فصل: النبــوة والدعــوة - العهـد المكـي

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الرحيق المختوم **


 شق الصدر

وهكذا رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بني سعد، حتى إذا كان بعده بأشهر على قول ابن إسحاق، وفي السنة الرابعة من مولده على قول المحققين وقع حادث شق صدره، روى مسلم عن أنس‏:‏ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتاه جبريل، وهو يلعب مع الغلمان، فأخذه فصرعه، فشق عن قلبه، فاستخرج القلب، فاستخرج منه علقة، فقال‏:‏ هذا حظ الشيطان منك، ثم غسله في طَسْت من ذهب بماء زمزم، ثم لأَمَه ـ أي جمعه وضم بعضه إلى بعض ـ ثم أعاده في مكانه، وجاء الغلمان يسعون إلى أمه ـ يعنى ظئره ـ فقالوا‏:‏ إن محمدًا قد قتل، فاستقبلوه وهو مُنْتَقِعُ اللون ـ أي متغير اللون ـ قال أنس‏:‏ وقد كنت أرى أثر ذلك المخيط في صدره‏.‏

 إلى أمه الحنون

وخشيت عليه حليمة بعد هذه الوقعة حتى ردته إلى أمه، فكان عند أمه إلى أن بلغ ست سنين‏.‏

ورأت آمنة ـ وفاء لذكرى زوجها الراحل ـ أن تزور قبره بيثرب، فخرجت من مكة قاطعة رحلة تبلغ نحو خمسمائة كيلو متر ومعها ولدها اليتيم ـ محمد صلى الله عليه وسلم ـ وخادمتها أم أيمن، وقيمها عبد المطلب، فمكثت شهرًا ثم قفلت، وبينما هي راجعة إذ لحقها المرض في أوائل الطريق، ثم اشتد حتى ماتت بالأبْوَاء بين مكة والمدينة‏.‏

 إلى جده العطوف

وعاد به عبد المطلب إلى مكة، وكانت مشاعر الحنو في فؤاده تربو نحو حفيده اليتيم الذي أصيب بمصاب جديد نَكَأ الجروح القديمة، فَرَقَّ عليه رقة لم يرقها على أحد من أولاده، فكان لا يدعه لوحدته المفروضة، بل يؤثره على أولاده، قال ابن هشام‏:‏ كان يوضع لعبد المطلب فراش في ظل الكعبة، فكان بنوه يجلسون حول فراشه ذلك حتى يخرج إليه، لا يجلس عليه أحد من بنيه إجلالًا له، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأتى وهو غلام جفر حتى يجلس عليه، فيأخذه أعمامه ليؤخروه عنه، فيقول عبد المطلب إذا رأي ذلك منهم‏:‏ دعوا ابني هذا، فوالله إن له لشأنًا، ثم يجلس معه على فراشه، ويمسح ظهره بيده، ويسره ما يراه يصنع‏.‏

ولثمانى سنوات وشهرين وعشرة أيام من عمره صلى الله عليه وسلم توفي جده عبد المطلب بمكة، ورأي قبل وفاته أن يعهد بكفالة حفيده إلى عمه أبي طالب شقيق أبيه‏.‏

 إلى عمه الشفيق

ونهض أبو طالب بحق ابن أخيه على أكمل وجه، وضمه إلى ولده وقدمه عليهم واختصه بفضل احترام وتقدير، وظل فوق أربعين سنة يعز جانبه، ويبسط عليه حمايته، ويصادق ويخاصم من أجله، وستأتي نبذ من ذلك في مواضعها‏.‏

 يستسقى الغمام بوجهه

أخرج ابن عساكر عن جَلْهُمَة بن عُرْفُطَة قال‏:‏ قدمت مكة وهم في قحط، فقالت قريش‏:‏ يا أبا طالب، أقحط الوادي، وأجدب العيال، فهَلُمَّ فاستسق، فخرج أبو طالب ومعه غلام، كأنه شمس دُجُنَّة، تجلت عنه سحابة قَتْمَاء، حوله أُغَيْلمة، فأخذه أبو طالب، فألصق ظهره بالكعبة،ولاذ بأضبعه الغلام، وما في السماء قَزَعَة، فأقبل السحاب من هاهنا وهاهنا وأغدق واغْدَوْدَق، وانفجر الوادي، وأخصب النادي والبادي، وإلى هذا أشار أبو طالب حين قال‏:‏

