الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
{وَجَاء إِخْوَةُ يُوسُفَ فَدَخَلُواْ عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ} بلا تعريف: {وَهُمْ لَهُ مُنكِرُونَ} لتبدل الزي ولأنه كان من وراء الحجاب ولطول المدة وهو أربعون سنة، وروي أنه لما رآهم وكلموه بالعبرانية قال لهم: أخبروني من أنتم وما شأنكم؟ قالوا: نحن قوم من أهل الشام رعاة أصابنا الجهد فجئنا نمتار، فقال: لعلكم جئتم عيونًا تنظرون عورة بلادي.فقالوا: معاذ الله نحن بنو نبي حزين لفقد ابن كان أحبنا إليه وقد أمسك أخًا له من أمه يستأنس به فقال: ائتوني به إن صدقتم.{وَلَمَّا جَهَّزَهُم بِجَهَازِهِمْ قَالَ} أعطى كل واحد منهم حمل بعير، وقرئ بكسر الجيم شاذًا: {ائتونى بِأَخٍ لَّكُمْ مّنْ أَبِيكُمْ أَلاَ تَرَوْنَ أَنّى أُوفِى الكيل} أتمه: {وَأَنَاْ خَيْرُ المنزلين} كان قد أحسن إنزالهم وضيافتهم رغبهم بهذا الكلام على الرجوع إليه.{فَإِن لَّمْ تَأْتُونِى بِهِ فَلاَ كَيْلَ لَكُمْ عِندِى} فلا أبيعكم طعامًا: {وَلاَ تَقْرَبُونِ} أي فإن لم تأتوني به تحرموا ولا تقربوا فهو داخل في حكم الجزاء مجزوم معطوف على محل قوله: {فلا كيل لكم} أو هو بمعنى النهي: {قَالُواْ سنراود عَنْهُ أَبَاهُ} سنخادعه عنه ونحتال حتى ننزعه من يده: {وَإِنَّا لفاعلون} ذلك لا محالة لانفرط فيه ولا نتوانى.قال: فدعوا بعضكم رهنًا، فتركوا عنده شمعون وكان أحسنهم رأيًا في يوسف: {وَقَالَ لِفِتْيَانِهِ} كوفي غير أبي بكر: {لفتيته} غيرهم، وهما جمع فتى كإخوة وإخوان في أخ، وفعلة للقلة، وفعلان للكثرة أي لغلمانه الكيالين: {اجعلوا بضاعتهم في رِحَالِهِمْ} أوعيتهم وكانت نعالًا أو أدما أو ورقا وهو أليق بالدس في الرحال: {لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَهَا} يعرفون حق ردها وحق التكرم بإعطاء البدلين: {إِذَا انقلبوا إلى أَهْلِهِمْ} وفرغوا ظروفهم: {لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} لعل معرفتهم بذلك تدعوهم إلى الرجوع إلينا، أو ربما لا يجدون بضاعة بها يرجعون أو ما فيهم من الديانة يعيدهم لرد الأمانة، أو لم ير من الكرم أن يأخذ من أبيه وإخوته ثمنًا: {فَلَمَّا رَجِعُوا إلى أَبِيهِمْ} بالطعام وأخبروه بما فعل: {قَالُواْ يأَبَانَا مُنِعَ مِنَّا الكيل} يريدون قول يوسف: {فإن لم تأتوني به فلا كيل لكم عندي} لأنهم إذا أنذروا بمنع الكيل فقد منع الكيل: {فَأَرْسِلْ مَعَنَا أَخَانَا نَكْتَلْ} نرفع المانع من الكيل ونكتل من الطعام ما نحتاج إليه.{يكتل} حمزة وعلي أي يكتل أخونًا فينضم اكتياله إلى اكتيالنا: {وَإِنَّا لَهُ لحافظون} عن أن يناله مكروه {قَالَ هَلْ امَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلاَّ كَمَا أَمِنتُكُمْ على أَخِيهِ مِن قَبْلُ} يعني أنكم قلتم في يوسف: {أرسله معنا غدًا يرتع ويلعب وإناله لحافظون} كما تقولونه في أخيه ثم خنتم بضمانكم فما يأمنني من مثل ذلك؟ ثم قال: {فالله خَيْرٌ حافظا} كوفي غير أبي بكر.فتوكل على الله فيه ودفعه إليهم وهو حال أو تمييز، ومن قرأ: {حِفظا} ً فهو تمييز لا غير.{وَهُوَ أَرْحَمُ الرحمين} فأرجو أن ينعم عليّ بحفظه ولا يجمع عليّ مصيبتين قال كعب: لما قال: {فالله خير حفظًا} قال الله تعالى وعزتي وجلالي لأردن عليك كليهما.{وَلَمَّا فَتَحُواْ متاعهم وَجَدُواْ بضاعتهم رُدَّتْ إِلَيْهِمْ قَالُواْ ياأبانا مَا نَبْغِى} {ما} للنفي أي ما نبغي في القول ولا تتجاوز الحق أو ما نبغي شيئًا وراء ما فعل بنا من الإحسان، أو ما نريد منك بضاعة أخرى، أو للاستفهام أيْ أيّ شيء نطلب وراء هذا؟: {هذه بضاعتنا رُدَّتْ إِلَيْنَا} جملة مستأنفة موضحة لقوله: {ما نبغي} والجمل بعدها معطوفة عليها أي أن بضاعتنا ردت إلينا فنستظهر بها: {وَنَمِيرُ أَهْلَنَا} في رجوعنا إلى الملك أي نجلب لهم ميرة وهي طعام يحمل من غير بلدك: {وَنَحْفَظُ أَخَانَا} في ذهابنا ومجيئنا فما يصيبه شيء مما تخافه: {وَنَزْدَادُ كَيْلَ بَعِيرٍ} نزداد وسق بعير باستصحاب أخينا: {ذلك كَيْلٌ يَسِيرٌ} سهل عليه متيسر لا يتعاظمه: {قَالَ لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حتى تُؤْتُونِ} وبالياء: مكي: {مَوْثِقًا} عهدًا: {مِنَ الله} والمعنى حتى تعطوني ما أتوثق به من عند الله أي أراد أن يحلفوا له بالله.وإنما جعل الحلف بالله موثقًا منه لأن الحلف به مما يؤكد به العهود وقد أذن الله في ذلك فهو إذن منه: {لَتَأْتُنَّنِى بِهِ} جواب اليمين لأن المعنى حتى تحلفوا لتأتنني به: {إِلاَّ أَن يُحَاطَ بِكُمْ} إلا أن تغلبوا فلم تطيقوا الإتيان به فهو مفعول له، والكلام المثبت وهو قوله: {لتأتنني به} في تأويل النفي أي لا تمتنعوا من الإتيان به إلا للإحاطة بكم يعني لا تمتنعوا منه لعلة من العلل إلا لعلة واحدة وهي أن يحاط بكم، فهو استثناء من أعم العام في المفعول له، والاستثناء من أعم العام لا يكون إلا في النفي فلابد من تأويله بالنفي: {فَلَمَّا ءاتَوْهُ مَوْثِقَهُمْ} قيل: حلفوا بالله رب محمد عليه السلام: {قَالَ} بعضهم يسكت عليه لأن المعنى قال يعقوب: {الله على مَا نَقُولُ} من طلب الموثق وإعطائه: {وَكِيلٌ} رقيب مطلع غير أن السكتة تفصل بين القول والمقول وذا لا يجوز، فالأولى يأن يفرق بينهما بالصوت فيقصد بقوة النغمة اسم الله.{وَقَالَ يا بَنِى لاَ تَدْخُلُواْ مِن بَابٍ وَاحِدٍ وادخلوا مِنْ أَبْوَابٍ مُّتَفَرّقَةٍ} الجمهور على أنه خاف عليهم العين لجمالهم وجلالة أمرهم ولم يأمرهم بالتفرق في الكرة الأولى لأنهم كانوا مجهولين في الكرة الأولى، فالعين حق عندنا وجه بأن يحدث الله تعالى عند النظر إلى الشيء والإعجاب به نقصانًا فيه وخللاه وكان النبي صلى الله عليه وسلم يعوّذ الحسن والحسين رضي الله عنهما فيقول: «أعيذكما بكلمات الله التامة من كل هامة ومن كل عين لامة» وأنكر الجبائي العين وهو مردود بما ذكرنا.