الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
.قال ابن عطية: {وَلَمَّا سُقِطَ في أَيْدِيهِمْ}.قرأ جمهور الناس بكسر القاف وضم السين {سُقِطَ في أيديهم} وقرأت فرقة {سَقَطَ} بفتح السين والقاف حكاه الزّجاج، وقرأ ابن أبي عبلة {أسْقط} وهي لغة حكاها الطبري بالهمزة المضمومة وسين ساكنة، والعرب تقول لمن كان ساعيًا لوجه أو طالبًا غاية ما، فعرضه ما غلبه وصده عن وجهته وأوقفه موقف العجز عن بغيته وتيقن أنه قد عجز: سقط في يد فلان، وقال أبو عبيدة: يقال لمن قدم على أمر وعجز عنه سقط في يده.قال القاضي أبو محمد: والندم عندي عرض يعرض صاحب هذه الحال وقد لا يعرضه فليس الندم بأصل في هذا أما أن أكثر أصحاب هذه الحال يصحبهم الندم وكذلك صحب بني إسرائيل المذكورين في الآية والوجه الذي يصل بين هذه الألفاظ وبين المعنى الذي ذكرناه هو أن السعي أو الصرف أو الدفاع سقط في يد المشار إليه فصار في يده لا يجاوزها ولا يكون له خارجها تأثير وقال الزجاج: المعنى أن الندم سقط في أيديهم ويحتمل أن الخسران والخيبة سقط في أيديهم.قال القاضي أبو محمد: وعلى هذا كله يلزم أن يكون {سقط} يتعدى فإن {سقط} يتضمن مفعولًا وهو هاهنا المصدر الذي هو الإسقاط كما يقال ذهب بزيد وفي هذا عندي نظر، وأما قراءة من قرأ {سقَطَ} على بناء الفعل للفاعل أو أسقط على التعدية بالهمزة فبين في الاستغناء عن التعدي ويحتمل أن يقال سقط في يديه على معنى التشبيه بالأسير الذي تكتف يداه فكأن صاحب هذه الحال يستأسر ويقع ظهور الغلبة عليه في يده، أو كأن المراد سقط بالغلب والقهر في يده، وحدثت عن أبي مروان بن سراج أنه كان يقول: قول العرب سقط ي يديه مما أعياني معناه، وقال الجرجاني: هذا مما دثر استعماله مثلما دثر استعمال قوله تعالى: {فضربنا على آذانهم} [الكهف: 11].قال القاضي أبو محمد: وفي الكلام ضعف والسقاط في كلام العرب كثرة الخطأ والندم عليه ومنه قول سويد بن أبي كاهل: [الرمل]وقول بني إسرائيل {لئن لم يرحمنا ربنا} إنما كان بعد رجوع موسى وتغييره عليهم ورؤيتهم أنهم قد خرجوا عن الدين ووقعوا في الكفر، وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر وعاصم والحسن والأعرج وأبو جعفر وشيبة بن نصاح ومجاهد وغيرهم {قالوا لئن لم يرحمنا ربنا} بالياء في يرحمنا وإسناد الفعل إلى الرب تعالى، {ويغفر} بالياء، وقرأ حمزة والكسائي والشعبي وابن وثاب والجحدري وطلحة بن مصرف والأعمش وأيوب {ترحمنا ربَّنا} بالتاء في {ترحمنا} ونصب لفظة ربنا على جهة النداء {وتغفر} بالتاء، من فوق، وفي مصحف أبيّ {قالوا ربنا لئن ترحمنا وتغفر لنا لنكونن من الخاسرين}. اهـ. .قال ابن الجوزي: قوله تعالى: {ولما سُقِط في أيديهم} أي: ندموا.قال الزجاج: يقال للرجل النادم على ما فعل: المتحسر على ما فرّط.قد سُقط في يده، وأُسقط في يده.وقرأ ابن السميفع، وأبو عمران الجوني: {سَقَطَ} بفتح السين.قال الزجاج: والمعنى: ولما سَقَط الندمُ في أيديهم، يشبِّه ما يحصل في القلب وفي النفس بما يُرى بالعين.قال المفسرون: هذا الندم منهم إنما كان بعد رجوع موسى.قوله تعالى: {لئن لم يرحمنا ربنا} قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وابن عامر وعاصم: {يرحْمنا ربُّنا} {ويغفرْ لنا} بالياء والرفع.وقرأ حمزة، والكسائي، {ترحمنا} {وتغفر لنا} بالتاء، {ربنا} بالنصب. اهـ..قال القرطبي: قوله تعالى: {وَلَمَّا سُقِطَ في أَيْدِيهِمْ} أي بعد عوْدِ موسى من المِيقات.يقال للنادم المتحيِّر: قد سقط في يده.قال الأخفش؛ يقال سُقط في يده، وأُسقط.