الباب الثالث فيما تكون به الذكاة.
-أجمع العلماء على أن كل ما أنهر الدم وفرى الأوداج من حديد أو صخر أو عود أو قضيب أن التذكية به جائزة. واختلفوا في ثلاثة: في السن والظفر والعظم، فمن الناس من أجاز التذكية بالعظم ومنعها بالسن والظفر، والذين منعوها بالسن والظفر منهم من فرق بين أن يكونا منزوعين أو لا يكونا منزوعين، فأجاز التذكية بهما إذا كانا منزوعين ولم يجزها إذا كانا متصلين؛ ومنهم من قال: إن الذكاة بالسن والعظم مكروهة غير ممنوعة، ولا خلاف في المذهب أن الذكاة بالعظم جائزة إذا أنهر الدم، واختلف في السن والظفر فيه على الأقاويل الثلاثة، أعني بالمنع مطلقا، والفرق فيهما بين الانفصال والاتصال وبالكراهية لا بالمنع. وسبب اختلافهم اختلافهم في مفهوم النهي الوارد في قوله عليه الصلاة والسلام في حديث رافع بن خديج، وفيه قال "يا رسول الله إنا لاقو العدو غدا وليس معنا مدى فنذبح بالقصب؟ فقال عليه الصلاة والسلام: ما أنهر الدم وذكر اسم الله عليه فكل ليس السن والظفر وسأحدثكم عنه، أما السن فعظم، وأما الظفر فمدى الحبشة" فمن الناس من فهم منه أن ذلك لمكان أن هذه الأشياء ليس في طبعها أن تنهر الدم غالبا؛ ومنهم من فهم من ذلك أنه شرع غير معلل، والذين فهموا منه أنه شرع غير معلل: منهم من اعتقد أن النهي في ذلك يدل على فساد المنهي عنه؛ ومنهم من اعتقد أنه لا يدل على فساد المنهى عنه؛ ومنهم من اعتقد أن النهي في ذلك على وجه الكراهة لا على وجه الحظر، فمن فهم أن المعنى في ذلك أنه لا ينهر الدم غالبا قال: إذا وجد منهما ما ينهر الدم جاز، ولذلك رأى بعضهم أن يكونا منفصلين إذ كان إنهار الدم منهما إذا كانا بهذه الصفة أمكن، وهو مذهب أبي حنيفة؛ ومن رأى أن النهي عنهما هو مشروع غير معلل وأنه يدل على فساد المنهى عنه قال: إن ذبح بهما لم تقع التذكية، وإن أنهر الدم؛ ومن رأى أنه لا يدل على فساد المنهى عنه قال: إن فعل وأنهر الدم أثم وحلت الذبيحة؛ ومن رأى أن النهي على وجه الكراهية كره ذلك ولم يحرمه، ولا معنى لقول من فرق بين العظم والسن، فإنه عليه الصلاة والسلام قد علل المنع في السن بأنه عظم، ولا يختلف المذهب أنه يكره غير الحديد من المحدودات مع وجود الحديد لقوله عليه الصلاة والسلام "إن الله كتب الإحسان على كل شيء فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة وليحد أحدكم شفرته وليرح ذبيحته" خرجه مسلم.
الباب الرابع في شروط الذكاة.
-وفي هذا الباب ثلاث مسائل: المسألة الأولى: في اشتراط التسمية. الثانية: في اشتراط البسملة. الثالثة: في اشتراط النية.
-( المسألة الأولى) واختلفوا في حكم التسمية على الذبيحة على ثلاثة أقوال: فقيل هي فرض على الإطلاق وقيل بل هي فرض مع الذكر ساقطة مع النسيان؛ وقيل بل هي سنة مؤكدة، وبالقول الأول قال أهل الظاهر وابن عمر والشعبي وابن سيرين، وبالقول الثاني قال مالك وأبو حنيفة والثوري، وبالقول الثالث قال الشافعي وأصحابه، وهو مروي عن ابن عباس وأبي هريرة وسبب اختلافهم معارضة ظاهر الكتاب في ذلك للأثر. فأما الكتاب فقوله تعالى {ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه وإنه لفسق} . وأما السنة المعارضة لهذه الآية فما رواه مالك عن هشام عن أبيه أنه قال "سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقيل: يا رسول الله إن ناسا من البادية يأتوننا بلحمان ولا ندري أسموا الله عليها أم لا؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: سموا الله عليها ثم كلوها" فذهب مالك إلى أن الآية ناسخة لهذا الحديث وتأول أن هذا الحديث كان في أول الإسلام ولم ير ذلك الشافعي، لأن هذا الحديث ظاهره أنه كان بالمدينة وآية التسمية مكية، فذهب الشافعي لمكان هذا مذهب الجمع بأن حمل الأمر بالتسمية على الندب. وأما من اشترط الذكر في الوجوب فمصيرا إلى قوله عليه الصلاة والسلام "رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه".
-( المسألة الثانية) وأما استقبال القبلة بالذبيحة، فإن قوما استحبوا ذلك، وقوما أجازوا ذلك، وقوما أوجبوه، وقوما كرهوا أن لا يستقبل بها القبلة، والكراهية والمنع موجودان في المذهب، وهي مسألة مسكوت عنها، والأصل فيها الإباحة إلا أن يدل الدليل على اشتراط ذلك، وليس في الشرع شيء يصلح أن يكون أصلا تقاس عليه هذه المسألة إلا أن يستعمل فيها قياس مرسل وهو القياس الذي لا يستند إلى أصل مخصوص عند من أجازه أو قياس شبه بعيد وذلك أن القبلة هي جهة معظمة وهذه عبادة، فوجب أن يشترط فيها الجهة لكن هذا ضعيف لأنه ليس كل عبادة تشترط فيها الجهة ما عدا الصلاة، وقياس الذبح على الصلاة بعيد، وكذلك قياسه على استقبال القبلة بالميت.
-( المسألة الثالثة) وأما اشتراط النية فيها فقيل في المذهب بوجوب ذلك، ولا أذكر فيها خارج المذهب في هذا الوقت خلافا في ذلك، ويشبه أن يكون في ذلك قولان: قول بالوجوب، وقول بترك الوجوب، فمن أوجب قال: عبادة لاشتراط الصفة فيها والعدد، فوجب أن يكون من شرطها النية؛ ومن لم يوجبها قال: فعل معقول يحصل عنه فوات النفس الذي هو المقصود منه، فوجب أن لا تشترط فيها النية كما يحصل من غسل النجاسة إزالة عينها.
الباب الخامس فيمن تجوز تذكيته ومن لا تجوز.
-والمذكور في الشرع ثلاثة أصناف: صنف اتفق على جواز تذكيته، وصنف اتفق على منع ذكاته، وصنف اختلف فيه. فأما الصنف الذي اتفق على ذكاته فمن جمع خمسة شروط: الإسلام والذكورية والبلوغ والعقل وترك تضيع الصلاة. وأما الذي اتفق على منع تذكيته فالمشركون عبدة الأصنام لقوله تعالى {وما ذبح على النصب} ولقوله {وما أهل به لغير الله} وأما الذين اختلف فيهم فأصناف كثيرة، لكن المشهور منها عشرة: أهل الكتاب والمجوس والصابئون والمرأة والصبي والمجنون والسكران والذي يضيع الصلاة والسارق والغاصب. فأما أهل الكتاب فالعلماء مجمعون على جواز ذبائحهم لقوله تعالى {وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم وطعامكم حل لهم} ومختلفون في التفصيل، فاتفقوا على أنهم إذا لم يكونوا من نصارى بني تغلب ولا مرتدين وذبحوا لأنفسهم وعلم أنهم سموا الله تعالى على ذبيحتهم وكانت الذبيحة مما لم تحرم عليهم في التوراة ولا حرموها هم على أنفسهم أنه يجوز منها ما عدا الشحم. واختلفوا في مقابلات هذه الشروط، أعني إذا ذبحوا لمسلم باستنابته أو كانوا من نصارى بني تغلب أو مرتدين، وإذا لم يعلم أنهم سموا الله أو جهل مقصود ذبحهم أو علم أنهم سموا غير الله مما يذبحونه لكنائسهم وأعيادهم أو كانت الذبيحة مما حرمت عليهم بالتوراة كقوله تعالى {كل ذي ظفر} أو كانت مما حرموها على أنفسهم مثل الذبائح التي تكون عند اليهود فاسدة من قبل خلقة إلهية، وكذلك اختلفوا في الشحوم. فأما إذا ذبحوا باستنابة مسلم فقيل في المذهب عن مالك يجوز وقيل لا يجوز. وسبب الاختلاف هل من شرط ذبح المسلم اعتقاد تحليل الذبيحة على الشروط الإسلامية في ذلك أم لا؟ فمن رأى أن النية شرط في الذبيحة قال: لا تحل ذبيحة الكتابي لمسلم، لأنه لا يصح منه وجود هذه النية. ومن رأى أن ذلك ليس بشرط وغلب عموم الكتاب: أعني قوله تعالى {وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم} قال يجوز، وكذلك من اعتقد أن نية المستنيب تجزئ وهو قول ابن وهب.
