سورة الفاتحة
افتتح سبحانه كتابه بهذه السورة لأنها جمعت مقاصد القرآن ولذلك كان من أسمائها: أم القرآن وأم الكتاب والأساس فصارت كالعنوان وبراعة الاستهلال قال الحسن البصري: إن الله أودع علوم الكتب السابقة في القرآن ثم أودع علوم القرآن في المفصل ثم أودع علوم المفصل في الفاتحة فمن علم تفسيرها كان كمن علم تفسير جميع الكتب المنزلة أخرجه البيهقي في شعب الإيمان وبيان اشتمالها على علوم القرآن قرره الزمخشري باشتمالها على الثناء على الله بما هو أهله وعلى التعبد والأمر والنهي وعلى الوعد والوعيد وآيات القرآن لا تخرج عن هذه الأمور قال الإمام فخر الدين: المقصود من القرآن كله تقرير أمور أربعة: الإلهيات والمعاد والنبوات وإثبات القضاء والقدر فقوله: {الحمدُ للَهِ رَبِ العالمين} يدل على الإلهيات وقوله: {مالكِ يومِ الدين} يدل على نفي الجبر وعلى إثبات أن الكل بقضاء الله وقدره وقوله {إِهدِنا الصِراطَ المُستَقيم} إلى آخر السورة يدل على إثبات قضاء الله وعلى النبوات فقد اشتملت هذه السورة على المطالب الأربعة التي هي المقصد الأعظم من القرآن وقال البيضاوي: هي مشتملة على الحكم النظرية والأحكام العملية التي هي سلوك الصراط المستقيم والإطلاع على مراتب السعداء ومنازل الأشقياء وقال الطيبي: هي مشتملة على أربعة أنواع من العلوم التي هي مناط الدين: أحدها: علم الأصول ومعاقدة معرفة الله عز وجل وصفاته وإليها الإشارة بقوله: {رَبِ العالمين الرحمن الرحيم} ومعرفة المعاد وهو ما إليه بقوله: {مالكِ يومِ الدين} وثانيها: علم ما يحصل به الكمال وهو علم الأخلاق وأجله الوصول إلى الحضرة الصمدانية والإلتجاء إلى جناب الفردانية والسلوك لطريقة الاستقامة فيها وإليه الإشارة بقوله: {أَنعمتَ عَليهِم غَيرِ المعضوبِ عليهم ولا الضالين} قال: وجميع القرآن تفصيل لما أجملته الفاتحة فإِنها بنيت على إجمال ما يحويه القرآن مفصلاً فإنها واقعة في مطلع التنزيل والبلاغة فيه: أن تتضمن ما سيق الكلام لأجله ولهذا لا ينبغي أن يقيد شيء من كلماتها ما أمكن الحمل على الإطلاق وقال الغزالي في [خواص القرآن]: مقاصد القرآن ستة ثلاثة مهمة وثلاثة تتمة الأولى: تعريف المدعو إليه كما أشير إليه بصدرها وتعريف الصراط المستقيم وقد صرح به فيها وتعريف الحال عند الرجوع إليه تعالى وهو الآخرة كما أشير إليه بقوله: {مالكِ يومِ الدين} والأخرى: تعريف أحوال المطيعين كما أشار إليه بقوله {الذينَ أَنعمتَ عَليهِم} وتعريف منازل الطريق كما أشير إليه بقوله: {إِياكَ نَعبُدُ وإِياكَ نَستَعين}
سورة البقرة
قال بعض الأئمة: تضمنت سورة الفاتحة: الإقرار بالربوبية والالتجاء إليها في دين الإسلام والصيانة عن دين اليهود والنصارى وسورة البقرة تضمنت قواعد الدين وآل عمران مكملة لمقصودها فالبقرة بمنزلة إقامة الدليل على الحكم وآل عمران بمنزلة الجواب عن شبهات الخصوم ولهذا ورد فيها كثير من المتشابه لما تمسك به النصارى فأوجب الحج في آل عمران وأما في البقرة فذكر أنه مشروع وأمر بإتمامه بعد الشروع فيه وكان خطاب النصارى في آل عمران كما أن خطاب اليهود في البقرة أكثر لأن التوراة أصل والإنجيل فرع لها والنبي صلى الله عليه وسلم لما هاجر إلى المدينة دعا اليهود وجاهدهم وكان جهاده للنصارى في آخر الأمر كما كان دعاؤه لأهل الشرك قبل أهل الكتاب ولهذا كانت السور المكية فيها الدين الذي اتفق عليه الأنبياء فخوطب به جميع الناس والسور المدنية فيها خطاب من أقر بالأنبياء من أهل الكتاب والمؤمنين فخوطبوا بيا أهل الكتاب يا بني إسرائيل يا أيها الذين آمنوا وأما سورة النساء فتضمنت أحكام الأسباب التي بين الناس وهي نوعان: مخلوقة لله ومقدورة لهم كالنسب والصهر ولهذا افتتحت بقوله: {يا أَيُها النَّاسُ اتَقوا رَبَكُم الَذي خَلَقَكُم مِن نَفسٍ واحِدةٍ وخَلَقَ مِنها زوجها} وقال: {فاتقوا اللَهَ الَذي تساءَلونَ بِهِ والأَرحام} إنظر إلى هذه المناسبة العجيبة والافتتاح وبراعة الاستهلال حيث تضمنت الآية