فصل: باب المتطهر يشك هل أحدث

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: نيل الأوطار شرح منتقى الأخبار **


 باب المتطهر يشك هل أحدث

1- عن عباد بن تميم عن عمه قال‏:‏ ‏(‏شكي إلى النبي صلى اللَّه عليه وآله وسلم الرجل يخيل إليه أنه يجد الشيء في الصلاة فقال‏:‏ لا ينصرف حتى يسمع صوتًا أو يجد ريحًا‏)‏‏.‏

رواه الجماعة إلا الترمذي‏.‏

2- وعن أبي هريرة عن النبي صلى اللَّه عليه وآله وسلم قال‏:‏ ‏(‏إذا وجد أحدكم في بطنه شيئًا فأشكل عليه أخرج منه شيء أم لا فلا يخرج من المسجد حتى يسمع صوتًا أو يجد ريحًا‏)‏‏.‏

رواه مسلم والترمذي‏.‏

حديث أبي هريرة أيضًا أخرجه أبو داود في الباب عن أبي سعيد عند أحمد والحاكم وابن حبان وفي إسناد أحمد علي بن زيد بن جدعان‏.‏ وعن ابن عباس عند البزار والبيهقي وفي إسناده أبو أويس لكن تابعه الدراوردي‏.‏

قوله ‏(‏يخيل إليه أنه يجد الشيء‏)‏ يعني خروج الحدث منه‏.‏

قوله ‏(‏حتى يسمع صوتًا أو يجد ريحًا‏)‏ قال النووي‏:‏ معناه يعلم وجود أحدهما ولا يشترط السماع والشم بإجماع المسلمين‏.‏

والحديث يدل على إطراح الشكوك العارضة لمن في الصلاة والوسوسة التي جعلها صلى اللَّه عليه وآله وسلم من تسويل الشيطان وعدم الانتقال إلا لقيام ناقل متيقن كسماع الصوت وشم الريح ومشاهدة الخارج‏.‏

قال النووي في شرح مسلم‏:‏ وهذا الحديث أصل من أصول الإسلام وقاعدة عظيمة من قواعد الدين وهي أن الأشياء يحكم ببقائها على أصولها حتى يتيقن خلاف ذلك ولا يضر الشك الطارئ عليها‏.‏

فمن ذلك مسألة الباب التي ورد فيها الحديث وهي أن من تيقن الطهارة وشك في الحدث حكم ببقائه على الطهارة ولا فرق بين حصول هذا الشك في نفس الصلاة وحصوله خارج الصلاة هذا مذهبنا ومذهب جماهير العلماء من السلف والخلف‏.‏

وحكي عن مالك روايتان إحداهما أنه يلزمه الوضوء إن كان شكه خارج الصلاة ولا يلزمه إن كان في الصلاة‏.‏ والثانية يلزمه بكل حال‏.‏ وحكيت الرواية الأولى عن الحسن البصري وهو وجه شاذ محكي عن بعض أصحابنا وليس بشيء‏.‏ قال أصحابنا‏:‏ ولا فرق في شكه بين أن يستوي الاحتمالان في وقوع الحدث وعدمه أو يترجح أحدهما ويغلب في ظنه فلا وضوء عليه بكل حال قال‏:‏ أما إذا تيقن الحدث وشك في الطهارة فإنه يلزمه الوضوء بإجماع المسلمين‏.‏

قال‏:‏ ومن مسائل القاعدة المذكورة أن من شك في طلاق زوجته أو في عتق عبده أو نجاسة الماء الطاهر أو طهارة النجس أو نجاسة الثوب أو الطعام أو غيره أو أنه صلى ثلاث ركعات أم أربعًا أم أنه ركع وسجد أم لا أو أنه نوى الصوم أو الصلاة أو الوضوء أو الاعتكاف وهو في أثناء هذه العبادات وما أشبه هذه الأمثلة فكل هذه الشكوك لا تأثير لها والأصل عدم الحادث اهـ‏.‏

وإلحاق غير حالة الصلاة بها لا يصح أن يكون بالقياس لأن الخروج حالة الصلاة لا يجوز لما يطرق من الشكوك بخلاف غيرها فاستفادته من حديث أبي هريرة لعدم ذكر الصلاة فيه‏.‏ وأما ذكر المسجد فوصف طردي لا يقتضي التقييد ولهذا قال المصنف عقب سياقه‏:‏ وهذا اللفظ عام في حال الصلاة وغيرها اهـ‏.‏

على أن التقييد بالصلاة في حديث عباد بن تميم إنما وقع في سؤال السائل وفي جعله مقيدًا للجواب خلاف في الأصول مشهور‏.‏

 باب إيجاب الوضوء للصلاة والطواف ومس المصحف

1- عن ابن عمر‏:‏ ‏(‏عن النبي صلى اللَّه عليه وآله وسلم قال‏:‏ لا يقبل اللَّه صلاة بغير طهور ولا صدقة من غلول‏)‏‏.‏

رواه الجماعة إلا البخاري‏.‏

الحديث أخرجه الطبراني أيضًا‏.‏ وفي الباب عن أسامة بن عمير والد أبي المليح وأبي هريرة وأنس وأبي بكر الصديق والزبير بن العوام وأبي سعيد الخدري وغيرهم‏.‏

قال الحافظ‏:‏ وقد أوضحت طرقه وألفاظه في الكلام على أوائل الترمذي‏.‏

قوله ‏(‏لا يقبل اللَّه‏)‏ قد قدمنا الكلام عليه في باب الوضوء بالخارج من السبيل‏.‏

قوله ‏(‏ولا صدقة من غلول‏)‏ الغلول بضم الغين المعجمة هو الخيانة وأصله السرقة من مال الغنيمة قبل القسمة‏.‏

