفر بن عمرو بن حريث عن أبيه قال‏:‏ ‏(‏رأيت النبي صلى اللَّه عليه وآله وسلم على المنبر وعليه عمامة سوداء قد أرخى طرفها بين كتفيه‏)‏ ـ والأحاديث بمجموعها تفيد مشروعية سدل العمامة بين الكتفين وتسمى ذؤبة وعذبة كما جاء التصريح بذلك في غير حديث وما أحسن العمة وأكملها وهي من عادات العرب قديمًا وسنن الأنبياء وقد جاء الشرع بتقريرها وقد ورد الترغيب فيها كما سيأتي للشارح بعد نقل ما رواه الطبراني في الأوسط عن ابن عمر ‏(‏أن النبي صلى اللَّه عليه وآله وسلم عمم عبد الرحمن بن عوف فأرسل من خلفه أربع أصابع أو نحوها قال هكذا فاعتم فإنه أعرب وأحسن‏)‏ وحسنه السيوطي وهو يفيد السنية ولقد طمس على بصائر أقوام ممن أضلهم اللَّه وأعمى قلوبهم وتخبطوا في ظلمات الجهل فعدلوا عن العمامة التي هي تيجان العرب وشعار المسلمين إلى أزياء الكفار وعادات الأعداء وشعار الإفرنج وما حملهم على ذلك إلا قربهم منهم واكتساب عاداتهم القبيحة ولم يكفهم ذلك بل أرغموا الناس على ذلك بالتهديد والتقتيل خذلهم اللَّه وقطع دابرهم وشتت جمعهم وكفى اللَّه المؤمنين شرهم اللَّهم أصلح الأمة المحمدية وثبتها على دينك وانصرها على أعدائك واحفظها من التغيير والتبديل ولجهل غالب الأمة بدينها الحقيقي وما كان عليه نبيها المصطفى ورسولها المرتضى أصبح الكثير يستغرب كل شيء في الدين ويستحسن ما ألفى عليه أهل عصره من الإلحاد والزندقة واستقباح كل قديم واستملاح كل جديد إنا للَّه وإنا إليه راجعون اللَّهم الطف بعبادك يا كريم يا حليم يا اللَّه ـ‏.‏ وأخرج ابن عدي من حديث جابر قال‏:‏ ‏(‏كان للنبي صلى اللَّه عليه وسلم عمامة سوداء يلبسها في العيدين ويرخيها خلفه‏)‏ قال ابن عدي‏:‏ لا أعلم يرويه عن أبي الزبير غير العرزمي وعنه حاتم بن إسماعيل‏.‏ وأخرج الطبراني عن أبي موسى‏:‏ ‏(‏أن جبريل نزل على النبي صلى اللَّه عليه وسلم وعليه عمامة سوداء قد أرخى ذؤابته من ورائه‏)‏‏.‏

قوله ‏(‏سدل‏)‏ السدل الإسبال والإرسال وفسره في القاموس بالإرخاء‏.‏

ـ والحديث ـ يدل على استحباب لبس العمامة وقد أخرج الترمذي وأبو داود والبيهقي من حديث ركانة بن عبد يزيد الهاشمي أنه قال‏:‏ ‏(‏سمعت النبي صلى اللَّه عليه وآله وسلم يقول‏:‏ فرق ما بيننا وبين المشركين العمائم على القلانس‏)‏ قال ابن القيم في الهدي‏:‏ وكان يلبس القلنسوة بغير عمامة ويلبس العمامة بغير قلنسوة انتهى‏.‏

ـ والحديث ـ أيضًا يدل على استحباب إرخاء العمامة بين الكتفين وقد أخرج أبو داود من حديث عبد الرحمن بن عوف قال‏:‏ ‏(‏قال‏:‏ عممني رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم فسدلها من بين يدي ومن خلفي‏)‏ والراوي عن عبد الرحمن شيخ من أهل المدينة لم يذكر أبو داود اسمه‏.‏ وأخرج الطبراني من حديث عبد اللَّه بن ياسر قال‏:‏ ‏(‏بعث رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم علي ابن أبي طالب عليه السلام إلى خيبر فعممه بعمامة سوداء ثم أرسلها من ورائه أو قال على كتفه اليسرى‏)‏ وحسنه السيوطي وأخرج ابن سعد عن مولى يقال له هرمز قال‏:‏ ‏(‏رأيت عليًا عليه عمامة سوداء قد أرخاها من بين يديه ومن خلفه‏)‏ قال ابن رسلان في شرح السنن عند ذكر حديث عبد الرحمن‏:‏ وهي التي صارت شعار الصالحين المتمسكين بالسنة يعني إرسال العمامة على الصدر‏.‏ وقال‏:‏ وفي الحديث النهي عن العمامة المقعطة بفتح القاف وتشديد العين المهملة قال أبو عبيد في الغريب‏:‏ المقعطة التي لا ذؤابة لها ولا حنك قيل المقعطة عمامة إبليس وقيل عمامة أهل الذمة‏.‏

