فصل: كتاب النذر

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: نيل الأوطار شرح منتقى الأخبار **


 باب الأمر بإبرار القسم والرخصة في تركه للعذر

1 - عن البراء بن عازب قال‏:‏ ‏(‏أمرنا رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم بسبع أمرنا بعيادة المريض وإتباع الجنائز وتشميت العاطس وإبرار القسم أو المقسم ونصر المظلوم وإجابة الداعي وإفشاء السلام‏)‏‏.‏

2 - وعن ابن عباس في حديث رؤيا قصها أبو بكر‏:‏ ‏(‏أن أبا بكر قال‏:‏ أخبرني يا رسول اللّه بأبي أنت وأمي أصبت أم أخطأت فقال‏:‏ أصبت بعضًا وأخطأت بعضًا قال‏:‏ فواللّه لتحدثني بالذي أخطأت قال‏:‏ لا تقسم‏)‏‏.‏

متفق عليهما‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وإبرار القسم‏)‏ أي بفعل ما أراد الحالف ليصير بذلك بارًا‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏أو المقسم‏)‏ اختلف في ضبط السين فالمشهور أنها بالكسر وضم الميم على أنه اسم فاعل وقيل بفتح السين أي الأقسام والمصدر قد يأتي للمفعول مثل أدخلته مدخلًا بمعنى الإدخال وكذا أخرجته‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏في حديث رؤيا قصها‏)‏ هذا من كلام المصنف‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏لا تقسم‏)‏ أي لا تحلف وهذا طرف من حديث طويل قد ساقه البخاري مستوفى في كتاب التعبير‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وإبرار القسم‏)‏ ظاهر الأمر الوجوب واقترانه ببعض ما هو متفق على عدم وجوبه كإفشاء السلام قرينة صارفة عن الوجوب وعدم إبراره صلى اللّه عليه وآله وسلم لقسم أبي بكر وإن كان خلاف الأحسن لكنه صلى اللّه عليه وآله وسلم فعله لبيان عدم الوجوب ويمكن أن يقال أن الفعل منه صلى اللّه عليه وآله وسلم لا يعارض الأمر الخاص بالأمة كما تقرر في الأصول وما نحن فيه كذلك وبقية ما اشتمل عليه الحديث موضعه غير هذا‏.‏

 باب ما يذكر فيمن قال هو يهودي أو نصراني إن فعل كذا

1 - عن ثابت بن الضحاك‏:‏ ‏(‏أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم قال‏:‏ من حلف على يمين بملة غير الإسلام كاذبًا فهو كما قال‏)‏‏.‏

رواه الجماعة إلا أبا داود‏.‏

2 - وعن بريدة قال‏:‏ ‏(‏قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم‏:‏ من قال إني بريء من الإسلام فإن كان كاذبًا فهو كما قال وإن كان صادقًا لم يعد إلى الإسلام سالمًا‏)‏‏.‏

رواه أحمد والنسائي وابن ماجه‏.‏

حديث بريدة هو من طريق الحسين بن واقد عن عبد اللّه بن بريدة عن أبيه وقد صححه النسائي‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏بملة غير الإسلام‏)‏ الملة بكسر الميم وتشديد اللام الدين والشريعة وهي نكرة في سياق الشرط فتعم جميع الملل من أهل الكتاب كاليهودية والنصرانية ونحوهم من المجوسية والصابئة وأهل الأوثان والدهرية والمعطلة وعبدة الشياطين والملائكة وغيرهم‏.‏

قال ابن المنذر‏:‏ اختلف فيمن قال أكفر باللّه ونحوه إن فعلت ثم فعل فقال ابن عباس وأبو هريرة وعطاء وقتادة وجمهور فقهاء الأمصار‏:‏ لا كفارة عليه ولا يكون كافرًا إلا إن أضمر ذلك بقلبه وقال الأوزاعي والثوري والحنفية وأحمد إسحاق‏:‏ هو يمين وعليه كفارة‏.‏ قال ابن المنذر‏:‏ والأول أصح لقوله صلى اللّه عليه وآله وسلم من حلف باللات والعزى فليقل لا إله إلا اللّه ولم يذكر كفارة زاد غيره وكذا قال من حلف بملة سوى الإسلام فهو كما قال فأراد التغليظ في ذلك حتى لا يجترئ أحد عليه‏.‏

ونقل ابن القصار من المالكية عن الحنفية أنهم احتجوا لإيجاب الكفارة بأن في اليمين الامتناع من الفعل وتضمن كلامه بما ذكر تعظيمًا للإسلام وتعقب ذلك بأنهم قالوا فيمن قال وحق الإسلام إذا حنث لا يجب عليه كفارة فأسقطوا الكفارة إذا صرح بتعظيم الإسلام وأثبتوها إذا لم يصرح‏.‏

قال ابن دقيق العيد‏:‏ الحلف بالشيء حقيقة هو القسم به وإدخال بعض حروف القسم عليه كقوله واللّه وقد يطلق على التعليق بالشيء يمين كقولهم من حلف بالطلاق فالمراد تعليق الطلاق وأطلق عليه الحلف لمشابهته لليمين في اقتضاء الحنث أو المنع وإذا تقرر ذلك فيحتمل أن يكون المراد المعنى الثاني لقوله كاذبًا والكذب يدخل القضية الإخبارية التي يقع مقتضاها تارة ولا يقع أخرى وهذا بخلاف قولنا واللّه ما أشبهه فليس الإخبار بها عن أمر خارجي بل هي لإنشاء القسم فتكون صورة الحلف هنا على وجهين‏:‏ أحدهما أن تتعلق بالمستقبل كقوله إن فعل كذا فهو يهودي‏.‏ والثاني تتعلق بالماضي كقوله إن كان كاذبًا فهو يهودي‏.‏ وقد يتعلق بهذا من لم ير فيه الكفارة لكونه لم يذكر فيه كفارة بل جعل المرتب على كذبه‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏فهو كما قال‏)‏ قال ولا يكفر في صورة الماضي إلا إن قصد التعظيم وفيه خلاف عند الحنفية لكونه تنجيز معنى فصار كما لو قال هو يهودي ومنهم من قال إذا كان لا يعلم أنه يمين لم يكفر وإن كان يعلم أنه يكفر بالحنث به كفر لكونه رضي بالكفر حيث أقدم على الفعل‏.‏

وقال بعض الشافعية‏:‏ ظاهر الحديث أنه يحكم عليه بالكفر إذا كان كاذبًا والتحقيق التفصيل فإن اعتقد تعظيم ما ذكر كفر وإن قصد حقيقة التعليق فينظر فإن كان أراد أن يكون متصفًا بذلك كفر لأن إرادة الكفر كفر وإن أراد البعد عن ذلك لم يكفر لكن هل يحرم عليه ذلك أو يكره تنزيهًا الثاني هو المشهور‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏كاذبًا‏)‏ زاد في البخاري ومسلم متعمدًا‏.‏ قال عياض‏:‏ تفرد بهذه الزيادة سفيان الثوري وهي زيادة حسنة يستفاد منها أن الحالف متعمدًا إن كان مطمئن القلب بالإيمان وهو كاذب في تعظيم ما لا يعتقد تعظيمه لم يكفر وإن قاله معتقدًا لليمين بتلك الملة لكونها حقًا كفر وإن قالها لمجرد التعظيم لها احتمل‏.‏

قال الحافظ‏:‏ وينقدح بأن يقال إن أراد تعظيمها باعتبار ما كانت قبل النسخ لم يكفر أيضًا قال‏:‏ ودعواه أن سفيان تفرد بها إن أراد بالنسبة إلى رواية مسلم فعسى فإنه أخرجها من طريق شعبة عن أيوب وسفيان عن خالد الحذاء جميعًا عن أبي قلابة‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏في الحديث الآخر فهو كما قال‏)‏ قال في الفتح‏:‏ يحتمل أن يكون المراد بهذا الكلام التهديد والمبالغة في الوعيد لا الحكم كأن قال فهو مستحق مثل عذاب من اعتقد ما قال ونظيره من ترك الصلاة فقد كفر أي استوجب عقوبة من كفر‏.‏

وقال ابن المنذر‏:‏ ليس على إطلاقه في نسبته إلى الكفر بل المراد أنه كاذب كذب المعظم لتلك الجهة‏.‏