المفتتح بها ما في أكثر السورة من أحكام: من نكاح النساء ومحرماته والمواريث المتعلقة بالأرحام وأن ابتداء هذا الأمر بخلق آدم ثم خلق زوجته منه ثم بث منهما رجالاً كثيراً ونساء في غاية الكثرة أما المائدة فسورة العقود تضمنت بيان تمام الشرائع ومكملات الدين والوفاء بعهود الرسل وما أخذ على الأمة ونهاية الدين فهي سورة التكميل لأن فيها تحريم الصيد على المحرم الذي هو من تمام الإحرام وتحريم الخمر الذي هو من تمام حفظ العقل والدين وعقوبة المعتدين من السراق والمحاربين الذي هو من تمام حفظ الدماء والأموال وإحلال الطيبات الذي هو من تمام عبادة الله ولهذا ذكر فيها ما يختص بشريعة محمد صلى الله عليه وسلم والتيمم والحكم بالقرآن على كل ذي دين ولهذا كثر فيها لفظ الإكمال والإتمام وذكر فيها: أن من ارتد عوض الله بخير منه ولا يزال هذا الدين كاملاً ولهذا ورد أنها آخر ما نزل لما فيها من إرشادات الختم والتمام وهذا الترتيب بين هذه السور الأربع المدنيات من أحسن الترتيب: انتهى وقال بعضهم:
افتتحت البقرة بقوله: {أَلَم ذَلِكَ الكِتابُ لا ريبَ فيهِ}
فإنه إشارة إلى الصراط المستقيم في قوله في الفاتحة: {إهدِنا الصِراطَ المُستَقيم} فإنهم لما سألوا الله الهداية إلى الصراط المستقيم قيل لهم: ذلك الصراط الذي سألتهم الهداية إليه كما أخرج ابن جرير وغيره من حديث على مرفوعاً: {الصِراطَ المُستَقيم كتاب الله} وأخرجه الحاكم في المستدرك عن ابن مسعود موقوفاً وهذا معنى حسن يظهر فيه سر ارتباط البقرة بالفاتحة وقال الخوبي: أوائل هذه السورة مناسبة لأواخر سورة الفاتحة لأن الله تعالى لما ذكر أن الحامدين طلبوا الهدى قال: قد أعطيتكم ما طلبتم: هذا الكتاب هدى لكم فاتبعوه وقد اهتديتم إلى الصراط المستقيم المطلوب المسئول ثم إنه ذكر في أوائل هذه السورة الطوائف الثلاث الذين ذكرهم في الفاتحة: فذكر الذين على هدى من ربهم وهم المنعم عليهم والذين اشتروا الضلالة بالهدى وهم الضالون: والذين باءوا أقول: قد ظهر لي بحمد الله وجوهاً من هذه المناسبات: أحدها: أن القاعدة التي استقر بها القرآن: أن كل سورة تفصيل لإجمال ما قبلها وشرح له وإطناب لإيجازه وقد استقر معي ذلك في غالب سور القرآن طويلها وقصيرها وسورة البقرة قد اشتملت على تفصيل جميع مجملات الفاتحة فقوله: الحمد لله تفصيله: ما وقع فيها من الأمر بالذكر في عدة آيات ومن الدعاء في قوله: {أُجيبُ دَعوَةَ الداعِ إِذا دعان} وفي قوله: {ربَنا لا تؤَاخِذنا إِن نَسينا أَو أَخطأَنا ربَنا ولا تَحمِل عَلينا إِصراً كَما حَملتَهُ عَلى الذينَ مِن قبلِنا ربَنا ولا تُحمِلُنا مالا طاقةَ لنا بِه واعفُ عنَّا واغفِر لنا وارحمنا أَنتَ مَولانا فانصُرنا عَلى القومِ الكافرين} وبالشكر في قوله: {فاذكُروني أَذكُركُم واشكُروا لي ولا تكفرون} وقوله: {ربِ العالمين} تفصيله قوله: {اعبُدوا ربَكُم الذي خلَقَكُم والذينَ مِن قبلِكُم لعَلَكُم تَتَقون الذي جَعَلَ لَكُم الأرضَ فِراشاً والسماء بناءً وأَنزل مِنَ السماءِ ماءً فأخرج به الثمرات رزقاً لكم فلا تجعلوا لله أنداداً وأَنتم تعلمون} وقوله: {هوَ الذي خَلقَ لَكُم ما في الأَرض جميعاً ثُمَ استوى إِلى السماءِ فسواهن سبع سمواتٍ وَهوَ بكُلِ شيءٍ عليم} ولذلك افتتحها بقصة خلق آدم الذي هو مبدأ البشر وهو أشرف الأنواع من العالمين وذلك وقوله: {الرحمن الرحيم} قد أومأ إليه بقوله في قصة آدم: {فتابَ عليكُم إِنه هوَ التوابُ الرَحيم} وفي قصة إبراهيم لما سأل الرزق للمؤمنين خاصة بقوله: {وارزق أَهله مِن الثمرات مِن آمن} فقال: {ومَن كَفرَ فأَمتعه قليلاً} وذلك لكونه رحماناً وما وقع في قصة بني إسرائيل: {ثم عفونا عنكم} إلى أن أعاد الآية بجملتها في قوله: {لا إِله إِلا هو الرحمَن الرَحيم} وذكر آية الدين إرشاداً للطالبين من العباد ورحمة بهم ووضع عنهم الخطأ والنسيان والإصر وما لا طاقة لهم به وختم بقوله: {واعفُ عنَّا واغفِر لَنا وارحمنا} وذلك شرح قوله: {الرحمَنُ الرحيم} وقوله: {مالكِ يومِ الدين} تفصيله: ما وقع من ذكر يوم القيامة في عدة مواضع ومنها قوله: {إن تبدوا ما في أَنفُسَكُم أَو تخفوهُ يُحاسِبُكُم به الله} والدين في الفاتحة: الحساب في البقرة وقوله: {إِياك نعبُدُ} مجمل شامل لجميع أنواع الشريعة الفروعية وقد فصلت في البقرة أبلغ تفصيل فذكر فيها فذكر فيها: الطهارة والحيض والصلاة والاستقبال وطهارة المكان والجماعة وصلاة الخوف وصلاة الجمع والعيد والزكاة بأنواعها كالنبات والمعادن والاعتكاف والصوم وأنواع الصدقات والبر والحج والعمرة والبيع والإجارة والميراث والوصية والوديعة والنكاح والصداق والطلاق والخلع والرجعة والإيلاء والعدة والرضاع والنفقات والقصاص والديات وقتال البغاة والردة والأشربة والجهاد والأطعمة والذبائح والأيمان والنذور والقضاء والشهادات والعتق فهذه أبواب الشريعة كلها مذكورة في هذه السورة وقوله: {وإِياكَ نستعين} شامل لعلم الأخلاق وقد ذكر منها في هذه السورة الجم الغفير من التوبة والصبر والشكر والرضى والتفويض والذكر والمراقبة والخوف وإلانة القول وقوله: {إهدنا الصراط المستقيم} إلى آخره تفصيله: ما وقع في السورة من ذكر طريق الأنبياء ومن حاد عنهم من النصارى ولهذا ذكر في الكعبة أنها قبلة إبراهيم فهي من صراط الذين أنعم عليهم وقد حاد عنها اليهود والنصارى معاً ولذلك قال في قصتها: {يَهدي مَن يشاء إِلى صراطٍ مُستَقيم} تنبيهاً على أنها الصراط الذي سألوا الهداية إليه ثم ذكر: {ولئِن أَتيت الذين أَوتوا الكتاب بكل آية ما تبعوا قبلتك} وهم المغضوب عليهم والضالون الذين حادوا عن طريقهم ثم أخبر بهداية الذين آمنوا إلى طريقهم ثم قال: {والله يهدي مَن يشاء إِلى صراطٍ مستقيم} فكانت هاتان الآيتان تفصيل إجمال {إِهدِنا الصِراطَ المُستقيم} إِلى آخر السورة وأيضاً قوله أول السورة: {هدىً للمُتقين} إِلى آخره في وصف الكتاب إخبار بأن الصراط الذي سألوا الهداية إليه هو: ما تضمنه الكتاب وإنما يكون هداية لمن اتصف بما ذكر من صفات المتقين ثم ذكر أحوال الكفرة ثم أحوال المنافقين وهم من اليهود وذلك تفصيل لمن حاد عن الصراط المستقيم ولم يهتد بالكتاب وكذلك قوله هنا: {قولوا آمنَّا باللَهِ وما أَنزَلَ إِلينا إِلى إِبراهيم وإِسماعيل وإِسحاق ويعقوب والأَسباط} فيه تفصيل النبيين المنعم عليهم وقال في آخرها: {لا نُفَرِقُ بينَ أحدٍ مِنهُم} تعريفاً بالمغضوب عليهم والضالين الذين فرقوا بين الأنبياء وذلك عقبها بقوله: {فإِن آمَنوا بمِثلِ ما آمنتُم بهِ فقد اهتدوا} أي: إلى الصراط المستقيم صراط المنعم عليهم كما اهتديتم فهذا ما ظهر لي والله أعلم بأسرار كتابه الوجه الثاني: أن الحديث والإجماع على تفسير المغضوب عليهم باليهود والضالين بالنصارى وقد ذكروا في سورة الفاتحة على حسب ترتيبهم في الزمان فعقب بسورة البقرة وجميع ما فيها من خطاب أهل الكتاب لليهود خاصة وما وقع فيها من ذكر الصارى لم يقع بذكر الخطاب
سورة آل عمران
ثم عقبت البقرة بسورة آل عمران وأكثر ما فيها من خطاب أهل الكتاب للنصارى فإن ثمانين آية من أولها نازلة في وقد نصارى نجران كما ورد في سبب نزولها وختمت بقوله: {وإِنَّ مِن أهلِ الكتاب لمن يؤمن بالله} وهي في النجاشي وأصحابه من مؤمني النصارى كما ورد به الحديث وهذا وجه بديع في ترتيب السورتين كأنه لما ذكر في الفاتحة الفريقين قص في كل سورة مما بعدها حال كل فريق على الترتيب الواقع فيها ولهذا كان صدر سورة النساء في ذكر اليهود وآخرها في ذكر النصارى الوجه الثالث: أن سورة البقرة أجمع سور القرآن للأحكام والأمثال ولهذا سميت في أثر: فسطاط القرآن الذي هو: المدينة الجامعة فناسب تقديمها على جميع سوره الوجه الرابع: أنها أطول سورة في القرآن وقد افتتح بالسبع الطوال فناسب البداءة بأطولها الوجه الخامس: أنها أول سورة نزلت بالمدينة فناسب البداءة بها فإن للأولية نوعاً من الأولوية الوجه السادس: أن سورة الفاتحة كما ختمت بالدعاء للمؤمنين بألا يسلك بهم طريق المغضوب عليهم والا