الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
وَمَعْنَى الْآيَةِ: أَكَذَّبُوا الرَّسُولَ الْمَشْهُورَ بِالْأَمَانَةِ وَالصِّدْقِ، وَقَالُوا: إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ. وَهُوَ الْمَعْرُوفُ عِنْدَهُمْ بِالرِّوَايَةِ وَالْعَقْلِ، حَتَّى جَعَلُوا تَحْكِيمَهُ فِي تَنَازُعِهِمْ عَلَى رَفْعِ الْحَجَرِ الْأَسْوَدِ هُوَ الْحُكْمُ الْفَصْلُ- وَلَمْ يَنْظُرُوا نَظَرَ تَأَمُّلٍ وَاسْتِدْلَالٍ فِي مَجْمُوعِ مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ عَلَى عَظَمَتِهِ، وَالنِّظَامِ الْعَامِّ الَّذِي قَامَ بِجُمْلَتِهِ، وَمَا خَلَقَ اللهُ مِنْ شَيْءٍ فِي كُلٍّ مِنْهُمَا، وَإِنْ دَقَّ وَصَغُرَ، وَخَفِيَ وَاسْتَتَرَ، فَفِي كُلِّ شَيْءٍ مِنْ خَلْقِهِ لَهُ آيَةٌ تَدُلُّ عَلَى عِلْمِهِ وَقُدْرَتِهِ، وَمَشِيئَتِهِ وَحِكْمَتِهِ، وَفَضْلِهِ وَرَحْمَتِهِ، وَكَوْنِهِ لَمْ يَخْلُقْ شَيْئًا عَبَثًا، وَلَا يَتْرُكُ النَّاسَ سُدًى، تَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ بِوُجُودِ ذَلِكَ الشَّيْءِ بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ، وَبِتَرْجِيحِ كُلِّ وَصْفٍ مِنْ أَوْصَافِهِ عَلَى مَا يُقَابِلُهُ، وَبِمَا فِيهَا مِنْ فَائِدَةٍ وَمَنْفَعَةٍ، فَكَيْفَ بِالْمَلَكُوتِ الْأَعْظَمِ فِي جُمْلَتِهِ، وَالنِّظَامِ الْبَدِيعِ الَّذِي قَامَ هُوَ بِهِ؟ أَكَذَّبُوا وَقَالُوا مَا قَالُوا، وَلَمْ يَنْظُرُوا فِي الْعَالَمِ الْأَكْبَرِ، وَلَا فِي ذَرَّاتِ الْعَالَمِ الْأَصْغَرِ، نَظَرَ تَأَمُّلٍ وَاعْتِبَارٍ، وَتَفَكُّرٍ وَاسْتِدْلَالٍ، وَلَا فِيمَا عَسَى أَنْ يَكُونَ عَلَيْهِ الشَّأْنُ مِنَ اقْتِرَابِ أَجَلِهِمْ، وَقُدُومِهِمْ عَلَى اللهِ تَعَالَى بِسُوءِ عَمَلِهِمْ، فَأَجَلُ الْأَفْرَادِ مَهْمَا يَطُلْ فَهُوَ قَصِيرٌ، وَمَهْمَا يَبْعُدُ أَمَلُهُمْ فِيهِ فَهُوَ فِي الْحَقِّ الْوَاقِعِ قَرِيبٌ، وَلَوْ نَظَرُوا فِي الْمَلَكُوتِ أَوْ فِي شَيْءٍ مَا مِنْهُ، وَاعْتَبَرُوا بِخَلْقِ اللهِ تَعَالَى إِيَّاهُ، لَاهْتَدَوْا بِدَلَائِلِهِ إِلَى تَصْدِيقِ الرَّسُولِ صَلَوَاتُ اللهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ، وَلَوْ نَظَرُوا فِي تَوَقُّعِ قُرْبِ أَجَلِهِمْ لَاحْتَاطُوا لِأَنْفُسِهِمْ، وَرَأَوْا أَنَّ مِنَ الْعَقْلِ وَالرَّوِيَّةِ أَنْ يَقْبَلُوا إِنْذَارَهُ صلى الله عليه وسلم لَهُمْ؛ لِأَنَّ خَيْرِيَّتَهُ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا