الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
.قال أبو السعود: {ثُمَّ بَعَثْنَا مِن بَعْدِهِم موسى} أي أرسلناه من بعد انقضاء وقائعِ الرسل المذكورين أو من بعد هلاكِ الأممِ المحكيةِ، والتصريحُ بذلك مع دِلالة {ثم} على التراخي للإيذان بأن بعثه عليه الصلاة والسلام جرى على سَنن السُنةِ الإلهية من إرسال الرسلِ تترى، وتقديمُ الجارِّ والمجرور على المفعول الصريحِ لما مر مرارًا من الاعتناء بالمقدم والتشويقِ إلى المؤخر {بآياتنا} متعلقٌ بمحذوف وقع حالًا من مفعول بعثنا، أو صفةٌ لمصدره أي بعثناه عليه الصلاة والسلام ملتبسًا بآياتنا أو بعثناه بَعْثًا ملتبسًا بها، وهي الآياتُ التِسعُ المُفَصَّلاتُ التي هي: العصا، واليدُ البيضاء، والسِّنونَ، ونقصُ الثمرات، والطُّوفانُ، والجرادُ، والقُمّلُ، والضفادِعُ، والدم، حسبما سيأتي على التفصيل {إلى فِرْعَوْنَ} هو لقبٌ لكل من ملَك مِصْرَ من العمالقة كما أن كِسرى لقبٌ لكل من ملك فارسَ، وقيصرَ لكل مَنْ ملك الروم واسمُه قابوسُ، وقيل: الوليدُ بنُ مصعبِ بن الريان {وَمَلَئِهِ} أي أشرافِ قومِه، وتخصيصُهم بالذكر مع عموم رسالتِه عليه الصلاة والسلام لقومه كافةً حيث كانوا جميعًا مأمورين بعبادة ربِّ العالمين عزَّ سلطانُه، وتركِ العظيمةِ الشنعاءِ التي كان يدّعيها الطاغيةُ وتقبلها منه فئتُه الباغية لأصالتهم في تدبير الأمور واتباعِ غيرِهم لهم في الورود والصدور {فَظَلَمُواْ بِهَا} أي كفروا بها، أُجري الظلمُ مُجرى الكفرِ لكونهما من واد واحدٍ، أو ضُمّن معنى الكفرِ أو التكذيبِ أي ظلموا كافرين بها أو مكذِّبين بها، أو كفروا بها مكان الإيمانِ الذي هو من حقها لوضوحها ولهذا المعنى وُضع ظلَموا موضِعَ كفروا وقيل: ظلموا أنفسَهم بسببها بأن عرّضوها للعذاب الخالد، أو ظلموا الناسَ بصدهم عن الإيمان بها، والمرادُ به الاستمرارُ على الكفر بها إلى أن لقُوا من العذاب ما لقُوا، ألا يُرى إلى قوله تعالى: {فانظر كَيْفَ كَانَ عاقبة المفسدين} فكما أن ظلمهم بها مستتبعٌ لتلك العاقبةِ الهائلةِ كذلك حكايةُ ظلمِهم بها مستتبعٌ للأمر بالنظر إليها، وكيف خبرُ كان قُدّم على اسمها لاقتضائه الصدارةَ والجملةُ في حيز النصب بإسقاط الخافضِ أي فانظر بعين عقلِك إلى كيفية ما فعلنا بهم، ووضعُ المفسدين موضعَ ضميرِهم للإيذان بأن الظلم مستلزِمٌ للإفساد. اهـ..قال الألوسي: {ثُمَّ بَعَثْنَا مِن بَعْدِهِم موسى} أي أرسلناه عليه السلام بعد الرسل أو بعد الأمم والأول متقدم في قوله سبحانه: {وَلَقَدْ جَاءتْهُمْ رُسُلُهُم} [الأعراف: 101] والثاني مدلول عليه بِ {تلك القرى} [الأعراف: 101] والاحتمال الأول أولى، والتصريح بالبعدية مع ثم الدالة عليها قيل للتنصيص على أنها للتراخي الزماني فإنها كثيرًا ما تسعمل في غيره، وقيل: للإيذان بأن بعثه عليه السلام جرى على سنن السنة الإلهية من ارسال الرسل تترى، و{مِنْ} لابتداء الغاية، وتقديم الجار والمجرور على المفعول الصريح لما مر مرارًا من الاعتناء بالمقدم والتشويق إلى المؤخر، وقوله