الضالين إجمالاً ختمت سورة البقرة بالدعاء بألا يسلك بهم طريقهم في المؤاخذة بالخطأ والنسيان وحمل الإصر ومالا طاقة لهم به تفصيلاً وتضمن آخرها أيضاً الإشارة إلى طريق المغضوب عليهم والضالين بقوله: {لا نُفَرِقُ بينَ أَحدٍ مِنهُم} فتآخت السورتان وتشابهتا في المقطع وذلك من وجوه المناسبة في التتالي والتناسق وقد ورد في الحديث التأمين في آخر سورة البقرة كما هو مشروع في آخر الفاتحة فهذه ستة وجوه ظهرت لي ولله الحمد والمنة قد تقدم ما يؤخذ منه مناسبة وضعها قال الإمام: لما كانت هذه السورة قرينة سورة البقرة وكالملكة لها افتتحت بتقرير ما افتتحت به تلك وصرح في منطوق مطلعها بما طوى في مفهوم تلك وأقول: قد ظهر لي بحمد الله وجوه من المناسبات أحدها: مراعاة القاعدة التي قررتها من شرح كل سورة لإجمال ما في السورة قبلها وذلك هنا في عدة مواضع منها: ما أشار إليه الإمام فإن أول البقرة افتتح بوصف الكتاب بأنه لا ريب فيه وقال في آل عمران: {نزل عليك الكتاب بالحق مصدقاً لما بينَ يديه}: وذاك بسط وإطناب لنفي الريب عنه ومنها: أنه ذكر في البقرة إنزال الكتاب مجملاً وقسمه هنا إلى آيات محكمات ومتشابهات لا يعلم تأويلها إلا الله ومنها: أنه قال في البقرة: {واللَهُ يؤتي ملكه من يشاء} وقال هنا: {قُل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء وتعز من تشاء وتذل من تشاء بيدك الخير إنك على كل شيء قدير} فزاد إطناباً وتفصيلاً ومنها: أنه حذر من الربا في البقرة ولم يزد على لفظ الربا إيجازاً وزاد هنا قول )أضعافاً ومنها: أنه قال في البقرة: {وأَتموا الحج} وذلك إنما يدل على الوجوب إجمالاً وفصله هنا بقوله: {وللهِ على الناس حج البيت} وزاد: بيان شرط الوجوب بقوله: {ومَن كفرَ فإِن اللَهَ غنيٌ عَن العالمين} ومنها: أنه قال في البقرة في أهل الكتاب: {ثم توليتم إلا قليلاً منكم} فأجمل القليل وفصله هنا بقوله: {ليسوا سواء من أهل الكتاب أمة قائمة يتلون آيات الله آناء الليل وهم يسجدون ومنها: أنه قال في البقرة: {قُل أَتحاجوننا في الله وهوَ رَبَنا وربُكُم ولنا أَعمالنا ولكُم أَعمالكم ونحن له مخلصون} فدل بها على تفضيل هذه الأمة على اليهود تعريضاً لا تصريحاً وكذلك قوله: {وكذلِكَ جعلناكُم أُمةٌ وسطاً} في تفضيل هذه الأمة على سائر الأمم بلفظ فيه يسير إبهام وأتى في هذه بصريح البيان فقال: {كنتُم خيرَ أُمةٌ أُخرجَت للناس} فقوله: {كنتُم} أصرح في قدم ذلك من {جعلناكم} ثم وزاد وجه الخيرية بقوله: {تأمرونَ بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله} ومنها: أنه قال في البقرة: {ولَا تأَكلوا أَموالكُم بينكم بالباطل وتدلوا بها إلى الحكام} وبسط الوعيد هنا بقوله: {إنَّ الذينَ يَشترونَ بعهدِ الله وأَيمانهم ثمناً قَليلاً أُولئكَ لا خلاقَ لهُم في الآخرة} وصدره بقوله: {ومِن أَهلِ الكتاب من إن تأمنه بقنطار يؤده إِليك ومنهم من إن تأمنه بدينار لا يؤده إليك إلا ما دمت عليه قائماً ذلك بأنهم قالوا ليس علينا في الأميين سبيل} الوجه الثاني: أن بين هذه السورة وسورة البقرة اتحاداً وتلاحماً متأكداً لما تقدم من أن البقرة بمنزلة إزالة الشبهة ولهذا تكرر هنا ما يتعلق بالمقصود الذي هو بيان حقيقة الكتاب: من إنزال الكتاب وتصديقه للكتب قبله والهدى إلى الصراط المستقيم وتكررت هنا آية: {قولوا آمنا بالله وما أَنزل} بكمالها ولذلك أيضاً ذكر في هذه ما هو تال لما ذكر في تلك أو لازم في تلك أو لازم له فذكر هناك خلق الناس وذكر هنا تصويرهم في الأرحام وذكر هناك مبدأ خلق آدم وكذر هنا مبدأ خلق اولاده وألطف من ذلك: أنه افتتح البقرة بقصة آدم حيث خلقه من غير أب ولا أم وذكر في هذه نظيره في الخلق من غير أب وهو عيسى عليه السلام ولذلك ضرب له المثل بآدم واختصت البقرة بآدم لأنها أول السور وآدم أول في الوجود وسابق ولأنها الأصل وهذه كالفرع والتتمة لها فمختصة بالإعراب والبيان ولأنها خطاب لليهود الذين قالوا في مريم ما قالوا وأنكروا وجود ولد بلا