الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
.من لطائف وفوائد المفسرين: .من لطائف القشيري في الآيتين: قال عليه الرحمة:{وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (8) وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بِمَا كَانُوا بِآَيَاتِنَا يَظْلِمُونَ (9)}يَزِنُ أعمالهم بميزان الإخلاص، وأحوالهم بميزان الصدق. فَمَعنْ كانت أعمالُهم بالرياء مصحوبة لم يَقْبَل أعمالَهم، ومَن كانت أحوالُهم بالإعجاب مشوبةً لم يرفع أحوالهم. اهـ..من فوائد ابن عاشور في الآيتين: قال رحمه الله:{وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (8)}عطف جملة: {والوزن يومئذٍ الحق} على جملة {فلنقصن} [الأعراف: 7]، لما تضمّنته المعطوف عليها من العلم بحسنات النّاس وسيّئاتهم، فلا جرم أشعرت بأنّ مظهرَ ذلك العلم وأثَرَه هو الثّواب والعقاب، وتفاوتُ درجات العاملين ودرَكاتهم تفاوتًا لا يُظلم العامل فيه مثقال ذرّة، ولا يفوتُ ما يستحقّه إلاّ أن يتفضّل الله على أحدٍ برفع درجة أو مغفرة زلة لأجل سلامة قلب أو شفاعة أو نحو ذلك، ممّا الله أعلم به مِن عبادِه، فلذلك عقبت جملة: {فلنقصن} [الأعراف: 7] بجملة: {والوزن يومئذٍ الحق} فكأنّه قيل: فلنقصنّ عليهم بعلم ولنُجَازِيَنَّهم على أعمالهم جزاء لا غبن فيه على أحد.والتّنوين في قوله: {يومئذٍ} عوض عن مضاف إليه دلّ عليه: {فلنسألن الذين أرْسِلَ إليهم} [الأعراف: 6] وما عطف عليه بالواو وبالفاء، والتّقدير: يومَ إذ نسألهم ونسأل رُسلَهم ونقُص ذنوبهم عليهم.والوزن حقيقته معادلة جسم بآخر لمعرفة ثقل أحد الجسمين أو كليهما في تعادلهما أو تفاوتهما في المقدار، وإذ قد كان تساوي الجسمين الموزونين نادر الحصول تعيَّن جُعلت أجسام أخرى يُعرف بها مقدار التّفاوت، فلابد من آلة توضع فيها الأشياء، وتسمّى الميزان ولها أشكال مختلفة شكلًا واتساعًا.والأجسام التي تجعل لتعيين المقادير تُسمّى مَوازين، وَاحِدُها ميزان أيضًا وتسمّى أوزانًا واحدها وَزْن، ويطلق الوزن على معرفة مقدار حال في فضل ونحوِه قال تعالى: {فلا نقيم لهم يوم القيامة وزنًا} [الكهف: 105] وفي حديث أبي هريرة، في الصحيحين: «إنَّه ليؤتى بالعظيم السمين يومَ القيامة لا يَزن عند الله جَناح بعوضة».ويستعار استعارة تمثيلية للتدبير في أحوال، كقول الراعي:فالوزن في هذه الآية يراد به تعيين مقادير مَا تستحقّه الأعمال من الثّواب والعقاب تعيينًا لا إجحاف فيه، كتعيين الميزان على حسب ما عيّن الله من ثواب أو عقاب على الأعمال، وذلك ممّا يعلمه الله تعالى: ككون العمل الصّالح لله وكونِه ريَاء، وككون الجهاد لإعلاء كلمة الله أو كونِه لمجرّد الطمع في الغنيمة، فيكون الجزاء على قدر العمل، فالوزن استعارة، ويجوز أن يراد به الحقيقة فقد قيل توضع الصحائف التي كتبتها الملائكة للأعمال في شيء خلقه الله ليجعله الله يوم القيامة، ينطق أو يتكيّف بكيفيّةٍ فيدلّ على مقادير الأعمال لأربابها، وذلك ممكن، وقد وردت أخبار في صفة هذا الميزان لم يصحّ شيء منها.والعِبارات في مثل هذا المقام قاصرة عن وصف الواقعات، لأنّها من خوارق المتعارف، فلا تعدُو العباراتُ فيها تقريبَ الحقائق وتمثيلها بأقصى ما تعارفه أهل اللّغة، فما جاء منها بصيغة المصدر غيرَ متعلّق بفعل يقتضي آلة فحمْلُه على المجاز المشهور كقوله تعالى: {فلا نقيم لهم يوم القيامة وزنًا} [الكهف: 105].