فصل: باب مَا جَاءَ فِي صِفَةِ كَلَامِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الشِّعْرِ:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: جمع الوسائل في شرح الشمائل



.باب مَا جَاءَ فِي صِفَةِ مُزَاحِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:

بِضَمِّ الْمِيمِ، وَكَسْرِهَا، وَالْأَوَّلُ: أَظْهَرُ كَمَا سَنُبَيِّنُهُ فِي النِّهَايَةِ الْمُزَاحُ: الدُّعَابَةُ، وَقَدْ مَزَحَ يَمْزَحُ، وَالِاسْمُ بِالضَّمِّ، وَأَمَّا الْمِزَاحُ بِكَسْرِ الْمِيمِ، فَهُوَ مَصْدَرُ مَازَحَهُ يُمَازِحُهُ، وَهُمَا يَتَمَازَحَانِ وَفِي الْقَامُوسِ: مَزَحَ كَمَنَعَ مُزَاحًا بِضَمٍّ انْتَهَى.
وَمَعْنَاهُ الِانْبِسَاطُ مَعَ الْغَيْرِ مِنْ غَيْرِ إِيذَاءٍ لَهُ، وَبِهِ فَارَقَ الْهُزْؤُ وَالسُّخْرِيَةُ، وَالضَّمُّ هُوَ الْمُرَادُ هُنَا لَا الْكَسْرُ كَمَا قَالَ شَارِحٌ: لِأَنَّهُ مَصْدَرُ بَابِ الْمُفَاعَلَةِ، وَهُوَ لِلْمُغَالَبَةِ، وَكِلَاهُمَا غَيْرُ صَحِيحٍ فِي حَقِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
ثُمَّ اعْلَمْ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: لَا تُمَارِ أَخَاكَ وَلَا تُمَازِحْهُ. عَلَى مَا أَخْرَجَهُ الْمُصَنِّفُ فِي جَامِعِهِ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ لَا نَعْرِفُهُ إِلَّا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ قَالَ الشَّيْخُ الْجَزَرِيُّ: إِسْنَادُهُ جَيِّدٌ، فَقَدْ رَوَاهُ زِيَادُ بْنُ أَيُّوبَ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مُحَمَّدٍ الْمَجَازِيِّ عَنْ لَيْثِ بْنِ أَبِي سُلَيْمٍ عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ بِشْرٍ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَهَذَا إِسْنَادٌ مُسْتَقِيمٌ، وَلَيْثُ بْنُ أَبِي سُلَيْمٍ وَإِنْ كَانَ فِيهِ ضَعْفٌ مِنْ قِبَلِ حِفْظِهِ، فَقَدْ رَوَى لَهُ مُسْلِمٌ مَقْرُونًا، وَكَانَ عَالِمًا ذَا صَلَاةٍ وَصِيَامٍ قَالَ النَّوَوِيُّ: اعْلَمْ أَنَّ الْمُزَاحَ الْمَنْهِيَّ عَنْهُ هُوَ الَّذِي فِيهِ إِفْرَاطٌ، وَيُدَاوَمُ عَلَيْهِ؛ فَإِنَّهُ يُورِثُ الضَّحِكَ، وَقَسْوَةَ الْقَلْبِ، وَيَشْغَلُ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ، وَالْفِكْرِ فِي مُهِمَّاتِ الدِّينِ، وَيَئُولُ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَوْقَاتِ عَلَى الْإِيذَاءِ، وَيُوجِبُ الْأَحْقَادَ، وَيُسْقِطُ الْمَهَابَةَ، وَالْوَقَارَ، فَأَمَّا مَا سَلِمَ مِنْ هَذِهِ الْأُمُورِ، فَهُوَ الْمُبَاحُ الَّذِي كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَفْعَلُهُ عَلَى النُّدْرَةِ لِمَصْلَحَةِ تَطْيِيبِ نَفْسِ الْمُخَاطَبِ، وَمُؤَانَسَتِهِ وَهُوَ سُنَّةٌ مُسْتَحَبَّةٌ، فَاعْلَمْ هَذَا؛ فَإِنَّهُ مِمَّا يَعْظُمُ الِاحْتِيَاجُ إِلَيْهِ.
(حَدَّثَنَا مُحَمُودُ بْنُ غَيْلَانَ حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ عَنْ شَرِيكٍ عَنْ عَاصِمٍ الْأَحْوَلِ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَهُ يَا ذَا الْأُذُنَيْنِ) بِضَمِّ الذَّالِ، وَيُسَكَّنُ فِي النِّهَايَةِ مَعْنَاهُ الْحَضُّ، وَالتَّنْبِيهُ عَلَى حُسْنِ الِاسْتِمَاعِ لِمَا يُقَالُ لَهُ لِأَنَّ السَّمْعَ بِحَاسَّةِ الْأُذُنِ، وَمَنْ خَلَقَ اللَّهُ لَهُ الْأُذُنَيْنِ فَغَفَلَ وَلَمْ يُحْسِنِ الْوَعْيَ، لَمْ يُعْذَرْ وَقِيلَ: إِنَّ هَذَا الْقَوْلَ مِنْ جُمْلَةِ مُدَاعَبَاتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَطِيفِ أَخْلَاقِهِ انْتَهَى. وَالثَّانِي هُوَ الظَّاهِرُ؛ لِأَنَّ أَنَسًا كَانَ صَغِيرًا عُمُرُهُ عَشْرَ سِنِينَ خَادِمًا لِحَضْرَتِهِ، وَاقِفًا فِي خِدْمَتِهِ، فَمُزَاحُهُ مَعَهُ لِكَوْنِهِ صَغِيرًا.
وَمِمَّا وَقَعَ مِنْ مُزَاحِهِ مَعَ الصِّغَارِ أَنَّهُ مَجَّ مَجَّةً فِي وَجْهِ مَحْمُودِ بْنِ الرَّبِيعِ، وَهُوَ ابْنُ خَمْسَةِ سِنِينَ يُمَازِحُهُ، فَكَانَ فِيهِ مِنَ الْبَرَكَةِ إِنَّهُ لَمَّا كَبُرَ لَمْ يَبْقَ فِي ذِهْنِهِ مِنَ الرِّوَايَةِ غَيْرُهَا، فَعُدَّ بِهَا مِنَ الصَّحَابَةِ وَرُوَاتِهِمْ، وَجُعِلَ عُمُرُهُ أَقَلَّ زَمَانِ التَّحَمُّلِ.
وَأَنَّهُ نَضَحَ الْمَاءَ فِي وَجْهِ بِنْتِ أُمِّ سَلَمَةَ، فَلَمْ يَزَلْ رَوْنَقُ الشَّبَابِ فِي وَجْهِهَا، وَهِيَ عَجُوزٌ كَبِيرَةٌ، وَهَذَا الْمَعْنَى هُوَ الَّذِي اخْتَارَهُ الْمُصَنِّفُونَ، وَأَوْرَدُوهُ فِي هَذَا الْبَابِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ، وَقِيلَ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ إِشَارَةً إِلَى كَمَالِ انْقِيَادِهِ، وَحُسْنِ خِدْمَتِهِ (قَالَ مَحْمُودٌ): أَيْ: شَيْخُ الْمُصَنِّفِ، وَقَالَ شَارِحٌ: فِي بَعْضِ النُّسَخِ أَبُو عِيسَى بَدَلَ مَحْمُودٍ (قَالَ أَبُو أُسَامَةَ) أَيْ: شَيْخُ شَيْخِهِ (يَعْنِي) أَيْ: يُرِيدُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَوْلِهِ لَهُ يَا ذَا الْأُذُنَيْنِ (يُمَازِحُهُ) أَيْ: مُزَاحُهُ مِنْ قَبِيلِ ذِكْرِ الْفِعْلِ، وَإِرَادَةِ الْمَصْدَرِ مِنْ مَجَازِ إِطْلَاقِ الْكُلِّ، وَإِرَادَةِ الْجُزْءِ وَهُوَ أَحَدُ التَّأْوِيلِ فِي قَوْلِهِ تَسْمَعُ بِالْمُعَيْدِيِّ خَيْرٌ مِنْ أَنْ تَرَاهُ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَمِنْ آيَاتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ}، وَخُلَاصَةُ مَعْنَاهُ أَنَّ أَبَا أُسَامَةَ الرَّاوِيَ حَمَلَ الْحَدِيثَ عَلَى الْمُدَاعَبَةِ، ثُمَّ وَجْهُ الْمُزَاحِ أَنَّهُ سَمَّاهُ بِغَيْرِ اسْمِهِ مِمَّا قَدْ يُوهِمُ أَنَّهُ لَيْسَ الرَّاوِي حَمَلَ الْحَدِيثَ عَلَى الْمُدَاعَبَةِ، ثُمَّ وَجْهُ الْمُزَاحِ أَنَّهُ سَمَّاهُ بِغَيْرِ اسْمِهِ مِمَّا قَدْ يُوهِمُ أَنَّهُ لَيْسَ مِنَ الْحَوَاسِّ إِلَّا الْأُذُنَانِ أَوْ كَمَا هُوَ مُخْتَصٌّ بِهِمَا لَا غَيْرُ مَعَ احْتِمَالِ كَوْنِ أُذُنَيْهِ طَوِيلَتَيْنِ أَوْ قَصِيرَتَيْنِ أَوْ مَعْيُوبَتَيْنِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
(حَدَّثَنَا هَنَّادٌ) وَفِي نُسْخَةٍ ابْنُ السَّرِيِّ وَهُوَ بِفَتْحِ السِّينِ، وَكَسْرِ الرَّاءِ، وَتَشْدِيدِ الْيَاءِ (حَدَّثَنَا وَكِيعٌ عَنْ شُعْبَةَ عَنْ أَبِي التَّيَّاحِ) بِالتَّشْدِيدِ قِيلَ، وَاسْمُهُ يَزِيدُ بْنُ حُمَيْدٍ (عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: أَنْ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) أَنْ هِيَ الْمُخَفَّفَةُ مِنَ الثَّقِيلَةِ أَيْ: أَنَّهُ كَانَ وَلِذَا دَخَلَ اللَّامُ فِي قَوْلِهِ (لَيُخَالِطُنَا) وَفِي نُسْخَةٍ لَيُخَاطِبُنَا (حَتَّى يَقُولَ لِأَخٍ لِي صَغِيرٍ يَا أَبَا عُمَيْرٍ) بِالتَّصْغِيرِ (مَا فَعَلَ) بِصِيغَةِ الْفَاعِلِ، وَيُحْتَمَلُ الْمَفْعُولُ (النُّغَيْرُ) بِضَمِّ نُونٍ فَفَتْحِ غَيْنٍ مُعْجَمَةٍ، تَصْغِيرُ النُّغْرِ جَمْعُ نُغَرَةٍ كَهُمَزَةٍ وَهُوَ طَائِرٌ يُشْبِهُ الْعُصْفُورَ أَحْمَرُ الْمِنْقَارِ، وَقِيلَ هُوَ فَرْخُ الْعُصْفُورِ، وَقِيلَ هُوَ الْعُصْفُورُ صَغِيرُ الْمِنْقَارِ أَحْمَرُ الرَّأْسِ، وَقِيلَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ يُسَمُّونَهُ الْبُلْبُلَ، فِي جَامِعِ الْأُصُولِ أَبُو عُمَيْرٍ اسْمُهُ كَبْشَةُ أَبُو أَنَسٍ لِأُمِّهِ وَأَبُو طَلْحَةَ بْنُ زَيْدِ بْنِ سَهْلٍ الْأَنْصَارِيُّ. انْتَهَى وَقَدْ مَاتَ نُغَيْرُهُ الَّذِي كَانَ يَلْعَبُ بِهِ، فَمَازَحَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُمَازَحَةً.
فِيهِ مُمَازَحَةُ الصَّغِيرِ لِتَسْلِيَتِهِ، وَتَطْيِيبِ خَاطِرِهِ، وَفِيهِ إِشَارَةٌ خَفِيفَةٌ إِلَى أَنَّهُ لَا يَنْبَغِي التَّعَلُّقُ بِالْفَانِي كَمَا حُكِيَ أَنَّ أَحَدًا مَاتَ مَعْشُوقُهُ وَكَانَ يَبْكِي فَقَالَ لَهُ عَارِفٌ: لِمَ لَمْ تُحِبَّ الْحَيَّ الَّذِي لَا يَمُوتُ، وَلُطْفُهُ لَا يَفُوتُ؟.
هَذَا قَالَ النَّوَوِيُّ: حَتَّى غَايَةٌ لِقَوْلِهِ يُخَالِطُنَا، وَضَمِيرُ الْجَمْعِ لِأَنَسٍ، وَأَهْلِ بَيْتِهِ أَيِ: انْتَهَى مُخَالَطَتُهُ بِأَهْلِنَا كُلِّهِمْ حَتَّى الصَّبِيِّ، وَحَتَّى الْمُدَاعَبَةِ مَعَهُ، وَحَتَّى السُّؤَالِ عَنْ فِعْلِ نُغَيْرِهِ وَقَالَ الرَّاغِبُ: الْفِعْلُ التَّأْثِيرُ مِنْ جِهَةِ الْمُؤَثِّرِ وَالْعَمَلُ كُلُّ فِعْلٍ يَصْدُرُ مِنَ الْحَيَوَانِ بِقَصْدٍ وَهُوَ أَخَصُّ مِنَ الْفِعْلِ لِأَنَّ الْفِعْلَ قَدْ يُنْسَبُ إِلَى الْحَيَوَانَاتِ الَّتِي يَقَعُ مِنْهَا فِعْلٌ بِغَيْرِ قَصْدٍ، وَقَدْ يُنْسَبُ إِلَى الْجَمَادَاتِ، وَالْمَعْنَى مَا حَالُهُ، وَشَأْنُهُ (قَالَ أَبُو عِيسَى: وَفِقْهُ هَذَا الْحَدِيثِ) أَيِ: الْمَسَائِلُ الْفِقْهِيَّةُ الْمُسْتَنْبَطَةُ مِنْ هَذَا الْحَدِيثِ (أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَمْزَحُ وَفِيهِ) أَيْ: فِي الْحَدِيثِ (أَنَّهُ كَنَّى غُلَامًا صَغِيرًا) بِتَشْدِيدِ النُّونِ، وَفِي نُسْخَةٍ بِالتَّخْفِيفِ، فَعَلَى الْأَوَّلِ مَفْعُولُهُ الثَّانِي مَحْذُوفٌ يُمْكِنُ أَنْ يُقَدَّرَ بِالْبَاءِ، وَدُونَهَا، وَعَلَى الثَّانِي، فَلَا بُدَّ مِنْ تَقْدِيرِ الْبَاءِ قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: الْكُنْيَةُ وَاحِدَةُ الْكُنَى وَاكْتَنَى فُلَانٌ هَكَذَا وَفُلَانٌ يُكَنَّى بِأَبِي عُبَيْدِ اللَّهِ وَكُنْيَتُهُ أَبَا زَيْدٍ وَبِأَبِي زَيْدٍ نُكَنِّيهِ (فَقَالَ لَهُ: يَا أَبَا عُمَيْرٍ).
وَهُوَ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ ابْتِدَاءَ تَكْنِيَةٍ عَلَى لِسَانِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنْ يَكُونَ مَكْنِيًّا مِنْ أَوَّلِ الْأَمْرِ فَكَنَّاهُ بِكُنْيَةٍ عَلَى لِسَانِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنْ يَكُونَ مَكْنِيًّا مِنْ أَوَّلُ فَكَنَّاهُ بِكُنْيَةٍ، وَعَدَلَ عَنِ اسْمِهِ إِلَى كُنْيَتِهِ مُرَاعَاةً لِلسَّجْعِ فِي الْكَلَامِ.
وَالنَّهْيُ عَنْهُ مَحْمُولٌ عَلَى مَا فِيهِ تَكَلُّفٌ، وَتَكْلِيفٌ لِلطَّبْعِ. قَالَ الْبَغَوِيُّ: فِيهِ جَوَازُ السَّجْعِ فِي الْكَلَامِ: وَأَغْرَبَ الْحَنَفِيُّ حَيْثُ قَالَ: وَفِيهِ أَنَّهُ لَا بَأْسَ بِالسَّجْعِ حِينَ الْمُزَاحِ، وَكَأَنَّهُ غَفَلَ عَنْ كَلِمَاتِهِ الْمُسَجَّعَةِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْهَا.
اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ عِلْمٍ لَا يَنْفَعُ، وَقَلْبٍ لَا يَخْشَعُ، وَنَفْسٍ لَا تَشْبَعُ، وَدَعْوَةٍ لَا تُسْمَعُ، وَمِنْ هَؤُلَاءِ الْأَرْبَعِ.
ثُمَّ خُلَاصَةُ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ فِي فِقْهِ الْحَدِيثِ هُنَا أَنَّ مِثْلَ هَذَا التَّكَنِّي لَا يَدْخُلُ فِي بَابِ الْكَذِبِ لِأَنَّ الْقَصْدَ مِنَ التَّكْنِيَةِ التَّعْظِيمُ، وَالتَّفَاؤُلُ لَا حَقِيقَةُ اللَّفْظِ مِنْ إِثْبَاتِ أُبُوَّةٍ، وَبُنُوَّةٍ قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: قِيلَ عُمَيْرٌ مُصَغَّرُ الْعُمُرِ لِلْإِشَارَةِ عَلَى أَنَّهُ يَعِيشُ قَلِيلًا، وَبِهِ يَنْدَفِعُ الْأَخْذُ مِنْهُ أَنَّهُ يَجُوزُ تَكْنِيَةُ الصَّغِيرِ بِأَبِي فُلَانٍ، وَإِنْ لَمْ يُتَصَوَّرْ مِنْهُ الْإِيلَادُ وَوَجْهُ انْدِفَاعِهِ أَنَّهُ مِنْ بَابِ أَبِي الْفَضْلِ كَمَا تَقَرَّرَ مِنْ أَنَّ عُمَيْرًا مُصَغَّرُ عُمُرٍ لَا أَنَّهُ اسْمُ شَخْصٍ آخَرَ انْتَهَى. مُلَخَّصًا وَفِيهِ نَظَرٌ مِنْ أَيْنَ لَهُ الْجَزْمُ بِأَنَّ عُمَيْرًا تَصْغِيرُ عُمُرٍ، وَلَيْسَ بِعَلَمٍ مَعَ أَنَّ الْمَشْهُورَ أَنَّهُ عَلَمٌ مُتَعَارَفٌ، وَحِينَئِذٍ صَحَّ الْأَخْذُ بِهِ، وَلَمْ يَنْدَفِعْ بِمَا ذَكَرَ، فَتَأَمَّلْهُ تَمَّ كَلَامُهُ.
وَفِيهِ عَلَى أُسْلُوبِ آدَابِ الْبَحْثِ أَنَّ صَاحِبَ الْقِيلِ مَانِعٌ لِلْعَلَمِيَّةِ جَازِمًا، وَلَا يَحْتَاجُ إِلَى أَنْ يَكُونَ جَازِمًا، وَسَنَدُ مَنْعِهِ وَاضِحٌ جِدًّا لِوُضُوحِ فَقْدِ الْأُبُوَّةِ وَالْبُنُوَّةِ، وَالْأَصْلُ فِي التَّكْنِيَةِ هَذَا فَعَلَى مُدَّعِي الْإِثْبَاتِ إِثْبَاتُهُ، فَلَا يَكْفِي فِي الْمَقَامِ قَوْلُهُ أَنَّهُ عَلَمٌ مُتَعَارَفٌ كَثِيرًا إِذِ الْخَصْمُ لَا يَمْنَعُ مِثْلَهُ فِي غَيْرِ الصَّغِيرِ.
فَالصَّوَابُ فِي الْجَوَابِ مَا هُوَ صَرِيحٌ فِي حَدِيثٍ صَحِيحٍ أَنَّهُ كَانَ سُمِّيَ بِهَذَا الِاسْمِ إِذْ رَوَى الشَّيْخَانِ عَنْ أَنَسٍ أَنَّهُ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَحْسَنَ النَّاسِ خُلُقًا وَكَانَ لِي أَخٌ يُقَالُ لَهُ أَبُو عُمَيْرٍ، وَكَانَ لَهُ نُغَيْرٌ يَلْعَبُ بِهِ فَمَاتَ، فَدَخَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَرَآهُ حَزِينًا، فَقَالَ: مَا شَأْنُهُ؟ قَالُوا: مَاتَ نُغَيْرُهُ، فَقَالَ: يَا أَبَا عُمَيْرٍ مَا فَعَلَ النُّغَيْرُ؟، وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ، فَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا جَاءَهُ وَرَوَاهُ، فَقَالَ أَبَا عُمَيْرٍ: مَا فَعَلَ النُّغَيْرُ هَذَا وَلَوْ سَلِمَ أَنَّهُ كَانَ مِنْ بَابِ أَبِي الْفَضْلِ لِلتَّفَاؤُلِ فَالتَّفَاؤُلُ بِقِلَّةِ الْعَيْشِ مِنْ قِلَّةِ الْعَقْلِ.
بَقِيَ أَنَّهُ مِنْ بَابِ الْإِخْبَارِ، فَيُقَالُ لَيْسَ مِنْ دَأْبِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَخْلَاقِهِ الْحَسَنَةِ أَنْ يَقُولَ لِوَلَدٍ صَغِيرٍ عِبَارَةً مُشْعِرَةً بِأَنَّ عُمُرَهُ قَصِيرٌ، نَعَمْ لَوْ لَمْ يَصِحَّ ثُبُوتُ عَلَمِيَّةٍ لَهُ لَكَانَ وَجْهٌ وَجِيهٌ أَنْ يُقَالَ إِنَّمَا قَالَ لَهُ: يَا أَبَا عُمَيْرٍ تَصْغِيرٌ لِلْعُمُرِ بِاعْتِبَارِ عُمُرِ طَيْرِهِ أَيْ: أَيْ يَا صَاحِبَ نُغَيْرٍ عُمُرُهُ قَصِيرٌ، فَيَكُونُ فِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ أَجَلَهُ فَرَغَ كَمَا هُوَ الْمُتَعَارَفُ فِي التَّسْلِيَةِ عِنْدَ التَّعْزِيَةِ وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ.
(وَفِيهِ) أَيْ وَفِي الْحَدِيثِ (أَنَّهُ لَا بَأْسَ أَنْ يُعْطِيَ الصَّبِيَّ) وَفِي نُسْخَةٍ الصَّغِيرَ: (الطَّيْرَ) وَفِي نُسْخَةٍ الطَّائِرَ (يَلْعَبُ) أَيِ: الصَّبِيُّ. (بِهِ) أَيْ: بِالطَّيْرِ، وَمَحَلُّهُ إِذَا عُلِمَ أَنَّهُ لَا يُعَذِّبُهُ قَالُوا: وَفِيهِ جَوَازُ اسْتِمَالَةِ الصَّغِيرِ، وَإِدْخَالِ السُّرُورِ عَلَيْهِ، وَالتَّقْيِيدُ بِالصَّغِيرِ يُفِيدُ أَنَّ الْكَبِيرَ مَمْنُوعٌ مِنَ اللَّعِبِ بِالطَّيْرِ لِمَا وَرَدَ مَنِ اتَّبَعَ الصَّيْدَ غَفَلَ فِيهِ. قِيلَ وَفِيهِ جَوَازُ صَيْدِ الْمَدِينَةِ عَلَى مَا هُوَ مَذْهَبُ الْجُمْهُورِ خِلَافًا لِلشَّافِعِيَّةِ لَكِنَّ لَهُمْ أَنْ يَقُولُوا أَنَّهُ كَانَ مِمَّا صِيدَ خَارِجَهَا، وَقَدْ يُدْفَعُ بِأَنَّهُ خِلَافُ الْأَصْلِ، فَيَحْتَاجُ إِلَى إِثْبَاتِ ثَبْتٍ (وَإِنَّمَا قَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) أَيْ: لِلْغُلَامِ. (يَا أَبَا عُمَيْرٍ مَا فَعَلَ النُّغَيْرُ؟ لِأَنَّهُ كَانَ لَهُ نُغَيْرٌ فَيَلْعَبُ بِهِ) وَفِي نُسْخَةٍ يَلْعَبُ بِهِ.
(فَمَاتَ فَحَزِنَ الْغُلَامُ عَلَيْهِ، فَمَازَحَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا أَبَا عُمَيْرٍ مَا فَعَلَ النُّغَيْرُ؟).
قَالُوا فِيهِ أَنَّهُ يَجُوزُ لِلْإِنْسَانِ أَنْ يَسْأَلَ عَنِ الشَّيْءِ، وَهُوَ يَعْلَمُهُ؛ فَإِنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ قَدْ عَلِمَ بِمَوْتِ النُّغَيْرِ. وَفِيهِ إِبَاحَةُ تَصْغِيرِ الْأَسْمَاءِ، وَإِبَاحَةُ الدُّعَابَةِ مَا لَمْ يَكُنْ إِثْمًا.
وَفِيهِ كَمَالُ خُلُقِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِنَّ رِعَايَةَ الضُّعَفَاءِ مِنْ مَكَارِمِ أَخْلَاقِ الْأَصْفِيَاءِ.
قَالَ مِيرَكُ: وَفِيهِ أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَدْخُلَ الرَّجُلُ فِي بَيْتٍ فِيهِ امْرَأَةٌ أَجْنَبِيَّةٌ إِذَا أَمِنَ عَلَى نَفْسِهِ الْفِتْنَةَ قُلْتُ، وَهَذَا اسْتِدْلَالٌ غَرِيبٌ، وَاسْتِنْبَاطٌ عَجِيبٌ إِذْ لَيْسَ فِي الْحَدِيثِ ذِكْرُ الْمَرْأَةِ مُطْلَقًا، وَعَلَى تَقْدِيرِ وُجُودِهَا مِنْ أَيْنَ لَهُ ثُبُوتُ الْخَلْوَةِ مَعَهَا مَعَ أَنَّ رَاوِيَ الْحَدِيثِ ابْنُهَا، وَهُوَ خَادِمٌ لَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَاضِرٌ مَعَهُ مَعَ أَنَّهُ عَلَى فَرْضِ التَّسْلِيمِ فِعْلُهُ هَذَا مَعَ نَهْيِهِ عَنْهُ مُوجِبٌ لِلْقَوْلِ بِالِاخْتِصَاصِ إِذْ حُرْمَةُ الْخَلْوَةِ مَعَ الْأَجْنَبِيَّةِ إِجْمَاعِيَّةٌ لَا أَعْرِفُ فِيهَا خِلَافًا لَا سَلَفًا، وَلَا خَلَفًا وَلَوْ أَمِنَ عَلَى نَفْسِهِ الْفِتْنَةَ، وَإِنَّمَا تَعَلَّقَ بِهَا بَعْضُ أَهْلِ الْبِدْعَةِ، وَالْمَلَاحِدَةِ وَاللَّهُ وَلِيُّ دِينِهِ.
وَقَدْ قَالَ بَعْضُ الْعَارِفِينَ: لَوْ كَانَ الرَّجُلُ هُوَ الْحَسَنَ الْبَصْرِيَّ، وَالْمَرْأَةُ رَابِعَةَ الْعَدَوِيَّةَ لَمَا حَلَّ الِاخْتِلَاءُ بَيْنَهُمَا.