وورد النهي عن العمامة التي ليست محنكة ولا ذؤابة لها فالمحنكة من حنك الفرس إذا جعل له في حنكه الأسفل ما يقوده به هذا معنى كلام ابن رسلان‏.‏ والذي ذكره أبو عبيد في الغريب في حديث أنه صلى اللَّه عليه وآله وسلم أمر بالتلحي ونهى عن الاقتعاط أن المقعطة هي التي لم يجعل منها تحت الحنك‏.‏

وقال ابن الأثير في النهاية‏:‏ في حديث أنه صلى اللَّه عليه وآله وسلم نهى عن الاقتعاط وأمر بالتلحي أن الاقتعاط أن لا يجعل تحت الحنك من العمامة شيئًا والتلحي جعل بعض العمامة تحت الحنك وقال الجوهري في الصحاح‏:‏ الاقتعاط شد العمامة على الرأس من غير إدارة تحت الحنك والتلحي تطويف العمامة تحت الحنك وهكذا في القاموس وكذا قال ابن قتيبة‏.‏ وقال الإمام أبو بكر الطرطوشي‏:‏ اقتعاط العمائم هو التعميم دون حنك وهو بدعة منكرة وقد شاعت في بلاد الإسلام‏.‏

وقال ابن حبيب في كتاب الواضحة‏:‏ إن ترك الالتحاء من بقايا عمائم قوم لوط‏.‏ وقال مالك‏:‏ أدركت في مسجد رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم سبعين محنكًا وإن أحدهم لو ائتمن على بيت المال لكان به أمينًا‏.‏ وقال القاضي عبد الوهاب في كتاب المعونة له‏:‏ ومن المكروه ما خالف زيَّ العرب وأشبه زيَّ العجم كالتعمم بغير حنك‏.‏ وقال القرافي‏:‏ ما أفتى مالك حتى أجازه أربعون محنكًا وقد روي التحنك عن جماعة من السلف‏.‏ وروي النهي عن الاقتعاط عن جماعة منهم وكان طاوس والمجاهد يقولان‏:‏ إن الاقتعاط عمامة الشيطان فينظر فيما نقله ابن رسلان عن أبي عبيد من أن المقعطة هي التي لا ذؤابة لها‏.‏

ـ وقد استدل ـ على جواز ترك الذؤابة ابن القيم في الهدي بحديث جابر بن سليم عند مسلم وأبي داود والترمذي والنسائي وابن ماجه بلفظ‏:‏ ‏(‏إن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم دخل مكة وعليه عمامة سوداء‏)‏ بدون ذكر الذؤابة قال‏:‏ فدل على أن الذؤابة لم يكن يرخيها دائمًا بين كتفيه وقد يقال إنه دخل مكة وعليه أهبة القتال والمغفر على رأسه فلبس في كل موطن ما يناسبه اهـ‏.‏

وروى أبو داود من حديث عبد الرحمن بن عوف قال‏:‏ ‏(‏عممني رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم فسدلها بين يدي ومن خلفي‏)‏ وروى الطبراني عن عائشة قالت‏:‏ ‏(‏عمم رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم عبد الرحمن بن عوف وأرخى له أربع أصابع‏)‏ وفي إسناده المقدام بن داود وهو ضعيف‏.‏ وأخرج نحوه الطبراني في الأوسط عن ابن عمر‏:‏ ‏(‏أن النبي صلى اللَّه عليه وآله وسلم عمم عبد الرحمن بن عوف فأرسل من خلفه أربع أصابع أو نحوها ثم قال‏:‏ هكذا فاعتم فإنه أعرب وأحسن‏)‏ قال السيوطي‏:‏ وإسناده حسن وأخرج الطبراني أيضًا في الأوسط من حديث ثوبان‏:‏ ‏(‏أن النبي صلى اللَّه عليه وآله وسلم كان إذا اعتم أرخى عمامته بين يديه ومن خلفه‏)‏ وفي إسناده الحجاج بن رشدين وهو ضعيف‏.‏