وأبيضَ يُستسقى الغَمَام بوجهه ** ثِمالُ اليتامى عِصْمَةٌ للأرامل

 بَحِيرَى الراهب

ولما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم اثنتى عشرة سنة ـ قيل‏:‏ وشهرين وعشرة أيام ـ ارتحل به أبو طالب تاجرًا إلى الشام، حتى وصل إلى بُصْرَى ـ وهي معدودة من الشام، وقَصَبَة لحُورَان، وكانت في ذلك الوقت قصبة للبلاد العربية التي كانت تحت حكم الرومان‏.‏ وكان في هذا البلد راهب عرف بَبحِيرَى، واسمه ـ فيما يقال‏:‏ جرجيس، فلما نزل الركب خرج إليهم، وكان لا يخرج إليهم قبل ذلك، فجعل يتخلّلهم حتى جاء فأخذ بيد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال‏:‏ هذا سيد العالمين، هذا رسول رب العالمين، هذا يبعثه الله رحمة للعالمين‏.‏ فقال له ‏[‏أبو طالب و‏]‏ أشياخ قريش‏:‏ ‏[‏و‏]‏ ما علمك ‏[‏بذلك‏]‏‏؟‏ فقال‏:‏ إنكم حين أشرفتم من العقبة لم يبق حجر ولا شجر إلا خر ساجدًا، ولا يسجدان إلا لنبى، وإنى أعرفه بخاتم النبوة أسفل من غضروف كتفه مثل التفاحة، ‏[‏وإنا نجده في كتبنا‏]‏، ثم أكرمهم بالضيافة، وسأل أبا طالب أن يرده، ولا يقدم به إلى الشام؛ خوفًا عليه من الروم واليهود، فبعثه عمه مع بعض غلمانه إلى مكة‏.‏

 حرب الفِجَار

وفي السنة العشرين من عمره صلى الله عليه وسلم وقعت في سوق عُكاظ حرب بين قريش ـ ومعهم كنانة ـ وبين قَيْس عَيْلان، تعرف بحرب الفِجَار وسببها‏:‏ أن أحد بني كنانة، واسمه البَرَّاض، اغتال ثلاثة رجال من قيس عيلان، ووصل الخبر إلى عكاظ فثار الطرفان، وكان قائد قريش وكنانة كلها حرب بن أمية؛ لمكانته فيهم سنا وشرفًا، وكان الظفر في أول النهار لقيس على كنانة، حتى إذا كان في وسط النهار كادت الدائرة تدور على قيس‏.‏ ثم تداعى بعض قريش إلى الصلح على أن يحصوا قتلى الفريقين، فمن وجد قتلاه أكثر أخذ دية الزائد‏.‏ فاصطلحوا على ذلك، ووضعوا الحرب، وهدموا ما كان بينهم من العداوة والشر‏.‏ وسميت بحرب الفجار؛ لانتهاك حرمة الشهر الحرام فيها، وقد حضر هذه الحرب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان ينبل على عمومته؛ أي يجهز لهم النبل للرمي‏.‏

 حلف الفضول

وعلى أثر هذه الحرب وقع حلف الفضول في ذى القعدة في شهر حرام تداعت إليه قبائل من قريش‏:‏ بنو هاشم، وبنو المطلب،وأسد بن عبد العزى، وزهرة بن كلاب، وتيم بن مرة، فاجتمعوا في دار عبد الله بن جُدْعان التيمى؛ لسنِّه وشرفه، فتعاقدوا وتعاهدوا على ألا يجدوا بمكة مظلومًا من أهلها وغيرهم من سائر الناس إلا قاموا معه، وكانوا على من ظلمه حتى ترد عليه مظلمته، وشهد هذا الحلف رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏ وقال بعد أن أكرمه الله بالرسالة‏:‏ ‏(‏لقد شهدت في دار عبد الله بن جدعان حلفًا ما أحب أن لى به حمر النعم، ولو أدعى به في الإسلام لأجبت‏)‏‏.‏