قال النووي في شرح مسلم‏:‏ وقد أجمعت الأمة على أن الطهارة شرط في صحة الصلاة قال القاضي عياض‏:‏ واختلفوا متى فرضت الطهارة للصلاة فذهب ابن الجهم إلى أن الوضوء كان أول الإسلام سنة ثم نزل فرضه في آية التيمم‏.‏ وقال الجمهور‏:‏ بل كان قبل ذلك فرضًا وقد استوفى الكلام على ذلك الحافظ في أول كتاب الوضوء في الفتح ‏[‏قال الحافظ في الفتح‏:‏ وتمسك بهذه الآية وآية الوضوء من قال أن الوضوء أول ما فرض بالمدينة فأما قبل ذلك فنقل ابن عبد البر اتفاق أهل السير على أن غسل الجنابة إنما فرض على النبي صلى اللَّه عليه وآله وسلم وهو بمكة كما فرضت الصلاة وأنه لم يصل قط إلا بوضوء قال‏:‏ وهذا مما لا يجهله عالم وقال الحاكم في المستدرك‏:‏ وأهل السنة بهم حاجة إلى دليل الرد على من زعم أن الوضوء لم يكن قبل نزول آية المائدة ثم ساق حديث ابن عباس ‏(‏دخلت فاطمة على النبي صلى اللَّه عليه وآله وسلم وهي تبكي فقالت‏:‏ هؤلاء الملأ من قريش قد تعاهدوا ليقتلوك فقال‏:‏ ائتوني بوضوء فتوضأ‏)‏ الحديث‏.‏

قلت‏:‏ وهذا يصلح ردًا على من أنكر وجود الوضوء قبل الهجرة لا على من أنكر وجوبه وقد جزم ابن الجهم المالكي بأنه كان قبل الهجرة مندوبًا وجزم ابن حزم بأنه لم يشرع إلا بالمدينة ورد عليهما بما أخرجه ابن لهيعة في المغازي التي يرويها عن أبي الأسود يتم عروة عنه أن جبريل علم النبي صلى اللَّه عليه وآله وسلم الوضوء عند نزوله عليه بالوحي وهو مرسل ووصله أحمد من طريق ابن لهيعة أيضًا لكن قال عن الزهري عن عروة عن أسامة بن زيد عن أبيه وأخرجه ابن ماجه من رواية رشدين بن سعد عن عقيل عن الزهري نحوه لكن لم يذكر زيد بن حارثة في السند وأخرجه الطبراني في الأوسط من طريق الليث عن عقيل موصولًا ولو ثبت لكان على شرط الصحيحين لكن المعروف رواية ابن لهيعة اهـ‏.‏ واللَّه أعلم‏]‏‏.‏

واختلفوا هل الوضوء فرض على كل قائم إلى الصلاة أم على المحدث خاصة فذهب ذاهبون من السلف إلى أن الوضوء لكل صلاة فرض بدليل قوله ‏{‏إذا قمتم إلى الصلاة‏}‏ الآية‏.‏ وذهب قوم إلى أن ذلك قد كان ثم نسخ‏.‏ وقيل الأمر به على الندب‏.‏ وقيل لا بل لم يشرع إلا لمن يحدث ولكن تجديده لكل صلاة مستحب‏.‏ قال النووي حاكيًا عن القاضي‏:‏ وعلى هذا أجمع أهل الفتوى بعد ذلك ولم يبق بينهم خلاف‏.‏

ومعنى الآية عندهم إذا قمتم محدثين وهكذا نسبه الحافظ في الفتح إلى الأكثر‏.‏

ويدل على ذلك ما أخرجه أحمد وأبو داود عن عبد اللَّه بن حنظلة الأنصاري ‏(‏أن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم أمر بالوضوء لكل صلاة طاهرًا كان أو غير طاهر فلما شق عليه وضع عنه الوضوء إلا من حدث‏)‏‏.‏

ولمسلم من حديث بريدة‏:‏ ‏(‏كان النبي صلى اللَّه عليه وآله وسلم يتوضأ عند كل صلاة فلما كان يوم الفتح صلى الصلوات بوضوء واحد فقال له عمر‏:‏ إنك فعلت شيئًا لم تكن تفعله فقال‏:‏ عمدًا فعلته‏)‏ أي لبيان الجواز واستدل الدارمي في مسنده على ذلك بقوله صلى اللَّه عليه وآله وسلم ‏(‏لا وضوء إلا من حدث‏)‏ فالحق استحباب الوضوء عند القيام إلى الصلاة وما شكك به صاحب المنار في ذلك غير نير فإن الأحاديث مصرحة بوقوع الوضوء منه صلى اللَّه عليه وآله وسلم لكل صلاة إلى وقت الترخيص وهو أعم من أن يكون لحدث ولغيره‏.‏ والآية دلت على هذا وليس فيها التقييد بحال الحدث وحديث ‏(‏لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم عند كل صلاة بوضوء ومع كل وضوء بسواك‏)‏ عند أحمد من حديث أبي هريرة مرفوعًا من أعظم الأدلة على المطلوب‏.‏

وسيذكر المصنف هذا الحديث في باب فضل الوضوء لكل صلاة‏.‏

وقد أخرج الجماعة إلا مسلمًا أن النبي صلى اللَّه عليه وآله وسلم ‏(‏كان يتوضأ عند كل صلاة‏)‏ زاد الترمذي ‏(‏طاهرًا وغير طاهر‏)‏ وفي حديث عدم التوضئ من لحوم الغنم دليل على تجديد الوضوء على الوضوء لأنه حكم صلى اللَّه عليه وآله وسلم بأن أكل لحومها غير ناقض ثم قال للسائل عن الوضوء إن شئت‏.‏