 باب ما جاء في اليمين الغموس ولغو اليمين

1 - عن أبي هريرة قال‏:‏ ‏(‏قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم‏:‏ خمس ليس لهن كفارة الشرك باللّه وقتل النفس بغير حق وبهت مؤمن والفرار يوم الزحف ويمين صابرة يقتطع بها مالًا بغير حق‏)‏‏.‏

2 - وعن ابن عمر‏:‏ ‏(‏أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم قال لرجل‏:‏ فعلت كذا قال‏:‏ لا والذي لا إله إلا هو ما فعلت قال‏:‏ فقال له جبريل عليه السلام‏:‏ قد فعل ولكن اللّه عز وجل غفر له بقوله لا والذي لا إله إلا هو‏)‏‏.‏

3 - وعن ابن عباس قال‏:‏ ‏(‏اختصم إلى النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم رجلان فوقعت اليمين على أحدهما فحلف باللّه الذي لا إله إلا هو ما له عنده شيء قال‏:‏ فنزل جبريل عليه السلام على النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم فقال‏:‏ إنه كاذب إن له عنده حقه فأمره أن يعطيه حقه وكفارة يمينه معرفته أن لا إله إلا اللّه أو شهادته‏)‏‏.‏

رواهن أحمد ولأبي داود الثالث بنحوه‏.‏

4 - وعن عائشة قالت‏:‏ ‏(‏أنزلت هذه الآية ‏{‏لا يؤاخذكم اللّه باللغو في أيمانكم‏}‏ في قول الرجل لا واللّه وبلى واللّه‏)‏‏.‏

أخرجه البخاري‏.‏

حديث أبي هريرة أخرجه أيضًا أبو الشيخ ويشهد له ما أخرجه البخاري من حديث ابن عمرو قال جاء أعرابي إلى النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم فقال‏:‏ يا رسول اللّه ما الكبائر فذكر الحديث وفيه اليمين الغموس وفيه قلت وما اليمين الغموس قال الذي يقتطع بها مال امرئ مسلم هو فيها كاذب‏.‏

وحديث ابن عباس أخرجه أيضًا النسائي وفي إسناده عطاء بن السائب وقد تكلم فيه غير واحد‏.‏ وأخرج له البخاري حديثًا مقرونًا بابن بشر‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏ليس لهن كفارة‏)‏ أي لا يمحو الإثم الحاصل بسببهن شيء من الطاعات أما الشرك باللّه فلقوله تعالى ‏{‏إن اللّه لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء‏}‏ وأما قتل النفس فعلى الخلاف في قبول توبة التائب عنه وقد تقدم الكلام فيه‏.‏ والمراد ببهت المؤمن أن يغتابه بما ليس فيه واليمين الصابرة أي التي ألزم بها وصبر عليها وكانت لازمة لصاحبها من جهة الحكم والظاهر أن هذه الأمور لا كفارة لها إلا التوبة منها ولا توبة في مثل القتل إلا بتسليم النفس للقود‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وكفارة يمينه‏)‏ الخ هذا يعارض حديث أبي هريرة لأنه قد نفى الكفارة عن الخمس التي من جملتها اليمين الفاجرة في اقتطاع حق وهذا أثبت له كفارة وهي التكلم بكلمة الشهادة ومعرفته لها ويجمع بينهما بأن النفي عام والإثبات خاص‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏باللغو‏)‏ الآية قال الراغب‏:‏ هو في الأصل ما لا يعتد به من الكلام والمراد به في الأيمان ما يورد عن غير روية فيجري مجرى اللغا وهو صوت العصافير‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏لا واللّه‏)‏ أخرجه أبو داود عنها مرفوعًا بلفظ‏:‏ ‏(‏قالت عائشة إن رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم قال‏:‏ هو كلام الرجل في بيته كلا واللّه وبلى واللّه‏)‏ وأخرجه أيضًا البيهقي وابن حبان وصحح الدارقطني الوقف ورواه البخاري والشافعي ومالك عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة موقوفًا‏.‏ ورواه الشافعي من حديث عطاء أيضًا موقوفًا‏.‏ قال أبو داود‏:‏ ورواه غير واحد عن عطاء عن عائشة موقوفًا‏.‏

وأخرج الطبري من طريق الحسن البصري مرفوعًا في قصة الرماة وكان أحدهم إذا رمى حلف أنه أصاب فيظهر أنه أخطأ فقال النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم‏:‏ أيمان الرماة لغو لا كفارة لها ولا عقوبة‏.‏

قال الحافظ‏:‏ وهذا لا يثبت لأنهم كانوا لا يعتمدون مراسيل الحسن لأنه كان يأخذ عن كل أحد وقد تمسك بتفسير عائشة المذكور في الباب الشافعي وقال إنها قد جزمت بأن الآية نزلت في قول الرجل لا واللّه وبلى واللّه وهي قد شهدت التنزيل‏.‏

وذهبت الحنفية والهادوية إلى أن لغو اليمين أن يحلف على الشيء يظنه ثم يظهر خلافه وبه قال ربيعة ومالك ومكحول والأوزاعي والليث‏.‏

وعن أحمد روايتان قال في الفتح‏:‏ ونقل ابن المنذر وغيره عن ابن عمر وابن عباس وغيرهما من الصحابة وعن القاسم وعطاء والشعبي وطاوس والحسن نحو ما دل عليه حديث عائشة عن أبي قلابة لا واللّه وبلى واللّه لغة من لغات العرب لا يراد بها اليمين وهي من صلة الكلام ونقل إسماعيل القاضي عن طاوس أن لغو اليمين أن يحلف وهو غضبان ونقل أقوالًا أخر عن بعض التابعين ‏(‏وجملة‏)‏ ما يتحصل من ذلك ثمانية أقوال من جملتها قوله إبراهيم النخعي إن اللغو هو أن يحلف على الشيء لا يفعله ثم ينسى فيفعله أخرجه الطبري‏.‏

وأخرج عبد الرزاق عن الحسن مثله وعنه هو كقول الرجل واللّه لكذا وهو يظن أنه صادق ولا يكون كذلك‏.‏

وأخرج الطبري من طريق طاوس عن ابن عباس أن يحلف وهو غضبان ومن طريق سعيد بن جبير عن ابن عباس أن يحرم ما أحل اللّه له‏.‏ وقيل هو أن يدعو على نفسه إن فعل كذا ثم يفعله وهذا هو يمين المعصية‏.‏

قال ابن العربي‏:‏ القول بأن لغو اليمين هو المعصية باطل لأن الحالف على ترك المعصية ينعقد يمينه ويقال له لا تفعل وكفر عن يمينك فإن خالف وأقدم على الفعل أثم وبر في يمينه‏.‏

قال‏:‏ ومن قال إنها يمين الغضب يرده ما ثبت في الأحاديث يعني المذكورة في الباب ومن قال دعاء الإنسان على نفسه إن فعل أو لم يفعل فاللغو إنما هو في طريق الكفارة وهي تنعقد وقد يؤاخذ بها لثبوت النهي عن دعاء الإنسان على نفسه‏.‏ ومن قال إنها اليمين التي تكفر فلا متعلق له فإن اللّه تعالى رفع المؤاخذة عن اللغو مطلقًا فلا إثم فيه ولا كفارة فكيف يفسر اللغو بما فيه الكفارة وثبوت الكفارة يقتضي وجود المؤاخذة‏.‏

وقد أخرج ابن أبي عاصم من طريق الزبيدي وابن وهب في جامعه عن يونس وعبد الرزاق في مصنفه عن معمر كلهم عن الزهري عن عروة عن عائشة‏:‏ ‏(‏لغو اليمين ما كان في المراء والهزل أو المراجعة في الحديث الذي لا يعقد عليه القلب‏)‏ وهذا موقوف‏.‏ ورواية يونس تقارب الزبيدي ولفظ معمر أنه القوم يتدارؤن يقول أحدهم لا واللّه وبلى واللّه وكلا واللّه ولا يقصد الحلف وليس مخالفًا للأول‏.‏

وأخرج ابن وهب عن الثقة عن الزهري بهذا السند هو الذي يحلف على الشيء لا يريد به إلا الصدق فيكون على غير ما حلف عليه وهذا يوافق القول الثاني لكنه ضعيف من أجل هذا المبهم شاذ لمخالفته من هو أوثق منه وأكثر عددًا‏.‏