وَسَبَبُهُ أَنَّ الْأَحْكَامَ الشَّرْعِيَّةَ وَرَدَتْ عَلَى إِطْلَاقِهَا لَوْ كَانَتِ الْعِلَّةُ الْمَبْنِيَّةُ عَلَى الْغَلَبَةِ غَيْرَ مَوْجُودَةٍ فِيهَا أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَجِبُ اسْتِبْرَاءُ الْجَارِيَةِ، وَلَوْ كَانَتْ بِكْرًا وَنَحْوَهَا، ثُمَّ رَأَيْتُ فِي شَرْحِ ابْنِ حَجَرٍ أَبْحَاثًا لَطِيفَةً وَنُقُولًا شَرِيفَةً أَحْبَبْتُ أَنْ أَذْكُرَهَا، وَأُحَقِّقَ عَجْرَهَا وَبَجْرَهَا مِنْهَا قِيلَ يُؤْخَذُ مِنْهُ أَنَّ صَيْدَ الْمَدِينَةِ مُبَاحٌ بِخِلَافِ مَكَّةَ، وَهُوَ غَلَطٌ وَأَيُّ دَلَالَةٍ عَلَى ذَلِكَ؛ فَإِنَّ ذَلِكَ الطَّيْرَ مِنْ أَيْنَ فِي الْحَدِيثِ أَنَّهُ اصْطِيدَ فِي الْحَرَمِ، وَلَيْسَ احْتِمَالُ اصْطِيَادِهِ فِيهِ أَوْلَى مِنِ احْتِمَالِ اصْطِيَادِهِ خَارِجَهُ. قُلْتُ: هَذَا خَارِجٌ عَنْ قَوَاعِدِ آدَابِ الْبَحْثِ فَإِنَّ الْقَائِلَ إِنَّمَا اسْتَدَلَّ بِظَاهِرِ وُجُودِ الصَّيْدِ فِي الْمَدِينَةِ أَنَّهُ مِمَّا اصْطِيدَ فِيهَا لِأَنَّهُ مَمْنُوعُ الْأَصْلِ، وَأَمَّا احْتِمَالُ أَنَّهُ صِيدَ خَارِجَهَا فَيَصْلُحُ فِي الْجُمْلَةِ أَنْ يَكُونَ جَوَابًا فَأَيُّ غَلَطٍ فِي الْقَوْلِ مَعَ أَنَّ مَذْهَبَ الْقَائِلِ هُوَ أَنَّ الصَّيْدَ إِذَا أُخِذَ خَارِجَ الْحَرَمِ، وَأُدْخِلَ فِيهِ صَارَ مِنْ صَيْدِ الْحَرَمِ حَتَّى لَوْ ذُبِحَ فِيهِ لَكَانَ مَيْتَةً هَذَا، وَالْقَوْلُ نُسِبَ إِلَى مُحْيِي السُّنَّةِ فِي شَرْحِ السُّنَّةِ حَيْثُ قَالَ: فِيهِ فَوَائِدُ مِنْهَا: أَنَّ صَيْدَ الْمَدِينَةِ مُبَاحٌ بِخِلَافِ صَيْدِ مَكَّةَ، فَهُوَ إِمَّا مَحْمُولٌ عَلَى كَمَالِ إِنْصَافِهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَوْ عَلَى أَنَّهُ هُوَ الْمَذْهَبُ الصَّحِيحُ عِنْدَهُ فَإِنَّ النَّوَوِيَّ لَيْسَ لَهُ قَوْلٌ مَرْدُودٌ كَذَا سَمِعْتُ بَعْضَ مَشَايِخِي مِنَ الشَّافِعِيَّةِ ثُمَّ قَالَ فِي شَرْحِ السُّنَّةِ أَنَّهُ قَدْ نُقِلَ عَنِ الشَّيْخِ نَجْمِ الدِّينِ الْكَبْرِيِّ غَيْرُ ذَلِكَ مِنَ الْفَوَائِدِ وَهِيَ أَنَّهُ يَجُوزُ لِلرَّجُلِ أَنْ يَدْخُلَ بَيْتًا فِيهِ امْرَأَةٌ أَجْنَبِيَّةٌ إِذَا أَمِنَ الرَّجُلُ عَلَى نَفْسِهِ الْفِتْنَةَ انْتَهَى.
فَهُوَ نَقْلٌ بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ مَعَ مَا يُرَادُ عَلَيْهِ مَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ مُقْتَضَى الْعُقُولِ، وَالنُّقُولِ، وَمِنْهَا قَوْلُهُ: وَفِيهِ جَوَازُ دُخُولِ بَيْتٍ بِهِ امْرَأَةٌ أَجْنَبِيَّةٌ إِذَا كَانَ هُنَالِكَ مَانِعُ خَلْوَةٍ مِنْ نَحْوِ امْرَأَةٍ أُخْرَى مَعَهَا، وَهُمَا اثْنَتَانِ يَحْتَشِمُهُمَا أَوْ إِحْدَاهُمَا، وَإِلَّا حَرُمَتْ خَلْوَةُ الرَّجُلِ بِهِمَا أَوْ مَحْرَمٌ وَإِنْ كَانَ مُرَاهِقًا عَلَى بَحْثٍ مِنْهُ انْتَهَى. وَفِيهِ مَا سَبَقَ مِنْ أَنَّ الْحَدِيثَ لَا دَلَالَةَ فِيهِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا لَا نَفْيًا، وَلَا إِثْبَاتًا نَعَمِ الظَّاهِرُ أَنَّ أُمَّ أَنَسٍ تَكُونُ فِي الْبَيْتِ لَكِنْ لَا يَلْزَمُ دُخُولُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عِنْدَهَا مِنْ غَيْرِ حُضُورِ أَحَدٍ مَعَهُ مِنْ زَوْجِهَا أَوْ غَيْرِهِ مِنْ مَحَارِمِهَا مَعَ أَنَّهُ صَرِيحٌ أَنَّ أَنَسًا مَعَهَا وَهُو إِمَّا بَالِغٌ أَوْ مُرَاهِقٌ.
وَمَا أَبْعَدَ قَوْلَ فَقِيهٍ جَوَّزَ حُضُورَ امْرَأَةٍ أُخْرَى يَحْتَشِمُهَا وَتَوَقَّفَ فِي جَوَازِ مُرَاهِقٍ ثُمَّ رَجَعَ وَقَالَ: وَفِي أَخْذِ هَذَا مِنَ الْحَدِيثِ نَظَرٌ؛ لِأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى النِّسَاءِ كَالْمَحْرَمِ؛ فَكَانَ يَجُوزُ لَهُ الْخَلْوَةُ بِهِنَّ قُلْتُ هَذَا النَّقْشُ مُتَوَقِّفٌ عَلَى ثُبُوتِ الْعَرْشِ، وَمَعَ هَذَا يَرُدُّهُ تَأْوِيلُ الْعُلَمَاءِ خَلْوَتَهُ مَعَ بَعْضِهِنَّ كَأُمِّ سُلَيْمٍ بِأَنَّهُ كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا حُرْمَةُ رَضَاعٍ.
ثُمَّ قَالَ بَلْ قَالَ أَئِمَّتُنَا: أَنَّ سُفْيَانَ، وَغَيْرَهُ كَانُوا يَزُورُونَ رَابِعَةَ، وَيَجْلِسُونَ إِلَيْهَا.
قُلْتُ سُبْحَانَ اللَّهِ، فَهَلْ فِيهِ إِشْعَارٌ بِأَنَّ وَاحِدًا مِنْهُمْ كَانَ يَخْتَلِي مَعَهَا بَلِ الْمَشْهُورُ أَنَّهَا كَانَتْ تَتَجَنَّبُ إِلَّا عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ أَدْهَمَ قَائِلَةً بِأَنَّهُ تَارِكُ الدُّنْيَا، وَأَمَّا الْخَلْوَةُ فَحَاشَا الْأَوْلِيَاءِ مَعَ كَمَالِ وَرَعِهِمْ، وَاحْتِيَاطِهِمْ فِي الدِّينِ أَنْ يَقَعَ مِنْ أَحَدِهِمْ هَذَا الْأَمْرُ الْمَكْرُوهُ الْمُنْكَرُ شَرْعًا، وَعُرْفًا مَعَ أَنَّهُ لَا ضَرُورَةَ إِلَيْهِ، وَلَا بَاعِثًا لِلْحَالِ عَلَيْهِ.
ثُمَّ أَغْرَبَ فِي الْكَلَامِ حَيْثُ بَنَى عَلَى النِّظَامِ الْغَيْرِ التَّامِّ فَقَالَ: قَالُوا أَيْ: بَعْضُ الْفُقَهَاءِ، فَلَوْ وَجَدْنَا رَجُلًا مِثْلَ سُفْيَانَ، وَامْرَأَةً مِثْلَ رَابِعَةَ أَبَحْنَا لَهُ الْخَلْوَةَ بِهَا لِلْأَمْنِ مِنَ الْمَفْسَدَةِ، وَالْفِتْنَةِ حِينَئِذٍ انْتَهَى. وَقَدْ تَقَدَّمَ وَجْهُ بُطْلَانِهِ.
ثُمَّ زَادَ فِي الْغَرَابَةِ بِقَوْلِهِ، وَيُوَجَّهُ بِأَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ تَحَقُّقُ الْأَمْنِ بَلْ يَكْفِي مَظِنَّتُهُ أَلَا تَرَى أَنَّهُمْ جَوَّزُوا خَلْوَةَ رَجُلٍ بِامْرَأَتَيْنِ دُونَ عَكْسِهِ مَعَ أَنَّهُ قَدْ يَخْتَلِي بِهِمَا، وَيَقَعُ مِنْهُ الْفَاحِشَةُ فِيهِمَا أَوْ فِي إِحْدَاهُمَا لَكِنَّهُ بَعِيدٌ إِذِ الْمَرْأَةُ تَسْتَحِي مِنْ مِثْلِهَا وَبَعِيدٌ وُقُوعُ الْفَاحِشَةِ مِنْهَا بِحَضْرَتِهَا بِخِلَافِ الرَّجُلِ انْتَهَى.
وَفِيهِ أَنَّهُ أَيْضًا قَدْ يَخْتَلِيَانِ بِهَا، وَيَقَعُ مِنْهُمَا أَوْ مِنْ أَحَدِهِمَا الْفَاحِشَةُ فِيهَا بِحُضُورِهِ، فَالْبُعْدُ مُشْتَرَكٌ فِي الصُّورَتَيْنِ فِي الِاحْتِمَالِ، فَلَا يَصِحُّ الِاسْتِدْلَالُ مَعَ وُجُودِ الْمَظِنَّةِ، بَلْ وَلَا يَصِحُّ مَعَ تَحْقِيقِ الْأَمْنِ كَمَا تَقَدَّمَ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
ثُمَّ نَقَلَ عَنْ بَعْضِ الشُّرَّاحِ مِمَّا فِيهِ غَايَةُ الرَّكَاكَةِ اللَّفْظِيَّةِ، وَالْغَرَابَةِ الْمَعْنَوِيَّةِ مِمَّا أَوْجَبَ إِعْرَاضَنَا عَنْهَا وَتَخْلِيَةَ شَرْحِ الشَّمَائِلِ مِنْهَا ثُمَّ قَالَ: وَمَا قِيلَ الْأَظْهَرُ مِنْ أَنَّ الْمُزَاحَ مُبَاحٌ فِيهَا إِلَّا لِدَلِيلٍ يَمْنَعُ مِنْ ذَلِكَ، وَلَا دَلِيلَ هُنَا يَمْنَعُ مِنْهُ، فَتَعَيَّنَ النَّدْبُ كَمَا هُوَ مُقْتَضَى كَلَامِ الْفُقَهَاءِ، وَالْأُصُولِيِّينَ.
قُلْتُ: وَفِيهِ أَنَّ الدَّلِيلَ الْمَانِعَ عَنِ السُّنِّيَّةِ نَهْيُهُ بِطَرِيقِ الْعُمُومِ عَنِ الْمُزَاحِ، وَالْقَاعِدَةُ الْأُصُولِيَّةُ أَنَّهُ إِذَا نَهَى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ شَيْءٍ ثُمَّ فَعَلَهُ يَكُونُ فِعْلًا لِبَيَانِ الْجَوَازِ، وَإِنَّ نَهْيَهُ نَهْيُ تَنْزِيهٍ لَا تَحْرِيمٍ كَمَا فِي الشُّرْبِ قَائِمًا، وَمِنْ فَمِ السِّقَاءِ، وَكَالْبَوْلِ قَائِمًا، وَأَمْثَالِ ذَلِكَ، بَلْ وَلَوْلَا أَنَّهُ ثَبَتَ الْمُزَاحُ مِنْ أَصْحَابِهِ مَعَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَرَّرَهُ، وَلَمْ يَمْنَعْهُ عَنْهُ لَحُمِلَ مُزَاحُهُ عَلَى اخْتِصَاصِهِ عَلَى مَا سَيَأْتِي تَحْقِيقُهُ فِي الْحَدِيثِ الَّذِي يَلِيهِ هَذَا.
وَمِمَّا يُؤَيِّدُ مَا قَرَّرْنَا مَا نَقَلَهُ عَنِ الْعُلَمَاءِ بِقَوْلِهِ: وَقَدْ أَلْقَى اللَّهُ سُبْحَانَهُ عَلَيْهِ الْمَهَابَةَ، وَلَمْ يُؤَثِّرْ فِيهِ مُزَاحُهُ وَلَا مُدَاعَبَتُهُ.
فَقَدْ قَامَ رَجُلٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ، فَأَخَذَتْهُ رِعْدَةٌ شَدِيدَةٌ، وَمَهَابَةٌ فَقَالَ: هَوِّنْ عَلَيْكَ؛ فَإِنِّي لَسْتُ بِمَلِكٍ، وَلَا جَبَّارٍ إِنَّمَا أَنَا ابْنُ امْرَأَةٍ مِنْ قُرَيْشٍ تَأْكُلُ الْقَدِيدَ بِمَكَّةَ، فَنَطَقَ الرَّجُلُ بِحَاجَتِهِ، فَقَامَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي أُوحِيَ إِلَيَّ أَنْ تَوَاضَعُوا أَلَا فَتَوَاضَعُوا حَتَّى لَا يَبْغِيَ أَحَدٌ عَلَى أَحَدٍ، وَلَا يَفْخَرَ أَحَدٌ عَلَى أَحَدٍ، وَكُونُوا عِبَادَ اللَّهِ إِخْوَانًا.
وَرَوَى مُسْلِمٌ عَنْ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ صَحِبْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَا مَلَأْتُ عَيْنِي قَطُّ حَيَاءً مِنْهُ، وَتَعْظِيمًا لَهُ، وَلَوْ قِيلَ لِي صِفْهُ لَمَا قَدِرْتُ.
فَإِذَا كَانَ هَذَا حَالَهُ، وَهُوَ مِنْ أَجِلَّاءِ أَصْحَابِهِ فَمَا ظَنُّكَ بِغَيْرِهِ، وَمِنْ ثَمَّةَ لَوْلَا مَزِيدُ تَأَلُّفِهِ وَمُبَاسَطَتِهِ لَهُمْ لَمَا قَدَرَ أَحَدٌ مِنْهُمْ أَنْ يَجْتَمِعَ بِهِ هَيْبَةً وَفَرَقًا مِنْهُ لَاسِيَّمَا عَقِبَ مَا كَانَ يَتَجَلَّى عَلَيْهِ مِنْ مَوَاهِبِ الْقُرْبِ، وَعَوَائِدِ الْفَضْلِ، لَكِنَّهُ كَانَ لَا يَخْرُجُ إِلَيْهِمْ بَعْدَ رَكْعَتَيِ الْفَجْرِ إِلَّا بَعْدَ الْكَلَامِ مَعَ عَائِشَةَ أَوْ الِاضْطِجَاعِ بِالْأَرْضِ إِذْ لَوْ خَرَجَ إِلَيْهِمْ عَلَى حَالَتِهِ الَّتِي تَجَلَّى بِهَا مِنَ الْقُرْبِ فِي مُنَاجَاتِهِ، وَسَمَاعِ كَلَامِ رَبِّهِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يَكِلُّ الْإِنْسَانُ عَنْ وَصْفِ بَعْضِهِ لَمَا اسْتَطَاعَ بَشَرٌ أَنْ يَلْقَاهُ، فَكَانَ يَتَحَدَّثُ مَعَهَا أَوْ يَضْطَجِعُ بِالْأَرْضِ لِيَسْتَأْنِسَ بِجِنْسِهِمْ أَوْ بِجِنْسِ أَصْلِ خَلْقِهِمْ، وَهِيَ الْأَرْضُ ثُمَّ يَخْرُجُ إِلَيْهِمْ بِحَالَةٍ يَقْدِرُونَ عَلَى مُشَاهَدَتِهَا رِفْقًا بِهِمْ، وَرَحْمَةً لَهُمْ.
(حَدَّثَنَا عَبَّاسُ بْنُ مُحَمَّدٍ الدُّورِيُّ) بِضَمِّ الدَّالِ (أَنْبَأَنَا) وَفِي نُسْخَةٍ أَخْبَرَنَا (عَلِيُّ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ شَقِيقٍ) وَفِي نُسْخَةٍ ضَعِيفَةٍ: الْحُسَيْنِ بِالتَّصْغِيرِ قَالَ مِيرَكُ: وَهُوَ غَلَطٌ (أَنْبَأَنَا) وَفِي نُسْخَةٍ أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ عَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ عَنْ سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ بِفَتْحِ الْمِيمِ فَضَمِّ الْمُوَحَّدَةِ، وَيُفْتَحُ (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّكَ تُدَاعِبُنَا) بِالدَّالِ الْمُهْمَلَةِ، وَالْبَاءِ الْمُوَحَّدَةِ أَيْ: تُمَازِحُنَا، وَالْمَعْنَى: إِنَّكَ نَهَيْتَنَا عَنِ الْمُزَاحِ كَمَا سَبَقَ، وَنَحْنُ أَتْبَاعُكَ مَأْمُورُونَ بِاتِّبَاعِكَ فِي الْأَفْعَالِ، وَالْأَخْلَاقِ فَمَا الْحِكْمَةُ فِي ذَلِكَ (قَالَ: إِنِّي لَا أَقُولُ إِلَّا حَقًّا) جَوَابٌ لِلسُّؤَالِ عَلَى وَجْهٍ مُتَضَمِّنٍ لِلْعِلَّةِ الْبَاعِثَةِ عَلَى نَهْيِهِمْ، وَالْمَعْنَى: إِنِّي لَا أَقُولُ إِلَّا حَقًّا حَتَّى فِي مُزَاحِي، فَكُلُّ مَنْ قَدَرَ عَلَى ذَلِكَ يُبَاحُ لَهُ، بِخِلَافِ مَنْ يُخَافُ عَلَيْهِ أَنْ يَقَعَ حَالَ مَزْحِهِ فِي الْبَاطِلِ مِنَ السُّخْرِيَةِ، وَالِاسْتِهْزَاءِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنَ الْأَذَى، وَالْكَذِبِ وَالضَّحِكِ الْمُفْرِطِ الْمُوجِبِ لِقَسَاوَةِ الْقَلْبِ.
وَإِنَّمَا أُطْلِقَ النَّهْيُ نَظَرًا إِلَى أَحْوَالِ الْأَغْلَبِ كَمَا هُوَ مِنَ الْقَوَاعِدِ الشَّرْعِيَّةِ فِي بِنَاءِ الْأَحْكَامِ الْفَرْعِيَّةِ فَقَدْ ثَبَتَ مُزَاحُ بَعْضِ الصَّحَابَةِ مَعَهُ أَيْضًا، وَقَرَّرَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا سَيَأْتِي فِي حَدِيثٍ أَذْكُرُهُ بَعْدَ حَدِيثِ زَاهِرٍ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَفِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ تُدَاعِبُنَا يَعْنِي تُمَازِحُنَا انْتَهَى. فَيَكُونُ مِنْ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ أَوْ أَحَدٍ مِنْ مَشَايِخِهِ كَمَا تَقَدَّمَ.
قَالَ الطِّيبِيُّ: وَاعْلَمْ أَنَّ تَصْدِيرَ الْجُمْلَةِ بِأَنَّ الْمُؤَكِّدَةِ يَدُلُّ عَلَى إِنْكَارِ أَمْرٍ سَابِقٍ كَأَنَّهُمْ قَالُوا: لَا يَنْبَغِي لِمِثْلِكَ فِي صَدْرِ الرِّسَالَةِ، وَمَكَانَتِكَ مِنَ اللَّهِ الْمُدَاعَبَةُ، فَأَجَابَهُمْ بِالْقَوْلِ الْمُوجِبِ أَيْ: نَعَمْ أُدَاعِبُ، وَلَكِنْ لَا أَقُولُ إِلَّا حَقًّا لِلَّهِ دَرُّ مُزَاحٍ هُوَ حَقٌّ، فَكَيْفَ بِجِدِّهِ انْتَهَى.
وَقَوْلُهُ كَأَنَّهُمْ قَالُوا: لَا يَنْبَغِي لِمِثْلِكَ إِلَى آخِرِهِ مِمَّا لَا يَنْبَغِي أَنْ يُقَالَ فَالصَّوَابُ مَا قَدَّمْنَاهُ، فَتَأَمَّلْ وَلَا تُمْلِلْ، وَانْصِفْ لِيَظْهَرَ لَكَ وَجْهُ الْخَلَلِ فِيمَا جَرَى بِهِ قَدَمُ الزَّلَلِ.
(حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ حَدَّثَنَا خَالِدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ حُمَيْدٍ) بِالتَّصْغِيرِ (عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ رَجُلًا) قِيلَ كَانَ بِهِ نَوْعٌ مِنَ الْبَلَاهَةِ (اسْتَحْمَلَ رَسُولَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) أَيْ: سَأَلَهُ أَنْ يَحْمِلَهُ عَلَى دَابَّةٍ، وَالْمُرَادُ أَنْ يُعْطِيَهُ حَمُولَةً يَرْكَبُهَا (فَقَالَ: إِنِّي حَامِلُكَ) أَيْ: مُرِيدٌ لِحَمْلِكَ (عَلَى وَلَدِ نَاقَةٍ) أَرَادَ بِهِ الْمُبَاسَطَةَ لَهُ، وَالْمُلَاطَفَةَ مَعَهُ بِمَا عَسَاهُ أَنْ يَكُونَ شِفَاءً لِبَلَهِهِ بَعْدَ ذَلِكَ أَوْ إِظْهَارًا لِتَحَقُّقِهِ فِيهِ؛ فَإِنَّ أَكْثَرَ أَهْلِ الْجَنَّةِ الْبُلْهُ عَلَى مَا وَرَدَ، وَالْمُرَادُ بِهِمُ الْبُلْهُ فِي أُمُورِ الدُّنْيَا مَعَ كَوْنِهِمْ فَطِنِينَ فِي أَحْوَالِ الْعُقْبَى، فَهُمْ مِنَ الْأَبْرَارِ عَكْسُ صِفَةِ الْكُفَّارِ كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي حَقِّهِمْ: {يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ} وَقَالَ بَعْضُ الْعَارِفِينَ: سُمُّوا بُلْهًا حَيْثُ رَضُوا بِالْجَنَّةِ، وَلَمْ يَطْلُبُوا الزِّيَادَةَ قَالَ تَعَالَى: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} وَالزِّيَادَةُ هِيَ اللِّقَاءُ (فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا أَصْنَعُ بِوَلَدِ النَّاقَةِ) تَوَهَّمَ أَنَّ الْمُرَادَ بِوَلَدِهَا هُوَ الصَّغِيرُ مِنْ أَوْلَادِهَا عَلَى مَا هُوَ الْمُتَبَادِرُ إِلَى الْفَهْمِ (فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهَلْ تَلِدُ الْإِبِلُ) أَيْ: صَغُرَتْ أَوْ كَبُرَتْ، وَالْمَعْنَى مَا تَلِدُ جَمِيعًا (إِلَّا النُّوقَ) بِضَمِّ النُّونِ جَمْعُ النَّاقَةِ، وَهِيَ أُنْثَى الْإِبِلِ، وَحَاصِلُهُ أَنَّ جَمِيعَ الْإِبِلِ وَلَدُ النَّاقَةِ صَغِيرًا كَانَ أَوْ كَبِيرًا، فَكَأَنَّهُ يَقُولُ لَهُ: لَوْ تَدَبَّرْتَ فِي الْكَلَامِ لَعَرَفْتَ الْمَرَامَ، فَفِيهِ مَعَ الْمُبَاسَطَةِ لَهُ الْإِشَارَةُ إِلَى إِرْشَادِهِ، وَإِرْشَادِ غَيْرِهِ؛ بِأَنَّهُ يَنْبَغِي لِمَنْ سَمِعَ قَوْلًا أَنْ يَتَأَمَّلَهُ، وَلَا يُبَادِرَ إِلَى رَدِّهِ إِلَّا بَعْدَ أَنْ يُدْرِكَ غَوْرَهُ.
(حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ مَنْصُورٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، حَدَّثَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ ثَابِتٍ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ رَجُلًا مِنْ أَهْلِ الْبَادِيَةِ كَانَ اسْمُهُ زَاهِرًا) هُوَ ابْنُ حَرَامٍ ضِدُّ حَلَالٍ الْأَشْجَعِيُّ شَهِدَ بَدْرًا (وَكَانَ يُهْدِي) عَلَى صِيغَةِ الْمَعْلُومِ مِنَ الْإِهْدَاءِ، وَالْمَعْنَى أَنَّهُ كَانَ يَأْتِي بِالْهَدِيَّةِ إِلَيْهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَدِيَّةً مِنَ الْبَادِيَةِ) أَيْ: حَاصِلُهُ مِنْهَا مِمَّا يُوجَدُ فِيهَا مِنَ الْأَزْهَارِ، وَالْأَثْمَارِ وَالنَّبَاتِ، وَغَيْرِهَا (فَيُجَهِّزُهُ) بِتَشْدِيدِ الْهَاءِ، وَفِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ بِتَخْفِيفِهَا أَيْ: يُعِدُّ وَيُهَيِّئُ لَهُ (النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ فِي الْبَادِيَةِ مِنْ أَمْتِعَةِ الْبُلْدَانِ مِنَ الْمَدِينَةِ، وَغَيْرِهَا (إِذَا أَرَادَ أَنْ يَخْرُجَ) أَيْ: زَاهِرٌ إِلَى وَطَنِهِ جَزَاءً وِفَاقًا (فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إِنَّ زَاهِرًا بَادِيَتُنَا) أَيْ: نَسْتَفِيدُ مِنْهُ مَا يَسْتَفِيدُ الرَّجُلُ مِنْ بَادِيَتِهِ مِنْ أَنْوَاعِ النَّبَاتَاتِ، فَصَارَ كَأَنَّهُ بَادِيَتُهُ، وَقِيلَ مِنْ إِطْلَاقِ اسْمِ الْمَحَلِّ عَلَى الْحَالِّ أَوْ عَلَى حَذْفِ الْمُضَافِ أَيْ: سَاكِنُ بَادِيَتِنَا كَمَا حُقِّقَ (فِي وَسَائِلِ الْقُرْبَةِ)، وَقِيلَ تَاؤُهُ لِلْمُبَالَغَةِ، وَيُؤَيِّدُهُ مَا فِي بَعْضِ النُّسَخِ بِأَيْدِينَا، وَالْبَادِي: هُوَ الْمُقِيمُ بِالْبَادِيَةِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ} (وَنَحْنُ) أَيْ: أَهْلُ بَيْتِ النُّبُوَّةِ أَوِ الْجَمْعُ لِلتَّعْظِيمِ، وَيُؤَيِّدُ الْأَوَّلَ مَا فِي جَامِعِ الْأُصُولِ مِنْ أَنَّهُ كَانَ زَاهِرَ بْنَ حَرَامٍ (حَاضِرُوهُ) أَيْ: حَاضِرُوا الْمَدِينَةِ لَهُ، وَفِيهِ كَمَالُ الِاعْتِنَاءِ بِهِ، وَالِاهْتِمَامِ بِشَأْنِهِ، وَالْمَعْنَى: وَنَحْنُ نُعِدُّ لَهُ مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ فِي بَادِيَتِهِ مِنَ الْبَلَدِ، وَإِنَّمَا ذَكَرَهُ مَعَ مَا فِيهِ مِنْ إِيهَامِ ذِكْرِ الْمُنْعِمِ بِإِنْعَامِهِ لِكَوْنِهِ مُقْتَضَى الْمُقَابَلَةِ الدَّالَّةِ عَلَى حُسْنِ الْمُعَامَلَةِ تَعْلِيمًا لِأُمَّتِهِ فِي مُتَابَعَةِ هَذِهِ الْمُجَامَلَةِ (وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُحِبُّهُ) أَيْ: حُبًّا شَدِيدًا كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ مَا قَبْلَهُ مَعَ مَا وَرَدَ مِنْ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «تَهَادُوا تَحَابُّوا»، وَالْجُمْلَةُ تَمْهِيدٌ، وَتَوْطِئَةٌ لِقَوْلِهِ (وَكَانَ رَجُلًا) أَيْ: مِنْ {رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ} الْآيَةَ (دَمِيمًا) بِالدَّالِ الْمُهْمَلَةِ أَيْ: قَبِيحَ الصُّورَةِ مَعَ كَوْنِهِ مَلِيحَ السِّيرَةِ.