ظَاهِرَةٌ لَمْ يَكُونُوا يُنْكِرُونَهَا، وَأَمَّا خَيْرِيَّتُهُ فِي الْآخِرَةِ فَهِيَ أَعْظَمُ إِذَا صَدُقَ مَا يُقَرِّرُهُ مِنْ أَمْرِ الْبَعْثِ وَالْجَزَاءِ، وَهُوَ صِدْقٌ وَحَقٌّ، وَإِنْ صَحَّ إِنْكَارُهُمْ لَهُ- وَمَا هُوَ بِصَحِيحٍ- فَلَا ضَرَرَ عَلَيْهِمْ مِنَ الِاحْتِيَاطِ لَهُ، كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ:
فَالْمَجْنُونُ إِذًا مَنْ يَتْرُكُ مَا فِيهِ سَعَادَةَ الدُّنْيَا بِاعْتِرَافِهِ، وَسَعَادَةَ الْآخِرَةِ وَلَوْ عَلَى احْتِمَالٍ لَا ضَرَرَ فِي تَخَلُّفِهِ، لَا مَنْ يَدْعُو إِلَى السَّعَادَتَيْنِ، أَوْ إِلَى شَيْئَيْنِ يَجْزِمُونَ بِأَنَّ أَحَدَهُمَا نَافِعٌ قَطْعًا وَالْآخِرَ إِمَّا نَافِعٌ وَإِمَّا غَيْرُ ضَارٍّ. هَذَا مَا دَعَاهُمْ إِلَيْهِ صَاحِبُهُمْ بِكِتَابِ رَبِّهِمْ مُؤَيَّدًا بِالْبَرَاهِينِ الْعَقْلِيَّةِ وَالْعِلْمِيَّةِ، لَعَلَّهُمْ يَعْقِلُونَ وَيَعْلَمُونَ.فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ وَرَدَتْ هَذِهِ الْآيَةُ بِنَصِّهَا فِي آخِرِ سُورَةِ الْمُرْسَلَاتِ، الْآيَةِ رَقْمِ (50) الَّتِي أُقِيمَتْ فِيهَا الدَّلَائِلُ عَلَى الْبَعْثِ وَالْجَزَاءِ، وَتَهْدِيدِ الْمُكَذِّبِينَ بِالْوَيْلِ وَالْهَلَاكِ بَعْدَ تَقْرِيرِ كُلِّ نَوْعٍ مِنْهَا. وَوَرَدَ فِي الْآيَةِ السَّادِسَةِ مِنْ سُورَةِ الْجَاثِيَةِ (45) بَعْدَ التَّذْكِيرِ بِآيَاتِ اللهِ لِلْمُؤْمِنِينَ، وَآيَاتِهِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ، وَآيَاتِهِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ، قَوْلُهُ: ت{ِلْكَ آيَاتُ اللهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللهِ وَآيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ} وَالْحَدِيثُ فِي الْجَمِيعِ كَلَامُ اللهِ الَّذِي هُوَ الْقُرْآنُ، يَدُلُّ عَلَيْهِ هُنَا قَوْلُهُ تَعَالَى فِي رَسُولِهِ: {إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ} (7: 184) وَفِي آيَةِ الْمُرْسَلَاتِ الْقَرِينَةُ فِي تَهْدِيدِ الْمُكَذِّبِينَ لَهُ، وَفِي آيَةِ الْجَاثِيَةِ افْتِتَاحُ السُّورَةِ بِذِكْرِ الْكِتَابِ، فَيَكُونُ مَعْنَاهَا: فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ كِتَابِ اللهِ الْمَذْكُورِ فِي الْآيَةِ الْأُولَى وَآيَاتِهِ الْمُشَارِ إِلَيْهَا بَعْدَهَا يُؤْمِنُونَ؟ وَالْمُرَادُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم نَذِيرٌ مُبِينٌ عَنِ اللهِ تَعَالَى، وَإِنَّمَا أَنْذَرَ النَّاسَ بِهَذَا الْحَدِيثِ أَيِ الْقُرْآنِ. كَمَا أَمَرَهُ أَنْ يَقُولَ: {وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ} (6: 19).وَهُوَ أَكْمَلُ كُتُبِ اللهِ بَيَانًا، وَأَقْوَاهَا بُرْهَانًا، وَأَقْهَرُهَا سُلْطَانًا، فَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِهِ فَلَا مَطْمَعَ فِي إِيمَانِهِ بِغَيْرِهِ، وَمَنْ لَمْ يَرْوِ ظَمَأَهُ الْمَاءُ النُّقَاخُ الْمُبَرَّدُ فَأَيُّ شَيْءٍ يَرْوِيهِ؟ وَمَنْ لَمْ يُبْصِرْ فِي نُورِ النَّهَارِ فَفِي أَيِّ نُورٍ يُبْصِرُ؟ ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: مَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَلَا هَادِيَ لَهُ هَذَا اسْتِئْنَافٌ بَيَانِيٌّ مُقَرِّرٌ لِجُمْلَةِ هَذَا السِّيَاقِ، وَمَعْنَى الْجُمْلَةِ الْمُرَادِ أَنَّ اللهَ تَعَالَى قَدْ جَعَلَ هَذَا الْقُرْآنَ أَعْظَمَ أَسْبَابِ الْهِدَايَةِ، وَإِنَّمَا جَعَلَهُ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ لَا لِلْجَاحِدِينَ الْمُعَانِدِينَ، وَجَعَلَ الرَّسُولَ الْمُبَلِّغَ لَهُ أَكْمَلَ الرُّسُلِ، وَأَقْوَاهُمْ بُرْهَانًا فِي حَالِهِ وَعَقْلِهِ وَأَخْلَاقِهِ وَكَوْنِهِ أُمِّيًّا- فَمَنْ فَقَدَ الِاسْتِعْدَادَ لِلْإِيمَانِ وَالْهُدَى بِهَذَا الْكِتَابِ، عَلَى ظُهُورِ آيَاتِهِ وَقُوَّةِ بَيِّنَاتِهِ، وَبِهَذَا الرَّسُولِ الْمُتَحَدَّى بِهِ، فَهُوَ الَّذِي أَضَلَّهُ اللهُ، أَيْ قَضَتْ سُنَّتُهُ فِي نِظَامِ خَلْقِ الْإِنْسَانِ، وَارْتِبَاطِ الْمُسَبِّبَاتِ فِي أَعْمَالِهِ بِالْأَسْبَابِ، بِأَنْ يَكُونَ ضَالًّا رَاسِخًا فِي الضَّلَالِ، وَإِذَا كَانَ ضَلَالُهُ بِمُقْتَضَى سُنَنِ اللهِ، فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللهِ؟ وَلَا قُدْرَةَ لِأَحَدٍ مِنْ خَلْقِهِ عَلَى تَغْيِيرِ سُنَنِهِ وَلَا تَبْدِيلِهَا.وَيَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ أَيْ: وَهُوَ تَعَالَى يَتْرُكُ هَؤُلَاءِ الضَّالِّينَ فِي طُغْيَانِهِمْ، كَالشَّيْءِ اللَّقَا الَّذِي لَا يُبَالَى بِهِ، حَالَةَ كَوْنِهِمْ يَعْمَهُونَ فِيهِ أَيْ يَتَرَدَّدُونَ تَرَدُّدَ الْحَيْرَةِ وَالْغُمَّةِ لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا، وَفِي هَذَا بَيَانٌ لِسَبَبِ ضَلَالِهِمْ مِنْ كَسْبِهِمْ، وَهُوَ الطُّغْيَانُ، أَيْ تَجَاوُزُ الْحَدِّ فِي الْبَاطِلِ وَالشَّرِّ مِنَ الْكُفْرِ وَالظُّلْمِ وَالْفُجُورِ الَّذِي يَنْتَهِي بِالْعَمَهِ، وَهُوَ التَّرَدُّدُ فِي الْحَيْرَةِ وَالِارْتِكَاسِ فِي الْغُمَّةِ، وَقَدْ رُوعِيَ فِي إِفْرَادِ الضَّمِيرِ أَوَّلًا لَفْظُ مَنْ {يُضْلِلِ} وَفِي جَمْعِهِ آخِرًا مَعْنَاهَا وَهُوَ الْجَمْعُ، وَنَظَائِرُهُ كَثِيرَةٌ..