أب ففوتحوا بقصة آدم لتثبيت في أذهانهم فلا تأتي قصة عيسى إلا وقد ذكر عندهم ما يشبهها من جنسها ولأن قصة عيسى قيست على قصة آدم في قوله: {كمثل آدم} الآية والمقيس عليه لا بد وأن يكون معلوماً لتتم الحجة بالقياس فكانت قصة آدم والسورة التي هي فيها جديرة بالتقدم ومن وجوه تلازم السورتين: أنه قال في البقرة في صفة النار: {أُعِدت للكافرينَ} ولم يقل في الجنة: أعدت للمتقين مع افتتاحها بذكر المتقين والكافرين معاً وقال ذلك في آخر آل عمران في قوله: {جنَةٌ عرضها السموات والأرض أعدت للمتقين} فكان السورتين بمنزلة سورة واحدة وبذلك يعرف أن تقديم آل عمران على النساء أنسب من تقديم النساء عليها وأمر آخر استقرأته وهو: أنه إذا وردت سورتان بينهما تلازم واتحاد فإن السورة الثانية تكون خاتمتها مناسبة لفاتحة الأولى للدلالة على الاتحاد وفي السورة المستقلة عما بعدها يكون آخر السورة نفسها مناسب لأولها وآخر آل عمران مناسب لأول البقرة فإنها افتتحت بذكر المتقين وأنهم المفلحون وختمت آل عمران بقوله: {واتقوا الله لعلكم تفلحون} وافتتحت القرة بقوله: {والذينَ يؤمنونَ بما أُنزلَ إِليكَ وما أُنزلَ من قبلك} وختمت آل عمران بقوله: {وإِنَ من أَهل الكتاب لمن يؤمن بالله وما أنزل إليكم وما أنزل إليهم} فلله الحمد على ما ألهم وقد ورد أنه لما نزلت: {من ذا الذي يقرض الله قرضاً حسناً} قال اليهود: يا محمد افتقر ربك فسأل القرض عباده فنزل قوله: {لقد سمِعَ الله قولَ الذينَ قالوا إِنَّ الله فقير ونحنُ أَغنياء} ووقع في البقرة حكاية عن إبراهيم: {ربنَّا وابعث فيهم رسولاً منهم يتلو عليهم آياتك} ونزل في هذه: {لقد من الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولاً من أَنفُسَهُم يتلو عليهم} وذلك أَيضاً من تلازم السورتين
سورة النساء
تقدمت وجوه مناسبتها وأقول: هذه السورة أيضاً شارحة لبقية مجملات سورة البقرة فمنها: أنه أجمل في البقرة قوله: {اعبدوا ربَكُم الذي خلَقَكُم والذينَ مِن قبلِكُم لعلَكُم تتقون} وزاد هنا: {حلَقَكُم مِن نفسٍ واحدة وخلقَ مِنها زوجها وبث منهما رجالاً كثيراً ونساءً} وانظر لما كانت آية التقوى في سورة البقرة غاية جعلها في أول هذه السورة التالية لها مبدأ ومنها: أنه أجمل في سورة البقرة: {أَسكُن أَنتَ وزوجك الجنَّة} وبين هنا أن زوجته خلقت منه في قوله {وخلقَ منها زوجها} ومنها: أنه أجمل في البقرة آية اليتامى وآية الوصية والميراث والوارث في قوله: {وعلى الوارث مثل ذلك} وفصل ذلك في هذه السورة أبلغ تفصيل وفصل هنا من الأنكحة ما أجمله هناك فإنه قال في البقرة: {ولأمة مؤمنةٌ خيرٌ من مشركة} فذكر نكاح الأمة إجمالاً وفصل هنا شروطه ومنها: أنه ذكر الصداق في البقرة مجملاً بقوله: {ولا يحلُ لكُم أَن تأَخذوا مما آتيتموهن شيئاً} وشرحه هنا مفصلاً ومنها: أنه ذكر هناك الخلع وذكر هنا أسبابه ودواعيه من النشوز وما يترتب عليه وبعث الحكمين ومنها: أنه فصل هنا من أحكام المجاهدين وتفضيلهم درجات والهجرة ما وقع هناك مجملاً أو مرموزاً وفيها من الاعتلاق بسورة الفاتحة: تفسير: {الذينَ أَنعمتَ عليهم} بقوله: {من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين} وأما وجه اعتلاقها بآل عمران فمن وجوه: منها: أن آل عمران ختمت بالأمر بالتقوى وافتتحت هذه السورة به وهذا من أكبر وجوه المناسبات في ترتيب السور وهو نوع من البديع يسمى: تشابه الأطراف ومنها أن سورة آل عمران ذكر فيها قصة أحد مستوفاة وذكر في هذه السورة ذيلها وهو قوله: {فما لكُم في المنافقين فئتين} فإنها نزلت لما اختلف الصحابة فيمن رجع من المنافقين من غزوة أحد كما في الحديث ومنها: أن في آل عمران ذكرت الغزوة التي بعد أحد بقوله: {الذين استجابوا لله والرسول من بعد ما أَصابهُم القرح} وأشير إليها هنا بقوله: {ولا تهنوا في ابتغاء القوم إن تكونوا تألمون فإِنَهُم يأَلمونَ كما تأَلمونَ} وبهذين الوجين عرف أن تأخير النساء عن آل عمران أنسب من تقديمها عليها في مصحف