سبحانه: {بآياتنا} متعلق بمحذوف وقع حالا من مفعول بعثنا أو صفة لمصدره أي بعثناه عليه السلام ملتبسًا بها أو بعثناه بعثًا ملتبسًا بها وأريد بها الآيات التسع المفصلة {إلى فِرْعَوْنَ} هو علم شخص ثم صار لقبا لكل من ملك مصر من العمالقة، كما أن كسرى لقب من ملك فارس، وقيصر لقب من ملك الروم، والنجاشي لقب من ملك الحبشة، وتبع لقب من ملك اليمن، وقيل: إنه من أول الأمر لقب لمن ذكر، واسمه الوليد بن مصعب بن الريان، وقيل: قابوس وكنيته أبو العباس، وقيل: أبو مرة، وقيل: أبو الوليد، وعن جماعة أن قابوسا والوليد اسمان لشخصين أحدهما فرعون موسى والآخر فرعون يوسف عليهما السلام، وعن النقاش.وتاج القراء أن فرعون موسى هو والد الخضر عليه السلام، وقيل: ابنه وذلك من الغرابة بمكان، ويلقب به كل عات ويقال فيه فرعون كزنبور، وحكى ابن خالويه عن الفراء ضم فائه وفتح عينه وهي لغة نادرة، ويقال فيه: فريع كزبير وعليه قول أمية بن الصلت:وقيل: هو فيه ضرورة شعر ومنع من الصرف لأنه أعجمي، وحكى أبو الخطاب بن دحية في مروج البحرين عن أبي النصر القشيري في التيسير أنه بلغة القبط اسم للتمساح، والقول بأنه لم ينصرف لأنه لا سميّ له كابليس عند من أخذخ من أبلس ليس بشيء، وقيل: هو وأضرًا به السابقة أعلام أشخاص وليست من علم الجنس لجمعها على فراعنة وقياصرة وأكاسرة، وعلم الجنس لا يجمع فلابد من القول بوضع خاص لكل من تطلق عليه.وتعقب بأنه ليس بشيء لأن الذي غره قول الرضى إن علم الجنس لا يجمع لأنه كالنكرة شامل للقليل والكثير لوضعه للماهية فلا حاجة لجمعه، وقد صرح النحاة بخلافه وممن ذكر جمعه السهيلي في الروض الأنف فكأن مراد الرضى أنه لا يطرد جمعه وما ذكره تعسف نحن في غنى عنه {وَمَلاَئه} أي أشراف قومه وتخصيصهم بالذكر مع عموم بعثته عليه السلام لقومه كافة لاصالتهم في تدبير الأمور واتباع غيرهم لهم في الورود والصدور {وَمَلإِيِهِ فَظَلَمُواْ بِهَا} أي بالآيات، وأصل الظلم وضع الشيء في غير موضعه وهو يتعدى بنفسه لا بالباء إلا أنه لما كان هو والكفر من واد واحد عدى تعديته أو هو بمعنى الكفر مجازًا أو تضمينًا أو هو مضمن معنى التكذيب أي ظلموا كافرين بها أو مكذبين بها، وقول بعضهم: إن المعنى كفروا بها مكان الإيمان الذي هو من حقها لوضوحها ظاهر في التضمين كأنه قيل كفروا بها واضعين الكفر في غير موضعه حيث كان اللائق بهم الإيمان.وقيل: الباء للسببية ومفعول ظلموا محذوف أي ظلموا الناس بصدهم عن الإيمان أو أنفسهم كما قال الحسن.والجبائي بسببها، والمراد به الاستمرار على الكفر بها إلى أن لقوا من العذاب ما لقوا.{فانظر كَيْفَ كَانَ عاقبة المفسدين} أي آخر أمرهم، ووضع المفسدين موضع ضميرهم للإيذان بأن الظلم مستلزم للافساد، والفاء لأنه كما أن ظلمهم بالآيات مستتبع لتلك العاقبة الهائلة كذلك حكايته مستتبع للأمر بالنظر إليها، والخطاب إما للنبي صلى الله عليه وسلم أو لكل من يتأتى منه النظر، و{كَيْفَ} كما قال أبو البقاء وغيره خبر كان قدم على اسمها لاقتضائه الصدارة، والجملة في حيز النصب باسقاط الخافض كما، قيل: أي فانظر بعين عقلك إلى كيفية ما فعلنا بهم. اهـ. .