فَفِيهِ تَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّ الْمَدَارَ عَلَى حُسْنِ الْبَاطِنِ، وَلِذَا وَرَدَ: «إِنَّ اللَّهَ لَا يَنْظُرُ إِلَى صُوَرِكُمْ، وَأَمْوَالِكُمْ، وَلَكِنْ يَنْظُرُ إِلَى قُلُوبِكُمْ، وَأَعْمَالِكُمْ»، (فَأَتَاهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمًا) فَنِعْمَ الطَّالِبُ الَّذِي جَاءَ مَطْلُوبُهُ (وَهُوَ يَبِيعُ مَتَاعَهُ) جُمْلَةٌ حَالِيَّةٌ، وَالْمَعْنَى أَنَّهُ مُشْتَغِلٌ بِمَتَاعِهِ الظَّاهِرِيِّ وَذَاهِلٌ عَنِ النِّعْمَةِ الْغَيْرِ الْمُتَرَقَّبَةِ مِنْ مَجِيءِ مَطْلُوبِهِ الْمُشْتَرِي (وَاحْتَضَنَهُ) عَطْفٌ عَلَى أَتَاهُ، وَفِي الْمِشْكَاةِ بِالْفَاءِ كَمَا فِي بَعْضِ النُّسَخِ هُنَا أَيْضًا، وَهُوَ الْأَنْسَبُ أَيْ: أَدْخَلَهُ فِي حِضْنِهِ (مِنْ خَلْفِهِ) وَحَاصِلُهُ أَنَّهُ جَاءَ مِنْ وَرَائِهِ، وَأَدْخَلَ يَدَيْهِ تَحْتَ إِبِطَيْ زَاهِرٍ فَاعْتَنَقَهُ، وَأَخَذَ عَيْنَيْهِ بِيَدَيْهِ كَيْلَا يَعْرِفَهُ، فَقَوْلُهُ (وَلَا يُبْصِرُ) أَيْ: لَا يُبْصِرُهُ كَمَا فِي نُسْخَةٍ، حَالٌ مِنْ فَاعِلِ احْتَضَنَهُ، وَفِي الْمِشْكَاةِ، وَهُوَ لَا يُبْصِرُهُ جَمْعًا بَيْنَ النُّسْخَتَيْنِ مَعَ زِيَادَةِ هُوَ، وَهُوَ الْأَظْهَرُ يُقَالُ احْتَضَنَ الشَّيْءَ جَعَلَهُ فِي حِضْنِهِ، وَالْحِضْنُ: مَا دُونُ الْإِبِطِ إِلَى الْكَشْحِ، وَهُوَ مَا دُونَ الْخَاصِرَةِ إِلَى الضِّلْعِ، وَحِضْنَا الشَّيْءِ جَانِبَاهُ (فَقَالَ: مَنْ هَذَا) أَيْ: الْمُحْتَضِنُ (أَرْسِلْنِي) بِصِيغَةِ الْأَمْرِ، وَفِي نُسْخَةٍ: أَرْسِلْنِي مَنْ هَذَا؟ وَهُوَ مُوَافِقٌ لِمَا فِي الْمِشْكَاةِ، وَالظَّاهِرُ وُقُوعُهُ مُكَرَّرًا (فَالْتَفَتَ) أَيْ: بِبَعْضِ بَصَرِهِ، وَرَأَى بِطَرْفِهِ طَرَفَ مَحْبُوبِهِ، وَطَرَفًا مِنْ طَرَفِ مَطْلُوبِهِ (فَعَرَفَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) أَيْ: عَرَفَهُ بِنَعْتِ الْجَمَالِ عَلَى وَجْهِ الْكَمَالِ (فَجَعَلَ) أَيْ: شَرَعَ (لَا يَأْلُوا) أَيْ: بِهَمْزَةٍ سَاكِنَةٍ، وَيُبَدَّلُ وَبِضَمِّ اللَّامِ أَيْ: لَا يُقَصِّرُ (مَا أَلْصَقَ) أَيْ: أَلْزَقَ كَمَا فِي رِوَايَةِ الْمِشْكَاةِ (ظَهْرَهُ بِصَدْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) مَا مَصْدَرِيَّةٌ، وَالْمَعْنَى فَطَفِقَ لَا يُقَصِّرُ فِي لَزْقِ ظَهْرِهِ بِصَدْرِ مَصْدَرِ الْفَيُوضِ الصَّادِرَةِ فِي الْكَائِنَاتِ الْوَارِدَةِ عَلَى الْمَوْجُودَاتِ مِمَّنْ هُوَ رَحْمَةٌ لِلْعَالَمِينَ تَبَرُّكًا، وَتَلَذُّذًا بِهِ، وَتَدَلُّلًا عَلَى مَحْبُوبِهِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ كَانَ حِينَئِذٍ مَمْسُوكًا بِيَدِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِلَّا كَانَ مُقْتَضَى الْأَدَبِ أَنْ يَقَعَ عَلَى رِجْلَيْهِ، وَيُقَبِّلَهُمَا بِمُقْلَتَيْهِ، وَيَتَبَرَّكَ بِغُبَارِ قَدَمَيْهِ، وَيَجْعَلَهُ كُحْلَ عَيْنَيْهِ (حِينَ عَرَفَهُ) كَأَنَّهُ ذَكَرَهُ ثَانِيًا اهْتِمَامًا بِشَأْنِهِ، وَتَنْبِيهًا عَلَى أَنَّ مَنْشَأَ هَذَا الْإِلْصَاقِ لَيْسَ إِلَّا لِمَعْرِفَتِهِ (فَجَعَلَ) وَفِي الْمِشْكَاةِ كَمَا فِي نُسْخَةٍ هُنَا: وَجَعَلَ (النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: مَنْ يَشْتَرِي الْعَبْدَ) أَيْ: هَذَا الْعَبْدَ كَمَا فِي نُسْخَةٍ، وَوَجْهُ تَسْمِيَتِهِ عَبْدًا، وَاضِحٌ؛ فَإِنَّهُ عَبْدُ اللَّهِ وَوَجْهُ الِاسْتِفْهَامِ عَنِ الشِّرَاءِ الَّذِي يُطْلَقُ لُغَةً عَلَى مُقَابَلَةِ الشَّيْءِ بِالشَّيْءِ، وَعَلَى الِاسْتِبْدَالِ أَنَّهُ أَرَادَ مَنْ يُقَابِلُ هَذَا الْعَبْدَ بِالْإِكْرَامِ أَوْ مَنْ يَسْتَبْدِلُهُ مِنِّي بِأَنْ يَأْتِيَنِي بِمِثْلِهِ كَذَا ذَكَرَهُ ابْنُ حَجَرٍ، وَلَكِنَّ جَوَابَهُ الْآتِيَ لَا يُلَائِمُ الْوَجْهَيْنِ، وَكَذَا مَا ذَكَرَهُ مِنْ أَنَّهُ يَصِحُّ أَنْ يُرِيدَ التَّعْرِيضَ لَهُ بِأَنَّهُ يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَشْتَرِيَ نَفْسَهُ مِنَ اللَّهِ بِبَذْلِهَا فِي جَمِيعِ مَطَالِبِهِ، وَمَا يُرْضِيهِ.
فَالْوَجْهُ الْوَجِيهُ أَنَّ الِاشْتِرَاءَ عَلَى حَقِيقَتِهِ، وَأَنَّ الْعَبْدَ فِيهِ تَوْرِيَةٌ أَوْ تَشْبِيهٌ أَوْ قَبْلَهُ مُضَافٌ مُقَدَّرٌ أَيْ: مَنْ يَشْتَرِي مِثْلَ هَذَا الْعَبْدِ مِنِّي، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ هَذَا الْقَوْلِ لَاسِيَّمَا وَالْمَقَامُ مَقَامُ الْمُزَاحِ إِرَادَةُ تَحَقُّقِ بَيْعِهِ لِيُشْكِلَ عَلَى الْفَقِيهِ بِأَنَّ بَيْعَ الْحُرِّ غَيْرُ جَائِزٍ (فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِذًا) بِالتَّنْوِينِ جَوَابٌ، وَجَزَاءٌ بِشَرْطٍ مَحْذُوفٍ أَيْ: إِنْ بِعْتَنِي، قَالَهُ ابْنُ حَجَرٍ، وَالْأَظْهَرُ إِنْ عَرَضْتَنِي عَلَى الْبَيْعِ إِذًا (وَاللَّهِ تَجِدُنِي) بِالرَّفْعِ وَيُنْصَبُ (كَاسِدًا) أَيْ: مَتَاعًا رَخِيصًا أَوْ غَيْرَ مَرْغُوبٍ فِيهِ، وَهُوَ أَبْلَغُ، وَفِي نُسْخَةٍ إِذًا تَجِدُنِي وَاللَّهِ كَاسِدًا بِتَأْخِيرِ كَلِمَةِ الْقَسَمِ عَنِ الْفِعْلِ قَالَ مِيرَكُ: وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ تَجِدُونِي بِلَفْظِ الْجَمْعِ، وَيَحْتَاجُ عَلَى تَكَلُّفٍ قُلْتُ، وَجْهُهُ أَنَّ الْجَمْعَ لِتَعْظِيمِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوِ الضَّمِيرُ لَهُ، وَلِأَصْحَابِهِ الْمَعْرُوضِينَ عَلَيْهِمْ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ ثُمَّ يُحْتَمَلُ أَنَّهُ بِتَشْدِيدِ النُّونِ؛ فَيَكُونُ مَرْفُوعًا أَوْ بِتَخْفِيفِهِ؛ فَيَصِيرُ مُحْتَمَلًا، وَوَجْهُ النَّصْبِ ظَاهِرٌ، وَوَجْهُ الرَّفْعِ أَنْ يُرَادَ بِهِ الْحَالُ لَا الِاسْتِقْبَالُ قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: تَبَعًا لِشَارِحٍ، وَفِي رِوَايَةٍ إِذًا هَذَا وَاللَّهِ بِزِيَادَةِ: هَذَا، قُلْتُ: هَذَا وَاللَّهِ زِيَادَةُ ضَرَرٍ، وَلَا أَظُنُّ أَنَّ لَهَا صِحَّةً فِي الرِّوَايَةِ لِعَدَمِ صِحَّتِهَا فِي الدَّارِيَةِ إِذْ لَا خَفَاءَ فِي رَكَاكَةِ: «إِذًا هَذَا وَاللَّهِ تَجِدُنِي كَاسِدًا»، وَلَعَلَّهُ تَحْرِيفٌ هُنَا أَيْ: فِي هَذَا الْمَكَانِ مِنَ السُّوقِ أَوْ مَقَامِ الْعَرْضِ فَلَهُ وَجْهٌ هَاهُنَا (فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَكِنْ) وَفِي نُسْخَةٍ وَلَكِنْ (عِنْدَ اللَّهِ لَسْتَ بِكَاسِدٍ) الظَّرْفُ مُتَعَلِّقٍ بِكَاسِدٍ قُدِّمَ عَلَيْهِ، وَعَلَى عَامِلِهِ لِلِاهْتِمَامِ، وَالِاخْتِصَاصِ بِهِ (أَوْ قَالَ:) شَكٌ مِنَ الرَّاوِي (أَنْتَ) وَفِي نُسْخَةٍ لَكِنْ (عِنْدَ اللَّهِ غَالٍ) وَهَذَا أَبْلَغُ مِنَ الْأَوَّلِ؛ فَتَأَمَّلْ؛ فَإِنَّ الْمَنْطُوقَ أَقْوَى مِنَ الْمَفْهُومِ هَذَا.
وَرَوَى أَبُو يَعْلَى أَنَّ رَجُلًا كَانَ يُهْدِي إِلَيْهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْعُكَّةَ مِنَ السَّمْنِ أَوِ الْعَسَلِ فَإِذَا طُولِبَ بِالثَّمَنِ جَاءَ بِصَاحِبِهِ فَيَقُولُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَعْطِهِ مَتَاعَهُ أَيْ: ثَمَنَهُ، فَمَا يَزِيدُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى أَنْ يَبْتَسِمَ، وَيَأْمُرَ بِهِ؛ فَيُعْطَى. وَفِي رِوَايَةٍ أَنَّهُ كَانَ لَا يَدْخُلُ الْمَدِينَةَ طُرْفَةٌ إِلَّا اشْتَرَاهَا ثُمَّ جَاءَ ثُمَّ جَاءَ بِهَا، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ هَذِهِ هَدِيَّةٌ لَكَ؛ فَإِذَا طَالَبَهُ صَاحِبُهَا بِثَمَنِهَا جَاءَ بِهِ؛ فَقَالَ: أَعْطِ هَذَا الثَّمَنَ، فَيَقُولُ أَلَمْ تُهْدِهِ لِي، فَيَقُولُ لَيْسَ عِنْدِي، فَضَحِكَ، وَيَأْمُرُ لِصَاحِبِهِ بِثَمَنِهِ، قُلْتُ، فَكَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مِنْ كَمَالِ مَحَبَّتِهِ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كُلَّمَا رَأَى طُرْفَةً أَعْجَبَتْهَا نَفْسَهُ اشْتَرَاهَا، وَآثَرَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِهَا وَأَهْدَاهَا إِلَيْهِ عَلَى نِيَّةِ أَدَاءِ ثَمَنِهَا إِذَا حَصَلَ لَدَيْهِ فَلَمَّا عَجِزَ، وَصَارَ كَالْمُكَاتَبِ رَجَعَ إِلَى مَوْلَاهُ، وَأَبْدَى إِلَيْهِ صَنِيعَ مَا وَلَّاهُ، فَإِنَّ الْمُكَاتَبَ عَبْدٌ مَا بَقِيَ عَلَيْهِ دِرْهَمٌ؛ فَرَجَعَ بِالْمُطَالَبَةِ إِلَى سَيِّدِهِ فَفِعْلُهُ هَذَا جِدُّ حَقٍّ مَمْزُوجٌ بِمُزَاحِ صِدْقٍ وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ.
(حَدَّثَنَا عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ) بِالتَّصْغِيرِ (حَدَّثَنَا مُصْعَبُ بْنُ الْمِقْدَامِ) بِكَسْرِ الْمِيمِ الْأُولَى، وَمُصْعَبٌ اسْمُ مَفْعُولٍ مَنِ الْإِصْعَابِ، وَهُوَ الْأَصْلُ الصَّوَابُ، وَفِي نُسْخَةٍ ضَعِيفَةٍ بَدَلَهُ: مَنْصُورٌ قَالَ مِيرَكُ: وَهُوَ خَطَأٌ.
(حَدَّثَنَا الْمُبَارَكُ بْنُ فَضَالَةَ) بِفَتْحِ الْفَاءِ (عَنِ الْحَسَنِ) أَيِ: الْبَصْرِيِّ؛ فَإِنَّهُ الْمُرَادُ عَنْدَ الْإِطْلَاقِ فِي اصْطِلَاحِ الْمُحَدِّثِينَ، فَالْحَدِيثُ مُرْسَلٌ (قَالَ أَتَتْ عَجُوزٌ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) أَيْ جَاءَتْهُ امْرَأَةٌ كَبِيرَةٌ وَلَا تَقُلْ عَجُوزَةً إِذْ هِيَ لُغَةٌ رَدِيئَةٌ عَلَى مَا فِي الْقَامُوسِ قِيلَ إِنَّهَا صَفِيَّةُ بِنْتُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ أُمُّ الزُّبَيْرِ بْنِ الْعَوَّامِ، وَعَمَّةُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَكَرَهُ شَيْخُنَا ابْنُ حَجَرٍ تَبَعًا لِشَارِحٍ، وَقَالَ الْحَنَفِيُّ: كَذَا سَمِعْنَا مِنْ بَعْضِ مَشَايِخِنَا وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِصِحَّتِهِ لِمَا سَيَأْتِي (فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ ادْعُ اللَّهَ) أَيْ: لِي كَمَا فِي نُسْخَةٍ (أَنْ يُدْخِلَنِي الْجَنَّةَ فَقَالَ: يَا أُمَّ فُلَانٍ) كَانَ الرَّاوِي نَسِيَ الِاسْمَ الَّذِي جَرَى عَلَى لِسَانِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَقَامَ لَفْظَ فُلَانٍ مَقَامَهُ (إِنَّ الْجَنَّةَ لَا تَدْخُلُهَا عَجُوزٌ قَالَ) أَيِ: الْحَسَنُ نَاقِلًا (فَوَلَّتْ) بِتَشْدِيدِ اللَّامِ أَيْ: أَدْبَرَتْ، وَذَهَبَتْ (تَبْكِي) حَالٌ مِنْ فَاعِلِ وَلَّتْ أَيْ: ذَهَبَتْ حَالَ كَوْنِهَا بَاكِيَةً (فَقَالَ: أَخْبِرُوهَا أَنَّهَا لَا تَدْخُلُهَا) سَدَّ مَسَدَّ ثَانِي وَثَالِثِ مَفَاعِيلِ أَخْبِرُوهَا (وَهِيَ عَجُوزٌ) حَالٌ أَيْ: أَنَّهَا لَا تَدْخُلُ الْجَنَّةَ حَالَ كَوْنِهَا عَجُوزًا بَلْ تَدْخُلُهَا شَابَّةً بِجَعْلِهِ تَعَالَى إِيَّاهَا كَذَلِكَ.
وَاعْلَمْ أَنَّ ضَمِيرَ أَخْبِرُوهَا رَاجِعٌ إِلَيْهَا قَطْعًا، وَأَمَّا ضَمِيرُ أَنَّهَا يُحْتَمَلُ أَنْ يَرْجِعَ إِلَيْهَا وَغَيْرِهَا، يُعْلَمُ بِالْمُقَايَسَةِ لَكِنْ يَلْزَمُ مِنْهُ أَنْ تَكُونَ مُبَشَّرَةً بِالْجَنَّةِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ رَاجِعًا إِلَى جِنْسِ الْعَجُوزِ الدَّالِّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: «إِنَّ الْجَنَّةَ لَا تَدْخُلُهَا عَجُوزٌ» وَهُوَ الْأَظْهَرُ، وَإِنْ قَالَ بِبُعْدِهِ ابْنُ حَجَرٍ فَتَدَبَّرْ، عَلَى أَنَّ ضَمِيرَ إِنَّهَا قَابِلَةٌ بِأَنْ تُجْعَلَ لِلْقِصَّةِ وَضَمِيرَ الْفَاعِلِ فِي «لَا تَدْخُلُهَا» لِجِنْسِ الْعَجُوزِ وَلَا يَأْبَاهُ قَوْلُهُ وَهِيَ عَجُوزٌ لِأَنَّ الْمَعْنَى لَا تَدْخُلُهَا بَاقِيَةً عَلَى وَصْفِ الْعُجُوزِيَّةِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَلِبَعْضِ الشُّرَّاحِ هُنَا كَلَامٌ يَمُجُّهُ السَّمْعُ؛ فَامْتَنَعَ مِنْ ذِكْرِهِ الطَّبْعُ (إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى) اسْتِئْنَافٌ مُتَضَمِّنٌ لِلْعِلَّةِ (يَقُولُ) أَيْ: فِي كِتَابِهِ (إِنَّا أَنْشَأْنَاهُنَّ إِنْشَاءً) الضَّمِيرُ لَمَّا دَلَّ عَلَيْهِ سِيَاقُ السَّابِقِ فِي الْآيَةِ، وَهُوَ فُرُشٌ مَرْفُوعَةٌ، وَالْمُرَادُ النِّسَاءُ أَيْ: أَعَدْنَا إِنْشَاءَهُنَّ إِنْشَاءً خَاصًّا، وَخَلَقْنَاهُنَّ خَلْقًا غَيْرَ خَلْقِهِنَّ (فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَارًا) أَيْ: عَذَارَى كُلَّمَا أَتَاهُنَّ أَزْوَاجُهُنَّ وَجَدُوهُنَّ أَبْكَارًا، وَفِي نُسْخَةٍ زِيَادَةُ: {عُرُبًا أَتْرَابًا}، وَالْعُرُبُ بِضَمَّتَيْنِ وَيُسَكَّنُ الثَّانِي: جَمْعُ عَرُوبٍ كَرُسُلٍ وَرَسُولٍ أَيْ: عَوَاشِقَ، وَمُحَبَّبَاتٍ إِلَى أَزْوَاجِهِنَّ، وَقِيلَ الْعَرُوبُ الْمَلَقَةُ، وَالْمَلَقُ: الزِّيَادَةُ فِي التَّوَدُّدِ، وَقِيلَ الْغُنْجَةُ، وَالْغُنْجُ فِي الْجَارِيَةِ تَكَسُّرٌ وَتَذَلُّلٌ، وَقِيلَ الْحَسَنَةُ الْكَلَامُ، وَأَمَّا الْأَتْرَابُ فَمُسْتَوِيَاتُ السِّنِّ بَنَاتُ ثَلَاثِينَ سَنَةً وَأَزْوَاجُهُنَّ كَذَلِكَ كَذَا فِي الْمَدَارِكِ وَقِيلَ بَنَاتُ ثَلَاثِينَ سَنَةً إِذْ هَذَا أَكْمَلُ أَسْنَانِ نِسَاءِ الدُّنْيَا. وَفِي الْحَدِيثِ. هُنَّ اللَّوَاتِي قُبِضْنَ فِي دَارِ الدُّنْيَا عَجَائِزَ خَلَقَهُنَّ اللَّهُ بَعْدَ الْكِبَرِ؛ فَجَعَلَهُنَّ عَذَارَى مُتَعَشِّقَاتٍ عَلَى مِيلَادٍ وَاحِدٍ أَفْضَلَ مِنَ الْحُورِ الْعِينِ كَفَضْلِ الظِّهَارَةِ عَلَى الْبِطَانَةِ، وَمَنْ يَكُونُ لَهَا أَزْوَاجٌ؛ فَتَخْتَارُ أَحْسَنَهُمْ خُلُقًا، الْحَدِيثُ فِي الطَّبَرَانِيِّ وَجَامِعِ التِّرْمِذِيِّ مُطَوَّلًا، وَقَدْ أَخْرَجَ أَبُو الشَّيْخِ ابْنُ حِبَّانَ فِي كِتَابِ أَخْلَاقِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِسَنَدِهِ إِلَى مُجَاهِدٍ قَالَ: دَخَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى عَائِشَةَ وَعِنْدَهَا عَجُوزٌ فَقَالَ مَنْ هَذِهِ فَقَالَتْ هِيَ عَجُوزٌ مِنْ أَخْوَالِي فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّ الْعُجُزَ بِضَمَّتَيْنِ جَمْعُ عَجُوزٍ لَا يَدْخُلْنَ الْجَنَّةَ؛ فَشَقَّ ذَلِكَ عَلَى الْمَرْأَةِ؛ فَلَمَّا دَخَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَتْ: لَهُ عَائِشَةُ لَقَدْ لَقِيَتْ مِنْ كَلِمَتِكَ مَشَقَّةً وَشِدَّةً فَقَالَ: إِنَّ اللَّهَ- عَزَّ وَجَلَّ- يُنْشِئُهُنَّ خَلْقًا غَيْرَ خَلْقِهِنَّ وَأَخْرَجَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ فِي كِتَابِ الْوَفَاءِ بِسَنَدِهِ عَنْ أَنَسٍ أَنَّ عَجُوزًا دَخَلَتْ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَسَأَلَتْهُ عَنْ شَيْءٍ فَقَالَ لَهَا وَمَازَحَهَا أَنَّهُ لَا تَدْخُلُ الْجَنَّةَ عَجُوزٌ، فَخَرَجَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الصَّلَاةِ فَبَكَتْ بُكَاءً شَدِيدًا حَتَّى رَجَعَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَتْ عَائِشَةُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ هَذِهِ الْمَرْأَةَ تَبْكِي لِمَا قُلْتَ لَهَا أَنَّهُ لَا تَدْخُلُ الْجَنَّةَ عَجُوزٌ، فَقَالَ أَجَلْ لَا تَدْخُلُ الْجَنَّةَ عَجُوزٌ، وَلَكِنْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {إِنَّا أَنْشَأْنَاهُنَّ إِنْشَاءً فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَارًا عُرُبًا أَتْرَابًا} وَهُنَّ الْعَجَائِزُ الرُّمْصُ، وَهُوَ جَمْعُ الرَّمْصَاءِ، وَالرَّمَصُ وَسَخُ الْعَيْنِ يَجْتَمِعُ فِي الْمُوقِ هَذَا، وَجَعَلَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ ضَمِيرَ أَنْشَأْنَاهُنَّ لِلْحُورِ الْعِينِ عَلَى مَا يُفْهَمُ مِنَ السِّيَاقِ أَيْضًا، فَالْمَعْنَى خَلَقْنَاهُنَّ كَامِلَاتٍ مِنْ غَيْرِ تَوَسُّطِ وِلَادَةٍ، وَهُوَ الَّذِي ذَكَرَهُ الْبَيْضَاوِيُّ وَتَبِعَهُ الْحَنَفِيُّ، وَابْنُ حَجَرٍ فِي شَرْحِ هَذَا الْحَدِيثِ لَكِنْ عَلَى هَذَا وَجْهُ الْمُطَابَقَةِ بَيْنَ الْحَدِيثِ وَالْآيَةِ غَيْرُ ظَاهِرٍ فَالْأَظْهَرُ أَنْ يُجْعَلَ الضَّمِيرُ إِلَى نِسَاءِ الْجَنَّةِ بِأَجْمَعِهِنَّ وَحَاصِلُهُ أَنَّ نِسَاءَ الْجَنَّةِ كُلَّهُنَّ أَنْشَأَهُنَّ اللَّهُ خَلْقًا آخَرَ يُنَاسِبُ الْبَقَاءَ، وَالدَّوَامَ، وَذَلِكَ يَسْتَلْزِمُ كَمَالَ الْخُلُقِ، وَتَوَفُّرَ الْقُوَى الْبَدَنِيَّةِ، وَانْتِفَاءَ صِفَاتِ النَّقْصِ، وَالزَّوَالِ عَنْهَا، وَإِذَا كَانَ هَذَا نَعْتَ النِّسَاءِ الَّتِي خَلَقَهُنَّ لِلرِّجَالِ؛ فَمَا ظَنُّكَ بِهِمْ، وَقَدْ رَوَى مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «يَدْخُلُ أَهْلُ الْجَنَّةِ جُرْدًا مُرْدًا مُكَحَّلَيْنِ أَبْنَاءَ ثَلَاثِينَ أَوْ ثَلَاثٍ وَثَلَاثِينَ سَنَةً»، أَخْرَجَهُ الْمُصَنِّفُ فِي جَامِعِهِ، وَلَعَلَّ اقْتِصَارَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الْعَجَائِزِ لِسَبَبِ وُرُودِ الْحَدِيثِ أَوْ لِأَنَّ غَيْرَهُنَّ يَعْلَمُ بِالْمُقَايَسَةِ بَلْ بِالطَّرِيقِ الْأَوْلَى وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ.
وَمِنْ أَحَادِيثِ الْبَابِ مَا رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَغَيْرُهُ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَهْمٍ الْفِهْرِيِّ لِلْمَرْأَةِ الَّتِي سَأَلَتْ عَنْ زَوْجِهَا أَهُوَ الَّذِي بِعَيْنِهِ بَيَاضٌ، وَقَدْ ذَكَرَهُ الْقَاضِي فِي الشِّفَاءِ مِنْ غَيْرِ إِسْنَادٍ.