وَقَدْ عُلِمَ مِمَّا قَرَّرْنَاهُ أَنَّ إِسْنَادَ الْإِضْلَالِ إِلَى اللهِ تَعَالَى لَيْسَ مَعْنَاهُ أَنَّهُ أَجْبَرَهُمْ عَلَى الضَّلَالِ إِجْبَارًا، وَأَعْجَزَهُمْ بِقُدْرَتِهِ عَنِ الْهُدَى فَكَانَ ضَلَالُهُمُ اضْطِرَارًا لَا اخْتِيَارًا، بَلْ مَعْنَاهُ أَنَّهُمْ مَارَسُوا الْكُفْرَ وَالضَّلَالَ، وَأَسْرَفُوا فِيهِمَا حَتَّى وَصَلُوا إِلَى حَدِّ الْعَمَهِ فِي الطُّغْيَانِ، فَفَقَدُوا بِهَذِهِ الْأَعْمَالِ الِاخْتِيَارِيَّةِ مَا يُضَادُّهَا مِنَ الْهُدَى وَالْإِيمَانِ.وَقَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ {يَذَرْهُمْ} بِإِسْكَانِ الرَّاءِ، فَقِيلَ: هُوَ لِلتَّخْفِيفِ. وَقِيلَ: لِلْإِعْرَابِ بِالْعَطْفِ عَلَى جَوَابِ الشَّرْطِ، وَقَرَأَهُ بَعْضُ الْقُرَّاءِ بِالنُّونِ عَلَى الِالْتِفَاتِ. .تَحْقِيقُ مَعْنَى الْفِكْرِ وَالتَّفَكُّرِ وَالنَّظَرِ الْعَقْلِيِّ: مِنْ تَحْقِيقِ الْمَبَاحِثِ اللَّفْظِيَّةِ فِي الْآيَاتِ كَلِمَتَا التَّفَكُّرِ وَالنَّظَرِ الْعَقْلِيِّ، وَقَدْ عُبِّرَ هُنَا بِالتَّفَكُّرِ فِي مَوْضُوعِ اسْتِبَانَةِ كَوْنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لَيْسَ بِمَجْنُونٍ كَمَا زَعَمَ بَعْضُ غُوَاتِهِمْ، وَبِالنَّظَرِ فِي جُمْلَةِ الْمَلَكُوتِ وَجُزْئِيَّاتِهِ فِي مَوْضُوعِ الْإِيمَانِ بِمَا جَاءَهُمْ بِهِ الرَّسُولُ مِنْ كِتَابِ اللهِ تَعَالَى، فَنُبَيِّنُ ذَلِكَ بِمَا تَظْهَرُ بِهِ نُكْتَةُ الْفَرْقِ بَيْنَ التَّعْبِيرَيْنِ، وَيَتَجَلَّى تَفْسِيرُ الْآيَتَيْنِ:الْفِكْرُ بِالْكَسْرِ عِبَارَةٌ عَنِ التَّأَمُّلِ فِي الْمَعَانِي وَتَدَبُّرِهَا، وَهُوَ اسْمٌ مِنْ فَكَّرَ يُفَكِّرُ فِكْرًا مِنْ بَابِ ضَرَبَ وَفَكَّرَ بِالتَّشْدِيدِ وَتَفَكَّرَ، وَمِثْلُهُ الْفِكْرَةُ وَالْفِكْرَى. وَفَسَّرُوهُ أَيْضًا بِإِعْمَالِ الْخَاطِرِ وَإِجَالَتِهِ فِي الْأُمُورِ، وَقَالَ الرَّاغِبُ: الْفِكْرَةُ مَطْرَقَةٌ لِلْعِلْمِ إِلَى الْمَعْلُومِ- وَالتَّفَكُّرُ جَوَلَانُ تِلْكَ الْقُوَّةِ بِحَسَبِ نَظَرِ الْعَقْلِ... وَلَا يُقَالُ إِلَّا فِيمَا يُمْكِنُ أَنْ يَحْصُلَ لَهُ صُورَةٌ فِي الْقَلْبِ، وَلِهَذَا رُوِيَ «تَفَكَّرُوا