وقيل: إنه أحب أن لا يفطن بهم أعداؤهم فيحتالوا لإهلاكهم: {وَمَا أُغْنِى عَنكُمْ مّنَ الله مِن شَئ} أي إن كان الله أراد بكم سوءًا لم ينفعكم ولم يدفع عنكم ما أسرت به عليكم من التفرق وهو مصيبكم لا محالة: {إِنِ الحكم إِلاَّ للَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ المتوكلون} التوكل تفويض الأمر إلى الله تعالى والاعتماد عليه: {وَلَمَّا دَخَلُواْ مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُم} أي متفرقين: {مَّا كَانَ يُغْنِى عَنْهُمْ} دخولهم من أبواب متفرقة: {مّنَ الله مِن شَئ} أي شيئًا قط حيث أصابهم ما ساءهم مع تفرقهم من إضافة السرقة إليهم وافتضاحهم بذلك وأخذ أخيهم بوجدان الصواع في رحله وتضاعف المصيبة على أبيهم: {إِلاَّ حَاجَةً} استثناء منقطع أي ولكن حاجة: {فِى نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضَاهَا} وهي شفقته عليهم: {وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ} يعني قوله وما أغنى عنكم وعلمه بأن القدر لا يغني عنه الحذر: {لّمَا عَلَّمْنَاهُ} لتعليمنا إياه: {ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يَعْلَمُونَ} ذلك.{وَلَمَّا دَخَلُواْ على يُوسُفَ اوَى إِلَيْهِ أَخَاهُ} ضم إليه بنيامين.وروي أنهم قالوا له هذا أخونا قد جئناك به فقال لهم: أحسنتم فأنزلهم وأكرمهم ثم أضافهم وأجلس كل اثنين منهم على مائدة فبقي بنيامين وحده فبكى وقال: لو كان أخي يوسف حيًا لأجلسني معه فقال يوسف: بقي أخوكم وحيدًا فأجلسه معه على مائدته وجعل يؤاكله وقال له: أتحب أن أكون أخاك بدل أخيك الهالك؟ قال: ومن يجد أخا مثلك ولكن لم يلدك يعقوب ولا راحيل فبكى يوسف وعانقه ثم: {قَالَ} له: {إِنّى أَنَاْ أَخُوكَ} يُوسُف: {فَلاَ تَبْتَئِسْ} فلا تحزن: {بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} بنا فيما مضى فإن الله قد أحسن إلينا وجمعنا على خير ولا تعلمهم بما أعلمتك وروي أنه قال له فأنا لا أفارقك.قال لقد علمت اغتمام والدي بي فإن حبستك ازداد غمه ولا سبيل إلى ذلك ألا أن أنسبك إلا ما لا يحمد.قال: لا أبالي فافعل ما بدا لك.قال: فإني أدس صاعي في رحلك ثم أنادي عليك بأنك سرقته ليتهيأ لي ردك بعد تسريحك معهم فقال: افعل: {فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ} هيأ أسبابهم وأوفى الكيل لهم: {جَعَلَ السقاية في رَحْلِ أَخِيهِ} السقاية هي مشربة يُسقى بها وهي الصواع.