ـ والحاصل ـ في المسألة أن القرآن الكريم قد دل على عدم المؤاخذة في يمين اللغو وذلك يعم الإثم والكفارة فلا يجب أيهما والمتوجه الرجوع في معرفة معنى اللغو إلى اللغة العربية وأهل عصره صلى اللّه عليه وآله وسلم أعرف الناس بمعاني كتاب اللّه تعالى لأنهم مع كونهم من أهل اللغة قد كانوا من أهل الشرع ومن المشاهدين للرسول صلى اللّه عليه وآله وسلم والحاضرين في أيام النزول فإذا صح عن أحدهم تفسير لم يعارضه ما يرجح عليه أو يساويه وجب الرجوع إليه وإن لم يوافق ما نقله أئمة اللغة في معنى ذلك اللفظ لأنه يمكن أن يكون المعنى الذي نقله إليه شرعيًا لا لغويًا والشرعي مقدم على اللغوي كما تقرر في الأصول فكان الحق فيما نحن بصدده هو أن اللغو ما قالته عائشة رضي اللّه عنها‏.‏ ‏(‏وفي حديث الباب‏)‏ تعرض لذكر بعض الكبائر والكلام في شأنها طويل الذيول لا يتسع لبسطه إلا مؤلف حافل وقد ألف ابن حجر في ذلك مجلدًا ضخمًا سماه الزواجر في الكبائر فمن رام الاستقصاء رجع إليه وأما حصرها في عدد معين فليس ذلك إلا باعتبار الاستقراء لا باعتبار الواقع فمن جعل عددها أوسع فلكثرة ما استقرأه منها‏.‏

 باب اليمين على المستقبل وتكفيرها قبل الحنث وبعده

1 -عن عبد الرحمن بن سمرة قال‏:‏ ‏(‏قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم‏:‏ إذا حلفت على يمين فرأيت غيرها خيرًا منها فأت الذي هو خير وكفر عن يمينك‏)‏‏.‏

وفي لفظ‏:‏ ‏(‏فكفر عن يمينك وأت الذي هو خير‏)‏‏.‏

متفق عليهما‏.‏

وفي لفظ‏:‏ ‏(‏إذا حلفت على يمين فكفر عن يمينك ثم ائت الذي هو الذي خير‏)‏ رواه النسائي وأبو داود وهو صريح في تقديم الكفارة‏.‏

2 - وعن عدي بن حاتم قال‏:‏ ‏(‏قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم‏:‏ إذا حلف أحدكم على يمين فرأى غيرها خيرًا منها فليكفرها وليأت الذي هو خير‏)‏‏.‏

رواه مسلم‏.‏

وفي لفظ‏:‏ ‏(‏من حلف على يمين فرأى غيرها خيرًا منها فليأت الذي هو خير وليكفر عن يمينه‏)‏ رواه أحمد ومسلم والنسائي وابن ماجه‏.‏

3 - وعن أبي هريرة‏:‏ ‏(‏أن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم قال‏:‏ من حلف على يمين فرأى غيرها خيرًا منها فليكفر عن يمينه وليفعل الذي هو خير‏)‏‏.‏

رواه أحمد ومسلم والترمذي وصححه‏.‏

وفي لفظ‏:‏ ‏(‏فليأت الذي هو خير وليكفر عن يمينه‏)‏ رواه مسلم‏.‏

4 - وعن أبي موسى‏:‏ ‏(‏عن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم قال‏:‏ ‏(‏لا أحلف على يمين فأرى غيرها خيرًا منها إلا أتيت الذي هو خير وتحللتها‏)‏‏.‏

وفي لفظ‏:‏ ‏(‏إلا كفرت عن يميني وفعلت الذي هو خير‏)‏‏.‏

وفي لفظ‏:‏ ‏(‏إلا أتيت الذي هو خير وكفرت عن يميني‏)‏‏.‏

متفق عليهن‏.‏

5 - وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده‏:‏ ‏(‏عن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم قال‏:‏ لا نذر ولا يمين فيما لا تملك ولا في معصية ولا في قطيعة رحم‏)‏‏.‏

رواه النسائي وأبو داود وهو محمول على نفي الوفاء بها‏.‏

6 - وعن ابن عباس قال‏:‏ ‏(‏كان الرجل يقوت أهله قوتًا في شدة فنزلت ‏{‏من أوسط ما تطعمون أهليكم‏}‏‏)‏‏.‏

رواه ابن ماجه‏.‏

7 - وعن أبي بن كعب وابن مسعود‏:‏ ‏(‏أنهما قرآ فصيام ثلاثة أيام متتابعات‏)‏‏.‏

حكاه أحمد ورواه الأثرم بإسناده ‏.‏

حديث عمرو بن شعيب ذكر البيهقي أنه لم يثبت وتمامه‏:‏ ‏(‏ومن حلف على يمين فرأى غيرها خيرًا منها فليدعها وليأت الذي هو خير فإن تركها كفارتها‏)‏ قال أبو داود‏:‏ الأحاديث كلها عن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم وليكفر عن يمينه إلا ما لا يعبأ به‏.‏ قال الحافظ في الفتح‏:‏ ورواته لا بأس بهم لكن اختلف في سنده على عمرو وفي بعض طرقه عند أبي داود ولا في معصية‏.‏

وأثر ابن عباس رجال إسناده في سنن ابن ماجه رجال الصحيح إلا سليمان بن أبي المغيرة العبسي ولكنه قد وثقه ابن معين وقال في التقريب صدوق‏.‏

وأثر أبي بن كعب أخرجه الدارقطني وصححه‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏فأت الذي هو خير‏)‏ فيه دليل على أن الحنث في اليمين أفضل من التمادي إذا كان في الحنث مصلحة ويختلف باختلاف حكم المحلوف عليه فإن حلف على فعل واجب أو ترك حرام فيمينه طاعة والتمادي واجب والحنث معصية وعكسه بالعكس وإن حلف على فعل نفل فيمينه طاعة والتمادي مستحب والحنث مكروه وإن حلف على ترك مندوب فبعكس الذي قبله وإن حلف على فعل مباح فإن كان يتجاذبه رجحان الفعل أو الترك كما لو حلف لا يأكل طيبًا ولا يلبس ناعمًا ففيه عند الشافعية خلاف وقال ابن الصباغ‏:‏ وصوبه المتأخرون أن ذلك يختلف باختلاف الأحوال وإن كان مستوي الطرفين فالأصح أن التمادي أولى لأنه قال فليأت الذي هو خير‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏فكفر عن يمينك ثم ائت الذي هو خير‏)‏ هذه الرواية صححها الحافظ في بلوغ المرام وأخرج نحوها أبو عوانة في صحيحه وأخرج الحاكم عن عائشة نحوها وأخرج أيضًا الطبراني من حديث أم سلمة بلفظ‏:‏ ‏(‏فليكفر عن يمينه ثم ليفعل الذي هو خير‏)‏ وفيه دليل على أن الكفارة يجب تقديمها على الحنث ولا يعارض ذلك الرواية المذكورة في الباب قبلها بلفظ‏:‏ ‏(‏فأت الذي هو خير وكفر‏)‏ لأن الواو لا تدل على ترتيب إنما هي لمطلق الجمع على أن الواو لو كانت تفيد ذلك لكانت الرواية التي بعدها بلفظ‏:‏ ‏(‏فكفر عن يمينك وائت الذي هو خير‏)‏ تخالفها وكذلك بقية الروايات المذكورة في الباب‏.‏

قال ابن المنذر‏:‏ رأي ربيعة والأوزاعي ومالك والليث وسائر فقهاء الأمصار غير أهل الرأي أن الكفارة تجزئ قبل الحنث إلا أن الشافعي استثنى الصيام فقال‏:‏ لا يجزئ إلا بعد الحنث وقال أصحاب الرأي‏:‏ لا تجزئ الكفارة قبل الحنث وعن مالك روايتان ووافق الحنفية أشهب من المالكية وداود الظاهري وخالفه ابن حزم واحتج له الطحاوي بقوله تعالى ‏{‏ذلك كفارة أيمانكم إذا حلفتم‏}‏ فإن المراد إذا حلفتم فحنثتم ورده مخالفوه فقالوا بل التقدير فأردتم الحنث‏.‏

قال الحافظ‏:‏ وأولى من ذلك أن يقال التقدير أعم من ذلك فليس أحد التقديرين بأولى من الآخر‏.‏

واحتجوا أيضًا بأن ظاهر الآية أن الكفارة وجبت بنفس اليمين ورده من أجازها بأنها لو كانت بنفس اليمين لم تسقط عمن لم يحنث اتفاقًا‏.‏