(وأما المسألة الثانية) وهي ذبائح نصارى بني تغلب والمرتدين، فإن الجمهور على أن ذبائح النصارى من العرب حكمها حكم ذبائح أهل الكتاب، وهو قول ابن عباس؛ ومنهم من لم يجز ذبائحهم، وهو أحد قولي الشافعي، وهو مروى عن علي رضي الله عنه. وسبب الخلاف هل يتناول العرب المتنصرين والمتهودين اسم الذين أوتوا الكتاب كما يتناول ذلك الأمم المختصة بالكتاب وهم بنو اسرائيل والروم. وأما المرتد فإن الجمهور على أن ذبيحته لا تؤكل. وقال اسحاق: ذبيحته جائزة؛ وقال الثوري: مكروهة. وسبب الخلاف هل المرتد لا يتناوله اسم أهل الكتاب إذ كان ليس له حرمة أهل الكتاب أو يتناوله؟
(وأما المسألة الثالثة) وهي إذا لم يعلم أن أهل الكتاب سموا الله على الذبيحة فقال الجمهور: تؤكل، وهو مروى عن علي، ولست أذكر فيه في هذا الوقت خلافا، ويتطرق إليه الإحتمال بأن يقال إن الأصل هو أن لا يؤكل من تذكيتهم إلا ما كان على شروط الإسلام؛ فإذا قيل على هذا أن التسمية من شرط التذكية وجب أن لا تؤكل ذبائحهم بالشك في ذلك. وأما إذا علم أنهم ذبحوا ذلك لأعيادهم وكنائسهم فإن من العلماء من كرهه، وهو قول مالك؛ ومنهم من أباحه، وهو قول أشهب؛ ومنهم من حرمه، وهو الشافعي. وسبب اختلافهم تعارض عمومي الكتاب في هذا الباب، وذلك أن قوله تعالى {وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم} يحتمل أن يكون مخصصا لقوله تعالى {وما أهل به لغير الله} ويحتمل أن يكون قوله تعالى {وما أهل به لغير الله} مخصصا لقوله تعالى {وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم} إذ كان كل واحد منهما يصح أن يستثنى من الآخر، فمن جعل قوله تعالى وما أهل به لغير الله مخصصا لقوله تعالى {وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم} قال: لا يجوز ما أهل به للكنائس والأعياد؛ ومن عكس الأمر قال: يجوز. وأما إذا كانت الذبيحة مما حرمت عليهم، فقيل يجوز؛ وقيل لا يجوز، وقيل بالفرق بين أن تكون محرمة عليهم بالتوراة أو من قبل أنفسهم، أعني بإباحة ما ذبحوا مما حرموا على أنفسهم ومنع ما حرم الله عليهم؛ وقيل يكره ولا يمنع. والأقاويل الأربعة موجودة في المذهب: المنع عن ابن القاسم، والإباحة عن ابن وهب وابن عبد الحكم، والتفرقة عن أشهب. وأصل الاختلاف معارضة عموم الآية لاشتراط نية الذكاة: أعني اعتقاد تحليل الذبيحة بالتذكية؛ فمن قال ذلك شرط في التذكية قال لا تجوز هذه الذبائح لأنهم لا يعتقدون تحليلها بالتذكية؛ ومن قال ليس بشرط فيها وتمسك بعموم الآية المحللة قال: تجوز هذه الذبائح. وهذا بعينه هو سبب اختلافهم في أكل الشحوم من ذبائحهم، ولم يخالف في ذلك أحد غير مالك وأصحابه؛ فمنهم من قال: إن الشحوم محرمة وهو قول أشهب؛ ومنهم من قال مكروهة، والقولان عن مالك؛ ومنهم من قال مباحة.
ويدخل في الشحوم سبب آخر من أسباب الخلاف سوى معارضة العموم لاشتراط اعتقاد تحليل الذبيحة بالذكاة، وهو هل تتبعض التذكية أو لا تتبعض؟ فمن قال تتبعض قال: لا تؤكل الشحوم؛ ومن قال لا تتبعض قال: يؤكل الشحم. ويدل على تحليل شحوم ذبائحهم حديث عبد الله بن مغفل إذ أصاب جراب الشحم يوم خيبر، وقد تقدم في كتاب الجهاد. ومن فرق بين ما حرم عليهم من ذلك في أصل شرعهم وبين ما حرموا على أنفسهم قال: ما حرم عليهم هو أمر حق فلا تعمل فيه الذكاة، وما حرموا على أنفسهم هو أمر باطل فتعمل فيه التذكية. قال القاضي: والحق أن ما حرم عليهم أو حرموا على أنفسهم هو في وقت شريعة الإسلام أمر باطل إذ كانت ناسخة لجميع الشرائع، فيجب أن لا يراعي اعتقادهم في ذلك، ولا يشترط أيضا أن يكون اعتقادهم في تحليل الذبائح اعتقاد المسلمين ولا اعتقاد شريعتهم لأنه لو اشترط ذلك لما جاز أكل ذبائحهم بوجه من الوجوه، لكون اعتقاد شريعتهم في ذلك منسوخا، ولاعتقاد شريعتنا لا يصح منهم، وإنما هذا حكم خصهم الله تعالى به، فذبائحهم والله أعلم جائزة لنا على الإطلاق وإلا ارتفع حكم آية التحليل جملة، فتأمل هذا فإنه بين والله أعلم. وأما المجوس فإن الجمهور على أنه لا تجوز ذبائحهم لأنهم مشركون، وتمسك قوم في إجازتها بعموم قوله عليه الصلاة والسلام "سنوا بهم سنة أهل الكتاب". وأما الصائبون فالاختلاف فيهم من قبل اختلافهم في هل هم من أهل الكتاب أم ليسوا من أهل الكتاب. وأما المرأة والصبي فإن الجمهور على أن ذبائحهم جائزة غير مكروهة، وهو مذهب مالك، وكره ذلك أبو المصعب. والسبب في اختلافهم. نقصان المرأة والصبي، وإنما لم يختلف الجمهور في المرأة لحديث معاذ بن سعيد "أن جارية لكعب بن مالك كانت ترعى بسلع فأصيبت شاة فأدركتها فذبحتها بحجر، فسئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقال: لا بأس بها فكلوها" وهو حديث صحيح.
وأما المجنون والسكران فإن مالكا لم يجز ذبيحتهما، وأجاز ذلك الشافعي. وسبب الخلاف اشتراط النية في الذكاة، فمن اشترط النية منع ذلك إذ لا يصح من الجنون ولا من السكران وبخاصة الملتخ (الملتخ: الملطخ، قاموس). وأما جواز تذكية السارق والغاصب، فإن الجمهور على جواز ذلك؛ ومنهم من منع ذلك ورأى أنها ميتة، وبه قال داود وإسحاق بن راهويه. وسبب اختلافهم هل النهي يدل على فساد المنهى عنه أو لا يدل؟ فمن قال يدل قال: السارق والغاصب منهى عن ذكاتها وتناولها وتملكها، فإذا كان ذكاها فسدت التذكية؛ ومن قال لا يدل إلا إذا كان المنهى عنه شرطا من شروط ذلك الفعل قال: تذكيتهم جائزة لأنه ليس صحة الملك شرطا من شروط التذكية.
وفي موطأ ابن وهب "أنه سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عنها فلم ير بها بأسا" وقد جاء إباحة ذلك مع الكراهية فيما روي عن النبي عليه الصلاة والسلام في الشاة التي ذبحت بغير إذن ربها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "أطعموها الأسارى" وهذا القدر كاف في أصول هذا الكتاب والله أعلم.
كتاب الصيد.
-وهذا الكتاب في أصوله أيضا أربعة أبواب: الباب الأول: في حكم الصيد وفي محل الصيد. الثاني: فيما به يكون الصيد. الثالث: في صفة ذكاة الصيد والشرائط المشترطة في عمل الذكاة في الصيد. الرابع: فيمن يجوز صيده.
الباب الأول في حكم الصيد ومحله.
-فأما حكم الصيد فالجمهور على أنه مباح لقوله تعالى {أحل لكم صيد البحر وطعامه متاعا لكم وللسيارة وحرم عليكم صيد البر ما دمتم حرما} ثم قال {وإذا حللتم فاصطادوا} واتفق العلماء على أن الأمر بالصيد في هذه الآية بعد النهي يدل على الإباحة كما اتفقوا على ذلك في قوله تعالى {فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله} أعني أن المقصود به الإباحة لوقوع الأمر به بعد النهي وإن كان اختلفوا هل الأمر بعد النهي يقتضي الإباحة أو لا يقتضيه وإنما يقتضي على أصله الوجوب؛ وكره مالك الصيد الذي يقصد به السرف، وللمتأخرين من أصحابه فيه تفصيل محصول قولهم فيه إن منه ما هو في حق بعض الناس واجب وفي حق بعضهم حرام، وفي حق بعضهم مندوب، وفي حق بعضهم مكروه؛ وهذا النظر في الشرع تغلغل في القياس وبعد عن الأصول المنطوق بها في الشرع، فليس يليق بكتابنا هذا إذ كان قصدنا فيه إنما هو ذكر المنطوق به من الشرع أو ما كان قريبا من المنطوق به. وأما محل الصيد فإنهم أجمعوا على أن محله من الحيوان البحري وهو السمك وأصنافه، ومن الحيوان البري الحلال الأكل الغير مستأنس. واختلفوا فيما استوحش من الحيوان المستأنس فلم يقدر على أخذه ولا ذبحه أو نحره، فقال مالك: لا يؤكل إلا أن ينحر، من ذلك ما ذكاته النحر، ويذبح ما ذكاته الذبح، أو يفعل به أحدهما إن كان مما يجوز فيه الأمران جميعا. وقال أبو حنيفة والشافعي: إذا لم يقدر على ذكاة البعير الشارد فإنه يقتل كالصيد. وسبب اختلافهم معارضة الأصل في ذلك للخبر، وذلك أن الأصل في هذا الباب هو أن الحيوان الإنسي لا يؤكل إلا بالذبح أو النحر، وأن الوحشي يؤكل بالعقر. وأما الخبر المعارض لهذه الأصول، فحديث رافع بن خديج وفيه قال "فند منها بعير وكان في القوم خيل يسيرة فطلبوه فأعياهم، فأهوى إليه رجل بسهم فحبسه الله تعالى به، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: "إن لهذه البهائم أوابد كأوابد الوحش فما ند عليكم فاصنعوا به هكذا" والقول بهذا الحديث أولى لصحته، لأنه لا ينبغي أن يكون هذا مستثنى من ذلك الأصل مع أن لقائل أن يقول إنه جار مجرى الأصل في هذا الباب، وذلك أن العلة في كون العقر ذكاة في بعض الحيوان ليس شيئا أكثر من عدم القدرة عليه، لا لأنه وحشي فقط، فإذا وجد هذا المعنى من الإنسي جاز أن تكون ذكاته ذكاة الوحشي، فيتفق القياس والسماع.
الباب الثاني فيما يكون به الصيد.