.باب مَا جَاءَ فِي صِفَةِ كَلَامِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الشِّعْرِ:

الشِّعْرُ مَعْرُوفٌ، وَشَعَرْتُ أَصَبْتُ الشِّعْرَ، وَمِنْهُ شَعَرْتُ كَذَا أَيْ: أَصَبْتُ عِلْمًا دَقِيقًا كَإِصَابَةِ الشِّعْرِ قِيلَ، وَأَصْلُهُ الشَّعَرُ بِفَتْحَتَيْنِ، وَسُمِّيَ الشَّاعِرُ شَاعِرًا لِفِطْنَتِهِ وَدِقَّةِ مَعْرِفَتِهِ فَالشِّعْرُ فِي الْأَصْلِ عَلَمٌ لِلْعِلْمِ الدَّقِيقِ فِي قَوْلِهِمْ لَيْتَ شِعْرِي أَيْ: لَيْتَ عِلْمِي، وَأَمَّا مَا فِي الصِّحَاحِ أَيْ: لَيْتَنِي عَلِمْتُ، فَحَاصِلُ الْمَعْنَى، وَصَارَ فِي التَّعَارُفِ اسْمًا لِلْمَوْزُونِ الْمُقَفَّى مِنَ الْكَلَامِ، وَالشَّاعِرُ الْمُخْتَصُّ بِصِنَاعَتِهِ كَمَا قَالَهُ الرَّاغِبُ فِي مُفْرَدَاتِهِ، وَقَالَ فِيهِ أَيْضًا قَالَ بَعْضُ الْكُفَّارِ فِي حَقِّ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ شَاعِرٌ، فَقِيلَ لِمَا وَقَعَ فِي الْقُرْآنِ مِنَ الْكَلِمَاتِ الْوَارِدَةِ الْمَوْزُونَةِ مَعَ الْقَوَافِي يَعْنِي نَحْوَ: {ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تَقْتُلُونَ} وَنَحْوُ: {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا}، {نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ} وَقِيلَ أَرَادُوا أَنَّهُ كَاذِبٌ لِأَنَّ مَا فِي الشِّعْرِ أَكْثَرُهُ كَذِبٌ، وَمِنْ ثَمَّةَ سَمَّوُا الْأَدِلَّةَ الْكَاذِبَةَ شِعْرًا، وَقِيلَ فِي الشِّعْرِ: أَكْذَبُهُ أَحْسَنُهُ، وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ} وَيُؤَيِّدُ الْأَوَّلَ مَا ذُكِرَ فِي حَدِّ الشِّعْرِ أَنَّ شَرْطَهُ الْقَصْدُ إِلَيْهِ، وَأَمَّا مَا وَقَّعَ مَوْزُونًا اتِّفَاقًا؛ فَلَا يُسَمَّى شِعْرًا كَذَا كَرَّرَهُ جَمَاعَةٌ مِنَ الْمُحَقِّقِينَ.
وَأَقُولُ هَذَا الْقَيْدُ يُخْرِجُ مَا صَدَرَ مِنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الْكَلَامِ الْمَوْزُونِ، وَأَمَّا مَا وَقَعَ فِي الْكِتَابِ الْمَكْنُونِ؛ فَلَا شَكَّ أَنَّهُ مَقْرُونٌ بِالْإِرَادَةِ، وَالْمَشِيئَةِ الَّتِي هِيَ مَعْنَى الْقَصْدِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَقَعُ فِي الْكَوْنِ شَيْءٌ دُونَ الْمَشِيئَةِ، وَلَعَلَّ الْجَوَابَ أَنَّهُ لَيْسَ مَقْصُودًا بِالذَّاتِ، وَأَنَّهُ وَقَعَ تَبَعًا كَمَا حُقِّقَ فِي بَحْثِ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
(حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ حُجْرٍ حَدَّثَنَا شَرِيكٌ عَنِ الْمِقْدَادِ بْنِ شُرَيْحٍ) بِالتَّصْغِيرِ (عَنْ أَبِيهِ) أَيْ: شُرَيْحِ بْنِ هَانِئٍ الْحَارِثِيِّ أَدْرَكَ زَمَنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَنَّى عَلَيْهِ السَّلَامُ أَبَاهُ هَانِئَ بْنَ زَيْدٍ، فَقَالَ: أَنْتَ أَبُو شُرَيْحٍ، وَشُرَيْحٌ مِنْ جُمْلَةِ أَصْحَابِ عَلِيٍّ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ، وَهُوَ مَنْ ظَهَرَتْ فَتْوَاهُ مِنْ زَمَنِ الصَّحَابَةِ رَوَى عَنْهُ ابْنُهُ الْمِقْدَامُ (عَنْ عَائِشَةَ قَالَ:) كَذَا فِي أَصْلِ السَّيِّدِ، وَالنُّسَخِ الْمُعْتَمَدَةِ أَيْ: شُرَيْحٌ وَفِي نُسْخَةٍ ضَعِيفَةٍ قَالَتْ وَعَكَسَ الْحَنَفِيُّ فَقَالَ: وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ قَالَ، تَأَمَّلْ. قُلْتُ لَيْسَ فِيهِ إِشْكَالٌ، فَيَحْتَاجُ إِلَى تَأَمُّلٍ، غَايَتُهُ أَنَّ عَلَى نُسْخَةِ قَالَ، ظَاهِرُهُ أَنَّ شُرَيْحًا سَمِعَ الْقِيلَ بِلَا نَقْلٍ بِخِلَافٍ قَالَتْ، (قِيلَ لَهَا هَلْ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَمَثَّلُ) أَيْ: يَسْتَشْهِدُ (بِشَيْءٍ مِنَ الشِّعْرِ) وَأَمَّا قَوْلُ الْحَنَفِيِّ أَيْ: يَتَمَسَّكُ، وَيَتَعَلَّقُ بِشَيْءٍ مِنَ الشِّعْرِ فَخِلَافُ الْمَقْصُودِ بَلْ يُوهِمُ الْمَعْنَى الْمَرْدُودَ مَعَ أَنَّهُ لَيْسَ مُطَابِقًا لِلْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ، وَلَا لِلْقَصْدِ الْعُرْفِيِّ، فَفِي الْقَامُوسِ تَمَثَّلَ: أَنْشَدَ بَيْتًا، وَتَمَثَّلَ بِشَيْءٍ ضَرَبَهُ مَثَلًا (قَالَتْ كَانَ) أَيْ: أَحْيَانًا (يَتَمَثَّلُ بِشِعْرِ ابْنِ رَوَاحَةَ) هُوَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ الْأَنْصَارِيُّ الْخَزْرَجِيُّ أَحَدُ النُّقَبَاءِ شَهِدَ الْعَقَبَةَ، وَبَدْرًا وَأُحُدًا وَالْخَنْدَقَ، وَالْمَشَاهِدَ بَعْدَهَا إِلَّا الْفَتْحَ، وَمَا بَعْدَهَا؛ فَإِنَّهُ قُتِلَ يَوْمَ مُؤْتَةَ شَهِيدًا أَمِيرًا فِيهَا سَنَةَ ثَمَانٍ، وَهُوَ أَحَدُ الشُّعَرَاءِ الْمُحْسِنِينَ، وَرَوَى عَنْهُ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَغَيْرُهُ.
(وَيَتَمَثَّلُ) أَيْ: بِشِعْرِ غَيْرِهِ أَيْضًا (وَيَقُولُ) أَيْ: مُتَمَثِّلًا بِقَوْلِ أَخِي قَيْسٍ طَرَفَةَ بْنِ الْعَبْدِ قَالَ ذَلِكَ فِي قَصِيدَتِهِ الْمُعَلَّقَةِ:
وَيَأْتِيكَ بِالْأَخْبَارِ مَنْ لَمْ تُزَوِّدِ

بِضَمِّ التَّاءِ، وَكَسْرِ الْوَاوِ، وَإِشْبَاعِ كَسْرَةِ الدَّالِ مِنَ التَّزْوِيدِ، وَهُوَ إِعْطَاءُ الزَّادِ، وَالْبَاءُ لِلتَّعْدِيَةِ، وَصَدْرُ الْبَيْتِ:
سَتُبْدِي لَكَ الْأَيَّامُ مَا كُنْتَ جَاهِلًا

مِنَ الْإِبْدَاءِ: وَهُوَ الْإِظْهَارُ هَذَا.
وَرَوَى الشَّيْخُ أَبُو اللَّيْثِ السَّمَرْقَنْدِيُّ فِي بُسْتَانِهِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّهُ قِيلَ لَهَا أَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَمَثَّلُ بِالشِّعْرِ؟ قَالَتْ: كَانَ أَبْغَضَ الْحَدِيثِ إِلَيْهِ الشِّعْرُ غَيْرَ أَنَّهُ تَمَثَّلَ مَرَّةً بِبَيْتِ أَخِي قَيْسٍ طَرَفَةَ، فَجَعَلَ آخِرَهُ أَوَّلَهُ مِنْ قَوْلِهِ:
سَتُبْدِي لَكَ الْأَيَّامُ مَا كُنْتَ جَاهِلًا ** وَيَأْتِيكَ بِالْأَخْبَارِ مَنْ لَمْ تَزَوَّدِ

فَقَالَ: وَيَأْتِيكَ مَنْ تَزَوَّدَ بِالْأَخْبَارِ، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: لَيْسَ هَكَذَا يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ: مَا أَنَا بِشَاعِرٍ انْتَهَى.
وَكَذَا ذَكَرَهُ ابْنُ كَثِيرٍ فِي تَفْسِيرِهِ؛ فَكَأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَمَثَّلَ بِمَعْنَاهُ، وَأَتَى فِيهِ بِحَقِّ لَفْظِهِ، وَمَبْنَاهُ؛ فَإِنَّ الْعُمْدَةَ مُقَدَّمَةٌ عَلَى الْفَضْلَةِ، وَالشَّاعِرُ لِضِيقِ النَّظْمِ قَدَّمَ وَأَخَّرَ، فَلَمَّا اسْتَفْهَمَهُ الصِّدِّيقُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: «مَا أَنَا بِشَاعِرٍ» أَيْ: حَقِيقَةً وَلَا قَاصِدِ وَزْنَهُ قِرَاءَةً، وَإِنَّمَا أَرَدْتُ الْمَعْنَى الْمُسْتَفَادَ مِنْهُ، وَهُوَ أَعَمُّ مِنْ أَنْ يَكُونَ فِي قَالَبِ وَزْنٍ أَوْ بِدُونِهِ، وَلَكِنْ يُشْكِلُ رِوَايَةُ الْكِتَابِ؛ فَإِنَّهُ بِظَاهِرِهِ يُعَارِضُ رِوَايَةَ الشَّيْخِ إِلَّا أَنْ يَتَكَلَّفَ بِأَنْ يُقَالَ تَمَثَّلَ بِمَادَّتِهِ، وَجَوْهَرِ حُرُوفِهِ دُونَ تَرْتِيبِهِ الْمَوْزُونِ أَوْ يُحْمَلُ عَلَى تَعَدُّدِ الْوَاقِعَةِ التَّأْوِيلُ عَلَى كُلِّ حَالٍ أَوْلَى مِنَ التَّرْجِيحِ عَلَى الصَّحِيحِ.
بَقِيَ إِشْكَالٌ آخَرُ، وَهُوَ أَنَّ الظَّاهِرَ الْمُتَبَادِرَ أَنَّ هَذَا الْبَيْتَ مِنْ كَلَامِ ابْنِ رَوَاحَةَ لَاسِيَّمَا عَلَى مَا فِي نُسْخَةٍ: وَيَتَمَثَّلُ بِقَوْلِهِ، وَقَدِ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ مِنْ شِعْرِ طَرَفَةَ.
فَالْجَوَابُ أَنَّهُ كَلَامٌ بِرَأْسِهِ، وَالضَّمِيرُ الْمَجْرُورُ لِقَائِلٍ أَوْ لِشَاعِرٍ مَشْهُورٍ بِهِ مَعْرُوفٍ عِنْدَهُمْ.
ثُمَّ الظَّاهِرُ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّمَا تَمَثَّلَ بِالْمِصْرَاعِ الْأَخِيرِ، وَأَنَّهُ أَرَادَ بِإِتْيَانِ الْأَخْبَارِ مِنْ غَيْرِ التَّزْوِيدِ نَفْسَهُ الشَّرِيفَةَ كَمَا تُشِيرُ إِلَيْهِ الْآيَةُ الْمَنْفِيَّةُ، وَهِيَ الْكَلِمَةُ الْمُتَّفِقُ عَلَيْهَا جُمْلَةُ الرُّسُلِ الْمُتَقَدِّمَةِ (مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ) وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَرُوِيَ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الشِّعْرِ قَالَ: هُوَ كَلَامٌ حَسَنُهُ حَسَنٌ، وَقَبِيحُهُ قَبِيحٌ.
قَالَ الْعُلَمَاءُ: مَعْنَاهُ أَنَّ الشِّعْرَ كَالنَّثْرِ لَكِنَّ التَّجْرِيدَ لَهُ، وَالِاقْتِصَارَ عَلَيْهِ مَذْمُومٌ، وَعَلَيْهِ يُحْمَلُ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَأَنْ يَمْتَلِئَ جَوْفُ أَحَدِكُمْ قَيْحًا خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَمْتَلِئَ شِعْرًا».
(حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ) بِتَشْدِيدِ الْيَاءِ كَمَرْمِيٍّ (حَدَّثَنَا سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ عُمَيْرٍ) بِالتَّصْغِيرِ (حَدَّثَنَا أَبُو سَلَمَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّ أَصْدَقَ كَلِمَةٍ قَالَهَا الشَّاعِرُ) الْمُرَادُ بِالْكَلِمَةِ هُنَا الْقِطْعَةُ مِنَ الْكَلَامِ (كَلِمَةُ لَبِيدٍ) أَيْ: ابْنِ رَبِيعَةَ الْعَامِرِيِّ قَدِمَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَنَةَ وَفْدِ قَوْمِهِ كَانَ شَرِيفًا فِي الْجَاهِلِيَّةِ، وَالْإِسْلَامِ نَزَلَ الْكُوفَةَ مَاتَ سَنَةَ إِحْدَى وَأَرْبَعِينَ، وَلَهُ مِنَ الْعُمْرِ مِائَةٌ وَأَرْبَعُونَ سَنَةً، وَقِيلَ مِائَةٌ وَسَبْعٌ وَخَمْسُونَ سَنَةً، وَقِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ، وَهُوَ الْمَشْهُورُ مِنْ فُصَحَاءِ الْعَرَبِ، وَشُعَرَائِهِمْ، وَلَمَّا أَسْلَمَ لَمْ يَقُلْ شِعْرًا، وَقَالَ يَكْفِينِي الْقُرْآنُ، وَكَأَنَّهُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ اسْتَحْيَى مِنْ أَنْ يَقُولَ شَيْئًا بَعْدَ سَمَاعِهِ كَلَامَهُ تَعَالَى، وَحَقَّقَ إِظْهَارَ الْمُعْجِزَةِ، وَصِدْقَهُ تَعَالَى فِي قَوْلِهِ: {أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ} أَوْ خَاضَ فِي لُجَجِ أَمْوَاجِ بِحَارِ الْعُلُومِ بِحَيْثُ أَنَّهُ مَا بَقِيَ لَهُ اشْتِغَالٌ بِغَيْرِهِ مِنَ الْعُلُومِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: جَمِيعُ الْعِلْمِ فِي الْقُرْآنِ لَكِنْ تَقَاصَرَ عَنْهُ أَفْهَامُ الرِّجَالِ.
وَلَعَلَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَتَمَثَّلُ بِالشِّعْرِ وَيَمْدَحُهُ أَحْيَانًا تَأَلُّفًا لِقُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ، وَتَدَرُّجًا بِأَقْوَالِ الْعَارِفِينَ إِلَى كَلَامِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لِلْمُنَاسَبَةِ الْبَشَرِيَّةِ الْعَاجِزَةِ غَالِبًا عَنْ فَهْمِ الْأَسْرَارِ الْإِلَهِيَّةِ.
وَهَذَا وَجْهُ مَا حُكِيَ أَنَّ بَعْضَ الْمَشَايِخِ قَرَأَ حِزْبَهُ مِنَ الْقُرْآنِ بَعْدَ الصُّبْحِ وَرَقَةً بَعْدَ وَرَقَةٍ، وَلَمْ يَحْصُلْ لَهُ وَجْدٌ وَذَوْقٌ وَرِقَّةٌ ثُمَّ حَضَرَ قَوَّالٌ، وَأَنْشَدَ لَهُ شِعْرًا فَحَصَلَ لَهُ سَمَاعٌ، وَتَوَاجُدٌ عَظِيمٌ بِحَسْبِ التَّوْفِيقِ، وَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ: أَمَا تَعْذُرُونَ الْقَائِلِينَ فِي حَقِّي أَنَّهُ الزِّنْدِيقُ وَعَلَى الْجُمْلَةِ؛ فَفِي الْحَدِيثِ مَنْقَبَةٌ شَرِيفَةٌ لِلَبِيدٍ وَكَلِمَتِهِ:
أَلَا كُلُّ شَيْءٍ مَا خَلَا اللَّهَ بَاطِلٌ

