الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
.قال الشعراوي: {أُبَلِّغُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَأَنْصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ}.والبلاغ هو إنهاء الأمر إلى صاحبه؛ فيقال: بلغت المكان الفلاني.. أي انتهيت إليه. والبلاغة هي النهاية في أداء العبارة الجميلة، و{أبلغكم} أي أنهي إليكم ما حملنيه الحق من منهج هداية لحركة حياتكم. {أُبَلِّغُكُمْ رِسَالاَتِ رَبِّي}.وكان يكفي أن يقول: {رسالة ربي} إلا أنّه قال: {رِسَالاَتِ رَبِّي} لأن أي رسول يأتي بالمنهج الثابت كما جاءت به الرسالات السابقة حتى لا يقول أحد: إنه جاء ليناقض ما جاء به الرسل السابقون، فما قاله به أي رسول سابق يقوله، ونعلم أنه كانت هناك صحف لشيت ولإِدريس. فقال: إنه يبلغ رسالته المتضمنة للرسالات السابقة سواء رسالة إدريس وهو اخنوخ، وكذلك شيت وغيره من الرسل.أي أبلغكم كل ما جعله الله منهجًا لأهل الأرض من الأمور المستقيمة الثابتة، مثلما قال سبحانه: {شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدين مَا وصى بِهِ نُوحًا والذي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ...} [الشورى: 13].وهو الأمور المستقرة الثابتة، العقدية، والأحكام التي لا تتغير. أو {رِسَالاَتِ رَبِّي}، لأنه كرسول يتلقى كل يوم قسطًا من الرسالة؛ فاليوم جاءت له رسالة يبلغها، وغدًا تأتي له رسالة يبلغها، ولو قال: الرسالة لكان عليه أن ينتظر حتى تكتمل البلاغات من الله له ثم يقولها، لكنْ نوح كان يبلغ كل رسالة تأتيه في وقت إبلاغه بها؛ لذلك فهي {رسالات}. أو لأن موضوع الرسالات أمر متشعب تشعبًا يماثل ما تحتاج إليه الحياة من مصالح؛ فهناك رسالة للأوامر، ورسالة للنواهي، ورسالة للوعظ، ورسالة للزجر، ورسالة للتبشير، ورسالة للإِنذار، ورسالة للقصص، وهكذا تكون رسالات.أو أن كل نجم- أي جزء من القرآن وقسط منه- يعتبر رسالة، فما يرسله الله في يوم هو رسالة للنبي، وغدًا له رسالة أخرى وهكذا.وقوله: {وَأَنصَحُ لَكُمْ} لأن البلاغ يقتضي أن يقول لهم منهج الله، ثم يدعو القوم لاتباع هذا المنهج بان يرقق قلوبهم ويخاطبهم بالأسلوب الهادئ وينصحهم، والنصح أمر خارج عن بلاغ الرسالة.ولنلتفت إلى فهم العبارة القرآنية. {وَأَنصَحُ لَكُمْ}.والنصح أن توضح للإِنسان المصلحة في العمل، وتجرد نيتك مما يشوهه. وهل أنت تنصح آخر بأن يعود نفعه عليك؟ إنك إن فعلت ذلك تكون النصيحة متهمة، وإن نصحته بأمر يعود عليه وعليك فهذه نصيحة لك وله، ولكن حينما تقول: نصحت لك أي أن النصيحة ليس فيها مسألة خاصة بك، بل كل ما فيها لصالح من تبلغه فقط، وبذلك يتضح الفارق بين نصحته ونصحت لك. {وَأَنصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنَ الله مَا لاَ تَعْلَمُونَ} [الأعراف: 62].وكأن سيدنا نوحًا يخاطب قومه: إياكم أن تظنوا أن ما أقوله لكم الآن هو كل العلم من الله، ولا كل علم الله، ولا كل ما علمني الله، بل أنا عندي مسائل أخرى سوف أقولها لكم إن اتقيتم الله وامتلكتم الاستعداد الإِيماني، وهنا سأعطيكم منها جرعات.أو قوله: {وَأَعْلَمُ مِنَ الله مَا لاَ تَعْلَمُونَ} يعني أنه سيحدث لكم أمر في الدنيا لم يحصل للأمم السابقة عليكم وهو أن من يُكذب الرسول يأخذه الله بذنبه. وتلك التجربة لم تحدث مع قوم شيت أو إِدريس. {فَكُلًا أَخَذْنَا بِذَنبِهِ فَمِنْهُم مَّن أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُمْ مَّنْ أَخَذَتْهُ الصيحة وَمِنْهُمْ مَّنْ خَسَفْنَا بِهِ الأرض وَمِنْهُمْ مَّنْ أَغْرَقْنَا...} [العنكبوت: 40].ولم يحدث مثل هذا العقاب من قبل نوح، وقد بين لهم نوح: أنا أعلم أن ربنا قد دبر لكم أن من يُكّذِّبَ سيأخذه أخذ عزيز مقتدر.