وهذا الحلف روحه تنافي الحمية الجاهلية التي كانت العصبية تثيرها، ويقال في سبب هذا الحلف‏:‏ إن رجلًا من زُبَيْد قدم مكة ببضاعة، واشتراها منه العاص بن وائل السهمى، وحبس عنه حقه، فاستعدى عليه الأحلاف عبد الدار ومخزومًا، وجُمَحًا وسَهْمًا وعَدِيّا فلم يكترثوا له، فعلا جبل أبي قُبَيْس، ونادى بأشعار يصف فيها ظلامته رافعًا صوته، فمشى في ذلك الزبير بن عبد المطلب، وقال‏:‏ ما لهذا مترك‏؟‏ حتى اجتمع الذين مضى ذكرهم في حلف الفضول، فعقدوا الحلف ثم قاموا إلى العاص بن وائل فانتزعوا منه حق الزبيدي‏.‏

 حياة الكدح

ولم يكن له صلى الله عليه وسلم عمل معين في أول شبابه، إلا أن الروايات توالت أنه كان يرعى غنمًا، رعاها في بني سعد، وفي مكة لأهلها على قراريط، ويبدو أنه انتقل إلى عمل التجارة حين شب،فقد ورد أنه كان يتجر مع السائب بن أبي السائب المخزومي فكان خير شريك له، لا يدارى ولا يمارى، وجاءه يوم الفتح فرحب به، وقال‏:‏ مرحبًا بأخي وشريكي‏.‏

وفي الخامسة والعشرين من سنه خرج تاجرًا إلى الشام في مال خديجة رضي الله عنها قال ابن إسحاق‏:‏ كانت خديجة بنت خويلد امرأة تاجرة ذات شرف ومال، تستأجر الرجال في مالها، وتضاربهم إياه بشيء تجعله لهم، وكانت قريش قومًا تجارًا، فلما بلغها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما بلغها من صدق حديثه، وعظم أمانته وكرم أخلاقه بعثت إليه، فعرضت عليه أن يخرج في مال لها إلى الشام تاجرًا، وتعطيه أفضل ما كانت تعطى غيره من التجار، مع غلام لها يقال له‏:‏ ميسرة، فقبله رسول الله صلى الله عليه وسلم منها، وخرج في مالها ذلك، وخرج معه غلامها ميسرة حتى قدم الشام‏.‏

 زواجه بخديجة

ولما رجع إلى مكة، ورأت خديجة في مالها من الأمانة والبركة ما لم تر قبل هذا، وأخبرها غلامها ميسرة بما رأي فيه صلى الله عليه وسلم من خلال عذبة، وشمائل كريمة، وفكر راجح، ومنطق صادق، ونهج أمين، وجدت ضالتها المنشودة ـ وكان السادات والرؤساء يحرصون على زواجها فتأبي عليهم ذلك ـ فتحدثت بما في نفسها إلى صديقتها نفيسة بنت منبه، وهذه ذهبت إليه صلى الله عليه وسلم تفاتحه أن يتزوج خديجة، فرضى بذلك، وكلم أعمامه، فذهبوا إلى عم خديجة وخطبوها إليه، وعلى إثر ذلك تم الزواج، وحضر العقد بنو هاشم ورؤساء مضر، وذلك بعد رجوعه من الشام بشهرين، وأصدقها عشرين بَكْرة‏.‏ وكانت سنها إذ ذاك أربعين سنة، وكانت يومئذ أفضل نساء قومها نسبًا وثروة وعقلًا، وهي أول امرأة تزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يتزوج عليها غيرها حتى ماتت‏.‏

وكل أولاده صلى الله عليه وسلم منها سوى إبراهيم،ولدت له‏:‏ أولًا القاسم ـ وبه كان يكنى ـ ثم زينب، ورقية، وأم كلثوم، وفاطمة، وعبد الله‏.‏ وكان عبد الله يلقب بالطيب والطاهر، ومات بنوه كلهم في صغرهم، أما البنات فكلهن أدركن الإسلام فأسلمن وهاجرن،إلا أنهن أدركتهن الوفاة في حياته صلى الله عليه وسلم سوى فاطمة رضي الله عنها، فقد تأخرت بعده ستة أشهر ثم لحقت به‏.‏

