فصل: كتاب الردة

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: نيل الأوطار شرح منتقى الأخبار **


الجزء الثامن

 الردة

 أبواب أحكام الردة والإسلام

 باب قتل المرتد

بسم اللَّه الرحمن الرحيم

1ـ عن عكرمة قال‏:‏ ‏(‏أتي أمير المؤمنين علي رضي اللّه عنه بزنادقة فأحرقهم فبلغ ذلك ابن عباس فقال‏:‏ لو كنت أنا لم أحرقهم لنهي رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم قال‏:‏ لا تعذبوا بعذاب اللّه ولقتلتهم لقول رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم‏:‏ من بدل دينه فاقتلوه‏.‏‏(‏

رواه الجماعة إلا مسلمًا وليس لابن ماجه فيه سوى‏:‏ ‏(‏من بدل دينه فاقتلوه‏)‏‏.‏

وفي حديث أبي موسى أن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم قال له‏:‏ اذهب إلى اليمن ثم أتبعه معاذ بن جبل فلما قدم عليه ألقى له وسادة وقال انزل وإذا رجل عنده موثق قال‏:‏ ما هذا قال‏:‏ كان يهوديًا فأسلم ثم تهود قال‏:‏ لا أجلس حتى يقتل قضاء اللّه ورسوله‏)‏‏.‏

متفق عليه‏.‏

وفي رواية لأحمد‏:‏ ‏(‏قضى اللّه ورسوله أن من رجع عن دينه فاقتلوه‏)‏‏.‏

ولأبي داود في هذه القصة‏:‏ ‏(‏فأتي أبو موسى برجل قد ارتد عن الإسلام فدعاه عشرين ليلة أو قريبًا منها فجاء معاذ فدعاه فأبى فضرب عنقه‏)‏‏.‏

2ـ وعن محمد بن عبد اللّه بن عبد القاري قال‏:‏ ‏(‏قدم على عمر بن الخطاب رجل من قبل أبي موسى فسأله عن الناس فأخبره ثم قال‏:‏ هل من مغربة خبر قال‏:‏ نعم كفر رجل بعد إسلامه قال‏:‏ فما فعلتم به قال‏:‏ قربناه فضربنا عنقه فقال عمر‏:‏ هلا حبستموه ثلاثًاوأطعمتموه كل يوم رغيفًا واستتبتموه لعله يتوب ويراجع أمر اللّه اللّهم لم أحضر ولم أرض إذ بلغني‏)‏‏.‏

رواه الشافعي‏.‏

ـ أثر عمر أخرجه أيضًا مالك في الموطأ عن عبد الرحمن بن محمد بن عبد اللّه ابن عبد القاري عن أبيه قال الشافعي من لا يتأنى بالمرتد زعموا أن هذا الأثر عن عمر ليس بمتصل ورواه البيهقي من حديث أنس قال لما نزلنا على تستر فذكر الحديث وفيه فقدمت على عمر رضي اللّه عنه فقال يا أنس ما فعل الستة الرهط من بكر بن وائل الذين ارتدوا عن الإسلام فلحقوا بالمشركين قال يا أمير المؤمنين قتلوا بالمعركة فاسترجع عمر قلت وهل كان سبيلهم إلا القتل قال نعم قال كنت أعرض عليهم الإسلام فإن أبوا أودعتهم السجن ـ وفي الباب ـ عن جابر‏:‏ ـ أن امرأة أم رومان ـ وفي التلخيص أن الصواب أم مروان ارتدت فأمر النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم بأن يعرض عليها الإسلام فإن تابت وإلا قتلت‏.‏ أخرجه الدارقطني والبيهقي من طريقين وزاد في أحدهما فأبت أن تسلم فقتلت قال الحافظ‏:‏ وإسنادهما ضعيفان وأخرج البيهقي من وجه آخر ضعيف عن عائشة أن امرأة ارتدت يوم أحد فأمر النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم أن تستتاب فإن تابت وإلا قتلت‏.‏ وأخرج أبو الشيخ في كتاب الحدود عن جابر أنه صلى اللّه عليه وآله وسلم استتاب رجلًا أربع مرات وفي إسناده العلاء بن هلال وهو متروك عن عبد اللّه بن محمد بن عقيل عن جابر‏.‏ ورواه البيهقي من وجه آخر من حديث عبد اللّه بن وهب عن الثوري عن رجل عن عبد اللّه بن عبيد بن عمير مرسلًا وسمى الرجل نبهان‏.‏

وأخرج الدارقطني والبيهقي أن أبا بكر استتاب امرأة يقال لها أم قرفة كفرت بعد إسلامها فلم تتب فقتلها‏.‏ قال الحافظ‏:‏ وفي السير أن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم قتل أم قرفة يوم قريظة وهي غير تلك‏.‏

وفي الدلائل عن أبي نعيم أن زيد بن ثابت قتل أم قرفة في سريته إلى بني فزازة‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏بزنادقة‏)‏ بزاي ونون قاف جمع زنديق بكسر أوله وسكون ثانيه‏.‏ قال أبو حاتم السجستاني وغيره‏:‏ الزنديق فارسي معرب أصله زنده كرد أي يقول بدوام الدهر لأن زنده الحياة وكرد العمل ويطلق على من يكون دقيق النظر في الأمور وقال ثعلب‏:‏ ليس في كلام العرب زنديق وإنما يقال زندقي لمن يكون شديد التحيل وإذا أرادوا ما تريد العامة قالوا ملحد ودهري بفتح الدال أي يقول بدوام الدهر وإذا قالوها بالضم أرادوا كبر السن وقال الجوهري‏:‏ الزنديق من الثنوية وفسره بعض الشراح بأنه الذي يدعي مع اللّه إلهًا آخر وتعقب بأنه يلزم منه أن يطلق على كل مشرك قال الحافظ‏:‏ والتحقيق ما ذكره من صنف في الملل والنحل أن أصل الزندقة إتباع ديصان ثم ماني ثم مزدك الأول بفتح الدال المهملة وسكون التحتية بعدها صاد مهملة والثاني بتشديد النون وقد تخفف والياء خفيفة والثالث بزاي ساكنة ودال مهملة مفتوحة ثم كاف ـ وحاصل ـ مقالتهم أن النور والظلمة قديمان وأنهما امتزجا فحدث العالم كله منهما فمن كان من أهل الشر فهو من الظلمة ومن كان من أهل الخير فهو من النور وأنه يجب أن يسعى في تخليص النور من الظلمة فيلزم إزهاق كل نفس وكان بهرام جد كسرى تحيل على ماني حتى حضر عنده وأظهر له أنه قبل مقالته ثم قتله وقتل أصحابه وبقيت منهم بقايا اتبعوا مزدك المذكور وقام الإسلام والزنديق يطلق على من يعتقد ذلك وأظهر جماعة منهم الإسلام خشية القتل فهذا أصل الزندقة‏.‏

وأطلق جماعة من الشافعية الزندقة على من يظهر الإسلام ويخفي الكفر مطلقًا وقال النووي في الروضة‏:‏ الزنديق الذي لا ينتحل دينًا‏.‏