أو {وَأَعْلَمُ مِنَ الله مَا لاَ تَعْلَمُونَ}، أي أن الله أعلمني لا على قدر ما قلت لكم من الخير، لكنه سبحانه قد علمني أن لكل إخبار بالخير ميلادًا وميعادًا. اهـ..من لطائف وفوائد المفسرين: .قال في ملاك التأويل: قوله تعالى: {أُبَلِّغُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَأَنْصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (62)} وفى قصة هود: {أُبَلِّغُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَأَنَا لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ (68)} فيهما سؤالان قوله: {وأنصح لكم} وفى الأخرى: {وأنا لكم ناصح أمين} والثانى أن كل واحد من هذين النبيين الكريمين يعلم من الله سبحانه ما لا يعلمه قومه فهل في قصة نوح ما يحمله على قوله لقومه: {وأعلم من الله ما لا تعلمون} ما ليس في قصة هود؟والجواب عنهما معا: أن قوم نوح عليه السلام لما رموه بالضلال وأكدوا ذلك وزعموا استحكامه بالوصف في قولهم له عليه السلام: {إنا لنراك في ضلال مبين} فزعموا أن ضلاله غير خاف وهو الذهاب عن طريق الصواب ولا يكون إلا عن عدم العلم بما فيه رشاد الضال واستقامة حاله نفى عليه السلام كل ذلك عن نفسه بقوله: {ليس بى ضلالة} ثم أتبع بأوصاف عليع تناقض قولهم وتدفعه وتشهد للمتصف بها ببراءته من ذلك وترد ذلك الوصف عليهم وأنهم الأهلون لما رموه به فقال: {ولكنى رسول من ب العالمين} ولا يرسل رب العالمين المالك للكل العليم بهم إلا من جعله درجات المهتدين العالمين بنصاب الرسالة وما يلزم متحملها ثم بين لهم نصحه واستمراره في إبلاغهم ونصحهم فقال: {أبلغكم رسالات ربى وأنصح لكم} ثم أتبع تعريفهم بجهلهم بما عنده من ربه ويعلمه هو بذلك فقال: {وأعلم من الله ما لا تعلمون} وإنما قال: {وأنصح}، {وأعلم} ليعلم بتماديه على النصح لهم وهم لا يشعرون ولا يهتدون وبإمداده بزيادة علومه بالوحى وهم عن ذلك في أشنع ضلال وأبعده فجمه عليه السلام فيما خاطبهم به رد مقالهم ورميهم بأكثر مما رموه به ورد ذلك عليهم بألطف رد وأبينه لمن وفق ونزه عليه السلام عبارته المخلصة لذلك على أتم الوجوه عن شنيع عبارتهم وقبح مواجتهم واما جواب هود عليه السلام فإن قومه لما قالوا: {إنا لنراك في سفاهة} فرموه بخفة الحلم وقلة الثبات وكثرة الطيش نفى عليه السلام ذلك عن نفسه فقال: {ليس بى سفاهة} فرد قولهم ثم عرفهم برسالته وقدم ما ينبغى للرسول أن يكون عليه ثم أتبع بجليل أداء أمانة الرسالة من التبليغ والتمادى عليه فقال: {أبلغكم} فجاء بالفعل المشعر بالتكرر والاستمرار قياما بإبلاغ رسالته وحفظا لأمانتها ثم قال: {وأنا لكم ناصح أمين} فعرفهم بصفتين جليلتين قد اكتنفته العصمة فيهما ومن كانت صفتاه اللازمتان له النصح والأمانة فقد تنزه قدره عن الطيش وعدم الحلم: {إلا إنهم هو السفهاء ولكن لا يعلمون} وإنما أتى في إخبارهم بنصحه وأمانته بالاسم فقال: {ناصح أمين} وكم يقل: أنصح- فيأتى بالفعل- ليحصل منه أن ذلك الوصف الجليل لازم له غير مفارق ولم يكن الفعل ليعطى ذلك فجاء بالاسم وجعله الخبر عن ضميره الذي هو {أنا} فهذا مقصود ثابت الوصف ولزومه مثل الوارد في قوله تعالى مخبرا عن المنافقين: {وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا وإذا خلوا إلى شياطينهم قالوا إنا معكم إنما نحن مستهزئون الله يستهزئ بهم} فأخبر عن قولهم للمؤمنين {آمنا} بالفعل الماضى وليس من وضعه إعطاء الدوام في الأكثر إذ قد يقول فعلت من أوقع الفعل مرة واحدة وأخبر تعالى عن قولهم لإخوانهم وشياطينهم بقولهم: {إنا معكم إنما نحن مستهزئون} فجاؤوا بالاسم إعلاما بصفتهم التي هم عليها مستمرون فكذا هذا الاخبار الواقع هنا في هذا النقصود من التمادى والاستمرار حين قال هود عليه السلام: {وأنا لكم ناصح أمين} فجاء الاسم فانتفى ما رموه به من السفاه جملة وقابل عليه السلام مقالهم الشنيه بخبره الصادق عن نفسه فرد مقالهم ولم يكن الفعل يحرز هذا القصد كما أحرز قول نوح عليه السلام: {وأعلم من الله ما لا تعلمون} الإخبار عن نفى ما رموه به جملة فجاء كل على ما يجب والله أعلم.