وقد وردت الأحاديث الصحيحة في فضل الوضوء كحديث‏:‏ ‏(‏ما منكم من أحد يتوضأ فيسبغ الوضوء ثم يقول أشهد أن لا إله إلا اللَّه وحده لا شريك له وأن محمدًا عبده ورسوله إلا فتحت له أبواب الجنة الثمانية يدخل من أيها شاء‏)‏ أخرجه مسلم وأهل السنن من حديث عقبة بن عامر وحديث ‏(‏أنها تخرج خطاياه مع الماء أو مع آخر قطر الماء‏)‏ عند مسلم ومالك والترمذي من حديث أبي هريرة وحديث ‏(‏من توضأ نحو وضوئي هذا غفر له ما تقدم من ذنبه وكانت صلاته ومشيه إلى المسجد نافلة‏)‏ أخرجه الشيخان من حديث عثمان وحديث ‏(‏إذا توضأت اغتسلت من خطاياك كيوم ولدتك أمك‏)‏ عند مسلم والنسائي من حديث أبي أمامة وغير ذلك كثير فهل يجمل بطالب الحق الراغب في الأجر أن يدع هذه الأدلة التي لا يحتجب أنوارها على غير أكمه والمثوبات التي لا يرغب عنها إلا أبله ويتمسك بأذيال تشكيك منهار وشبهة مهدومة هي مخافة الوقوع بتجديد الوضوء لكل صلاة من غير حدث في الوعيد الذي ورد في حديث ‏(‏فمن زاد فقد أساء وتعدى وظلم‏)‏ بعد أن يتكاثر الأدلة على أن الوضوء لكل صلاة عزيمة وأن الاكتفاء بوضوء واحد لصلوات متعددة رخصة بل ذهب قوم إلى الوجوب عند القيام للصلاة كما أسلفنا دع عنك هذا كله‏.‏ هذا ابن عمر يروي أن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم قال‏:‏ ‏(‏من توضأ على طهر كتب اللَّه له به عشر حسنات‏)‏ أخرجه الترمذي وأبو داود فهل أنص على المطلوب من هذا وهل يبقى بعد هذا التصريح ارتياب‏.‏

2- وعن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم عن أبيه عن جده‏:‏ ‏(‏أن النبي صلى اللَّه عليه وآله وسلم كتب إلى أهل اليمن كتابًا وكان فيه لا يمس القرآن إلا طاهر‏)‏‏.‏

رواه الأثرم والدارقطني وهو لمالك في الموطأ مرسلًا عن عبد اللَّه بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم‏:‏ ‏(‏أن في الكتاب الذي كتبه رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم لعمرو بن حزم أن لا يمس القرآن إلا طاهرًا‏)‏ وقال الأثرم‏:‏ واحتج أبو عبد اللَّه يعني أحمد بحديث ابن عمر‏:‏ ‏(‏ولا يمس المصحف إلا على طهارة‏)‏‏.‏

الحديث أخرجه الحاكم في المستدرك والبيهقي في الخلافيات والطبراني وفي إسناده سويد بن أبي حاتم وهو ضعيف‏.‏

وذكر الطبراني في الأوسط أنه تفرد به وحسَّن الحازمي إسناده وقد ضعف النووي وابن كثير في إرشاده وابن حزم حديث حكيم بن حزام وحديث عمرو بن حزم جميعًا‏.‏

وفي الباب عن ابن عمر عند الدارقطني والطبراني قال الحافظ‏:‏ وإسناده لا بأس به لكن فيه سليمان الأشدق وهو مختلف فيه رواه عن سالم عن أبيه ابن عمر قال الحافظ‏:‏ ذكر الأثرم أن أحمد احتج به‏.‏

وفي الباب أيضًا عن عثمان ابن أبي العاص عند الطبراني وابن أبي داود في المصاحف وفي إسناده انقطاع‏.‏ وفي رواية الطبراني من لا يعرف وعن ثوبان أورده علي بن عبد العزيز في منتخب مسنده وفي إسناده حصيب بن جحدر وهو متروك‏.‏ وروى الدارقطني في قصة إسلام عمر أن أخته قالت له قبل أن يسلم‏:‏ إنه رجس ولا يمسه إلا المطهرون قال الحافظ‏:‏ وفي إسناده مقال وفيه عن سلمان موقوفًا أخرجه الدارقطني والحاكم وكتاب عمرو بن حزم تلقاه الناس بالقبول‏.‏

قال ابن عبد البر‏:‏ إنه أشبه المتواتر لتلقي الناس له بالقبول وقال يعقوب بن سفيان‏:‏ لا أعلم كتابًا أصح من هذا الكتاب فإن أصحاب رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم والتابعين يرجعون إليه ويدعون رأيهم‏.‏ وقال الحاكم‏:‏ قد شهد عمر بن عبد العزيز والزهري لهذا الكتاب بالصحة‏.‏

والحديث يدل على أنه لا يجوز مس المصحف إلا لمن كان طاهرًا ولكن الطاهر يطلق بالاشتراك على المؤمن والطاهر من الحدث الأكبر والأصغر ومن ليس على بدنه نجاسة‏.‏

ويدل لإطلاقه على الأول قول اللَّه تعالى ‏{‏إنما المشركون نجس‏}‏ وقوله صلى اللَّه عليه وآله وسلم لأبي هريرة ‏(‏المؤمن لا ينجس‏)‏ وعلى الثاني ‏{‏وإن كنتم جنبًا فاطهروا‏}‏ وعلى الثالث قوله صلى اللَّه عليه وآله وسلم في المسح على الخفين ‏(‏دعهما فإني أدخلتهما طاهرتين‏)‏ وعلى الرابع الإجماع على أن الشيء الذي ليس عليه نجاسة حسية ولا حكمية يسمى طاهرًا وقد ورد إطلاق ذلك في كثير فمن أجاز حمل المشترك على جميع معانيه حمله عليها هنا‏.‏