وما جاء منها على صيغة الاسماء فهو محتمل مثل ما هنا لقوله: {فمن ثقلت موازينه} إلخ ومثل قول النّبي صلى الله عليه وسلم «كلمتان خفيفتان على اللّسان ثقيلتان في الميزان» وما تعلّق بفعل مقتض آلة فحمله على التمثيل أو على مخلوق من أمور الآخرة مثل قوله تعالى: {ونضع الموازين القسط ليوم القيامة} [الأنبياء: 47].وقد ورد في السنّة ذكر الميزان في حديث البطاقة التي فيها كلمة شهادة الإسلام، عند التّرمذي عن عبد الله بن عمرو بن العاص، وحديث قول النّبي صلى الله عليه وسلم لأنس بن مالك: «فاطلبْني عند الميزان» خرّجه التّرمذي.وقد اختلف السلف في وجود مخلوق يبيّن مقدار الجزاء من العمل يسمّى بالميزان توزن فيه الأعمال حقيقة، فاثبت ذلك الجمهور ونفاه جماعة منهم الضحاك ومجاهد والأعمش، وقالوا: هو القضاء السوي، وقد تبع اختلافهم المتأخرون فذهب جمهور الأشاعرة وبعض المعتزلة إلى تفسير الجمهور، وذهب بعض الأشاعرة المتأخرين وجمهورُ المعتزلة إلى ما ذهب إليه مجاهد والضحاك والأعمش، والأمر هين، والاستدلال ليس ببيِّن والمقصود المعنى وليس المقصود آلته.والإخبار عن الوزن بقوله: {الحق} إن كان الوزن مجازًا عن تعيين مقادير الجزاء فالحق بمعنى العدل، أي الجزاء عادل غير جائز، لأنّه من أنواع القضاء والحكم، وإن كان الوزن تمثيلًا بهيئة الميزان، فالعدل بمعنى السوي، أي والوزن يومئذ مساوٍ للأعمال لا يرجح ولا يحجف.وعلى الوجهين فالإخبار عنه بالمصدر مبالغة في كونه محقًا.وتفرع على كونه الحق قوله: {فمن ثقلت موازينه فأولئك هم المفلحون}، فهو تفصيل للوزن ببيان أثره على قدر الموزون.ومحل التّفريع هو قوله: {فأولئك هم المفلحون} وقوله: فأولئك الذين خسروا أنفسهم إذ ذلك مفرّع على قوله: {فمن ثقلت موازينه} وقوله: ومن خفت موازينه.وثقل الميزان في المعنى الحقيقي رجحان الميزان بالشّيء الموزون، وهو هنا مستعار لاعتبار الأعمال الصّالحة غالبة ووافرة، أي من ثقلت موازينه الصّالحات، وإنّما لم يذكر ما ثقلت به الموازين لأنّه معلوم من اعتبار الوزن، لأنّ متعارف النّاس أنّهم يزنون الأشياء المرغوب في شرائِها المتنافس في ضبط مقاديرها والتي يتغابن النّاس فيها.والثّقل مع تلك الاستعارة هو أيضًا ترشيح لاستعارة الوزن للجزاء، ثمّ الخفّة مستعارة لعدم الأعمال الصّالحة أخذًا بغاية الخفة على وزان عكس الثّقل، وهي أيضًا ترشيح ثان لاستعارة الميزان، والمراد هنا الخفّة الشّديدة وهي انعدام الأعمال الصّالحة لقوله: {بما كانوا بآياتنا يظلمون}.والفلاَح حُصول الخير وإدراك المطلوب.والتّعريف في {المفلحون} للجنس أو العهد وقد تقدّم في قوله تعالى: {وأولئك هم المفلحون} في سورة البقرة (5).وما صْدَقُ مَن واحد لقوله: {موازينه}، وإذ قد كان هذا الواحد غير معيّن، بل هو كلّ من تحقّق فيه مضمون جملة الشّرط، فهو عام صح اعتباره جماعة في الإشارة والضّميرين من قوله: {فأولئك هم المفلحون}.والإتيان بالإشارة للتّنبيه على أنّهم إنّما حصلوا الفلاَح لأجل ثقل موازينهم، واختير اسم إشارة البعد تنبيهًا على البعد المعنوي الاعتباري.وضمير الفصل لقصد الانحصار أي هم الذين انحصر فيهم تحقّق المفلحين، أي إن علمتَ جماعة تعرف بالمفلحين فهم هُم.