فَأَلَا لِلتَّنْبِيهِ، وَالْمُرَادُ بِالْبَاطِلِ: الْفَانِي الْمُضْمَحِلُّ، وَإِنَّمَا كَانَ كَلَامُهُ أَصْدَقَ؛ لِأَنَّهُ وَافَقَ أَصْدَقَ الْكَلَامِ فِي أَحَقِّ الْمَرَامِ، وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ} وَهُوَ زُبْدَةُ مَسْأَلَةِ التَّوْحِيدِ، وَعُمْدَةُ كَلِمَةِ أَهْلِ التَّفْرِيدِ مِنْ قَوْلِ بَعْضِهِمْ لَيْسَ فِي الدَّارِ غَيْرُهُ دَيَّارٌ.
وَقَوْلُ آخَرَ سِوَى اللَّهِ وَاللَّهِ مَا فِي الْوُجُودِ، وَقَدْ بَيَّنْتُ هَذَا الْمَعْنَى فِي شَرْحِ حِزْبِ مَوْلَانَا الشَّيْخِ أَبِي الْحَسَنِ الْبَكْرِيِّ قَدَّسَ اللَّهُ سِرَّهُ السِّرِّيَّ عِنْدَ قَوْلِهِ أَسْتَغْفِرُ اللَّهَ مِمَّا سِوَى اللَّهِ.
وَمُجْمَلُهُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْهَلَاكِ فِي الْآيَةِ وَالْبُطْلَانِ فِي الْبَيْتِ إِمَّا بِالْفِعْلِ؛ فَيَنْعَدِمُ كُلُّ مَخْلُوقٍ؛ فَيُوجَدُ فِي كُلِّ آنٍ وَهُوَ الْمَعْنِيُّ بِقَوْلِهِ: {كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ} وَهُوَ مَذْهَبُ ابْنِ الْعَرَبِيِّ وَأَتْبَاعِهِ مِنَ الْمُحَقِّقِينَ بِأَنَّ الْجَوَاهِرَ كَالْأَعْرَاضِ لَا تَبْقَى زَمَانَيْنِ أَوِ الْمُرَادُ قَبُولُهُ لِلْبُطْلَانِ وَالْهَلَاكِ، إِذِ الْمُتَعَقَّلُ إِمَّا ثَابِتُ الْعَدَمِ كَالْمُحَالِ أَوْ وَاجَبُ الْقِدَمِ وَالْبَقَاءِ كَذَاتِ اللَّهِ وَصِفَاتِهِ مِنْ نُعُوتِ الْكَمَالِ، أَوْ مُحْتَمَلٌ كَالْعَالَمِ وَهُوَ مَا سِوَاهُ، وَكُلُّهُ مِمَّا فِي صَدَدِ الزَّوَالِ فِي نَظَرِ أَرْبَابِ الْأَحْوَالِ. ثُمَّ الْمِصْرَاعُ الثَّانِي. وَكُلُّ نَعِيمٍ لَا مَحَالَةَ زَائِلُ.
أَيْ مِنْ نِعَمِ الدُّنْيَا لِقَوْلِهِ بَعْدَ ذَلِكَ نَعِيمُكَ فِي الدُّنْيَا غُرُورٌ وَحْسَرَةٌ قَالَ الْحَنَفِيُّ: لِكِنَّهُ لَمْ يَجْرِ عَلَى لِسَانِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قُلْتُ لَا يَجُوزُ الْجَزْمُ بِذَلِكَ، وَقَدْ جَاءَ فِي رِوَايَةٍ: «إِنَّ أَصْدَقَ بَيْتٍ قَالَهُ الشَّاعِرُ»، وَفِي رِوَايَةٍ: «إِنَّ أَصْدَقَ بَيْتٍ قَالَتْهُ الشُّعَرَاءُ»، وَالْبَيْتُ لَا يُطْلَقُ إِلَّا عَلَى الْمِصْرَاعَيْنِ، وَكَثِيرٌ مَا يُذْكَرُ أَحَدُ الْمِصْرَاعَيْنِ لِلِاكْتِفَاءِ بِالتَّنْبِيهِ عَلَيْهِ، فَتَارَةً يُؤْتَى بِالْمِصْرَاعِ الْأَوَّلِ كَمَا هُنَا، وَتَارَةً بِالْمِصْرَاعِ الثَّانِي كَمَا فِي الْحَدِيثِ الْأَوَّلِ، فَتَأَمَّلْ. (وَكَادَ) أَيْ: قَارَبَ (أُمَيَّةُ) بِالتَّصْغِيرِ (ابْنُ أَبِي الصَّلْتِ) بِفَتْحٍ، فَسُكُونٍ أَيْ: ابْنُ رَبِيعَةَ الثَّقَفِيُّ (أَنْ يُسْلِمَ)؛ لِأَنَّهُ كَانَ فِي شِعْرِهِ يَنْطِقُ بِالْحَقَائِقِ وَقَدْ كَانَ مُتَعَبِّدًا فِي الْجَاهِلِيَّةِ مِنْ بَيْنِ الْخَلَائِقِ، وَيَتَدَيَّنُ وَيُؤْمِنُ بِالْبَعْثِ لَكِنَّهُ أَدْرَكَ الْإِسْلَامَ، وَلَمْ يُسْلِمْ.
(حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنِ الْأَسْوَدِ بْنِ قَيْسٍ عَنْ جُنْدُبِ) بِضَمِّ جِيمٍ، وَدَالٍ وَيُفْتَحُ (بْنِ سُفْيَانَ الْبَجَلِيِّ) بِفَتْحَتَيْنِ أَبُوهُ عَبْدُ اللَّهِ، وَنُسِبَ إِلَى جَدِّهِ سُفْيَانَ (قَالَ أَصَابَ حَجَرٌ: إِصْبَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) بِكَسْرِ هَمْزَةٍ، وَفَتْحِ بَاءٍ وَفِي الْقَامُوسِ أَنَّهُ مُثَلَّثُ الْهَمْزَةِ وَالْبَاءِ (فَدَمِيَتْ) بِفَتْحِ الدَّالِ وَكَسْرِ الْمِيمِ، فَفِي أَسَاسِ الْبَلَاغَةِ دَمِيَتْ يَدُهُ، وَأَدْمَيْتُهَا أَنَا أَوْ دَمَيْتُهَا، قَالَ مِيرَكُ: وَقَعَ فِي رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ مِنْ طَرِيقِ أَبِي عِوَانَةَ عَنِ الْأَسْوَدِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ فِي بَعْضِ الْمَشَاهِدِ، فَدَمِيَتْ إِصْبَعُهُ إِلَخْ قَالَ الْكِرْمَانِيُّ: قِيلَ كَانَ ذَلِكَ فِي غَزْوَةِ أُحُدٍ.
وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي غَارٍ؛ فَدَمِيَتْ إِصْبَعُهُ قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ: قَالَ أَبُو الْوَلِيدِ الْبَاجِيُّ: لَعَلَّهُ غَازِيًا فَتُصُحِّفَ كَمَا قَالَ فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى فِي بَعْضِ الْمَشَاهِدِ، وَكَمَا جَاءَ فِي رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ يَعْنِي فِي كِتَابِ الْأَدَبِ.
بَيْنَمَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَمْشِي إِذْ أَصَابَهُ حَجَرٌ؛ فَدَمِيَتْ إِصْبَعُهُ قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ: وَقَدْ يُرَادُ بِالْغَارِ الْجَيْشُ وَالْجَمْعُ، لَا الْغَارُ الَّذِي هُوَ الْكَهْفُ لِيُوَافِقَ رِوَايَةَ بَعْضِ الْمَشَاهِدِ.
وَمِنْهُ قَوْلُ عَلِيٍّ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ مَا ظَنُّكَ بِامْرِئٍ جَمَعَ بَيْنَ هَذَيْنِ الْغَارَيْنِ أَيِ: الْعَسْكَرَيْنِ.
وَقَالَ الْعَسْقَلَانِيُّ: وَقَعَ فِي رِوَايَةِ شُعْبَةَ عَنِ الْأَسْوَدِ: خَرَجَ إِلَى الصَّلَاةِ، أَخْرَجَهُ الطَّيَالِسِيُّ قُلْتُ أَمَّا الْقَوْلُ بِالتَّصْحِيفِ؛ فَلَا يَخْلُو عَنْ نَوْعٍ مِنَ التَّحْرِيفِ؛ فَإِنَّهُ لَا يَصِحُّ لَفْظًا، وَلَا مَعْنًى وَمِثْلُ هَذَا الطَّعْنِ لَا يَجُوزُ فِي حَدِيثِ مُسْلِمٍ أَمَّا اللَّفْظُ فَظَاهِرٌ وَهُوَ زِيَادَةُ يَاءٍ، وَأَمَّا مَعْنًى فَلِأَنَّهُ لَا يُقَالُ كَانَ فِي غَارٍ، مَعَ أَنَّ رِوَايَةَ الْبُخَارِيِّ: بَيْنَمَا يَمْشِي، لَا تُنَافِي كَوْنَهُ أَوَّلًا فِي الْغَارِ، وَكَذَا فِي رِوَايَةِ: خَرَجَ إِلَى الصَّلَاةِ، وَأَمَّا قَوْلُ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ أَرَادَ بِهِ الْمَعْنَى الْمَجَازِيَّ؛ فَإِنَّ جَيْشَ كُلِّ أَمِيرٍ بِمَنْزِلَةِ كَهْفِهِ الْمُتَقَوِّي بِهِ الْمُلْتَجِئِ إِلَيْهِ، فَالتَّحْقِيقُ أَنَّهُ كَانَ فِي غَارٍ مِنْ جَبَلِ أُحُدٍ أَوْ كَهْفٍ فِي بَعْضِ أَمَاكِنِهِ يَحْتَرِسُ فِيهِ مِنَ الْأَعْدَاءِ كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ صُعُودُهُ، وَظُهُورُهُ بِمُعَاوَنَةِ طَلْحَةَ يَحْمِلُهُ عَلَى ظَهْرِهِ عَلَى أَنَّهُ لَا مَانِعَ مِنَ الْحَمْلِ عَلَى تَعَدُّدِ الْوَاقِعَةِ وَهُوَ لَا شَكَّ أَنَّهُ أَحْسَنُ مِنَ الطَّعْنِ فِي الرِّوَايَةِ الصَّحِيحَةِ بَلْ كَالْمُتَعَيَّنِ لِلدَّلَالَاتِ الصَّرِيحَةِ، وَلِبَعْضِ الشُّرَّاحِ هُنَا كَلِمَاتٌ مُتَنَاقِضَاتٌ أَعْرَضْنَا عَنْ ذِكْرِهَا حَيْثُ يَشْغَلُ الْبَالَ فِكْرُهَا (فَقَالَ: هَلْ أَنْتِ) يَجُوزُ قِرَاءَتُهُ بِالتَّحْقِيقِ، وَالنَّقْلِ وَهُوَ اسْتِفْهَامٌ مَعْنَاهُ النَّفْيُ أَيْ: مَا أَنْتِ (إِلَّا إِصْبَعٌ دَمِيتِ) بِفَتْحِ الدَّالِ، وَكَسْرِ الْمِيمِ، وَإِشْبَاعِ التَّاءِ وَهُوَ صِفَةٌ لِإِصْبَعٍ، وَالْمُسْتَثْنَى مِنْهُ أَعَمُّ، عَامُّ الصِّفَةِ أَيْ: مَا أَنْتِ إِلَّا إِصْبَعٌ مَوْصُوفَةٌ بِشَيْءٍ إِلَّا بِأَنْ دَمِيتِ، وَقِيلَ بِضَمِيرِ الْغَائِبَةِ فِي دَمِيَتْ، وَلَقِيَتْ وَعَلَيْهِ؛ فَهُوَ لَيْسَ بِشِعْرٍ أَصْلًا لَكِنَّ الْمَشْهُورَ بَلِ الصَّوَابُ الرِّوَايَةُ الْأُولَى كَأَنَّهَا لَمَّا تَوَجَّعَتْ خَاطَبَهَا مُمْلِئًا عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِعَارَةِ، وَالتَّشْبِيهِ مُسَلِّيًا أَيْ: تَسَلِّي فَإِنَّكِ مَا ابْتُلِيتِ بِشَيْءٍ مِنَ الْهَلَاكِ، وَالْقَطْعِ وَالْجُرْحِ سِوَى أَنَّكِ دَمِيتِ، وَمَعَ هَذَا لَمْ يَكُنْ دَمُكِ هَدَرًا بَلْ كَانَ ذَلِكَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَهُ قَدَرًا، وَهَذَا هُوَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ (وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ مَا لَقِيتِ) وَالْوَاوُ لِلْعَطْفِ أَوِ الْحَالِ، وَهُوَ الْأَظْهَرُ، وَمَا مَوْصُولَةٌ مُبْتَدَأٌ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ خَبَرُهُ أَيِ: الَّذِي لَقِيتِهِ حَاصِلٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ؛ فَلَا تُبَالِي بَلِ افْرَحِي؛ فَإِنَّ مِحْنَتَهَا قَلِيلَةٌ، وَمِنْحَتَهَا جَزِيلَةٌ؛ فَهِيَ صِبْغَةٌ وَسِيمَةٌ وَصَنْعَةٌ جَسِيمَةٌ.
وَقَضِيَّةُ كَسْرِ لَيْلَى قَدَحَ الْمَجْنُونِ شَهِيرَةٌ.
وَأَمْثَالُهَا فِي سِيَرِ الْمُحِبِّ، وَالْمَحْبُوبِ كَثِيرَةٌ.
قَالَ الْخَطَّابِيُّ: اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي هَذَا، وَمَا أَشْبَهَهُ بِالرَّجَزِ الَّذِي جَرَى عَلَى لِسَانِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي بَعْضِ أَسْفَارِهِ وَأَوْقَاتِهِ، وَفِي تَأْوِيلِ ذَلِكَ مَعَ شَهَادَةِ اللَّهِ تَعَالَى بِأَنَّهُ لَمْ يُعَلِّمْهُ الشِّعْرَ، وَمَا يَنْبَغِي لَهُ؛ فَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إِلَى أَنَّ الرَّجَزَ لَيْسَ بِشِعْرٍ، فَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إِلَى أَنَّ هَذَا، وَمَا أَشْبَهَهُ وَإِنِ اسْتَوَى عَلَى وَزْنِ الشِّعْرِ؛ فَإِنَّهُ لَمْ يَقْصِدْ بِهِ الشِّعْرَ إِذَا لَمْ يَكُنْ صُدُورُهُ عَنْ نِيَّةٍ لَهُ وَرَوِيَّةٍ فِيهِ، وَإِنَّمَا هُوَ اتِّفَاقُ كَلَامٍ يَقَعُ أَحْيَانًا فَيَخْرُجُ مِنْهُ الشَّيْءُ بَعْدَ الشَّيْءِ عَلَى بَعْضِ أَعَارِيضِ الشِّعْرِ، وَقَدْ وُجِدَ فِي كِتَابِ اللَّهِ الْعَزِيزِ مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ، وَهَذَا مِمَّا لَا يُشَكُ فِيهِ أَنَّهُ لَيْسَ بِشِعْرٍ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: مَعْنَى قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ} الرَّدُّ عَلَى الْمُشْرِكِينَ فِي قَوْلِهِمْ بَلِ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ شَاعِرٌ، وَالْبَيْتُ الْوَاحِدُ مِنَ الشِّعْرِ لَا يَلْزَمُهُ هَذَا الِاسْمُ؛ فَيُخَالِفُ مَعْنَى الْآيَةِ.
هَذَا مَعَ قَوْلِهِ: «إِنَّ مِنَ الشِّعْرِ لَحِكْمَةً»، وَإِنَّمَا الشَّاعِرُ هُوَ الَّذِي يَقْصِدُ الشِّعْرَ، وَيُشَبِّبُهُ وَيُصَفِّيِهِ، وَيَمْدَحُهُ وَيَتَصَرَّفُ تَصَرُّفَ الشُّعَرَاءِ فِي هَذِهِ الْأَفَانِينَ وَقَدْ بَرَّأَ اللَّهُ رَسُولَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ ذَلِكَ، وَصَانَ قَدْرَهُ عَنْهُ، وَأَخْبَرَ أَنَّ الشِّعْرَ لَا يَنْبَغِي، وَإِذَا كَانَ مُرَادُ الْآيَةِ هَذَا الْمَعْنَى لَمْ يَضُرَّ أَنْ يَجْرِيَ عَلَى لِسَانِهِ الشَّيْءُ الْيَسِيرُ مِنْهُ، فَلَا يَلْزَمُهُ الِاسْمُ الْمَنْفِيُّ عَنْهُ.
(حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي عُمَرَ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ عَنِ الْأَسْوَدِ بْنِ قَيْسٍ عَنْ جُنْدُبَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ) أَيِ: ابْنِ سُفْيَانَ الْبَجَلِيِّ (نَحْوَهُ) أَيْ: بِمَعْنَاهُ دُونَ لَفْظِهِ.
(حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ حَدَّثَنَا أَبُو إِسْحَاقَ عَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ) صَحَابِيَّانِ جَلِيلَانِ (قَالَ: قَالَ لَهُ رَجُلٌ) جَاءَ فِي رِوَايَةٍ أَنَّهُ قِيسٌ لَكِنْ لَا يُعْرَفُ اسْمُهُ (أَفَرَرْتُمْ) أَيْ: يَوْمَ حُنَيْنٍ كَمَا جَاءَ فِي رِوَايَةِ الصَّحِيحَيْنِ (عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) أَيْ: مُعْرِضِينَ عَنْهُ، وَتَارِكِينَ لَهُ وَإِلَّا فَالْفِرَارُ مِنَ الْكُفَّارِ (يَا أَبَا عُمَارَةَ) بِضَمِّ الْعَيْنِ، وَتَخْفِيفِ الْمِيمِ كُنْيَةُ الْبَرَاءِ وَالِاسْتِفْهَامُ لِلْإِنْكَارِ أَوْ لِلِاسْتِعْلَامِ (فَقَالَ لَا) أَيْ: مَا فَرَرْنَا جَمِيعًا (وَاللَّهِ مَا وَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَكِنْ وَلَّى سَرَعَانُ النَّاسِ) بِفَتْحِ السِّينِ وَالرَّاءِ وَيُسَكَّنُ أَيْ: أَوَائِلُهُمْ فَفِي النِّهَايَةِ: السَّرَعَانُ بِفَتْحِ السِّينِ وَالرَّاءِ: أَوَائِلُ النَّاسِ الَّذِينَ يَتَسَارَعُونَ عَلَى الشَّيْءِ، وَيُقْبِلُونَ عَلَيْهِ بِسُرْعَةٍ، وَيَجُوزُ تَسْكِينُ الرَّاءِ.
وَمِنْهُ حَدِيثُ حُنَيْنٍ خَرَجَ سَرَعَانُ النَّاسِ، وَإِخَاؤُهُمْ وَقَالَ الْعَلَّامَةُ الْكِرْمَانِيُّ فِي قَوْلِهِ سَرَعَانُ بِفَتْحِ السِّينِ، وَكَسْرِهَا جَمْعُ سَرِيعٍ، وَبِفَتْحِ السِّينِ وَالرَّاءِ وَيُسَكَّنُ أَيْ أَوَائِلُهُمْ.
قَالَ مِيرَكُ: هَذَا الْجَوَابُ مِنَ الْبَرَاءِ ظَاهِرٌ عَلَى تَقْدِيرِ الْكَلَامِ فِي السُّؤَالِ هَكَذَا أَفَرَرْتُمْ مِنَ الْكُفَّارِ، وَعَلَى رِوَايَةِ أَفَرَرْتُمْ كُلُّكُمْ يَوْمَ حُنَيْنٍ، وَأَمَّا عَلَى هَذِهِ الرِّوَايَةِ، وَهِيَ أَفَرَرْتُمْ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَا يَخْلُوا عَنْ تَكَلُّفٍ، وَيُمْكِنْ أَنْ يُوَجَّهَ بِأَنَّ الْبَرَاءَ أَشَارَ عَلَى أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَا يَخْلُو عَنْ تَكَلُّفٍ، وَيُمْكِنُ أَنْ يُوَجَّهَ بِأَنَّ الْبَرَاءَ أَشَارَ إِلَى أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَفِرَّ، وَأَظْهَرَ الشَّجَاعَةَ، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} فَحِينَئِذٍ لَا يُتَصَوَّرُ فِرَارُ الصَّحَابَةِ عَنْهُ لِشِدَّةِ مُوَافَقَتِهِمْ لَهُ، وَعِلْمِهِمْ بِأَنَّهُ مُؤَيَّدٌ بِالتَّأْيِيدَاتِ الْإِلَهِيَّةِ؛ وَإِنَّمَا يُتَوَهَّمُ فِرَارُهُمْ عَنْهُ إِذَا فَرَّ هُوَ وَتَوَلَّى، وَهُوَ مُحَالٌ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ انْتَهَى.
وَفِيهِ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ وُجُودِ كَوْنِهِ مَعْصُومًا مِنَ النَّاسِ عَدَمُ تَصَوُّرِ فِرَارِ أَصْحَابِهِ كَمَا لَا يَخْفَى، وَقِيلَ هَذَا الْجَوَابُ الَّذِي أَجَابَهُ الْبَرَاءُ مِنْ بَدِيعِ أَدَبِ الْفُضَلَاءِ؛ لِأَنَّ تَقْدِيرَ الْكَلَامِ أَفَرَرْتُمْ كُلُّكُمْ فَيَقْتَضِي أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَافَقَهُمْ فِي ذَلِكَ فَقَالَ الْبَرَاءُ: لَا وَاللَّهِ مَا فَرَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَكِنْ جَمَاعَةٌ مِنْ أَصْحَابِهِ جَرَى لَهُمْ كَذَا وَكَذَا انْتَهَى كَلَامُهُ. وَهُوَ مَنْسُوبٌ إِلَى مُحْيِي الدِّينِ النَّوَوِيِّ، وَهُوَ مُسَلَّمٌ فِي حَدِيثِ مُسْلِمٍ إِذْ لَيْسَ فِيهَا: عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَمَّا عَلَى رِوَايَةِ التِّرْمِذِيِّ فَقَوْلُ السَّائِلِ: أَفَرَرْتُمْ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يَدُلُّ إِلَى أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَرَّ، بَلْ عَلَى أَنَّهُمْ فَرُّوا، وَبَقِيَ هُوَ مُنْفَرِدًا، فَالْأَوْلَى أَنْ يُقَالَ تَقْدِيرُ الْكَلَامِ أَفَرَرْتُمْ كُلُّكُمْ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ الْبَرَاءُ: لَا نَفْيًا لِفِرَارِ الْكُلِّ كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ الِاسْتِدْرَاكُ، وَصَرَّحَ بِنَفْيِ تَوْلِيَتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِطْرَادِ دَفْعًا لِمَا قَدْ يُتَوَهَّمُ أَنَّهُ يَلْزَمُ مِنْ فِرَارِ الْعَسْكَرِ تَوْلِيَةُ الْأَمِيرِ عَلَى مَا هُوَ الْمُعْتَادُ الْمُتَعَارَفُ، وَقِيلَ قَوْلُ الْبَرَاءِ: لَا. رَفَعَ الْإِيجَابَ الْكُلِّيَّ الَّذِي تَوَهَّمَهُ السَّائِلُ، وَقَوْلُهُ: مَا وَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَعْلِيلٌ لِذَلِكَ الرَّفْعِ سَوَاءٌ كَانَ الْقَسَمُ لِتَأْكِيدِ هَذَا النَّفْيِ أَوْ لِلرَّفْعِ السَّابِقِ يَعْنِي لَمَّا لَمْ يَفِرَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَيْفَ يَفِرُّ جَمِيعُ أَصْحَابِهِ عَنْهُ، نَعَمْ سَرَعَانُ النَّاسِ جَرَى لَهُمْ ذَلِكَ كَذَا وَكَذَا انْتَهَى. وَاعْتَمَدَهُ شَيْخُنَا ابْنُ حَجَرٍ، وَأَطْنَبَ فِي تَوْضِيحِهِ حَيْثُ قَالَ: وَقَوْلُهُ (لَا) أَيْ: لَمْ نَفِرَّ بِأَجْمَعِنَا بَلْ فَرَّ بَعْضُنَا، وَبَقِيَ بَعْضُنَا وَأَكَّدَ بَقَاءَ الْبَعْضِ بِقَوْلِهِ مَا وَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيَلْزَمُ مِنْ بَقَائِهِ بَقَاءُ طَائِفَةٍ مَعَهُ لِمَا جُبِلُوا عَلَيْهِ مِنْ إِيثَارِهِمْ نَفْسَهُ الْكَرِيمَةَ عَلَى نُفُوسِهِمْ، وَهَذَا مِنْ بَدِيعِ أَدَبِ الْبَرَاءِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَبَلَاغَتِهِ؛ لِأَنَّ الِاسْتِفْهَامَ رُبَّمَا يُتَوَهَّمُ مِنْهُ، وَإِنْ دَفَعَ ذَلِكَ التَّوَهُّمَ تَعْبِيرُ السَّائِلِ: بِعَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ فَرَّ مَعَهُمْ، وَزَادَ فِي التَّأَدُّبِ نَفْيُ التَّوَلِّي دُونَ الْفِرَارِ نَزَاهَةً لِمَقَامِهِ الرَّفِيعِ عَنْ أَنْ يَسْتَعْمِلَ فِيهِ لَفْظَ الْفِرَارِ فِي النَّفْيِ فَضْلًا عَنِ الْإِثْبَاتِ؛ لِأَنَّهُ أَشْنَعُ مِنْ لَفْظِ التَّوَلِّي إِذْ هُوَ قَدْ يَكُونُ لِتَحَيُّزٍ أَوِ انْحِرَافٍ بِخِلَافِ الْفِرَارِ؛ فَإِنَّهُ لَا يَكُونُ إِلَّا لِلْخَوْفِ، وَالْجُبْنِ أَيْ: غَالِبًا وَإِلَّا فِرَارَ الصَّحَابَةِ هُنَا لَمْ يَتَمَحَّضْ لِذَلِكَ قَطْعًا، وَمِنْ ثَمَّةَ قَالَ الطَّبَرَانِيُّ: هَذَا الِانْهِزَامُ الْمَنْهِيُّ عَنْهُ هُوَ مَا وَقَعَ عَلَى غَيْرِ نِيَّةِ الْعَوْدِ، وَأَمَّا الِاسْتِعْدَادُ لِلْكَرَّةِ، فَهُوَ كَالتَّحَيُّزِ إِلَى فِئَةٍ، وَيُحْتَمَلُ أَنَّ الْبَرَاءَ أَشَارَ إِلَى قِيَامِ الْحُجَّةِ الْوَاضِحَةِ، وَالْبَيِّنَةِ الظَّاهِرَةِ عَلَى عَدَمِ فِرَارِ أَكَابِرِ الصَّحَابَةِ بِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا لَمْ يَقَعْ مِنْهُ تَوَلٍّ فَهُمْ كَذَلِكَ لِمُثَابَرَتِهِمْ عَلَى بَذْلِهِمْ نُفُوسَهُمْ دُونَهُ، وَعِلْمِهِمْ بِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَا يَخْذُلُهُ، وَأَنَّهُ يَعْصِمُهُ مِنَ النَّاسِ، وَلَا يُنَافِي ذَلِكَ مَا فِي مُسْلِمٍ عَنْ سَلَمَةَ بْنِ الْأَكْوَعِ مِنْ قَوْلِهِ: فَأَرْجِعُ مُنْهَزِمًا، إِلَى قَوْلِهِ: دُرْتُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُنْهَزِمًا فَقَالَ: لَقَدْ رَأَى ابْنَ الْأَكْوَعِ فَزِعًا فَقَالَ الْعُلَمَاءُ: قَوْلُهُ مُنْهَزِمًا حَالٌ مِنَ ابْنِ الْأَكْوَعِ كَمَا صَرَّحَ أَوَّلًا بِانْهِزَامِهِ، وَلَمْ يَرِدْ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ انْهَزَمَ إِذْ لَمْ يَقُلْ أَحَدٌ مِنَ الصَّحَابَةِ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ انْهَزَمَ فِي مَوْطِنٍ مِنْ مَوَاطِنِ الْحَرْبِ.
وَمِنْ ثَمَّةَ أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ عَلَيْهِ الِانْهِزَامُ فَمَنْ زَعَمَ أَنَّهُ انْهَزَمَ فِي مَوْطِنٍ مِنْ مَوَاطِنِ الْحَرْبِ أُدِّبَ تَأْدِيبًا عَظِيمًا لَائِقًا بِعَظِيمِ جَرِيمَتِهِ إِلَّا أَنْ يَقُولَهُ عَلَى جِهَةِ التَّنْقِيصِ؛ فَإِنَّهُ يُكَفَّرُ، فَيُقْتَلُ مَا لَمْ يَتُبْ عَلَى الْأَصَحِّ عِنْدَنَا، وَمُطْلَقًا عِنْدَ مَالِكٍ، وَجَمَاعَةٍ مِنْ أَصْحَابِنَا، وَبَالَغَ بَعْضُهُمْ فَنَقَلَ فِيهِ الْإِجْمَاعَ بَلْ لَوْ أَطْلَقَ ذَلِكَ قُتِلَ عِنْدَهُمْ عَلَى مَا أَشَارَ إِلَيْهِ بَعْضُ مُحَقِّقِيهِمُ انْتَهَى.
فَمَا وَقَعَ لِبَعْضِ سَلَاطِينِ مَا وَرَاءَ النَّهْرِ، وَهُوَ عُبَيْدُ خَانْ فِي بَيْتِهِ الْمَشْهُورِ الْمَنْسُوبِ إِلَى الْمَلَاجَامِيِّ حَيْثُ جَعَلَ هِجْرَتَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ مَكَّةَ إِلَى الْمَدِينَةِ فِرَارًا أَقْبَحَ مِنْ ذَلِكَ كُلِّهِ، فَالْحَذَرَ الْحَذَرَ مِنَ التَّلَفُّظِ بِبَيْتِهِ عَلَى وَجْهِ الِاسْتِحْسَانِ؛ فَإِنَّهُ كُفْرٌ صَرِيحٌ عِنْدَ الْعُلَمَاءِ الْأَعْيَانِ الْعَارِفِينَ بِالْمَعَانِي، وَالْبَيَانِ ثُمَّ مِمَّا رَسَخَ بِالْبَالِ، وَخَطَرَ فِي الْحَالِ أَنَّ تَقْدِيرَ الْكَلَامِ لَا وَاللَّهِ مَا وَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَنْ كَانَ وَرَاءَهُ؛ وَإِنَّمَا وَلَّى مُقَدِّمَةُ الْعَسْكَرِ، كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ، وَلَكِنْ وَلَّى سَرَعَانُ النَّاسِ أَيْ: أَوَائِلُهُمُ الْمُسْرِعِينَ فِي السَّيْرِ أَوِ الْمُسْتَعْجِلِينَ فِي الْأَمْرِ لِعَدَمِ رُسُوخِهِمْ، وَوُقُوفِهِمْ بِحَالِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ ذَكَرَ سَبَبَ فِرَارِهِمْ بِقَوْلِهِ (تَلَقَّتْهُمْ) تَفَعَّلَ مِنَ اللُّقْيِ أَيْ: قَابَلَتْهُمْ وَوَاجَهَتْهُمْ (هَوَازِنُ) بِفَتْحِ الْهَاءِ وَكَسْرِ الزَّايِ قَبِيلَةٌ مَشْهُورَةٌ بِشِدَّةِ السَّهْمِ لَا يَكَادُ تُخْطِئُ سِهَامُهُمْ (بِالنَّبْلِ)، الْبَاءُ لِلتَّعْدِيَةِ أَيْ: بِرَمْيِهِ وَهُوَ اسْمُ جِنْسٍ يُرَادُ بِهِ السِّهَامُ الْعَرَبِيَّةُ لَا وَاحِدَ لَهُ مِنْ لَفْظِهِ، وَقِيلَ أَنَّهُ جَمْعُ نَبْلَةٍ، وَيُجْمَعُ عَلَى نِبَالٍ بِالْكَسْرِ، وَأَنْبَالٍ (وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى بَغْلَتِهِ) أَيِ: الدَّالَّةِ عَلَى كَمَالِ شَجَاعَتِهِ الْمُشْعِرَةِ بِعَدَمِ التَّوْلِيَةِ إِذْ لَا يُتَصَوَّرُ الْفِرَارُ بِهَا أَصْلًا لَا نَقْلًا، وَلَا عَقْلًا، وَالْجُمْلَةُ حَالٌ، وَبِمَا ذَكَرْنَا يُجْمَعُ بَيْنَ مَا وَرَدَ مِنَ الْأَحَادِيثِ مِنْ أَنَّهُ لَمَّا الْتَقَى الْمُسْلِمُونَ وَالْكُفَّارُ وَلَّى الْمُسْلِمُونَ مُدْبِرِينَ، فَطَفِقَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُرْكِضُ بَغْلَتَهُ قِبَلَ الْكُفَّارِ بَعْدَمَا صَاحَ بِهِمُ الْعَبَّاسُ، وَكَانَ رَجُلًا صَيِّتًا، وَفِي رِوَايَةٍ ذَهَبَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي عَقِبِهِمْ فَقَالَ: يَا أَنْصَارَ اللَّهِ، وَأَنْصَارَ رَسُولِ اللَّهِ أَنَا عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ. وَفِي رِوَايَةٍ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: إِلَى أَيْنَ أَيُّهَا النَّاسُ، وَكَانَ الْأَصْحَابُ مَشْغُولِينَ بِالْفِرَارِ بِحَيْثُ لَمْ يَنْظُرْ أَحَدٌ مِنْهُمْ عَلَى خَلْفٍ أَصْلًا.
وَأَمَّا مَا رُوِيَ أَنَّهُ بَقِيَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُنْفَرِدًا فِيمَا بَيْنَ الْكُفَّارِ، فَقَدْ يُقَالُ أَنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى الْكِنَايَةِ عَنْ قِلَّةِ مَنْ كَانَ عِنْدَهُ مِنَ الْأَصْحَابِ أَوْ عَلَى أَنَّهُ كَانَ كَذَلِكَ فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ ثُمَّ جُمِعُوا عِنْدَهُ، وَيُؤَيِّدُ الْحَمْلَ الْأَوَّلَ قَوْلُهُ (وَأَبُو سُفْيَانَ بْنُ الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ آخِذٌ بِلِجَامِهَا) وَقَدْ سَبَقَ أَيْضًا أَنَّ الْعَبَّاسَ مِمَّنْ صَاحَ عَلَى النَّاسِ، فَيُؤْخَذُ مِنْهُ تَوْجِيهٌ آخَرُ أَنَّهُ إِنَّمَا فَرَّ مَنْ فَرَّ لَمَّا تَوَهَّمَ مِنْ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قُتِلَ أَوْ مَا لَحِقَ أَوْ رَجَعَ وَنَحْوُ ذَلِكَ فَلَمَّا سَمِعُوا صِيَاحَ عَبَّاسٍ يَا أَصْحَابَ الشَّجَرَةِ أَوْ كَلَامَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَيُّهَا النَّاسُ إِلَيَّ إِلَيَّ؛ فَرَجَعُوا مُسْرِعِينَ قَائِلِينَ يَا لَبَّيْكَ يَا لَبَّيْكَ، وَقَدْ صَحَّ عَنْ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: فَطَفِقَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُرْكِضُ بَغْلَتَهُ قِبَلَ الْكُفَّارِ، وَأَنَا آخِذٌ بِلِجَامِ بَغْلَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَكُفُّهَا إِرَادَةَ أَلَّا تُسْرِعَ وَأَبُو سُفْيَانَ بْنُ الْحَارِثِ آخِذٌ بِرِكَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَالْجَمْعُ بِأَنَّهُ كَانَ آخِذٌ اللِّجَامَ عَلَى سَبِيلِ الْمُنَاوَبَةِ فِي خِدْمَةِ الْمَقَامِ.
وَمِمَّا يُؤَيِّدُ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ تَحْقِيقِ الْمَرَامِ مَا قَالَهُ بَعْضُ الشُّرَّاحِ، وَتَبِعَهُ ابْنُ حَجَرٍ مِنْ أَنَّ قَوْلَهُ، وَلَكِنْ وَلَّى سَرَعَانُ النَّاسِ فِيهِ تَصْرِيحٌ بِأَنَّ الْفِرَارَ لَمْ يَكُنْ مِنْ جَمِيعِهِمْ، وَإِنَّمَا كَانَ مِمَّنْ فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ مِنْ مُسْلِمَةِ الْفَتْحِ، وَمُؤَلَّفَتِهِمْ وَأَخْلَاطِهِمُ الَّذِينَ لَمْ يَتَمَكَنِ الْإِسْلَامُ فِي قُلُوبِهِمْ، بَلْ كَانَ فِيهِمْ مَنْ يَتَرَبَّصُ بِالْمُسْلِمِينَ الدَّوَائِرَ، وَجَمَاعَةٌ خَرَجُوا لِلْغَنِيمَةِ؛ فَلَمَّا انْكَشَفُوا مِنَ الْعَدُوِّ، وَظَنَّ مَنْ فَرَّ مِنَ الصَّحَابَةِ أَنَّهُ لَمْ يَبْقَ فِيهِمْ غَنَاءٌ فَكَدُّوا لِيَعْرِفُوا الْخَبَرَ، فَأُطْلِقَ عَلَى فِعْلِهِمُ الْفِرَارُ فِي بَعْضِ الْآثَارِ أَخْذًا بِالظَّاهِرِ هَذَا وَقَدْ وَقَعَ عِنْدَ الْبُخَارِيِّ عَلَى بَغْلَتِهِ الْبَيْضَاءِ، وَعِنْدَ مُسْلِمٍ أَنَّ الْبَغْلَةَ الَّتِي كَانَتْ تَحْتَهُ يَوْمَ حُنَيْنٍ أَهْدَاهَا لَهُ فَرْوَةُ بْنُ نُغَاثَةَ، هَذَا هَوُ الصَّحِيحُ وَذَكَرَ أَبُو الْحَسَنِ بْنُ عَبْدُوسٍ أَنَّ الْبَغْلَةَ الَّتِي رَكِبَهَا يَوْمَ حُنَيْنٍ هِيَ دُلْدُلٌ، وَكَانَتْ شَهْبَاءَ أَهْدَاهَا لَهُ الْمُقَوْقِسُ وَأَمَّا الَّتِي أَهْدَاهَا لَهُ فَرْوَةُ يُقَالُ لَهَا فِضَّةُ، وَذَكَرَ ذَلِكَ ابْنُ سَعْدٍ وَذُكِرَ عَكْسُهُ، وَالصَّحِيحُ مَا فِي مُسْلِمٍ، نَقَلَهُ مِيرَكُ عَنِ الشَّيْخِ، وَقَالَ الْعُلَمَاءُ رُكُوبُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْبَغْلَةَ فِي مَوَاطِنِ الْحَرْبِ هُوَ النِّهَايَةُ فِي الشَّجَاعَةِ، وَلِيَكُونَ أَيْضًا مُعْتَمَدًا يَرْجِعُ إِلَيْهِ الْمُسْلِمُونَ، وَتَطْمَئِنُ قُلُوبُهُمْ بِهِ، وَبِمَكَانِهِ وَلِيَكُونَ مُمْتَازًا عَنْ غَيْرِهِ، وَإِنَّمَا فِعْلُهُ هَذَا عَمْدًا، وَإِلَّا فَقَدْ كَانَتْ لَهُ أَفْرَاسٌ مَعْرُوفَةٌ (وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ) أَيْ: وَبِحَوْلِ رَبِّهِ يَحُولُ، وَعَلَى عَدُوِّهِ يَصُولُ مُظْهِرًا نَسَبَهُ وَحَسَبَهُ اعْتِمَادًا عَلَى مَا وَعَدَهُ مِنَ الْعِصْمَةِ عَنِ النَّاسِ رَبُّهُ.
أَنَا النَّبِيُّ لَا كَذِبَ