وأخرج الطبراني أيضًا في الكبير عن أبي أمامة قال‏:‏ ‏(‏كان رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم قلما يولي واليًا حتى يعممه ويرخي لها من جانبه الأيمن نحو الأذن‏)‏ وفي إسناده جميع بن ثوبان وهو متروك قيل ويحرم إطالة العذبة طولًا فاحشًا ولا مقتضى للجزم بالتحريم‏.‏ قال النووي في شرح المهذب‏:‏ يجوز لبس العمامة بإرسال طرفها وبغير إرساله ولا كراهة في واحد منهما ولم يصح في النهي عن ترك إرسالها إرسالًا فاحشًا كإرسال الثوب يحرم للخيلاء ويكره لغيره انتهى‏.‏

وقد أخرج ابن أبي شيبة أن عبد اللَّه بن الزبير كان يعتم بعمامة سوداء قد أرخاها من خلفه نحوًا من ذراع‏.‏

وروى سعد بن سعيد عن رشدين قال‏:‏ ‏(‏رأيت عبد اللَّه بن الزبير يعتم بعمامة سوداء ويرخيها شبرًا أو أقل من شبر‏)‏ قال السيوطي في الحاوي في الفتاوى‏:‏ وأما مقدار العمامة الشريفة فلم يثبت في حديث وقد روى البيهقي في شعب الإيمان عن ابن سلام بن عبد اللَّه بن سلام قال‏:‏ ‏(‏سألت ابن عمر‏:‏ كيف كان النبي صلى اللَّه عليه وآله وسلم يعتم قال‏:‏ كان يدير العمامة على رأسه ويقورها من ورائه ويرسل لها ذؤابة بين كتفيه‏)‏ وهذا يدل على أنها عدة أذرع والظاهر أنها كانت نحو العشرة أو فوقها بيسير انتهى‏.‏

ولا أدري ما هذا الظاهر الذي زعمه فإن كان الظهور من هذا الحديث الذي ساقه باعتبار ما فيه من ذكر الإدارة والتقوير وإرسال الذؤابة فهذه الأوصاف تحصل في عمامة دون ثلاثة أذرع وإن كان من غيره فما هو بعد إقراره بعدم ثبوت مقدارها في حديث‏.‏

 باب الرخصة في اللباس الجميل واستحباب التواضع فيه وكراهة الشهرة والإسبال

1 - عن ابن مسعود قال‏:‏ ‏(‏قال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم‏:‏ لا يدخل الجنة من كان في قلبه ذرة من كبر فقال رجل‏:‏ إن الرجل يحب أن يكون ثوبه حسنًا ونعله حسنًا قال‏:‏ إن اللَّه جميل يحب الجمال الكبر بطر الحق وغمص الناس‏)‏‏.‏

رواه أحمد ومسلم‏.‏

قوله ‏(‏إن اللَّه جميل‏)‏ اختلفوا في معناه فقيل إن كل أمره سبحانه وتعالى حسن جميل وله الأسماء الحسنى وصفات الجمال والكمال‏.‏ وقيل جميل بمعنى مجمل ككريم وسميع بمعنى مكرم ومسمع‏.‏ وقال أبو القاسم القشيري‏:‏ معناه جليل‏.‏ وقال الخطابي‏:‏ إنه بمعنى ذي النور والبهجة أي مالكهما‏.‏ وقيل معناه جميل الأفعال بكم والنظر إليكم يكلفكم اليسير ويعين عليه ويثيب عليه الجزيل ويشكر عليه‏.‏

ـ قال النووي‏:‏ ـ واعلم أن هذا الاسم ورد في هذا الحديث الصحيح ولكنه من أخبار الآحاد وقد ورد أيضًا في حديث الأسماء الحسنى وفي إسناده مقال والمختار جواز إطلاقه على اللَّه ومن العلماء من منعه قال إمام الحرمين‏:‏ ما ورد الشرع بإطلاقه في أسماء اللَّه تعالى وصفاته أطلقناه وما منع الشرع من إطلاقه منعناه وما لم يرد فيه إذن ولا منع لم نقض فيه بتحليل ولا تحريم فإن الأحكام الشرعية تتلقى من موارد الشرع ولو قضينا بتحليل أو تحريم لكنا مثبتين حكمًا بغير الشرع انتهى‏.‏

