الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
يعنى به: وفَّقك الله لقضاء حاجتي. ومنه قول الآخر: فمعلوم أنه إنما أراد: وفقك الله لإصابة الحق في أمري.ومنه قول الله جل ثناؤه: {وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} في غير آيه من تنزيله. وقد عُلم بذلك، أنه لم يَعْنِ أنه لا يُبيِّنُ للظالمين الواجبَ عليهم من فرائضه. وكيف يجوزُ أن يكونَ ذلك معناه، وقد عمَّ بالبيان جميع المكلَّفين من خلقه؟ ولكنه عَنى جلّ وعزّ أنه لا يُوفِّقهم، ولا يشرَحُ للحق والإيمان صدورَهم.وقد زعم بعضهم أن تأويل قوله: {اهدِنا} زدْنا هدايةٍ.وليس يخلُو هذا القولُ من أحد أمرين: إما أن يكون ظنَّ قائلُه أنّ النبي صلى الله عليه وسلم أُمِر بمسألة الزيادة في البيان، أو الزيادةَ في المعونة والتوفيق.فإن كان ظن أنه أُمِر بمسألة رَبِّه الزيادة في البيان، فذلك ما لا وجه له؛ لأن الله جلّ ثناؤه لا يكلِّف عبدًا فرضًا من فرائضه، إلا بعد تبيينه له وإقامةِ الحجة عليه به. ولو كان مَعنى ذلك معنى مسألتِه البيانَ، لكانَ قد أمِر أن يدعو ربَّه أن يبين له ما فَرض عليه، وذلك من الدعاء خَلف، لأنه لا يفرض فرضًا إلا مبيَّنًا لمن فرضَه عليه. أو يكون أمِر أن يدعوَ ربَّه أن يفرض عليه الفرائضَ التي لم يفرضْها.وفي فساد وَجه مسألة العبد ربَّه ذلك، ما يوضِّح عن أن معنى: {اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ} غير معنى: بيِّن لنا فرائضَك وحدودَك.أو يكون ظنّ أنه أمِر بمسألة ربه الزيادةَ في المعونة والتوفيق. فإن كان ذلك كذلك، فلن تخلوَ مسألتُه تلك الزيادةَ من أن تكون مسألةً للزيادة في المعونة على ما قد مضى من عمله، أو على ما يحدُث.وفي ارتفاع حاجةِ العبد إلى المعونة على ما قد تقضَّى من عمله، ما يُعلِمُ أنّ معنى مسألة تلك الزيادة إنما هو مسألتُه الزيادةَ لما يحدث من عمله. وإذْ كانَ ذلك كذلك، صارَ الأمر إلى ما وصفنا وقلنا في ذلك: من أنه مسألة العبد ربَّه التوفيقَ لأداء ما كُلِّف من فرائضه، فيما يَستقبل من عُمُره.وفي صحة ذلك، فسادُ قول أهل القدَر الزاعمين أنّ كل مأمور بأمرٍ أو مكلَّف فرضًا، فقد أعطي من المعونة عليه، ما قد ارتفعت معه في ذلك الفرض حاجتُه إلى ربِّه. لأنه لو كان الأمرُ على ما قالوا في ذلك، لبطَلَ معنى قول الله جل ثناؤه: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ}. وفي صحة معنى ذلك، على ما بيَّنا، فسادُ قولهم.وقد زعم بعضُهم أنّ معنى قوله: {اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ} أسْلِكنا طريق الجنة في المعاد، أيْ قدِّمنا له وامض بنا إليه، كما قال جل ثناؤه: {فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ} [سورة الصافات: 23]، أي أدخلوهم النار، كما تُهْدَى المرأة إلى زوجها، يُعني بذلك أنها تُدخَل إليه، وكما تُهدَى الهديَّة إلى الرجل، وكما تَهدِي الساقَ القدمُ، نظير قَول طَرفة بن العبد: أي تَرِدُ به الموارد.وفي قول الله جل ثناؤه: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} ما ينبئ عن خطأ هذا التأويل، مع شهادة الحجة من المفسِّرين على تخطئته. وذلك أنّ جميع المفسرين من الصحابة والتابعين مجمِعُون على أنّ معنى: {الصراط} في هذا الموضع، غيرُ المعنى الذي تأوله قائل هذا القول، وأن قوله: {إياك نستعينُ} مسألةُ العبدِ ربَّه المعونةَ على عبادته. فكذلك قوله: {اهْدِنا} إنما هو مسألةُ الثباتِ على الهدى فيما بقي من عُمُره.والعربُ تقول: هديتُ فلانًا الطريقَ، وهَديتُه للطريق، وهديتُه إلى الطريق، إذا أرشدتَه إليه وسدَّدته له. وبكل ذلك جاء القرآن، قال الله جل ثناؤه: {وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا} [سورة الأعراف: 43]، وقال في موضع آخر: {اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [سورة النحل: 121]، وقال: {اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ}.وكل ذلك فاش في منطقها، موجود في كلامها، من ذلك قول الشاعر: يريد: أستغفر الله لذنْب، كما قال جل ثناؤه: {وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ} [سورة غافر: 55].ومنه قول نابغة بني ذُبْيان: يريد: فيصيدُ لنا. وذلك كثير في أشعارهم وكلامهم، وفيما ذكرنا منه كفاية. اهـ.