 بناء الكعبة وقضية التحكيم

ولخمس وثلاثين سنة من مولده صلى الله عليه وسلم قامت قريش ببناء الكعبة؛ وذلك لأن الكعبة كانت رَضْمًا فوق القامة، ارتفاعها تسعة أذرع من عهد إسماعيل عليه السلام، ولم يكن لها سقف، فسرق نفر من اللصوص كنزها الذي كان في جوفها، وكانت مع ذلك قد تعرضت ـ باعتبارها أثرًا قديما ـ للعوادى التي أدهت بنيانها، وصدعت جدرانها، وقبل بعثته صلى الله عليه وسلم بخمس سنين جرف مكة سيل عرم انحدر إلى البيت الحرام، فأوشكت الكعبة منه على الانهيار، فاضطرت قريش إلى تجديد بنائها حرصًا على مكانتها، واتفقوا على ألا يدخلوا في بنائها إلا طيبًا، فلا يدخلون فيها مهر بغى ولا بيع ربًا ولا مظلمة أحد من الناس، وكانوا يهابون هدمها، فابتدأ بها الوليد بن المغيرة المخزومى، فأخذ المعول وقال‏:‏ اللّهم لا نريد إلا الخير، ثم هدم ناحية الركنين، ولما لم يصبه شيء تبعه الناس في الهدم في اليوم الثاني، ولم يزالوا في الهدم حتى وصلوا إلى قواعد إبراهيم، ثم أرادوا الأخذ في البناء فجزأوا الكعبة، وخصصوا لكل قبيلة جزءًا منها‏.‏ فجمعت كل قبيلة حجارة على حدة، وأخذوا يبنونها، وتولى البناء بناء رومي اسمه‏:‏ باقوم‏.‏ ولما بلغ البنيان موضع الحجر الأسود اختلفوا فيمن يمتاز بشرف وضعه في مكانه، واستمر النزاع أربع ليال أو خمسًا، واشتد حتى كاد يتحول إلى حرب ضروس في أرض الحرم، إلا أن أبا أمية بن المغيرة المخزومى عرض عليهم أن يحكموا فيما شجر بينهم أول داخل عليهم من باب المسجد فارتضوه، وشاء الله أن يكون ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما رأوه هتفوا‏:‏ هذا الأمين، رضيناه، هذا محمد، فلما انتهى إليهم، وأخبروه الخبر طلب رداء فوضع الحجر وسطه وطلب من رؤساء القبائل المتنازعين أن يمسكوا جميعًا بأطراف الرداء، وأمرهم أن يرفعوه، حتى إذا أوصلوه إلى موضعه أخذه بيده فوضعه في مكانه، وهذا حل حصيف رضى به القوم‏.‏

وقصرت بقريش النفقة الطيبة فأخرجوا من الجهة الشمالية نحوا من ستة أذرع، وهي التي تسمى بالحجر والحطيم، ورفعوا بابها من الأرض؛ لئلا يدخلها إلا من أرادوا، ولما بلغ البناء خمسة عشر ذراعًا سقفوه على ستة أعمدة‏.‏

وصارت الكعبة بعد انتهائها ذات شكل مربع تقريبًا، يبلغ ارتفاعه 15 مترًا، وطول ضلعه الذي فيه الحجر الأسود والمقابل له 10 أمتار، والحجر موضوع على ارتفاع 1‏.‏50متر من أرضية المطاف‏.‏ والضلع الذي فيه الباب والمقابل له 12مترًا، وبابها على ارتفاع مترين من الأرض، ويحيط بها من الخارج قصبة من البناء أسفلها، متوسط ارتفاعها 0‏.‏25مترًا ومتوسط عرضها 0‏.‏30 مترًا وتسمى بالشاذروان، وهي من أصل البيت لكن قريشًا تركتها‏.‏

 السيرة الإجمالية قبل النبوة

كان النبي صلى الله عليه وسلم قد جمع في نشأته خير ما في طبقات الناس من ميزات، وكان طرازًا رفيعًا من الفكر الصائب، والنظر السديد، ونال حظًا وافرًا من حسن الفطنة وأصالة الفكرة وسداد الوسيلة والهدف، وكان يستعين بصمته الطويل على طول التأمل وإدمان الفكرة واستكناه الحق، وطالع بعقله الخصب وفطرته الصافية صحائف الحياة وشئون الناس وأحوال الجماعات، فعاف ما سواها من خرافة، ونأي عنها، ثم عاشر الناس على بصيرة من أمره وأمرهم، فما وجد حسنًا شارك فيه وإلا عاد إلى عزلته العتيدة، فكان لا يشرب الخمر، ولا يأكل مما ذبح على النصب، ولا يحضر للأوثان عيدًا ولا احتفالًا، بل كان من أول نشأته نافرا من هذه المعبودات الباطلة، حتى لم يكن شيء أبغض إليه منها، وحتى كان لا يصبر على سماع الحلف باللات والعزى‏.‏