فِي آلَاءِ اللهِ وَلَا تَفَكَّرُوا فِي اللهِ» إِذْ كَانَ مُنَزَّهًا أَنْ يُوصَفَ بِصُورَةٍ. ثُمَّ أَوْرَدَ الشَّوَاهِدَ مِنَ الْآيَاتِ، وَمِنْهَا آيَةُ الْأَعْرَافِ هَذِهِ. ثُمَّ نَقَلَ عَنْ بَعْضِ الْأُدَبَاءِ أَنَّ الْفِكْرَ مَقْلُوبٌ عَنِ الْفَرْكِ لَكِنَّهُ يُسْتَعْمَلُ فِي الْمَعَانِي، وَهُوَ فَرْكُ الْأُمُورِ وَبَحْثُهَا طَلَبًا لِلْوُصُولِ إِلَى حَقِيقَتِهَا اهـ.وَقَالَ عُلَمَاءُ الْمَنْطِقِ: الْفِكْرُ تَرْتِيبُ أُمُورٍ مَعْلُومَةٍ لِلتَّوَصُّلِ إِلَى مَجْهُولٍ تَصَوُّرِيٍّ أَوْ تَصْدِيقِيٍّ، وَهُوَ يُنَافِي الْحُكْمَ عَلَى ظَوَاهِرِ الْأَشْيَاءِ أَوْ فِيهَا بَادِيَ الرَّأْيِ مِنْ غَيْرِ تَمْحِيصٍ وَلَا تَقْدِيرٍ، وَاسْتِعْمَالُ الْقُرْآنِ لِلتَّفَكُّرِ وَالتَّفْكِيرِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمَا فِي الْعَقْلِيَّاتِ الْمَحْضَةِ أَوْ فِي الْعَقْلِيَّاتِ الَّتِي مَبَادِئُهَا حِسِّيَّاتٌ، فَالْإِنْسَانُ يُفَكِّرُ فِيمَا يَنْبَغِي أَنْ يَقُولَهُ فِي الْمَوَاقِفِ الَّتِي تُمَيَّزُ الْأَقْوَالُ، وَفِيمَا يَنْبَغِي أَنْ يَفْعَلَهُ حَيْثُ تُنْتَقَدُ الْأَفْعَالُ، وَيُفَكِّرُ فِي أَقْوَالِ النَّاسِ وَأَفْعَالِهِمْ، وَيُفَكِّرُ فِي الْأُمُورِ الِاجْتِمَاعِيَّةِ وَالْأَدَبِيَّةِ وَالدِّينِيَّةِ وَالسِّيَاسِيَّةِ، وَيُفَكِّرُ أَيْضًا فِي الْمُبْصَرَاتِ كَالْمَسْمُوعَاتِ وَالْمَعْقُولَاتِ، وَأَكْثَرُ مَا اسْتَعْمَلَهُ التَّنْزِيلُ فِي آيَاتِ اللهِ وَدَلَائِل وَجُودِهِ وَوَحْدَانِيَّتِهِ وَحِكْمَتِهِ وَرَحْمَتِهِ.وَأَمَّا النَّظَرُ فَقَدْ قَالَ الرَّاغِبُ فِي تَعْرِيفِهِ: هُوَ تَقْلِيبُ الْبَصَرِ أَوِ الْبَصِيرَةِ فِي إِدْرَاكِ الشَّيْءِ وَرُؤْيَتِهِ، وَقَدْ يُرَادُ بِهِ التَّأَمُّلُ وَالْفَحْصُ، وَقَدْ يُرَادُ بِهِ الْمَعْرِفَةُ الْحَاصِلَةُ بَعْدَ الْفَحْصِ وَهُوَ الرَّوِيَّةُ، يُقَالُ: نَظَرْتَ فَلَمْ تَنْظُرْ، أَيْ لَمْ تَتَأَمَّلْ وَلَمْ تَتَرَوَّ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} (10: 101) أَيْ تَأَمَّلُوا. وَاسْتِعْمَالُ النَّظَرِ فِي الْبَصَرِ أَكْثَرُ عِنْدَ الْعَامَّةِ، وَفِي الْبَصِيرَةِ أَكْثَرُ عِنْدَ الْخَاصَّةِ. اهـ. وَقَدِ اخْتَلَفَ عُلَمَاءُ الْمَعْقُولِ مِنَ الْمَنَاطِقَةِ وَالْمُتَكَلِّمِينَ فِي الْفِكْرِ وَالنَّظَرِ، هَلْ هُمَا مُتَرَادِفَانِ أَوْ أَحَدُهُمَا أَخَصُّ مِنَ الْآخَرِ؟ وَلَهُمْ كَلَامٌ طَوِيلٌ فِي ذَلِكَ أَكْثَرُهُ اصْطِلَاحِيٌّ غَيْرُ مُقَيَّدٍ بِاسْتِعْمَالِ اللُّغَةِ.