الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الماوردي المسمى بـ «النكت والعيون» ***
{وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا أُولَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهَا إِلَّا خَائِفِينَ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآَخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (114)} {لَهُمْ في الدُّنْيَا خِزْيٌ} فيه تأويلان: أحدهما: أنه قتل الحربي وجزية الذمي. والثاني: أنه فتح مدائنهم عمورية، وقسطنطينية، ورومية، وهذا قول ابن عباس. {وَلَهُمْ في الأخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} هو أشد من كل عذاب، لأنهم أظلم من كل ظالم.
{وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (115)} قوله تعالى: {وَاللهِ المَشْرِقُ وَالمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ} اختلف أهل التأويل في تأويلها، وسبب نزولها، على سبعة أقاويل: أحدها: أن سبب ذلك، أن النبي صلى الله عليه وسلم، كان يستقبل بصلاته بيت المقدس بعد هجرته ستة عشر شهراً، أو سبعة عشر شهراً، حتى قالت اليهود: إن محمداً وأصحابه، ما دروا أين قبلتهم حتى هديناهم، فأمرهم الله تعالى باستقبال الكعبة، فتكلمت اليهود، فأنزل الله تعالى هذه الآية، وهذا قول ابن عباس. والثاني: أن هذه الآية نزلت قبل أن يفرض استقبال القبلة، فأباح لهم أن يتوجهوا بصلاتهم حيث شاءوا من نواحي المشرق والمغرب، وهذا قول قتادة وابن زيد. والثالث: أنها نزلت في صلاة التطوع للسائر حيث توجه، وللخائف حيث تمكن من مشرق أو مغرب، وهذا قول ابن عمر، روى سعيد بن جبير عنه أنه قال: لما نزلت هذه الآية {فَأَينَمَا تُولُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ} أن تصلي أينما توجهت بك راحلتك في السفر تطوعاً، كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا رجع من مكة يصلي على راحلته تطوعاً، يومئ برأسه نحو المدينة. والرابع: أنها نزلت، فيمن خفيت عليهم القبلة، ولم يعرفوا جهتها، فَصَلُّوا إلى جهات مختلفة. روى عاصم بن عبد الله، عن عبد الله بن عامر بن ربيعة، عن أبيه قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في ليلة مظلمة، فنزلنا منزلاً، فجعل الرجل يأخذ الأحجار، فيعمل مسجداً يصلي فيه، فلما أصبحنا إذا نحن قد صلينا إلى غير القبلة، فقلنا: يا رسول الله لقد صلينا ليلتنا هذه إلى غير القبلة، فأنزل الله تعالى هذه الآية. والخامس: أنها نزلت في النجاشي، وروى أبو قتادة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إِنَّ أَخَاكُم النَّجَاشِيّ قَدْ مَاتَ فَصَلُّوا عَلَيْهِ» قالوا نصلي على رجل ليس بمسلم، قال فنزلت: {وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِم خَاشِعِينَ لِلُّه} [سورة آل عمران الآية: 199] قالوا: فإنه كان لا يصلي إلى القبلة، فأنزل الله تعالى: {وَلِلَّهِ المَشْرِقُ وَالمغْرِبُ فَأينَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ}. والسادس: أن سبب نزولها أن الله تعالى لما أنزل قوله: {ادعُوني أسْتَجِبْ لَكُم} قالوا إلى أين؟ فنزلت: {فأَينَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ} [البقرة: 115]. والسابع: أن معناه وحيثما كنتم من مشرق أو مغرب، فلكم قبلة تستقبلونها، يعني جهة إلى الكعبة، وهذا قول مجاهد. ويجيء من هذا الاختلاف في قوله: {فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ} تأويلان: أحدهما: معناه فثم قبلة الله. والثاني: فثم الله تعالى، ويكون الوجه عبارة عنه، كما قال تعالى: {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ} [الرحمن: 27]. وأما {ثَمَّ} فهو لفظ يستعلم في الإشارة إلى مكان، فإن كان قريباً قيل: (هنا زيد)، وإن كان بعيداً قيل: (هناك زيد).
{وَقَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ (116) بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (117)} قوله تعالى: {وَقَالُوا اتَّخَذَ اللهُ وَلَداً} فيه قولان: أحدهما: أنهم النصارى في قولهم: المسيح ابن الله. والثاني: أنهم مشركو العرب في قولهم: الملائكة بنات الله. {سُبْحَانَهُ، بَل لَّهُ مَا في السَّمَواتِ والأَرْضِ} قوله: {سُبْحَانَهُ} تنزيهاً له من قولهم {اتَّخَذَ اللهُ وَلَداً}. قوله: {لَهُ مَا في السَّمَواتِ والأَرْضِ} أي خالق ما في السموات والأرض. {كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ} فيه ثلاثة تأويلات: أحدها: أي مطيعون، وهذا قول قتادة، والسدي، ومجاهد. والثاني: أي مقرون له بالعبودية، وهو قول عكرمة. والثالث: أي قائمون، يعني يوم القيامة، وهذا قول الربيع، والقانت في اللغة القائم، ومنه القنوت في الصلاة، لأنه الدعاء في القيام. قوله تعالى: {بَدِيعُ السَّمَواتِ والأَرْضِ} يعني منشئها على غير حد ولا مثال، وكل من أنشأ ما لم يسبق إليه، يقال له مبدع، ولذلك قيل لمن خالف في الدين: مبتدع، لإحداثه ما لم يسبق إليه {وَإِذَا قَضَى أَمْراً} أي أحكمه وحتمه، وأصله الإحكام والفراغ، ومنه قيل للحاكم قاض، لفصله الأمور وإحكامه بين الخصوم، وقيل للميت قد قَضَى أي فرغ من الدنيا، قال أبو ذؤيب: وعليهما مسرودتان قضاهما *** داود أو صنع السوابغ تُبّع معنى قضاهما أي أحكمهما. وقال الشاعر في عمر بن الخطاب: قضيت أموراً ثم غادرت بعدها *** بوائج في أكمامها لم تفتق {فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ} فإن قيل في أي حال يقول له كن فيكون؟ أفي حالة عدمه أم في حال وجوده؟ فإن كان في حال عدمه، استحال أن يأمر إلا مأموراً، كما يستحيل أن يكون الأمر إلا من آمر، وإن كان في حال وجوده، فتلك حال لا يجوز أن يأمر فيها بالوجود والحدوث، لأنه موجود حادث؟. قيل: عن هذا السؤال أجوبة ثلاثة: أحدها: أنه خبر من الله تعالى عن نفوذ أوامره في خلقه الموجود، كما أمر في بني إسرائيل، أن يكونوا قردة خاسئين، ولا يكون هذا وارداً في إيجاد المعدومات. الثاني: أن الله عز وجل عالم، بما هو كائن قبل كونه، فكانت الأشياء التي لم تكن وهي كائنة بعلمه، قبل كونها مشابهة للأشياء التي هي موجودة، فجاز أن يقول لها كوني، ويأمرها بالخروج من حال العدم إلى حال الوجود، لتصور جميعها له ولعلمه بها في حال العدم. والثالث: أن ذلك خبر من الله تعالى، عامٌ عن جميع ما يُحْدِثُه، ويكوّنه، إذا أراد خلقه وإنشاءه كان ووجد من غير أن يكون هناك قول يقوله، وإنما هو قضاء يريده، فعبر عنه بالقول وإن لم يكن قولاً، كقول أبي النجم: قد قالت الأنساع للبطن الحق *** قدما فآضت كالغسق المحقق ولا قول هناك، وإنما أراد أن الظهر قد لحق بالبطن، وكقوله عمرو بن حممة الدوسي. فأصبحت مثل النسر طارت فراخه *** إذا رام تطياراً يقال له قَعِ {وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ لَوْلَا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ أَوْ تَأْتِينَا آَيَةٌ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ قَدْ بَيَّنَّا الْآَيَاتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (118)} قوله تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ لَوْلاَ يُكَلِّمُنَا اللهُ أَوْ تَأْتِيَنَآ ءَايَةٌ} فيهم ثلاثة أقاويل: أحدها: أنهم النصارى، وهو قول مجاهد. والثاني: أنهم اليهود، وهو قول ابن عباس. والثالث: أنهم مشركو العرب، وهو قول قتادة والسدي. وقوله: {لَوْلاَ يُكَلِّمُنَا اللهُ} يعني هَلاَّ يكلمنا الله، كقول الأشهب بن رملية: تعدون عقر النيب أفضل مجدكم *** بني ضَوْطَرَى لولا الكمى المقنعا بمعنى هل لا تعدون الكمى المقنعا. {كَذلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم مِّثْلَ قَوْلِهِمْ} فيهم قولان: أحدهما: أنهم اليهود، وهو قول مجاهد. والثاني: أنهم اليهود والنصارى، وهو قول قتادة. قوله تعالى: {تَشَابَهتْ قُلُوْبُهُمْ} يعني في الكفر، وفيه وجهان: أحدهما: تشابهت قلوب اليهود لقلوب النصارى، وهذا قول مجاهد. والثاني: تشابهت قلوب مشركي العرب لقلوب اليهود والنصارى، وهذا قول قتادة.
{إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَا تُسْأَلُ عَنْ أَصْحَابِ الْجَحِيمِ (119)} قوله تعالى: {إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَنَذِيراً} يعني محمداً أرسله بدين الحق. {بَشِيراً وَنَذِيراً} يعني بشيراً بالجنة لمن أطاع، ونذيراً بالنار لمن عصى. {وَلاَ تُسْأَلُ عَنْ أَصْحَابِ الْجَحِيمِ} أي لا تكون مؤاخذاً بكفرةِ من كفر بعد البشرى والإنذار، وقرأ بعض أهل المدينة: ولا تَسَلْ عن أصحاب الجحيم، بفتح التاء وجزم اللام، وذكر أن سبب نزولها، ما رواه موسى بن عبيد عن محمد بن كعب القرظي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لَيْتَ شِعري مَا فَعَلَ أَبَوَاي» فأنزل الله تعالى: {إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَنَذِيراً وَلاَ تُسْأَلُ عَنْ أَصْحَابِ الْجَحِيمِ}.
{وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (120) الَّذِينَ آَتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (121)} قوله تعالى: {الَّذِينَ ءَاتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حقَّ تِلاَوَتِهِ} فيه قولان: أحدهما: أنهم المؤمنون برسول الله صلى الله عليه وسلم، والكتاب هو القرآن، وهذا قول قتادة. والثاني: أنهم علماء اليهود، والكتاب هو التوراة، وهذا قول عبد الرحمن بن زيد. {يتلونه حق تلاوته} فيه تأويلان: أحدهما: يقرؤونه حق قراءة. والثاني: يتبعونه حق اتباعه، فيحللون حلاله، ويحرمون حرامه، وهذا قول الجمهور. {أولئك يؤمنون به} يعني بمحمد صلى الله عليه وسلم، لأن من قرأ أحد الكتابين، آمن به، لِمَا فيهما من وجوب اتباعه.
{يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ (122) وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلَا تَنْفَعُهَا شَفَاعَةٌ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ (123) وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ (124)} قوله تعالى: {وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلماتٍ فأتمهن} فيه محذوف وتقديره: واذكر إذا ابتلى يعني اختبر، وإبراهيم بالسريانية أب رحيم، وفي الكلمات التي ابتلاه الله عز وجل بها، ثمانية أقاويل: أحدها: هي شرائع الإِسلام، قال ابن عباس: ما ابتلى الله أحداً بهن، فقام بها كلها، غير إبراهيم، ابتلي بالإِسلام فأتمه، فكتب الله له البراءة فقال: {وإبراهيم الذي وَفَّى} [النجم: 37] قال: وهي ثلاثون سهماً: عشرة منها في سورة براءة: {التائبون، العابدون، الحامدون، السائحون، الراكعون، الساجدون} [التوبة: 112]. وعشرة في الأحزاب: {إنَّ المُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ، وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ، وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ، وَالصَادِقينَ والصَادِقَاتِ، وَالصَابِرِينَ وَالصَابِرَاتِ، وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ، وَالْمُتَصَدِّقِينَ، واَلْمُتَصَدِّقَاتِ، وَالصَائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ، وَالْحَافِظِينَ فروجَهُم وَالْحافِظَاتِ، وَالذَاكِرِينَ اللهَ كَثِيراً وَالْذَّاكِرَاتِ، أَعَدَّ اللهُ لَهُمْ مَغَفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً} [الأحزاب: 35]. وعشرة في سورة المؤمنين: {قَدْ أفْلَحَ الْمُؤمِنُونَ، الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاَتِهِم خَاشِعُونَ، وَالَّذِينَ هُم عَنِ اللَّغُوِ مُعْرِضُونَ، وَالَّذيِنَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ، وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ، إلاَّ عَلَى أزْوَاجِهِم أوْ مَا مَلَكَتْ أيمَانُهُم فَإِنَّهُم غَيرُ مَلُومِينَ، فَمن ابتغى وَرَاءَ ذلِكَ فَأولئِكَ هُمُ الْعَادُونَ، وَالَّذِينَ هُمُ لأَمَانَاتِهِم وَعَهْدِهِم رَاعُونَ، وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ، أُولئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ، الَّذِينَ يَرِثُونِ الْفِرْدَوسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [المؤمنون: 1- 11] وفي سورة سأل سائل من {إلا المُصَلِّينَ، الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاَتِهِمْ دَائِمُونَ} [المعارج: 23]، إلى {وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاَتِهِم يُحَافظُون} [المعارج: 34]. والقول الثاني: إنها خصال من سُنَنِ الإسلام، خمس في الرأس، وخمس في الجسد، فروى ابن عباس في الرأس: قص الشارب، والمضمضة، والاستنشاق، والسواك، وفرق الرأس. وفي الجسد تقليم الأظفار، وحلق العانة، والختان، ونتف الإبط، وغسل أثر البول والغائط بالماء. وهذا قول قتادة. والقول الثالث: إنها عشر خصال، ست في الإنسان وأربع في المشاعر، فالتي في الإنسان: حَلْقُ العانة، والختان، ونَتْفُ الإبط، وتقليم الأظفار، وقص الشارب، والغُسل يوم الجمعة. والتي في المشاعر: الطواف، والسعي بين الصفا والمروة، ورمي الجمار، والإفاضة. روى ذلك الحسن عن ابن عباس. والقول الرابع: إن الله تعالى قال لإبراهيم: إني مبتليك يا إبراهيم، قال: تجعلني للناس إماماً؟ قال نعم، قال: ومن ذريتي؟ قال: لا ينال عهدي الظالمين، قال: تجعل البيت مثابة للناس؟ قال: نعم، قال: وأمناً؟ قال: نعم، قال: وتجعلنا مسلمين لك ومن ذريتنا أمة مسلمة لك؟ قال: نعم، قال: وأرنا مناسكنا وتب علينا؟ قال: نعم، قال: وتجعل هذا البلد آمناً؟ قال: نعم، قال: وترزق أهله من الثمرات من آمن؟ قال: نعم، فهذه الكلمات التي ابتلى الله بها إبراهيم، وهذا قول مجاهد. والخامس: أنها مناسك الحج خاصة، وهذا قول قتادة. والقول السادس: أنها الخلال الست: الكواكب، والقمر، والشمس، والنار، والهجرة، والختان، التي ابتلي بهن فصبر عليهن، وهذا قول الحسن. والقول السابع: ما رواه سهل بن معاذ بن أنس عن أمه قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «ألا أخبركم لم سمى الله إبراهيم خليله الذي وفّى؟ لأنه كان يقول كلما أصبح وكلما أمسى: سبحان الله حين تُمْسُونَ وحينَ تُصْبِحُونَ، وله الحمْدُ في السّموَاتِ والأرْضِ وعَشِيّاً وحين تُظْهِرُونَ». والقول الثامن، ما رواه القاسم بن محمد، عن أبي أمامة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «وَإبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى} قَالَ: أتَدْرُونَ مَا وَفَّى؟ قَالُوا: اللهُ وَرَسُولُهُ أعْلَمُ، قَالَ: وَفّى عَمَلَ يَوْمٍ بِأرْبَعِ رَكْعَاتٍ فِي النَّهَارِ» {قَالَ إنَّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إمَاماً} أي مقصوداً متبوعاً، ومنه إمام المصلين، وهو المتبوع في الصلاة. {قال ومن ذريتي} فاحتمل ذلك وجهين: أحدهما: أنه طمع في الإمامة لذريته، فسأل الله تعالى ذلك لهم. والثاني: أنه قال ذلك استخباراً عن حالهم، هل يكونون أهل طاعة فيصيروا أئمة؟ فأخبره الله تعالى أن فيهم عاصياً وظالماً، لا يستحق الإمامة، فقال: {لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ}. وفي هذا العهد، سبعة تأويلات: أحدها: أنه النبوة، وهو قول السدي. والثاني: أنه الإمامة، وهو قول مجاهد. والثالث: أنه الإيمان، وهو قول قتادة. والرابع: أنه الرحمة، وهو قول عطاء. والخامس: أنه دين الله وهو قول الضحاك. والسادس: أنه الجزاء والثواب. والسابع: أنه لا عهد عليك لظالم أنه تطيعه في ظلمة، وهو قول ابن عباس.
{وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (125) وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آَمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آَمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ قَالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (126) وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (127) رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (128)} قوله تعالى: {وَإذْ جَعَلْنَا مَثَابَةً لِلنَّاسِ} فيه قولان: أحدهما: مجمعاً لاجتماع الناس عليه في الحج والعمرة. والثاني: مرجعاً من قولهم قد ثابت العلة إذا رجعت. وقال الشاعر: مثاباً لأفناءِ القبائل كلها *** تحب إليها اليعملات الذوامل وفي رجوعهم إليه وجهان: أحدهما: أنهم يرجعون إليه المرة بعد المرة. والثاني: أنهم في كل واحد من نُسُكَيَ الحج والعمرة يرجعون إليه من حل إلى حرم؛ لأن الجمع في كل واحد من النسكين بين الحل والحرم شرط مستحق. قال تعالى: {وَأَمْناً} فيه قولان: أحدهما: لأمنه في الجاهلية من مغازي العرب، لقوله: {وءَامَنَهُم مِنْ خَوفٍ} [قريش: 4]. والثاني: لأمن الجناة فيه من إقامة الحدود عليهم حتى يخرجوا منه. {وَاتَّخِذُوا مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلَّى} روى حماد، عن أنس بن مالك قال: قال عمر بن الخطاب: قلت يا رسول الله، لو اتخذت من مقام إبراهيم مصلى، فأنزل الله تعالى: {وَاتَّخِذُوا مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلَّى} بكسر الخاء من قوله واتخذوا على وجه الأمر، وقرأ بعض أهل المدينة: {وَاتَّخّذُوا} بفتح الخاء على وجه الخبر. واختلف أهل التفسير في هذا المقام، الذي أُمِرُوا باتخاذه مصلى، على أربعة أقاويل: أحدها: الحج كله، وهذا قول ابن عباس. والثاني: أنه عرفة ومزدلفة والجمار، وهو قول عطاء والشعبي. والثالث: أنه الحرم كله، وهو قول مجاهد. والرابع: أنه الحجر الذي في المسجد، وهو مقامه المعروف، وهذا أصح. وفي قوله: {مُصَلَّى} تأويلان: أحدهما: مَدْعَى يَدْعِي فيه، وهو قول مجاهد. والثاني: أنه مصلى يصلي عنده، وهو قول قتادة، وهو أظهر التأويلين. قوله تعالى: {وَعَهِدْنآ إِلى إبْرَاهِمَ وَإِسْمَاعِيلَ} فيه تأويلان: أحدهما: أي أَمَرْنَا. والثاني: أي أوحينا إلى إبراهيم وإسماعيل. {أنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: من الأصنام. والثاني: من الكفار. والثالث: من الأنجاس. وقوله تعالى: {بَيْتِيَ} يريد البيت الحرام. فإن قيل: فلم يكن على عهد إبراهيم، قبل بناء البيت بيت يطهر، قيل: عن هذا جوابان: أحدهما: معناه وعهدنا إلى إبراهيم وإسماعيل أن ابنيا بيتي مُطَهَّراً، وهذا قول السدي. والثاني: معناه أن طهرا مكان البيت. {لِلطَّائِفِينَ} فيهم تأويلان: أحدهما: أنهم الغرباء الذين يأتون البيت من غربة، وهذا قول سعيد بن جبير. والثاني: أنهم الذين يطوفون بالبيت، وهذا قول عطاء. {وَالْعَاكِفِينَ} فيهم أربعة تأويلات: أحدها: أنهم أهل البلد الحرام، وهذا قول سعيد بن جبير وقتادة. والثاني: أنهم المعتكفون وهذا قول مجاهد. والثالث: أنهم المصلون وهذا قول ابن عباس. والرابع: أنهم المجاورون للبيت الحرام بغير طواف، وغير اعتكاف، ولا صلاة، وهذا قول عطاء. {والرُّكَّعِ السُّجُودِ} يريد أهل الصلاة، لأنها تجمع ركوعاً وسجوداً. قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً} يعني مكة {وَارْزُقْ أهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ} ليجمع لأهله الأمن والخصب، فيكونوا في رغد من العيش. {مَنْ ءَآمَنَ مِنْهُم بِاللهِ} فيه وجهان: أحدهما: أن هذا من قول إبراهيم متصلاً بسؤاله، أن يجعله بلداً آمناً، وأن يرزق أهله الذين آمنوا به من الثمرات، لأن الله تعالى قد أعلمه بقوله: {لاَ يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ} أن فيهم ظالماً هو بالعقاب أحق من الثواب، فلم يسأل أهل المعاصي سؤال أهل الطاعات. والوجه الثاني: أنه سؤاله كان عاماً مرسلاً، وأن الله تعالى خص الإجابة لمن آمن منهم بالله واليوم الآخر، ثم استأنف الإخبار عن حال الكافرين، بأن قال: {وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً} يعني في الدنيا. {ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلى عَذَابِ النَّارِ} يعني بذنوبه إن مات على كفره. واختلفوا في مكة، هل صارت حراماً آمناً بسؤال إبراهيم أو كانت فيه كذلك؟ على قولين: أحدهما: أنها لم تزل حرماً مِنَ الجَبَابِرَةِ والمُسَلَّطِينَ، ومن الخسوف والزلازل، وإنما سأل إبراهيم ربَّه: أن يجعله آمناً من الجذب والقحط، وأن يرزق أهله من الثمرات، لرواية سعيد بن المقبري، قال: سمعت أبا شريح الخزاعي يقول: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما افتتح مكة، قتلت خزاعة رجلاً من هذيل، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم خطيباً فقال: «يأَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّ اللهَ تَعَالَى حَرَّمَ مَكَّةَ يَوْمَ خَلَقَ السَّمواتِ وَالأرْضَ فَهِيَ حَرَامٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، لاَ يَحِلُّ لاِمْرِئٍ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَاليومِ الآخرِ أَنْ يَسْفِكَ فِيها دَماً أَوْ يُعَضِّدُ بِهَا شَجَراً، وَأَنَّهَا لاَ تَحِلُّ لأحَدٍ بَعْدِي وَلَمْ تَحِلَّ لِي إِلاَّ هَذِهِ السَّاعَةَ غَضَباً عَلَى أَهْلِهَا، ألاَ وَهِيَ قَدْ رَجِعَتْ عَلَى حَالِهَا بِالأَمْسِ، ألاَ لِيُبَلِّغَ الشَّاهِدُ الغَائِبَ. فَمَنْ قَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللهِ قَدْ قَتَلَ بِهَا فَقُولُوا: إنَّ الله تَعَالَى قَدْ أَحَلَّهَا لِرَسُولِهِ وَلَمْ يُحِلَّهَا لَكْ» والثاني: أن مكة كانت حلالاً قبل دعوة إبراهيم، كسائر البلاد، وأنها بدعوته صارت حرماً آمنا، وبتحريمه لها، كما صارت المدينة بتحريم رسول الله صلى الله عليه وسلم حراماً، بعد أن كانت حلالاً، لرواية أشعب، عن نافع، عن ابن عمر، أن رسول الله صلى الله عليه سلم قال: «إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ عَبْدَ اللهِ وَخَلِيله، وَإِنِّي عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، وإِنَّ إِبْرَاهِيمَ حَرَّمَ مَكَّةَ، وإِنِّي حَرَّمْتُ المَدِينَةَ مَا بَيْنَ لاَبَتَيْهَا عَضَاهَا وَصَيْدُهَا، لاَ يُحْمَلُ فِيهَا سِلاَحٌ لِقِتَالٍ، وَلاَ يُقْطَعُ مِنْهَا شَجَرٌ لَعَلَفٍ» قوله تعالى: {وَإَذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ القَواعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ} أول من دله الله تعالى على مكان البيت إبراهيمُ، وهو أول من بناه مع إسماعيل، وأول من حجه، وإنما كانوا قَبْلُ يصلون نحوه، ولا يعرفون مكانه. والقواعد من البيت واحدتها قاعدة، وهي كالأساس لما فوقها. {رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا} والمعنى: يقولان ربنا تقبل منا، كما قال تعالى: {وَالمَلاَئِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِم مِنْ كُلِّ بَابٍ سَلاَمٌ عَلَيكُم} أي يقولون سلام عليكم، وهي كذلك في قراءة أبيّ بن كعب: {وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهيمُ الْقَواعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ وَيَقُولاَنِ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا}. وتفسير «إسماعيل»: إسمع يا الله، لأن إيل بالسريانية هو الله، لأن إبراهيم لما دعا ربه قال: اسمع يا إيل، فلما أجابه ورزقه بما دعا من الولد، سمّى بما دعا. قوله تعالى: {رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَينِ لَكَ} على التثنية، وقرأ عوف الأعرابي: {مُسْلِمِينَ لك} على الجمع. ويقال: أنه لم يدع نَبيُّ إلا لنفسه ولأمته إلا إبراهيم فإنه دعا مع دعائه لنفسه ولأمته لهذه الأمة في قوله: {وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ} والمسلم هو الذي استسلم لأمر الله وخضع له، وهو في الدين القابل لأوامر الله سراً وجهراً. {وأَرِنَا مَنَاسِكَنَا} أي عرفنا مناسكنا، وفيها تأويلان: أحدهما: أنها مناسك الحج ومعالمه، وهذا قول قتادة والسدي. والثاني: أنها مناسك الذبائح التي تنسك لله عز وجل، وهذا قول مجاهد وعطاء. والمناسك جمع منسك، واختلفوا في تسميته منسكاً على وجهين: أحدهما: لأنه معتاد ويتردد الناس إليه في الحج والعمرة، من قولهم إن لفلان منسكاً، إذا كان له موضع معتاد لخير أو شر، فسميت بذلك مناسك الحج لاعتيادها. والثاني: أن النسك عبادة الله تعالى، ولذلك سُمِّي الزاهد ناسكاً لعبادة ربه، فسميت هذه مناسك لأنها عبادات.
{رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آَيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (129)} قوله تعالى: {رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِم} يعني في هذه الأمة {رَسُولاً مِنْهُم} يعني محمداً صلى الله عليه وسلم، وقيل في قراءة أبيّ بن كعب {رَبَّنَا وَابْعَثْ فِي آخِرِهِم رَسُولاً مِنْهُم}. وقد روى خالد بن معدان: أن نفراً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا: يا رسول الله أخبرنا عن نفسك، قال: «نَعَم، أَنَا دَعْوَةُ إبْرَاهِيمَ وَبُشْرَى عِيسَى ». {يَتْلُو عَلَيْهِمْ ءَايَاتِكَ} فيه تأويلان: أحدهما: يقرأ عليهم حجتك. والثاني: يبين لهم دينك. {ويُعَلِّمُهُم الْكِتَابَ} يعني القرآن. {وَالْحِكْمَة} فيها تأويلان: أحدهما: أنها السنة، وهو قول قتادة. والثاني: أنها المعرفة بالدين، والفقه فيه، والاتباع له، وهو قول ابن زيد. {وَيُزَكِّيهِم} فيه تأويلان: أحدهما: معناه يطهرهم من الشرك بالله وعبادة الأوثان. والثاني: يزكيهم بدينه إذا اتبعوه فيكونون به عند الله أزكياء.
{وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآَخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (130) إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (131) وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (132)} قوله تعالى: {وَمَن يَرْغَبُ عَن مِّلَّةِ إبْرَاهِيمَ إلاَّ مَن سَفِهَ نَفْسَهُ} فيه ثلاثة تأويلات: أحدها: أن ذلك سفّه نفسه، أي فَعَلَ بها من السفه ما صار به سفيهاً، وهذا قول الأخفش. والثاني: أنها بمعنى سفه في نفسه، فحذف حرف الجر كما حذف من قوله تعالى: {وَلاَ تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ} أي عَلَى عقدة النكاح، وهذا قول الزجَّاج. والثالث: أنها بمعنى أهلك نفسه وأوْبَقَهَا، وهذا قول أبي عبيدة. قال المبرِّد وثعلب: سَفِه بكسر الفاء يتعدى، وسفُه بضم الفاء لا يتعدى. {وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا} أي اخترناه، ولفظه مشتق من الصفوة، فيكون المعنى: اخترناه في الدنيا للرسالة. {وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ} لنفسه في إنجائها من الهلكة. قوله تعالى: {وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ} الهاء كناية ترجع إلى الملة لتَقَدُّم قولهِ: {وَمَن يَرْغَبُ عَن مِّلَّةِ إِبْرَاهيمَ} ووصّى أبلغ من أوصى، لأن أوصى يجوز أن يكون قاله مرة واحدة، وَوَصَّى لا يكون إلا مراراً. {وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ} والمعنى أن إبراهيم وَصَّى، ثم وَصَّى بعده يعقوبُ بَنِيهِ، فقالا جميعاً: {يَا بَنِيَّ إنَّ الله اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ} يعني اختار لكم الدين، أي الإسلام، {فَلاَ تَمُوتُنَّ إلاَّ وأَنتُمْ مُسْلِمُونَ} فإن قيل: كيف يُنْهَونَ عن الموت وليس من فعلهم، وإنما يُمَاتُون؟ قيل: هذا في سعة اللغة مفهوم المعنى، لأن النهي تَوَجَّهَ إلى مفارقة الإسلام، لا إلى الموت، ومعناه: الزموا الإسلام ولا تفارقوه إلى الموت.
{أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آَبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (133) تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ (134) وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (135)} قوله تعالى: {وَقَالُوا: كُونُوا هُوداً أوْ نَصَارى تَهْتَدُوا} يعني أن اليهودَ قالوا: كونوا هوداً تهتدوا، وقالت النصارى: كونوا نصارى تهتدوا، فرد الله تعالى ذلك عليهم، فقال: {قُلْ: بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً} وفي الكلام حذف، يحتمل وجهين: أحدهما: أن المحذوف بل نتبع ملة إبراهيم، ولذلك جاء به منصوباً. والثاني: أن المحذوف بل نهتدي بملة إبراهيم، فلما حذف حرف الجر، صار منصوباً، والملة: الدين، مأخوذ من الإملاء، أي ما يُمْلُون من كتبهم. وأما الحنيف، ففيه أربعة تأويلات: أحدها: أنه المخلص، وهو قول السدي. والثاني: أنه المتَّبع، وهو قول مجاهد. والثالث: الحاج، وهو قول ابن عباس، والحسن. والرابع: المستقيم. وفي أصل الحنيف في اللغة وجهان: أحدهما: الميل، والمعنى أن إبراهيم حَنَفَ إلى دين الله، وهو الإسلام فسمي حنيفاً، وقيل للرجل أحْنَف لميل كل واحدة من قدميه إلى أختها. والوجه الثاني: أن أصله الاستقامة، فَسُمِّي دين إبراهيم «الحنيفية» لاستقامته وقيل للرجل أحنف، تطيّراً من الميل وتفاؤلاً بالاستقامة، كما قيل لِلًّدِيغ سليم، وللمُهْلِكةِ من الأرض مفازة.
{قُولُوا آَمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (136) فَإِنْ آَمَنُوا بِمِثْلِ مَا آَمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (137) صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ (138)} قوله تعالى: {فَإِنْ ءَامَنُوا بِمِثْلِ مَآ ءَامَنتُم بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوا} فإن قيل: فهل للإيمان مثل لا يكون إيماناً؟ قيل معنى الكلام: فإن آمنوا مثل إيمانكم، وصدَّقوا مثل تصديقكم فقد اهتدوا، وهذا هو معنى القراءة وإن خالف المصحف. {وَإِن تَوَلَّوا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ} يعني في مشاقة وعداوة، وأصل الشِّقَاقِ البُعْدُ، من قولهم قد أخذ فلان في شِقٍّ، وفلان في شِقٍّ آخر، إذا تباعدوا. وكذلك قيل للخارج عن الجماعة، قد شَقَّ عصا المسلمين لبُعْدِهِ عنهم. قوله تعالى: {صِبْغَةَ اللهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ صِبْغَةً} فيه تأويلان: أحدهما: معناه دين الله، وهذا قول قتادة. وسبب ذلك أن النصارى كانوا يصبغون أولادهم في ماء لهم، ويقولون هذا تطهير لهم كالختان، فرد الله تعالى ذلك عليهم بأن قال: {صِبْغَةَ اللهِ} أي صبغة الله أحسن صبغة، وهي الإسلام. والثاني: أن صبغة الله، هي خلقة الله، وهذا قول مجاهد. فإن كانت الصبغة هي الدين، فإنما سُمِّيَ الدين صبغة، لظهوره على صاحبه، كظهور الصِّبْغِ عَلَى الثوبِ، وإن كانت هي الخلقة فلإحداثه كإحداث اللون على الثوب.
{قُلْ أَتُحَاجُّونَنَا فِي اللَّهِ وَهُوَ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ وَلَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ (139) أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطَ كَانُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (140) تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ (141)} قوله عز وجل: {أَمْ تَقُولُونَ إنَّ إبْرَاهِيمَ} يعني قالوا: {إنَّ إبْرَاهِيمَ وإِسْمَاعِيلَ وَإِسَحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأسْبَاطَ} وهم إثنا عشر سَبْطاً من ولد يعقوب، والسَبْطُ الجماعة الذين يرجعون إلى أب واحد، والسَبْطُ في اللغة: الشجر الذي يرجع بعضه إلى بعض {كَانُوا هُوداً أوْ نَصَارَى قُلْ: أَأَنْتُم أَعْلَمُ أمِ اللهُ} يعني اليهود تزعم أن هؤلاء كانوا هوداً، والنصارى تزعم أنهم كانوا نصارى، فرد الله عليهم بأن الله تعالى أعلم بهم منكم، يعني بأنهم لم يكونوا هوداً ولا نصارى. {وَمَا اللهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} من كتمان الشهادة، والارتشاء عليها من أغنيائهم وسفائهم.
{سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (142) وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (143)} قوله تعالى: {سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ} السُّفَهَاءُ: واحده سَفِيه، والسَّفِيهُ: الخفيف الحلم، من قولهم ثوب سفيه إذا كان خفيف النسج، ورمح سفيه إذا أسرع نفوذه. وفي والمراد بالسفهاء هَا هُنَا ثلاثة أقاويل: أحدها: اليهود، وهو قول مجاهد. والثاني: المنافقون، وهو قول السدي. والثالث: كفار قريش وحكاه الزجاج. {مَا ولاَّهم عَن قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا} يعني ما صرفهم عن قبلتهم التي كانوا عليها، وهي بيت المقدس، حيث كان يستقبلها رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة، بعد هجرته إلى المدينة بستة عشر شهراً في رواية البراء بن عازب، وفي رواية معاذ بن جبل: ثلاثة عشر شهراً، وفي رواية أنس بن مالك تسعة أشهر أو عشرة أشهر، ثم نُسِخَتْ قبلةُ بيت المقدس باستقبال الكعبة، ورسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة في صلاة الظهر وقد صلى منها ركعتين نحو بيت المقدس، فانصرف بوجهه إلى الكعبة، هذا قول أنس بن مالك، وقال البراء بن عازب: كنا في صلاة العصر بقباء، فمر رجل على أهل المسجد وهم ركوع في الثانية، فقال: أشهد لقد صَلَّيت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم قِبَلَ مكة، فداروا كما هم قِبَلَ البيت، وقِبَلُ كل شيءٍ: ما قَابَل وَجْهَه. واختلف أهل العلم في استقبال رسول الله صلى الله عليه وسلم بيت المقدس، هل كان برأيه واجتهاده، أو كان عن أمر الله تعالى لقوله: {وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ التَّي كُنْتَ عَلَيْهَا إلاَّ لِنَعْلَمَ مَن يَتَّبعُ الرَّسُوُلَ}، وهذا قول ابن عباس وابن جريج. والقول الثاني: أنه كان يستقبلها برأيه واجتهاده، وهذا قول الحسن، وعكرمة، وأبي العالية، والربيع. واختلفوا في سبب اختياره بيت المقدس على قولين: أحدهما: أنه اختار بيت المقدس ليتألَّف أهل الكتاب، وهذا قول أبي جعفر الطبري. والثاني: لأن العرب كانت تحج البيت غير آلفة لبيت المقدس، فأحب الله أن يمتحنهم بغير ما ألفوه، ليعلم من يتبع ممن ينقلب على عَقِبَيْهِ، وهذا قول أبي إسحاق الزجاج، فلما استقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم الكعبة، قال ابن عباس: أتى رفاعة بن قيس وكعب بن الأشرف والربيع وكنانة بن أبي الحُقَيْقِ، فقالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم: ما ولاّك عن قبلتك التي كنت عليها وأنت تزعم أنك على ملةِ إبراهيم ودينه؟ ارجع إلى قبلتك التي كنت عليها، نتبعك ونصدقك. وإنما يريدون فتنته عن دينه، فأنزل الله تعالى: {سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلاّهُمْ عَن قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيها؟ قُل: لِلَّهِ الْمَشْرِقْ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَن يَشَاءُ إلى صِرَاطٍ مُسْتَقيمٍ} يعني حيثما أمر الله تعالى باستقباله من مشرق أو مغرب والصراط: الطريق: والمستقيم: المستوي. قوله تعالى: {وَكَذلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً}. فيه ثلاثة تأويلات: أحدها: يعني خياراً، من قولهم فلان وسط الحَسَبِ في قومه، إذا أرادوا بذلك الرفيع في حسبه، ومنه قول زهير: هُمْ وَسَطٌ يَرْضَى الإلهُ بِحُكْمِهِمْ *** إذَا نَزَلَت إِحْدَى اللَّيالي بِمُعَظَّمِ والثاني: أن الوسط من التوسط في الأمور، لأن المسلمين تَوَسَّطُوا في الدين، فلا هم أهل غلوٍّ فيه، ولا هم أهل تقصير فيه، كاليهود الذين بدَّلوا كتاب الله وقتَّلوا أنبياءهم وكَذَبوا على ربهم، فوصفهم الله تعالى بأنهم وسط، لأن أحب الأمور إليه أوسطها. والثالث: يريد بالوسط: عدلاً، لأن العدل وسط بين الزيادة والنقصان، وقد روى أبو سعيد الخدري، عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أمَّةً وَسَطاً} أي عَدْلاً. {لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ} فيه ثلاثة تأويلات: أحدها: لتشهدوا على أهل الكتاب، بتبليغ الرسول إليهم رسالة ربهم. والثاني: لتشهدوا على الأمم السالفة، بتبليغ أنبيائهم إليهم رسالة ربهم، وهذا مروي عن النبي صلى الله عليه وسلم، أن الأمم السالفة تقول لهم: كيف تشهدون علينا ولم تشاهدونا، فيقولون أعْلَمَنَا نبيُّ الله بما أُنْزِلَ عليه من كتاب الله. والثالث: أن معنى قوله: {لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ} أي لتكونوا مُحْتَجِّينَ على الأمم كلها، فعبر عن الاحتجاج بالشهادة، وهذا قول حكاه الزجاج. {وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً} فيه ثلاثة تأويلات: أحدها: يكون الرسول شهيداً على أمته أنْ قد بلّغ إليهم رسالة ربه. والثاني: أنّ معنى ذلك أنْ يكون شهيداً لهم بإيمانهم، وتكون (عليهم) بمعنى (لهم). والثالث: أن معنى قوله: {وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيكُمْ شَهِيداً} أي مُحْتَجّاً. {وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنتَ عَلَيْهَا} أي بيت المقدس، {إلاّ لِنَعَلَمَ مَن يَتَّبعُ الرَّسُولَ مِمَّن يَنقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ} فإن قيل: الله أعلم بالأشياء قبل كونها، فكيف جعل تحويل القِبْلة طريقاً إلى علمه؟ قيل: في قوله: {إلاَّ لِنَعْلَمَ} أربعة تأويلات: أحدها: يعني إلا ليعلم رسولي، وحزبي، وأوليائي؛ لأن من شأن العرب إضافة ما فعله أتْباعُ الرئيس إليه، كما قالوا: فتح عمرُ بنُ الخطاب سوادَ العراق وجبي خَرَاجَهَا. والثاني: أن قوله تعالى: {إلاَّ لِنَعْلَمَ} بمعنى: إلا لنرى، والعرب قد تضع العلمَ مكان الرؤية، والرؤية مكان العلم، كما قال تعالى {ألَمْ تَرَ كَيفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأصْحَابِ الْفِيلِ} [الفيل: 1] يعني: ألم تعلم. والثالث: قوله تعالى: {إلاَّ لِنَعْلَمَ} بمعنى إلا لتعلموا أننا نعلم، فإنّ المنافقين كانوا في شك من علم الله بالأشياء قبل كونها. والرابع: أن قوله: {إلاَّ لِنَعْلَمَ} بمعنى إلا لنميز أهل اليقين من أهل الشك، وهذا قول ابن عباس. قوله تعالى: {مَن يَتَّبعُ الرَّسُولَ} بمعنى فيما أمر به من استقبال الكعبة {مِمَّن يَنقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ} بمعنى: ممن يَرْتَدُّ عن دينه، لأن المرتد راجع مُنْقَلِب عما كان عليه، فشبهه بالمُنْقلِب على عقبه، لأن القبلة لمَّا حُوِّلَتْ ارْتَدَّ من المسلمين قَوْمٌ، ونافق قوم، وقالت اليهود: إن محمداً قد اشتاق إلى بلد أبيه، وقالت قريش: إن محمداً قد علم أننا على هدى وسَيُتَابِعُنَا. ثم قال تعالى: {وَإِن كَانَتْ لَكَبِيرةً إلاَّ عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللهُ} فيه ثلاثة تأويلات: أحدها: معناه وإن التولية عن بيت المقدس إلى الكعبة والتحويل إليها لكبيرةٌ، وهذا هو قول ابن عباس، ومجاهد، وقتادة. والثاني: إن الكبيرة هي القبلة بعينها التي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتوجه إليها من بيت المقدس قبل التحويل، وهذا قول أبي العالية الرياحي. والثالث: أن الكبيرة هي الصلاة، التي كانوا صَلَّوْهَا إلى القبلة الأولى، وهذا قول عبد الرحمن بن زيد. ثم قال تعالى: {وَمَا كَانَ اللهُ لِيُضِيعَ إيمَانَكُم} يعني صلاتكم إلى بيت المقدس، فسمى الصلاة إيماناً لاشتمالها على نية وقول وعمل، وسبب ذلك أن المسلمين لما حُوِّلُوا عن استقبال بيت المقدس إلى الكعبة، قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم: كيف من مات من إخواننا؟ فأنزل الله عز وجل: {وَمَا كَانَ اللهُ لِيُضيعَ إيمَانَكُم}. فإن قيل: هم سألوه عن صلاةِ غيرهم، فأجابهم بحال صلاتهم؟ قيل: لأن القوم أشفقوا، أن تكون صلاتهم إلى بيت المقدس مُحْبَطةً لمنْ مات ومن بقي، فأجابهم بما دَلَّ على الأمرين، على أنه قد روى قوم أنهم قالوا: كيف تضيع صلاتنا إلى بيت المقدس فأنزل الله تعالى ذلك. {إنَّ الله بِالنَّاسِ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ} الرأفة: أشد من الرحمة، وقال أبو عمر عمرو بن العلاء: الرأفة أكثر من الرحمة.
{قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ (144)} قوله تعالى: {قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ في السَّمَآءِ} هذه الآية متقدمة في النزول على قوله تعالى: {سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِن النَّاسِ}. وفي قوله: {تَقَلُّبَ وَجْهِكَ في السَّمَاءِ} تأويلان: أحدهما: معناه: تحول وجهك نحو السماء، وهذا قول الطبري. والثاني: معناه: تقلب عينيك في النظر إلى السماء، وهذا قول الزجاج. {فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبلةً تَرضاها} يعني الكعبة كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يرضاها ويختارها ويسأل [ربه] أن يُحوَّل إليها. واختُلِفَ في سبب اختياره لذلك على قولين: أحدهما: مخالفة اليهود وكراهة لموافقتهم، لأنهم قالوا: تتبع قبلتنا وتخالفنا في ديننا؟ وبه قال مجاهد، وابن زيد. والثاني: أنه اختارها، لأنها كانت قبلة أبيه إبراهيم، وبه قال ابن عباس. فإن قيل: أكان رسول الله صلى الله عليه وسلم غير راض ببيت المقدس أن يكون له قبلة، حتى قال تعالى له في الكعبة {فَلَنُوَلِّيَنَّكْ قِبْلَةً تَرْضَاهَا}؟ قيل: لا يجوز أن يكون رسول الله غير راض ببيت المقدس، لَمَّا أمره الله تعالى به، لأن الأنبياء يجب عليهم الرضا بأوامر الله تعالى، لكن معنى ترضاها: أي تحبها وتهواها، وإنما أحبها مع ما ذكرنا من القولين الأولين، لما فيها من تآلف قومه وإسراعهم إلى إجابته، ويحتمل أن يكون قوله: {تَرْضَاهَا} محمولاً على الحقيقة بمعنى: ترضى ما يحدث عنها من التأليف، وسرعة الإجابة، ثم قال تعالى مجيباً لرغبته وآمراً بطَلِبَتِه: {فَولِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} أي حَوِّلْ وجهك في الصلاة، شطر المسجد الحرام أي: نحو المسجد الحرام، كما قال الهذلي: إنَّ العسير بها دَاءٌ يُخَامِرُها *** فشطرُهَا نظَرُ العَيْنَيْنِ مَحْسُورُ أي نحوها، والشطر من الأضداد، يقال: شطر إلى كذا إذا أقبل نحوه، وشطر عن كذا إذا بَعُدَ منه وأعرض عنه، وشِطْرُ الشيء: نصفه، فأما الشاطر من الرجال فلأنه قد أخذ في نحوٍ غير الإِستواء. قوله تعالى: {الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} يعني به الكعبة، لأنها فيه فعبر به عنها. واختلف أهل العلم في المكان، الذي أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يولي وجهه إليه: فقال عبد الله بن عمرو بن العاص: {فَلَنُولِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا} قال: حيال ميزاب الكعبة. وقال عبد الله بن عباس: البيت كله، وقبلة البيت الباب. ثم قال تعالى: {وَحَيْثُمَا كَنتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُم شَطْرَهُ} يعني نحو المسجد الحرام أيضاً تأكيداً للأمر الأول لأن عمومه يقتضيه، لكن أراد بالتأكيد احتمال التخصيص، ثم جعل الأمر الأول مواجهاً به النبي صلى الله عليه وسلم، والثاني مواجهاً به جميع الناس، فكلا الأمرين عام في النبي صلى الله عليه وسلم وجميع أمته، لكن غاير بين الأمرين ليمنع من تغيير الأمر في المأمور به، وليكون كل واحد منهما جارياً على عمومه. ثم قال تعالى: {وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} يعني اليهود والنصارى. {لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ} يعني تحويل القبلة عن بيت المقدس إلى الكعبة. {وَمَا اللهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ} من الخوض في إِفْتَانِ المسلمين عن دينهم بذلك.
{وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ بِكُلِّ آَيَةٍ مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ وَمَا أَنْتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَمَا بَعْضُهُمْ بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ (145)} قوله تعالى: {وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ بِكُلِّ ءَايَةٍ مَّا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ} يعني استقبال الكعبة. {وَمَا أَنتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُم} يعني استقبال بيت المقدس، بعد أن حُوِّلَتْ قِبْلَتُك إلى الكعبة. {وَمَا بَعْضُهُم بِتَابٍعِ قِبْلَةَ بَعْضٍ} يعني أن اليهود لا تتبع النصارى في القبلة، فهم فيها مختلفون، وإن كانوا على معاندة النبي صلى الله عليه وسلم متفقين. {وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ} يعني في القبلة. {مَن بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ} يعني في تحويلها عن بيت المقدس إلى الكعبة. {إِنَّكَ إِذَاً لَّمِنَ الظَّالِمِينَ} وليس يجوز أن يفعل النبي ما يصير به ظالماً. وفي هذا الخطاب وجهان: أحدهما: أن هذه صفة تنتفي عن النبي، وإنما أراد بذلك بيان حكمها لو كانت. والوجه الثاني: أن هذا خطاب للنبي والمراد به أمته.
{الَّذِينَ آَتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (146) الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (147)} قوله تعالى: {الَّذِينَ ءَاتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ} يعني اليهود والنصارى، أوتوا التوراة، والإنجيل. {يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنآءَهُمُ} فيه قولان: أحدهما: يعرفون أن تحويل القبلة عن بيت المقدس إلى الكعبة حق كما يعرفون أبناءهم. والثاني: يعرفون الرسول وصدق رسالته كما يعرفون أبناءهم. {وَإِنَّ فَرِيقاً مِّنْهُمْ} يعني علماءَهم وخواصَّهمْ. {لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ} فيه قولان: أحدهما: أن الحق هو استقبال الكعبة. والثاني: أن الحق محمد صلى الله عليه وسلم، وهذا قول مجاهد وقتادة. {وَهُمْ يَعْلَمُونَ} يحتمل وجهين: أحدهما: يعلمون أنه حق متبوع. والثاني: يعلمون ما عليه من العقاب المستحق. {الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ} يعني استقبال الكعبة، لا ما أخبرتك به شهود من قبلتهم. {فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ} أي من الشاكِّين يقال: امترى فلان في كذا إذا اعترضه اليقين مَرَّةً، والشك أخرى، فدافع أحدهما بالآخر. فإن قيل: أفكان شاكّاً حين نهى عنه؟ قيل: هذا وإن كان خطاباً للنبي صلى الله عليه وسلم فالمراد به غيره من أمته.
{وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ أَيْنَ مَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعًا إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (148)} قوله تعالى: {وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا} يعني ولكل أهل ملة من سائر الملل وجهة هو مولِّيها. وفيه قولان: أحدهما: قبلة يستقبلونها، وهو قول ابن عباس وعطاء والسدي. والثاني: يعني صلاة يصلونها، وهو قول قتادة. وفي قوله تعالى: {هُوَ مُوَلِّيها} قولان: أحدهما: أن أهل كل وجهة هم الذين يَتَوَلَّونَهَا ويستقبلونها. والثاني: أن أهل كل وجهةٍ الله تعالى هو الذي يوليهم إليها ويأمرهم باستقبالها، وقد قرئ {هُوَ مَوْلاها} وهذا حسن يدل على الثاني من القولين. {فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ} فيه تأويلان: أحدهما: معناه فسارعوا إلى الأعمال الصالحة، وهو قول عبد الرحمن بن زيد. والثاني: معناه: لا تُغلَبوا على قبلتكم بما تقول اليهود من أنكم إذا اتبعتم قبلتهم اتبعوكم، وهذا قول قتادة. {... يَأْتِ بِكُمُ اللهُ جَمِيعاً} إلى الله مرجعكم جميعاً، يعني يوم القيامة. {إِنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} يعني على إعادتكم إليه أحياء بعد الموت والبلى.
{وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (149) وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (150)} ثم أكد الله أمره في استقبال الكعبة، لما جرى من خوض المشركين ومساعدة المنافقين، بإعادته فقال: {وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِن رَّبِّكَ وَمَا اللهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} تبييناً لِنَبِيِّهِ وصرفاً له عن الاغترار بقول اليهود: أنهم يتبعونه إن عاد. {وَمَا اللهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} يحتمل وجهين: أحدهما: أن يقول ذلك ترغيباً لهم في الخير. والثاني: تحذيراً من المخالفة. ثم أعاد الله تعالى تأكيد أمره، ليخرج من قلوبهم ما استعظموه من تحويلهم إلى غير ما أَلِفُوه، فقال: {وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُمَا كُنتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ} فأفاد كل واحد من الأوامر الثلاثة مع استوائها في التزام الحكم فائدة مستجده: أما الأمر الأول فمفيد لنسخ غيره، وأما الأمر الثاني فمفيد لأجل قوله تعالى: {وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِن رَّبِّكَ} أنه لا يتعقبه نسخ. وأما الأمر الثالث فمفيد أن لا حجة عليهم فيه، لقوله: {لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ}. ثم قال تعالى: {إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمُ} ليس يريد أن لهم عليكم حجة. وفيه قولان: أحدهما: أن المعنى، ولكن الذين ظلموا قد يحتجون عليكم بأباطيل الحجج، وقد ينطلق اسم الحجة على ما بطل منها، لإقامتها في التعلق بها مقام الصحيح حتى يظهر فسادها لمن علم، مع خفائها على من جهل، كما قال تعالى {حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ عِندَ رَبِّهِمْ} فَسَمَّاهَا حجة، وجعلها عند الله دَاحِضَةْ. والقول الثاني: أن المعنى لِئَلاَّ يكون للناس عليكم حُجَّةٌ بعد الذين ظلموا، فتكون (إلاّ) بمعنى (بعد)] كما قيل في قوله تعالى: {وَلاَ تَنكَحُوا مَا نَكَحَ ءَابَاءُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ} [النساء: 22] أي بعدما قد سلف. وكما قيل في قوله تعالى: {لاَ يَذُوقُونَ فِيهَا المَوتَ إِلاَّ المَوتَةَ الأولى} [الدخان: 56] أي بعد الموتة الأولى. وأراد بالذين ظلموا قريشاً واليهود، لقول قريش حين استقبل الكعبة: قد علم أننا على هُدًى، ولقول اليهود: إن رَجَعَ عنها تابعناه. {فَلاَ تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَونِي} في المخالفة {وَلأُتِمَّ نِعْمَتي عَلَيْكُمْ} يحتمل وجهين: أحدهما: فيما هديناكم إليه من القبلة. والثاني: ما أعددته لكم من ثواب الطاعة.
{كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آَيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ (151) فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ (152)} قوله تعالى: {كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ} يعني من العرب {رَسُولاً مِّنكُمْ} يعني محمداً صلى الله عليه وسلم {يَتْلُوا عَلَيْكُمْ ءَآيَاتِنَا} يعني القرآن. {وَيُزَكِّيكُمْ} فيه تأويلان: أحدهما: يعني يطهركم من الشرك. والثاني: أن يأمركم بما تصيرون به عند الله أزكياء. {وَيُعَلِّمُكُمُ الْكَتَابَ} فيه تأويلان: أحدهما: القرآن. والثاني: الإخبار بما في الكتب السالفة من أخبار القرون الخالية. {وَالحِكْمَةَ} فيها تأويلان: أحدهما: السنّة. والثاني: مواعظ القرآن. {وَيُعَلِّمُكُم مَّا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ} يعني من أحكام الدين وأمور الدنيا. {فَاذْكُرُوني أَذْكُرْكُمْ} فيه تأويلان: أحدهما: اذكروني بالشكر أذكركم بالنعمة. والثاني: اذكروني بالقبول أذكركم بالجزاء.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (153) وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لَا تَشْعُرُونَ (154)} قوله تعالى: {يَأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ والصَّلاَةِ} أما الصبر ها هنا ففيه قولان: أحدهما: الثبات على أوامر الله تعالى. والثاني: الصيام المقصود به وجه الله تعالى. وأما الاستعانة بالصلاة فتحتمل وجهين: أحدهما: الاستعانة بثوابها. والثاني: الاستعانة بما يُتلى في الصلاة ليعرف به فضل الطاعة فيكون عوناً على امتثال الأوامر. قوله تعالى: {وَلاَ تَقُولُوا لِمَن يُقْتَلُ في سَبِيلِ اللهِ أَمْوَتٌ بَلْ أَحْيَآءٌ وَلَكِن لاَّ تَشْعُرُونَ} وسبب ذلك أنهم كانوا يقولون لقتلى بدر وأُحُد: مات فلان، ومات فلان، فنزلت الآية وفيها تأويلان: أحدهما: أنهم ليسوا أمواتاً وإن كانت أجسامهم أجسام الموتى بل هم عند الله أحياء النفوس منعّمو الأجسام. والثاني: أنهم ليسوا بالضلال أمواتاً بل هم بالطاعة والهدى أحياء، كما قال تعالى: {أَوَ مَن كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ في النَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُ في الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا} [الأنعام: 122] فجعل الضالَّ ميتاً، والمُهْتَدي حياً. ويحتمل تأويلاً ثالثاً: أنهم ليسوا أمواتاً بانقطاع الذكر عند الله وثبوت الأجر.
{وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ (155) الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ (156) أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ (157)} قوله تعالى: {وَلَنَبْلُوَنَّكُم} يعني أهل مكة، لما تقدم من دعاء النبي صلى الله عليه وسلم أن يجعلها عليهم سنين كسني يوسفَ حين قحطوا سبع سنين، فقال الله تعالى مجيباً لدعاء نبيه: {وَلَنَبْلُوَنَّكُم بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوْفِ وَالجُوعِ} الخوف يعني الفزع في القتال، والجوع يعني المجاعة بالجدب. {وَنَقْصٍ مِّنَ الأمَوَالِ} يحتمل وجهين: أحدهما: نقصها بالجوائح المتلفة. والثاني: زيادة النفقة في الجدب. {وَالأَنفُسِ} يعني ونقص الأنفس بالقتل والموت. {وَالثَّمَرَاتِ} قلة النبات وارتفاع البركات. {وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ} يحتمل ثلاثة أوجه: أحدها: وبشر الصابرين على الجهاد بالنصر. والثاني: وبشر الصابرين على الطاعة بالجزاء. والثالث: وبشر الصابرين على المصائب بالثواب، وهو أشبه لقوله من بعد: {الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُوا: إِنَّا لِلَّهِ وإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} يعني: إذا أصابتهم مصيبة في نفس أو أهل أو مال قالوا: إنا لله: أي نفوسنا وأهلونا وأموالنا لله، لا يظلمنا فيما يصنعه بنا {وإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} يعني بالبعث في ثواب المحسن ومعاقبة المسيء. ثم قال تعالى في هؤلاء: {أُوْلَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَواتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُوْلَئكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ} الصلاة اسم مشترك المعنى فهي من الله تعالى الرحمة، ومن الملائكة الاستغفار، ومن الناس الدعاء، كما قال تعالى: {إِنَّ اللهَ وَمَلاَئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَأيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمَاً}. وقال الشاعر: صلّى على يحيى وأشياعه *** رَبٌّ كريمٌ وشفيع مطاع قوله تعالى: {أُوْلَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَواتٌ مِّن رَّبِّهِمْ} أي رحمة، وذكر ذلك بلفظ الجمع لأن بعضها يتلو بعضاً. ثم قال: {وَرَحْمَةٌ} فأعادها مع اختلافها للفظين لأنه أوكد وأبلغ كما قال: {مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى}. وفي قوله تعالى: {وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ} وجهان محتملان: أحدهما: المهتدون إلى تسهيل المصائب وتخفيف الحزن. والثاني: المهتدون إلى استحقاق الثواب وإجزال الأجر.
{إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ (158)} قوله تعالى: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِن شَعَائِرِ اللهِ} أما الصفا والمروة فهما مبتدأ السعي ومنتهاه. وفيه قولان: أحدهما: أن الصفا: الحجارة البيض، والمروة الحجارة السود. واشتقاق الصفا من قولهم صفا يصفو إذا خَلَص، وهو جمع واحده صفاة. والثاني: أن الصفا: الحجارة الصلبة التي لا تنبت شيئاً، والمروة الحجارة الرخوة، وهذا أظهر القولين في اللغة. يدل على الصفا قول الطرماح: أبت لي قوتي والطول إلاّ *** يؤيسَ حافراً أبداً صفاتي ويدل على المروة قول الكميت: ويُوَلّي الأرضَ خفاً ذابلاً *** فإذا ما صادف المَرْوَ رضخ وحُكِيَ عن جعفر بن محمد قال: نزل آدم على الصفا، وحواء على المروة، فَسُمِّي الصفا باسم آدم المصطفى وسميت المروة باسم المرأة. وقيل إن اسم الصفا ذكّر بإساف وهو صنم كان عليه مذكر الاسم، وأنثت المروة بنائلة وهو صنم كان عليه مؤنث الاسم. وفي قوله: {مِن شَعَائِرِ اللهِ} وجهان: أحدهما: يعني من معالم الله التي جعلها لعباده معلماً، ومنه قول الكميت: نقتّلهم جيلاً فجيلاً تراهُمُ *** شعائر قربان بها يُتَقَرَّبُ والثاني: إن الشعائر جمع شعيرة وهو الخبر الذي أخبر الله تعالى عنه، وهي من إشعار الله عباده أمر الصفا والمروة وما عليهم من الطواف بهما، وهذا قول مجاهد. ثم قال تعالى: {فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ} أما الحج ففيه قولان: أحدهما: أنه القصد، سمي به النسك لأن البيت مقصود فيه، ومنه قول الشاعر: وأشهد من عوف حلولاً كثيرة *** يحجون سب الزبرقان المزعفرا يعني بقوله يحجون أي يكثرون التردد إليه لسؤدده ورياسته، فسمي الحج حجاً لأن الحاج يأتي قِبَلَ البيت ثم يعود إليه لطواف الإفاضة، ثم ينصرف إلى منى ويعود إليه لطواف الصدر، فلتكرر العَوْد إليه مرة بعد أخرى قيل له: حاجّ. وأما العمرة ففيها قولان: أحدهما: أنها القصد أيضاً، وكل قاصد لشيء فهو معتمر، قال العجاج: لقد غزا ابن معمر حين اعتمر *** مَغْزىً بعيداً من بعيد وصَبَر يعني بقوله حين اعتمر أي حين قصد. والقول الثاني: أنها الزيارة ومنه قول الشاعر: وجاشت النفسُ لمَّا جاءَ فَلُّهم *** وراكب جاءَ من (تثليث) معتمرا أي زائراً. ثم قال تعالى: {فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أن يَطَّوَّفَ بِهِمَا} ورفع الجناح من أحكام المباحث دون الواجبات. فذهب أبو حنيفة على أنّ السعي بين الصفا والمروة غير واجب في الحج والعمرة منسكاً بأمرين: أحدهما: قوله تعالى: {فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا} ورفع الجناح من أحكام المباحات دون الواجبات. والثاني: أن ابن عباس وابن مسعود قَرَء: {فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن لاَّ يَطَّوَّفَ بِهِمَا}. وذهب الشافعي، ومالك، وفقهاء الحرمين، إلى وجوب السعي في النسكين تمسكاً بفحوى الخطاب ونص السنة، وليس في قوله: {فَلاَ جُنَاحَ} دليل على إباحته دون وجوبه، لخروجه على سبب، وهو أن الصفا كان عليه في الجاهلية صنم اسمه إساف، وعلى المروة صنم اسمه نائلة، فكانت الجاهلية إذا سعت بين الصفا والمروة طافوا حول الصفا والمروة تعظيماً لإساف ونائلة، فلما جاء الإسلام وألغيت الأصنام تَكَرَّهَ المسلمون أن يُوَافِقُوا الجاهلية في الطواف حول الصفا والمروة، مجانبةً لما كانوا عليه من تعظيم إساف ونائلة، فأباح الله تعالى ذلك لهم في الإسلام لاختلاف القصد فقال: {فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا}. وأما قراءة ابن مسعود، وابن عباس: {فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن لاَّ يَطَّوَّفَ بِهِمَا}، فلا حجة فيها على سقوط فرض السعي بينهما لأن (لا) صلة في الكلام إذا تقدمها جَحْد، كقوله تعالى: {مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ} [الأعراف: 12] بمعنى ما منعك أن تسجد، وكما قال الشاعر: ما كان يرضى رسول الله فعلهم *** والطيبان أبو بكر ولا عُمَرُ {وَمَن تَطَوَّعَ خَيْراً} فيه ثلاثة أقاويل: أحدها: ومن تطوع بالسعي بين الصفا والمروة، وهذا قول مَنْ أسقط وجوب السعي. والثاني: ومن تطوع بالزيادة على الواجب، وهذا قول من أوجب السعي. والثالث: ومن تطوع بالحج والعمرة بعد أداء فرضهما. {فَإِنَّ اللهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ} يحتمل تأويلين: أحدهما: شاكر للعمل عليم بالقصد. والثاني: شاكر للقليل عليم بالثواب.
{إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ (159) إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (160) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (161) خَالِدِينَ فِيهَا لَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ (162)} قوله عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا} قيل: هم رؤساء اليهود، كعب ابن الأشرف، وكعب بن أسد، وابن صوريا، وزيد بن التابوت، هم الذين كتموا ما أنزل الله. {مَنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى} فيه قولان: أحدهما: أن البينات هي الحجج الدالة على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، والهدى: الأمر باتباعه. والثاني: أن البينات والهدى واحد، والجمع بينهما تأكيد، وذلك ما أبان عن نبوته وهدى إلى اتباعه. {مَنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ في الْكِتَابِ} يعني القرآن. {أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللاَّعِنُونَ} فيهم أربعة أقوال: أحدها: أنهم كل شيء في الأرض من حيوان وجماد إلا الثقلين الإنس والجن، وهذا قول ابن عباس والبراء بن عازب. والثاني: اللاعنون: الاثنان إذا تلاعنا لحقت اللعنة مستحقها منهما، فإن لم يستحقها واحد منهما رجعت اللعنة على اليهود، وهذا قول ابن مسعود. والثالث: أنهم البهائم، إذا يبست الأرض قالت البهائم هذا من أجل عُصاةِ بني آدم، وهذا قول مجاهد وعكرمة. والرابع: أنهم المؤمنون من الإنس والجن، والملائكة يَلعنون مَنْ كَفَر بالله واليوم الآخر، وهذا قول الربيع بن أنس. {إِلاَّ الَّذِينَ تَابُوا} يعني بالإسلام من كفرهم {وَأَصْلَحُوا} يحتمل وجهين: أحدهما: إصلاح سرائرهم وأعمالهم. والثاني: أصلحوا قومهم بإرشادهم إلى الإسلام {وَبَيَّنُوا} يعني ما في التوراة من نبوة محمد صلى الله عليه وسلم ووجوب اتَباعه {فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِم} والتوبة من العباد: الرجوع عن الذنب، والتوبة من الله تعالى: قبولها من عباده. قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ} وإنما شرط الموت على الكفر لأن حُكْمَهُ يستقر بالموت عليه ويرتفع بالتوبة منه. {أُوْلَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللهِ} واللعنة من العباد: الطرد، ومن الله تعالى: العذاب. {وَالْمَلاَئِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} وقرأ الحسن البصري: {وَالْمَلاَئِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعُونَ} بالرفع، وتأويلها: أولئك جزاؤهم أن يلعنهم الله وتلعنهم الملائكة ويلعنهم الناس أجمعون. فإن قيل: فليس يلعنهم جميع الناس لأن قومهم لا يلعنونهم، قيل: عن هذا جوابان: أحدهما: أن اللعنة من أكثر الناس يطلق عليها لعنة جميع الناس، فغلب حكم الأكثر على الأقل. والثاني: أن المراد به يوم القيامة يلعنهم قومهم مع جميع الناس كما قال تعالى: {يَومَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضِ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً} [العنكبوت: 25]. ثم قال تعالى: {خَالِدِينَ فِيهَا لاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ} فيه تأويلان: أحدهما: لا يخفف بالتقليل والاستراحة. والثاني: لا يخفف بالصبر عليه والاحتمال له. {وَلاَ هُمْ يُنظَرُونَ} يحتمل وجهين: أحدهما: لا يؤخرون عنه ولا يمهلون. والثاني: لا ينظر الله عز وجل إليهم فيرحمهم.
{وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ (163)} قوله تعالى: {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ} أراد بذلك أمرين: أحدهما: أن إله جميع الخلق واحد، لا كما ذهبت إليه عبدة الأصنام من العرب وغيرهم أن لكل قوم إلَهاً غير إله من سواهم. والثاني: أن الإله وإنْ كان إلهاً لجميع الخلق فهو واحد لا ثاني له ولا مثل له. ثم أكد ذلك بقوله تعالى: {لآَّ إِلّهَ إِلاَّ هُوَ}، ثم وصف فقال: {الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ} ترغيباً في عبادته وحثاً على طاعته.
|