واحتجوا أيضًا بأن الكفارة بعد الحنث فرض وإخراجها قبله تطوع فلا يقوم التطوع مقام المفروض‏.‏ وانفصل عنه من أجاز بأنه يشترط إرادة الحنث وإلا فلا تجزئ كما في تقديم الزكاة‏.‏ وقال عياض‏:‏ اتفقوا على أن الكفارة لا تجب إلا بالحنث وأنه يجوز تأخيرها بعد الحنث واستحب الإمام مالك والشافعي والأوزاعي والثوري تأخيرها بعد الحنث قال عياض‏:‏ ومنع بعض المالكية تقديم كفارة حنث المعصية لأن فيه إعانة على المعصية ورده الجمهور‏.‏

قال ابن المنذر‏:‏ واحتج للجمهور بأن اختلاف ألفاظ الأحاديث لا يدل على تعيين أحد الأمرين والذي يدل عليه أنه أمر الحالف بأمرين فإذا أتى بهما جميعًا فقد فعل ما أمر به وإذا دل الخبر على المنع فلم يبق إلا طريق النظر فاحتج للجمهور بأن عقد اليمين لما كان يحله الاستثناء وهو كلام فلأن تحله الكفارة وهي فعل مالي أو بدني أولى ويرجح قولهم أيضًا بالكثرة‏.‏ وذكر عياض وجماعة أن عدة من قال بجواز تقديم الكفارة أربعة عشر صحابيًا وتبعهم فقهاء الأمصار إلا أبا حنيفة‏.‏

وقد عرفت مما سلف أن المتوجه العمل برواية الترتيب المدلول عليه بلفظ ثم ولولا الإجماع المحكي سابقًا على جواز تأخير الكفارة عن الحنث لكان ظاهر الدليل أن تقديم الكفارة واجب كما سلف‏.‏

قال المازري‏:‏ للكفارة ثلاث حالات‏:‏ أحدها قبل الحلف فلا تجزئ اتفاقًا‏.‏ ثانيها بعد الحلف والحنث فتجزئ اتفاقا‏.‏ ثالثها بعد الحلف وقبل الحنث ففيها خلاف ـ والأحاديث ـ المذكورة في الباب تدل على وجوب الكفارة مع إتيان الذي هو خير‏.‏

وفي حديث عمرو بن شعيب المذكور بعضه في الباب ما يدل على أن ترك اليمين وإتيان الذي هو خير هو الكفارة وقد ذكرنا ذلك وذكرنا أن أبا داود قال إنه ما ورد من ذلك إلا ما لا يعبأ به‏.‏ قال الحافظ‏:‏ كأنه يشير إلى حديث يحيى بن عبيد اللّه عن أبيه عن أبي هريرة يرفعه‏:‏ ‏(‏من حلف على يمين فرأى غيرها خيرًا منها فليأت الذي هو خير فهو كفارته‏)‏ ويحيى ضعيف جدًا وقد وقع في حديث عدي بن حاتم عند مسلم ما يوهم ذلك فإنه أخرجه عنه بلفظ‏:‏ ‏(‏من حلف على يمين فرأى غيرها خيرًا منها فليأت الذي هو خير وليترك يمينه‏)‏ هكذا أخرجه من وجهين ولم يذكر الكفارة ولكن أخرجه من وجه آخر بلفظ‏:‏ ‏(‏فرأى غيرها خيرًا منها فليكفرها وليأت الذي هو خير‏)‏ ومداره في الطرق كلها على عبد العزيز بن رفيع عن تميم بن طرفة عن عدي والذي زاد ذلك حافظ فهو المعتمد‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏كان الرجل يقوت أهله‏)‏ الخ فيه أن الأوسط المنصوص عليه في الآية الكريمة هو المتوسط ما بين قوت الشدة والسعة‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏أنهما قرآ فصيام ثلاثة أيام متتابعات‏)‏ قراءة الآحاد منزلة منزلة أخبار الآحاد صالحة لتقييد المطلق وتخصيص العام كما تقرر في الأصول وخالف في وجوب التتابع عطاء ومالك والشافعي والمحاملي‏.‏

 كتاب النذر

 باب نذر الطاعة مطلقًا ومعلقًا بشرط

1 - عن عائشة‏:‏ ‏(‏عن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم قال‏:‏ من نذر أن يطيع اللّه فليطعه ومن نذر أن يعصيه فلا يعصه‏)‏‏.‏

رواه الجماعة إلا مسلمًا‏.‏

2 - وعن ابن عمر قال‏:‏ ‏(‏نهى رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم عن النذر وقال‏:‏ إنه لا يرد شيئًا وإنما يستخرج به من البخيل‏)‏‏.‏

رواه الجماعة إلا الترمذي‏.‏ وللجماعة إلا أبا داود مثل معناه من رواية أبي هريرة‏.‏

لفظ حديث أبي هريرة‏:‏ ‏(‏لا يأتي ابن آدم النذر بشيء لم أكن قدرته ولكن يلقيه النذر إلى القدر فيستخرج اللّه فيؤتيني عليه ما لم يكن يؤتيني عليه من قبل‏)‏ أي يعطيني‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏فليطعه‏)‏ الطاعة أعم من أن تكون واجبة أو غير واجبة ويتصور النذر في الواجب بأن يؤقته كمن ينذر أن يصلي الصلاة في أول وقتها فيجب عليه ذلك بقدر ما أقته وأما المستحب من جميع العبادات المالية والبدنية فينقلب بالنذر واجبًا ويتقيد بما قيد به الناذر والخبر صريح في الأمر بالوفاء بالنذر إذا كان في طاعة وفي النهي عن الوفاء به إذا كان في معصية وهل تجب في الثاني كفارة يمين أو لا فيه خلاف يأتي إن شاء اللّه‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏إنه لا يرد شيئًا‏)‏ فيه إشارة إلى تعليل النهي عن النذر وقد اختلف العلماء في هذا النهي فمنهم من حمله على ظاهره ومنهم من تأوله قال ابن الأثير في النهاية‏:‏ تكرر النهي عن النذر في الحديث وهو تأكيد لأمره وتحذير عن التهاون به بعد إيجابه ولو كان معناه الزجر عنه حتى لا يفعل لكان في ذلك إبطال حكمه وإسقاط لزوم الوفاء به إذ يصير بالنهي معصية فلا يلزم وإنما وجه الحديث أنه قد أعلمهم أن ذلك الأمر لا يجر إليهم في العاجل نفعًا ولا يصرف عنهم ضررًا ولا يغير قضاء فقال لا تنذروا على أنكم تدركون بالنذر شيئًا لم يقدر اللّه لكم أو تصرفون به عنكم ما قدره عليكم فإذا نذرتم فأخرجوا بالوفاء فإن الذي نذرتموه لازم لكم انتهى‏.‏

وقال أبو عبيد‏:‏ النهي عن النذر والتشديد فيه ليس هو أن يكون مأثمًا ولو كان كذلك ما أمر اللّه تعالى أن يوفى به ولا حمد فاعله ولكن وجهه عندي تعظيم شأن النذر وتغليظ أمره لئلا يستهان بشأنه فيفرط في الوفاء به ويترك القيام به‏.‏ ثم استدل على الحث على الوفاء به من الكتاب والسنة وإلى ذلك أشار المازري بقوله ذهب بعض علمائنا إلى أن الغرض بهذا الحديث التحفظ في النذر قال وهذا عندي بعيد من ظاهر الحديث ويحتمل عندي أن يكون وجه الحديث أن الناذر يأتي بالقربة مستثقلًا لها لما صارت عليه ضربة لازب وكل ملزوم فإنه لا ينشط للفعل نشاط مطلق الاختيار ويحتمل أن يكون سببه أن الناذر لما لم يبذل القربة إلا بشرط أن يفعل له ما يريد صار كالمعاوضة التي تقدح في نية المتقرب قال ويشير إلى هذا التأويل قوله‏:‏ ‏(‏إنه لا يأتي بخير‏)‏ وقوله‏:‏ ‏(‏إنه لا يقرب من ابن آدم شيئًا لم يكن اللّه قدره له‏)‏ وهذا كالنص على هذا التعليل انتهى‏.‏ والاحتمال الأول يعم أنواع النذر والثاني يخص نوع المجازاة وزاد القاضي عياض فقال‏:‏ إن الإخبار بذلك وقع على سبيل الإعلام من أنه لا يغالب القدر ولا يأتي الخير بسببه والنهي عن اعتقاد خلاف ذلك خشية أن يقع ذلك في ظن بعض الجهلة قال‏:‏ ومحصل مذهب الإمام مالك أنه مباح إلا إذا كان مؤيدًا لتكرره عليه في أوقات فقد يثقل عليه فعله فيفعله بالتكلف من غير طيبة نفس وخالص نية‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏إنه لا يرد شيئًا‏)‏ يعني مما يكرهه الناذر وأوقع النذر استدفاعًا له وأعم من هذه الرواية ما في البخاري وغيره بلفظ‏:‏ ‏(‏إنه لا يأتي بخير‏)‏ فإنه قد ينظر استجلابًا لنفع أو استدفاعًا لضرر والنذر لا يأتي بذلك المطلوب وهو الخير الكائن في النفع أو الخير الكائن في اندفاع الضرر‏.‏