وقد اختلف الناس في الذين وقع لهم مع أمير المؤمنين علي رضي اللّه عنه ما وقع وسيأتي‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏لنهي رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم قال لا تعذبوا بعذاب اللّه‏)‏ أي لنهيه عن القتل بالنار بقوله لا تعذبوا بعذاب اللّه وهذا يحتمل أن يكون مما سمعه ابن عباس من النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم ويحتمل أن يكون سمعه من بعض الصحابة‏.‏ وقد أخرج البخاري من حديث أبي هريرة حديثًا وفيه‏:‏ ‏(‏وإن النار لا يعذب بها إلا اللّه‏)‏ ذكره البخاري في الجهاد‏.‏ وأخرج أبو داود من حديث ابن مسعود في قصة بلفظ‏:‏ ‏(‏وإنه لا ينبغي أن يعذب بالنار إلا رب النار‏)‏‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏من بدل دينه فاقتلوه‏)‏ هذا ظاهره العموم في كل من وقع منه التبديل ولكنه عام يخص منه من بدله في الباطن ولم يثبت عليه ذلك في الظاهر فإنه تجري عليه أحكام الظاهر ويستثنى منه من بدل دينه في الظاهر ولكن مع الإكراه هكذا في الفتح قال فيه‏:‏ واستدل به على قتل المرتدة كالمرتد وخصه الحنفية بالذكر وتمسكوا بحديث النهي عن قتل النساء وحمل الجمهور النهي على الكافرة الأصلية إذا لم تباشر القتال لقوله في بعض طرق حديث النهي عن قتل النساء لما رأى امرأة مقتولة ما كانت هذه لتقاتل ثم نهى عن قتل النساء واحتجوا بأن من الشرطية لا تعم المؤنث وتعقب بأن ابن عباس راوي الخبر وقد قال بقتل المرتدة وقتل أبو بكر الصديق في خلافته امرأة ارتدت كما تقدم والصحابة متوافرون فلم ينكر عليه أحد ذلك واستدلوا أيضًا بما وقع في حديث معاذ‏:‏ ‏(‏أن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم لما أرسله إلى اليمن قال له أيما رجل ارتد عن الإسلام فادعه فإن عاد وإلا فاضرب عنقه وأيما امرأة ارتدت عن الإسلام فادعها فإن عادت وإلا فاضرب عنقها‏)‏ قال الحافظ‏:‏ وسنده حسن وهو نص في موضع النزاع فيجب المصير إليه ويؤيده اشتراك الرجال والنساء في الحدود كلها الزنا والسرقة وشرب الخمر والقذف ومن صور الزنا رجم المحصن حتى يموت فإن ذلك مستثنى من النهي عن قتل النساء فيستثنى قتل المرتدة مثله‏.‏

ـ واستدل ـ بالحديث بعض الشافعية على أنه يقتل من انتقل من ملة من ملل الكفر إلى ملة أخرى وأجيب بأن الحديث متروك الظاهر فيمن كان كافرًا ثم أسلم اتفاقًا مع دخوله في عموم الخبر فيكون المراد من بدل دينه الذي هو دين الإسلام لأن الدين في الحقيقة هو دين الإسلام قال اللّه تعالى ‏{‏إن الدين عند اللّه الإسلام‏}‏ ويؤيده أن الكفر ملة واحدة فإذا انتقل الكافر من ملة كفرية إلى أخرى مثلها لم يخرج عن دين الكفر ويؤيده أيضًا قوله تعالى ‏{‏ومن يبتغي غير الإسلام دينًا فلن يقبل منه‏}‏‏.‏

وقد ورد في بعض طرق الحديث ما يدل على ذلك فأخرج الطبراني من وجه آخر عن ابن عباس رفعه‏:‏ ‏(‏من خالف دينه دين الإسلام فاضربوا عنقه‏)‏ واستدل بالحديث المذكور في الباب على أنه يقتل الزنديق من غير استتابة وتعقب بأنه وقع في بعض طرق الحديث أن أمير المؤمنين عليًا رضي اللّه عنه كما في الفتح من طريق عبد اللّه بن شريك العامري عن أبيه قال‏:‏ قيل لعلي إن هنا قومًا على باب المسجد يزعمون أنك ربهم فدعاهم فقال لهم ويلكم ما تقولون قالوا أنت ربنا وخالقنا ورازقنا قال ويلكم إنما أنا عبد مثلكم أكل الطعام كما تأكلون وأشرب كما تشربون إن أطعت اللّه أثابني إن شاء وإن عصيته خشيت أن يعذبني فاتقوا اللّه وارجعوا فأبوا فلما كان الغد غدوا عليه فجاء قنبر فقال‏:‏ قد واللّه رجعوا يقولون ذلك الكلام فقال أدخلهم فقالوا كذلك فلما كان الثالث قال لئن قلتم ذلك لأقتلنكم بأخبث قتلة فأبوا إلا ذلك فأمر علي أن يخد لهم أخدود بين باب المسجد والقصر وأمر بالحطب أن يطرح في الأخدود ويضرم بالنار ثم قال لهم إني طارحكم فيها أو ترجعوا فأبوا أن يرجعوا فقذف بهم حتى إذا احترقوا قال‏:‏

إني إذا رأيت أمرًا منكرًا ** أوقدت ناري ودعوت قنبرا

قال الحافظ‏:‏ إن إسناد هذا صحيح وزعم أبو مظفر الإسفرايني في الملل والنحل أن الذين أحرقهم علي رضي اللّه عنه طائفة من الروافض ادعوا فيه الإلهية وهم السبئية وكان كبيرهم عبد اللّه بن سبأ يهوديًا ثم أظهر الإسلام وابتدع هذه المقالة وأما ما رواه ابن أبي شيبة أنهم أناس كانوا يعبدون الأصنام في السر فسنده منقطع فإن ثبت حمل على قصة أخرى وقد ذهب الشافعي إلى أنه يستتاب الزنديق كما يستتاب غيره‏.‏

وعن أحمد وأبي حنيفة روايتان إحداهما لا يستتاب والأخرى إن تكرر منه لم تقبل توبته وهو قول الليث وإسحاق‏.‏ وحكي عن أبي إسحاق المروزي من أئمة الشافعية قال الحافظ‏:‏ ولا يثبت عنه بل قيل إنه تحريف من إسحاق بن راهويه والأول هو المشهور عن المالكية‏.‏ وحكي عن مالك أنه إن جاء تائبًا قبل وإلا فلا وبه قال أبو يوسف واختاره أبو إسحاق الإسفرايني وأبو منصور البغدادي وعن جماعة من الشافعية إن كان داعية لم يقبل وإلا قبل وحكي في البحر عن العترة وأبي حنيفة والشافعي ومحمد أنها تقبل توبة الزنديق لعموم ‏{‏إن ينتهوا‏}‏‏.‏

وعن مالك وأبي يوسف والجصاص لا تقبل إذ يعرف منهم التظهر تقية بخلاف ما ينطقون به قال المهدي فيرتفع الخلاف حينئذ فيرجع إلى القرائن لكن الأقرب العمل بالظاهر وإن التبس الباطن لقوله صلى اللّه عليه وآله وسلم لمن يستأذنه في قتل منافق‏:‏ ‏(‏أليس يشهد أن لا إله إلا اللّه‏)‏ الخبر ونحوه اهـ‏.‏