ومن قال: سَقَطَ في أيديهم على بناء الفاعل؛ فالمعنى عنده: سَقط الندم؛ قاله الأزهرِيّ والنحاس وغيرهما.والندم يكون في القلب، ولكنه ذكر اليد لأنه يقال لمن تحصّل على شيء: قد حصل في يده أمر كذا؛ لأن مباشرة الأشياء في الغالب باليد؛ قال الله تعالى: {ذلك بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ} [الحج: 10].وأيضًا: الندم وإن حَلّ في القلب فأثره يظهر في البدن؛ لأن النادم يعضّ يده؛ ويضرب إحدى يديه على الأُخرى؛ قال الله تعالى: {فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَا أَنْفَقَ فِيهَا} [الكهف: 42] أي ندِم.{وَيَوْمَ يَعَضُّ الظالم على يَدَيْهِ} [الفرقان: 27] أي من الندم.والنادم يضع ذقنه في يده.وقيل: أصله من الاستئسار، وهو أن يضرب الرجلُ الرجلَ أو يصرَعه فيرميَ به من يديه إلى الأرض ليأسره أو يكتفه؛ فالمرمي مسقوط به في يد الساقط.{وَرَأَوْاْ أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّواْ} أي انقلبوا بمعصية الله.{قَالُواْ لَئِن لَّمْ يَرْحَمْنَا رَبُّنَا وَيَغْفِرْ لَنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الخاسرين} أخذوا في الإقرار بالعبودية والاستغفار.وقرأ حمزة والكسائيّ {لئن لَمْ ترحمنا ربَّنا وتغفر لنا} بالتاء على الخطاب.وفيه معنى الاستغاثة والتضرُّع والابتهال في السؤال والدعاءِ.{ربَّنا} بالنصب على حذف النداء.وهو أيضًا أبلغ في الدعاء والخضوع.فقراءتهما أبلغ في الاستكانة والتضرع، فهي أوْلى. اهـ..قال الخازن: قوله: {ولما سقط في أيديهم} يعني ولما ندموا على عبادة العجل.تقول العرب لكل نادم على أمر: سقط في يده وذلك لأن من شأن من اشتد ندمه على أمر أن يعض يده ثم يضرب على فخذه فتصير يده ساقطة لأن السقوط عبارة عن النزول من أعلى إلى أسفل {ورأوا أنهم قد ضلوا} يعني وتيقنوا أنهم على الضلالة في عبادتهم العجل: {قالوا لئن لم يرحمنا ربنا ويغفر لنا} يعني يتب علينا ويتجاوز عنا {لنكونن من الخاسرين} يعني الذين خسروا أنفسهم بوضعهم العبادة في غير موضعها وهذا كلام من اعتراف بعظيم ما أقدر عليه من الذنب وندم على ما صدره منه ورغب إلى الله تعالى في إقالة عثرته واعترافهم على أنفسهم بالخسران إن لم يغفر لهم ربهم ويرحمهم كلام التائب النادم على ما فرط منه وإنما قالوا ذلك لما رجع موسى إليهم. اهـ..قال أبو حيان: {ولما سقط في أيديهم ورأوا أنهم قد ضلّوا قالوا لئن لم يرحمنا ربنا ويغفر لنا لنكوننّ من الخاسرين}.ذكر بعض النحويين أن قول العرب سقط في يده فعل لا يتصرف فلا يستعمل منه مضارع ولا اسم فاعل ولا مفعول وكان أصله متصرّفًا تقول سقط الشيء إذا وقع من علو فهو في الأصل متصرّف لازم، وقال الجرجاني: سقط في يده مما دثر استعماله مثل ما دثر استعمال قوله تعالى: {فضربنا على آذانهم} قال ابن عطية: وفي هذا الكلام ضعف والسّقاط في كلام العرب كثرة الخطأ والندم عليه ومنه قول ابن أبي كاهل:وحكي عن أبي مروان بن سراج أحد أئمة اللغة بالأندلس أنه كان يقول: قول العرب سقط في يده مما أعياني معناه، وقال أبو عبيدة: يقال لمن ندم على أمر وعجز عنه سقط في يده، وقال الزجاج: معناه سقط الندم في أيديهم أي في قلوبهم وأنفسهم، كما يقال حصل في أيديهم مكروه وإن كان محالًا أن يكون في اليد تشبيهًا لما يحصل في القلب والنفس بما يحصل في اليد ويرى بالعين، وقال ابن عطيّة: العرب تقول لمن كان ساعيًا لوجه أو طالبًا غاية فعرض له ما صده عن وجهه ووقفه موقف العجز وتيقن أنه عاجز سقط في يد فلان وقد يعرض له الندم وقد لا يعرض، قال: والوجه الذي يصل بين هذه الألفاظ وبين المعنى الذي ذكرناه هو أن السعي أو