وقد وقع الخلاف في تسمية اللَّه ووصفه من أوصاف الكمال والجلال والمدح بما لم يرد به الشرع ولا منعه فأجازه وطائفة ومنعه آخرون إلا أن يرد به شرع مقطوع به من نص كتاب أو سنة متواترة أو إجماع على إطلاقه فإن ورد خبر واحد فاختلفوا فيه فأجازه طائفة وقالوا الدعاء به والثناء من باب العمل وهو جائز بخبر الواحد ومنعه آخرون لكونه راجعًا إلى اعتقاد ما يجوز أو يستحيل على اللَّه تعالى وطريق هذا القطع قال القاضي عياض‏:‏ والصواب جوازه لاشتماله على العمل ولقول اللَّه تعالى ‏{‏وللَّه الأسماء الحسنى فادعوه بها‏}‏ انتهى‏.‏ والمسألة مدونة في علم الكلام فلا نطيل فيها المقال‏.‏

قوله ‏(‏بطر الحق‏)‏ هو دفعه وإنكاره ترفعًا وتجبرًا قاله النووي‏.‏ وفي القاموس بطر الحق أن يتكبر عنده فلا يقبله‏.‏

قوله ‏(‏وغمص الناس‏)‏ هو بغين معجمة مفتوحة وصاد مهملة قبلها ميم ساكنة وقال النووي في شرح مسلم‏:‏ هو بالطاء المهملة في نسخ صحيح مسلم‏.‏

قال القاضي عياض‏:‏ لم نرو هذا الحديث عن جميع شيوخنا هنا وفي البخاري إلا بالطاء ذكره أبو داود في مصنفه وذكره أبو سعيد الترمذي وغيره‏.‏ والغمط والغمص قال النووي بمعنى واحد وهو احتقار الناس‏.‏

ـ والحديث ـ يدل على أن الكبر مانع من دخول الجنة وإن بلغ في القلة إلى الغاية ولهذا ورد التحديد بمثقال ذرة وقد اختلف في تأويله فذكر الخطابي فيه وجهين أحدهما أن المراد التكبر عن الإيمان فصاحبه لا يدخل الجنة أصلًا إذا مات عليه والثاني أنه لا يكون في قلبه كبر حال دخول الجنة كما قال اللَّه تعالى ‏{‏ونزعنا ما في صدورهم من غل‏}‏ قال النووي‏:‏ وهذان التأويلان فيهما بعد فإن الحديث ورد في سياق النهي عن الكبر المعروف وهو الارتفاع عن الناس واحتقارهم ودفع الحق فلا ينبغي أن يحمل على هذين التأويلين المخرجين له عن المطلوب بل الظاهر ما اختاره القاضي عياض وغيره من المحققين أنه لا يدخلها بدون مجازاة إن جازاه وقيل هذا جزاؤه لو جازاه وقيل لا يدخلها مع المتقين أول وهلة ويمكن أن يقال أن هذا الحديث وما يشابهه من الأحاديث التي وردت مصرحًا فيها بعدم دخول جماعة من العصاة الجنة أو عدم خروج جماعة منهم من النار خاصة‏.‏ وأحاديث دخول جميع الموحدين الجنة وخروج عصاتهم من النار عامة فلا حاجة على هذا إلى التأويل‏.‏

ـ والحديث ـ أيضًا يدل على أن محبة لبس الثوب الحسن والنعل الحسن وتخير اللباس الجميل ليس من الكبر في شيء وهذا مما لا خلاف فيه فيما أعلم والرجل المذكور في الحديث هو مالك بن مرارة الرهاوي ذكر ذلك ابن عبد البر والقاضي عياض وقد جمع الحافظ ابن بشكوال في اسمه أقوالًا استوفاها النووي في شرح مسلم‏.‏

2 - وعن سهل بن معاذ الجهني عن أبيه‏:‏ ‏(‏عن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم أنه قال‏:‏ من ترك أن يلبس صالح الثياب وهو يقدر عليه تواضعًا للَّه عز وجل دعاه اللَّه عز وجل على رؤوس الخلائق حتى يخيره في حلل الإيمان أيتهن شاء‏)‏‏.‏