والمسألة مدونة في الأصول وفيها مذاهب‏.‏ والذي يترجح أن المشترك مجمل فيها فلا يعمل به حتى يبين وقد وقع الإجماع على أنه لا يجوز للمحدث حدث أكبر أن يمس المصحف وخالف في ذلك داود‏.‏

‏(‏استدل المانعون للجنب‏)‏ بقوله تعالى ‏{‏لا يمسه إلا المطهرون‏}‏ وهو لا يتم إلا بعد جعل الضمير راجعًا إلى القرآن والظاهر رجوعه إلى الكتاب وهو اللوح المحفوظ لأنه الأقرب والمطهرون الملائكة ولو سلم عدم الظهور فلا أقل من الاحتمال فيمتنع العمل بأحد الأمرين ويتوجه الرجوع إلى البراءة الأصلية ولو سلم رجوعه إلى القرآن على التعيين لكانت دلالته على المطلوب وهو منع الجنب من مسه غير مسلمة لأن المطهر من ليس بنجس والمؤمن ليس بنجس دائمًا لحديث ‏(‏المؤمن لا ينجس‏)‏ وهو متفق عليه فلا يصح حمل المطهر على من ليس بجنب أو حائض أو محدث أو متنجس بنجاسة عينية بل يتعين حمله على من ليس بمشرك كما في قوله تعالى ‏{‏إنما المشركون نجس‏}‏ لهذا الحديث ولحديث النهي عن السفر بالقرآن إلى أرض العدو ولو سلم صدق اسم الطاهر على من ليس بمحدث حدثًا أكبر أو أصغر فقد عرفت أن الراجح كون المشترك مجملًا في معانيه فلا يعين حتى يبين‏.‏ وقد دل الدليل ههنا أن المراد به غيره لحديث ‏(‏المؤمن لا ينجس‏)‏ ولو سلم عدم وجود دليل يمنع من إرادته لكان تعيينه لمحل النزاع ترجيحًا بلا مرجح وتعيينه لجميعها استعمالًا للمشترك في جميع معانيه وفيه الخلاف ولو سلم رجحان القول بجواز الاستعمال للمشترك في جميع معانيه لما صح لوجود المانع وهو حديث ‏(‏المؤمن لا ينجس‏)‏‏.‏

واستدلوا أيضًا بحديث الباب وأجيب بأنه غير صالح للاحتجاج لأنه من صحيفة غير مسموعة وفي رجال إسناده خلاف شديد ولو سلم صلاحيته للاحتجاج لعاد البحث السابق في لفظ طاهر وقد عرفته‏.‏

قال السيد العلامة محمد بن إبراهيم الوزير‏:‏ إن إطلاق اسم النجس على المؤمن الذي ليس بطاهر من الجنابة أو الحيض أو الحدث الأصغر لا يصح لا حقيقة ولا مجازًا ولا لغة صرح بذلك في جواب سؤال ورد عليه فإن ثبت هذا فالمؤمن طاهر دائمًا فلا يتناوله الحديث سواء كان جنبًا أو حائضًا أو محدثًا أو على بدنه نجاسة‏.‏

‏(‏فإن قلت‏:‏‏)‏ إذا تم ما تريد من حمل الطاهر على من ليس بمشرك فما جوابك فيما ثبت في المتفق عليه من حديث ابن عباس أنه صلى اللَّه عليه وآله وسلم كتب إلى هرقل عظيم الروم أسلم تسلم وأسلم يؤتك اللَّه أجرك مرتين فإن توليت فإن عليك إثم الأريسيين ويا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة‏)‏ إلى قوله ‏(‏مسلمون‏)‏ مع كونهم جامعين بين نجاستي الشرك والاجتناب ووقوع اللمس منهم له معلوم‏.‏ ‏(‏قلت‏:‏‏)‏ اجعله خاصًا بمثل الآية والآيتين فإنه يجوز تمكين المشرك من مس ذلك المقدار لمصلحة كدعائه إلى الإسلام ويمكن أن يجاب عن ذلك بأنه قد صار باختلاطه بغيره لا يحرم لمسه ككتب التفسير فلا تخصص به الآية والحديث‏.‏ إذا تقرر لك هذا عرفت عدم انتهاض الدليل على منع من عدا المشرك وقد عرفت الخلاف في الجنب‏.‏ وأما المحدث حدثًا أصغر فذهب ابن عباس والشعبي والضحاك وزيد بن علي والمؤيد باللَّه والهادوية وقاضي القضاة وداود إلى أنه يجوز له مس المصحف‏.‏

وقال القاسم وأكثر الفقهاء والإمام يحيى‏:‏ لا يجوز واستدلوا بما سلف وقد سلف ما فيه‏.‏

3- وعن طاوس عن رجل قد أدرك النبي صلى اللَّه عليه وآله وسلم‏:‏ ‏(‏أن النبي صلى اللَّه عليه وآله وسلم قال‏:‏ إنما الطواف بالبيت صلاة فإذا طفتم فأقلوا الكلام‏)‏‏.‏