-والأصل في هذا الباب آيتان وحديثان: الآية الأولى قوله تعالى {يا أيها الذين آمنوا ليبلونكم الله بشيء من الصيد تناله أيديكم ورماحكم} . والثانية قوله تعالى {قل أحل لكم الطيبات وما علمتم من الجوارح مكلبين} الآية. وأما الحديثان: فأحدهما حديث عدي بن حاتم، وفيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له "إذا أرسلت كلابك المعلمة وذكرت اسم الله عليها فكل مما أمسكن عليك، وإن أكل الكلب فلا تأكل فإني أخاف أن يكون إنما أمسك على نفسه، وإن خالطها كلاب غيرها فلا تأكل فإنما سميت على كلبك ولم تسم على غيره" وسأله عن المعراض فقال "إذا أصاب بعرضه فلا تأكل فإنه وقيذ" وهذا الحديث هو أصل في أكثر ما في هذا الكتاب. والحديث الثاني حديث أبي ثعلبة الخشني، وفيه من قوله عليه الصلاة والسلام "ما أصبت بقوسك فسم الله ثم كل، وما صدت بكلبك المعلم فاذكر اسم الله ثم كل، وما صدت بكلبك الذي ليس بمعلم وأدركت ذكاته فكل" وهذان الحديثان اتفق أهل الصحيح على إخراجهما. والآلات التي يصاد بها منها ما اتفقوا عليها بالجملة. ومنها ما اختلفوا فيها وفي صفاتها، وهي ثلاث: حيوان جارح ومحدد ومثقل. فأما المحدد فاتفقوا عليه كالرماح والسيوف والسهام للنص عليها في الكتاب والسنة. وكذلك بما جرى مجراها مما يعقر ما عدا الأشياء التي اختلفوا في عملها في ذكاة الحيوان الإنسي وهي السن والظفر والعظم وقد تقدم اختلافهم في ذلك فلا معنى لإعادته. وأما المثقل فاختلفوا في الصيد به مثل الصيد بالمعراض والحجر؛ فمن العلماء من لم يجز من ذلك إلا ما أدركت ذكاته؛ ومنهم من أجازه على الإطلاق؛ ومنهم من فرق بين ما قتله المعراض أو الحجر بثقله أو بحده إذا خرق جسد الصيد فأجازه إذا خرق ولم يجزه إذا لم يخرق، وبهذا القول قال مشاهير الفقهاء الأمصار الشافعي ومالك وأبو حنيفة وأحمد والثوري وغيرهم. وهو راجع إلى أنه لا ذكاة إلا بمحدد.
وسبب اختلافهم معارضة الأصول في هذا الباب بعضها بعضا، ومعارضة الأثر لها، وذلك أن من الأصول في هذا الباب أن الوقيذ محرم بالكتاب والإجماع، ومن أصوله أن العقر ذكاة الصيد؛ فمن رأى أن ما قتل المعراض وقيذ منعه على الإطلاق؛ ومن رآه عقرا مختصا بالصيد وأن الوقيذ غير معتبر فيه أجازه على الإطلاق؛ ومن فرق بين ما خرق من ذلك أو لم يخرق فمصيرا إلى حديث عدي ابن حاتم المتقدم وهو الصواب. وأما الحيوان الجارح فالاتفاق والاختلاف فيه منه متعلق بالنوع والشرط، ومنه ما يتعلق بالشرط. فأما النوع الذي اتفقوا عليه فهو الكلاب ما عدا الكلب الأسود، فإنه كرهه قوم منهم الحسن البصري وإبراهيم النخعي وقتادة؛ وقال أحمد: ما أعرف أحدا يرخص فيه إذا كان بهيما، وبه قال إسحاق. وأما الجمهور فعلى إجازة صيده إذا كان معلما. وسبب اختلافهم معارضة القياس للعموم، وذلك أن عموم قوله تعالى {وما علمتم من الجوارح مكلبين} يقتضي تسوية جميع الكلاب في ذلك "وأمره عليه الصلاة والسلام بقتل الكلب الأسود البهيم" يقتضي في ذلك القياس أن لا يجوز اصطياده على رأي من رأى أن النهي يدل على فساد المنهى عنه، وأما الذي اختلفوا فيه من أنواع الجوارح فيما عدا الكلب ومن جوارح الطيور وحيواناتها الساعية؛ فمنهم من أجاز جميعها إذا علمت حتى السنور كما قال ابن شعبان، وهو مذهب مالك وأصحابه، وبه قال فقهاء الأمصار وهو مروي عن ابن عباس، أعني أن ما قبل التعليم من جميع الجوارح فهو آلة لذكاة الصيد. وقال قوم: لا اصطياد بجارح ما عدا الكلب ولا باز ولا صقر ولا غير ذلك إلا ما أدركت ذكاته، وهو قول مجاهد؛ واستثنى بعضهم من الطيور الجارحة البازي فقط فقال: يجوز صيده وحده.
وسبب اختلافهم في هذا الباب شيئان: أحدهما قياس سائر الجوارح على الكلاب، وذلك أنه قد يظن أن النص إنما ورد في الكلاب، أعني قوله تعالى {وما علمتم من الجوارح مكلبين} إلا أن يتأول أن لفظه مكلبين مشتقة من كلب الجارح لا من لفظ الكلب، ويدل على هذا عموم اسم الجوارح الذي في الآية، فعلى هذا يكون سبب الاختلاف الاشتراك الذي في لفظه مكلبين. والسبب الثاني هل من شرط الإمساك الإمساك على صاحبه أم لا؟ وإن كان من شرطه فهل يوجد في غير الكلب أو لا يوجد؟ فمن قال لا يقاس سائر الجوارح على الكلاب وأن لفظه مكلبين هي مشتقة من اسم الكلب لا من اسم غير الكلب أو أنه لا يوجد الإمساك إلا في الكلب: أعني على صاحبه وأن ذلك شرط قال: لا يصاد بجارح سوى الكلب؛ ومن قاس على الكلب سائر الجوارح ولم يشترط في الإمساك الإمساك على صاحبه قال: يجوز صيد سائر الجوارح إذا قبلت التعليم.
وأما من استثنى من ذلك البازي فقط فمصيرا إلى ما روي عن عدي بن حاتم أنه قال "سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صيد البازي فقال: ما أمسك عليك فكل" خرجه الترمذي فهذه هي أسباب اتفاقهم واختلافهم في أنواع الجوارح. وأما الشروط المشترطة في الجوارح فإن منها ما اتفقوا عليه وهو التعليم بالجملة لقوله تعالى {وما علمتم من الجوارح مكلبين} وقوله عليه الصلاة والسلام "إذا أرسلت كلبك المعلم"
واختلفوا في صفة التعليم وشروطه، فقال قوم: التعليم ثلاثة أصناف: أحدها أن تدعو الجارح فيجيب. والثاني أن تشيله فينشلى. والثالث أن تزجره فيزدجر. ولا خلاف بينهم في اشتراط هذه الثلاثة في الكلب، وإنما اختلفوا في اشتراط الانزجار في سائر الجوارح، فاختلفوا أيضا في هل من شرطه أن لا يأكل الجارح؟ فمنهم من اشترطه على الإطلاق؛ ومنهم من اشترطه في الكلب فقط؛ وقول مالك: إن هذه الشروط الثلاثة شرط في الكلاب وغيرها؛ وقال ابن حبيب من أصحابه: ليس يشترط الانزجار فيما ليس يقبل ذلك من الجوارح مثل البزاة والصقور، وهو مذهب مالك، أعني أنه ليس من شرط الجارح لا كلب ولا غيره أن لا يأكل، واشترطه بعضهم في الكلب ولم يشترطه فيما عداه من جوارح الطيور؛ ومنهم من اشترطه كما قلنا في الكل؛ والجمهور على جواز أكل صيد البازي والصقر وإن أكل، لأن تضريته إنما تكون بالأكل. فالخلاف في هذا الباب راجع إلى موضعين: أحدهما هل من شرط التعليم أن ينزجر إذا زجر؟ والثاني هل من شرطه ألا يأكل؟. وسبب الخلاف في اشتراط الأكل أو عدمه شيئان: أحدهما اختلاف الآثار في ذلك. والثاني هل إذا أكل فهو ممسك أم لا؟ فأما الآثار فمنها حديث عدي بن حاتم المتقدم وفيه "فإن أكل فلا تأكل فإني أخاف أن يكون أمسك على نفسه" والحديث المعارض لهذا حديث أبي ثعلبة الخشني قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إذا أرسلت كلبك المعلم وذكرت اسم الله فكل، قلت: وإن أكل منه يا رسول الله؟ قال: وإن أكل"
فمن جمع بين الحديثين بأن حمل حديث عدي بن حاتم على الندب وهذا على الجواز قال: ليس من شرطه ألا يأكل؛ ومن رجح حديث عدي بن حاتم إذ هو حديث متفق عليه وحديث أبي ثعلبة مختلف فيه، ولذلك لم يخرجه الشيخان البخاري ومسلم وقال من شرط الإمساك أن لا يأكل بدليل الحديث المذكور قال: إن أكل الصيد لم يؤكل، وبه قال الشافعي وأبو حنيفة وأحمد وإسحق والثوري، وهو قول ابن عباس، ورخص في أكل مما أكل الكلب كما قلنا مالك وسعيد بن مالك وابن عمر وسليمان. وقالت المالكية المتأخرة إنه ليس الأكل بدليل على أنه لم يمسك لسيده ولا الإمساك لسيده بشرط في الذكاة، لأن نية الكلب غير معلومة، وقد يمسك لسيده ثم يبدو له فيمسك لنفسه، وهذا الذي قالوه خلاف النص في الحديث وخلاف ظاهر الكتاب، وهو قوله تعالى {فكلوا مما أمسكن عليكم} وللإمساك على سيد الكلب طريق تعرف به، وهو العادة، ولذلك قال عليه الصلاة والسلام "فإن أكل فلا تأكل فإني أخاف أن يكون إنما أمسك على نفسه".
وأما اختلافهم في الازدجار فليس له سبب إلا اختلافهم في قياس سائر الجوارح في ذلك على الكلب، لأن الكلب الذي لا يزدجر لا يسمى معلما باتفاق، فأما سائر الجوارح إذا لم تنزجر هل تسمى معلمة أم لا؟ ففيه التردد وهو سبب الخلاف.
الباب الثالث في معرفة الذكاة المختصة بالصيد وشروطها.
