الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
{وَقَالَ يَا أَبَتِ هَذَا} أي: السجود: {تَأْوِيلُ} أي: تعبير: {رُؤْيَايَ مِن قَبْلُ} أي: التي رأيتها أيام الصبا، وهي سجود أحد عشر كوكبًا والشمس والقمر: {قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا} أي: صدقًا مطابقًا للواقع في الحسّ: {وَقَدْ أَحْسَنَ بَي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ} أي: نجاني من العبودية، وجعل الملك مطيعًا لي مفوضاَ إليَّ خزائن الأرض. وفي الاقتصار على التحدث بالخروج من السجن على جلالة ملكه، وفخامة شأنه من التواضع، وتذكر ما سلف من الضراء، استدامة للشكر، ما فيه من أدب النفس الباهر. وفيه إشارة إلى النعمة في الانطلاق من الحبس؛ لأنه كما قال عبد الملك بن العزيز، لما كان في حبس الرشيد:
وقال شاعر من المسجونين: ويؤثر عن يوسف عليه السلام أنه كتب على باب السجن: هذه منازل البلاء، وتجربة الأصدقاء، وشماتة الأعداء، وقبور الأحياء.هذا وقد حاول كثير من الأدباء مدح السجن بسحر بيانهم، فقال علي بن الجهم: وأحسن ما قيل في تسلية المسجونين قول البحتري: نقله الثعالبي في اللطائف واليواقيت.{وَجَاء بِكُم مِّنَ الْبَدْوِ} أي: البادية، وقد كانوا أصحاب مواش: {مِن بَعْدِ أَن نَّزغَ} أي: أفسد: {الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي} أي: بالحسد. وأسنده إلى الشيطان، لأنه بوسوسته وإلقائه. وفيه تفادٍ عن تثريبهم أيضًا. وإنما ذكره لأن النعمة بعد البلاء أحسن موقعًا.{إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِّمَا يَشَاءُ} أي: لطيف التدبير له، والرفق به: {إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ} بوجوه المصالح: {الْحَكِيمُ} في أفعاله وأقضيته. اهـ.
وفعله قاصر فيعدى إلى مفعوله باللام كما في الآية.والخرور: الهوي والسقوط من علو إلى الأرض.والذين خروا سُجدًا هم أبواه وإخوته كما يدل له قوله: {هذا تأويل رؤياي} وهم أحد عشر وهم: رأوبين، وشمعون، ولاوي، ويهوذا، ويساكر، وربولون، وجاد، وأشير، ودان، ونفتالي، وبنيامين.و{الشمس}، و: {القمر}، تعبيرهما أبواه يعقوب عليه السلام وراحيل.وكان السجود تحية الملوك وأضرابهم، ولم يكن يومئذٍ ممنوعًا في الشرائع وإنما منعه الإسلام لغير الله تحقيقًا لمعنى مساواة الناس في العبودية والمخلوقية.ولذلك فلا يعدّ قبوله السجودَ من أبيه عقوقًا لأنه لا غضاضة عليهما منه إذ هو عادتهم.والأحسن أن تكون جملة: {وخروا} حالية لأن التحية كانت قبل أن يرفع أبويه على العرش، على أن الواو لا تفيد ترتيبًا.و{سجدا} حال مبيّنة لأن الخرور يقع بكيفيات كثيرة.والإشارة في قوله: {هذا تأويل رؤياي} إشارة إلى سجود أبويه وإخوته له هو مصداق رؤياه الشمس والقمر وأحد عشر كوكبًا سُجدًا له.وتأويل الرؤيا تقدم عند قوله: {نبئنا بتأويله} [سورة يوسف: 36].ومعنى: {قد جعلها ربي حقا} أنها كانت من الأخبار الرمزية التي يكاشِف بها العقل الحوادث المغيبة عن الحس، أي ولم يجعلها باطلًا من أضعاث الأحلام الناشئة عن غلبة الأخلاط الغذائية أو الانحرافات الدماغية.ومعنى: {أحسن بي} أحسن إليّ.يقال: أحسن به وأحسن إليه، من غير تضمين معنى فعل آخر.وقيل: هو بتضمين أحسن معنى لطف.وباء: {بي} للملابسة أي جعل إحسانه ملابسًا لي، وخصّ من إحسان الله إليه دون مطلق الحضور للامتيار أو الزيادة إحسانين هما يوم أخرجه من السجن ومجيء عشيرته من البادية.فإن: {إذْ} ظرف زمان لفعل: {أحسن} فهي بإضافتها إلى ذلك الفعل اقتضت وقوع إحسان غير معدود، فإن ذلك الوقت كان زمنَ ثبوت براءته من الإثم الذي رمته به امرأة العزيز وتلك منة، وزمنَ خلاصه من السجن فإن السجن عذاب النفس بالانفصال عن الأصدقاء والأحبّة، وبخلطة من لا يشاكلونه، وبشْغله عن خلوة نفسه بتلقي الآداب الإلهية، وكان أيضًا زمن إقبال الملك عليه.وأما مجيء أهله فزوال ألم نفساني بوحشته في الانفراد عن قرابته وشوقه إلى لقائهم، فأفصح بذكر خروجه من السجن، ومجيء أهله من البدوِ إلى حيث هو مكين قويّ.وأشار إلى مصائبه السابقة من الإبقاء في الجبّ، ومشاهدة مكر إخوته به بقوله: {من بعد أن نزغ الشيطان بيني وبين إخوتي}، فكلمة: {بعد} اقتضت أن ذلك شيء انقضى أثره.وقد ألم به إجمالًا اقتصارًا على شكر النعمة وإعراضًا عن التذكير بتلك الحوادث المكدرة للصلة بينه وبين إخوته فمرّ بها مرّ الكرام وباعدها عنهم بقدر الإمكان إذ ناطها بنزغ الشيطان.والمجيء في قوله: {وجاء بكم من البدو} نعمة، فأسنده إلى الله تعالى وهو مجيئهم بقصد الاستيطان حيث هو.والبَدْو: ضد الحضر، سمي بَدوًا لأن سكانه بادُون، أي ظَاهرون لكل واردٍ، إذ لا تحجبهم جدران ولا تغلق عليهم أبواب.وذكر: {من البدو} إظهار لتمام النعمة، لأن انتقال أهل البادية إلى المدينة ارتقاء في الحضارة.والنزغ: مجاز في إدخال الفساد في النفس.شُبه بنزغ الراكب الدابّة وهو نخسها.وتقدم عند قوله تعالى: {وإما ينزغنّك من الشيطان نزغ} في سورة الأعراف (200).وجملة {إن ربي لطيف لما يشاء} مستأنفة استئنافًا ابتدائيًا لقصد الاهتمام بها وتعليم مضمونها.واللطف: تدبير الملائم.وهو يتعدّى باللام على تقدير لطيف لأجل ما يشاء اللطف به، ويتعدى بالباء قال تعالى: {الله لطيف بعباده} [الشورى: 19].وقد تقدم تحقيق معنى اللطف عند قوله تعالى: {وهو اللطيف الخبير} في سورة الأنعام (103).وجملة {إنه هو العليم الحكيم} مستأنفة أيضًا أو تعليل لجملة: {إن ربي لطيف لما يشاء}.وحرف التوكيد للاهتمام، وتوسيط ضمير الفصل للتقوية.وتفسير: {العليم} تقدم عند قوله تعالى: {إنك أنت العليم الحكيم} في سورة البقرة (32).و{الحكيم} تقدم عند قوله: {فاعلموا أن الله عزيز حكيم} أواسط سورة البقرة (209). اهـ.
|