رواه أحمد والنسائي‏.‏

الحديث أخرجه أيضًا الترمذي والحاكم والدارقطني من حديث ابن عباس وصححه ابن السكن وابن خزيمة وابن حبان وقال الترمذي‏:‏ روي مرفوعًا وموقوفًا ولا يعرف مرفوعًا إلا من حديث عطاء ومداره على عطاء بن السائب عن طاوس عن ابن عباس واختلف على عطاء في رفعه ووقفه ورجح الموقوف النسائي والبيهقي وابن الصلاح والمنذري والنووي وزاد أن رواية الرفع ضعيفة‏.‏

قال الحافظ‏:‏ وفي إطلاق ذلك نظر فإن عطاء بن السائب صدوق وإذا روى عنه الحديث مرفوعًا تارة وموقوفًا تارة فالحكم عند هؤلاء الجماعة للرفع والنووي ممن يعتمد ذلك ويكثر منه ولا يلتفت إلى تعليل الحديث به إذا كان الرافع ثقة‏.‏ وقد أخرج الحديث الحاكم من رواية سفيان عن عطاء وهو ممن سمع منه قبل الاختلاط بالاتفاق ولكنه موقوف من طريقه‏.‏ وقد أطال الكلام في التلخيص فليرجع إليه‏.‏

والحديث يدل على أنه ينبغي أن يكون الطواف على طهارة كطهارة الصلاة وفيه خلاف محله كتاب الحج‏.‏

 أبواب ما يستحب الوضوء لأجله

 باب استحباب الوضوء مما مسته النار والرخصة في تركه

1- عن إبراهيم بن عبد اللَّه بن قارظ‏:‏ ‏(‏أنه وجد أبا هريرة يتوضأ على المسجد فقال‏:‏ إنما أتوضأ من أثوار أقط أكلتها لأني سمعت رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم يقول‏:‏ توضئوا مما مست النار‏)‏‏.‏

2- وعن عائشة عن النبي صلى اللَّه عليه وآله وسلم قال‏:‏ ‏(‏توضؤا مما مست النار‏)‏‏.‏

3- وعن زيد بن ثابت‏:‏ ‏(‏عن النبي صلى اللَّه عليه وآله وسلم مثله‏)‏‏.‏

رواهن أحمد ومسلم والنسائي‏.‏

قوله ‏(‏من أثوار أقط‏)‏ الأثوار جمع ثور وهي القطعة من الأقط وهي بالثاء المثلثة‏.‏ والأقط لبن جامد مستحجر وهي مما مسته النار‏.‏

قوله ‏(‏يتوضأ على المسجد‏)‏ استدل به على جواز الوضوء في المسجد‏.‏ وقد نقل ابن المنذر إجماع العلماء على جوازه ما لم يؤذ به أحدًا‏.‏

والأحاديث تدل على وجوب الوضوء مما مسته النار وقد اختلف الناس في ذلك فذهب جماعة من الصحابة منهم الخلفاء الأربعة وعبد اللَّه بن مسعود وأبو الدرداء وابن عباس وعبد اللَّه بن عمر وأنس بن مالك وجابر بن سمرة وزيد بن ثابت وأبو موسى الأشعري وأبو هريرة وأُبيَّ بن كعب وأبو طلحة وعامر بن ربيعة وأبو أمامة والمغيرة بن شعبة وجابر بن عبد اللَّه وعائشة وجماهير التابعين وهو مذهب مالك وأبي حنيفة والشافعي وابن المبارك وأحمد وإسحاق بن راهويه ويحيى بن يحيى وأبي ثور وأبي خيثمة وسفيان الثوري وأهل الحجاز وأهل الكوفة إلى أنه لا ينتقض الوضوء بأكل ما مسته النار‏.‏

وذهبت طائفة إلى وجوب الوضوء الشرعي مما مسته النار وقد ذكرناهم في باب الوضوء من لحوم الإبل‏.‏

استدل الأولون بالأحاديث التي ذكرناها في هذا الباب‏.‏ واستدل الآخرون بالأحاديث التي مر فيها الأمر بالوضوء مما مسته النار وقد ذكر المصنف بعضها ههنا وأجاب الأولون عن ذلك بجوابين الأول أنه منسوخ بحديث جابر الآتي‏.‏ الثاني أن المراد بالوضوء غسل الفم والكفين‏.‏ قال النووي‏:‏ ثم أن هذا الخلاف الذي حكيناه كان في الصدر الأول ثم أجمع العلماء بعد ذلك أنه لا يجب الوضوء من أكل ما مسته النار‏.‏

ولا يخفاك أن الجواب الأول إنما يتم بعد تسليم أن فعله صلى اللَّه عليه وآله وسلم يعارض القول الخاص بنا وينسخه والمتقرر في الأصول خلافه‏.‏ وقد نبهناك على ذلك في باب الوضوء من لحوم الإبل‏.‏ وأما الجواب الثاني فقد تقرر أن الحقائق الشرعية مقدمة على غيرها وحقيقة الوضوء الشرعية هي غسل جميع الأعضاء التي تغسل للوضوء فلا نخالف هذه الحقيقة إلا لدليل‏.‏ وأما دعوى الإجماع فهي من الدعاوى التي لا يهابها طالب الحق ولا تحول بينه وبين مراده منه نعم الأحاديث الواردة في ترك التوضئ من لحوم الغنم مخصصة لعموم الأمر بالوضوء مما مست النار وما عدا لحوم الغنم داخل تحت ذلك العموم‏.‏

4 - وعن ميمونة قالت‏:‏ ‏(‏أكل النبي صلى اللَّه عليه وآله وسلم من كتف شاة ثم قام فصلى ولم يتوضأ‏)‏‏.‏

5- وعن عمرو بن أميبة الضمري قال‏:‏ ‏(‏رأيت النبي صلى اللَّه عليه وآله وسلم يحتز من كتف شاة فأكل منها فدعي إلى الصلاة فقام وطرح السكين وصلى ولم يتوضأ‏)‏‏.‏