ابن مسعود لأن المذكور هنا ذيل ما في آل عمران ولاحقه وتابعه فكانت بالتأخير أنسب ومنها: أنه ذكر في آل عمران قصة خلق عيسى بلا أب وأقيمت له الحجة بآدم وفي ذلك تبرئة لأمه خلاقاً لما زعم اليهود وتقرير لعبوديته خلاقاً لما ادعته النصارى وذكر في هذه السورة الرد على الفريقين معاً: فرد على اليهود بقوله: {وقولِهِم علىَ مريم بهتاناً عظيماً} وعلى النصارى بقوله: {لا تغلو في دينكُم ولا تقولوا على الله إِلا الحق إِنما المسيح عيسى بن مريم رسول الله وكلمته أَلقاها إِلى مريم ورح منه} إلى قوله: {لن يستنكف المسيح أَن يكون عبداً لله} ومنها: أنه لما ذكر في آل عمران: {إِني متوفيك ورافعك إِلي} رد هنا على من زعم قتله بقوله: {وقولِهم إِنَّا قتلنا المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم وإِن الذين اختلفوا فيه لفي شك منه مالهم به من علم إِلا اتباع الظن وما قتلوه يقيناً بل رفعه الله إِليه} ومنها: أنه لما قال في آل عمران في المتشابه: {والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا} قال هنا: {لكن الراسخون في العلم منهم والمؤمنون يؤمنون بما أُنزل إِليك} ومنها أنه لما قال في آل عمران: {زُينَ للناسِ حُبَّ الشهوات من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسومة والأنعام والحرث ذلك متاع الحياة الدنيا} فصل هذه الأشياء في السورة التي بعدها على نسق ما وقعت في الآية ليعلم ما أحل الله من ذلك فيقتصر عليه وما حرم فلا يتعدى إليه لميل النفس إليه فقد جاء في هذه السورة أحكام النساء ومباحاتها للإبتداء بها في الآية السابقة في آل عمران ولم يحتج إلى تفصيل البنين لأن تحريم البنين لازم لا يترك منه شيء كما يترك من النساء فليس فيهم مباح فيحتاج إلى بيانه ومع ذلك أشير إليهم في قوله: {وليخشَ الذين لو تركوا من خلفهم ذرية ضعافاً خافوا عليهم فليتقوا الله وليقولوا قولاً سديداً} ثم فصل في سورة المائدة أحكام السراق وقطاع الطريق لتعلقهم بالذهب والفضة الواقعين في الآية بعد النساء والبنين ووقع في سورة النساء إشارة إلى ذلك في قسمة المواريث ثم فصل في سورة الأنعام أمر الحيوان والحرث وهو بقية المذكور في آية آل عمران فانظر إلى هذه اللطيفة التي من الله بإلهامها! تم ظهر لي أن سورة النساء فصل فيها ذكر البنين أيضاً لأنه لما أخبر بحب الناس لهم وكان من ذلك إيثارهم على البنات في الميراث وتخصيصهم به دونهن تولى قسمة المواريث بنفسه فقال: {يوصيكم اللَهُ في أَولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين} وقال: {للرجال نصيب مما ترك الوالدان والأقربون وللنساء نصيب} فرد على ما كانوا يصنعون من تخصيص البنين بالميراث لحبهم لهم فكان ذلك تفصيلاً لما يحل ويحرم من إيثار البنين اللازم عن الحب وفي ضمن ذلك تفصيل لما يحل للذكر أخذه من الذهب والفضة وما يحرم ومن الوجوه المناسبة لتقدم آل عمران على النساء: اشتراكها مع البقرة في الافتتاح بإنزال الكتاب وفي الافتتاح ب {الم} وسائر السور المفتتحة بالحروف المقطعة كلها مقترنة كيونس وتواليها ومريم وطه والطواسين و {الم} العنكبوت وتواليها والحواميم وفي ذلك أول دليل على اعتبار المناسبة في الترتيب بأوائل السور ولم يفرق بين السورتين من ذلك بما ليس مبدوءاً به سوى بين الأعراف ويونس اجتهاداً لا توقيفاً والفصل بالزمر بين [حم] غافر و [ص] وسيأتي (اقرءوا الزهراوين: البقرة وآل عمران) فكان افتتاح القرآن بهما نظير اختتامه بسورتي الفلق والناس المشتركتين في التسمية بالمعوذتين
سورة المائدة