قال ابن عاشور: {ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسَى بِآَيَاتِنَا إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَظَلَمُوا بِهَا}.انتقال من أخبار الرسالات السابقة إلى أخبار رسالة عظيمة لأمة باقية إلى وقت نزول القرآن فضّلها الله بفضله فلم تُوَف حق الشكر وتلقت رسولها بين طاعة وإباء وانقياد ونفار، فلم يعاملها الله بالاستيصال ولكنه أراها جزاء مختلف أَعمالها، جزاء وفاقًا، إنْ خيرًا فخير، وإن شرًا فشر.وخصت بالتفضيل قصة إرسال موسى لِما تحتوي عليه من الحوادث العظيمة، والأنباء القيمة، ولأن رسالته جاءت بأعظم شريعة بين يدي شريعة الإسلام، وأرسل رسولها هاديًا وشارعًا تمهيدًا لشريعة تأتي لأمة أعظم منها تكون بعدها، ولأن حال المرسل إليهم أشبه بحال من أرسل إليهم محمد صلى الله عليه وسلم فإنهم كانوا فريقيْن كثيريْن اتَبع أحدهم موسى وكفَر به الآخر، كما اتّبع محمدًا عليه السلام جمع عظيم وكفر به فريق كثير، فأهلك الله من كفر ونصر من آمن.وقد دلت {ثم} على المُهلة: لأن موسى عليه السلام بعث بعد شعيب بزمن طويل، فإنه لما توجه إلى مدين حين خروجه من مصر، رجَا الله أن يهديَه فوجد شعيبًا، وكان اتصاله به ومصاهرته تدريجًا له في سلم قبول الرسالة عن الله تعالى فالمهلة باعتبار مجموع الأمم المحكي عنها قبل، فإن منها ما بينه وبين موسى قرونَ مثل قوم نوح، ومثل عاد وثمود، وقوم لوط، فالمهلة التي دلت عليها {ثم} متفاوتة المقدار، مع ما يقتضيه عطف الجملة بحرف {ثم} من التراخي الرتبي وهو ملازم لها إذا عطفت بها الجمل.فحرف {ثم} هنا مستعمل في معنيي المهلة الحقيقي والمجازي.والضمير في قوله: {من بعدهم} يعود إلى القرى، باعتبار أهلها، كما عادت عليهم الضمائر في قوله: {ولقد جاءتهم رسلهم} الآيتين [الأعراف: 101].والباء في {بآياتنا} للملابسة، وهي في موضع الحال من موسى، أي: مصحوبًا بآيات منا، والآيات: الدلائل على صدق الرسول، وهي المعجزات، قال تعالى: {قال إن كنت جئت بآية فأت بها إن كنت من الصادقين فألقى عصاه فإذا هي ثعبان مبين} [الأعراف: 106، 107].و{فرعون} علَم جنس لملك مصر في القديم، أي: قبل أن يملكها اليونان، وهو اسم من لغة القبط.قيل: أصله في القبطية فاراه ولعل الهاء فيه مبدلة عن العين فإن رع اسم الشمس فمعنى فاراه نور الشمس لأنهم كانوا يعبدون الشمس فجعلوا ملك مصر بمنزلة نور الشمس، لأنه يصلح الناس، نقل هذا الاسم عنهم في كتب اليهود وانتقل عنهم إلى العربية، ولعله مما أدخله الإسلام، وهذا الاسم نظير كسرى لملك ملوك الفرس القدماء، وقيصر لملك الروم، ونمروذ لملك كنعان، والنجاشي لملك الحبش، وتُبَع لملك ملوك اليمن، وخان لملك الترك.واسم فرعون الذي أرسل موسى إليه: منفطاح الثاني، أحد ملوك العائلة التاسعة عشرة من العائلات التي ملكت مصر، على ترتيب المؤرخين من الإفرنج وذلك في سنة 1491 قبل ميلاد المسيح.