متفق عليهما‏.‏

قوله ‏(‏يحتز من كتف شاة‏)‏ قال النووي‏:‏ فيه جواز قطع اللحم بالسكين وذلك قد تدعو الحاجة إليه لصلابة اللحم أو كبر القطعة قالوا‏:‏ ويكره من غير حاجة‏.‏

قوله ‏(‏فدعي إلى الصلاة‏)‏ في هذا دليل على استحباب استدعاء الأئمة إلى الصلاة إذا حضر وقتها‏.‏

والحديث يدل على عدم وجوب الوضوء مما مسته النار وقد عرفت الخلاف والكلام فيه فلا نعيده‏.‏

6- وعن جابر قال‏:‏ ‏(‏أكلت مع النبي صلى اللَّه عليه وآله وسلم ومع أبي بكر وعمر خبزًا ولحمًا فصلوا ولم يتوضئوا‏)‏‏.‏

رواه أحمد‏.‏

7 - وعن جابر قال‏:‏ ‏(‏كان آخر الأمرين من رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم ترك الوضوء مما مسته النار‏)‏‏.‏

رواه أبو داود والنسائي‏.‏

الحديث الأول أخرجه ابن أبي شيبة والضياء في المختارة‏.‏ والحديث الآخر أخرجه أيضًا ابن خزيمة وابن حبان وقال أبو داود‏:‏ هذا اختصار من حديث‏:‏ ‏(‏قربت للنبي صلى اللَّه عليه وآله وسلم خبزًا ولحمًا فأكله ثم دعا بالوضوء فتوضأ قبل الظهر ثم دعا بفضل طعامه فأكل ثم قام إلى الصلاة ولم يتوضأ‏)‏ وقال ابن أبي حاتم في العلل عن أبيه نحوه وزاد ويمكن أن يكون شعيب بن أبي حمزة حدث به من حفظه فوهم فيه وقال ابن حبان نحوًا مما قاله أبو داود وله علة أخرى قال الشافعي في سنن حرملة‏:‏ لم يسمع ابن المنكدر هذا الحديث من جابر إنما سمعه من عبد اللَّه بن محمد بن عقيل‏.‏

وقال البخاري في الأوسط حدثنا علي بن المديني قال قلت لسفيان إن أبا علقمة الفروي روى عن ابن المنكدر عن جابر عن النبي صلى اللَّه عليه وآله وسلم ‏(‏أكل لحمًا ولم يتوضأ‏)‏ فقال‏:‏ أحسبني سمعت ابن المنكدر قال أخبرني من سمع جابرًا قال الحافظ‏:‏ ويشهد لأصل الحديث ما أخرجه البخاري في الصحيح عن سعيد بن الحارث قلت لجابر‏:‏ الوضوء مما مست النار قال‏:‏ لا وللحديث شاهد من حديث محمد بن مسلمة أخرجه الطبراني في الأوسط ولفظه‏:‏ ‏(‏أكل آخر مرة لحمًا ثم صلى ولم يتوضأ‏)‏ وقال النووي في شرح مسلم‏:‏ حديث جابر حديث صحيح رواه أبو داود والنسائي وغيرهما من أهل السنن بأسانيدهم الصحيحة‏.‏

والحديث يدل على عدم وجوب الوضوء مما مسته النار وقد تقدم الكلام على ذلك‏.‏

قال المصنف رحمه اللَّه‏:‏ وهذه النصوص إنما تنفي الإيجاب لا الاستحباب ولهذا قال للذي سأله‏:‏ ‏(‏أنتوضأ من لحوم الغنم قال‏:‏ إن شئت فتوضأ وإن شئت فلا تتوضأ‏)‏ ولولا أن الوضوء من ذلك مستحب لما أذن فيه لأنه إسراف وتضييع للماء بغير فائدة انتهى‏.‏

 باب فضل الوضوء لكل صلاة

1- عن أبي هريرة ‏(‏عن النبي صلى اللَّه عليه وآله وسلم قال‏:‏ لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم عند كل صلاة بوضوء ومع كل وضوء بسواك‏)‏‏.‏

رواه أحمد بإسناد صحيح‏.‏

الحديث أخرج نحوه النسائي وابن خزيمة والبخاري تعليقًا من حديثه وروى نحوه ابن حبان في صحيحه من حديث عائشة وهو يدل على عدم وجوب الوضوء عند القيام إلى الصلاة وهو مذهب الأكثر بل حكى النووي عن القاضي عياض أنه أجمع عليه أهل الفتوى ولم يبق بينهم خلاف وقد قدمنا الكلام على ذلك في باب إيجاب الوضوء للصلاة والطواف ومس المصحف‏.‏

2- وعن أنس قال‏:‏ ‏(‏كان رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم يتوضأ عند كل صلاة قيل له فأنتم كيف تصنعون قال‏:‏ كنا نصلي الصلوات بوضوء واحد ما لم نحدث‏)‏‏.‏

رواه الجماعة إلا مسلمًا‏.‏

قوله ‏(‏عند كل صلاة‏)‏ قال الحافظ‏:‏ أي مفروضة زاد الترمذي من طريق حميد عن أنس طاهرًا أو غير طاهر‏.‏ وظاهره أن تلك كانت عادته‏.‏

قال الطحاوي‏:‏ ويحتمل أن ذلك كان واجبًا عليه خاصة ثم نسخ يوم الفتح بحديث بريدة يعني الذي أخرجه مسلم ‏(‏أنه صلى الصلوات يوم الفتح بوضوء واحد‏)‏ قال‏:‏ ويحتمل أنه كان يفعله استحبابًا ثم خشي أن يظن وجوبه فتركه لبيان الجواز‏.‏