-واتفقوا على أن الذكاة المختصة بالصيد هي العقر. واختلفوا في شروطها اختلافا كثيرا، وإذا اعتبرت أصولها التي هي أسباب الاختلاف سوى الشروط المشترطة في الآلة وفي الصائد وجدتها ثمانية شروط: اثنان يشتركان في الذكاتين أعني ذكاة المصيد وغير المصيد وهي النية والتسمية. وستة تختص بهذه الذكاة: أحدها أنها لم تكن الآلة أو الجارح الذي أصاب الصيد قد أنفذ مقاتله فإنه يجب أن يذكى بذكاة الحيوان الإنسي إذا قدر عليه قبل أن يموت مما أصابه من الجارح أو من الضرب. وأما إن كان قد أنفذ مقاتله فليس يجب ذلك وإن كان قد يستحب. والثاني أن يكون الفعل الذي أصيب به الصيد مبدؤه من الصائد لا من غيره: أعني لا من الآلة كالحال في الحبالة، ولا من الجارح كالحال فيما يصيب الكلب الذي ينشلى من ذاته. والثالث أن لا يشاركه في العقر من ليس عقره ذكاة. والرابع أن لا يشك في عين الصيد الذي أصابه وذلك عند غيبته عن عينه. والخامس أن لا يكون الصيد مقدورا عليه في وقت الإرسال عليه. والسادس أن لا يكون موته من رعب من الجارح أو بصدمه منه. فهذه هي أصول الشروط التي من قبل اشتراطها أو لا اشتراطها عرض الخلاف بين الفقهاء، وربما اتفقوا على وجوب بعض هذه الشروط، ويختلفون في وجودها في نازلة نازلة، كاتفاق المالكية على أن من شرط الفعل أن يكون مبدؤه من الصائد، واختلافهم إذا أفلت الجارح من يده أو خرج بنفسه، ثم أغراه هل يجوز ذلك الصيد أم لا لتردد هذه الحال بين أن يوجد لها هذا الشرط أو لا يوجد كاتفاق أبي حنيفة ومالك على أن من شرطه إذا أدرك غير منفوذ المقاتل أن يذكى إذا قدر عليه قبل أن يموت. واختلافهم بين أن يخلصه حيا فيموت في يده قبل أن يتمكن من ذكاته، فإن أبا حنيفة منع هذا وأجازه مالك ورآه مثل الأول، أعني إذا لم يقدر على تخليصه من الجارح حتى مات لتردد هذه الحال بين أن يقال أدركه غير منفوذ المقاتل وفي غير يد الجارح فأشبه المفرط أو لم يشبهه فلم يقع منه تفريط.
وإذا كانت هذه الشروط هي أصول الشروط المشترطة في الصيد مع سائر الشروط المذكورة في الآلة والصائد نفسه على ما سيأتي يجب أن يذكر منها ما اتفقوا منه عليه وما اختلفوا فيه، وأسباب الخلاف في ذلك وما يتفرع عنها من مشهور مسائلهم. فنقول: أما التسمية والنية فقد تقدم الخلاف فيهما وسببه في كتاب الذبائح، ومن قبل اشتراط النية في الذكاة لم يجز عند من اشترطها إذا أرسل الجارح على صيد وأخذ آخر ذكاة ذلك الصيد لم يرسل عليه، وبه قال مالك؛ وقال الشافعي وأبو حنيفة وأحمد وأبو ثور: ذلك جائز ويؤكل؛ ومن قبل هذا أيضا اختلف أصحاب مالك في الإرسال على صيد غير مرئي، كالذي يرسل على ما في غيضة أو من وراء أكمة ولا يدري هل هنالك شيء أم لا؟ لأن القصد في هذا يشوبه شيء من الجهل. وأما الشرط الأول الخاص بذكاة الصيد من الشروط الستة التي ذكرناها وهو أن عقر الجارح له إذا لم ينفذ مقاتله، إنما يكون إذا لم يدركه المرسل حيا، فباشتراطه قال جمهور العلماء لما جاء في حديث عدي بن حاتم في بعض رواياته أنه قال عليه الصلاة والسلام "وإن أدركته حيا فاذبحه" وكان النخعي يقول: إذا أدركته حيا ولم يكن معك حديدة فأرسل عليه الكلاب حتى تقتله، وبه قال الحسن البصري مصيرا لعموم قوله تعالى {فكلوا مما أمسكن عليكم} ومن قبل هذا الشرط قال مالك: لا يتوانى المرسل في طلب الصيد، فإن توانى فأدركه ميتا، فإن كان منفوذ المقاتل بسهم حل أكله وإلا لم يحل من أجل أنه لو لم يتوان لكان يمكن أن يدركه حيا غير منفود المقاتل. وأما الشرط الثاني وهو أن يكون الفعل مبدؤه من القانص ويكون متصلا حتى يصيب الصيد، فمن قبل اختلافهم فيه اختلفوا فيما تصيبه الحبالة والشبكة إذا أنقذت المقاتل بمحدد فيها، فمنع ذلك مالك والشافعي والجمهور، ورخص فيه الحسن البصري؛ ومن هذا الأصل لم يجز مالك الصيد الذي أرسل عليه الجارح فتشاغل بشيء آخر ثم عاد إليه من قبل نفسه. وأما الشرط الثالث وهو أن لا يشاركه في العقر من ليس عقره ذكاة له، فهو شرط مجمع عليه فيما أذكر، لأنه لا يدري من قتله. وأما الشرط الرابع وهو أن لا يشك في عين الصيد ولا في قتل جارحة له، فمن قبل ذلك اختلفوا في أكل الصيد إذا غاب مصرعه، فقال مالك مرة: لا بأس بأكل الصيد إذا غاب عنك مصرعه إذا وجدت به أثرا من كلبك أو كان به سهمك ما لم يبت، فإذا بات فإني أكرهه. وبالكراهية قال الثوري؛ وقال عبد الوهاب: إذا بات الصيد من الجارح لم يؤكل، وفي السهم خلاف؛ وقال ابن الماجشون: يؤكل فيهما جميعا إذا وجد منفوذ المقاتل؛ وقال مالك في المدونة: لا يؤكل فيهما جميعا إذا بات وإن وجد منفوذ المقاتل؛ وقال الشافعي: القياس أن لا تأكله إذا غاب عنك مصرعه؛ وقال أبو حنيفة: إذا توارى الصيد والكلب في طلبه فوجده المرسل مقتولا جاز أكله ما لم يترك الكلب الطلب، فإن تركه كرهنا أكله.
وسبب اختلافهم شيئان اثنان: الشك العارض في عين الصيد أو في زكاته. والسبب الثاني اختلاف الآثار في هذا الباب، فروى مسلم والنسائي والترمذي وأبو داود عن أبي ثعلبة عن النبي عليه الصلاة والسلام في الذي يدرك صيده بعد ثلاث فقال "كل ما لم ينتن" وروى مسلم عن أبي ثعلبة أيضا عن النبي عليه الصلاة والسلام قال "إذا رميت سهمك فغاب عنك مصرعه فكل ما لم يبت" وفي حديث عدي بن حاتم أنه قال عليه الصلاة والسلام "إذا وجدت سهمك فيه ولم تجد فيه أثر سبع وعلمت أن سهمك قتله فكل". ومن هذا الباب اختلافهم في الصيد يصاد بالسهم أو يصيبه الجارح فيسقط في ماء أو يتردى من مكان عال، فقال مالك: لا يؤكل لأنه لا يدري من أي الأمرين مات، إلا أن يكون السهم قد أنقذ مقاتله ولا يشك أن منه مات، وبه قال الجمهور؛ وقال أبو حنيفة: لا يؤكل إن وقع في ماء منفوذ المقاتل، ويؤكل إن تردى. وقال عطاء: لا يؤكل أصلا إذا أصيبت المقاتل وقع في ماء أو تردى من موضع عال لإمكان أن يكون زهوق نفسه من قبل التردي أو من الماء قبل زهوقها من قبل إنقاذ المقاتل. وأما موته من صدم الجارح له، فإن ابن القاسم منعه قياسا على المثقل، وأجازه أشهب لعموم قوله تعالى {فكلوا مما أمسكن عليكم} ولم يختلف المذهب أن ما مات من خوف الجارح أنه غير مذكي. وأما كونه في حين الإرسال غير مقدور عليه، فإنه اشترط فيما علمت متفق عليه. وذلك يوجد إذا كان الصيد مقدورا على أخذه باليد دون خوف أو غرر. إما من قبل أنه قد نشب في شيء أو تعلق بشيء أو رماه أحد فكسر جناحه أو ساقه، وفي هذا الباب فروع كثيرة من قبل تردد بعض الأحوال بين أن يرصف فيها الصيد بأنه مقدور عليه أو غير مقدور عليه، مثل أن تضطره الكلاب فيقع في حفرة، فقيل في المذهب يؤكل، وقيل لا يؤكل.
واختلفوا في صفة العقر إذا ضرب الصيد فأبين منه عضو، فقال قوم: يؤكل الصيد ما بان منه؛ وقال قوم: يؤكلان جميعا؛ وفرق قوم بين أن يكون ذلك العضو مقتلا أو غير مقتل، فقالوا: إن كان مقتلا أكلا جميعا، وإن كان غير مقتل أكل الصيد ولم يؤكل العضو، وهو معنى قول مالك: وإلى هذا يرجع خلافهم في أن يكون القطع بنصفين أو يكون أحدهما أكبر من الثاني. وسبب اختلافهم معارضة قوله عليه الصلاة والسلام "ما قطع من البهيمة وهي حية فهو ميتة" لعموم قوله تعالى {فكلوا مما أمسكن عليكم} ولعموم قوله تعالى {تناله أيديكم ورماحكم} فمن غلب حكم الصيد وهو العقر مطلقا قال: يؤكل الصيد والعضو المقطوع من الصيد، وحمل الحديث على الإنسي؛ ومن حمله على الوحشي والإنسي معا واستثنى من ذلك العموم بالحديث العضو المقطوع فقال: يؤكل الصيد دون العضو البائن، ومن اعتبر في ذلك الحياة المستقرة، أعني في قوله وهي حية فرق بين أن يكون العضو مقتلا أو غير مقتل.
الباب الرابع في شروط القانص.