أَيْ: حَقًّا وَصِدْقًا، فَلَا أَفِرُّ، وَلَا أَزُولُ عَمَّا أَقِرُّ إِذْ صِفَةُ النُّبُوَّةِ يَسْتَحِيلُ مَعَهَا الْكَذِبُ، فَكَأَنَّهُ قَالَ: أَنَا النَّبِيُّ لَا يَكْذِبُ فَلَسْتُ بِكَاذِبٍ فِيمَا أَقُولُ حَتَّى أَنْهَزِمَ، وَلَا أَجُولُ بَلْ أَنَا مُتَيَقِّنٌ أَنَّ مَا وَعَدَنِي اللَّهُ مِنَ النَّصْرِ حَقٌّ، وَإِنَّ خِذْلَانَ أَعْدَائِي صِدْقٌ.
أَنَا ابْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ

انْتَسَبَ بِجَدِّهِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ دُونَ أَبِيهِ عَبْدِ اللَّهِ إِمَّا مُرَاعَاةً لِلْوَزْنِ وَالْقَافِيَةِ، أَوْ لِأَنَّ أَبَاهُ تُوَفِّيَ شَابًّا فِي حَيَاةِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، وَلَمْ يَشْتَهِرْ كَاشْتِهَارِهِ عِنْدَ الْعَرَبِ؛ فَإِنَّهُ كَانَ سَيِّدَ قُرَيْشٍ، وَرَئِيسَ أَهْلِ مَكَّةَ، وَكَانَ النَّاسُ يَدْعُونَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِابْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، وَأَيْضًا فَاشْتُهِرَ عِنْدَهُمْ أَنَّ عَبْدَ الْمُطَّلِبِ بُشِّرَ بِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَيَظْهَرُ، وَيَكُونُ لَهُ شَأْنٌ عَظِيمٌ لَمَّا أَخْبَرَهُ سَيْفُ بْنُ ذِي يَزَنٍ.
وَقِيلَ؛ لِأَنَّهُ رَأَى رُؤْيَا تَدُلُّ عَلَى ظُهُورِهِ وَكَمَالِ جَمَالِ نُورِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَرَادَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُذَكِّرَهُمْ بِجَمِيعِ ذَلِكَ. وَبِأَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ ظُهُورِهِ عَلَى الْأَعْدَاءِ لِتَقْوَى نُفُوسُ الْمُؤَلَّفَةِ، وَنَحْوُهُمْ عَلَى رَجَاءِ الْإِعْلَاءِ.
وَفِيهِ دَلِيلٌ لِجَوَازِ قَوْلِ الْإِنْسَانِ أَنَا فُلَانُ بْنُ فُلَانٍ، وَمِنْهُ قَوْلُ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ:
أَنَا الَّذِي سَمَّتْنِي أُمِّي حَيْدَرَهْ

أَيْ: أَسَدًا وَقَوْلُ سَلَمَةَ:
أَنَا ابْنُ الْأَكْوَعِ ** وَالْيَوْمُ يَوْمُ الرُّضَّعِ

وَالْمَنْهِيُّ عَنْهُ قَوْلُ ذَلِكَ عَلَى وَجْهِ الِافْتِخَارِ كَمَا كَانَتْ تَفْعَلُهُ الْجَاهِلِيَّةُ مِنَ الْكُفَّارِ ثُمَّ الرِّوَايَةُ الصَّحِيحَةُ فِي الْبَيْتِ سُكُونُ الْبَاءِ فِي الْمِصْرَاعَيْنِ، وَشَذَّ مَا قِيلَ مِنْ فَتْحِ الْبَاءِ الْأُولَى، وَكَسْرِ الثَّانِيَةِ قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ: وَقَدْ غَفَلَ بَعْضُ النَّاسِ فَقَالَ: الرِّوَايَةُ: أَنَا النَّبِيُّ لَا كَذِبَ بِفَتْحِ الْبَاءِ، وَعَبْدُ الْمُطَّلِبِ بِالْخَفْضِ، وَكَذَا قَوْلُهُ دَمِيَتْ مِنْ غَيْرِ مَدٍّ حِرْصًا عَلَى أَنْ يُغَيِّرَ الرِّوَايَةَ لِيَسْتَغْنِيَ عَنِ الِاعْتِذَارِ، وَإِنَّمَا الرِّوَايَةُ بِإِسْكَانِ الْبَاءِ وَالْمَدِّ انْتَهَى.
وَاعْلَمْ أَنَّ مُجْمَلَ قِصَّةِ حُنَيْنٍ، وَهُوَ وَادٍ وَرَاءَ عَرَفَةَ دُونَ الطَّائِفِ قِيلَ بَيْنَهُ، وَبَيْنَ مَكَّةَ ثَلَاثُ لَيَالٍ عَلَى مَا ذَكَرَهُ أَهْلُ الْآثَارِ، وَأَحْبَارُ الْأَخْيَارِ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا فَرَغَ مِنْ فَتْحِ مَكَّةَ وَتَمْهِيدِهَا وَأَسْلَمَ عَامَّةُ أَهْلِهَا اجْتَمَعَتْ أَشْرَافُ هَوَازِنَ وَثَقِيفٍ، وَقَصَدُوا حَرْبَ الْمُسْلِمِينَ فَسَارَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَيْهِمْ فِي اثْنَيْ عَشَرَ أَلْفًا، عَشَرَةٌ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ، وَأَلْفَانِ مِنْ مُسْلِمَةِ الْفَتْحِ وَهُمُ الطُّلَقَاءُ أَيْ: عَنِ الِاسْتِرْقَاقِ، وَخَرَجَ مَعَهُ ثَمَانُونَ مُشْرِكًا مِنْهُمْ صَفْوَانُ بْنُ أُمَيَّةَ، وَوَرَدَ بِسَنَدٍ حَسَنٍ أَنَّ رَجُلًا أُطْلِعَ عَلَى جَبَلٍ، فَأَخْبَرَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنَّ هَوَازِنَ عَنْ بَكْرَةِ أَبِيهِمْ بِظُعْنِهِمْ وَغَنَمِهِمُ اجْتَمَعُوا إِلَى حُنَيْنٍ، فَتَبَسَّمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ: «تِلْكَ غَنِيمَةٌ لِلْمُسْلِمِينَ غَدًا إِنْ شَاءَ اللَّهُ».
وَقَوْلُهُ عَنْ بَكْرَةِ أَبِيهِمْ كِنَايَةٌ عَنْ كَثْرَتِهِمْ وَإِرَادَةِ جَمِيعِهِمْ بِطَرِيقِ الْمُبَالَغَةِ، حَتَّى كَانَ بَكْرَةُ أَبِيهِمْ أَيْضًا مَعَهُمْ، وَهِيَ مَا يُسْتَقَى عَلَيْهَا الْمَاءُ، وَالْمُرَادُ بِالظُّعُنِ: النِّسَاءُ، وَاحِدَتُهَا ظَعِينَةٌ ثُمَّ لِأَجْلِ كَثْرَةِ الْمُسْلِمِينَ قَالَ بَعْضُهُمْ أَوْ رَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَزَعْمُ أَنَّهُ الصِّدِّيقُ كَذِبٌ مِنَ الْمُبْتَدِعَةِ لَعَنَهُمُ اللَّهُ، قُلْتُ عَلَى تَقْدِيرِ صِحَّةِ نَقْلِهِ، فَلَا مَحْذُورَ فِي قَوْلِهِ: «لَنْ نُغْلَبَ الْيَوْمَ مِنْ قِلَّةٍ»، لِمَا رُوِيَ مَرْفُوعًا: «لَنْ يُغْلَبَ اثْنَى عَشَرَ أَلْفًا مِنْ قِلَّةٍ» إِذْ فِيهِ الْإِشَارَةُ إِلَى أَنَّ هَذَا الْقَدْرَ مِنَ الْعَسْكَرِ يَقْدِرُ أَنْ يُقَاوِمَ أُلُوفًا كَثِيرَةً، وَأَمَّا حَقِيقَةُ الْغَلَبَةِ، فَهِيَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لَا مِنْ كَثْرَةٍ، وَلَا مِنْ قِلَّةٍ، وَلَكِنْ لَمَّا كَانَ فِيهِ نَوْعُ عُجْبٍ، وَتَوَهُّمُ غُرُورٍ مِمَّا قَدْ يُفْضِي إِلَى عَدَمِ التَّضَرُّعِ، وَالِابْتِهَالِ إِلَى الْمَلِكِ الْمُتَعَالِ أَخْبَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ: {وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ} الْآيَةَ، وَشَقَّ ذَلِكَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَرَكِبَ بَغْلَتَهُ الْبَيْضَاءَ وَلَبِسَ دِرْعَيْنِ وَالْمِغْفَرَ وَالْبَيْضَةَ، فَاسْتَقْبَلَهُمْ مِنْ هَوَازِنَ مَا لَمْ يَرَوْا مِثْلَهُ قَطُّ مِنَ السَّوَادِ، وَالْكَثْرَةِ، وَذَلِكَ فِي غَبَشِ الصُّبْحِ، وَخَرَجَتِ الْكَتَائِبُ مِنْ مَضِيقِ الْوَادِي حَمْلَةً وَاحِدَةً فَانْكَشَفَتْ خَيْلُ بَنِي سُلَيْمٍ مُوَلِّيَةً، وَتَبِعَهُمْ أَهْلُ مَكَّةَ وَالنَّاسُ.
وَقِيلَ وَلَمْ يَثْبُتْ مَعَهُ يَوْمَئِذٍ إِلَّا عَمُّهُ الْعَبَّاسُ، وَأَبُو سُفْيَانَ ابْنُ عَمِّهِ الْحَارِثِ، وَأَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ، وَأَبُو أُمَامَةَ الْبَاهِلِيُّ، وَأُنَاسٌ مِنْ أَهْلِ بَيْتِهِ وَأَصْحَابِهِ، قَالَ الْعَبَّاسُ: وَأَنَا آخِذٌ بِلِجَامِ بَغْلَتِهِ أَكُفُّهَا مَخَافَةَ أَنْ تَصِلَ إِلَى الْعَدُوِّ لِأَنَّهُ كَانَ يَتَقَدَّمُ فِي نَحْرِهِمْ وَأَبُو سُفْيَانَ آخِذٌ بِرِكَابِهِ وَجَعَلَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَأْمُرُ الْعَبَّاسَ بِمُنَادَاةِ الْأَنْصَارِ، وَأَصْحَابِ الشَّجَرَةِ أَيْ: شَجَرَةِ بَيْعَةِ الرِّضْوَانِ فَنَادَاهُمْ، وَكَانَ صَيِّتًا يُسْمَعُ صَوْتُهُ نَحْوَ ثَمَانِيَةِ أَمْيَالٍ فَلَمَّا سَمِعُوهُ أَقْبَلُوا كَأَنَّهُمُ الْإِبِلُ حَنَّتْ عَلَى أَوْلَادِهَا يَقُولُونَ: يَا لَبَّيْكَ يَا لَبَّيْكَ، فَتَرَاجَعُوا حَتَّى أَنَّ مَنْ لَمْ يُطَاوِعْهُ بَعِيرُهُ نَزَلَ عَنْهُ وَرَجَعَ مَاشِيًا فَأَمَرَهُمْ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَصْدُقُوا الْحَمْلَةَ فَاقْتَتَلُوا مَعَ الْكُفَّارِ، وَلَمَّا نَظَرَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى قِتَالِهِمْ قَالَ: الْآنَ حَمِيَ الْوَطِيسُ أَيْ: تَنُّورُ الْخُبْزِ ضَرَبَهُ مَثَلًا لِشِدَّةِ الْحَرْبِ الَّتِي يُشْبِهُ حَرُّهَا حَرَّهُ، وَلَمْ يُسْمَعْ مِنْ أَحَدٍ قَبْلَهُ وَتَنَاوَلَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَصَيَاتٍ مِنَ الْأَرْضِ ثُمَّ قَالَ: شَاهَتِ الْوُجُوهُ أَيْ: قَبُحَتْ ثُمَّ رَمَى فَامْتَلَأَتْ عَيْنَا كُلٍّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ مِنْهَا، وَفِي رِوَايَةٍ عِنْدَ أَحْمَدَ، وَأَبِي دَاوُدَ، وَالدَّارِمِيِّ أَنَّ الْمُسْلِمِينَ لَمَّا وَلَّوْا نَزَلَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ فَرَسِهِ وَضَرَبَ وُجُوهَهُمْ بِكَفٍّ مِنْ تُرَابٍ فَحَدَّثَ أَبْنَاؤُهُمْ عَنْهُمْ أَنَّهُمْ قَالُوا: لَمْ يَبْقَ مِنَّا أَحَدٌ إِلَّا امْتَلَأَتْ عَيْنَاهُ وَفَمُهُ تُرَابًا، وَسَمِعْنَا صَلْصَلَةً مِنَ السَّمَاءِ كَإِمْرَارِ الْحَدِيدِ عَلَى الطَّشْتِ الْجَدِيدِ بِالْجِيمِ.
وَلِأَحْمَدَ وَالْحَاكِمِ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّ سَرْجَ بَغْلَتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَالَ، فَقُلْتُ ارْتَفِعْ رَفَعَكَ اللَّهُ تَعَالَى فَقَالَ: نَاوِلْنِي كَفًّا مِنْ تُرَابٍ، فَضَرَبَ وَجُوهَهُمْ، وَامْتَلَأَتْ أَعْيُنُهُمْ تُرَابًا، وَجَاءَ الْمُهَاجِرُونَ، وَالْأَنْصَارُ بِسُيُوفِهِمْ بِأَيْمَانِهِمْ كَأَنَّهَا الشُّهُبُ فَوَلَّى الْمُشْرِكُونَ الْأَدْبَارَ.
وَفِي رِوَايَةٍ عَنْ رَجُلٍ كَانَ مِنْهُمْ أَيْ: مِنَ الْكُفَّارِ لَمَّا لَقِينَاهُمْ أَيِ: الْمُسْلِمِينَ لَمْ يَقِفُوا لَنَا حَلْبَ شَاةٍ فَجَعَلْنَا نَسُوقُهُمْ حَتَّى انْتَهَيْنَا إِلَى صَاحِبِ الْبَغْلَةِ الْبَيْضَاءِ؛ فَإِذَا هُوَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَتَلَقَّانَا عِدَّةُ رِجَالٍ بِيضُ الْوُجُوهِ حِسَانٌ فَقَالُوا: لَنَا شَاهَتِ الْوُجُوهُ ارْجِعُوا قَالَ: فَانْهَزَمْنَا وَرَكِبُوا أَكْتَافَنَا.
وَفِي سِيرَةِ الدِّمْيَاطِيِّ كَانَ سِيمَا الْمَلَائِكَةِ يَوْمَ حُنَيْنٍ عَمَائِمُ حَمْرَاءُ أَرْخَوْهَا بَيْنَ أَكْتَافِهِمْ، وَأَمَرَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُقْتَلَ مَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ فَأَفْضَوْا فِيهِ إِلَى الذُّرِّيَّةِ فَنَهَاهُمْ عَنْهُ، وَقَالَ: «مَنْ قَتَلَ قَتِيلًا لَهُ عَلَيْهِ بَيِّنَةٌ فَلَهُ سَلَبُهُ»، وَاسْتَلَبَ أَبُو طَلْحَةَ ذَلِكَ الْيَوْمَ عِشْرِينَ رَجُلًا، وَكَانَ فِي إِمْسَاكِهِ تَعَالَى لِقُلُوبِ هَوَازِنَ عَنِ الدُّخُولِ فِي الْإِسْلَامِ بَعْدَ الْفَتْحِ الْمَجْعُولِ عَلَامَةً عَلَى دُخُولِ النَّاسِ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا إِتْمَامٌ لِإِعْزَازِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَزِيدٌ لِنُصْرَتِهِ بِقَهْرِ هَذِهِ الشَّوْكَةِ الْعَظِيمَةِ الَّتِي لَمْ يَلْقَوْا قَبْلَهَا مِثْلَهَا، وَأُذِيقُوا أَوَّلًا مَرَارَةَ الْهَزِيمَةِ مَعَ كَثْرَتِهِمْ لِتَتَوَاضَعَ رُءُوسٌ رُفِعَتْ بِالْفَتْحِ وَلَمْ يَدْخُلْ بَلَدَهُ وَحَرَمَهُ عَلَى هَيْئَةِ تَوَاضُعِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَلِيَتَبَيَّنَ لِمَنْ قَالَ: لَنْ نُغْلَبَ الْيَوْمَ مِنْ قِلَّةٍ، أَنَّ النَّصْرَ إِنَّمَا هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، وَأَنَّهُ الْمُتَوَلِّي لِنَصْرِ دِينِهِ وَرَسُولِهِ دُونَ كَثْرَتِهِمُ الَّتِي أَعْجَبَتْهُمْ بِأَنَّهَا لَمْ تُغْنِ عَنْهُمْ شَيْئًا فَلَمَّا انْكَسَرَتْ قُلُوبُهُمْ جَبَرَهَا اللَّهُ بِأَنْ أَنْزَلَ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَيْهِمْ، وَأَنْزَلَ جُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا، وَلَمْ تُقَاتِلِ الْمَلَائِكَةُ مَعَهُ إِلَّا هُنَا وَفِي بَدْرٍ، وَاخْتَصَّتَا أَيْضًا بِرَمْيِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وُجُوهَ الْمُشْرِكِينَ بِالْحَصْبَاءِ، وَلَعَلَّ تَخْصِيصَهُمَا لِأَنَّ الْقِصَّةَ الْأُولَى كَانَتْ فِي أَوَّلِ أَمْرِ الدِّينِ، وَقِلَّةِ الْمُسْلِمِينَ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ} الْآيَةَ.
وَالْقِصَّةُ الثَّانِيَةُ فِي آخِرِ الْأَمْرِ بَعْدَ كَثْرَتِهِمْ وَإِعْزَازِهِمْ لِلْإِشَارَةِ إِلَى أَنَّ الْعَبْدَ لَا يَسْتَغْنِي عَنْ مُعَاوَنَةِ الرَّبِّفِي كُلِّ حَالٍ، ثُمَّ أَمَرَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِطَلَبِ الْعَدُوِّ، فَانْتَهَى بَعْضُهُمْ إِلَى الطَّائِفِ، وَبَعْضُهُمْ نَحْوَ نَخْلَةَ، وَقَوْمٌ مِنْهُمْ فَرُّوا إِلَى أَوَطَاسٍ، وَاسْتُشْهِدَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ أَرْبَعَةٌ، وَقُتِلَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ أَكْثَرُ مِنْ سَبْعِينَ وَاللَّهُ الْمُوَفِّقُ وَالْمُعِينُ.
(حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ مَنْصُورٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ أَنْبَأَنَا) وَفِي نُسْخَةٍ أَخْبَرَنَا (جَعْفَرُ بْنُ سُلَيْمَانَ حَدَّثَنَا ثَابِتٌ عَنْ أَنَسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَخَلَ مَكَّةَ فِي عُمْرَةِ الْقَضَاءِ) أَيْ: قَضَاءِ عُمْرَةِ الْحُدَيْبِيَةِ، وَهُوَ صَرِيحٌ لِمَا قَالَهُ عُلَمَاؤُنَا مِنْ أَنَّ الْمُحْصَرَ يَجِبُ عَلَيْهِ الْقَضَاءُ، سَوَاءٌ كَانَ حَجُّهُ فَرْضًا أَوْ نَفْلًا أَوْ كَانَ إِحْرَامُهُ بِعُمْرَةٍ، ثُمَّ إِنْ كَانَ إِحْرَامُهُ بِعُمْرَةٍ لَا غَيْرَ قَضَاهَا فِي أَيِّ وَقْتٍ شَاءَ; لِأَنَّهُ لَيْسَ لَهَا وَقْتٌ مُعَيَّنٌ.
وَمِمَّا يُؤَيِّدُ مَذْهَبَنَا أَنَّهُ إِذَا أُحْصِرَ فِي حَجَّةِ الْفَرْضِ، وَحَلَّ مِنْهَا الْقَضَاءُ عِنْدَ الْأَرْبَعَةِ كَمَا فِي التَّطَوُّعِ عِنْدَنَا؛ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَنَا دَلِيلٌ إِلَّا فِي مَسْأَلَةِ الْعُمْرَةِ عَلَى الْحَجِّ لِمَا بَيْنَهُمَا مِنَ الْمُنَاسَبَةِ التَّامَّةِ، وَالْمُقَارَنَةِ فِي الْآيَةِ حَيْثُ قَالَ تَعَالَى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} لَكَانَ كَافِيًا.
وَأَمَّا مَا تَوَهَّمَ بَعْضُهُمْ مِنْ أَنَّ الْفَرْقَ هُوَ أَنَّ النَّفْلَ لَا يَلْزَمُ بِالشُّرُوعِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَأَتْبَاعِهِمْ، فَمَدْفُوعٌ بِأَنَّ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ اسْتُثْنِيَ لَهُمْ مِنْ تِلْكَ الْقَاعِدَةِ، فَمَنْ شَرَعَ فِي حَجِّ نَفْلٍ أَوْ عُمْرَةٍ فَيَجِبُ عَلَيْهِ إِتْمَامُهَا إِجْمَاعًا لِظَاهِرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ}، وَنَحْنُ قِسْنَا سَائِرَ الْأَعْمَالِ مِنَ الصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ عَلَيْهِمَا مَعَ دَلَالَةِ عُمُومِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ} وَمَنْعِ قُبْحِ الْمُلَاعَبَةِ فِي أَمْرِ الدِّينِ بِأَنْ يَشْرَعَ فِي عِبَادَةٍ ثُمَّ يَتْرُكُهَا ثُمَّ يَفْعَلُهَا ثُمَّ يُبْطِلُهَا وَهَلُمَّ جَرَّا وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ الْمُرَادُ بِالْقَضَاءِ هُنَا الْقَضِيَّةُ أَيِ: الْمُقَاضَاةُ وَالْمُصَالَحَةُ لَا الْقَضَاءُ الشَّرْعِيُّ لِأَنَّ عُمْرَتَهُمُ الَّتِي تَحَلَّلُوا مِنْهَا بِالْحُدَيْبِيَةِ لَمْ يَلْزَمْهُمْ قَضَاؤُهَا كَمَا هُوَ شَأْنُ الْمُحْصَرِ عِنْدَنَا انْتَهَى. وَفِيهِ مَا لَا يَخْفَى (وَابْنُ رَوَاحَةَ) أَيْ: وَالْحَالُ أَنَّ ابْنَ رَوَاحَةَ، وَهُوَ أَحَدُ شُعَرَاءِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (وَهُوَ) أَيِ: ابْنُ رَوَاحَةَ (يَقُولُ خَلُّوا) أَيْ: دُومُوا عَلَى التَّخْلِيَةِ؛ لِأَنَّهُمْ يَوْمَئِذٍ تَرَكُوا مَكَّةَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (بَنِي الْكُفَّارِ) بِحَذْفِ حَرْفِ النِّدَاءِ أَيْ: يَا أَوْلَادَ الْكَفَرَةِ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ (عَنْ سَبِيلِهِ) بِإِشْبَاعِ كَسْرَةِ الْهَاءِ عَلَى مَا فِي الْأَصْلِ الْأَصِيلِ، وَسَائِرِ الْأُصُولِ الْمُعْتَمَدَةِ، وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ بِسُكُونِ الْهَاءِ، وَالْمَعْنَى اتْرُكُوا سَبِيلَهُ فِي دُخُولِ الْحَرَمِ الْمُحْتَرَمِ، وَادْخُلُوا فِي سَبِيلِهِ مِنَ الدِّينِ الْأَقْوَمِ (الْيَوْمَ) أَيْ: هَذَا الْوَقْتَ الَّذِي لَنَا الْغَلَبَةُ عَلَيْكُمْ بِمُقْتَضَى قَضِيَّةِ الْحُدَيْبِيَةِ (نَضْرِبْكُمْ) بِسُكُونِ الْبَاءِ لِلضَّرُورَةِ أَيْ: نَضْرِبُكُمْ عَلَى تَقْدِيرِ نَقْضِ عَهْدِكُمْ، وَقَصْدِ مَنْعِكُمْ (عَلَى تَنْزِيلِهِ) أَيْ: بِنَاءً عَلَى كَوْنِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَسُولًا مُنَزَّلًا عَلَيْهِ الْوَحْيُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ أَوْ بِنَاءً عَلَى تَنْزِيلِكُمْ إِيَّاهُ وَإِعْطَاءِ الْعَهْدِ وَالْأَمَانَ لَهُ فِي دُخُولِ حَرَمِ اللَّهِ، وَعَلَى كُلٍّ فَالضَّمِيرُ فِي كِلَا الْمِصْرَاعَيْنِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ الظَّاهِرُ.
وَحَاصِلُهُ أَنَّهُ مِنْ إِضَافَةِ الْمَصْدَرِ إِلَى مَفْعُولِهِ، سَوَاءٌ لَاحَظْنَا الْفَاعِلَ الْمُقَدَّرَ أَنَّهُ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى، وَهُوَ أَوْلَى بِالْحَقِيقَةِ، أَوْ رَاعَيْنَا الْمَجَازَ، فَأَضَفْنَا التَّنْزِيلَ إِلَيْهِمْ لِكَوْنِهِمُ السَّبَبَ فِي نُزُولِهِ حَيْثُ جَوَّزُوا لَهُ فِي قَصْدِ وُصُولِهِ وَغَرَضِ حُصُولِهِ، وَلَا شَكَّ فِي ظُهُورِ هَذَا الْمَحَلِّ لَفْظًا وَمَعْنًى.
وَأَبْعَدَ ابْنُ حَجَرٍ حَيْثُ جَعَلَ الضَّمِيرَ رَاجِعًا إِلَى الْقُرْآنِ وَإِنْ لَمْ يَتَقَدَّمْ لَهُ ذِكْرٌ؛ لِأَنَّهُ ذَكَرَ مَا يَفْهَمُهُ نَحْوَ: {تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ} (ضَرْبًا) مَفْعُولٌ مُطْلَقٌ أَيْ: ضَرْبًا عَظِيمًا (يُزِيلُ) أَيِ: الضَّرْبُ، وَالْإِسْنَادُ مَجَازِيٌّ (الْهَامَ) أَيْ: جِنْسَ الرَّأْسِ مُبَالَغَةً؛ فَإِنَّ مُفْرَدَهُ هَامَةٌ، وَهِيَ الرَّأْسُ أَوْ وَسَطُهُ، وَالْمُرَادُ رُءُوسُ الْكُفَّارِ، وَرُؤَسَاءُ أَهْلِ النَّارِ (عَنْ مَقِيلِهِ) أَيْ: عَنْ مَكَانِهِ، وَمَحَلِّ رُوحِهِ، وَمَوْضِعِ اسْتِرَاحَتِهِ فَأُرِيدَ بِهِ التَّجْرِيدُ أَوِ التَّشْبِيهُ وَالتَّقْيِيدُ. وَتَوْضِيحُهُ أَنَّ الْمَقِيلَ مَكَانُ الْقَيْلُولَةِ، وَهُوَ مَوْضِعُ الِاسْتِرَاحَةِ فَجُرِّدَ وَأُرِيدَ بِهِ مُطْلَقُ الْمَكَانِ أَوْ شُبِّهَ بِهِ الْعُنُقُ بِجَامِعِ مَحَلِّ اسْتِرَاحَةِ الرَّأْسِ، وَبَقَائِهِ وَعَلَى هَذَيْنِ التَّقْدِيرَيْنِ يَصِيرُ الْمَعْنَى يُزِيلُ الرَّأْسَ عَنِ الْعُنُقِ أَوِ الْمَقِيلِ كِنَايَةً عَنِ النَّوْمِ لِمَا عَلِمْتَ أَنَّهُ مَحَلُّا لِاسْتِرَاحَةِ وَهِيَ مَوْجُودَةٌ فِي النَّوْمِ أَيْ: يَمْنَعُ الرَّأْسَ عَنِ النَّوْمِ، وَالِاسْتِرَاحَةُ بِهِ لِشِدَّةِ مَا يُقَاسِيهِ عَلَى مُلَاحَظَةِ نَوْعِ قَلْبٍ مِنَ الْكَلَامِ، فَكَأَنَّهُ قَالَ: ضَرْبًا يَطْرُدُ النَّوْمَ عَنِ الرَّأْسِ؛ فَإِنَّهُ لَمْ يُوجَدْ إِلَّا عِنْدَ كَمَالِ الْأَمْنِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِنْهُ} قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَرَوَى هَذَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ أَيْضًا مِنَ الْوَجْهَيْنِ لَكِنَّهُ أَبْدَلَ عَجُزَ الْأَوَّلِ بِقَوْلِهِ:
قَدْ أَنْزَلَ الرَّحْمَنُ فِي تَنْزِيلِهِ