قيل: كان يسقي بها الملك ثم جعلت صاعًا يكال به لعزة الطعام وكان يشبه الطاس من فضة أو ذهب: {ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذّنٌ} ثم نادى مناد آذنه أي أعلمه، وأذن أكثر الأعلام ومنه المؤذن لكثرة ذلك منه.روي أنهم ارتلحوا وأمهلهم يوسف عليه السلام حتى انطلقوا ثم أمر بهم فأدركوا وحبسوا ثم قيل لهم: {أَيَّتُهَا العير} هي الإبل التي عليها الأحمال لأنها تعير أي تذهب وتجيء والمراد أصحاب العير: {إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ} كناية عن سرقتهم إياه من أبيه.{قَالُواْ وَأَقْبَلُواْ عَلَيْهِمْ مَّاذَا تَفْقِدُونَ قَالُواْ نَفْقِدُ صُوَاعَ الملك} هو الصاع: {وَلِمَن جَاء بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَاْ بِهِ زَعِيمٌ} يقوله المؤذن يريد وأنا بحمل البعير كفيل أؤديه إلى من جاء به وأراد وسق بعير من طعام جعلا لمن حصله: {قَالُواْ تالله} قسم فيه معنى التعجب مما أضيف إليهم: {لَقَدْ عَلِمْتُمْ مَّا جِئْنَا لِنُفْسِدَ في الأرض} استشهدوا بعلمهم لما ثبت عندهم من دلائل دينهم وأمانتهم حيث دخلوا وأفواه رواحلهم مشدودة لئلا تتناول زرعًا أو طعامًا لأحد من أهل السوق، ولأنهم ردوا بضاعتهم التي وجدوها في رحالهم: {وَمَا كُنَّا سارقين} وما كنا نوصف قط بالسرقة: {قَالُواْ فَمَا جَزَاؤُهُ} الضمير للصواع أي فما جزاء سرقته: {إِن كُنتُمْ كاذبين} في جحودكم وادعائكم البراءة منه: {قَالُواْ جَزاؤُهُ مَن وُجِدَ في رَحْلِهِ} أي جزاء سرقته أخذ من وجد في رحله، وكان حكم السارق في آل يعقوب أن يسترق سنة فلذلك استفتوا في جزائه.وقولهم: {فَهُوَ جَزَاؤُهُ} تقرير للحكم أي فأخذ السارق نفسه هو جزاؤه لا غير، أو: {جزاؤه} مبتدأ والجملة الشرطية كما هي خبره: {كذلك نَجْزِى الظالمين} أي السراق بالاسترقاق: {فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعَاء أَخِيهِ} فبدأ بتفتيش أوعيتهم قبل وعاء بنيامين لنفي التهمة حتى بلغ وعاءه فقال: ما أظن هذا أخذ شيئًا فقالوا: والله لا نتركه حتى تنظر في رحله فإنه أطيب لنفسك وأنفسنا: {ثُمَّ استخرجها} أي الصواع: {مِن وِعَاء أَخِيهِ} ذكر ضمير الصواع مرات ثم أنثه لأن التأنيث يرجع إلى السقاية، أو لأن الصواع يذكر ويؤنث.الكاف في: {كذلك} في محل النصب أي مثل ذلك الكيد العظيم: {كِدْنَا لِيُوسُفَ} يعني علمناه إياه: {مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ في دِينِ الملك} تفسير للكيد وبيان له لأن الحكم في دين الملك أي في سيرته للسارق أن يغرم مثلي ما أخذ لا أن يستعبد: {إِلاَّ أَن يَشَاء الله} أي ما كان ليأخذه إلا بمشيئة الله وإرادته فيه: {نَرْفَعُ درجات} بالتنوين: كوفي: {مَّن نَّشَاء} أي في العلم كما رفعنا درجة يوسف فيه: {وَفَوْقَ كُلّ ذِى عِلْمٍ عَلِيمٌ} فوقه أرفع درجة منه في علمه أو فوق العلماء كلهم عليهم هم دونه في العلم وهو الله عز وجل. اهـ.
|