رواه أحمد والترمذي‏.‏

الحديث حسنه الترمذي وقد رواه من طريق عباس بن محمد الدوري عن عبد اللَّه بن يزيد المقري عن سعيد بن أبي أيوب عن أبي مرحوم عبد الرحيم بن ميمون عن سهل بن معاذ بن أنس الجهني عن أبيه عن النبي صلى اللَّه عليه وآله وسلم وعبد الرحيم بن ميمون قال النسائي‏:‏ ليس به بأس وضعفه ابن معين‏.‏ وسهل بن معاذ وثقه ابن حبان وضعفه ابن معين‏.‏ وفيه استحباب الزهد في الملبوس وترك لبس حسن الثياب ورفيعها لقصد التواضع ولا شك أن لبس ما فيه جمال زائد من الثياب يجذب بعض الطباع إلى الزهو والخيلاء والكبر وقد كان هديه صلى اللَّه عليه وآله وسلم كما قال الحافظ ابن القيم أن يلبس ما تيسر من اللباس والصوف تارة والقطن أخرى والكتان تارة ولبس البرود اليمانية والبرد الأخضر ولبس الجبة والقباء والقميص إلى أن قال‏:‏ فالذين يمتنعون عما أباح اللَّه من الملابس والمطاعم والمناكح تزهدًا وتعبدًا بإزائهم طائفة قابلوهم فلم يلبسوا إلا أشرف الثياب ولم يأكلوا إلا أطيب وألين الطعام فلم يروا لبس الخشن ولا أكله تكبرًا وتجبرًا وكلا الطائفتين مخالف لهدي النبي صلى اللَّه عليه وآله وسلم ولهذا قال بعض السلف‏:‏ كانوا يكرهون الشهرتين من الثياب العالي والمنخفض‏.‏ وفي السنن عن ابن عمر يرفعه ‏(‏من لبس ثوب شهرة ألبسه اللَّه ثوب مذلة‏)‏ إلى آخر كلامه‏.‏ وذكر الشيخ أبو إسحاق الأصفهاني بإسناد صحيح عن جابر بن أيوب قال‏:‏ دخل الصلت بن راشد على محمد بن سيرين وعليه جبة صوف وإزار صوف وعمامة صوف فاشمأز عنه محمد وقال‏:‏ أظن أن أقوامًا يلبسون الصوف ويقولون قد لبسه عيسى بن مريم وقد حدثني من لا أتهم أن النبي صلى اللَّه عليه وآله وسلم قد لبس الكتان والصوف والقطن وسنة نبينا أحق أن تتبع‏.‏

ومقصود ابن سيرين من هذا أن قومًا يرون أن لبس الصوف دائمًا أفضل من غيره فيتحرونه ويمنعون أنفسهم من غيره وكذلك يتحرون زيًا واحدًا من الملابس ويتحرون رسومًا وأوضاعًا وهيئات يرون الخروج عنها منكرًا وليس المنكر إلا التقييد بها والمحافظة عليها وترك الخروج عنها‏.‏

ـ والحاصل ـ أن الأعمال بالنيات فلبس المنخفض من الثياب تواضعًا وكسرًا لسورة النفس التي لا يؤمن عليها من التكبر إن لبست غالي الثياب من المقاصد الصالحة الموجبة للمثوبة من اللَّه ولبس الغالي من الثياب عند الأمن على النفس من التسامي المشوب بنوع من التكبر لقصد التوصل بذلك إلى تمام المطالب الدينية من أمر بمعروف أو نهي عن منكر عند من لا يلتفت إلا إلى ذوي الهيئات كما هو الغالب على عوام زماننا وبعض خواصه لا شك أنه من الموجبات للأجر لكنه لا بد من تقييد ذلك بما يحل لبسه شرعًا‏.‏

3 - وعن ابن عمر قال‏:‏ ‏(‏قال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم من لبس ثوب شهرة في الدنيا ألبسه اللَّه ثوب مذلة يوم القيامة‏)‏‏.‏

رواه أحمد وأبو داود وابن ماجه‏.‏

الحديث أخرجه أيضًا النسائي ورجال إسناده ثقات رواه أبو داود عن شيخه محمد بن عيسى بن بحيح بن الطباع‏.‏ قال فيه أبو حاتم‏:‏ مبرز ثقة له عدة مصنفات عن أبي عوانة الوضاح وهو ثقة عن عثمان بن أبي زرعة الثقفي وقد أخرج له البخاري في الأنبياء عن المهاجر بن عمرو البسامي وقد أخرج له ابن حبان في الثقات عن ابن عمر وأخرجه أيضًا من طريق محمد بن عيسى عن القاضي شريك عن عثمان بذلك الإسناد‏.‏

قوله ‏(‏من لبس ثوب شهرة‏)‏ قال ابن الأثير‏:‏ الشهرة ظهور الشيء والمراد أن ثوبه يشتهر بين الناس لمخالفة لونه لألوان ثيابهم فيرفع الناس إليه أبصارهم ويختال عليهم بالعجب والتكبر‏.‏