-وشروط القانص هي شروط الذابح نفسه، وقد تقدم ذلك في كتاب الذبائح المتفق عليها والمختلف فيها، ويخص الاصطياد في البر شرط زائد وهو أن لا يكون محرما، ولا خلاف في ذلك لقوله تعالى {وحرم عليكم صيد البر ما دمتم حرما} فإن اصطاد محرم فهل يحل ذلك الصيد للحلال أم هو ميتة لا يحل لأحد أصلا؟ اختلف فيه الفقهاء، فذهب مالك إلى أنه ميتة، وذهب الشافعي وأبو حنيفة وأبو ثور إلى أنه يجوز لغير المحرم أكله. وسبب اختلافهم هو الأصل المشهور. وهو هل النهي يعود بفساد المنهي أم لا؟ وذلك بمنزلة ذبح السارق والغاصب. واختلفوا من هذا الباب في كلب المجوس المعلم، فقال مالك: الاصطياد به جائز، فإن المعتبر الصائد لا الآلة، وبه قال الشافعي وأبو حنيفة وغيرهم؛ وكرهه جابر بن عبد الله والحسن وعطاء ومجاهد والثوري، لأن الخطاب في قوله تعالى {وما علمتم من الجوارح مكلبين} متوجه نحو المؤمنين، وهذا كاف بحسب المقصود من هذا الكتاب، والله الموفق للصواب.
كتاب العقيقة
-والقول المحيط بأصول هذا الكتاب ينحصر في ستة أبواب: الأول: في معرفة حكمها. الثاني: في معرفة محلها. الثالث: في معرفة من يعق عنه وكم يعق. الرابع: في معرفة وقت هذا النسك. الخامس: في سن هذا النسك وصفته. السادس: حكم لحمها وسائر آجزائها.
-فأما حكمها؛ فذهبت طائفة منهم الظاهرية إلى أنها واجبة، وذهب الجمهور إلى أنها سنة، وذهب أبو حنيفة إلى أنها ليست فرضا ولا سنة؛ وقد قيل إن تحصيل مذهبه أنها عنده تطوع. وسبب اختلافهم تعارض مفهوم الآثار في هذا الباب، وذلك أن ظاهر حديث سمرة وهو قول النبي عليه الصلاة والسلام "كل غلام مرتهن بعقيقته تذبح عنه يوم سابعه ويماط عنه الأذى" يقتضي الوجوب، وظاهر قوله عليه الصلاة والسلام وقد سئل عن العقيقة فقال "لا أحب العقوق ومن ولد له ولد فأحب أن ينسك عن ولده فليفعل" يقتضي الندب أو الإباحة، فمن فهم منه الندب قال: العقيقة سنة؛ ومن فهم الإباحة قال: ليست بسنة ولا فرض وخرج الحديثين أبو داود؛ ومن أخذ بحديث سمرة أوجبها.
وأما محلها فإن جمهور العلماء على أنه لا يجوز في العقيقة إلا ما يجوز في الضحايا من الأزواج الثمانية. وأما مالك فاختار فيها الضأن على مذهبه في الضحايا، واختلف قوله هل يجزي فيها الإبل والبقر أو لا يجزي؟ وسائر الفقهاء على أصلهم أن الإبل أفضل من البقر والبقر أفضل من الغنم. وسبب اختلافهم تعارض الآثار في هذا الباب والقياس. أما الأثر فحديث ابن عباس "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عق عن الحسن والحسين كبشا كبشا" وقوله عن الجارية شاة وعن الغلام شاتان" خرجهما أبو داود. وأما القياس فلأنهما نسك، فوجب أن يكون الأعظم فيها أفضل قياسا على الهدايا.
وأما من يعق عنه، فإن جمهورهم على أنه يعق عن الذكر والأنثى الصغيرين فقط؛ وشذ الحسن فقال: لا يعق عن الجارية؛ وأجاز بعضهم أن يعق عن الكبير. ودليل الجمهور على تعلقها بالصغير قوله عليه الصلاة والسلام "يوم سابعه". ودليل من خالف ما روي عن أنس "أن النبي عليه الصلاة والسلام عق عن نفسه بعد ما بعث بالنبوة" ودليلهم أيضا على تعلقها بالأنثى قوله عليه الصلاة والسلام "عن الجارية شاة وعن الغلام شاتان". ودليل من اقتصر بها على الذكر قوله عليه الصلاة والسلام "كل غلام مرتهن بعقيقته". وأما العدد فإن الفقهاء اختلفوا أيضا في ذلك، فقال مالك: يعق عن الذكر والأنثى بشاة شاة؛ وقال الشافعي وأبو ثور وأبو داود وأحمد: يعق عن الجارية شاة وعن الغلام شاتان. وسبب اختلافهم اختلاف الآثار في هذا الباب. فمنها حديث أم كرز الكعبية خرجه أبو داود قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في العقيقة "عن الغلام شاتان مكافأتان، وعن الجارية شاة" والمكافأتان: المتماثلتان. وهذا يقتضي الفرق في ذلك بين الذكر والأنثى، وما روي "أنه عق عن الحسن والحسين كبشا كبشا" يقتضي الاستواء بينهما.
وأما وقت هذا النسك فإن جمهور العلماء على أنه يوم سابع المولود ومالك لا يعد في الأسبوع اليوم الذي ولد فيه إن ولد نهارا، وعبد الملك بن الماجشون يحتسب به. وقال ابن القاسم في العقيقة: إن عق ليلا لم يجزه. واختلف أصحاب مالك في مبدأ وقت الإجزاء، فقيل وقت الضحايا: أعني ضحى؛ وقيل بعد الفجر قياسا على قول مالك في الهدايا، ولاشك أن من أجاز الضحايا ليلا أجاز هذه ليلا؛ وقد قيل يجوز في السابع الثاني والثالث.
وأما سن هذا النسك وصفته فسن الضحايا وصفتها الجائزة، أعني أنه يتقي فيها من العيوب ما يتقي في الضحايا، ولا أعلم في هذا خلافا في المذهب ولا خارجا منه.
وأما حكم لحمها وجلدها وسائر أجزائها فحكم لحم الضحايا في الأكل والصدقة ومنع البيع، وجميع العلماء على أنه كان يدمي رأس الطفل في الجاهلية بدمها وأنه نسخ في الإسلام، وذلك لحديث بريدة الأسلمي قال "كنا في الجاهلية إذا ولد لأحدنا غلام ذبح له شاة ولطخ رأسه بدمها، فلما جاء الإسلام كنا نذبح ونحلق رأسه ونلطخه بزعفران" وشذ الحسن وقتادة فقالا: يمس رأس الصبي بقطنة قد غمست في الدم واستحب كسر عظامها لما كانوا في الجاهلية يقطعونها من المفاصل. واختلف في حلاق رأس المولود يوم السابع، والصدقة بوزن شعره فضة، فقيل هو مستحب، وقيل هو غير مستحب، والقولان عن مالك، والاستحباب أجود، وهو قول ابن حبيب لما رواه مالك في الموطأ "أن فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم حلقت شعر الحسن والحسين وزينب وأم كلثوم، وتصدقت بزنة ذلك فضة".
كتاب الأطعمة والأشربة
-والكلام في أصول هذا الكتاب يتعلق بجملتين: الجملة الأولى: نذكر فيها المحرمات في حال الاختيار. الجملة الثانية: نذكر فيها أحوالها في حال الاضطرار.