ومما يسأل عنه في هاتين الآيتين أن نوحا وهودا عليهما السلام إنما دعوا إلى العبادة قوما كفارا في قصة نوح عليه السلام: {قال الملأ من قومه} وفى قصة هود عليه السلام: {فقال الملأ الذين كفروا من قومه} فوسموا بالكفر بخلاف قوم نوح؟ عليه السلام من قوله: {إنى أخاف عليكم عذاب يوم عظيم} وخوفه من تعذيبهم إنما كان لكفرهم ولم يقع ذلك في دعاء هود لأن قوله: {أفلا تتقون} ليس فيما يعطيه من التخويف في قوة: {إنى أخاف عليكم عذاب يوم عظيم} إذ قد يؤمر بالتقوى المؤمن ويقال للعاصى بصغيرة أفلا تتقى فلما كان في دعاء نوح ما يشير إلى الكفر ويدل عليه اقتضى الإيجاز الاكتفاء بذلك ويشهد لهذا أن قصة صالح وقصة شعيب الوارد فيهما الدعاء إلى الإيمان على هذا المنهج لما لم يقع في دعاء هذين النبين عليهما السلام ما وقع في دعاء نوح عليه السلام مما ينبئ بالكفر ورد في حكاية مقالة قومهما ما يحصل منه ذلك المقصود وذلك قوله تعالى: {قال الملأ الذين استكبروا من قومه} وذلك جار من الواقع في قصة هود من غير فرق لأن استكبارهم عن إجابته والإيمان به كفر والله أعلم بما أراد. اهـ..من لطائف القشيري في الآية: قال عليه الرحمة:{أُبَلِّغُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَأَنْصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (62)}.إني أعلم أَنِّي وإنْ بالغت في تبليغ الرسالة فمَنْ سبقت له القسمة بالشقاوة لا ينفعه نصحي، ولا يُؤَثِّرُ فيه قولي، فمَنْ أسقطته القسمةُ لم تنعشه النصيحة. اهـ..فوائد لغوية وإعرابية: .قال ابن عادل: قوله: {أبَلَّغُكُمْ} يجوزُ أن تكون جملة مستأنفة أتى بها لبيانِ كونه رسولًا، ويجوز أن تكون صفةً لـ {رَسَولِ}، ولكنَّهُ راعى الضَّمِيرَ السَّابِقَ الذي للمتكلِّم فقال: {أبَلِّغُكُم}، ولو راعى الاسم الظَّاهِرَ لقال: يُبَلِّغكم، والاستعمالان جائزان في كلِّ اسم ظاهرٍ سبقه ضمير حاضر من متكلم، أو مخاطب فتحرَّر لك فيه وجهان:مراعاةُ الضَّميرِ السَّابِقِ، وهو الأكثر، ومراعاة الاسم الظَّاهر فيقول: أنَا رجلٌ أفعل كذا مراعاة لـ {أنا}، وإن شئت أنا رجل يفعل كذا مراعاة لرجُلٍ، ومثله: أنْتَ رجلٌ يفعل وتفعلُ بالخطاب والغيبة.وقرأ أبو عَمْرو: {أبْلِغُكُمْ} بالتَّخفيف، والباقون بالتَّشديدِ، وهذا الخلافُ جارٍ هنا في الموضعين، وفي الأحقاف والتَّضعيف والهمزة للتَّعْدِيَةِ كأنْزَلَ، ونَزَّلَ، وجمع رسالة باعتبار أنواعها من أمر ونهي، ووعظ، وزجر، وإنذار، وإعذار، وقد جاء الماضي على أفْعَل في قوله: {فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ} [هود: 57] فهذا شاهدٌ لقراءة أبِي عَمْرٍو، وجاء على فعَّل في قوله: {فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ} [المائدة: 67] فهذا شاهدٌ لقراءة الجماعة.واعلم أنَّهُ ذكر ما هو المقصود من الرِّسالة، وهو أمران: أن يبلغ الرِّسالة، وتقدرير النَّصِيحَةِ، والفرقُ بينهما أنَّ تبليغ الرِّسالة معناه: أن يعرفهم أنْوَاعَ تَكَاليفِ اللَّه، وأوامره، ونواهيه، وأمَّا النَّصيحةُ فهو ترغيبهم في الطَّاعَةِ، وتحذيرهم عن المعاصي.قوله: {وأنْصَحُ لَكُمْ}.قال الفرَّاءُ: العربُ لا تَكَادُ تقُولُ: نصحتك، إنَّمَا يقولون: نصحتُ لك، ويجوز أيضًا: نَصَحْتُكَ.قال النابغة: [الطويل]. اهـ.
|