قوله ‏(‏ألبسه اللَّه تعالى ثوب مذلة‏)‏ لفظ أبي داود ثوبًا مثله والمراد بقوله ثوب مذلة يوجب ذلته يوم القيامة كما لبس في الدنيا ثوبًا يتعزز به على الناس ويترفع به عليهم والمراد بقوله مثله في تلك الرواية أنه مثله في شهرته بين الناس‏.‏ قال ابن رسلان‏:‏ لأنه لبس الشهرة في الدنيا ليعز به ويفتخر على غيره ويلبسه اللَّه يوم القيامة ثوبًا يشتهر بمذلته واحتقاره بينهم عقوبة له والعقوبة من جنس العمل انتهى‏.‏ ويدل على هذا التأويل الزيادة التي زادها أبو داود من طريق أبي عوانة بلفظ‏:‏ ‏(‏تلهب فيه النار‏)‏‏.‏

ـ والحديث ـ يدل على تحريم لبس ثوب الشهرة وليس هذا الحديث مختصًا بنفيس الثياب بل قد يحصل ذلك لمن يلبس ثوبًا يخالف ملبوس الناس من الفقراء ليراه الناس فيتعجبوا من لباسه ويعتقدوه قاله ابن رسلان وإذا كان اللبس لقصد الاشتهار في الناس فلا فرق بين رفيع الثياب ووضيعها والموافق لملبوس الناس والمخالف لأن التحريم يدور مع الاشتهار والمعتبر القصد وإن لم يطابق الواقع‏.‏

4 - وعن ابن عمر قال‏:‏ ‏(‏قال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم‏:‏ من جر ثوبه خيلاء لم ينظر اللَّه إليه يوم القيامة فقال أبو بكر‏:‏ إن أحد شقي إزاري يسترخي إلا أن أتعاهد ذلك منه فقال‏:‏ إنك لست ممن يفعل ذلك خيلاء‏)‏‏.‏

رواه الجماعة إلا أن مسلمًا وابن ماجه والترمذي لم يذكروا قصة أبي بكر‏.‏

قوله ‏(‏خيلاء‏)‏ فعلاء بضم الخاء المعجمة ممدود‏.‏ والمخيلة والبطر والكبر والزهو والتبختر والخيلاء كلها بمعنى واحد يقال خال واختال إذا تكبر وهو رجل خال أي متكبر وصاحب خال أي صاحب كبر‏.‏

قوله ‏(‏لم ينظر اللَّه إليه‏)‏ النظر حقيقة في إدراك العين للمرئي وهو هنا مجاز عن الرحمة أي لا يرحمه اللَّه لامتناع حقيقة النظر في حقه تعالى والعلاقة هي السببية فإن من نظر إلى غيره وهو في حالة ممتنهة رحمه‏.‏

وقال في شرح الترمذي‏:‏ عبر عن المعنى الكائن عند النظر بالنظر لأن من نظر إلى متواضع رحمه ومن نظر إلى متكبر مقته فالرحمة والمقت متسببان عن النظر‏.‏

ـ والحديث ـ يدل على تحريم جر الثوب خيلاء والمراد بجره هو جره على وجه الأرض وهو الموافق لقوله صلى اللَّه عليه وآله وسلم‏:‏ ‏(‏ما أسفل من الكعبين من الإزار في النار‏)‏ كما سيأتي وظاهر الحديث أن الإسبال محرم على الرجال والنساء لما في صيغة من في قوله ‏(‏من جر‏)‏ من العموم وقد فهمت أم سلمة ذلك لما سمعت الحديث فقالت‏:‏ ‏(‏فكيف تصنع النساء بذيولهن قال‏:‏ يرخينه شبرًا فقالت‏:‏ إذًا تنكشف أقدامهن قال‏:‏ فيرخينه ذراعًا لا يزدن عليه‏)‏ أخرجه النسائي والترمذي ولكنه قد أجمع المسلمون على جواز الإسبال للنساء كما صرح بذلك ابن رسلان في شرح السنن وظاهر التقييد بقوله ‏(‏خيلاء‏)‏ يدل بمفهومه أن جر الثوب لغير الخيلاء لا يكون داخلًا في هذا الوعيد قال ابن عبد البر‏:‏ مفهومه أن الجار لغير الخيلاء لا يلحقه الوعيد إلا أنه مذموم قال النووي‏:‏ إنه مكروه وهذا نص الشافعي قال البويطي في مختصره عن الشافعي‏:‏ لا يجوز السدل في الصلاة ولا في غيرها للخيلاء ولغيرها خفيف لقول النبي صلى اللَّه عليه وآله وسلم لأبي بكر انتهى‏.‏ قال ابن العربي‏:‏ لا يجوز للرجل أن يجاوز بثوبه كعبه ويقول لا أجره خيلاء لأن النهي قد تناوله لفظًا ولا يجوز لمن تناوله لفظًا أن يخالفه إذ صار حكمه أن يقول لا أمتثله لأن تلك العلة ليست في فإنها دعوى غير مسلمة بل إطالة ذيله دالة على تكبره انتهى‏.‏