وَزَادَ عُقْبَةُ:
بِأَنَّ خَيْرَ الْقَتْلِ فِي سَبِيلِهِ

نَحْنُ قَتَلْنَاكُمْ عَلَى تَأْوِيلِهِ ** كَمَا قَتَلْنَاكُمْ عَلَى تَنْزِيلِهِ

وَأَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ وَالْبَيْهَقِيُّ بِلَفْظِ الْمُصَنِّفِ لَكِنَّهُ ابْتَدَأَ بِعَجُزِ الْأَوَّلِ، وَجَعَلَ عَجُزَ الثَّانِي:
يَا رَبِّ إِنِّي مُؤْمِنٌ بِقِيلِهِ

وَزَادَ ابْنُ إِسْحَاقَ عَلَى هَذَا:
إِنِّي رَأَيْتُ الْحَقَّ فِي قَبُولِهِ

(وَيَذْهَلُ) وَفِي نُسْخَةٍ، وَيَذْهَبُ وَالْأَوَّلُ أَوْلَى مُنَاسَبَةً لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ} وَالْمَعْنَى وَضَرْبًا يُبْعِدُ وَيُشْغِلُ (الْخَلِيلَ عَنْ خَلِيلِهِ) أَيْ: فَيَصِيرُ الْيَوْمَ مِنْ حَيْثُ أَنَّ كُلًّا يَخْشَى فَوَاتَ نَفْسِهِ، وَذَهَابَ نَفْسِهِ كَيَوْمِ الْقِيَامَةِ يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَنْ نَفْسِهَا وَلَا تَسْأَلُ عَمَّنْ كَانَ بِهِ جَمِيعُ أَنْسَابِهَا، وَلِكُلِّ امْرِئٍ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ مِنْ أَخِيهِ، وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ، وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ (فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: يَا ابْنَ رَوَاحَةَ بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) بِتَقْدِيرِ الِاسْتِفْهَامِ أَيْ: أَقُدَّامَ رَسُولِ اللَّهِ (وَفِي حَرَمِ اللَّهِ تَقُولُ شِعْرًا) أَيْ: وَقَدْ ذُمَّ الشِّعْرُ فِي كَلَامِهِ تَعَالَى، وَعَلَى لِسَانِ رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَيْضًا (فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَلِّ عَنْهُ) أَيِ: اتْرُكْهُ مَعَ شِعْرِهِ؛ فَإِنَّهُ لَيْسَ ذَمُّ الشِّعْرِ عَلَى إِطْلَاقِهِ (يَا عُمَرُ) فَيَجِبُ عَلَيْكَ أَيُّهَا الْفَارُوقُ أَنْ تُفَرِّقَ بَيْنَ أَفْرَادِهِ؛ فَإِنَّ الشِّعْرَ كَسَائِرِ الْكَلَامِ حَسَنُهُ حَسَنٌ وَقَبِيحُهُ قَبِيحٌ، وَإِنَّمَا يُطْلَقُ ذَمُّهُ عَلَى إِرَادَةِ التَّجْرِيدِ لَهُ، وَتَرْكِ مَا يَجِبُ مِنَ الْعِلْمِ، وَالْعَمَلِ وَإِلَّا فَالْكَلَامُ لَهُ تَأْثِيرٌ بَلِيغٌ لَاسِيَّمَا إِذَا كَانَ مَنْظُومًا عَلَى طَرِيقَةِ الْبُلَغَاءِ، وَخُطَبَاءِ الْفُصَحَاءِ (فَلَهِيَ) اللَّامُ لِلِابْتِدَاءِ تَأْكِيدًا، وَهِيَ رَاجِعَةٌ إِلَى الْأَبْيَاتِ أَوِ الْكَلِمَاتِ أَوْ إِلَى الْقَصِيدَةِ الْمَدْلُولِ عَلَيْهَا بِقَوْلِهِ شِعْرًا، وَقِيلَ رَاجِعٌ إِلَى الشِّعْرِ بِاعْتِبَارِ مَعْنَاهُ الْمَقْصُودِ وَهُوَ الْقَصِيدَةُ أَيْ: فَلَتَأْثِيرُهَا (أَسْرَعُ فِيهِمْ) أَيْ: أَعْجَلُ وَأَنْفَعُ فِي قُلُوبِهِمْ أَوْ فِي إِيذَائِهِمْ (مِنْ نَضْحِ النَّبْلِ) أَيْ: مِنْ رَمْيِهِ مُسْتَعَارٌ مِنْ نَضْحِ الْمَاءِ، وَاخْتِيرَ لِكَوْنِهِ أَسْرَعَ نُفُوذًا وَأَعْجَلَ سِرَايَةً، وَالْمَعْنَى أَنَّ هِجَاءَهُمْ أَثَّرَ فِيهِمْ تَأْثِيرَ النَّبْلِ، وَقَامَ مَقَامَ الرَّمْيِ فِي النِّكَايَةِ بِهِمْ بَلْ هُوَ أَقْوَى عَلَيْهِمْ لَاسِيَّمَا مَعَ الْمُشَافَهَةِ بِهِ كَمَا قِيلَ شِعْرٌ: جِرَاحَاتُ السِّنَّانِ لَهَا الْتِئَامٌ.
وَلَا يَلْتَامُ مَا جَرَحَ اللِّسَانُ أَيِ: الْكَلَامُ وَلَوْ قِيلَ الْكَلَامُ مَكَانَ اللِّسَانِ لَكَانَ الْبَيْتُ مُطْلَقًا فِي غَايَةٍ مِنَ الْبَيَانِ، وَالنَّبْلُ هُوَ السِّهَامُ الْعَرَبِيَّةُ لَا وَاحِدَ لَهَا مِنْ لَفْظِهِ، وَلَعَلَّ اخْتِيَارَ النَّبْلِ عَلَى الرُّمْحِ، وَالسَّيْفِ لِأَنَّهُ أَكْثَرُ تَأْثِيرًا، وَأَسْرَعُ تَنْفِيذًا مَعَ إِمْكَانِ إِيقَاعِهِ مِنْ بُعْدٍ إِرْسَالًا، وَهُوَ أَبْعَدُ مِنْهُمَا دَفْعًا وَعِلَاجًا.
رُوِيَ عَنْ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّهُ قَالَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ أَنْزَلَ فِي الشِّعْرِ مَا أَنْزَلَ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ الْمُؤْمِنَ يُجَاهِدُ بِسَيْفِهِ، وَلِسَانِهِ وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَكَأَنَّمَا تَرْمُونَهُمْ بِنَضْحِ النَّبْلِ».
قَالَ النَّوَوِيُّ: فِي حَدِيثِ أَنَسٍ، وَشِعْرُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ رَوَاحَةَ بَيَانُ هَجْوِ الْكُفَّارِ، وَأَذَاهُمْ مَا لَمْ يَكُنْ لَهُمْ أَمَانٌ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَ بِالْجِهَادِ فِيهِمْ، وَالْإِغْلَاظِ عَلَيْهِمْ لِأَنَّ فِي الْإِغْلَاظِ عَلَيْهِمْ بَيَانًا لِنَقْصِهِمْ، وَالِاقْتِصَارِ مِنْهُمْ بِهِجَائِهِمُ الْمُسْلِمِينَ، وَلَا يَجُوزُ ابْتِدَاءً لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ}.
(حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ حُجْرٍ حَدَّثَنَا شَرِيكٌ عَنْ سِمَاكِ) بِكَسْرٍ فَتَخْفِيفٍ (بْنِ حَرْبٍ عَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ) بِفَتْحٍ وَضَمٍّ (قَالَ جَالَسْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَكْثَرَ مِنْ مِائَةِ مَرَّةٍ وَكَانَ) بِالْوَاوِ وَفِي نُسْخَةٍ فَكَانَ (أَصْحَابُهُ) أَيْ: فِي جَمِيعِ الْمَجَالِسِ أَوْ فِي بَعْضِهَا (يَتَنَاشَدُونَ الشِّعْرَ) أَيْ: يَطْلُبُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا أَنْ يُنْشِدَ الشِّعْرَ الْمَحْمُودَ، وَالْإِنْشَادُ هُوَ أَنْ يَقْرَأَ شِعْرَ الْغَيْرِ، وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ يُنَاشِدُونَ مِنْ بَابِ الْمُفَاعَلَةِ (وَيَتَذَاكَرُونَ) أَيْ: فِي مَجَالِسِهِمْ دَائِمًا أَوْ أَحْيَانًا (أَشْيَاءَ) أَيْ: مَنْظُومَةً أَوْ مَنْثُورَةً (مِنْ أَمْرِ الْجَاهِلِيَّةِ) وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ: مِنْ أُمُورِ الْجَاهِلِيَّةِ، وَفِي بَعْضِهَا: مِنْ أَمْرِ جَاهِلِيَّتِهِمْ (وَهُوَ سَاكِتٌ) أَيْ: غَالِبًا لِمَا غَلَبَ عَلَيْهِ مِنَ التَّحَيُّرِ فِي اللَّهِ، وَالتَّفَكُّرِ فِي أَمْرِ دُنْيَاهُ، وَعُقْبَاهُ، أَوِ الْمَعْنَى سَاكِتٌ عَنْهُمْ بِأَنَّهُ لَمْ يَمْنَعْهُمْ مِنْ إِنْشَادِ الشِّعْرِ، وَذِكْرِ أَمْرِ الْجَاهِلِيَّةِ لِحُسْنِ خُلُقِهِ فِي عِشْرَتِهِمْ وَزِيَادَةِ أُلْفَتِهِمْ، وَمَحَبَّتِهِمْ بِدَفْعِ الْحَرَجِ عَنْ مُبَاحَاتِهِمْ بِنَاءً عَلَى حُسْنِ نِيَّاتِهِمْ، وَأَخْذِ الْفَوَائِدِ، وَالْحِكَمِ مِنْ حِكَايَاتِهِمْ كَمَا هُوَ شَأْنُ الْعَارِفِينَ فِي مُشَاهَدَاتِهِمْ.
فَفِي كُلِّ شَيْءٍ لَهُ شَاهِدُ ** دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ وَاحِدُ

(وَرُبَّمَا تَبَسَّمَ) بِصِيغَةِ الْمَاضِي، وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ يَتَبَسَّمُ بِصِيغَةِ الْمُضَارِعِ (مَعَهُمْ) أَيْ: مَعَ أَصْحَابِهِ، وَالْمَعْنَى أَنَّهُ كَانَ أَحْيَانًا يَتَبَسَّمُ عَلَى رِوَايَاتِهِمْ، وَبَيَانِ حَالَاتِهِمْ، وَتَحْسِينِ مَقَالَاتِهِمْ مِنْهَا أَنَّهُ قَالَ وَاحِدٌ مِنْ أَصْحَابِهِ مِمَّنْ صَارَ مِنْ جُمْلَةِ أَحْبَابِهِ: مَا نَفَعَ صَنَمٌ أَحَدًا مِثْلَ مَا نَفَعَنِي صَنَمِي.
فَإِنِّي جَعَلْتُهُ مِنَ الْحَيْسِ ** لِمَا كَانَ لِي مِنَ الْكَيْسِ

فَنَفَعَنِي فِي زَمَنِ الْقَحْطِ ** وَمَنْ كَانَ مَعِيَ مِنَ الرَّهْطِ

فَتَبَسَّمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَقَالَ الْآخَرُ:
رَأَيْتُ ثَعْلَبًا صَعِدَ فَوْقَ صَنَمِي ** وَبَالَ عَلَى رَأْسِهِ وَعَيْنَيْهِ حَتَّى عَمِيَ

فَقُلْتُ:
أَرَبٌّ يَبُولُ الثَّعْلَبَانِ بِرَأْسِهِ

فَتَرَكْتُ طَرِيقَةَ الْجَاهِلِيَّةِ وَدَخَلْتُ فِي شَرِيعَةِ الْإِسْلَامِ.
هَذَا وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ فِيهِ حِلُّ اسْتِمَاعِ الشِّعْرِ، وَإِنْشَادِهِ مِمَّا لَا فُحْشَ، وَلَا خَنَأَ فِيهِ وَإِنْ كَانَ مُشْتَمِلًا عَلَى ذِكْرِ شَيْءٍ مِنْ أَيَّامِ الْجَاهِلِيَّةِ، وَوَقَائِعِهِمْ فِي حُرُوبِهِمْ، وَمَكَارِمِهِمْ وَيُحْتَمَلُ أَنْ أَشْعَارَهَمُ الَّتِي كَانُوا يَتَنَاشَدُونَهَا فِيهَا الْحَثُّ عَلَى الطَّاعَةِ، وَذِكْرُهُمْ أُمُورَ الْجَاهِلِيَّةِ لِلنَّدَمِ عَلَى فِعْلِهَا، فَيَكُونُ مِنَ الْقِسْمِ الْأَوَّلِ الَّذِي هُوَ سُنَّةٌ لَا مُبَاحٌ فَقَطْ لِأَنَّ قَاعِدَةَ أَنَّ التَّأْسِيسَ خَيْرٌ مِنَ التَّأْكِيدِ تُؤَيِّدُ أَنَّ الْمُرَادَ بِهَا الْإِبَاحَةُ، وَثَمَّةَ السُّنَّةُ كَمَا قَرَّرْتُهُ خِلَافًا لِشَارِحٍ.
قُلْتُ الصَّوَابُ مَا شَرَحَ اللَّهُ لِصَدْرِ ذَلِكَ الشَّارِحِ حَيْثُ حَرَّرَ فِعْلَ أَصْحَابِهِ، وَقَرَّرَ سُكُوتَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى مُرَادِ الشَّارِعِ الْفَاتِحِ لَا عَلَى الْمُبَاحِ الْمُجَرَّدِ الَّذِي يُسَمَّى لَغْوًا بِلَا فَائِدَةٍ دِينِيَّةٍ، وَدُنْيَوِيَّةٍ وَعَائِدَةٍ أُخْرَوِيَّةٍ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ}، {وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ}، وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ مِنْ حُسْنِ إِسْلَامِ الْمَرْءِ تَرَكُهُ مَا لَا يَعْنِيهِ».
وَمَا الْمُوجِبُ لِحَمْلِ مَا ذُكِرَ عَلَى خِلَافِ مَا يَقْتَضِي حُسْنُ الظَّنِّ بِأَصْحَابِهِ الْكِرَامِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، بَعْدَ تَشَرُّفِهِمْ بِالْإِسْلَامِ لَاسِيَّمَا وَهُمْ فِي صُحْبَةِ سَيِّدِ الْأَنَامِ مَعَ تَعَدُّدِ مِثْلِ هَذِهِ الْقَضِيَّةِ فِي الْأَيَّامِ.
وَأَمَّا مَا ذَكَرَهُ مِنَ الْقَاعِدَةِ فَهِيَ مُعْتَبَرَةٌ فِي الْقَضِيَّةِ الْوَاحِدَةِ، وَأَمَّا الْقَضِيَّةُ الْوَاقِعَةُ فِي الْحَدِيثَيْنِ الْمُخْتَلِفَيْنِ زَمَانًا وَمَكَانًا وَرَاوِيًا، فَمَا بَعْدَهُ مِنَ الِاعْتِنَاءِ بِهَا، وَجَعْلِ الْكَلَامِ مُؤَسَّسًا بِسَبَبِهَا عَلَى أَنَّ التَّأْسِيسَ إِذَا بَنَيْنَا عَلَى الْأَسَاسِ النَّفِيسِ يُوجَدُ فِيهِ مِنْ جِهَةِ أَنَّ الْحَدِيثَ الْأَوَّلَ فِي شِعْرٍ لِلشَّاعِرِ، وَالثَّانِي فِي إِنْشَادِ شِعْرِ الْغَيْرِ، وَأَنَّ الْأَوَّلَ مُخْتَصٌّ بِالنَّظْمِ، وَالثَّانِيَ أَعَمُّ مِنْهُ وَمِنَ النَّثْرِ مَعَ أَنَّ الْفِعْلَ إِذَا تَعَدَّدَ، وَحَصَلَتْ فِيهِ الْمُوَاظَبَةُ وَالْمُدَاوَمَةُ يَكُونُ مُقْتَضِيًا لِعِدَّةٍ مِنْ أَنْوَاعِ السُّنَّةِ كَمَا فِي الْحَدِيثِ الثَّانِي، وَأَمَّا مَا عَدَاهُ مِنْ وُقُوعِ الْعَمَلِ مَرَّةً أَوْ نَادِرًا، فَهُوَ أَحَقُّ بِإِطْلَاقِ الْإِبَاحَةِ كَمَا فِي الْحَدِيثِ الْأَوَّلِ، وَبِهَذَا يَتَبَيَّنُ لَكَ انْعِكَاسَ الْقَضِيَّةِ؛ فَتَأَمَّلْ.
(حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ حُجْرٍ أَخْبَرَنَا) وَفِي نُسْخَةٍ حَدَّثَنَا (شَرِيكٌ عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ عُمَيْرٍ) مُصَغَّرًا (عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: أَشْعَرُ كَلِمَةٍ) أَيْ: أَحْسَنُهَا وَأَدَقُّهَا وَأَجْوَدُهَا وَأَحَقُّهَا، وَالْمَعْنَى أَفْضَلُ قَصِيدَةٍ أَوْ جُمْلَةٍ (تَكَلَّمَتْ بِهَا الْعَرَبُ) أَيْ: شُعَرَاؤُهُمْ وَبُلَغَاؤُهُمْ وَفُصَحَاؤُهُمْ (كَلِمَةُ لَبِيدٍ) وَقَدْ مَرَّ ذِكْرُهُ أَنَّهُ لَمَّا أَسْلَمَ لَمْ يَقُلْ شِعْرًا، وَقَالَ: يَكْفِينِي الْقُرْآنُ، مُشِيرًا إِلَى أَنَّهُ فِي كَمَالِ الْعِرْفَانِ، وَالْإِيقَانِ:
أَلَا كُلُّ شَيْءٍ مَا خَلَا اللَّهَ بَاطِلٌ ** وَكُلُّ نَعِيمٍ لَا مَحَالَةَ زَائِلُ

قِيلَ لَمَّا سَمِعَ عُثْمَانُ مَا بَعْدَهُ مِنْ قَوْلِهِ اعْتَرَضَ عَلَيْهِ، وَقَالَ: كَذِبَ لَبِيدٌ؛ فَإِنَّ نَعِيمَ الْجَنَّةِ لَا يَزُولُ فَلَمَّا عَقَّبَ لَبِيدُ ذَلِكَ مُبَيِّنًا لِمُرَادِهِ أَنَّهُ نَعِيمُ الدُّنْيَا بِقَوْلِهِ:
نَعِيمُكَ فِي الدُّنْيَا غُرُورٌ وَحَسْرَةٌ