قال الخطابي في الأعلام‏:‏ هذا باب من العلم غريب وهو أن ينهى عن فعل شيء حتى إذا فعل كان واجبًا وقد ذهب أكثر الشافعية ونقل عن نص الشافعي أن النذر مكروه وكذا عن المالكية وجزم الحنابلة بالكراهة‏.‏

وقال النووي‏:‏ إنه مستحب صرح بذلك في شرح المهذب وروي ذلك عن القاضي حسين والمتولي والغزالي وجزم القرطبي في المفهم بحمل ما ورد في الأحاديث من النهي على نذر المجازاة فقال هذا النهي محله أن يقول مثلًا إن شفى اللّه مريضي فعلي صدقة‏.‏ ووجه الكراهة أنه لما وقف فعل القربة المذكورة على حصول الغرض المذكور ظهر أنه لم يتمحض له نية التقرب إلى اللّه تعالى بما صدر منه بل سلك فيها مسلك المعاوضة ويوضحه أنه لو لم يشف مريضه لم يتصدق بما علقه على شفائه وهذه حالة البخيل فإنه لا يخرج من ماله شيئًا إلا بعوض عاجل يزيد على ما أخرج غالبًا وهذا المعنى هو المشار إليه بقوله‏:‏ ‏(‏وإنما يستخرج به من البخيل‏)‏ قال‏:‏ وقد ينضم إلى هذا اعتقاد جاهل يظن أن النذر يوجب حصول ذلك الغرض أو أن اللّه تعالى يفعل معه ذلك الغرض لأجل ذلك النذر وإليهما الإشارة في الحديث بقوله‏:‏ ‏(‏فإنه لا يرد شيئًا‏)‏ والحالة الأولى تقارب الكفر والثانية خطأ صريح‏.‏ قال الحافظ‏:‏ بل تقرب من الكفر ثم نقل القرطبي عن العلماء حمل النهي الوارد في الخبر على الكراهة قال والذي يظهر لي أنه على التحريم في حق من يخاف عليه ذلك الاعتقاد الفاسد فيكون إقدامه على ذلك محرمًا والكراهة في حق من لم يعتقد ذلك‏.‏

قال الحافظ‏:‏ وهو تفصيل حسن ويؤيده قصة ابن عمر راوي الحديث في النهي عن النذر فإنها في نذر المجازاة‏.‏

وقد أخرج الطبري بسند صحيح عن قتادة في قوله تعالى ‏{‏يوفون بالنذر‏}‏ قال كانوا ينذرون طاعة اللّه تعالى من الصلاة والصيام والزكاة والحج والعمرة وما افترض عليهم فسماهم اللّه تعالى أبرارًا وهذا صريح في أن الثناء وقع في غير نذر المجازاة وقد يشعر التعبير بالبخيل أن المنهي عنه من النذر ما فيه مال فيكون أخص من المجازاة لكن قد يوصف بالبخل من تكاسل عن الطاعة كما في الحديث المشهور‏:‏ ‏(‏البخيل من ذكرت عنده فلم يصل علي‏)‏ أخرجه النسائي وصححه ابن حبان أشار إلى ذلك العراقي في شرح الترمذي وقد نقل القرطبي الاتفاق على وجوب الوفاء بنذر المجازاة لقوله‏:‏ ‏(‏من نذر أن يطع اللّه فليطعه‏)‏ ولم يفرق بين المعلق وغيره‏.‏

قال الحافظ‏:‏ والاتفاق الذي ذكره مسلم لكن في الاستدلال بالحديث المذكور لوجوب الوفاء بالنذر المعلق نظر قلت لا نظر إذا لم يصحبه اعتقاد فاسد لأن إخراج المال في القرب طاعة والبخيل يحرص على المال فلا يخرجه إلا في نحو نذر المجازاة ولا تتيسر طاعته المالية إلا بمثل ذلك أو ما لا بد له منه كالزكاة والفطرة فلو لم يلزمه الوفاء لاستمر على بخله ولم يتم الاستخراج المذكور‏.‏

 باب ما جاء في نذر المباح والمعصية وما أخرج مخرج اليمين

1 - عن ابن عباس قال‏:‏ ‏(‏بينا النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم يخطب إذ هو برجل قائم فسأل عنه فقالوا أبو إسرائيل نذر أن يقوم في الشمس ولا يقعد ولا يستظل ولا يتكلم وأن يصوم فقال النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم‏:‏ مروه فليتكلم وليستظل وليقعد وليتم صومه‏)‏‏.‏

رواه البخاري وابن ماجه وأبو داود‏.‏

2 - وعن ثابت بن الضحاك‏:‏ ‏(‏أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم قال‏:‏ ليس على الرجل نذر فيما لا يملك‏)‏‏.‏

متفق عليه‏.‏

3 - وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده‏:‏ ‏(‏أن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم قال‏:‏ لا نذر إلا فيما ابتغي به وجه اللّه تعالى‏)‏‏.‏

رواه أحمد وأبو داود‏.‏

وفي رواية‏:‏ ‏(‏أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم نظر إلى أعرابي قائمًا في الشمس وهو يخطب فقال‏:‏ ما شأنك قال‏:‏ نذرت يا رسول اللّه أن لا أزال في الشمس حتى تفرغ فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم‏:‏ ليس هذا نذرًا إنما النذر ما ابتغي به وجه اللّه‏)‏‏.‏

رواه أحمد‏.‏

4 - وعن سعيد بن المسيب‏:‏ ‏(‏أن أخوين من الأنصار كان بينهما ميراث فسأل أحدهما صاحبه القسمة فقال‏:‏ إن عدت تسألني القسمة فكل مالي في رتاج الكعبة فقال له عمر‏:‏ إن الكعبة غنية عن مالك كفر عن يمينك وكلم أخاك سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم يقول‏:‏ لا يمين عليك ولا نذر في معصية الرب ولا في قطيعة الرحم ولا فيما لا تملك‏)‏‏.‏

رواه أبو داود‏.‏

5 - وعن ثابت بن الضحاك‏:‏ ‏(‏أن رجلًا أتى النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم فقال‏:‏ إني نذرت أن أنحر إبلًا ببوانة فقال‏:‏ أكان فيها وثن من أوثان الجاهلية يعبد قالوا‏:‏ لا قال‏:‏ فهل كان فيها عيد من أعيادهم قالوا‏:‏ لا قال‏:‏ أوف بنذرك فإنه لا وفاء لنذر في معصية اللّه ولا فيما لا يملك ابن آدم‏)‏‏.‏

رواه أبو داود‏.‏

6 - وعن عائشة‏:‏ ‏(‏أن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم قال‏:‏ لا نذر في معصية وكفارته كفارة يمين‏)‏‏.‏

رواه الخمسة واحتج به أحمد وإسحاق‏.‏

7 - وعن ابن عباس‏:‏ ‏(‏أن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم قال‏:‏ من نذر نذرًا في معصية فكفارته كفارة يمين‏)‏‏.‏

رواه أبو داود‏.‏

8 - وعن عقبة بن عامر قال‏:‏ ‏(‏قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم‏:‏ كفارة النذر كفارة يمين‏)‏‏.‏

رواه أحمد ومسلم‏.‏

حديث عمرو بن شعيب أخرجه أيضًا البيهقي وأورده الحافظ في التلخيص وسكت عنه‏.‏ وقد أخرجه بلفظ أحمد الطبراني قال في مجمع الزوائد‏:‏ فيه عبد اللّه بن نافع المدني وهو ضعيف ولم يكن في إسناده أبي داود لأنه أخرجه عن أحمد بن عبدة الضبي عن المغيرة بن عبد الرحمن عن أبيه عبد الرحمن عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده‏.‏