قال في الفتح‏:‏ واستدل من منع من قبول توبة الزنديق بقوله تعالى ‏{‏إلا الذين تابوا وأصلحوا‏}‏ فقال‏:‏ الزنديق لا يطلع على إصلاحه لأن الفساد إنما أتى مما أسره فإذا أطلع عليه وأظهر الإقلاع عنه لم يرد على ما كان عليه ولقوله تعالى ‏{‏إن الذين آمنوا ثم كفروا ثم آمنوا ثم كفروا ثم ازدادوا كفرًا لم يكن اللّه ليغفر لهم‏}‏ وأجيب بأن المراد من مات منهم على ذلك كما فسره ابن عباس أخرجه عنه ابن أبي حاتم وغيره‏.‏ واستدل لمن قال بالقبول بقوله تعالى ‏{‏اتخذوا أيمانهم جنة‏}‏ فدل على أن إظهار الإيمان يحصن من القتل قال الحافظ‏:‏ وكلهم أجمعوا على أن أحكام الدنياعلى الظاهر واللّه يتولى السرائر وقد قال صلى اللّه عليه وآله وسلم لأسامة‏:‏ ‏(‏هلا شققت عن قلبه‏)‏ وقال للذي ساره في قتل رجل‏:‏ ‏(‏أليس يصلي قال نعم قال أولئك الذين نهيت عن قتلهم‏)‏ وقال صلى اللّه عليه وآله وسلم لخالد لما استأذنه في قتل الذي أنكر القسمة‏:‏ ‏(‏إني لم أؤمر بأن أنقب عن قلوب الناس‏)‏ وهذه الأحاديث في الصحيح والأحاديث في هذا الباب كثيرة‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏ثم أتبعه‏)‏ بهمزة ثم مثناة ساكنة‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏معاذ بن جبل‏)‏ بالنصب أي بعثه بعده ظاهره أنه ألحقه به بعد أن توجه ووقع في بعض النسخ واتبعه بهمزة وصل وتشديد المثناة ومعاذ بالرفع‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏فلما قدم عليه‏)‏ في البخاري في كتاب المغازي أن كلًا منهما كان على عمل مستقل وأن كلًا منهما كان إذا سار في أرضه بالقرب من صاحبه أحدث به عهدًا وفي أخرى له فجعلا يتزاوران‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وسادة‏)‏ هي ما تجعل تحت رأس النائم كذا قال النووي قال وكان من عادتهم أن من أرادوا إكرامه وضعوا الوسادة تحته مبالغة في إكرامه‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وإذا رجل عنده‏)‏ الخ هي جملة حالية بين الأمر والجواب قال الحافظ‏:‏ ولم أقف على اسمه‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏قضاء اللّه‏)‏ خبر مبتدأ محذوف ويجوز النصب‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏فضرب عنقه‏)‏ في رواية للطبراني فأتى بحطب فألهب فيه النار فكتفه وطرحه فيها ويمكن الجمع بأنه ضرب عنقه ثم ألقاه في النار‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏هل من مغربة خبر‏)‏ بضم الميم وسكون الغين المعجمة وكسر الراء وفتحها مع الإضافة فيهما معناه هل من خبر جديد من بلاد بعيدة قال الرافعي‏:‏ شيوخ الموطأ فتحوا الغين وكسروا الراء وشددوها‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏هلا حبستموه‏)‏ الخ وكذلك قوله في الحديث الأول فدعاه عشرين ليلة الخ استدل بذلك من أوجب الاستتابة للمرتد قبل قتله وقد قدمنا في أول الباب ما في ذلك من الأدلة قال ابن بطال‏:‏ اختلفوا في استتابة المرتد فقيل يستتاب فإن تاب وإلا قتل وهو قول الجمهور وقيل يجب قتله في الحال وإليه ذهب الحسن وطاوس وبه قال أهل الظاهر ونقله ابن المنذر عن معاذ وعبيد بن عمير وعليه يدل تصرف البخاري فإنه استظهر بالآيات التي لا ذكر فيها للاستتابة التي فيها أن التوبة لا تنفع وبعموم قوله ‏(‏من بدل دينه فاقتلوه‏)‏ وبقصة معاذ المذكورة ولم يذكر غير ذلك‏.‏

قال الطحاوي‏:‏ ذهب هؤلاء إلى أن حكم من ارتد عن الإسلام حكم الحربي الذي بلغته الدعوى فإنه يقاتل من قبل أن يدعى قالوا وإنما تشرع الاستتابة لمن خرج عن الإسلام لا عن بصيرة فأما من خرج عن بصيرة فلا ثم نقل عن أبي يوسف موافقتهم لكن إن جاء مبادرًا بالتوبة خلي سبيله ووكل أمره إلى اللّه‏.‏

وعن ابن عباس إن كان أصله مسلمًا لم يستتب وإلا استتيب واستدل ابن القصار لقول الجمهور بالإجماع يعني السكوتي لأن عمر كتب في أمر المرتد هلا حبستموه ثلاثة أيام ثم ذكر الأثر المذكور في الباب ثم قال ولم ينكر ذلك أحد من الصحابة كأنهم فهموا من قوله صلى اللّه عليه وآله وسلم من بدل دينه فاقتلوه أي إن لم يرجع وقد قال تعالى ‏{‏فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم‏}‏‏.‏

واختلف القائلون بالاستتابة هل يكتفي بالمرة أم لا بد من ثلاث وهل الثلاث في مجلس أو في يوم أو في ثلاثة أيام ونقل ابن بطال عن أمير المؤمنين علي رضي اللّه عنه أنه يستتاب شهرًا وعن النخعي يستتاب أبدًا‏.‏

 باب ما يصير به الكافر مسلمًا

1ـ عن ابن مسعود قال‏:‏ ‏(‏إن اللّه عز وجل ابتعث نبيه لإدخال رجل الجنة فدخل الكنيسة فإذا يهود وإذا يهودي يقرأ عليهم التوراة فلما أتوا على صفة النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم أمسكوا وفي ناحيتها رجل مريض فقال النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم‏:‏ ما لكم أمسكتم فقال المريض‏:‏ إنهم أتوا على صفة نبي فأمسكوا ثم جاء المريض يحبو حتى أخذ التوراة فقرأ حتى أتى على صفة النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم وأمته فقال‏:‏ هذه صفتك وصفة أمتك أشهد أن لا اله إلا اللّه وأنك رسول اللّه فقال النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم لأصحابه‏:‏ لوا أخاكم‏)‏‏.‏

رواه أحمد‏.‏

2ـ وعن أبي صخر العقيلي قال‏:‏ ‏(‏حدثني رجل من الأعراب قال‏:‏ جلبت جلوبة إلى المدينة في حياة رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم فلما فرغت من بيعتي قلت لألقين هذا الرجل ولأسمعن منه قال‏:‏ فتلقاني بين أبي بكر وعمر يمشون فتبعتهم في أقفائهم حتى أتوا على رجل من اليهود ناشرًا التوراة يقرؤها يعزي بها نفسه على ابن له في الموت كأحسن الفتيان وأجمله فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم‏:‏ أنشدك بالذي أنزل التوراة هل تجد في كتابك هذا صفتي ومخرجي فقال برأسه هكذا أي لا فقال ابنه أي واللّه الذي أنزل التوراة إنا لنجد في كتابنا صفتك ومخرجك أشهد أن لا إله إلا اللّه وأنك رسول اللّه فقال‏:‏ أقيموا اليهودي عن أخيكم ثم ولى دفنه وجننه والصلاة عليه‏)‏‏.‏

رواه أحمد‏.‏

3ـ وعن أنس‏:‏ ‏(‏أن يهوديًا قال لرسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم‏:‏ أشهد أنك رسول اللّه ثم مات فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم‏:‏ صلوا على صاحبكم‏)‏‏.‏

رواه أحمد في رواية مهنا محتجًا به‏.‏

4ـ وعن ابن عمر قال‏:‏ ‏(‏بعث رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم خالد بن الوليد إلى بني جذيمة فدعاهم إلى الإسلام فلم يحسنوا أن يقولوا أسلمنا فجعلوا يقولون صبأنا صبأنا فجعل خالد يقتل ويأسر ودفع إلى كل رجل منا أسيره حتى إذا أصبح أمر خالد أن يقتل كل رجل منا أسيره فقلت واللّه لا أقتل أسيري ولا يقتل رجل من أصحابي أسيره حتى قدمنا على رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم فقال اللّهم إني أبرأ إليك مما صنع خالد مرتين‏)‏‏.‏