والملأ: الجماعة من علية القوم، وتقدم قريبًا، وهم وزراء فرعون وسادة أهل مصر من الكهنة وقواد الجند، وإنما خص فرعون وملأه لأنهم أهل الحل والعقد الذين يأذنون في سراح بني إسرائيل، فإن موسى بعثه الله إلى بني إسرائيل ليحررهم من الرق الذي كانوا فيه بمصر، ولما كان خروجهم من مصر متوقفًا على أمر فرعون وملئه بعثه الله إليهم ليعلموا أن الله أرسل موسى بذلك، وفي ضمن ذلك تحصل دعوة فرعون للهُدى، لأن كل نبيء يُعلن التوحيد ويأمر بالهدى، وإن كان المأمور من غير المبعوث إليهم حرصًا على الهُدى إلاّ أنَّه لا يقيم فيهم ولا يكرر ذلك، والفاء في قوله: {فظلموا} للتعقيب أي فبادروا بالتكذيب.والظلم: الاعتداء على حق الغير، فيجوز أن يكون {فظلموا} هنا على أصل وضعه وتكون الباء للسببية، وحذف مفعول {ظلموا} لقصد العموم، والمعنى: فظلموا كل من له حق في الانتفاع بالآيات، أي منعوا الناس من التصديق بها وآذوا الذين آمنوا بموسى لَمّا رأوا آياته، كما قال تعالى: {قال فرعون أآمنتم به قبل أن آذن لكم إلى قوله لأقطعن أيديكم وأرجلكم من خلاف} [الأعراف: 123، 124] الآية.وظلموا أنفسهم إذ كابروا ولم يُؤمنوا، فكان الظلم بسبب الآيات أي بسبب الاعتراف بها.ويجوز أن يكون ضمّن {ظلموا} معنى كفروا فعدّي إلى الآيات بالباء، والتقدير: فظلموا إذ كفروا بها، لأن الكفر بالآيات ظلم حقيقة، إذ الظلم الاعتداء على الحق فمن كفر بالدلائل الواضحة المسماة آيات فقد اعتدى على حق التأمل والنظر.والفاء في قوله: {فانظر} لتفريع الأمر على هذا الإخبار، أي: لا تتريّث عند سماع خبر كفرهم عن أن تبادر بالتدبّر فيما سنقص عليك من عاقبتهم.والمنظور هو عاقبتهم التي دل عليها قوله: {فأغرقناهم في اليم بأنهم كذبوا بآياتنا وكانوا عنها غافلين} [الأعراف: 136] وهذا النظر نظر العقل وهو الفكر المُؤَدِّي إلى العلم فهو من أفعال القلوب.والخطاب للنبيء صلى الله عليه وسلم والمراد هو ومن يَبْلغْه، أو المخاطب غيرُ معين وهو كل من يتأتى منه النظر والاعتبار عند سماع هذه الآيات، فالتقدير: فانظر أيها الناظر، وهذا استعمال شائع في كل كلام موجه لغير معين.ولما كان ما آل إليه أمر فرعون وملئه حالة عجيبة، عبر عنه بـ {كيف} الموضوعة للسؤال عن الحال، والاستفهام المستفاد من {كيف} يقتضي تقدير شيء، أي: انظر عاقبة المفسدين التي يسأل عنها بكيف.وعُلّق فعل النظر عن العمل لمجيء الاستفهام بعده، فصار التقدير: فانظر، ثم افتتح كلامًا بجملة {كيف كان عاقبة المفسدين}، والتقدير في أمثاله أن يقدر: فانظر جوابَ كيفَ كان عاقبة المفسدين.والعاقبة: آخر الأمر ونهايته، وقد تقدم عند قوله تعالى: {قل سيروا في الأرض ثم انظروا كيف كان عاقبة المكذبين} في سورة الأنعام (11).والمراد بالمفسدين: فرعون وملأه، فهو من الإظهار في مقام الإضمار تنبيهًا على أنهم أصيبوا بسوء العاقبة لكفرهم وفسادهم، والكفر أعظم الفساد لأنه فساد القلب ينشأ عنه فساد الأعمال، وفي الحديث: «ألا وإن في الجسد مُضْغة إذا صلحت صلح الجسد كلّه وإذا فسدت فسد الجسد كلّه ألا وهي القلب». اهـ.
|