ـ وحاصله ـ أن الإسبال يستلزم جر الثوب وجر الثوب يستلزم الخيلاء ولو لم يقصده اللابس ويدل على عدم اعتبار التقييد بالخيلاء ما أخرجه أبو داود والنسائي والترمذي وصححه من حديث جابر بن سليم من حديث طويل فيه‏:‏ ‏(‏وارفع إزارك إلى نصف الساق فإن أبيت فإلى الكعبين وإياك وإسبال الإزار فإنها من المخيلة وإن اللَّه لا يحب المخيلة‏)‏ وما أخرج الطبراني من حديث أبي أمامة قال‏:‏ ‏(‏بينما نحن مع رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم إذا لحقنا عمرو بن زرارة الأنصاري في حلة إزار ورداء قد أسبل فجعل رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم يأخذ بناحية ثوبه ويتواضع للَّه عز وجل ويقول‏:‏ عبدك وابن عبدك وأمتك حتى سمعها عمرو فقال‏:‏ يا رسول اللَّه إني أحمش الساقين فقال‏:‏ يا عمرو إن اللَّه تعالى قد أحسن كل شيء خلقه يا عمرو إن اللَّه لا يحب المسبل‏)‏‏.‏

والحديث رجاله ثقات وظاهره أن عمرًا لم يقصد الخيلاء وقد عرفت ما في حديث الباب من قوله صلى اللَّه عليه وآله وسلم لأبي بكر‏:‏ ‏(‏إنك لست ممن يفعل ذلك خيلاء‏)‏ وهو تصريح بأن مناط التحريم الخيلاء وأن الإسبال قد يكون للخيلاء وقد يكون لغيره فلا بد من حمل قوله ‏(‏فإنها من المخيلة‏)‏ في حديث جابر بن سليم على أنه خرج مخرج الغالب فيكون الوعيد المذكور في حديث الباب متوجهًا إلى من فعل ذلك اختيالًا والقول بأن كل إسبال من المخيلة أخذًا بظاهر حديث جابر ترده الضرورة فإن كل أحد يعلم أن من الناس من يسبل إزاره مع عدم خطور الخيلاء بباله ويرده ما تقدم من قوله صلى اللَّه عليه وآله وسلم لأبي بكر لما عرفت وبهذا يحصل الجمع بين الأحاديث وعدم إهدار قيد الخيلاء المصرح به في الصحيحين وقد جمع بعض المتأخرين رسالة طويلة جزم فيها بتحريم الإسبال مطلقًا وأعظم ما تمسك به حديث جابر‏.‏

وأما حديث أبي أمامة فغاية ما فيه التصريح بأن اللَّه لا يحب المسبل وحديث الباب مقيد بالخيلاء وحمل المطلق على المقيد واجب وأما كون الظاهر من عمرو أنه لم يقصد الخيلاء فما بمثل هذا الظاهر تعارض الأحاديث الصحيحة وسيأتي ذكر المقدار الذي يعد إسبالًا وذكر عموم الإسبال لجميع اللباس‏.‏

ومن الأحاديث الدالة على أن الإسبال من أشد الذنوب ما أخرجه مسلم وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه عن أبي ذر عن النبي صلى اللَّه عليه وآله وسلم أنه قال‏:‏ ‏(‏ثلاثة لا يكلمهم اللَّه يوم القيامة ولا ينظر إليهم ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم قلت‏:‏ من هم يا رسول اللَّه فقد خابوا وخسروا فأعادها ثلاثًا قلت‏:‏ من هم خابوا وخسروا قال‏:‏ المسبل والمنان والمنفق سلعته بالحلف الكاذب أو الفاجر‏)‏ وما أخرجه أبو داود وغيره من حديث أبي هريرة قال‏:‏ ‏(‏بينما رجل يصلي مسبلًا إزاره فقال له رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم‏:‏ اذهب فتوضأ فذهب فتوضأ ثم جاء قال‏:‏ اذهب فتوضأ فقال له رجل‏:‏ يا رسول اللَّه ما لك أمرته أن يتوضأ ثم سكت عنه قال‏:‏ إنه صلى وهو مسبل إزاره وإن اللَّه لا يقبل صلاة رجل مسبل‏)‏ وفي إسناده أبو جعفر رجل من أهل المدينة لا يعرف اسمه‏.‏ وما أخرجه أبو داود من جملة حديث طويل وفيه‏:‏ ‏(‏قال لنا رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم‏:‏ نعم الرجل خزيم الأسدي لولا طول جمته وإسبال إزاره‏)‏‏.‏