رواه أحمد والبخاري وهو دليل على أن الكناية مع النية كصريح لفظ الإسلام‏.‏

ـ حديث ابن مسعود أخرجه أيضًا الطبراني قال في مجمع الزوائد‏:‏ في إسناده عطاء بن السائب وقد اختلط‏.‏

وحديث أبي صخر العقيلي قال في مجمع الزوائد‏:‏ أبو صخر لم أعرفه وبقية رجاله رجال الصحيح‏.‏ وقال ابن حجر في المنفعة‏:‏ قلت اسمه عبد اللّه بن قدامة وهو مختلف في صحبته وجزم البخاري ومسلم وابن حبان وغيرهم بأن له صحبة ثم ذكر ابن حجر في المنفعة الاضطراب في إسناده‏.‏

وحديث أنس قال في مجمع الزوائد‏:‏ أخرجه أبو يعلى بإسناد رجاله رجال الصحيح والأحاديث المذكورة في الباب بعضها يشهد لبعض وقد ورد في معناها أحاديث‏.‏ منها ما أخرجه في الموطأ عن رجل من الأنصار‏:‏ ‏(‏أنه جاء إلى النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم بجارية له فقال‏:‏ يا رسول اللّه علي رقبة مؤمنة أفأعتق هذه فقال لها رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم‏:‏ أتشهدين أن لا إله إلا اللّه قالت‏:‏ نعم قال‏:‏ أتشهدين أن محمدًا رسول اللّه قالت‏:‏ نعم قال‏:‏ أتؤمنين بالبعث بعد الموت قالت‏:‏ نعم قال‏:‏ أعتقها‏)‏ وأخرج أبو داود والنسائي من حديث الشريد بن سويد الثقفي‏:‏ ‏(‏أن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم قال لجارية‏:‏ من ربك قالت‏:‏ اللّه قال‏:‏ فمن أنا قالت‏:‏ رسول اللّه قال‏:‏ أعتقها فإنها مؤمنة‏)‏ وأخرج مسلم ومالك في الموطأ وأبو داود والنسائي من حديث معاوية بن الحكم السلمي‏:‏ ‏(‏أن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم قال لجارية أراد معاوية بن الحكم أن يعتقها عن كفارة‏:‏ أين اللّه فقالت‏:‏ في السماء فقال‏:‏ من أنا قالت‏:‏ أنت رسول اللّه فقال‏:‏ أعتقها‏)‏ وأخرج نحوه أبو داود من حديث أبي هريرة ومثل ذلك أحاديث ‏(‏أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا اللّه‏)‏ كما في الأمهات عن جماعة من الصحابة‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏ابتعث اللّه نبيه‏)‏ أي بعثه اللّه من بيته ليحصل بذلك إدخال رجل الجنة وهو الرجل المريض في الكنيسة فإن دخوله صلى اللّه عليه وآله وسلم إليها كان سبب إسلامه الذي صار سببًا في دخوله الجنة‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏لوا أخاكم‏)‏ فيه الأمر لمن كان من المسلمين في حضرته صلى اللّه عليه وآله وسلم بأن يلوا أمر ذلك الرجل المريض لأنه قد صار بسبب تكلمه بالشهادتين أخا لهم‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وجننه‏)‏ الجنن بالجيم ونونين القبر ذكره في النهاية‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏صبأنا صبأنا‏)‏ أي دخلنا في دين الصابئة وكان أهل الجاهلية يسمون من أسلم صابئًا وكأنهم قالوا أسلمنا أسلمنا والصابئ في الأصل الخارج من دين إلى دين قال في القاموس‏:‏ صبأ كمنع وكرم صبأ وصبوأ خرج من دين إلى دين اهـ‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏مما صنع خالد‏)‏ تبرأ صلى اللّه عليه وآله وسلم من صنع خالد ولم يتبرأ منه وهكذا ينبغي أن يقال لمن فعل ما يخالف الشرع ولا سيما إذا كان خطأ وقد استدل المصنف بأحاديث الباب على أنه يصير الكافر مسلمًا بالتكلم بالشهادتين ولو كان ذلك على طريق الكناية بدون تصريح كما وقع في الحديث الآخر‏.‏

وقد وردت أحاديث صحيحة قاضية بأن الإسلام مجموع خصال‏.‏ أحدها التلفظ بالشهادتين منها حديث ابن عمر عند مسلم وأبي داود والترمذي والنسائي قال حدثني عمر بن الخطاب قال‏:‏ ‏(‏بينما نحن جلوس عند رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم ذات يوم إذ طلع عليه رجل شديد بياض الثياب شديد سواد الشعر‏)‏ وفيه‏:‏ ‏(‏فقال‏:‏ يا محمد أخبرني عن الإسلام فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم الإسلام أن تشهد أن لا إله إلا اللّه وأن محمدًا رسول اللّه وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة وتصوم رمضان وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلًا‏)‏ ومنها ما أخرجه الشيخان وأبو داود والنسائي من حديث أبي هريرة وفيه‏:‏ ‏(‏أن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم قال‏:‏ الإسلام أن تعبد اللّه لا تشرك به شيئًا وتقيم الصلاة المكتوبة وتؤدي الزكاة المفروضة وتصوم رمضان‏)‏ ومنها ما أخرجه الشيخان والترمذي والنسائي من حديث ابن عمر قال‏:‏ ‏(‏قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم‏:‏ بني الإسلام على خمس شهادة أن لا إله إلا اللّه وأن محمدًا عبده ورسوله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وحج البيت وصوم رمضان‏)‏ ومنها ما أخرجه الشيخان ومالك في الموطأ وأبو داود والنسائي من حديث طلحة ابن عبد اللّه‏:‏ ‏(‏أنه جاء إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم رجل فسأله عن الإسلام فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم‏:‏ خمس صلوات في اليوم والليلة وصيام رمضان‏)‏ وذكر له الزكاة‏.‏ وأخرج النسائي عن بهز بن حكيم‏:‏ ‏(‏أن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم سئل عن آيات الإسلام فقال أن تقول أسلمت وجهي وتخليت وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة‏)‏ وأخرج النسائي عن أنس بن مالك قال‏:‏ ‏(‏قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم‏:‏ المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده والمؤمن من أمنه الناس على دمائهم وأموالهم‏)‏ وأخرج الشيخان وأبو داود والنسائي من حديث عمرو بن العاص‏:‏ ‏(‏أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم قال‏:‏ المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده‏)‏ وأخرج مسلم من حديث جابر والبخاري ومسلم والترمذي والنسائي من حديث أبي موسى نحو ذلك‏.‏ وأخرج الشيخان من حديث عبد اللّه بن عمر قال‏:‏ ‏(‏قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم‏:‏ أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا اللّه وأن محمدًا رسول اللّه ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دمائهم إلا بحق الإسلام وحسابهم على اللّه تعالى‏)‏ وأخرج البخاري والترمذي وأبو داود والنسائي من حديث أنس‏:‏ ‏(‏أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم قال‏:‏ أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا اللّه وأن محمدًا رسول اللّه فإذا شهدوا أن لا إله إلا اللّه وأن محمدًا رسول اللّه واستقبلوا قبلتنا وأكلوا ذبيحتنا وصلوا صلاتنا حرمت علينا دماؤهم وأموالهم إلا بحقها‏)‏ ولفظ البخاري‏:‏ ‏(‏من شهد أن لا إله إلا اللّه واستقبل قبلتنا وصلى صلاتنا وأكل ذبيحتنا فهو المسلم له ما للمسلم وعليه ما على المسلم‏)‏‏.‏