وقد تقدم وجه في مناسبتها وأقول: هذه السورة أيضاً شارحة لبقية مجملات سورة البقرة فإِن آية الأطعمة والذبائح فيها أبسط منها في البقرة وكذا ما أخرجه الكفار تبعاً لآبائهم في البقرة موجز وفي هذه السورة مطنب أبلغ إطناب في قوله: {ما جعل اللَهُ مِن بحيرة ولا سائبة} وفي البقرة ذكر القصاص في القتلى وهنا ذكر أول من سن القتل والسبب الذي لأجله وقع وقال: {من أجل ذلك كتبنا على بني إسرائيل أنه من قتل نفساً بغير نفس أو فساد في الأَرض فكأَنما قتل الناس جميعاً ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعاً}وذلك أبسط من قوله في البقرة: {ولَكُم في القِصاص حياة} وفي البقرة: {وإِذ قلنا ادخلوا هذه القرية} وذكر في قصتها هنا: {فسوفَ يأَتي اللَهُ بقومٍ يحبهم ويحبونه} وفي البقرة قال في الخمر والميسر: {فيهما إثم كبير ومنافع للناس وإِثمهما أَكبر من نفعهما} وزاد في هذه السورة ذمها وصرح بتحريمها وفيها من الاعتلاق بسورة الفاتحة: بيان المغضوب عليهم والضالين في قوله: {قل هل أَنبئكم بشر من ذلك مثوبة عند الله من لعنه الله وغضب عليه} وقوله: {قد ضلوا من قبل وأَضلوا كثيرا وضلوا عن سواء السبيل} وأما اعتلاقها بسورة النساء فقد ظهر لي فيه وجه بديع جداً وذلك أن سورة النساء اشتملت على عدة عقود صريحاً وضمنا فالصريح: عقود الأنكحة وعقد الصداق وعقد الحلف في قوله: {والذين عقدت أيمانكم فآتوهم نصيبهم} وعقد الأيمان في هذه الآية وبعد ذلك عقد المعاهدة والأمان في قوله: {إِلا الذينَ يصلون إِلى قوم بينَكُم وبينَهُم ميثاق} وقوله: {وإِن كانَ مِن قومٍ بينكُم وبينهم ميثاق فدية} والضمنى: عقد الوصية والوديعة والوكالة والعارية والإجارة وغير ذلك من الداخل في عموم قوله: {إِن اللَهُ يأَمُركُم أَن تؤدوا الأمانات إِلى أَهلها} فناسب أن يعقب بسورة مفتتحة بالأمر بالوفاء بالعقود فكأنه قيل في المائدة: {يا أَيها الذين آمنوا أَوفوا بالعقود} التي فرغ من ذكرها في السورة التي تمت فكان ذلك غاية في التلاحم والتناسب والارتباط ووجه آخر في تقديم سورة النساء وتأخير سورة المائدة وهو: أن تلك أولها: {يا أَيها الناس} وفيها الخطاب بذلك في مواضع وهو أشبه بخطاب المكي وتقديم العام وشبه المكي أنسب ثم إن هاتين السورتين النساء والمائدة في التقديم والاتحاد نظير البقرة وآل عمران فتلكما في تقرير الأصول من الوحدانية والكتاب والنبوة وهاتان في تقرير الفروع الحكمية وقد ختمت المائدة بصفة القدرة كما افتتحت النساء بذلك وافتتحت النساء ببدء الخلق وختمت المائدة بالمنتهى من البعث والجزاء فكأنما سورة واحدة اشتملت على الأحكام من المبتدأ إلى المنتهى ولما وقع في سورة النساء: {إِنا أَنزلنا إِليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس} الآيات فكانت نازلة في قصة سارق سرق درعاً فصل في سورة المائدة أحكام السراق والخائنين ولما ذكر في سورة النساء أنه أنزل إليك الكتاب لتحكم بين الناس ذكر في سورة المائدة آيات في الحكم بما أنزل الله حتى بين الكفار وكرر قوله: {ومن لم يحكم بما أنزل الله} فانظر إلى هذه السور الأربع المدنيات وحسن ترتيبها وتلاحمها وتناسقها وتلازمها وقد افتتحت بالبقرة التي هي أول ما نزل بالمدينة وختمت بالمائدة التي هي آخر ما نزل بها كما في حديث الترمذي قال بعضهم: مناسبة هذه السورة لآخر المائدة: أنها افتتحت بالحمد وتلك ختمت بفصل القضاء وهما متلازمتان كما قال: {وقضي بينهم بالحق وقيل الحمد لله رب العالمين} وقد ظهر لي بفضل الله مع ما قدمت الإشارة إليه في آية {زين للناس} أنه لما ذكر في آخر المائدة {للَهِ مُلكُ السموات والأَرض وما فيهن} على سبيل الإجمال افتتح هذه السورة بشرح ذلك وتفصيله فبدأ بذكر: أنه خلق السموات والأرض وضم إليه أنه جعل الظلمات والنور وهو بعض ما تضمنه قوله: {وما فيهن} في آخر المائدة
سورة الأنعام