والخسران حقيقته ضد الرّبح، وهو عدم تحصيل التّاجر على ما يستفضله من بيعه، ويستعار لفقدان نفع ما يرجى منه النّفع، فمعنى {خسروا أَنفُسَهُم} فقدوا فوائدها، فإن كلّ أحد يرجو من مواهبه، وهي مجموع نفْسِه، أن تجلب له النّفع وتدفع عنه الضرّ: بالرأي السَّديد، وابتكار العمل المفيد، ونفوس المشركين قد سوّلت لهم أعمالًا كانت سبب خفّة موازين أعمالهم، أي سبب فقد الأعمال الصّالحة منهم، فكانت نفوسهم كرأسسِ مال التّاجر الذي رجا منه زيادة الرّزق فأضاعه كلّه فهو خاسر له، فكذلك هؤلاء خسروا أنفسهم إذ أوقعتهم في العذاب المقيم، وانظر ما تقدّم في قوله تعالى: {الذين خسروا أنفسهم فهم لا يؤمنون} في سورة الأنعام (20).وقوله تعالى: {فما ربحت تجارتهم} في سورة البقرة (16).والباء في قوله: {بما كانوا} باء السّببيّة، وما مصدرية أي بكونهم ظلموا بآياتنا في الدّنيا، فصيغة المضارع في قوله: {يظلمون} لحكاية حالهم في تجدّد الظلم فيما مضى كقوله تعالى: {والله الذي أرسل الرياح فتثير سحابًا فسقناه} [فاطر: 9].والظلم هنا ضدّ العدل: أي يظلمون الآيات فلا ينصفونها حقّها من الصدق.وضمن {يظلمون} معنى يُكَذّبون، فلذلك عُدّي بالباء، فكأنّه قيل: بما كانوا يظلمون فيكذبون بآياتنا على حد قوله تعالى: {وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظُلمًا وعلوًا} [النمل: 14].وإنّما جعل تكذيبهم ظلما لأنّه تكذيب ما قامت الأدلّة على صدقه فتكذيبه ظلم للأدلّة بدحضها وعدم إعمالها.وتقديم المجرور في قوله: {بآياتنا} على عامله، وهو {يظلمون}، للاهتمام بالآيات.وقد ذكرت الآية حال المؤمنين الصّالحين وحال المكذّبين المشركين إذ كان النّاس يوم نزول الآية فريقين: فريق المؤمنين، وهم كلّهم عاملون بالصّالحات، مستكثرون منها، وفريق المشركين وهم أخلياء من الصّالحات، وبقي بين ذلك فريق من المؤمنين الذين يخلطون عملًا صالحًا وآخر سيّئًا وذلك لم تتعرّض له هذه الآية، إذ ليس من غرض المقام، وتعرّضت له آيات آخرى. اهـ. .من فوائد الشوكاني في الآيتين: قال رحمه الله:قوله: {والوزن يَوْمَئِذٍ الحق}الوزن مبتدأ وخبره الحق، أي الوزن في هذا اليوم العدل الذي لا جور فيه، أو الخبر يومئذ، والحق وصف للمبتدأ، أي الوزن العدل كائن في هذا اليوم وقيل: إن الحق خبر مبتدأ محذوف.واختلف أهل العلم في كيفية هذا الوزن الكائن في هذا اليوم، فقيل: المراد به وزن صحائف أعمال العباد بالميزان وزنًا حقيقيًا، وهذا هو الصحيح، وهو الذي قامت عليه الأدلة وقيل: توزن نفس الأعمال، وإن كانت أعراضًا فإن الله يقلبها يوم القيامة أجسامًا كما جاء في الخبر الصحيح: «إن البقرة وآل عمران يأتيان يوم القيامة كأنهما غمامتان أو غيايتان أو فِرْقان من طير صوافّ» وكذلك ثبت في الصحيح أنه يأتي القرآن في صورة شاب شاحب اللون ونحو ذلك.وقيل: الميزان الكتاب الذي فيه أعمال الخلق.وقيل: الوزن والميزان بمعنى العدل والقضاء، وذكرهما من باب ضرب المثل، كما تقول هذا الكلام في وزن هذا.قال الزجاج: هذا سائغ من جهة اللسان، والأولى أن نتبع ما جاء في الأسانيد الصحاح من ذكر الميزان.