الصّرف أو الدفاع سقط في يد المشار إليه فصار في يده لا يجاوزها ولا يكون له في الخارج أثر، وقال الزمخشري لما اشتد ندمهم وحسرتهم على عبادة العجل لأنّ من شأن من اشتد ندمه وحسرته أن يعضّ يده غمًّا فتصير يده مسقوطًا فيها لأن فاه قد وقع فيها وسقط مسند إلى {في أيديهم} وهو من باب الكناية انتهى، والصواب وسقط مسند إلى ما {في أيديهم} وحكى الواحدي عن بعضهم أنه مأخوذ من السقيط وهو ما يغشى الأرض بالغذوات شبه الثلج يقال: منه سقطت الأرض كما يقال: من الثلج ثلجت الأرض وثلجنا أي أصابنا الثلج ومعنى سقط في يده والسّقيط والسقط يذوب بأدنى حرارة ولا يبقى ومن وقع في يده السّقيط لم يحصل منه على شيء فصار مثلًا لكل من خسر في عاقبته ولم يحصل من بغيته على طائل وكانت الندامة آخر أمره، وقيل: من عادة النادم أن يطأطىء رأسه ويضع ذقنه على يده معتمدًا عليها ويصبر على هيئتة لو نزعت يده لسقط على وجهه كان اليد مسقوطًا فيها ومعنى {في} على أي سقط على يده ومعنى {في أيديهم} أي على أيديهم كقوله: {ولأصلبنكم في جذوع النخل} انتهى.وكان متعلق سقط قوله في أيديهم لأنّ اليد هي الآلة التي يؤخذ بها ويضبط {وسقط} مبني للمفعول والذي أوقع موضع الفاعل هو الجار والمجرور كما تقول: جلس في الدار وضحك من زيد، وقيل: سقط تتضمن مفعولًا وهو هاهنا المصدر الذي هو الإسقاط كما يقال: ذهب بزيد انتهى، وصوابه وهو هنا ضمير المصدر الذي هو السقوط لأنّ سقط ليس مصدره الإسقاط وليس نفس المصدر هو المفعول الذي لم يسمّ فاعله بل هو ضميره وقرأت فرقة منهم ابن السميقع {سقط في أيديهم} مبنيًا للفاعل.قال الزمخشري أي وقع الغضّ فيها، وقال الزجاج: سقط الندم في أيديهم، قال ابن عطية: ويحتمل أنّ الخسران والخيبة سقط في أيديهم، وقرأ ابن أبي عبلة: أسقط في أيديهم رباعيًّا مبنيًا للمفعول ورأوا أي علموا {أنهم قد ضلّوا}.قال القاضي: يجب أن يكون المؤخر مقدّمًا لأنّ الندم والتحسر إنما يقعان بعد المعرفة فكأنه تعالى قال: ولما رأوا أنهم قد ضلوا وسقط في أيديهم لما نالهم من عظيم الحسرة انتهى، ولا يحتاج إلى هذا التقدير بل يمكن تقدّم النّدم على تبين الضلال لأنّ الإنسان إذا شكّ في العمل الذي أقدم عليه أهو صواب أو خطأ حصل له الندم ثم بعد يتكامل النظر والفكر فيعلم أن ذلك خطأ، {قالوا لئن لم يرحمنا ربنا} انقطاع إلى الله تعالى واعتراف بعظيم ما أقدموا عليه وهذا كما قال: آدم وحواء {وإن لم تغفر لنا وترحمنا} ولما كان هذا الذنب وهو اتخاذ غير الله إلهًا أعظم الذنوب بدأوا بالرحمة التي وسعت كل شيء ومن نتاجها غفران الذنب وأما في قصة آدم فإنه جرت محاورة بينه تعالى وبينهما وعتاب على ما صدر منهما من أكل ثمر الشجرة بعد نهيه إياهما عن قربانها فضلًا عن أكل ثمرها فبادرا إلى الغفران وأتباه بالرحمة إذ غفران ما وقع العتاب عليه أكد ما يطلب أولًا.وقرأ الأخوان والشعبي وابن وثاب والجحدري وابن مصرف والأعمش وأيوب بالخطاب في ترحّمنا وتغفر ونداء ربنا، وقرأ باقي السبعة ومجاهد والحسن والأعرج وأبو جعفر وشيبة بن نصاح وغيرهم: {يرحمنا ربنا ويغفر لنا} بالياء فيهما ورفع {ربنا} وفي مصحف أبيّ قالوا: ربنا لئن ترحمنا وتغفر لنا، بتقديم المنادى وهو ربّنا ويحتمل أن يكون القولان صدرا منهم جميعهم على التعاقب أو هذا من طائفة وهذا من طائفة فمن غلب عليه الخوف وقوي على المواجهة خاطب مستقيلًا من ذنبه العظيم ومن غلب عليه الحياء أخرج كلامه مخرج المستحيي من الخطاب فأسند الفعل إلى الغائب وفي قولهم: {ربنا} استعطاف حسن إذ الربّ هو المالك الناظر في أمر عبيده والمصلح منهم ما فسد. اهـ.
|