الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
.مطلب المراد بالمغضوب عليهم والضالين، وحكم آمين وعلوم الفاتحة: ومن خصّ اليهود بالغضب والنصارى بالضلال في هذه الآية مستدلا ببعض الآيات القرآنية كقوله تعالى: {مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ} [الآية: 26] من سورة المائدة وقوله تعالى: {وَلا تَتَّبِعُوا أَهْواءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا} [الآية: 80] منها أيضا لم يصب الهدف، لأن الغضب والضلال وردا في القرآن بحق جميع الكفار على العموم فلم يخص بها اليهود والنصارى قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا ضَلالًا بَعِيدًا} [الآية: 166] من النساء وسياق الآية ينافي ذلك الإختصاص، لأنها عامة والعبرة لعموم اللفظ عند عدم المخصص ولا مخصّص هنا.واعلم أن كلمة آمين ليست من الفاتحة كما قدمناه في الخاتمة وانما يسن قراءتها بعدها بسكتة خفيفة لمواظبة النبي ومن بعده من الأصحاب والعلماء عليها حتى اليوم ومعناها أللهم استجب، وقد جاء فيما رواه البخاري أن الإمام إذا قرأ {غير المغضوب عليهم ولا الضالين} فقولوا آمين فإن الملائكة تقول آمين فمن وافق تأمينه تأمين الملائكة غفر له ما تقدم من ذنبه وفيها لغتان المد والقصر ويكون المدّ بإشباع الهمزة وهو اسم فعل بمعنى استجب، قال ابن عباس سألت رسول اللّه عن معنى آمين فقال:أفعل وقال عليه الصلاة والسلام: لقنني جبريل آمين عند فراغي من قراءة فاتحة الكتاب وقال: إنه كالختم على الكتاب.الحكم الشرعي:سنّية قراءتها بعد الفاتحة في الصلاة واسماع نفسه بها وقراءتها بعدها في الدعاء أيضا وعند مقطعات الأدعية لما ثبت أن النبي صلى اللّه عليه وسلم كان إذا دعا أمّن الأصحاب على دعائه.وهذه السورة لا ناسخ ولا منسوخ فيها ولا يوجد سورة ختمت بما ختمت به، وليعلم أن هذه السورة اشتملت على أربعة أنواع من العلوم:الأول علم الأصول ومعاقد معرفة اللّه تعالى وصفاته وإليه الاشارة بقوله: {رَبِّ الْعالَمِينَ} ومعرفة النبوات وهي المراد بقوله: {أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} ومعرفة المعاد المؤمى إليه بقوله: {مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ}.الثاني علم الفروع وهو المعين بقوله: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} وأسسه العبادات وما يتفرع عنها من المعاملات.الثالث علم الكمال والأخلاق ومن إليه الإيعاز بقوله: {إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ} وفيه الوصول إلى الحضرة الصمدانية وبلوغ المراتب العلية: {وَما يُلَقَّاها إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَما يُلَقَّاها إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} [الآية: 35] من سورة فصلت.