الْبَيْتَ، وَسَمِعَهُ عُثْمَانُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: صَدَقَ لَبِيدٌ.
(حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مَنِيعٍ حَدَّثَنَا مَرْوَانُ بْنُ مُعَاوِيَةَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الطَّائِفِيِّ عَنْ عَمْرِو بْنِ الشَّرِيدِ عَنْ أَبِيهِ) وَكَذَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَابْنُ مَاجَهْ عَنِ الشَّرِيدِ بْنِ سُوَيْدٍ (قَالَ: كُنْتُ رِدْفَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) بِكَسْرٍ فَسُكُونٍ أَيْ: رَدِيفَهُ وَزَادَ فِي مُسْلِمٍ يَوْمًا (فَقَالَ: هَلْ مَعَكَ مِنْ شِعْرِ أُمَيَّةَ بْنِ أَبِي الصَّلْتِ شَيْءٌ؟ فَقُلْتُ نَعَمْ فَقَالَ: هِيهِ، فَأَنْشَدْتُهُ بَيْتًا، فَقَالَ: هِيهِ، ثُمَّ أَنْشَدْتُهُ بَيْتًا، فَقَالَ: هِيهِ حَتَّى أَنْشَدْتُهُ مِائَةَ بَيْتٍ).
فَفِيهِ دَلَالَةٌ صَرِيحَةٌ عَلَى أَنَّ قَوْلَهُ (فَأَنْشَدْتُهُ مِائَةَ قَافِيَةٍ) إِنَّمَا كَانَ بَعْدَ تَنَاشُدِهِ، وَأَنَّ الْمُرَادَ بِالْقَافِيَّةِ الْبَيْتُ، وَأَطْلَقَ الْجُزْءَ وَأَرَادَ الْكُلَّ مَجَازًا (مِنْ قَوْلِ أُمَيَّةَ) بِالتَّصْغِيرِ (ابْنِ أَبِي الصَّلْتِ) قَالَ مِيرَكُ: هُوَ ثَقَفِيٌّ مِنْ شُعَرَاءِ الْجَاهِلِيَّةِ أَدْرَكَ مَبَادِئَ الْإِسْلَامِ، وَبَلَغَهُ خَبَرُ مَبْعَثِ سَيِّدِ الْأَنَامِ لَكِنَّهُ لَمْ يُوَفَّقْ بِالْإِيمَانِ، وَكَانَ غَوَّاصًا فِي الْمَعَانِي، وَلِذَا قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي شَأْنِهِ: «آمَنَ لِسَانُهُ وَكَفَرَ قَلْبُهُ».
وَذَلِكَ لِإِقْرَارِهِ بِالْوَحْدَانِيَّةِ وَالْبَعْثِ، وَكَانَ يَتَعَبَّدُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، وَيُؤْمِنُ بِالْبَعْثِ، وَيُنْشِدُ فِي ذَلِكَ الشِّعْرَ الْحَسَنَ، وَأَدْرَكَ الْإِسْلَامَ، وَلَمْ يُسْلِمْ، وَقَدْ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا} الْآيَةَ، نَزَلَتْ فِي أُمَيَّةَ بْنِ أَبِي الصَّلْتِ الثَّقَفِيِّ، وَكَانَ قَرَأَ التَّوْرَاةَ، وَالْإِنْجِيلَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، وَكَانَ يَعْلَمُ بِأَمْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَبْلَ مَبْعَثِهِ، فَطَمِعَ أَنْ يَكُونَ هُوَ؛ فَلَمَّا بُعِثَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَصُرِفَتِ النُّبُوَّةُ عَنْ أُمَيَّةَ حَسَدَهُ وَكَفَرَ، وَهُوَ أَوَّلُ مَنْ كَتَبَ بِاسْمِكَ اللَّهُمَّ، وَمِنْهُ تَعَلَّمَتْهُ قُرَيْشٌ، فَكَانَتْ تَكْتُبُ بِهِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ (كُلَّمَا أَنْشَدْتُهُ بَيْتًا) أَيْ: كُلَّمَا قَرَأْتُ لَهُ بَيْتًا، فَهُوَ مِنْ بَابِ الْحَذْفِ وَالْإِيصَالِ، لِمَا فِي الْقَامُوسِ أَنْشَدَ الشِّعْرَ: قَرَأَهُ (قَالَ لِيَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) وَهُوَ كَذَا فِي الْأَدَبِ الْمُفْرَدِ لِلْبُخَارِيِّ (هِيهِ) بِكَسْرِ الْهَاءِ وَإِسْكَانِ الْيَاءِ، وَكَسْرِ الْهَاءِ الثَّانِيَةِ قَالُوا: وَالْهَاءُ الْأُولَى مُبْدَلَةٌ مِنَ الْهَمْزَةِ وَأَصْلُهَا إِيهِ وَهِيَ لِلِاسْتِزَادَةِ مِنَ الْحَدِيثِ الْمَعْهُودِ، وَالْمَقْصُودُ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اسْتَحْسَنَ شِعْرَ أُمَيَّةَ، وَاسْتَزَادَ مِنْ إِنْشَادِهِ لِمَا فِيهِ مِنَ الْإِقْرَارِ بِوَحْدَانِيَّةِ اللَّهِ تَعَالَى وَالْبَعْثِ.
قَالَ مِيرَكُ وَغَيْرُهُ مِنَ الشُّرَّاحِ: (إِيهِ) اسْمٌ يُسَمَّى بِهِ الْفِعْلُ؛ لِأَنَّ مَعْنَاهُ الْأَمْرُ، تَقُولُ لِلرَّجُلِ إِذَا اسْتَزَدْتَهُ مِنْ حَدِيثٍ أَوْ عَمَلٍ إِيهِ بِغَيْرِ تَنْوِينٍ، فَإِنْ وَصَلْتَ نَوَّنْتَ فَقُلْتَ: إِيهٍ حَدِيثًا.
وَقَوْلُهُ: وَقَفْنَا فَقُلْنَا إِيهِ عَنْ أُمِّ سَالِمٍ.
فَلَمْ يُنَوِّنْ وَقَدْ وَصَلَ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يُرَى الْوَقْفُ قَالَ بَعْضُهُمْ: إِذَا قُلْتَ إِيهٍ يَا رَجُلُ تَأْمُرُهُ بِأَنْ يَزِيدَكَ مِنَ الْحَدِيثِ الْمَعْهُودِ بَيْنَكُمَا كَأَنَّكَ قُلْتَ هَاتِ الْحَدِيثَ، وَإِنْ قُلْتَ إِيهِ؛ فَكَأَنَّكَ قُلْتَ حَدِيثًا مَا؛ لِأَنَّ التَّنْوِينَ تَنْوِينُ تَنْكِيرٍ، وَفِي الْبَيْتِ أَرَادَ التَّنْكِيرَ فَتَرَكَهُ لِلضَّرُورَةِ، فَإِذَا أَسْكَتَّهُ، وَكَفَفْتَهُ قُلْتَ إِيهًا بِالنَّصْبِ عَنَّا وَإِذَا أَرَدْتَ التَّبْدِيلَ قُلْتَ إِيهًا بِمَعْنَى هَيْهَاتَ (حَتَّى أَنْشَدْتُهُ مِائَةً يَعْنِي بَيْتًا) بِالنَّصْبِ عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولُ يَعْنِي، وَفِي نُسْخَةٍ بَيْتٍ بِالْجَرِّ عَلَى أَنَّهُ حِكَايَةُ تَمْيِيزِ مِائَةٍ، قَالَ الْحَنَفِيُّ: رُوِيَ بِالنَّصْبِ وَالْجَرِّ وَوَجْهُ النَّصْبِ ظَاهِرٌ، وَوَجْهُ الْجَرِّ عَلَى أَنَّهُ حَذَفَ الْمُضَافَ، وَأَبْقَى الْمُضَافَ إِلَيْهِ عَلَى حَالِهِ كَانَ أَصْلُهُ مِائَةَ بَيْتٍ انْتَهَى. وَفِي نُسْخَةٍ: مِائَةَ بَيْتٍ، وَهُوَ وَاضِحٌ (فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنْ كَادَ) أَيْ: قَارَبَ (لَيُسْلِمُ) وَفِي رِوَايَةٍ لَقَدْ كَادَ أَنْ يُسْلِمَ شِعْرُهُ، وَمَرَّ سَبَبُ ذَلِكَ.
قِيلَ وَإِنَّمَا قَالَ ذَلِكَ لَمَّا سَمِعَ قَوْلَهُ: لَكَ الْحَمْدُ وَالنَّعْمَاءُ وَالْفَضْلُ رَبَّنَا فَلَا شَيْءَ أَعْلَى مِنْكَ حَمْدًا وَلَا مَجْدَا.
قَالَ الْحَنَفِيُّ: أَيْ أَنَّهُ كَادَ وَكَلِمَةُ أَنْ مُخَفَّفَةٌ مِنَ الثَّقِيلَةِ قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: أَنْ مُخَفَّفَةٌ اسْمُهَا إِنْ أُعْمِلَتْ ضَمِيرُ الشَّأْنِ.
فَزَعَمَ أَنَّ مَنْ قَالَ: التَّقْدِيرُ أَنَّهُ كَادَ لَا يَعْرِفُ شَيْئًا مِنَ النَّحْوِ، لَيْسَ فِي مَحَلِّهِ إِذَ مُرَادُهُ إِذَا أُعْمِلَتْ كَمَا ذَكَرَ، وَمُجَرَّدُ حَذْفِ هَذَا الْقَيْدِ لَا يُجِيزُ أَنْ يُقَالَ فِي حَقِّ مَنْ حَذَفَهُ أَنَّهُ لَا يَعْرِفُ شَيْئًا مِنَ النَّحْوِ.
(حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ مُوسَى الْفَزَارُ) بِفَتْحِ الْفَاءِ فَالزَّايِ (وَعَلِيُّ بْنُ حُجْرٍ وَالْمَعْنَى) أَيِ: الْمُؤَدَّى (وَاحِدٌ قَالَا) أَيْ: كِلَاهُمَا (حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي الزِّنَادِ) بِكَسْرِ الزَّايِ فَنُونٍ، وَفِي نُسْخَةٍ بِتَحْتِيَّةٍ، وَاسْمُهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ ذَكْوَانَ عَلَى مَا فِي التَّقْرِيبِ (عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَضَعُ لِحَسَّانَ بْنِ ثَابِتٍ) ضُبِطَ حَسَّانُ مُنْصَرِفًا وَغَيْرَ مُنْصَرِفٍ بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ فَعَّالٌ أَوْ فَعْلَانُ، وَالثَّانِي هُوَ الْأَظْهَرُ فَتَدَبَّرْ، وَهُوَ ثَابِتُ بْنُ الْمُنْذِرِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حَرَامٍ الْأَنْصَارِيُّ عَاشَ مِائَةً وَعِشْرِينَ سَنَةً نِصْفُهَا فِي الْإِسْلَامِ، وَكَذَا عَاشَ أَبُوهُ وَجَدُّ أَبِيهِ الْمَذْكُورُونَ، وَتُوُفِّيَ سَنَةَ أَرْبَعٍ وَخَمْسِينَ قَالَ صَاحِبُ الْمِشْكَاةِ فِي أَسْمَاءِ رِجَالِهِ: يُكَنَّى أَبَا الْوَلِيدِ الْأَنْصَارِيَّ الْخَزْرَجِيَّ، وَهُوَ مِنْ فُحُولِ الشُّعَرَاءِ قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: اجْتَمَعَتِ الْعَرَبُ عَلَى أَنَّ أَشْعَرَ أَهْلِ الْمَدَرِ حَسَّانُ بْنُ ثَابِتٍ رَوَى عَنْهُ عُمَرُ وَأَبُو هُرَيْرَةَ وَعَائِشَةُ، وَمَاتَ قَبْلَ الْأَرْبَعِينَ فِي خِلَافَةِ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ، وَقِيلَ سَنَةُ خَمْسِينَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
(مِنْبَرًا) بِكَسْرِ الْمِيمِ آلَةُ النَّبْرِ، وَهُوَ الرَّفْعُ (فِي الْمَسْجِدِ) أَيْ: مَسْجِدِ الْمَدِينَةِ (يَقُومُ عَلَيْهِ قَائِمًا) أَيْ: قِيَامًا وَقَالَ مِيرَكُ: نَقْلًا عَنِ الْمُفَصَّلِ قَدْ يَرِدُ الْمَصْدَرُ عَلَى وَزْنِ اسْمِ الْفَاعِلِ نَحْوَ قُمْتُ قَائِمًا انْتَهَى. وَفِي نُسْخَةٍ يَقُولُ عَلَيْهِ قَائِمًا أَيْ: يَقُولُ حَسَّانُ الشِّعْرَ، وَيُنْشِدُهُ عَلَى الْمِنْبَرِ حَالَ كَوْنِهِ قَائِمًا (يُفَاخِرُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْ قَالَ) عَلَى مَا فِي الْأَصْلِ الْأَصِيلِ أَيْ: عُرْوَةُ رِوَايَةً عَنْ عَائِشَةَ، وَفِي نُسْخَةٍ وَهِيَ الظَّاهِرُ أَوْ قَالَتْ أَيْ: عَائِشَةُ (يُنَافِحُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) أَيْ: يُخَاصِمُ عَنْ قِبَلِهِ، وَيُدَافِعُ عَنْ جِهَتِهِ فَقِيلَ الْمُنَافَحَةُ الْمُخَاصَمَةُ، فَالْمُرَادُ أَنَّهُ كَانَ يُهَاجِي الْمُشْرِكِينَ، وَيَذُمُّهُمْ عَنْهُ وَقَالَ صَاحِبُ النِّهَايَةِ: يُنَافِحُ أَيْ: يُدَافِعُ وَالْمُنَافَحَةُ وَالْمُكَافَحَةُ: الْمُدَافَعَةُ وَالْمُضَارَبَةُ، نَفَحْتُ الرَّجُلَ بِالسَّيْفِ تَنَاوَلْتُهُ بِهِ يُرِيدُ بِمُنَافَحَتِهِ مُدَافَعَةَ هِجَاءِ الْمُشْرِكِينَ وَمُجَاوَبَتِهِمْ عَنْ أَشْعَارِهِمْ (وَيَقُولُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) فِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى تَعَدُّدِ هَذَا الْقَوْلِ مِنْهُ لَهُ (أَنَّ اللَّهَ يُؤَيِّدُ حَسَّانَ) وَفِي نُسْخَةٍ حَسَّانًا (بِرُوحِ الْقُدُسِ) بِضَمِّ الدَّالِ، وَسُكُونِهِ أَيْ: بِجِبْرِيلَ وَسُمِّيَ بِهِ؛ لِأَنَّهُ يَأْتِي الْأَنْبِيَاءَ بِمَا فِيهِ الْحَيَاةُ الْأَبَدِيَّةُ، وَالْمَعْرِفَةُ السَّرْمَدِيَّةُ، وَإِضَافَتُهُ إِلَى الْقُدُسِ وَهُوَ الطَّهَارَةُ؛ لِأَنَّهُ خُلِقَ مِنْهَا، وَقَدْ جَاءَ فِي حَدِيثٍ مُصَرِّحًا، وَهُوَ أَنَّ جِبْرِيلَ مَعَ حَسَّانَ (مَا يُنَافِحُ أَوْ يُفَاخِرُ) لِلشَّكِ، وَيَحْتَمِلُ التَّنْوِيعَ وَفِي رِوَايَةٍ: مَا نَافَحَ (عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) فَمَا لِلدَّوَامِ وَالْمُدَّةِ، وَالْمَعْنَى أَنَّ الْأَشْعَارَ الَّتِي فِيهَا دَفْعُ مَا يَقُولُهُ الْمُشْرِكُونَ فِي شَأْنِ اللَّهِ، وَرَسُولِهِ لَيْسَ مِمَّا لَا يَجُوزُ، وَلَا يَكُونُ مِمَّا يُلْهِمُهُ الْمَلَكُ، وَلَيْسَ مِنَ الشِّعْرِ الَّذِي قَالَهُ الشُّعَرَاءُ مِنْ تِلْقَاءِ أَنْفُسِهِمْ وَإِلْقَاءِ الشَّيْطَانِ إِلَيْهِمْ بِمَعَانٍ فَاسِدَةٍ، فَالْجُمْلَةُ إِخْبَارِيَّةٌ، وَظَاهِرُ كَلَامِ الطِّيبِيِّ أَنَّهَا جُمْلَةٌ دُعَائِيَّةٌ، وَيُسَاعِدُهُ مَا الدَّوَامِيَّةُ حَيْثُ قَالَ: وَذَلِكَ لِأَنَّ عِنْدَ أَخْذِهِ فِي الْهَجْوِ وَالطَّعْنِ فِي الْمُشْرِكِينَ، وَأَنْسَابِهِمْ مَظِنَّةَ الْفُحْشِ مِنَ الْكَلَامِ، وَبَذَاءَةِ اللِّسَانِ، وَيُؤَدِي ذَلِكَ إِلَى أَنْ يَتَكَلَّمَ بِمَا يَكُونُ عَلَيْهِ لَا لَهُ، فَيَحْتَاجُ إِلَى التَّأْيِيدِ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى، وَتَقْدِيسِهِ مِنْ ذَلِكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ، وَهُوَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ انْتَهَى.
وَيُؤَيِّدُ الْأَوَّلَ قَوْلُ التُّورِبِشْتِيِّ مِنْ أَنَّ الْمَعْنَى أَنَّ شِعْرَكَ هَذَا الَّذِي تُنَافِحُ عَنِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ يُلْهِمُكَ الْمَلَكُ سَبِيلَهُ، بِخِلَافِ مَا يَتَقَوَّلُهُ الشُّعَرَاءُ إِذَا اتَّبَعُوا الْهَوَى وَهَامُوا فِي كُلِّ وَادٍ؛ فَإِنَّ مَادَّةَ قَوْلِهِمْ مِنْ إِلْقَاءِ الشَّيْطَانِ إِلَيْهِمُ انْتَهَى.
وَقِيلَ لَمَّا دَعَا لَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَعَانَهُ جِبْرِيلُ بِسَبْعِينَ بَيْتًا هَذَا.
وَقَدْ قَالَ الْحَنَفِيُّ: ادِّعَاءُ الْعَظَمَةِ، وَالْكِبْرِيَاءِ، وَالشَّرَفِ أَيْ: يُفَاخِرُ لِأَجْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وُجْهَتُهُ انْتَهَى. وَظَاهِرُهُ الْمُتَبَادَرُ مِنْ مَعْنَاهُ أَنَّ حَسَّانًا يُظْهِرُ الْعَظَمَةَ وَالْكِبْرِيَاءَ وَالشَّرَفَ لَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَأَنَّ شَارِحًا عَكَسَ هَذِهِ الْقَضِيَّةَ، وَنَسَبَ الْكِبْرَ، وَالْعَظَمَةَ إِلَى حَسَّانَ لِأَجْلِ أَنَّهُ شَاعِرُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا مَحْذُورَ فِيهِ؛ فَإِنَّهُ أَبْلَغُ بَلَاغَةً وَتَبْلِيغًا؛ فَإِنَّهُ إِذَا كَانَ التَّابِعُ مُعَظَّمًا لِأَجْلِ الْمَتْبُوعِ كَانَ الْمَتْبُوعُ فِي غَايَةٍ مِنَ الْعَظَمَةِ بِالْبُرْهَانِ الْجَلِيِّ، وَالتِّبْيَانِ الْعَلِيِّ كَمَا حُقِّقَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ} وَكَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ صَاحِبُ الْبُرْدَةِ عَلَى طَرِيقِ الْعَكْسِ فِي الدَّلِيلِ إِيمَاءً إِلَى حَقِيقَةِ التَّعْلِيلِ. لَمَّا دَعَا اللَّهُ دَاعِينَا لِطَاعَتِهِ بِأَكْرَمِ الرُّسْلِ كُنَّا أَكْرَمَ الْأُمَمِ.
وَغَايَتُهُ أَنْ يَكُونَ عَنْ بِمَعْنَى مِنْ، وَقَدْ تَقَرَّرَ تَنَاوُبُ الْحُرُوفِ فِي الْعُلُومِ الْعَرَبِيَّةِ إِمَّا عَلَى سَبِيلِ الْبَدَلِيَّةِ، وَإِمَّا عَلَى قَصْدِ الْمَعَانِي التَّضَمُّنِيَّةِ.
وَأَمَّا مَا يُتَوَهَّمُ مِنْ أَنَّ نِسْبَةَ الْكِبْرِ مَذْمُومَةٌ؛ فَلَيْسَتْ عَلَى إِطْلَاقِهَا؛ فَإِنَّ التَّكَبُّرَ عَلَى الْكَافِرِينَ قُرْبَةٌ، وَعَلَى سَائِرِ الْمُتَكَبِّرِينَ صَدَقَةٌ كَمَا يُشِيرُ إِلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ} فَانْدَفَعَ بِهَذَا مَا قَالَهُ ابْنُ حَجَرٍ مِنْ أَنَّ الظَّاهِرَ مِنْ هَذِهِ الْعِبَارَةِ عِنْدَ مَنْ لَهُ ذَوْقٌ سَلِيمٌ أَنَّهُ يَذْكُرُ مَفَاخِرَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَثَالِبَ أَعْدَائِهِ، وَرَدِّ مَقُولِهِمْ فِي حَقِّهِ.
وَأَمَّا مَا قِيلَ مَعْنَاهُ أَنَّهُ يَنْسِبُ نَفْسَهُ إِلَى الشَّرَفِ، وَالْكِبْرِ وَالْعِظَمِ بِكَوْنِهِ مِنْ أُمَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمُمْتَازِ بِالْفَضْلِ عَلَى الْخَلَائِقِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، فَهُوَ بَعِيدٌ مُتَكَلَّفٌ وَلَيْتَهُ لَمْ يَذْكُرِ الْكِبْرَ؛ فَإِنَّ ذِكْرَهُ فِي هَذَا الْمَقَامِ فِيهِ مَا فِيهِ انْتَهَى.
وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى مَا فِيهِ عَلَى وَجْهٍ يُوَافِيهِ وَلَا يُنَافِيهِ، ثُمَّ لَا تَنَافِي بَيْنَ جَمْعِهِ بَيْنَ الْمُفَاخَرَتَيْنِ.
نَعَمِ الْغَالِبُ عَلَيْهِ إِظْهَارُ فَخْرِهِ وَتَعْظِيمُ قَدْرِهِ، وَتَفْخِيمُ أَمْرِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَقَدْ وَرَدَ أَنَّهُ لَمَّا جَاءَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَنُو تَمِيمٍ، وَشَاعِرُهُمُ الْأَقْرَعُ بْنُ حَابِسٍ؛ فَنَادَوْهُ يَا مُحَمَّدُ اخْرُجْ إِلَيْنَا نُفَاخِرْكَ أَوْ نُشَاعِرْكَ؛ فَإِنَّ مَدْحَنَا زَيْنٌ وَذَمَّنَا شَيْنٌ؛ فَلَمْ يَزِدْ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى أَنْ قَالَ: ذَلِكَ اللَّهُ إِذَا مَدَحَ زَانَ وَإِذَا ذَمَّ شَانَ، إِنِّي لَمْ أُبْعَثْ بِالشِّعْرِ، وَلَا بِالْفَخْرِ، وَلَكِنْ هَاتُوا فَأَمَرَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثَابِتَ بْنَ قَيْسٍ أَنْ يُجِيبَ خَطِيبَهُمْ، فَخَطَبَ فَغَلَبَهُمْ، فَقَامَ الْأَقْرَعُ بْنُ حَابِسٍ، فَقَالَ:
أَتَيْنَاكَ كَيْمَا يَعْرِفُ النَّاسُ فَضْلَنَا ** إِذَا خَالَفُونَا عِنْدَ ذِكْرِ الْمَكَارِمِ

وَأَنَّا رُءُوسُ النَّاسِ فِي كُلِّ مَشْعَرٍ ** وَأَنْ لَيْسَ فِي أَرْضِ الْحِجَازِ كَدَارِمِ

فَأَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَسَّانًا يُجِيبُهُمْ فَقَامَ فَقَالَ:
بَنِي دَارِمٍ لَا تَفْخَرُوا إِنَّ فَخْرَكُمْ ** يَعُودُ وَبَالًا عِنْدَ ذِكْرِ الْمَكَارِمِ

هَبِلْتُمْ عَلَيْنَا تَفْخَرُونَ وَأَنْتُمُ ** لَنَا خَوَلٌ مَا بَيْنَ قَنٍّ وَخَادِمِ

فَكَانَ أَوَّلُ مَنْ أَسْلَمَ شَاعِرُهُمْ، وَثَابِتٌ الْمَذْكُورُ خَطِيبُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَخَطِيبُ الْأَنْصَارِ، وَهُوَ خَزْرَجِيٌّ شَهِدَ لَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْجَنَّةِ، وَاسْتُشْهِدَ بِالْيَمَامَةِ سَنَةَ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ هَذَا، وَقَدْ رَوَى أَبُو دَاوُدَ عَنْ بُرَيْدَةَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «إِنَّ مِنَ الْبَيَانِ سِحْرًا وَإِنَّ مِنَ الْعِلْمِ جَهْلًا، وَإِنَّ مِنَ الشِّعْرِ حُكْمًا وَإِنَّ مِنَ الْقَوْلِ عِيَالًا» وَفِي رِوَايَةٍ لِغَيْرِ أَبِي دَاوُدَ عَيْلًا بِفَتْحِ الْعَيْنِ أَيْ: ثَقِيلًا وَوَبَالًا قَالَ بَعْضُ السَّلَفِ: صَدَقَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَّا قَوْلُهُ: «إِنَّ مِنَ الْبَيَانِ سِحْرًا»؛ فَالرَّجُلُ يَكُونُ عَلَيْهِ الْحَقُّ، وَهُوَ أَلْحَنُ بِالْحُجَّةِ مِنْ صَاحِبِ الْحَقِّ، فَيَسْحَرُ الْقَوْمَ بِبَيَانِهِ، فَيَذْهَبُ بِالْحَقِّ، وَأَمَّا قَوْلُهُ: «وَإِنَّ مِنَ الْعِلْمِ جَهْلًا»، فَتَكَلُّفُ الْعَالِمِ إِلَى عِلْمِهِ مَا لَمْ يَعْلَمْ بِجَهْلِهِ، وَأَمَّا قَوْلُهُ: «وَإِنَّ مِنَ الشِّعْرِ حِكَمًا»، فَهُوَ هَذِهِ الْمَوَاعِظُ وَالْأَمْثَالُ الَّتِي يَتَّعِظُ بِهَا النَّاسُ، وَمَفْهُومُهُ أَنَّ بَعْضَ الشِّعْرِ لَيْسَ كَذَلِكَ إِذْ (مِنْ) تَبْغِيضِيَّةٌ، وَرَوَى الْبُخَارِيُّ أَنَّ مِنَ الشِّعْرِ حِكْمَةً أَيْ: قَوْلًا صَادِقًا مُطَابِقًا قَالَ الطَّبَرِيُّ: وَبِهِ يُرَدُّ عَلَى مَنْ كَرِهَ الشِّعْرَ مُطْلَقًا، وَلَا حُجَّةَ لَهُ فِي قَوْلِ ابْنِ مَسْعُودٍ الشِّعْرُ مَزَامِيرُ الشَّيْطَانِ لِأَنَّهُ عَلَى تَقْدِيرِ ثُبُوتِهِ مَحْمُولٌ عَلَى الْإِفْرَاطِ فِيهِ وَالْإِكْثَارِ مِنْهُ أَوْ عَلَى الشِّعْرِ الْمَذْمُومِ، وَكَذَا مَا وَرَدَ مِنْ أَنَّ إِبْلِيسَ لَمَّا أُهْبِطَ إِلَى الْأَرْضِ قَالَ: رَبِّ اجْعَلْ لِي قُرْآنًا قَالَ: قُرْآنُكَ الشِّعْرُ.
(حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ مُوسَى) أَيِ: الْفَزَارِيُّ (وَعَلِيُّ بْنُ حُجْرٍ) يَعْنِي وَالْمَعْنَى وَاحِدٌ (قَالَا: حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي الزِّنَادِ) وَفِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي الزِّنَادِ (عَنْ أَبِيهِ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِثْلَهُ) أَيْ: مِثْلَ الْحَدِيثِ السَّابِقِ لَفْظًا وَمَعْنًى، وَإِنَّمَا الْمُغَايَرَةُ بِحَسْبِ الْإِسْنَادِ، فَالْأَوَّلُ بِرِوَايَةِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ هِشَامٍ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ وَهَذَا بِرِوَايَةِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ أَبِيهِ بَدَلَ عَنْ هَاشِمٍ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ، فَالْإِسْنَادَانِ مُتَّصِلَانِ وَفَائِدَةُ ذِكْرِهِمَا تَقْوِيَةُ الْحَدِيثِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.