قال القشيري: وقد أحسن الزجاج فيما قال، إذ لو حمل الميزان على هذا، فليحمل الصراط على الدين الحق، والجنة والنار على ما يرد على الأرواح دون الأجساد، والشياطين والجنّ على الأخلاق المذمومة، والملائكة على القوى المحمودة، ثم قال: وقد أجمعت الأمة في الصدر الأوّل على الأخذ بهذه الظواهر من غير تأويل، وإذا أجمعوا على منع التأويل وجب الأخذ بالظاهر، وصارت هذه الظواهر نصوصًا انتهى.والحق هو: القول الأوّل.وأما المستبعدون لحمل هذه الظواهر على حقائقها فما يأتون في استبعادهم بشيء من الشرع يرجع إليه، بل غاية ما تشبثوا به مجرد الاستبعادات العقلية، وليس في ذلك حجة على أحد، فهذا إذا لم تقبله عقولهم، فقد قبلته عقول قوم هي أقوى من عقولهم من الصحابة والتابعين وتابعيهم، حتى جاءت البدع كالليل المظلم وقال كل ما شاء، وتركوا الشرع خلف ظهورهم وليتهم جاءوا بأحكام عقلية يتفق العقلاء عليها، ويتحد قبولهم لها، بل كل فريق يدعى على العقل ما يطابق هواه، ويوافق ما يذهب إليه هو أو من هو تابع له، فتتناقض عقولهم على حسب ما تناقضت مذاهبهم، يعرف هذا كل منصف، ومن أنكره فليصفّ فهمه وعقله عن شوائب التعصب والتمذهب، فإنه إن فعل ذلك أسفر الصبح لعينيه.وقد ورد ذكر الوزن والموازين في مواضع من القرآن كقوله: {وَنَضَعُ الموازين القسط لِيَوْمِ القيامة فَلاَ تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا} [الأنبياء: 47]، وقوله: {فَإِذَا نُفِخَ في الصور فَلاَ أنساب بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلاَ يَتَسَاءلُونَ} [المؤمنون: 101]، وقوله: {فَمَن ثَقُلَتْ موازينه فَأُوْلَئِكَ هُمُ المفلحون وَمَنْ خَفَّتْ موازينه فأُوْلَئِكَ الذين خَسِرُواْ أَنفُسَهُمْ في جَهَنَّمَ خالدون} [المؤمنون: 102، 103]، وقوله: {إِنَّ الله لاَ يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ} [النساء: 40]، وقوله: {فَأَمَّا مَن ثَقُلَتْ موازينه فَهُوَ في عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ موازينه فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ} [القارعة: 6-9].والفاء في {فَمَن ثَقُلَتْ موازينه} للتفصيل.والموازين: جمع ميزان، وأصله موزان قلبت الواو ياء لكسر ما قبلها، وثقل الموازين هذا يكون بثقل ما وضع فيها من صحائف الأعمال.وقيل: إن الموازين جمع موزون، أي فمن رجحت أعماله الموزونة، والأوّل: أولى.وظاهر جمع الموازين المضافة إلى العامل أن لكل واحد من العاملين موازين يوزن بكل واحد منها صنف من أعماله.وقيل: وهو ميزان واحد عبر عنه بلفظ الجمع كما يقال: خرج فلان إلى مكة على البغال، والإشارة بقوله: {فَأُوْلَئِكَ} إلى من، والجمع باعتبار معناه كما رجع إليه ضمير {موازينه} باعتبار لفظه هو مبتدأ خبره {هُمْ المفلحون} والكلام في قوله: {وَمَنْ خَفَّتْ موازينه فأولئك الذين خَسِرُواْ أَنفُسَهُم} مثله، والباء في {بِمَا كَانُواْ بآياتنا يَظْلِمُونَ} سببية، وما مصدرية.ومعنى {يَظْلِمُونَ} يكذبون. اهـ..فوائد لغوية وإعرابية: قال ابن عادل:قوله: {بِمَا كَانُوا} متعلِّقٌ بـ {خَسِرُوا}، و{مَا} مَصْدريَّةٌ، و{بِآيَاتِنَا} متعلِّقٌ بـ {يَظْلِمُونَ} قُدِّمَ عليه للفَاصِلَةِ.وتعدَّى {يَظْلِمُونَ} بالباءِ: إمَّا لتَضَمُّنِهِ معنى التَّكْذيب نحو: {كَذَّبُواْ بِأَيَاتِنَا} وإمَّا لِتَضَمُّنِهِ معنى الجَحْدِ نحو {وَجَحَدُواْ بِهَا} [النمل: 14]. اهـ.
|