فهذه الأحاديث ونحوها تدل على أن الرجل لا يكون مسلمًا إلا إذا فعل جميع الأمور المذكورة فيها‏.‏ والأحاديث الأولى تدل على أن الإنسان يصير مسلمًا بمجرد النطق بالشهادتين‏.‏ قال الحافظ في الفتح عند الكلام على حديث‏:‏ ‏(‏أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا اللّه‏)‏ في باب قتل من أبى من قبول الفرائض من كتاب استتابة المرتدين والمعاندين ما لفظه‏:‏ وفيه منع قتل من قال لا إله إلا اللّه ولو لم يزد عليها وهو كذلك لكن هل يصير بمجرد ذلك مسلمًا الراجح لا بل يجب الكف عن قتله حتى يختبر فإن شهد بالرسالة والتزم أحكام الإسلام حكم بإسلامه وإلى ذلك الإشارة بالاستثناء بقوله إلا بحق الإسلام‏.‏

قال البغوي‏:‏ الكافر إذا كان وثنيًا أو ثنويًا لا يقر بالوحدانية فإذا قال لا إله إلا اللّه حكم بإسلامه ثم يجبر على قبول جميع الأحكام ويبرأ من كل دين خالف الإسلام وأما من كان مقرًا بالوحدانية منكرًا للنبوة فإنه لا يحكم بإسلامه حتى يقول محمد رسول اللّه فإن كان يعتقد أن الرسالة المحمدية إلى العرب خاصة فلا بد أن يقول إلى جميع الخلق فإن كان كفره بجحود واجب أو استباحة محرم فيحتاج إلى أن يرجع عن اعتقاده‏.‏

قال الحافظ‏:‏ ومقتضى قوله يجبر أنه إذا لم يلتزم يجري عليه حكم المرتد وبه صرح القفال واستدل بحديث الباب وادعى أنه لم يرد في خبر من الأخبار أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا اللّه وأن محمدًا رسول اللّه وهي غفلة عظيمة فإن ذلك ثابت في الصحيحين في كتاب الإيمان منهما كما قدمنا الإشارة إلى ذلك انتهى‏.‏

 باب صحة الإسلام مع الشرط الفاسد

1ـ عن نصر بن عاصم الليثي عن رجل منهم‏:‏ ‏(‏أنه أتى النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم فأسلم على أن يصلي صلاتين فقبل منه‏)‏‏.‏

رواه أحمد‏.‏

وفي لفظ آخر له‏:‏ ‏(‏على أن لا يصلي إلا صلاة فقبل منه‏)‏‏.‏

2ـ وعن وهب قال‏:‏ ‏(‏سألت جابرًا عن شأن ثقيف إذا بايعت فقال اشترطت على النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم أن لا صدقة عليها ولا جهاد وأنه سمع النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم بعد ذلك يقول سيتصدقون ويجاهدون‏)‏‏.‏

رواه أبو داود‏.‏

3ـ وعن أنس‏:‏ ‏(‏أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم قال لرجل أسلم قال‏:‏ أجدني كارهًا قال‏:‏ أسلم وإن كنت كارهًا‏)‏‏.‏ رواه أحمد‏.‏

ـ هذه الأحاديث فيها دليل على أنه يجوز مبايعة الكافر وقبول الإسلام منه وإن شرط شرطًا باطلًا وأنه يصح إسلام من كان كارهًا‏.‏ وقد سكت أبو داود والمنذري عن حديث وهب المذكور وهو وهب بن منبه وإسناده لا بأس به وأخرج أبو داود أيضًا من حديث الحسن البصري عن عثمان بن أبي العاص أن وفد ثقيف لما قدموا على رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم أنزلهم المسجد ليكون أرق لقلوبهم فاشترطوا عليه أن لا يحشروا ولا يعشروا ولا يجبوا فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم‏:‏ لكم أن لا تحشروا ولا تعشروا ولا خير في دين ليس فيه ركوع‏.‏ قال المنذري‏:‏ قد قيل إن الحسن البصري لم يسمع من عثمان بن أبي العاص والمراد بالحشر جمعهم إلى الجهاد والنفير إليه وبقوله يعشروا أخذ العشور من أموالهم صدقة وبقوله ولا يجبوا بفتح الجيم وضم الباء الموحدة المشددة وأصل التجبية أن يقوم الإنسان مقام الراكع وأردوا أنهم لا يصلون‏.‏

قال الخطابي‏:‏ ويشبه أن يكون إنما سمح لهم بالجهاد والصدقة لأنهما لم يكونا بعد واجبتين في العاجل لأن الصدقة إنما تجب بانقطاع الحول والجهاد إنما يجب بحضوره وأما الصلاة فهي راتبة فلم يجز أن يشترطوا تركها انتهى‏.‏ ويعكر على ذلك حديث نصر بن عاصم المذكور في الباب فإن فيه أن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم قبل من الرجل أن يصلي صلاتين فقط أو صلاة واحدة على اختلاف الروايتين ويبقى الإشكال في قوله في الحديث الذي ذكرناه‏:‏ ‏(‏لا خير في دين ليس فيه ركوع‏)‏ فإن ظاهره يدل على أنه لا خير في إسلام من أسلم بشرط أن لا يصلي ويمكن أن يقال إن نفي الخيرية لا يستلزم عدم جواز قبول من أسلم بشرط أن لا يصلي وعدم قبوله صلى اللّه عليه وآله وسلم لذلك الشرط من ثقيف لا يستلزم عدم جواز القبول مطلقًا

 باب تبع الطفل لأبويه في الكفر ولمن أسلم منهما في الإسلام وصحة إسلام المميز

1ـ عن أبي هريرة‏:‏ ‏(‏أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم قال‏:‏ ما من مولود إلا يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه كما تنتج البهيمة جمعاء هل تحسون فيها من جدعاء ثم يقول أبو هريرة فطرة اللّه التي فطر اللّه عليها‏)‏ الآية‏.‏

متفق عليه‏.‏

وفي رواية متفق عليها أيضًا قالوا‏:‏ ‏(‏يا رسول اللّه أفرأيت من يموت منهم وهو صغير قال اللّه أعلم مما كانوا عاملين‏)‏‏.‏

2ـ وعن ابن مسعود‏:‏ ‏(‏أن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم لما أراد قتل عقبة بن أبي معيض قال من للصبية قال النار‏)‏‏.‏

رواه أبو داود والدارقطني في الأفراد وقال فيه‏:‏ ‏(‏النار لهم ولأبيهم‏)‏‏.‏

3ـ وعن أنس قال‏:‏ ‏(‏قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم‏:‏ ما من الناس مسلم يموت له ثلاثة من الولد لم يبلغوا الحنث إلا أدخله اللّه الجنة بفضل رحمته إياهم‏)‏‏.‏

رواه البخاري وأحمد وقال فيه‏:‏ ‏(‏ما من رجل مسلم‏)‏ وهو عام فيما إذا كانوا من مسلمة أو كافرة قال البخاري‏:‏ فكان ابن عباس مع أنه من المستضعفين ولم يكن مع أبيه على دين قومه‏.‏