الرابع علم القصص والأخبار عن الأمم السعيدة والشقية السالفة وإليه الالماع بقوله: {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ} وفيها علوم أخرى لا محل لبسطها هنا وفقنا اللّه للصواب وألهمنا حب أولي الألباب وجعلنا منهم آمين.هذا واللّه أعلم، وأستغفر اللّه ولا حول ولا قوة إلا باللّه العلي العظيم وصلى اللّه على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. اهـ. .فصل في الوقف والابتداء في آيات السورة الكريمة: .قال زكريا الأنصاري: سورة الفاتحة مكية مدنية؛ لأنها نزلت مرتين مرة بمكة ومرة بالمدينة والوقف على آخر التعوذ تام وان لم يكن من القرآن لأنا مأمورون به عند القراءة وعلى البسملة تام بل أتم وتقديره ابتدائي بسم الله وأبتدئ بسم الله وعلى الحمد غير جائز لأنه لا يفيد وقس به ما يشبه وعلى الله قبيح للفصل بين النعت والمنعوت وعلى رب غير جائز لما مر وللفصل بين المتضايفين الذين هما كشيء واحد العالمين صالح لآنه رأس آية وليس حسنا للفصل بين المتعاطفين نستعين تام المستقيم جائز وليس حسنا وان كان آخر آية لآن ما بعده مجرور نعتا أو بدلا أو منصوب حالا أو استثناء وكل واحد منهما متعلق به وقال أبو عمرو حسن وليس بتام ولا كاف سواء جر ما بعده أم نصب {ولا الضالين} تام آمين ليست من القرآن والمختار فصلها عما قبلها وجوز وصلها به ومعناها استجب وحركت النون وان كان حقها السكون الذي هو الأصل في المبني لألتقاء الساكنين ولم تكسر لكسرة الميم ومجيء الياء الساكنة قبلها واختير الفتح لأنه أخف الحركات وتشبيها له بليس وكيف. اهـ..قال أحمد عبد الكريم الأشموني: سورة الفاتحة مكية مدنية لأنها نزلت مرتين مرة بمكة حين فرضت الصلاة ومرة بالمدينة حين حولت القبلة وهي سبع آيات إجماعًا لكن عد بعضهم البسملة منها والسابعة صراط الذين إلى آخرها وإن لم تكن منها فالسابعة غير المغضوب إلى آخرها وكلمها مع البسملة تسع وعشرون كلمة وبغيرها خمس وعشرون كلمة وحروفها بالبسملة وبقراءة ملك بغير ألف مائة وأحد وأربعون حرفًا قاله الأسنوي على أنَّ ما حذف رسمًا لا يحسب لأنَّ الكلمة تزيد حروفها في اللفظ دون الخط وبيان ذلك أن الحروف الملفوظ بها ولو في حالة كألفات الوصل وهي بها مائة وسبعة وأربعون حرفًا وقد اتفق علماء الرسم على حذف ست ألفات ألف اسم من بسم وألف بعد لام الجلالة مرتين وبعد ميم الرحمن مرتين وبعد عين العالمين والحق الذي لا محيص عنه اعتبار اللفظ وعليه فهل تعتبر ألفات الوصل نظرًا إلى أنها قد يتلفظ بها في حالة الابتداء أو لأنها محذوفة من اللفظ غالبًا كل محتمل والأول أوجه فتحسب مائة وسبعة وأربعين حرفًا غير شداتها الأربعة عشر وفيها أربعة وقوف تامة على أنَّ البسملة آية تامة منها لا تعلق لها بما بعدها لأنها جملة من مبتدأ وخبر أي ابتدائي بسم الله أو في محل نصب وعلى كل تقدير هو تام قال المازري في شرح التلقين وإذا كانت قرآنًا فهلاَّ كفر الشافعي مالكًا وأبا حنيفة في مخالفتهما له في ذلك كما يكفر هو وغيره من خالف في كون {الحمد لله رب