(الجملة الأولى)
-والأغذية الإنسانية نبات وحيوان. فأما الحيوان الذي يغتذى به، فمنه حلال في الشرع، ومنه حرام، وهذا منه بري ومنه بحري. والمحرمة منها ما تكون محرمة لعينها، ومنها ما تكون لسبب وارد عليها. وكل هذه منها ما اتفقوا عليه، ومنها ما اختلفوا فيه. فأما المحرمة لسبب وارد عليها فهي بالجملة تسعة: الميتة، والمنخنقة، والموقوذة، والمتردية، والنطيحة، وما أكل السبع، وكل ما نقصه شرط من شروط التذكية من الحيوان الذي التذكية شرط في أكله، والجلالة، والطعام الحلال يخالطه نجس. فأما الميتة فاتفق العلماء على تحريم ميتة البر، واختلفوا في ميتة البحر على ثلاثة أقوال: فقال قوم: هي حلال بإطلاق؛ وقال قوم: هي حرام بإطلاق؛ وقال قوم: ما طفا من السمك حرام، وما جزر عنه البحر فهو حلال. وسبب اختلافهم تعارض الآثار في هذا الباب، ومعارضة عموم الكتاب لبعضها معارضة كلية، وموافقته لبعضها موافقة جزئية، ومعارضة بعضها لبعض معارضة جزئية. فأما العموم فهو قوله تعالى {حرمت عليكم الميتة} . وأما الآثار المعارضة لهذا العموم معارضة كلية فحديثان: الواحد متفق عليه، والآخر مختلف فيه. أما المتفق عليه فحديث جابر، وفيه "إن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وجدوا حوتا يسمى العنبر، أو دابة قد جزر عنه البحر فأكلوا منه بضعة وعشرين يوما أو شهرا، ثم قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبروه فقال: هل معكم من لحمه شيء: فأرسلوا منه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأكله" وهذا إنما يعارض الكتاب معارضة كلية بمفهومه لا بلفظه. وأما الحديث الثاني المختلف فيه، فما رواه مالك عن أبي هريرة "أنه سئل عن ماء البحر فقال: هوالطهور ماؤه الحل ميتته". وأما الحديث الموافق للعموم موافقة جزئية فما روى إسماعيل بن أمية عن أبي الزبير عن جابر عن النبي عليه الصلاة والسلام قال "ما ألقى البحر أو جزر عنه فكلوه، وما طفا فلا تأكلوه" وهو حديث أضعف عندهم من حديث مالك. وسبب ضعف حديث مالك أن في رواته من لا يعرف، وأنه ورد من طريق واحد؛ قال أبو عمر بن عبد البر: بل رواته معروفون وقد ورد من طرق. وسبب ضعف حديث جابر أن الثقات أوقفوه على جابر؛ فمن رجح حديث جابر هذا على حديث أبي هريرة لشهادة عموم الكتاب له لم يستثن من ذلك إلا ما جزر عنه البحر إذ لم يرد في ذلك تعارض؛ ومن رجح حديث أبي هريرة قال بالإباحة مطلقا. وأما من قال بالمنع مطلقا فمصيرا إلى ترجيح عموم الكتاب، وبالإباحة مطلقا قال مالك والشافعي، وبالمنع مطلقا قال أبو حنيفة وقال قوم غير هؤلاء بالفرق. وأما الخمسة التي ذكر الله مع الميتة فلا خلاف أن حكمها عندهم حكم الميتة. وأما الجلاَّلة وهي التي تأكل النجاسة فاختلفوا في أكلها. وسبب اختلافهم معارضة القياس للأثر. أما الأثر فما روي: أنه عليه الصلاة والسلام نهى عن لحوم الجلاَّلة وألبانها" خرجه أبو داود عن ابن عمر. وأما القياس المعارض لهذا، فهو أن ما يرد جوف الحيوان ينقلب إلى لحم ذلك الحيوان وسائر أجزائه، فإذا قلنا أن لحم الحيوان حلال، وجب أن يكون لما ينقلب من ذلك حكم ما ينقلب إليه، وهو اللحم كما لو انقلب ترابا، أو كانقلاب الدم لحما، والشافعي يحرم الجلاَّلة، ومالك يكرهها. وأما النجاسة تخالط الحلال فالأصل فيه الحديث المشهور من حديث أبي هريرة وميمونة "أنه سئل عليه الصلاة والسلام عن الفأرة تقع في السمن فقال: إن كان جامدا فاطرحوها وما حولها وكلوا الباقي، وإن كان ذائبا فأريقوه أو لا تقربوه"
وللعلماء في النجاسة تخالط المطعومات الحلال مذهبان: أحدهما من يعتبر في التحريم المخالطة فقط وإن لم يتغير للطعام لون ولا رائحة ولا طعم من قبل النجاسة التي خالطته وهو المشهور والذي عليه الجمهور. والثاني مذهب من يعتبر في ذلك التغير، وهو قول أهل الظاهر ورواية عن مالك. وسبب اختلافهم اختلافهم في مفهوم الحديث، وذلك أن منهم من جعله من باب الخاص أريد به الخاص وهم أهل الظاهر فقالوا: هذا الحديث يمر على ظاهره، وسائر الأشياء يعتبر فيها تغيرها بالنجاسة أو لا تغيرها بها؛ ومنهم من جعله من باب الخاص أريد به العام وهم الجمهور فقالوا: المفهوم منه أن بنفس مخالطة النجس ينجس الحلال، إلا أنه لم يتعلل لهم الفرق بين أن يكون جامدا أو ذائبا لوجود المخالطة في هاتين الحالتين وإن كانت في إحدى الحالتين أكثر: أعني في حالة الذوبان؛ ويجب على هذا أن يفرق بين المخالطة القليلة والكثيرة، فلما لم يفرقوا بينهما فكأنهم اقتصروا من بعض الحديث على ظاهره، ومن بعضه على القياس عليه، ولذلك أقرته الظاهرية كله على ظاهره. وأما المحرمات لعينها، فمنها ما اتفقوا أيضا عليه، ومنها ما اختلفوا فيه. فأما المتفق منها عليه فاتفق المسلمون منها على اثنين: لحم الخنزير، والدم. فأما الخنزير فاتفقوا على تحريم شحمه ولحمه وجلده، واختلفوا في الانتفاع بشعره وفي طهارة جلده مدبوغا وغير مدبوغ، وقد تقدم ذلك في كتاب الطهارة. وأما الدم فاتفقوا على تحريم المسفوح منه من الحيوان المذكى، واختلفوا في غير المسفوح منه.
وكذلك اختلفوا في دم الحوت؛ فمنهم من رآه نجسا؛ ومنهم من لم يره نجسا، والاختلاف في هذا كله موجود في مذهب مالك وخارجا عنه. وسبب اختلافهم في غير المسفوح معارضة الإطلاق للتقييد، وذلك أن قوله تعالى {حرمت عليكم الميتة والدم} يقتضي تحريم مسفوح الدم وغيره، وقوله تعالى {أو دما مسفوحا} يقتضي بحسب دليل الخطاب تحريم المسفوح فقط؛ فمن رد المطلق إلى المقيد اشترط في التحريم السفح؛ ومن رأى أن الإطلاق يقتضي حكما زائدا على التقييد، وأن معارضة المقيد للمطلق إنما هو من باب دليل الخطاب، والمطلق عام، والعام أقوى من دليل الخطاب قضى بالمطلق على المقيد، وقال: يحرم قليل الدم وكثيره. والسفح المشترط في حرمية الدم إنما هو دم الحيوان المذكى، أعني أنه الذي يسيل عند التذكية من الحيوان الحلال الأكل. وأما أكل دم يسيل من الحيوان الحي فقليله وكثيره حرام؛ وكذلك الدم من الحيوان المحرم الأكل، وإن ذكى فقليله وكثيره حرام، ولا خلاف في هذا. وأما سبب اختلافهم في دم الحوت فمعارضة العموم للقياس. أما العموم فقوله تعالى {والدم} . وأما القياس فما يمكن أن يتوهم من كون الدم تابعا في التحريم لميتة الحيوان، أعني أن ما حرم ميتته حرم دمه، وما حل ميتته حل دمه، ولذلك رأى مالك أن ما لا دم له فليس بميتة. قال القاضي: وقد تكلمنا في هذه المسألة في كتاب الطهارة، ويذكر الفقهاء في هذا حديثا مخصصا لعموم الدم قوله عليه الصلاة والسلام "أحلت لنا ميتتان ودمان" وهذا الحديث في غالب ظني ليس هو في الكتب المشهورة من كتب الحديث. وأما المحرمات لعينها المختلف فيها فأربعة: أحدها لحوم السباع من الطير ومن ذوات الأربع. والثاني ذوات الحافر الإنسية. والثالث لحوم الحيوان المأمور بقتله في الحرم. والرابع لحوم الحيوانات التي تعافها النفوس وتستخبثها بالطبع. وحكى أبو حامد عن الشافعي أنه يحرم لحم الحيوان المنهي عن أكله قال: كالخطاف والنحل فيكون هذا جنسا خامسا من المختلف فيه.
-(فأما المسألة الأولى) وهي السباع ذوات الأربع، فروى ابن القاسم عن مالك أنها مكروهة، وعلى هذا القول عول جمهور أصحابه وهو المنصور عندهم؛ وذكر مالك في الموطأ ما دليله أنها عنده محرمة، وذلك أنه قال بعقب حديث أبي هريرة عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال "أكل كل ذي ناب من السباع حرام" وعلى ذلك الأمر عندنا، وإلى تحريمها ذهب الشافعي وأشهب وأصحاب مالك وأبو حنيفة، إلا أنهم اختلفوا في جنس السباع المحرمة فقال أبو حنيفة: كل ما أكل اللحم فهو سبع حتى الفيل والضبع واليربوع عنده من السباع، وكذلك السنور؛ وقال الشافعي: يؤكل الضبع والثعلب، وإنما السباع المحرمة التي تعدو على الناس كالأسد والنمر والذئب، وكلا القولين في المذهب، وجمهورهم على أن القرد لا يؤكل ولا ينتفع به؛ وعند الشافعي أيضا أن الكلب حرام لا ينتفع به، لأنه فهم من النهي عن سؤره نجاسة عينه. وسبب اختلافهم في تحريم لحوم السباع من ذوات الأربع معارضة الكتاب للآثار، وذلك أن ظاهر قوله {قل لا أجد فيما أوحي إلى محرما على طاعم يطعمه} الآية، أن ما عدا المذكور في هذه الآية حلال، وظاهر حديث أبي ثعلبة الخشني أنه قال "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أكل كل ذي ناب من السباع إن السباع محرمة" هكذا رواه البخاري ومسلم. وأما مالك فما رواه في هذا المعنى من طريق أبي هريرة هو أبين في المعارضة وهو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "أكل كل ذي ناب من السباع حرام" وذلك أن الحديث الأول قد يمكن الجمع بينه وبين الآية بأن يحمل النهي المذكور فيه على الكراهية. وأما حديث أبي هريرة فليس يمكن الجمع بينه وبين الآية إلا أن يعتقد أنه ناسخ للآية عند من رأى أن الزيادة نسخ وأن القرآن ينسخ بالسنة المتواترة. فمن جمع بين حديث أبي ثعلبة والآية حمل حديث لحوم السباع على الكراهية. ومن رأى أن حديث أبي هريرة يتضمن زيادة على ما في الآية حرم لحوم السباع، ومن اعتقد أن الضبع والثعلب محرمان فاستدلا بعموم لفظ السباع؛ ومن خصص من ذلك العادية فمصيرا لما روى عبد الرحمن ابن عمار قال: سألت جابر بن عبد الله عن الضبع آكلها؟ قال: نعم، قلت: أصيد هي؟ قال: نعم، قلت: فأنت سمعت ذلك من رسول صلى الله عليه وسلم؟ قال: نعم. وهذا الحديث وإن كان انفرد به عبد الرحمن فهو ثقة عند جماعة أئمة الحديث، ولما ثبت من إقراره عليه الصلاة والسلام على أكل الضب بين يديه. وأما سباع الطير، فالجمهور على أنها حلال لمكان الآية المتكررة وحرمها قوم لما جاء في حديث ابن عباس أنه قال "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أكل كل ذي ناب من السباع وكل مخلب من الطير" إلا أن هذا الحديث لم يخرجه الشيخان، وإنما ذكره أبو داود.