ـ حديث ابن مسعود سكت عنه أبو داود والمنذري ورجال إسناده ثقات إلا علي بن الحسين الرقي وهو صدوق كما قال في التقريب وأخرج نحوه البيهقي من طريق محمد بن يحيى بن سهل بن أبي خيثمة عن أبيه عن جده أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم لما أقبل بالأسارى فكان بعرق الظبية أمر عاصم بن ثابت فضرب عنق عقبة بن أبي معيد صبرًا فقال من للصبية يا محمد قال النار لهم ولأبيهم‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏على الفطرة‏)‏ للفطرة معان منها الخلقة ومنها الدين قال في القاموس‏:‏ والفطرة صدقة الفطر والخلقة التي خلق عليها المولود في رحم أمه والدين انتهى‏.‏ والمناسب ههنا هو المعنى الآخر أعني الدين أي كل مولود يولد على الدين الحق فإذا لزم غيره فذلك لأجل ما يعرض له بعد الولادة من التغييرات من جهة أبويه أو سائر من يربيه‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏جمعاء‏)‏ بفتح الجيم وسكون الميم بعدها عين مهملة قال في القاموس‏:‏ والجمعاء الناقة المهزولة ومن البهائم التي لم يذهب من بدنها شيء‏.‏ والمراد ههنا المعنى الآخر لقوله هل تحسون فيها من جدعاء والجدع قطع الأنف أو الأذن أو اليد أو الشفة كما في القاموس قال‏:‏ والجدعة محركة ما بقي بعد القطع انتهى‏.‏

والمعنى أن البهائم كما أنها تولد سليمة من الجدع كاملة الخلقة وإنما يحدث لها نقصان الخلقة بعد الولادة بالجدع ونحوه كذلك أولاد الكفار يولدون على الدين الحق الكامل وما يعرض لهم من التلبس بالأديان المخالفة له فإنما هو حادث له بعد الولادة بسبب الأبوين ومن يقوم مقامهما‏.‏ وحديث أبي هريرة فيه دليل على أن أولاد الكفار يحكم لهم عند الولادة بالإسلام وأنه إذا وجد الصبي في دار الإسلام دون أبويه كان مسلمًا لأنه إنما صار يهوديًا أو نصرانيًا أو مجوسيًا بسبب أبويه فإذا عدما فهو باق على ما ولد عليه وهو الإسلام‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏اللّه أعلم بما كانوا عاملين‏)‏ فيه دليل على أن أحكام أولاد الكفار عند اللّه إذا ماتوا صغارًا غير متعينة بل منوطة بعمله الذي كان يعمله لو عاش‏.‏

وفي حديث ابن مسعود المذكور دليل على أنهم من أهل النار لقوله فيه النار لهم ولأبيهم ويشكل ذلك على مذهب العدلية لعدم وقوع موجب التعذيب منهم‏.‏

ـ والحاصل ـ أن مسألة أطفال الكفار باعتبار أمر الآخرة من المعارك الشديدة لاختلاف الأحاديث فيها ولها ذيول مطولة لا يتسع لها المقام وفي الوقف عن الجزم بأحد الأمرين سلامة من الوقوع في مضيق لم تدع إليه حاجة ولا ألجأت إليه ضرورة وأما باعتبار أحكام الدنيا فقد ثبت في صحيح البخاري في باب أهل الدار من كتاب الجهاد أن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم سئل عن أولاد المشركين هو يقتلون مع آبائهم فقال هم منهم‏.‏

قال في الفتح‏:‏ أي في الحكم في تلك الحالة وليس المراد إباحة قتلهم بطريق القصد إليهم بل المراد إذا لم يمكن الوصول إلى الآباء إلا بوطء الذرية فإذا أصيبوا لاختلاطهم بهم جاز قتلهم انتهى‏.‏

وأخرج أبو داود أن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم لما بعث إلى ابن أبي الحقيق نهى عن قتل النساء والصبيان ويحمل هذا على أنه لا يجوز قتلهم بطريق القصد‏.‏

وأخرج الطبراني في الأوسط من حديث ابن عمر قال‏:‏ لما دخل رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم مكة أتي بامرأة مقتولة فقال‏:‏ ما كانت هذه تقاتل ونهى عن قتل النساءوالصبيان‏.‏

وأخرج نحوه أبو داود في المراسيل من حديث عكرمة وقد ذهب مالك والأوزاعي إلى أنه لا يجوز قتل النساء والصبيان بحال حتى لو تترس أهل الحرب بالنساء والصبيان لم يجز رميهم ولا تحريقهم‏.‏ وذهب الشافعي والكوفيون وغيرهم إلى الجمع بما تقدم وقالوا إذا قاتلت المرأة جاز قتلها ويؤيد ذلك ما أخرجه أبو داود والنسائي وأبو حبان من حديث رباح بن الربيع التميمي قال كنا مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم في غزوة فرأى الناس مجتمعين فرأى امرأة مقتولة فقال‏:‏ ما كانت هذه لتقاتل‏.‏ فإن مفهومه أنها لو قاتلت لقتلت وقد نقل ابن بطال وغيره الاتفاق على منع القصد إلى قتل النساء والولدان‏.‏ وأما حديث أنس المذكور في الباب فمحله كتاب الجنائز وإنما ذكره المصنف ههنا للاستدلال به على أن الولد يكون مسلمًا بإسلام أحد أبويه لما في قوله‏:‏ ‏(‏ما من الناس مسلم يموت له ثلاثة من الولد‏)‏ فإنه يقتضي أن من كان له ذلك المقدار من الأولاد دخل الجنة وإن كانوا من امرأة غير مسلمة ونفعهم لأبيهم في ذلك الأمر إنما يصح بعد الحكم بإسلامهم لأجل إسلام أبيهم‏.‏

4ـ وعن جابر قال‏:‏ ‏(‏قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم كل مولود يولد على الفطرة حتى يعرب عنه لسانه فإذا أعرب عنه لسانه فإما شاكرا وإما كفورًا‏)‏‏.‏

رواه أحمد‏.‏

5ـ وقد صح عنه صلى اللّه عليه وآله وسلم أنه عرض الإسلام على ابن صياد صغيرًا فروى ابن عمر‏:‏ ‏(‏أن عمر بن الخطاب انطلق مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم في رهط من أصحابه قبل ابن صياد حتى وجده يلعب مع الصبيان عند أطم بني مغالة وقد قارب ابن صياد يومئذ الحلم فلم يشعر حتى ضرب رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم ظهره بيده ثم قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم لابن صياد‏:‏ أتشهد أني رسول اللّه فنظر إليه ابن صياد فقال‏:‏ أشهد أنك رسول الأميين فقال ابن صياد لرسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم‏:‏ أتشهد أني رسول اللّه فرفضه رسول اللّه وقال‏:‏ آمنت باللّه وبرسله‏)‏ وذكر الحديث‏.‏

متفق عليه‏.‏

6ـ وعن عروة قال‏:‏ ‏(‏أسلم علي وهو ابن ثمان سنين‏)‏‏.‏

أخرجه البخاري في تاريخه‏.‏

وأخرج أيضًا عن جعفر بن محمد عن أبيه قال‏:‏ قتل علي رضي اللّه عنه وهو ابن ثمان وخمسين سنة قلت وهذا يبين إسلامه لأنه أسلم في أوائل المبعث‏)‏‏.‏

7ـ وروي عن ابن عباس قال‏:‏ ‏(‏كان علي رضي اللّه عنه أول من أسلم من الناس بعد خديجة‏)‏‏.‏ رواه أحمد‏.‏

وفي لفظ‏:‏ ‏(‏أول من صلى علي رضي اللّه عنه‏)‏ رواه الترمذي‏.‏

8ـ عن عمرو بن مرة عن أبي حمزة عن رجل من الأنصار قال‏:‏ ‏(‏سمعت زيد بن أرقم يقول‏:‏ أول من أسلم علي رضي اللّه عنه قال عمرو بن مرة فذكرت ذلك لإبراهيم النخعي قال‏:‏ أول من أسلم أبو بكر الصديق‏)‏‏.‏ رواه أحمد والترمذي وصححه‏.‏

وقد صح أن من مبعث النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم إلى وفاته نحو ثلاث وعشرين سنة وأن عليًا رضي اللّه عنه عاش بعده نحو ثلاثين سنة فيكون قد عمر بعد إسلامه فوق الخمسين وقد مات ولم يبلغ الستين فعلم أنه أسلم صغيرًا‏.‏