العالمين} قرآنًا قيل لم يثبتها الشافعي قرآنًا مثل ما أثبت غيرها بل أثبتها حكمًا وعملًا لأدلة اقتضت ذلك عنده ومعنى حكمًا أنَّ الصلاة لا تصح إلاَّ بها فهي آية حكمًا لا قطعًا واختلف هل ثبوت البسملة قرآنًا بالقطع أو بالظن الأصح أن ثبوتها بالظن حتى يكفي فيها أخبار الآحاد وتعلق الأحكام مظنون ولا يحكم بكونها قرآنًا إلاَّ بالنقل المتواتر قطعًا ويقينًا بل ولا نكفر بيقيني لم يصحبه تواتر ولما لم ينقلوا إلينا كون البسملة قرآنا كما نقلوا غيرها ولا ظهر ذلك منهم كما ظهر في غيرها من الآي وجب القطع بأنها ليست من الفاتحة ولم يقل أحد من السلف أنَّ البسملة آية من كل سورة إلاَّ الشافعي وقد أثبتها نصف القراءة السبعة ونصفهم لم يثبتها والمصحح للقسمة أنَّ لنافع راويين أثبتها أحدهما والآخر لم يثبتها وقوة الشبهة بين الفريقين منعت التكفير من الجانبين اهـ وفيها ثلاثة وعشرون وقفًا أربعة تامة وستة جائزة يحسن الوقف عليها ولا يحسن الابتداء بما بعدها لأنَّ التعلق فيها من جهة اللفظ والوقف حسن إذ الابتداء لا يكون إلاَّ مستقلًا بالمعنى المقصود وثلاثة عشر يقبح الوقف عليها والابتداء بما بعدها فالتامة أربعة البسملة والدين ونستعين والضالين على عد أهل الكوفة وثلاثة على عد أهل المدينة والبصرة هو الدين ونستعين والضالين ومن قوله اهدنا إلى آخرها سؤال من العبد لمولاه متصل بعضه ببعض فلا يقطع لشدة تعلق بعضه ببعض والجائزة {الحمد لله} و{العالمين} و{الرحيم} و{إياك نعبد} و{المستقيم} و{أنعمت عليهم} لكونه رأس آية وإنما جاز الوقف عليها على وجه التسامح ولا ينبغي الوقف على الأخير سواء نصب غير بدلًا أو نعتًا أو حالًا أو على الاستثناء قال أبو العلاء الهمداني ومن قرأ غير الرفع خبر مبتدأ محذوف حسن الابتداء به وهي قراءة شاذة والثلاثة عشر التي يقبح الوقف عليها والابتداء بما بعدها {الحمد} و{رب} و{يوم} و{إياك} فيهما و{اهدنا} و{الصراط} و{الذين} و{غير} و{المغضوب} و{عليهم} الثاني ولا شك أنَّ الواقف على تلك الوقوف أحق أن يوسم بالجهل كما لا يخفى وبيان قبحها يطول. اهـ..فصل في ذكر قراءات السورة كاملة: .قال ابن جني: سورة فاتحة الكتاب:قراءة أهل البادية: {الْحَمْدُ لُله} مضمومة الدال واللام، ورواها لي بعض أصحابنا قراءة لإبراهيم بن أبي عبلة: {الحمدِ لِله} مكسورتان، ورواها أيضًا لي قراءة لزيد بن علي رضي الله عنهما والحسن البصري رحمه لله.وكلاهما شاذ في القياس والاستعمال؛ إلا أن من وراء ذلك ما أذكره لك؛ وهو أن هذا اللفظ كثر في كلامهم، وشاع استعماله، وهم لِمَا كثر من استعمالهم أشد تغييرًا، كما جاء عنهم لذلك: لم يَكُ، ولا أَدْرِ، ولم أُبَلْ، وأَيْشٍ تقول، وجا يجي، وسا يسو، بحذف همزتيهما.فلما اطرد هذا ونحوه لكثرة استعماله أَتبعوا أحد الصوتين الآخر، وشبهوهما بالجزء الواحد وإن كانا جملة من مبتدأ وخبر؛ فصارت: {الْحَمْدُ لُله} كعُنُق وطُنُب، و: {الْحَمْدِ لِله} كإِبِل وإِطِل.