5 - وعن ابن عمر‏:‏ ‏(‏عن النبي صلى اللَّه عليه وآله وسلم قال‏:‏ الإسبال في الإزار والقميص والعمامة من جر شيئًا خيلاء لم ينظر اللَّه إليه يوم القيامة‏)‏‏.‏

رواه أبو داود والنسائي وابن ماجه‏.‏

الحديث في إسناده عبد العزيز بن أبي رواد وقد تكلم فيه غير واحد قال ابن ماجه‏:‏ قال أبو بكر ابن أبي شيبة‏:‏ ما أعرفه انتهى‏.‏ وهو مولى المهلب بن أبي صفرة وقد أخرج له البخاري وقال النووي في شرح مسلم بعد أن ذكر هذا الحديث‏:‏ إن إسناده حسن‏.‏

ـ والحديث ـ يدل على عدم اختصاص الإسبال بالثوب والإزار بل يكون في القميص والعمامة كما في الحديث‏.‏ قال ابن رسلان‏:‏ والطيلسان والرداء والشملة‏.‏ قال ابن بطال‏:‏ وإسبال العمامة المراد به إرسال العذبة زائدًا على ما جرت به العادة انتهى‏.‏

وأما المقدار الذي جرت به العادة فقد تقدم أن النبي صلى اللَّه عليه وآله وسلم فعله هو وأصحابه وتطويل أكمام القميص تطويلًا زائدًا على المعتاد من الإسبال وقد نقل القاضي عياض عن العلماء كراهة كل ما زاد على المعتاد في اللباس في الطول والسعة‏.‏

6 - وعن أبي هريرة‏:‏ ‏(‏عن النبي صلى اللَّه عليه وآله وسلم قال‏:‏ لا ينظر اللَّه إلى من جر إزاره بطرًا‏)‏‏.‏

متفق عليه‏.‏ ولأحمد والبخاري‏:‏ ‏(‏ما أسفل من الكعبين من الإزار في النار‏)‏‏.‏

قوله ‏(‏بطرًا‏)‏ قد تقدم أن البطر معناه معنى الخيلاء وفي القاموس البطر النشاط والأشر وقلة احتمال النعمة والدهش والحيرة والطغيان وكراهة الشيء من غير أن يستحق الكراهة انتهى‏.‏

قوله ‏(‏ما أسفل من الكعبين‏)‏ الخ قال في الفتح‏:‏ ما موصلة وبعض صلة المحذوف وهو كان وأسفل خبره وهو منصوب ويجوز الرفع أي ما هو أسفل وهو أفعل تفضيل ويحتمل أن يكون فعلًا ماضيًا ويجوز أن تكون ما نكرة موصوفة بأسفل‏.‏ قال الخطابي‏:‏ يريد أن الموضع الذي يناله الإزار من أسفل الكعبين في النار فكنى بالثوب عن بدن لابسه ومعناه أن الذي دون الكعبين من القدم يعذب عقوبة‏.‏

وحاصله أنه من تسمية الشيء باسم ما جاوره أو حل فيه وتكون من بيانية ويحتمل أن تكون سببية ويكون المراد الشخص نفسه فيكون هذا من باب تسمية الشيء بما يؤول إليه أمره في الآخرة كقوله ‏{‏إني أراني أعصر خمرًا‏}‏ يعني عنبًا فسماه بما يؤول إليه غالبًا وقيل معناه فهو محرم عليه لأن الحرام يوجب النار في الآخرة‏.‏ وقد أخرج أبو داود من حديث أبي هريرة قال‏:‏ ‏(‏قال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم‏:‏ إزرة المسلم إلى نصف الساق ولا حرج أو لا جناح فيما بينه وبين الكعبين وما كان أسفل من الكعبين فهو في النار‏)‏ وأخرجه أيضًا النسائي وابن ماجه‏.‏

ـ وحديث ـ الباب يدل على أن الإسبال المحرم إنما يكون إذا جاوز الكعبين وقد تقدم الكلام على اعتبار الخيلاء وعدمه‏.‏