ـ حديث جابر أصله في الصحيحين وحديث ابن عمر الذي ذكره المصنف في شأن ابن صياد لم يذكر من أخرجه ولم تجري له عادة بذلك وهو في الصحيحين وسنن أبي داود والترمذي والموطأ وفي بعض النسخ قال متفق عليه ‏(‏ثم قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم‏:‏ ماذا ترى قال‏:‏ يأتيني صادق وكاذب فقال صلى اللّه عليه وآله وسلم‏:‏ خلط عليك الأمر ثم قال له صلى اللّه عليه وآله وسلم‏:‏ إني قد خبأت لك خبيئًا فقال ابن صياد‏:‏ هو الدخ فقال صلى اللّه عليه وآله وسلم‏:‏ اخسأ فلن تعدو قدرك فقال عمر‏:‏ ذرني يا رسول اللّه أضرب عنقه فقال صلى اللّه عليه وآله وسلم‏:‏ إن يكن هو فلن تسلط عليه وإن لم يكن هو فلا خير لك في قتله‏)‏ زاد الترمذي بعد قوله‏:‏ ‏(‏خبأت لك خبيئًا وخبأ له يوم تأتي السماء بدخان مبين‏)‏‏.‏وحديث عروة مرسل وكذلك حديث جعفر بن محمد عن أبيه‏.‏

وحديث ابن عباس قال الترمذي بعد إخراجه هذا حديث غريب من هذا الوجه لا نعرفه من حديث شعبة عن أبي بلج إلا من حديث محمد بن حميد وأبو بلج اسمه يحيى بن أبي سليم‏.‏ وقال بعض أهل العلم‏:‏ أول من أسلم من الرجال أبو بكر وأسلم علي وهو غلام ابن ثمان سنين وأول من أسلم من النساء خديجة انتهى‏.‏

وحديث زيد بن أرقم قال الترمذي بعد إخراجه هذا حديث حسن صحيح انتهى‏.‏

وفي إسناده ذلك الرجل المجهول ولم يقع التصريح بأنه من الصحابة حتى تغتفر جهالته كما قررنا ذلك غير مرة بل روايته بواسطة تدل على أنه ليس من الصحابة فلا يكون حديثه حينئذ صحيحًا ولا حسنًا‏.‏ وأما قول إبراهيم النخعي فهو مرسل فلا يصلح لمعارضة زيد بن أرقم وابن عباس‏.‏

وقد أخرج الترمذي أيضًا عن أنس بن مالك قال‏:‏ بعث النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم يوم الاثنين وصلى علي رضي اللّه عنه يوم الثلاثاء قال الترمذي هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من حديث مسلم الأعور ومسلم الأعور ليس عندهم بذاك القوي‏.‏ وقد روي هذا عن مسلم عن حية عن علي نحو هذا اهـ والأولى الجمع بين ما ورد مما يقتضي أن عليًا أول الناس إسلاما وأن أبا بكر أولهم إسلامًا بأن يقال علي كان أول من أسلم من الصبيان وأبو بكر أول من أسلم من الرجال وخديجة أول من أسلم من النساء‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏حتى يعرب عن لسانه‏)‏ فيه دليل على أنه لا يحكم للصبي ما دام غير مميز إلا بدين الإسلام فإذا أعرب عنه لسانه بعد تمييزه حكم عليه بالملة التي يختارها‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏قبل ابن صياد‏)‏ بكسر القاف وفتح الموحدة أي جهته‏.‏ وابن صياد اسمه صاف وأصله من اليهود وقد اختلف الناس في أمر ابن صياد اختلافًا شديدًا وأشكل أمره حتى قيل فيه كل قول‏.‏ وظاهر الحديث المذكور أن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم كان مترددًا في كونه هو الدجال أم لا ومما يدل على أنه هو الدجال ما أخرجه الشيخان وأبو داود عن محمد بن المنكدر قال كان جابر بن عبد اللّه يحلف للّه أن ابن صياد الدجال فقلت أتحلف باللّه فقال إني سمعت عمر بن الخطاب يحلف على ذلك عند رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم فلا ينكره وقد أجيب عن التردد منه صلى اللّه عليه وآله وسلم بجوابين الأول أنه تردد صلى اللّه عليه وآله وسلم قبل أن يعلمه اللّه بأنه هو الدجال فلما أعلمه لم ينكر على عمر حلفه والثاني أن العرب قد تخرج الكلام مخرج الشك وإن لم يكن في الخبر شك ومما يدل على أنه هو الدجال ما أخرجه عبد الرزاق بإسناد صحيح عن ابن عمر قال‏:‏ ‏(‏لقيت ابن صياد يومًا ومعه رجل من اليهود فإذا عينه قد طفت وهي خارجة مثل عين الحمار فلما رأيتها قلت أنشدك اللّه يا ابن صياد متى طفت عينك قال‏:‏ لا أدري والرحمن قلت‏:‏ كذبت وهي في رأسك قال‏:‏ فمسحها ونخر ثلاثًا فزعم اليهودي أني ضربت بيدي صدره وقلت اخسأ فلم تعدو قدرك فذكرت ذلك لحفصة فقالت حفصة‏:‏ اجتنب هذا الرجل فإنا نتحدث أن الدجال يخرج عند غضبة يغضبها‏)‏ وأخرج مسلم هذا الحديث بمعناه من وجه آخر عن ابن عمر ولفظه‏:‏ ‏(‏لقيته مرتين فذكر الأولى ثم قال ثم لقيته لقية أخرى وقد نفرت عينه فقلت متى فعلت عينك ما أرى فقال لا أدري فقلت لا تدري وهي في رأسك قال إن شاء اللّه فعلها في عصاك هذه ونخر كأشد نخير حمار سمعت فزعم أصحابي أني ضربته بعصا كانت معي حتى تكسرت وأنا واللّه ما شعرت قال وجاء حتى دخل على حفصة فحدثها فقالت ما تريد إليه ألم تسمع أنه قد قال صلى اللّه عليه وآله وسلم‏:‏ أول ما يبعثه على الناس غضب يغضبه‏)‏ ثم قال ابن بطال‏:‏ فإن قيل هذا أيضًا يدل على التردد في أمره فالجواب أنه قد وقع الشك في أنه الدجال الذي يقتله عيسى بن مريم ولم يقع الشك في أنه أحد الدجالين الكذابين الذين أنذر بهم النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم في قوله‏:‏ ‏(‏إن بين يدي الساعة دجالين كذابين‏)‏ وهو في الصحيحين وتعقبه الحافظ بأن الظاهر أن حفصة وابن عمر أرادا الدجال الأكبر واللام في القصة الواردة عنهما للعهد لا للجنس وكذلك حلف عمر وجابر السابق على أن ابن الصياد هو الدجال‏.‏

وقد أخرج أبو داود بسند صحيح أن ابن عمر كان يقول واللّه لا أشك أن المسيح الدجال هو ابن صياد‏.‏