-(وأما المسألة الثانية) وهي اختلافهم في ذوات الحافر الإنسي: أعني الخيل والبغال والحمير، فإن جمهور العلماء على تحريم لحوم الحمر الإنسية، إلا ما روي عن ابن عباس وعائشة أنهما كانا يبيحانها، وعن مالك أنه كان يكرهها، رواية ثانية مثل قول الجمهور؛ وكذلك الجمهور على تحريم البغال، وقوم كرهوها ولم يحرموها، وهو مروي عن مالك. وأما الخيل فذهب مالك وأبو حنيفة وجماعة إلى أنها محرمة؛ وذهب الشافعي وأبو يوسف ومحمد وجماعة إلى إباحتها. والسبب في اختلافهم في الحمر الإنسية معارضة الآية المذكورة للأحاديث الثابتة في ذلك من حديث جابر وغيره قال "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم خيبر عن لحوم الحمر الأهلية وأذن في لحوم الخيل" فمن جمع بين الآية وهذا الحديث حملها على الكراهية؛ ومن رأى النسخ قال بتحريم الحمر أو قال بالزيادة دون أن يوجب عنده نسخا، وقد احتج من لم ير تحريمها بما روي عن أبي إسحق الشيباني عن ابن أبي أوفى قال "أصبنا حمرا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بخيبر وطبخناها، فنادى منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أكفئوا القدور بما فيها". قال ابن إسحق: فذكرت ذلك لسعيد بن جبير فقال: إنما نهي عنها لأنها كانت تأكل الجلة. وأما اختلافهم في البغال، فسببه معارضة دليل الخطاب في قوله تعالى {والخيل والبغال والحمير لتركبوها وزينة} وقوله مع أن ذلك من الأنعام {لتركبوا منها ومنها تأكلون} للآية الحاصرة للمحرمات، لأنه يدل مفهوم الخطاب فيها أن المباح في البغال إنما هو الركوب مع قياس البغل أيضا على الحمار. وأما سبب اختلافهم في الخيل فمعارضة دليل الخطاب في هذه الآية لحديث جابر، ومعارضة قياس الفرس على البغل والحمار له، لكن إباحة لحم الخيل نص في حديث جابر فلا ينبغي أن يعارض بقياس ولا بدليل خطاب.
-(وأما المسألة الثالثة) وهي اختلافهم في الحيوان المأمور بقتله في الحرم وهي الخمس المنصوص عليها: الغراب والحدأة والعقرب والفأرة والكلب العقور، فإن قوما فهموا من الأمر بالقتل لها مع النهي عن قتل البهائم المباحة الأكل أن العلة في ذلك هو كونها محرمة، وهو مذهب الشافعي؛ وقوما فهموا من ذلك معنى التعدي لا معنى التحريم، وهو مذهب مالك وأبي حنيفة وجمهور أصحابهما. وأما الجنس الرابع، وهو الذي تستخبثه النفوس كالحشرات والضفادع والسرطانات والسلحفات وما في معناها، فإن الشافعي حرمها وأباحها الغير؛ ومنهم من كرهها فقط. وسبب اختلافهم اختلافهم في مفهوم ما ينطلق عليه اسم الخبائث في قوله تعالى {ويحرم عليهم الخبائث} فمن رأى أنها المحرمات بنص الشرع لم يحرم من ذلك ما تستخبثه النفوس مما لم يرد فيه نص؛ ومن رأى أن الخبائث هي ما تستخبثه النفوس قال: هي محرمة. وأما ما حكاه أبو حامد عن الشافعي في تحريمه الحيوان المنهي عن قتله كالخطاف والنحل زعم فإني لست أدري أين وقعت الآثار الواردة في ذلك، ولعلها في غير الكتب المشهورة عندنا. وأما الحيوان البحري، فإن العلماء أجمعوا على تحليل ما لم يكن منه موافقا بالاسم لحيوان في البر محرم، فقال مالك: لا بأس بأكل جميع حيوان البحر، إلا أنه كره خنزير الماء وقال: أنتم تسمونه خنزيرا، وبه قال ابن أبي ليلى والأوزاعي ومجاهد وجمهور العلماء، إلا أن منهم من يشترط في غير السمك التذكية، وقد تقدم ذلك. وقال الليث بن سعد: أما إنسان الماء وخنزير الماء فلا يؤكلان على شيء من الحالات. وسبب اختلافهم هو هل يتناول لغة أو شرعا اسم الخنزير والإنسان خنزير الماء وإنسانه، وعلى هذا يجب أن يتطرق الكلام إلى كل حيوان في البحر مشارك بالاسم في اللغة أو في العرف لحيوان محرم في البر مثل الكلب عند من يرى تحريمه، والنظر في هذه المسألة يرجع إلى أمرين: أحدهما هل هذه الأسماء لغوية؟ والثاني هل للاسم المشترك عموم أم ليس له؟ فإن إنسان الماء وخنزيره يقالان مع خنزير البر وإنسانه باشتراك الاسم، فمن سلم أن هذه الأسماء لغوية ورأى أن للاسم المشترك عموما لزمه أن يقول بتحريمها، ولذلك توقف مالك في ذلك وقال: أنتم تسمونه خنزيرا.
فهذه حال الحيوان المحرم الأكل في الشرع والحيوان المباح الأكل. وأما النبات الذي هو غذاء فكله حلال إلا الخمر وسائر الأنبذة المتخذة من العصارات التي تتخمر ومن العسل نفسه. أما الخمر فإنهم اتفقوا على تحريم قليلها وكثيرها: أعني التي هي من عصير العنب. وأما الأنبذة فإنهم اختلفوا في القليل منها الذي لا يسكر، وأجمعوا على أن المسكر منها حرام، فقال جمهور فقهاء الحجاز وجمهور المحدثين: قليل الأنبذة وكثيرها المسكرة حرام. وقال العراقيون إبراهيم النخعي من التابعين وسفيان الثوري وابن أبي ليلى وشريك وابن شبرمة وأبو حنيفة وسائر فقهاء الكوفيين وأكثر علماء البصرين: إن المحرم من سائر الأنبذة المسكرة هو السكر نفسه لا العين. وسبب اختلافهم تعارض الآثار والأقيسة في هذا الباب، فللحجازيين في تثبيت مذهبهم طريقتان: الطريقة الأولى الآثار الواردة في ذلك. والطريقة الثانية تسمية الأنبذة بأجمعها خمرا. فمن أشهر الآثار التي تمسك بها أهل الحجاز ما رواه مالك عن ابن شهاب عن أبي سلمة عبد الرحمن عن عائشة أنها قالت "سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن البتع وعن نبيذ العسل؟ فقال: كل شراب أسكر فهو حرام" خرجه البخاري. وقال يحيى بن معين: هذا أصح حديث روي عن النبي عليه الصلاة والسلام في تحريم المسكر؛ ومنها أيضا ما خرجه مسلم عن ابن عمر أن النبي عليه الصلاة والسلام قال "كل مسكر خمر، وكل خمر حرام" فهذان حديثان صحيحان. أما الأول فاتفق الكل عليه. وأما الثاني فانفرد بتصحيحه مسلم. وخرج الترمذي وأبو داود والنسائي عن جابر بن عبد الله صلى الله عليه وسلم قال "ما أسكر كثيره فقليله حرام" وهو نص في موضع الخلاف. وأما الاستدلال الثاني من أن الأنبذة كلها تسمى خمرا، فلهم في ذلك طريقتان: إحداهما من جهة إثبات الأسماء بطريق الاشتقاق، والثاني من جهة السماع. فأما التي من جهة الاشتقاق فإنهم قالوا إنه معلوم عند أهل اللغة أن الخمر إنما سميت خمرا لمخامرتها العقل، فوجب لذلك أن ينطلق اسم الخمر لغة على كل ما خامر العقل.
وهذه هي الطريقة من إثبات الأسماء فيها اختلاف بين الأصوليين، وهي غير مرضية عند الخراسانيين. وأما الطريقة الثانية التي من جهة السماع، فإنهم قالوا إنه وإن لم يسلم لنا أن الأنبذة تسمى في اللغة خمرا شرعا، واحتجوا في ذلك بحديث ابن عمر المتقدم، وبما روي أيضا عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "الخمر من هاتين الشجرتين: النخلة والعنبة" وما روي أيضا عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "إن من العنب خمرا، وإن من العسل خمرا، ومن الزبيب خمرا، ومن الحنطة خمرا وأنا أنهاكم عن كل مسكر" فهذه هي عمدة الحجازيين في تحريم الأنبذة. وأما الكوفيون فإنهم تمسكوا لمذهبهم بظاهر قوله تعالى {ومن ثمرات النخيل والأعناب تتخذون منه سكرا ورزقا حسنا} وبآثار رووها في هذا الباب، وبالقياس المعنوي.
أما احتجاجهم بالآية فإنهم قالوا: السكر هو المسكر ولو كان محرم العين لما سماه الله رزقا حسنا.
وأما الآثار التي اعتمدوها في هذا الباب، فمن أشهرها عندهم حديث أبي عون الثقفي عن عبد الله بن شداد عن ابن عباس عن النبي عليه الصلاة والسلام قال "حرمت عليكم الخمر لعينها" والسكر من غيرها وقالوا: هذا نص لا يحتمل التأويل، وضعفه أهل الحجاز لأن بعض رواته روى "والمسكر من غيرها" ومنها حديث شريك عن سماك بن حرب بإسناده عن أبي بردة بن نيار قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إني كنت نهيتكم عن الشراب في الأوعية فاشربوا فيما بدا لكم ولا تسكروا" خرجها الطحاوي. ورووا عن ابن مسعود أنه قال: شهدت تحريم النبيذ كما شهدتم، ثم شهدت تحليله فحفظت ونسيتم. ورووا عن أبي موسى قال "بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم أنا ومعاذا إلى اليمن، فقلنا: يا رسول الله إن بها شرابين يصنعان من البر والشعير: أحدهما يقال له المزر، والآخر يقال له البتع، فما نشرب؟ فقال عليه الصلاة والسلام: اشربا ولا تسكرا" خرجه الطحاوي أيضا إلى غير ذلك من الآثار التي ذكروها في هذا الباب.
وأما احتجاجهم من جهة النظر فإنهم قالوا: قد نص القرآن أن علة التحريم في الخمر إنما هي الصد عن ذكر الله ووقوع العداوة والبغضاء كما قال تعالى {إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة} وهذه العلة توجد في القدر المسكر لا فيما دون ذلك، فوجب أن يكون ذلك القدر هو الحرام إلا ما انعقد عليه الإجماع من تحريم قليل الخمر وكثيرها، قالوا: وهذا النوع من القياس يلحق بالنص، وهو القياس الذي ينبه الشرع على العلة فيه.