وحديث سعيد بن المسيب حديث صالح سكت عنه أبو داود والحافظ وهو من طريق عمرو بن شعيب ولكن سعيد بن المسيب لم يسمع من عمر بن الخطاب فهو منقطع‏.‏ وروي نحوه عن عائشة أنها سئلت عن رجل جعل ماله في رتاج الكعبة إن كلم ذا قرابة فقالت يكفر عن اليمين أخرجه مالك والبيهقي بسند صحيح وصححه ابن السكن‏.‏

وحديث ثابت بن الضحاك أخرجه أيضًا الطبراني وصحح الحافظ إسناده وأخرج نحوه أبو داود من وجه آخر عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده مرفوعًا ورواه ابن ماجه من حديث ابن عباس ورواه أحمد في مسنده من حديث عمرو بن شعيب عن ابنة كردم عن أبيها بنحوه‏.‏ وفي لفظ لابن ماجه عن ميمونة بنت كردم‏.‏

وحديث عائشة قال الترمذي بعد إخراجه لا يصح لأن الزهري لم يسمع هذا الحديث من أبي سلمة وكذلك قال غيره قالوا وإنما سمعه من سليمان بن أرقم وسليمان متروك‏.‏ وقال أحمد‏:‏ ليس بشيء ولا يساوي فلسًا‏.‏ وقال البخاري‏:‏ تركوه وتكلم فيه جماعة أيضًا منهم عمرو بن علي وأبو داود وأبو زرعة والنسائي وابن حبان والدارقطني‏.‏ وقال الخطابي‏:‏ لو صح هذا الحديث لكان القول به واجبًا والمصير إليه لازمًا إلا أن أهل المعرفة بالحديث زعموا أنه حديث مقلوب وهم فيه سليمان بن الأرقم ورواه النسائي والحاكم والبيهقي من حديث عمران بن حصين ومداره على محمد بن الزبير الحنظلي عن أبيه عنه ومحمد ليس بالقوي وقد اختلف عليه فيه‏.‏ ورواه ابن المبارك عن عبد الوارث عن أبيه أن رجلًا حدثه أنه سأل عمران بن الحصين فذكره وفيه رجل مجهول‏.‏ ورواه أحمد وأصحاب السنن والبيهقي من رواية الزهري عن أبي سلمة عن أبي هريرة قال الحافظ وإسناده صحيح إلا أنه معلول بأنه منقطع وذلك لأن الزهري لم يروه عن أبي سلمة‏.‏ ورواه ابن ماجه من حديث سليمان بن بلال عن حرشي بن عتبة ومحمد بن أبي عتيق عن الزهري عن سليمان بن أرقم عن يحيى بن أبي كثير عن محمد بن الزبير الحنظلي عن أبيه عن عمران فرجع إلى الرواية الأولى‏.‏ ورواه عبد الرزاق عن معمر عن يحيى بن أبي كثير عن رجل من بني حنيفة وأبي سلمة كلاهما عن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم وهو مع كونه مرسلًا فالحنفي هو محمد بن الزبير المتقدم قاله الحاكم‏.‏

وقال إن قوله من بني حنيفة تصحيف وإنما هو من بني حنظلة وله طريق أخرى عن عائشة عند الدارقطني من رواية غالب بن عبد اللّه الجزري عن عطاء عن عائشة مرفوعًا بلفظ‏:‏ ‏(‏من جعل عليه نذرًا في معصية فكفارته كفارة يمين‏)‏ وغالب متروك وله طريق أخرى عند أبي داود من حديث كريب عن ابن عباس وإسنادها حسن فيها طلحة بن يحيى وهو مختلف فيه‏.‏ وقال أبو داود موقوفًا يعني وهو أصح‏.‏

وقال النووي في الروضة‏:‏ حديث ‏(‏لا نذر في معصية وكفارته كفارة يمين‏)‏ ضعيف باتفاق المحدثين‏.‏ قال الحافظ‏:‏ قلت قد صححه الطحاوي وأبو علي ابن السكن فأين الاتفاق‏.‏

وحديث ابن عباس قد تقدمت الإشارة إليه أنه من طريق كريب عنه ولفظه في سنن أبي داود عن ابن عباس‏:‏ ‏(‏أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم قال‏:‏ من نذر نذرًا لم يسمه فكفارته كفارة يمين ومن نذر نذرًا في معصية فكفارته كفارة يمين ومن نذر نذرًا لا يطيقه فكفارته كفارة يمين ومن نذر نذرًا أطاقه فليف به‏)‏ وسيأتي وقد تقدم أنه موقوف على ابن عباس وأن الموقوف أصح‏.‏ وأخرجه ابن ماجه وفي إسناد ابن ماجه من لا يعتمد عليه وليس فيه من نذر نذرًا في معصية‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏أبو إسرائيل‏)‏ قال الخطيب‏:‏ هو رجل من قريش ولا يشاركه أحد من الصحابة في كنيته واختلف في اسمه فقيل قشير بقاف وشين معجمة مصغرًا وقيل بسير بمهملة مصغرًا وقيل قيصر باسم ملك الروم‏.‏ وقيل بالسين المهملة بدل الصاد‏.‏ وقد جزم ابن الأثير وغيره بأنه من الصحابة وفيه دليل على أن كل شيء يتأذى به الإنسان مما لم يرد بمشروعيته كتاب ولا سنة كالمشي حافيًا والجلوس في الشمس ليس من طاعة اللّه تعالى فلا ينعقد النذر به فإنه صلى اللّه عليه وآله وسلم أمر أبا إسرائيل في هذا الحديث بإتمام الصوم دون غيره وهو محمول على أنه علم أنه لا يشق عليه‏.‏

قال القرطبي في قصة أبي إسرائيل‏:‏ هذا أعظم حجة للجمهور في عدم وجوب الكفارة على من نذر معصية أو ما لا طاعة فيه‏.‏ قال مالك‏:‏ لم أسمع أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم أمره بكفارة‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏ليس على الرجل نذر فيما لا يملك‏)‏ فيه دليل على أن من نذر بما لا يملك لا ينفذ نذره وكذلك من نذر بمعصية كما في بقية أحاديث الباب واختلف في النذر بمعصية هل تجب فيه الكفارة أم لا فقال الجمهور لا وعن أحمد والثوري وإسحاق وبعض الشافعية والحنفية نعم ونقل الترمذي اختلاف الصحابة في ذلك واتفقوا على تحريم النذر في المعصية واختلافهم إنما هو في وجوب الكفارة واحتج من أوجبها بحديث عائشة المذكور في الباب وما ورد في معناه وأجيب بأن ذلك لا ينتهض للاحتجاج لما سبق في المقال‏.‏ واحتج أيضًا بما أخرجه مسلم من حديث عقبة بن عامر بلفظ‏:‏ ‏(‏كفارة النذر كفارة اليمين‏)‏ لأن عمومه يشمل نذر المعصية وأجيب بأن فيه زيادة تمنع العموم وهي أن الترمذي وابن ماجه أخرجا حديث عقبة بلفظ‏:‏ ‏(‏كفارة النذر إذا لم يسم كفارة يمين‏)‏ هذا لفظ الترمذي ولفظ ابن ماجه‏:‏ ‏(‏من نذر نذرًا لم يسمه‏)‏‏.‏

وحديث ابن عباس المذكور في الباب أيضًا قد سبق ما فيه من المقال‏.‏

ـ واستدل بأحاديث الباب ـ على أنه يصح النذر في المباح لأنه لما نفى النذر في المعصية بقي ما عداه ثابتًا‏.‏ ويدل على أن النذر لا ينعقد في المباح الحديث المذكور في أول الباب عن ابن عباس والحديث الذي فيه‏:‏ ‏(‏إنما النذر ما يبتغى به وجه اللّه‏)‏ ومن جملة ما استدل به على أنه يلزم الوفاء بالنذر المباح قصة التي نذرت الضرب بالدف وأجاب البيهقي بأنه يمكن أن يقال إن من قسم المباح ما قد يصير بالقصد مندوبًا كالنوم في القائلة للتقوي على قيام الليل وأكلة السحر للتقوي على صيام النهار فيمكن أن يقال إن إظهار الفرح بعود النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم سالمًا معنى مقصود يحصل به الثواب‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏في رتاج الكعبة‏)‏ بمهملة فمثناة فوقية فجيم بعد ألف هو في اللغة الباب وكنى به هنا عن الكعبة نفسها‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏ببوانة‏)‏ بضم الموحدة وبعد الألف نون قال في التلخيص‏:‏ موضع بين الشام وديار بكر قاله أبو عبيدة وقال البغوي‏:‏ أسفل مكة دون يلملم‏.‏ وقال المنذري‏:‏ هضبة من وراء ينبع ومثله في النهاية وسيأتي الكلام على حديث ثابت بن الضحاك‏.‏