قال الحافظ‏:‏ وهذا أقرب وعلى تقدير الأول فالنسخ كان قبل الفتح بدليل حديث سويد بن النعمان فإنه كان في خيبر وهي قبل الفتح بزمان‏.‏

قوله ‏(‏كيف كنتم تصنعون‏)‏ القائل عمرو بن عامر والمراد الصحابة ولابن ماجه‏:‏ وكنا نصلي الصلوات كلها بوضوء واحد‏.‏

والحديث يدل على استحباب الوضوء لكل صلاة وعدم وجوبه‏.‏

3- وعن عبد اللَّه بن حنظلة‏:‏ ‏(‏أن النبي صلى اللَّه عليه وآله وسلم أمر بالوضوء لكل صلاة طاهرًا كان أو غير طاهر فلما شق ذلك عليه أمر بالسواك عند كل صلاة ووضع عنه الوضوء إلا من حدث وكان عبد اللَّه بن عمر يرى أن به قوة على ذلك كان يفعله حتى مات‏)‏‏.‏

رواه أحمد وأبو داود‏.‏

4- وروى أبو داود والترمذي بإسناد ضعيف عن ابن عمر‏:‏ ‏(‏أن النبي صلى اللَّه عليه وآله وسلم قال‏:‏ من توضأ على طهر كتب اللَّه به عشر حسنات‏)‏‏.‏

أما الرواية الأولى عن عبد اللَّه بن حنظلة ففي إسنادها محمد بن إسحاق وقد عنعن وفي الاحتجاج به خلاف‏.‏ وأما الرواية الثانية عن ابن عمر ففي إسنادها الإفريقي عن أبي غطيف ولهذا قال المصنف بإسناد ضعيف وهكذا قال الترمذي في سننه‏.‏

والحديث الأول فيه دليل على عدم وجوب الوضوء لكل صلاة وعلى استحبابه لكل صلاة مع الطهارة وقد تقدم الكلام عليه‏.‏

قوله ‏(‏عشر حسنات‏)‏ قال ابن رسلان‏:‏ يشبه أن يكون المراد كتب اللَّه له به عشرة وضوآت فإن أقل ما وعد به من الأضعاف الحسنة بعشر أمثالها وقد وعد بالواحدة سبعمائة ووعد ثوابًا بغير حساب‏.‏

 باب استحباب الطهارة لذكر اللَّه عز وجل والرخصة في تركه

1- عن المهاجر بن قنفذ‏:‏ ‏(‏أنه سلَّم على النبي صلى اللَّه عليه وآله وسلم وهو يتوضأ فلم يرد عليه حتى فرغ من وضوئه فرد عليه وقال‏:‏ إنه لم يمنعني أن أرد عليك إلا أني كرهت أن أذكر اللَّه إلى على طهارة‏)‏‏.‏

رواه أحمد وابن ماجه بنحوه‏.‏

الحديث أخرجه أيضًا أبو داود والنسائي‏.‏ وهو يدل على كراهة الذكر للمحدث حدثًا أصغر‏.‏ ولفظ أبي داود وهو يبول ويعارضه ما سيأتي من حديث علي وعائشة فإن في حديث علي ‏(‏لا يحجزه من القرآن شيء ليس الجنابة‏)‏ فإن كان الحدث الأصغر لا يمنعه عن قراءة القرآن وهو أفضل الذكر كان جواز ما عداه من الأذكار بطريق الأولى‏.‏

وكذلك حديث عائشة فإن قولها ‏(‏كان النبي صلى اللَّه عليه وآله وسلم يذكر اللَّه على كل أحيانه‏)‏ مشعر بوقوع الذكر منه حال الحدث الأصغر لأنه من جملة الأحيان المذكورة فيمكن الجمع بأن هذا الحديث خاص فيخص به ذلك العموم ويمكن حمل الكراهة على كراهة التنزيه ومثله الحديث الذي بعده ويمكن أن يقال إن النبي صلى اللَّه عليه وآله وسلم إنما ترك الجواب لأنه لم يخش فوت من سلم عليه فيكون دليلًا على جواز التراخي مع عدم خشية الفوت لمن كان مشتغلًا بالوضوء ولكن التعليل بكراهته لذكر اللَّه في تلك الحال يدل على أن الحدث سبب الكراهة من غير نظر إلى غيره‏.‏

2- وعن أبي جهيم بن الحارث قال‏:‏ ‏(‏أقبل النبي صلى اللَّه عليه وآله وسلم من نحو بئر جمل فلقيه رجل فسلم عليه فلم يرد النبي صلى اللَّه عليه وآله وسلم حتى أقبل على الجدار فمسح بوجهه ويديه ثم رد عليه السلام‏)‏‏.‏

متفق عليه‏.‏ ومن الرخصة في ذلك حديث عبد اللَّه بن سلمة عن علي‏.‏ وحديث ابن عباس قال‏:‏ بت عند خالتي ميمونة وسنذكرهما‏.‏

قوله ‏(‏بئر جمل‏)‏ بجيم وميم مفتوحتين وفي رواية النسائي بئر الجمل بالألف واللام وهو موضع بقرب المدينة‏.‏

قوله ‏(‏حتى أقبل على الجدار فمسح وجهه‏)‏ هو محمول على أنه صلى اللَّه عليه وآله وسلم كان عادمًا للماء حال التيمم فإن التيمم مع وجود الماء لا يجوز للقادرين على استعماله قال النووي‏:‏ ولا فرق بين أن يضيق وقت الصلاة وبين أن يتسع‏.‏