ولا شك أن القدر حاطه بالحفظ، فعندما تتحرك نوازع النفس لاستطلاع بعض متع الدنيا، وعندما يرضى باتباع بعض التقاليد غير المحمودة ـ تتدخل العناية الربانية للحيلولة بينه وبينها، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏ما هممت بشيء مما كان أهل الجاهلية يعملون غير مرتين، كل ذلك يحول الله بيني وبينه، ثم ما هممت به حتى أكرمنى برسالته، قلت ليلة للغلام الذي يرعى معي الغنم بأعلى مكة‏:‏ لو أبصرت لي غنمي حتى أدخل مكة وأسمر بها كما يسمر الشباب، فقال‏:‏ أفعل، فخرجت حتى إذا كنت عند أول دار بمكة سمعت عزفًا، فقلت‏:‏ ما هذا‏؟‏ فقالوا‏:‏ عرس فلان بفلانة، فجلست أسمع، فضرب الله على أذنـى فنمت، فما أيقظني إلا حر الشمس‏.‏ فعدت إلى صاحبي فسألني، فأخبرته، ثم قلت ليلة أخرى مثل ذلك، ودخلت بمكة فأصابني مثل أول ليلة‏.‏‏.‏‏.‏ ثم ما هممت بسوء‏)‏‏.‏

وروى البخاري عن جابر بن عبد الله قال‏:‏ لما بنيت الكعبة ذهب النبي صلى الله عليه وسلم وعباس ينقلان الحجارة، فقال عباس للنبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ اجعل إزارك على رقبتك يقيقك من الحجارة، فخر إلى الأرض وطمحت عيناه إلى السماء ثم أفاق، فقال‏:‏ ‏(‏إزاري، إزاري‏)‏ فشد عليه إزاره‏.‏ وفي رواية‏:‏ فما رؤيت له عورة بعد ذلك‏.‏

وكان النبي صلى الله عليه وسلم يمتاز في قومه بخلال عذبة وأخلاق فاضلة، وشمائل كريمة، فكان أفضل قومه مروءة، وأحسنهم خلقًا، وأعزهم جوارًا، وأعظمهم حلمًا، وأصدقهم حديثًا، وألينهم عَرِيكة، وأعفهم نفسًا وأكرمهم خيرًا، وأبرهم عملًا، وأوفاهم عهدًا، وآمنهم أمانة حتى سماه قومه‏:‏ ‏[‏الأمين‏]‏ لما جمع فيه من الأحوال الصالحة والخصال المرضية، وكان كما قالت أم المؤمنين خديجة رضي الله عنها يحمل الكل، ويكسب المعدوم، ويقرى الضيف، ويعين على نوائب الحق‏.‏

 حياة النبـوة و الرسـالة والدعـوة

 النبــوة والدعــوة - العهـد المكـي

تنقسم حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد أن شرفه الله بالنبوة والرسالة إلى عهدين يمتاز أحدهما عن الآخـر تمـام الامتياز، وهما‏:‏

1 ـ العهد المكي، ثلاث عشرة سنة تقريبًا‏.‏

2 ـ العهد المدني، عشر سنوات كاملة‏.‏

ثم يشتمل كل من العهدين على عدة مراحل، لكل مرحلة منها خصائص تمتاز بها عن غيرها، يظهر ذلك جليًا بعد النظر الدقيق في الظروف التي مرت بها الدعوة خلال العهدين‏.‏

ويمكن تقسيم العهد المكي إلى ثلاث مراحل‏:‏

1 ـ مرحلة الدعوة السرية، ثلاث سنوات‏.‏

2 ـ مرحلة إعلان الدعوة في أهل مكة، من بداية السنة الرابعة من النبوة إلى هجرته صلى الله عليه وسلم إلى المدينة‏.‏

3 ـ مرحلة الدعوة خارج مكة وفشوها فيهم، من أواخر السنة العاشرة من النبوة‏.‏ وقد شملت العهد المدني وامتدت إلى آخر حياته صلى الله عليه وسلم‏.‏

أما مراحل العهد المدني فسيجيء تفصيلها في موضعه‏.‏