 باب من نذر نذرًا لم يسمه ولا يطيقه

1 - عن عقبة بن عامر قال‏:‏ ‏(‏قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم‏:‏ كفارة النذر إذا لم يسم كفارة يمين‏)‏‏.‏

رواه ابن ماجه والترمذي وصححه‏.‏

2 - وعن ابن عباس‏:‏ ‏(‏عن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم قال‏:‏ من نذر نذرًا ولم يسمه فكفارته كفارة يمين ومن نذر نذرًا لم يطقه فكفارته كفارة يمين‏)‏‏.‏

رواه أبو داود وابن ماجه وزاد‏:‏ ‏(‏ومن نذر نذرًا أطاقه فليف به‏)‏‏.‏

3 - وعن أنس‏:‏ ‏(‏أن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم رأى شيخًا يهادى بين ابنيه فقال‏:‏ ما هذا قالوا‏:‏ نذر أن يمشي قال‏:‏ إن اللّه عن تعذيب هذا نفسه لغني وأمره أن يركب‏)‏‏.‏

رواه الجماعة إلا ابن ماجه‏.‏ وللنسائي في رواية‏:‏ ‏(‏نذر أن يمشي إلى بيت اللّه‏)‏‏.‏

4 - وعن عقبة بن عامر قال‏:‏ ‏(‏نذرت أختي أن تمشي إلى بيت اللّه فأمرتني أن أستفتي لها رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم فاستفتيته فقال‏:‏ لتمش ولتركب‏)‏‏.‏

متفق عليه‏.‏ ولمسلم فيه‏:‏ حافية غير مختمرة‏.‏

وفي رواية‏:‏ ‏(‏نذرت أختي أن تمشي إلى الكعبة فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم‏:‏ إن اللّه لغني عن مشيها لتركب ولتهد بدنة‏)‏ رواه أحمد‏.‏

وفي رواية‏:‏ ‏(‏أن أخته نذرت أن تمشي حافية غير مختمرة فسأل النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم فقال‏:‏ إن اللّه لا يصنع بشقاء أختك شيئًا مرها فلتختمر ولتركب ولتصم ثلاثة أيام‏)‏ رواه الخمسة‏.‏

5 - وعن كريب عن ابن عباس قال‏:‏ ‏(‏جاءت امرأة إلى النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم فقالت‏:‏ يا رسول اللّه إن أختي نذرت أن تحج ماشية فقال‏:‏ إن اللّه لا يصنع بشقاء أختك شيئًا لتخرج راكبة ولتكفر عن يمينها‏)‏‏.‏

رواه أحمد وأبو داود‏.‏

6 - وعن عكرمة عن ابن عباس‏:‏ ‏(‏أن عقبة بن عامر سأل النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم فقال‏:‏ إن أخته نذرت أن تمشي إلى البيت وشكا إليه ضعفها فقال النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم‏:‏ إن اللّه غني عن نذر أختك فلتركب ولتهد بدنة‏)‏‏.‏

رواه أحمد‏.‏

وفي لفظ‏:‏ ‏(‏أن أخت عقبة بن عامر نذرت أن تمشي إلى البيت وإنها لا تطيق ذلك فأمرها النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم أن تركب وتهدي هديًا‏)‏‏.‏

رواه أبو داود‏.‏

حديث عقبة الأول هو في صحيح مسلم بدون زيادة إذا لم يسم وأخرجه أيضًا أبو داود والنسائي‏.‏

وحديث ابن عباس الأول قال الحافظ في بلوغ المرام‏:‏ إسناده صحيح إلا أن الحفاظ رجحوا وقفه وقد تقدم الكلام عليه والرواية الأخرى من حديث عقبة التي فيها ولتصم ثلاثة أيام حسنها الترمذي ولكن في إسنادها عبد اللّه بن زحر وقد تكلم فيه غير واحد من الأئمة‏.‏

وحديث كريب عن ابن عباس سكت عنه أبو داود والمنذري ورجاله رجال الصحيح‏.‏

وحديث عكرمة عن ابن عباس سكت أيضًا عنه أبو داود والمنذري ورجاله رجال الصحيح‏.‏ قال الحافظ في التلخيص‏:‏ إسناده صحيح والرواية الأخرى أوردها أبو داود وسكت عنها هو والمنذري‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏لم يسم‏)‏ فيه دليل على أن كفارة اليمين إنما تجب فيما كان من النذور غير مسمى‏.‏

قال النووي‏:‏ اختلف العلماء في المراد بهذا الحديث فحمله جمهور أصحابنا على نذر اللجاج فهو مخير بين الوفاء بالنذر أو الكفارة وحمله مالك وكثيرون أو الأكثرون على النذر المطلق كقوله على نذر وحمله جماعة من فقهاء الحديث على جميع أنواع النذر وقالوا هو مخير في جميع أنواع المنذورات بين الوفاء بما التزم وبين كفارة اليمين انتهى‏.‏ والظاهر اختصاص الحديث بالنذر الذي لم يسم لأن حمل المطلق على المقيد واجب‏.‏

وأما النذور المسماة إن كانت طاعة فإن كانت غير مقدورة ففيها كفارة يمين وإن كانت مقدورة وجب الوفاء بها سواء كانت متعلقة بالبدن أو بالمال وإن كانت معصية لم يجز الوفاء بها ولا ينعقد ولا يلزم فيها الكفارة وإن كانت مباحة مقدورة فالظاهر الانعقاد ولزوم الكفارة لوقوع الأمر بها في أحاديث الباب في قصة الناذرة بالمشي وإن كانت غير مقدورة ففيها الكفارة لعموم ومن نذر نذرًا لم يطقه هذا خلاصة ما يستفاد من الأحاديث الصحيحة‏.‏

وقال ابن رشد في نهاية المجتهد ما حاصله‏:‏ إنه وقع الاتفاق على لزوم النذر بالمال إذا كان في سبيل البر وكان على جهة الخبر وإن كان على جهة الشرط فقال مالك‏:‏ يلزم كالخبر ولا كفارة يمين في ذلك إلا أنه إذا نذر يجميع ماله لزمه ثلث ماله إذا كان مطلقًا وإن كان معينًا لزمه وإن كان جميع ماله أو أكثر من الثلث وسيأتي الخلاف فيمن نذر بجميع ماله‏.‏

قال‏:‏ وإذا كان النذر مطلقًا أي غير مسمى ففيه الكفارة عند كثير من العلماء‏.‏ وقال قوم‏:‏ فيه كفارة الظهار وقال قوم‏:‏ فيه أقل ما ينطلق عليه الاسم من القرب صيام يوم أو صلاة ركعتين‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏ومن نذر نذرًا لم يطقه فكفارته كفارة يمين‏)‏ ظاهره سواء كان المنذور به طاعة أو معصية أو مباحًا إذا كان غير مقدور ففيه الكفارة إلا أنه يخص من هذا العموم ما كان معصية بما تقدم ويبقى ما كان طاعة أو مباحًا وسواء كان غير مقدور شرعًا أو عقلًا أو عادة‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏ومن نذر نذرًا أطاقه‏)‏ الخ ظاهره العموم ولكنه يخص منه نذر المعصية بما سلف وكذلك نذر المباح بلزوم الكفارة وأما النذر الذي لم يسم فغير داخل في عموم الطاقة وعدمها لأن اتصاف النذر بأحد الوصفين فرع معرفته وما لم يسم لم يعرف‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏لتمش ولتركب‏)‏ فيه أن النذر بالمشي ولو إلى مكان المشي إليه طاعة فإنه لا يجب الوفاء به بل يجوز الركوب لأن المشي نفسه غير طاعة إنما الطاعة الوصول إلى ذلك المكان كالبيت العتيق من غير فرق بين المشي والركوب ولهذا سوغ النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم الركوب للناذرة بالمشي فكان ذلك دالًا على عدم لزوم النذر بالمشي وإن دخل تحت الطاقة‏.‏