وأخرج مسلم عن أبي سعيد قال‏:‏ صحبني ابن صياد إلى مكة فقال‏:‏ ماذا لقيت من الناس يزعمون أني الدجال ألست سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم يقول‏:‏ إنه لا يولد له قلت‏:‏ بلى قال‏:‏ فإنه قد ولد لي قال‏:‏ أولست سمعته يقول لا يدخل المدينة ولا مكة قلت‏:‏ بلى قال‏:‏ فقد ولدت في المدينة وأنا أريد مكة‏.‏ وأخرج مسلم أيضًا عن أبي سعيد أنه قال له ابن صياد هذا عذرت الناس ما لي وأنتم يا أصحاب رسول اللّه ألم يقل نبي اللّه أن الدجال يهودي وقد أسلمت فذكر نحو الأول‏.‏ وفي مسلم أيضًا عن أبي سعيد أنه قال له ابن صياد‏:‏ لقد هممت أن آخذ حبلًا فأعلقه بشجرة ثم أختنق به مما يقول الناس يا أبا سعيد من خفي عليه حديث رسول اللّه ما خفي عليكم يا معشر الأنصار ثم ذكر نحو ما تقدم وزاد قال أبو سعيد حتى كدت أعذره‏.‏ وفي آخر كل من الطرق أنه قال إني لأعرفه وأعرف مولده وأين هو الآن قال أبو سعيد فقلت له تبًا لك سائر اليوم‏.‏

وأجاب البيهقي بأن سكوت النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم على حلف عمر يحتمل أن يكون النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم كان متوقفًا في أمره ثم جاءه التثبت من اللّه تعالى بأنه غيره على ما تقتضيه قصة تميم الداري وبه تمسك من جزم بأن الدجال غير ابن صياد وطريقه أصح وتكون الصفة التي في ابن صياد وافقت ما في الدجال وقد أخرج قصة تميم مسلم من حديث فاطمة بنت قيس قال البيهقي‏:‏ وفيها أن الدجال الأكبر الذي يخرج في آخر الزمان غير ابن صياد وكان ابن صياد أحد الدجالين الكذابين الذين أخبر النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم بخروجهم وقد خرج أكثرهم وكان الذين يجزمون بأن ابن صياد هو الدجال لم يسمعوا قصة تميم وقد خطب بها النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم وذكر أن تميمًا أخبره أنه لقي هو وجماعة معه في دير في جزيرة لعب بهم الموج شهرًا حتى وصلوا إليها رجلًا كأعظم إنسان رأوه قط خلقًا وأشده وثاقًا مجموعة يداه إلى عنقه بالحديد فقالوا له ويلك ما أنت فذكر الحديث وفيه أنه سألهم عن نبي الأميين هل بعث وأنه قال إن تطيعوه فهو خير لكم وفيه أنه قال إني مخبركم عني أنا المسيح الدجال وإني أوشك أن يؤذن لي بالخروج فأخرج فأسير في الأرض فلا أدع قرية إلا هبطتها في أربعين ليلة غير مكة وطيبة‏.‏

وفي بعض طرقه أنه شيخ قال الحافظ‏:‏ وسندها صحيح‏.‏ وهذا الحديث ينافي ما استدل به على أن ابن صياد هو الدجال ولا يمكن الجمع أصلًا إذ لا يلتئم أن يكون من كان في الحياة النبوية شبه المحتلم ويجتمع به النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم ويسأله أن يكون شيخًا في آخرها مسجونًا في جزيرة من جزائر البحر موثوقًا بالحديد يستفهم عن خبر النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم هل خرج أم لا فينبغي أن يحمل حلف عمر وجابر على أنه وقع قبل علمهما بقصة تميم قال ابن دقيق العيد في أوائل شرح الإلمام ما ملخصه‏:‏ إذا أخبر شخص بحضرة النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم عن أمر ليس فيه حكم شرعي فهل يكون سكوته صلى اللّه عليه وآله وسلم دليلًا على مطابقته ما في الواقع كما وقع لعمر في حلفه على ابن صياد أنه الدجال كما فهمه جابر حتى صار يحلف عليه ويستند إلى حلف عمر أو لا يدل فيه نظر قال‏:‏ والأقرب عندي أنه لا يدل لأن مأخذ المسألة ومناطها هو العصمة من التقرير على باطل وذلك يتوقف على تحقق البطلان ولا يكفي فيه عدم تحقق الصحة قال الخطابي‏:‏ اختلف السلف في أمر ابن صياد بعد كبره فروى أن تاب من ذلك القول ومات بالمدينة وأنهم لما أرادوا الصلاة عليه كشفوا وجهه حتى يراه الناس وقيل لهم اشهدوا‏.‏

وقال النووي‏:‏ قال العلماء قصة ابن صياد مشكلة وأمره مشتبه ولكن لا شك أنه دجال من الدجاجلة والظاهر أن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم لم يوح إليه في أمره بشيء وإنما أوحي إليه بصفات الدجال وكان في ابن صياد قرائن محتملة فلذلك كان صلى اللّه عليه وآله وسلم لا يقطع في أمره بشيء انتهى‏.‏

وقد أخرج أبو نعيم الأصبهاني في تاريخ أصبهان ما يؤيد كون ابن صياد هو الدجال عن حسان بن عبد الرحمن عن أبيه قال‏:‏ لما افتتحنا أصبهان كان بين عسكرنا وبين اليهود فرسخ فكنا نأتيها فنمتار منها فأتينا يومًا فإذا اليهود يزفنون فسألت صديقًا لي منهم فقال هذا ملكنا الذي استفتح به العرب فدخلت فبت على سطح فصليت الغداة فلما طلعت الشمس إذ الوهج من قبل العسكر فنظرت فإذا هو ابن صياد فدخل المدينة فلم يعد حتى الساعة‏.‏

قال الحافظ في الفتح بعد أن ساق هذه القصة‏:‏ وعبد الرحمن بن حسان ما عرفته والباقون ثقات وقد أخرج أبو داود بسند صحيح عن جابر قال فقدنا ابن صياد يوم الحرة وفتح أصبهان كان في خلافة عمر كما أخرجه أبو نعيم في تاريخها وقد أخرج الطبراني في الأوسط من حديث فاطمة بنت قيس مرفوعًا أن الدجال يخرج من أصبهان وأخرجه أيضًا من حديث عمران بن حصين وأخرجه أيضًا بسند صحيح كما قال الحافظ من حديث أنس لكن عنده من يهودية أصبهان قال أبو نعيم‏:‏ وإنما سميت يهودية أصبهان لأنها كانت تختص بسكنى اليهود قال الحافظ في الفتح‏:‏ وأقرب ما يجمع بين ما تضمنه حديث تميم وكون ابن صياد هو الدجال أن الدجال بعينه هو الذي شاهده تميم موثقًا وأن ابن صياد هو سلطان تبدى في صورة الدجال في تلك المدة إلى أن توجه إلى أصبهان فاستتر مع قرينه إلى أن تجيء المدة التي قدر اللّه تعالى خروجه فيها‏.‏ وقصة تميم السابقة قد توهم بعضهم من عدم إخراج البخاري لها أنها غريبة وهو وهم فاسد وهي ثابتة عند أبي داود من حديث أبي هريرة وعند ابن ماجه عن فاطمة بنت قيس‏.‏

وأخرجها أبو يعلى عن أبي هريرة من وجه آخر‏.‏ وأخرجها أبو داود بسند حسن من حديث جابر وغير ذلك وفي هذا المقدار كفاية وإنما تكلمنا عن قصة ابن صياد مع كون المقام ليس مقام الكلام عليها لأنها من المشكلات المعضلات التي لا يزال أهل العلم يسألون عنها فأردنا أن نذكر ههنا ما فيه تحليل ذلك الإشكال وحسم مادة ذلك الإعضال‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏عند أطم‏)‏ بضم الهمزة والطاء المهملة وهو البناء المرتفع‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏أتشهد أني رسول اللّه‏)‏ استدل به المصنف رحمه اللّه تعالى على صحة إسلام المميز كما ذكر ذلك في ترجمة الباب وكذلك يدل على ذلك بقية الأحاديث المذكورة في الباب في إسلام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب وقد اختلف في مقدار سنه عند الموت على أقوال مذكورة في كتب التاريخ‏.‏