إلا أن: {الْحَمْدُ لُله} بضم الحرفين أسهل من: {الْحَمْدِ لِله} بكسرهما من موضعين:أحدهما: أنه إذا كان إِتْبَاعًا فإن أقيس الإِتْبَاع أن يكون الثاني تابعًا للأول؛ وذلك أنه جارٍ مجرى السبب والمسبَّب، وينبغي أن يكون السبب أسبق رتبة من المسبب، فتكون ضمة اللام تابعة لضمة الدال كما نقول: مُدُّ وشُدُّ، وشَمَّ وفِرِّ، فتتبع الثاني الأول، فهذا أقيس من إتباعك الأول للثاني في اقْتُل ادْخُل، ومع هذا فإن الإتباع- أعني: اقتل وبابه- لا يكاد يعتد؛ وذلك أن الوصل هو الذي عليه عقد الكلام واستمراره، وفيه تصح وجوهه ومقاييسه، وأنت إذا وصلتَ سَقَطَتِ الهمزة، فقلت: فاقتل زيدًا، فادخل يا هذا، وليست كذلك ضمة الدال في مُدُّ، ولا فتحة الميم في شَمَّ، ولا كسرة الراء في فِرِّ؛ لأنهن ثوابت في الوصل الذي عليه معقد القول، وإليه مفزع القياس والصوب، فكما أن مُدُّ أقيس إتباعًا من: اقتل؛ لما ذكرنا من الوصل المرجوع إليه المأخوذ بأحكامه، ولأن السبب أيضًا أسبق رتبة من المسبب، فكذلك: {الحمدُ لُله} أسهل مأخذًا من: {الحمدِ لِله}.والآخر: أن ضمة الدال في: {الحمدُ} إعراب، وكسرة اللام في: {لِله} بناء، وحرمة الإعراب أقوى من حرمة البناء، فإذا قلت و: {الحمدُ لُله} فقريب أن يغلب الأقوى الأضعف، وإذا قلت: {الحمدِ لِله} جنى البناء الأضعف على الإعراب الأقوى، مضافًا ذلك إلى حكم تغيير الآخِر الأول، وإلى كثرة باب عُنُق وطُنُب في قلة باب إِبِل إِطِل فاعرفه، ومثل هذا في إتباع الإعراب البناء ما حكاه صاحب الكتاب في قول بعضهم:كسر الميم لكسرة الهمزة، ثم من بعد ذلك أنك تفيد من هذا الموضع ما تنتفع به في موضع آخر؛ وهو أن قولك: {الحمدُ لُله} جملة، وقد شبه جزآها معًا بالجزء الواحد- وهو مد أو عنق- فيمن أسكن ثم أتبع، أو السُّلُطان أو القُرُفْصاء أو الْمُنْتُن، دل ذلك على شدة اتصال المبتدأ بخبره؛ لأنه لو لم يكن الأمر عندهم كذلك لما أجروا هذين الجزأين مجرى الجزء الواحد، وقد نَحَوْا هذا الموضع الذي ذكرته لك في نحو قولهم في تأبط شرًّا: تأَبطي، وقولهم في رجل اسمه زيد أخوك: زيدي، فحذفوا الجزء الثاني، كما يحذفون الجزء الثاني من المركب في نحو قولهم في حضرموت: حضرمي، وفي رام هرمز: رامي، وكما يقولون أيضًا في طلحة: طَلْحي، فاعرف ذلك دليلًا على شدة اتصال المبتدأ بخبره، وما علمت أحدًا من أصحابنا نَحَا هذا الموضع على وضوحه لك، وقوة دلالته على ما أثبته في نفسك.ومثله أيضًا في الدلالة على هذا المعنى قراءة ابن كثير: {فَإِذَا هِيَ تلَقَّفُ} ألا ترى إلى تسكين حرف المضارع من: {تَلَقَّف}؟ فلولا شدة اتصاله بما قبله للزم منه تصور الابتداء بالساكن، لا بل صار في اللفظ قولك: {هِيَتَّ} كالجزء الواحد الذي هو خِدَبَّ وهِجَفَّ وهِقَبَّ، وهذا أقوى دلالة على قوة اتصال المبتدأ بخبره من الذي أريناه من قبله لما فيه إن لم تنعم به من وجوب تصور الابتداء بالساكن.
|