وَاسْتِعْمَالُ الْقُرْآنِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ النَّظَرَ الْعَقْلِيَّ مَبْدَأٌ مِنْ مَبَادِئِ الْفِكْرِ وَالتَّفْكِيرِ، كَمَا أَنَّ مُبْتَدَأَهُ هُوَ النَّظَرُ الْحِسِّيُّ فِي الْغَالِبِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَفَلَا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ} (88: 17) إِلَخْ وَقَوْلِهِ: {أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا} (50: 6)؟ إِلَخْ. وَمِنْهُ النَّظَرُ فِي عَاقِبَةِ الْأُمَمِ بِرُؤْيَةِ آثَارِهَا فِي عِدَّةِ آيَاتٍ، وَالشَّوَاهِدُ عَلَى ذَلِكَ فِي التَّنْزِيلِ مَعْرُوفَةٌ فَلَا نُطِيلُ فِي سَرْدِهَا، وَالْآيَاتُ الَّتِي نَحْنُ بِصَدَدِ تَفْسِيرِهَا جَمَعَتْ بَيْنَ الْمَبْدَأِ الْحِسِّيِّ، وَهُوَ مَلَكُوتُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، وَالْمَبْدَأِ الْفِكْرِيِّ وَهُوَ اقْتِرَابُ الْأَجَلِ، وَهُمَا وَمَا فِي مَعْنَاهُمَا يَدُلَّانِ عَلَى بِنَاءِ الدِّينِ الْإِسْلَامِيِّ عَلَى قَاعِدَتَيِ: النَّظَرِ الْعَقْلِيِّ، وَالتَّفَكُّرِ، اللَّذَيْنِ يَمْتَازُ بِهِمَا الْأَفْرَادُ وَالْأُمَمُ بَعْضُهَا عَلَى بَعْضٍ وَاللهُ أَعْلَمُ وَأَحْكَمُ. اهـ..التفسير المأثور: {مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَا هَادِيَ لَهُ وَيَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (186)}.أخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن عمر بن الخطاب. انه خطب بالجابية فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. فقال له فتى بين يديه كلمة بالفارسية، فقال عمر لمترجم يترجم له: ما يقول؟ قال: يزعم أن الله لا يضل أحدًا. فقال عمر: كذبت يا عدو الله، بل الله خلقك وهو أضلك، وهو يدخلك النار إن شاء الله، ولولا ولث عقد لضربت عنقك، فتفرق الناس وما يختلفون في القدر. والله أعلم. اهـ..فوائد لغوية وإعرابية: قال ابن عادل:قوله: {ويَذَرْهُمْ} قرأ الأخوان بالياء وجزم الفعل، وعاصم وأبو عمرو بالياء أيضًا، ورفع الفعل، ونافع وابن كثير وابن عامر بالنُّون ورفع الفعل أيضًا، وقد رُوي الجزمُ أيضًا عن نافع، وأبي عمرو في الشواذ.