قال في الفتح‏:‏ وإنما أمر الناذرة في حديث أنس أن تركب جزمًا وأمر أخت عقبة أن تمشي وأن تركب لأن الناذر في حديث أنس كان شيخًا ظاهر العجز وأخت عقبة لم توصف بالعجز فكأنه أمرها أن تمشي إن قدرت وتركب إن عجزت وبهذا ترجم البيهقي للحديث وأورد في بعض طرقه من رواية عكرمة عن ابن عباس ما ذكره المصنف رحمه اللّه‏.‏

وأخرج الحاكم من حديث ابن عباس بلفظ‏:‏ ‏(‏جاء رجل فقال‏:‏ يا رسول اللّه إن أختي حلفت أن تمشي إلى البيت وإنه يشق عليها المشي فقال‏:‏ مرها فلتركب إذا لم تستطع أن تمشي فما أغنى اللّه أن يشق على أختك‏)‏ وأحاديث الباب مصرحة بوجوب الكفارة‏.‏ ونقل الترمذي عن البخاري أنه لا يصح فيه الهدى‏.‏

وقد أخرج الطبراني من طريق أبي تميم الجيشاني عن عقبة بن عامر في هذه القصة نذرت أن تمشي إلى الكعبة حافية حاسرة وفيه لتركب ولتلبس ولتصم‏.‏ وللطحاوي من طريق أبي عبد الرحمن الحبلي عن عقبة نحوه وأخرج البيهقي بسند صحيح عن أبي هريرة‏:‏ ‏(‏بينما رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم يسير في جوف الليل إذ بصر بخيال ففرت منه الإبل فإذا امرأة عريانة ناقضة شعرها فقالت‏:‏ نذرت أن أحج عريانة ناقضة شعري فقال‏:‏ مرها فلتلبس ثيابها ولتهرق دمًا‏)‏ وأورد من طريق الحسن عن عمران رفعه‏:‏ ‏(‏إذا نذر أحدكم أن يحج ماشيًا فليهد هديًا وليركب‏)‏ وفي سنده انقطاع‏.‏

وقد استدل بهذه الأحاديث على صحة النذر بإتيان البيت الحرام لغير حج ولا عمرة‏.‏ وعن أبي حنيفة إذا لم ينو حجًا ولا عمرة لم ينعقد ثم إن نذره راكبًا لزمه فلو مشى لزمه دم لتوفر مؤنة الركوب وإن نذر ماشيًا لزمه من حيث أحرم إلى أن ينتهي الحج أو العمرة ووافقه صاحباه فإن ركب لعذر أجزأه ولزم دم‏.‏

وفي أحد القولين عن الشافعي مثله واختلف هل يلزمه بدنة أو شاة وإن ركب بلا عذر لزمه الدم‏.‏ وعن المالكية في العاجز يرجع من قابل فيمشي ما ركب إلا أن يعجز مطلقًا فيلزمه الهدى‏.‏ وعن عبد اللّه بن الزبير لا يلزمه شيء مطلقًا‏.‏

قال القرطبي‏:‏ زيادة الأمر بالهدى رواتها ثقات‏.‏ وعن الهادوية أنه لا يجوز الركوب مع القدرة على المشي فإذا عجز جاز الركوب ولزمه دم قالوا لأن الرواية وإن جاءت مطلقة فقد قيدت برواية العجز ولا يخفى ما في أكثر هذه التفاصيل من المخالفة لصريح الدليل ويرد قول من قال بأنه لا كفارة مع العجز وتلزم مع عدمه ما وقع في حديث عكرمة عن ابن عباس وفي الرواية التي بعده فإنهما مصرحان بوجوب الهدى مع ذكر ما يدل على العجز من الضعف وعدم الطاقة والرجل المذكور في حديث أنه يهادى بين ابنيه قيل هو أبو إسرائيل المذكور في الباب الأول روى ذلك عن الخطيب حكى ذلك عنه مغلطاي‏.‏

قال الحافظ‏:‏ وهو تركيب منه وإنما ذكر الخطيب ذلك في رجل آخر مذكور في حديث لابن عباس‏.‏

 باب من نذر وهو مشرك ثم أسلم أو نذر ذبحًا في موضع معين

1 - عن عمر قال‏:‏ ‏(‏نذرت نذرًا في الجاهلية فسألت النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم بعد ما أسلمت فأمرت أن أوفي بنذري‏)‏‏.‏

رواه ابن ماجه‏.‏

2 - وعن كردم بن سفيان‏:‏ ‏(‏أنه سأل رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم عن نذر نذره في الجاهلية فقال له‏:‏ ألوئن أو لنصب قال‏:‏ لا ولكن للّه فقال‏:‏ أوف للّه ما جعلت له انحر على بوانة وأوف بنذرك‏)‏‏.‏

رواه أحمد‏.‏

3 - وعن ميمونة بنت كردم قالت‏:‏ ‏(‏كنت ردف أبي فسمعته يسأل النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم فقال يا رسول اللّه إني نذرت أن أنحر ببوانة قال‏:‏ أبها وثن أو طاغية قال‏:‏ لا قال‏:‏ أوف بنذرك‏)‏‏.‏

رواه أحمد وابن ماجه‏.‏

وفي لفظ لأحمد‏:‏ ‏(‏إني نذرت أن أنحر عددًا من الغنم وذكر معناه وفيه دلالة على جواز نحو ما يذبح‏)‏‏.‏

4 - وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده‏:‏ ‏(‏أن امرأة قالت‏:‏ يا رسول اللّه إني نذرت أن أنحر بمكان كذا وكذا مكان كان يذبح فيه أهل الجاهلية قال لصنم قالت‏:‏ لا قال‏:‏ لوثن قالت‏:‏ لا قال‏:‏ أوفي بنذرك‏)‏‏.‏

رواه أبو داود‏.‏

حديث عمر رجال إسناده في سنن ابن ماجه رجال الصحيح وهذا اللفظ لعله أحد روايات حديثه الصحيح المتفق عليه بلفظ أنه قال ‏(‏قلت يا رسول اللّه إني نذرت في الجاهلية أن أعتكف ليلة في المسجد الحرام قال‏:‏ أوف بنذرك‏)‏ وزاد البخاري في رواية‏:‏ ‏(‏فاعتكف‏)‏‏.‏

وحديث ميمونة بنت كردم رجال إسناده في سنن ابن ماجه رجال الصحيح وعبد اللّه بن عبد الرحمن الطائفي قد أخرج له مسلم وقال فيه يحيى بن معين صالح وقال أبو حاتم ليس بالقوي وقال في التقريب صدوق يخطئ وقد أخرجه ابن ماجه من طريق أخرى من حديث ابن عباس وبقية أحاديث الباب قد تقدم تخريج بعضها في باب ما جاء في نذر المباح عند ذكر المصنف رحمه اللّه لحديث ثابت بن الضحاك الذي بمعناها هنالك‏.‏

وفي حديث عمر دليل على أنه يجب الوفاء بالنذر من الكافر متى أسلم وقد ذهب إلى هذا بعض أصحاب الشافعي‏.‏ وعند الجمهور لا ينعقد النذر من الكافر وحديث عمر حجة عليهم وقد أجابوا عنه بأن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم لما عرف أن عمر قد تبرع بفعل ذلك أذن له به لأن الاعتكاف طاعة ولا يخفى ما في هذا الجواب من مخالفة الصواب‏.‏ وأجاب بعضهم بأنه صلى اللّه عليه وآله وسلم أمره بالوفاء استحبابًا لا وجوبًا ويرد بأن هذا الجواب لا يصلح لمن ادعى عدم الانعقاد‏.‏

وقد تقدم الكلام على حديث عمر في باب الاعتكاف‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏كردم‏)‏ بفتح الكاف والدال وفيه دليل على أنه يجب الوفاء بالنذر في المكان المعين إذا لم يكن في التعيين معصية ولا مفسدة من اعتقاد تعظيم جاهلية أو نحوه وبوانة قد تقدم ضبطه وتفسيره‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏قال لصنم قالت لا قال لوثن‏)‏ قال في النهاية‏:‏ الفرق بين الوثن والصنم أن الوثن كل ما له جثة معمولة من جواهر الأرض أو من الخشب والحجارة كصورة الآدمي تعمل وتنصب فتعبد والصنم الصورة بلا جثة ومنهم من لم يفرق بينهما وأطلقهما على المعنيين وقد يطلق الوثن على غير الصورة ومنه حديث عدي بن حاتم‏:‏ ‏(‏قدمت على النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم وفي عنقي صليب من ذهب فقال‏:‏ ألق هذا الوثن عنك‏)‏ انتهى‏.‏