وقال المتأخرون من أهل النظر: حجة الحجازيين من طريق السمع أقوى، وحجة العراقيين من طريق القياس أظهر. وإذا كان هذا كما قالوا فيرجع الخلاف إلى اختلافهم في تغليب الأثر على القياس، أو تغليب القياس على الأثر إذا تعارضا، وهي مسألة مختلف فيها، لكن الحق أن الأثر إذا كان نصا ثابتا، فالواجب أن يغلب على القياس. وأما إذا كان ظاهر اللفظ محتملا للتأويل فهنا يتردد النظر هل يجمع بينهما بأن يتأول اللفظ أو يغلب ظاهر اللفظ على مقتضى القياس؟ وذلك مختلف بحسب قوة لفظ من الألفاظ الظاهرة، وقوة قياس من القياسات التي تقابلها ولا يدرك الفرق بينهما إلا بالذوق العقلي كما يدرك الموزون من الكلام من غير الموزون، وربما كان الذوقان على التساوي؛ ولذلك كثر الاختلاف في هذا النوع حتى قال كثير من الناس: كل مجتهد مصيب.
قال القاضي: والذي يظهر لي والله أعلم أن قوله عليه الصلاة والسلام "كل مسكر حرام" وإن كان يحتمل أن يراد به القدر المسكر لا الجنس المسكر، فإن ظهوره في تعليق التحريم بالجنس أغلب على الظن من تعليقه بالقدر لمكان معارضة ذلك القياس له على ما تأوله الكوفيون، فإنه لا يبعد أن يحرم الشارع قليل المسكر وكثيره سدا للذريعة وتغليظا، مع أن الضرر إنما يوجد في الكثير، وقد ثبت من حال الشرع بالإجماع أنه اعتبر في الخمر الجنس دون القدر الواجب، فوجب كل ما وجدت فيه علة الخمر أن يلحق بالخمر، وأن يكون على من زعم وجود الفرق إقامة الدليل على ذلك، هذا إن لم يسلموا لنا صحة قوله عليه الصلاة والسلام "ما أسكر كثيره فقليله حرام" فإنهم إن سلموه لم يجدوا انفكاكا فإنه نص في موضع الخلاف، ولا يصح أن تعارض النصوص بالمقاييس، وأيضا فإن الشرع قد أخبر أن في الخمر مضرة ومنفعة، فقال تعالى {قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس} وكان القياس إذا قصد الجمع بين انتقاء المضرة ووجود المنفعة أن يحرم كثيرها ويحلل قليلها؛ فلما غلب الشرع حكم المضرة على المنفعة في الخمر ومنع القليل منها والكثير، وجب أن يكون الأمر كذلك في كل ما يوجد فيه على تحريم الخمر، إلا أن يثبت في ذلك فارق شرعي.
واتفقوا على أن الانتباذ حلال ما لم تحدث فيه الشدة المطربة الخمرية لقوله عليه الصلاة والسلام "فانتبذوا وكل مسكر حرام"، ولما ثبت عنه عليه الصلاة والسلام "أنه كان ينتبذ، وأنه كان يريقه في اليوم الثاني أو الثالث" واختلفوا في ذلك في مسألتين: إحداهما: في الأواني التي ينتبذ فيها. والثانية: في انتباذ شيئين مثل البسر والرطب، والتمر والزبيب.
-(فأما المسألة الأولى) فإنهم أجمعوا على جواز الانتباذ في الأسقية، واختلفوا فيما سواها؛ فروى ابن القاسم عن مالك أنه كره الانتباذ في الدباء والمزفت ولم يكره غير ذلك؛ وكره الثوري الانتباذ في الدباء والحنتم والنقير والمزفت؛ وقال أبو حنيفة وأصحابه: لا بأس بالانتباذ في جميع الظروف والأواني. وسبب اختلافهم اختلاف الآثار في هذا الباب، وذلك أنه ورد من طريق ابن عباس النهي عن الانتباذ في الأربع التي كرهها الثوري وهو حديث ثابت. وروى مالك عن ابن عمر في الموطأ "أن النبي عليه الصلاة والسلام نهى عن الانتباذ في الدباء والمزفت" وجاء في حديث جابر عن النبي عليه الصلاة والسلام من طريق شريك عن سماك أنه قال "كنت نهيتكم أن تنبذوا في الدباء والحنتم والنقير والمزفت فانتبذوا ولا أحل مسكرا" وحديث أبي سعيد الخدري الذي رواه مالك في الموطأ، وهو أنه عليه الصلاة والسلام قال "كنت نهيتكم عن الانتباذ فانتبذوا، وكل مسكر حرام". فمن رأى أن النهي المتقدم الذي نسخ إنما كان نهيا عن الانتباذ في هذه الأواني إذ لم يعلم ههنا نهي متقدم غير ذلك قال: يجوز الانتباذ في كل شيء؛ ومن قال إن النهي المتقدم الذي نسخ إنما كان نهيا عن الانتباذ مطلقا قال: بقي النهي عن الانتباذ في هذه الأواني؛ فمن اعتمد في ذلك حديث ابن عمر قال بالآيتين المذكورتين فيه؛ ومن اعتمد في ذلك حديث ابن عباس قال بالأربعة، لأنه يتضمن مزيدا، والمعارضة بينه وبين حديث ابن عمر إنما هي من باب دليل الخطاب. وفي كتاب مسلم النهي عن الانتباذ في الحنتم، وفيه أنه رخص لهم فيه إذا كان غير مزفت.
-(وأما المسألة الثانية) وهي انتباذ الخليطين، فإن الجمهور قالوا بتحريم الخليطين من الأشياء التي من شأنها أن تقبل الانتباذ؛ وقال قوم: بل الانتباذ مكروه؛ وقال قوم: هو مباح؛ وقال قوم: كل خليطين فهما حرام وإن لم يكونا مما يقبلان الانتباذ فيما أحسب الآن. والسبب في اختلافهم ترددهم في هل النهي الوارد في ذلك هو على الكراهة أو على الحظر؟ وإذا قلنا إنه على الحظر، فهل يدل على فساد المنهى عنه أم لا؟ وذلك أنه ثبت عنه عليه الصلاة والسلام "أنه نهى عن أن يخلط التمر والزبيب، والزهو والرطب، والبسر والزبيب" وفي بعضها أنه قال عليه الصلاة والسلام "لا تنتبذوا الزهو والزبيب جميعا، ولا التمر والزبيب جميعا، وانتبذوا كل واحد منهما على حدة" فيخرج في ذلك بحسب التأويل الأقاويل الثلاثة: قول بتحريمه، وقول بتحليله مع الإثم في الانتباذ، وقول بكراهية ذلك. وأما من قال إنه مباح، فلعله اعتمد في ذلك عموم الأثر بالانتباذ في حديث أبي سعيد الخدري. وأما من منع كل خليطين، فإما أن يكون ذهب إلى أن علة المنع هو الاختلاط لا ما يحدث عن الاختلاط من الشدة في النبيذ، وإما أن يكون قد تمسك بعموم ما ورد أنه نهى عن الخليطين؛ وأجمعوا على أن الخمر إذا تخللت من ذاتها جاز أكلها. واختلفوا إذا قصد تخليلها على ثلاثة أقوال: التحريم، والكراهية، والإباحة. وسبب اختلافهم معارضة القياس للأثر واختلافهم في مفهوم الأثر، وذلك أن أبا داود خرج من حديث أنس بن مالك أن أبا طلحة "سأل النبي عليه الصلاة والسلام عن أيتام ورثوا خمرا، فقال: أهرقها، قال: أفلا أجعلها خلا؟ قال: لا" فمن فهم من المنع سد ذريعة حمل ذلك على الكراهية؛ ومن فهم النهي لغير علة قال بالتحريم؛ ويخرج على هذا أن لا تحريم أيضا على مذهب من يرى أن النهي لا يعود بفساد المنهي. والقياس المعارض لحمل الخل على التحريم أنه قد علم من ضرورة الشرع أن الأحكام المختلفة إنما هي للذوات المختلفة، وأن الخمر غير ذات الخل، والخل بإجماع حلال، فإذا انتقلت ذات الخمر إلى ذات الخل وجب أن يكون حلالا كيفما انتقل.
(الجملة الثانية: في استعمال المحرمات في حال الاضطرار)
-والأصل في هذا الباب قوله تعالى {وقد فصل لكم ما حرم عليكم إلا ما اضطررتم إليه} والنظر في هذا الباب في السبب المحلل وفي جنس الشيء المحلل وفي مقداره. فأما السبب، فهو ضرورة التغذي: أعني إذا لم يجد شيئا حلالا يتغذى به، وهو لا خلاف فيه. وأما السبب الثاني طلب البرء، وهذا المختلف فيه؛ فمن أجازه احتج بإباحة النبي عليه الصلاة والسلام الحرير لعبد الرحمن بن عوف لمكان حكة به؛ ومن منعه فلقوله عليه الصلاة والسلام "إن الله لم يجعل شفاء أمتي فيما حرم عليها". وأما جنس الشيء المستباح فهو كل شيء محرم مثل الميتة وغيرها؛ والاختلاف في الخمر عندهم هو من قبل التداوي بها لا من قبل استعمالها في التغذي، ولذلك أجازوا للعطشان أن يشربها إن كان منها ري، وللشرق أن يزيل شرقه بها. وأما مقدار ما يؤكل من الميتة وغيرها فإن مالكا قال: حد ذلك الشبع والتزود منها حتى يجد غيرها؛ وقال الشافعي وأبو حنيفة: لا يأكل منها إلا ما يمسك الرمق، وبه قال بعض أصحاب مالك. وسبب الاختلاف هل المباح له في الاضطرار هو جميعها أم ما يمسك الرمق فقط؟ والظاهر أنه جميعها لقوله تعالى {فمن اضطر غير باغ ولا عاد} واتفق مالك والشافعي على أنه لا يحل للمضطر أكل الميتة إذا كان عاصيا بسفره لقوله تعالى {غير باغ ولا عاد} وذهب غيره إلى جواز ذلك.
(انتهى كتاب الأطعمة والأشربة)
تم الجزء الأول من كتاب (بداية المجتهد ونهاية المقتصد) ويليه: الجزء الثاني، وأوله: كتاب النكاح.