فالرفعُ من وجهٍ واحدٍ، وهو الاستئناف، أي: وهو يذرهم، ونحن نذرهم، على حسب القراءتين، وأمَّا السُّكونُ فيحتمل وجهين:أحدهما: أنه جزم نسقًا على محلِّ قوله: {فَلاَ هَادِيَ لَهُ}؛ لأنَّ الجملةَ المنفيَّة جوابٌ للشرط فهي في محلِّ جزم فعطف على محلِّها وهو كقوله تعالى: {وَإِن تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الفقراء فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَيُكَفِّرُ} [البقرة: 271] بجزم {يُكَفّر}؛ وكقول الشاعر: [الكامل]وأنشد الواحديُّ أيضًا قول الآخر: [الوافر] قال: حمل أسْتَدرِجْ على موضع الفاء المحذوفة، من قوله: لَعَلِّي أصَالِحُكُمْ.والثانى: أنه سكونُ تخفيف، كقراءة أبي عمرو {يَنصُرْكُمُ} [آل عمران: 160] و{يُشْعِرْكُمْ} [الأنعام: 109] ونحوه، وأمَّا الغيبة فجريًا على اسم الله تعالى، والتَّكلم على الالتفات من الغيبة إلى التَّكلم تعظيمًا ويَعْمَهُونَ مترددون متحيرون. اهـ. .من لطائف وفوائد المفسرين: من لطائف القشيري في الآية:قال عليه الرحمة:{مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَا هَادِيَ لَهُ وَيَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (186)}.مَنْ حُرِمَ أنوار التحقيق فهو في ضباب الجهل، فهو يَزِلُّ يمينًا ويسقط شمالًا. اهـ..التفسير الإشاري: قال الألوسي:ومن باب الإشارة في الآيات: {واتل عَلَيْهِمْ نَبَأَ الذي ءاتيناه ءاياتنا فانسلخ مِنْهَا} [الأعراف: 175] إشارة إلى من ابتلى بالحور بعد الكور بأن سلك حتى ظهر له ما ظهر ثم رجع من الطريق لسوء استعداده وغلبة الشقاوة والعياذ بالله تعالى عليه، وفي التعبير بانسلخ ما لا يخفى {وَلَوْ شِئْنَا ووصى بِهَا} إلى حظيرة القدس {ولكنه أَخَذَ إِلَى الأرض} أي مال إلى أرض الطبية السفلية {واتبع هَوَاهُ} في إيثار السوى {فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الكلب} في أخس أحواله {إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ} بالزجر {يَلْهَثْ} يدلع لسانه مع التنفس الشديد {أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَث} [الأعراف: 176] أيضًا.والمراد أنه يلهث دائمًا وكأنه إشارة إلى أن هذا المنسلخ لا يزال يطلق لسانه في أهل الكمال سواء زجر عن ذلك أو لم يزجر {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مّنَ الجن والإنس} وهم مظاهر القهر {لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا} الأسرار {وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا} الحجج الكونية {وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا} الآيات التنزيلية فهم صم بكم عمي {أُوْلَئِكَ كالأنعام} ليس لهم هم إلا الأكل والشرب {بَلْ هُمْ أَضَلُّ} [الأعراف: 179] منها لأنهم لا ينزجرون إذا زجروا ولا يهتدون إذا أرشدوا.
|