وضمن قوله: {الحمد لله} أول الأنعام أن له ملك جميع المحامد وهو من بسط: {للَهِ مُلكُ السمواتِ والأَرض وما فيهن} في آخر المائدة: ثم ذكر: أنه خلق النوع الإنساني وقضى له أجلاً مسمى وجعل له أجلاً آخر للبعث وأنه منشئ القرون قرنا بعد قرن ثم قال: {قل لمن ما في السموات والأَرض} فأثبت له ملك جميع المنظورات ثم قال: {قل لمن ما في السموات والأرض} فأثبت له ملك جميع المنظورات ثم قال: {وله ما سكن في الليل والنهار} فأثبت له ملك جميع المظروفات لظرفي الزمان ثم ذكر أنه خلق سائر الحيوان من الدواب والطير ثم خلق النوم واليقظة والموت والحياة ثم أكثر في أثناء السورة من ذكر الخلق والإنشاء لما فيهن من النيرين والنجوم وفلق الإصباح وخلق الحب والنوى وإنزال الماء وإخراج النبات والثمار بأنواعها وإنشاء جنات معروشات وغير معروشات والأنعام ومنها حمولة وفرش وكل ذلك تفصيل لملكه ما فيهن: وهذه مناسبة جليلة ثم لما كان المقصود من هذه السورة بيان الخلق والملك أكثر فيها من ذكر الرب الذي هو بمعنى المالك والخالق والمنشئ واقتصر فيها على ما يتعلق بذلك من بدء الخلق الإنساني والملكوتي والملكي والشيطاني والحيواني والنباتي وما تضمنته من الوصايا فكلها متعلق بالقوام والمعاش الدنيوي ثم أشار إلى أشراط الساعة فقد جمعت هذه السورة جميع المخلوقات بأسرها وما يتعلق بها وما يرجع إليها فظهر بذلك مناسبة افتتاح السور المكية بها وتقديمها على ما تقدم نزوله منها وهي في جمعها الأصول والعلوم والمصالح الدنيوية نظير صورة البقرة في جمعها العلوم والمصالح الدينية ما ذكر فيها من العبادات المحضة فعلى سبيل الإيجاز والإيماء كنظير ما وقع في البقرة من علوم بدء الخلق ونحوه فإنه على سبيل الاختصار والإشارة فإن قلت: فلم لا أفتتح القرآن بهذه السورة مقدمة على سورة البقرة لأن بدء الخلق مقدم على الأحكام والتعبدات قلت: للإشارة إلى أن مصالح الدين والآخرة مقدمة على مصالح المعاش والدنيا وأن المقصود إنما هو العبادة فقدم ما هو الأهم في نظر الشرع ولأن علم بدء الخلق كالفضلة وعلوم الأحكام والتكاليف متعين على كل واحد فلذلك لا ينبغي النظر في علم بدء الخلق وما جرى مجراه من التواريخ إلا بعد النظر في علم الأحكام وإتقانه ثم ظهر لي بحمد الله وجه آخر أتقن مما تقدم وهو أنه لما ذكر في سورة المائدة {يا أَيُها الذينَ آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم ولا تعتدوا} إلى آخره فأخبر عن الكفار أنهم حرموا أشياء مما رزقهم الله افتراء عليه وكان القصد بذلك تحذير المؤمنين أن يحرموا شيئاً مما أحل الله فيشابهوا بذلك الكفار في صنيعهم وكان ذكر ذلك على سبيل الإيجاز ساق هذه السورة لبيان ما حرمه الكفار في صنيعهم فأتى به على الوجه الأبين والنمط الأكمل ثم جادلهم فيه وأقام الدلائل على بطلانه وعارضهم وناقضهم إلى غير ذلك مما اشتملت عليه القصة فكانت هذه السورة شرحاً لما تضمنته المائدة من ذلك على سبيل الإجمال وتفصيلاً وبسطاً وإتماماً وإطناباً وافتتحت بذكر الخلق والملك لأن الخالق والمالك هو الذي له التصرف في ملكه ومخلوقاته إباحة ومنعاً وتحريماً وتحليلاً فيجب ألا يتعدى عليه بالتصرف في ملكه وكانت هذه السورة بأسرها متعلقة بالفاتحة من وجه كونها شارحة لإجمال قوله: {ربِ العالمين} وللبقرة من حيث شرحها لإجمال قوله: {الذي خلقَكُم والذين من قبلكم} وقوله: {هو الذي خلقَ لكُم ما في الأَرض جميعاً} وبآل عمران من جهة تفصيلها لقوله: {والأنعام والحرث} وقوله: {كُلُ نفسٍ ذائقة الموت} الآية وبالنساء من جهة ما فيها من بدء الخلق والتقبيح لما حرموه على أزواجهم وقتل البنات بالوأد وبالمائدة من حيث اشتمالها على الأطعمة بأنواعها وفي افتتاح السور المكية بها وجهان آخران من المناسبة الأول: افتتاحها بالحمد والثاني: مشابهتها للبقرة المفتتح بها السور المدنية من حيث أن كلاً منهما نزل مشيعاً ففي حديث أحمد: (البقرة سنام القرآن وذروته نزل مع كل آية منها ثمانون ملكاً) وروى الطبراني وغيره من طرق: (أن الأنعام شيعها سبعون ألف ملك) وفي رواية (خمسمائة ملك) ووجه آخر وهو: أن كل ربع من القرآن افتتح بسورة أولها الحمد وهذه للربع الثاني والكهف للربع الثالث وسبأ وفاطر للربع الرابع وجميع هذه الوجوه التي استنبطتها من المناسبات بالنسبة للقرآن كنقطة من بحر ولما كانت هذه السورة لبيان بدء الخلق ذكر فيها ما وقع عند بدء الخلق وهو قوله: {كتب ربكم على نفسه الرحمة} ففي الصحيح: (لما فرغ الله من الخلق وقضى القضية كتب كتاباً عنده فوق العرش: إن رحمتي سبقت غضبي)