ولا فرق أيضًا بين صلاة الجنازة والعيد إذا خاف فوتهما‏.‏ وهذا مذهبنا ومذهب الجمهور‏.‏

وقال أبو حنيفة‏:‏ يجوز أن يتيمم مع وجود الماء لصلاة الجنازة والعيد إذا خاف فوتهما انتهى‏.‏ وهو أيضًا مذهب الهادوية‏.‏

وفي الحديث دلالة على جواز التيمم من الجدار إذا كان عليه غبار‏.‏ قال النووي‏:‏ وهو جائز عندنا وعند الجمهور من السلف والخلف‏.‏ واحتج به من جوز التيمم بغير تراب‏.‏ وأجيب بأنه محمول على جدار عليه تراب‏.‏ وفيه دليل على جواز التيمم للنوافل والفضائل كسجود التلاوة والشكر ومس المصحف ونحوها كما يجوز للفرائض وهذا مذهب العلماء كافة قاله النووي‏.‏

وفي الحديث أن المسلم في حال قضاء الحاجة لا يستحق جوابًا وهذا متفق عليه‏.‏ قال النووي‏:‏ ويكره للقاعد على قضاء الحاجة أن يذكر اللَّه بشيء من الأذكار قالوا‏:‏ فلا يسبح ولا يهلل‏.‏ ولا يرد السلام‏.‏ ولا يشمت العاطس‏.‏ ولا يحمد اللَّه إذا عطس‏.‏ ولا يقول مثل ما يقول المؤذن‏.‏ وكذلك لا يأتي بشيء من هذه الأذكار في حال الجماع‏.‏ وإذا عطس في هذه الأحوال يحمد اللَّه تعالى في نفسه ولا يحرك به لسانه وهذا الذي ذكرناه من كراهة الذكر هو كراهة تنزيه لا تحريم فلا إثم على فاعله‏.‏

وإلى هذا ذهبت الشافعية والأكثرون وحكاه ابن المنذر عن ابن عباس وعطاء ومعبد الجهني وعكرمة وقال إبراهيم النخعي وابن سيرين‏:‏ لا بأس بالذكر حال قضاء الحاجة ولا خلاف أن الضرورة إذا دعت إلى الكلام كما إذا رأى ضريرًا يقع في بئر أو رأى حية تدنو من أعمى كان جائزًا‏.‏

وقد تقدم طرف من هذا الحديث وطرف من شرحه في باب كف المتخلي عن الكلام‏.‏

قوله ‏(‏ومن الرخصة في ذلك حديث عبد اللَّه بن سلمة عن علي‏)‏ سيذكره المصنف في باب تحريم القرآن على الحائض والجنب‏.‏

وفيه ‏(‏أنه كان لا يحجزه عن القرآن شيء ليس الجنابة‏)‏ فأشعر بجواز قراءة القرآن في جميع الحالات إلا في حال الجنابة والقرآن أشرف الذكر فجواز غيره بالأولى‏.‏ ومن جملة الحالات حالة الحدث الأصغر‏.‏

قوله ‏(‏وحديث ابن عباس بت عند خالتي ميمونة‏)‏ محل الدلالة منه قوله ثم قرأ العشر الآيات أولها ‏{‏إن في خلق السماوات والأرض‏}‏ إلى آخر السورة‏.‏ قال ابن بطال ومن تبعه‏:‏ فيه دليل على رد قول من كره قراءة القرآن على غير طهارة لأنه صلى اللَّه عليه وآله وسلم قرأ هذه الآيات بعد قيامه من النوم قبل أن يتوضأ وتعقبه ابن المنير وغيره بأن ذلك مفرع على أن النوم في حقه ينقض وليس كذلك لأنه قال تنام عيناي ولا ينام قلبي‏.‏ وأما كونه توضأ عقب ذلك فلعله جدد الوضوء أو أحدث بعد ذلك فتوضأ قال الحافظ‏:‏ وهو تعقب جيد بالنسبة إلى قول ابن بطال بعد قيامه من النوم لأنه لم يتعين كونه أحدث في النوم لكن لما عقب ذلك بالوضوء كان ظاهرًا في كونه أحدث ولا يلزم من كون نومه لا ينقض وضوءه أن لا يقع منه حدث وهو نائم نعم خصوصيته أنه إن وقع شعر به بخلاف غيره وما ادعوه من التجديد وغيره الأصل عدمه وقد سبق الإسماعيلي إلى معنى ما ذكره ابن المنير‏.‏

3- وعن عائشة رضي اللَّه عنها قالت‏:‏ ‏(‏كان النبي صلى اللَّه عليه وآله وسلم يذكر اللَّه على كل أحيانه‏)‏‏.‏

رواه الخمسة إلا النسائي وذكره البخاري بغير إسناد‏.‏

الحديث أخرجه مسلم أيضًا قال النووي في شرح مسلم‏:‏ هذا الحديث أصل في ذكر اللَّه بالتسبيح والتهليل والتكبير والتحميد وشبهها من الأذكار‏.‏ وهذا جائز بإجماع المسلمين وإنما اختلف العلماء في جواز قراءة القرآن للجنب والحائض وسيأتي الكلام على ذلك في باب تحريم القراءة على الحائض والجنب‏.‏

واعلم أنه يكره الذكر في حالة الجلوس على البول والغائط‏.‏ وفي حالة الجماع‏.‏ وقد ذكرنا ذلك في الحديث الذي قبل هذا فيكون الحديث مخصوصًا بما سوى هذه الأحوال ويكون المقصود أنه صلى اللَّه عليه وآله وسلم كان يذكر اللَّه تعالى متطهرًا ومحدثًا وجنبًا وقائمًا وقاعدًا ومضجعًا وماشيًا قاله النووي‏.‏