والثاني: أنه الطريق الواضح ومنه قوله تعالى: {وَلاَ تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِرَاطٍ تُوعِدُون} [الأعراف: 86] وقال الشاعر: وهو مشتق من مُسْتَرَطِ الطعام، وهو ممره في الحلق.وفي الدعاء بهذه الهداية، ثلاثة تأويلات:أحدها: أنهم دعوا باستدامة الهداية، وإن كانوا قد هُدُوا.والثاني: معناه زدنا هدايةً.والثالث: أنهم دعوا بها إخلاصًا للرغبة، ورجاءً لثواب الدعاء. واختلفوا في المراد بالصراط المستقيم، على أربعة أقاويل:أحدها: أنه كتاب الله تعالى، وهو قول علي وعبد الله، ويُرْوَى نحوه عن النبي صلى الله عليه وسلم.والثاني: أنه الإسلام، وهو قول جابر بن عبد الله، ومحمد بن الحنفية.والثالث: أنه الطريق الهادي إلى دين الله تعالى، الذي لا عوج فيه، وهو قول ابن عباس.والرابع: هو رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخيار أهل بيته وأصحابه، وهو قول الحسن البصري وأبي العالية الرياحي. اهـ.
والهداية هاهنا: الإرشاد والتوفيق، وقد تعدى الهداية بنفسها كما هنا: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} فتضمن معنى ألهمنا، أو وفقنا، أو ارزقنا، أو اعطنا؛: {وهديناه النجدين} [البلد: 10] أي: بينا له الخير والشر، وقد تعدى بإلى، كقوله تعالى: {اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [النحل: 121]: {فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ} [الصافات: 23] وذلك بمعنى الإرشاد والدلالة، وكذلك قوله تعالى: {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الشورى: 52] وقد تعدى باللام، كقول أهل الجنة: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا} [الأعراف: 43] أي وفقنا لهذا وجعلنا له أهلا.وأما الصراط المستقيم، فقال الإمام أبو جعفر بن جرير: أجمعت الأمة من أهل التأويل جميعًا على أن: {الصراط المستقيم} هو الطريق الواضح الذي لا اعوجاج فيه.وكذلك ذلك في لغة جميع العرب، فمن ذلك قول جرير بن عطية الخَطَفي: قال: والشواهد على ذلك أكثر من أن تحصر، قال: ثم تستعير العرب الصراط فتستعمله في كل قول وعمل، وصف باستقامة أو اعوجاج، فتصف المستقيم باستقامته، والمعوج باعوجاجه.ثم اختلفت عبارات المفسرين من السلف والخلف في تفسير الصراط، وإن كان يرجع حاصلها إلى شيء واحد، وهو المتابعة لله وللرسول.ثم قال ابن كثير بعد أن ذكر أقوال المفسرين في المراد من الصراط المستقيم:وكل هذه الأقوال صحيحة، وهي متلازمة، فإن من اتبع النبي صلى الله عليه وسلم، واقتدى باللذين من بعده أبي بكر وعمر، فقد اتبع الحق، ومن اتبع الحق فقد اتبع الإسلام، ومن اتبع الإسلام فقد اتبع القرآن، وهو كتاب الله وحبله المتين، وصراطه المستقيم، فكلها صحيحة يصدق بعضها بعضا، ولله الحمد. اهـ.. بتصرف يسير.
|