الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: زاد المسير في علم التفسير ***
الجزء الثامن {ق وَالْقُرْآَنِ الْمَجِيدِ (1) بَلْ عَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ فَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ (2) أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ (3) قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِنْدَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ (4) بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ (5)} قوله تعالى: {ق} قرأ الجمهور: بإسكان الفاء. وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي، وأبو المتوكل، وأبو رجاء، وأبو الجوزاء، «قافَ» بنصب الفاء. وقرأ أبو رزين، وقتادة، «قافُ» برفع الفاء. وقرأ الحسن، وأبو عمران، «قافِ» بكسر الفاء. وفي «قا» خمسة أقوال. أحدها: أنه قسم أقسم اللهُ به، وهو من أسمائه، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس. والثاني: أنه جبل من زَبَرْجَدة خضراء، قاله أبو صالح عن ابن عباس. وروى عكرمة عن ابن عباس قال: خَلَقَ اللهُ جبلاً يقال له «قا» محيط بالعالم، وعروقه إلى الصخرة التي عليها الأرض، فإذا أراد اللهُ عز وجل أن يزلزل قرية، أمر ذلك الجبل فحرَّك العرق الذي يلي تلك القرية. وقال مجاهد: هو جبل محيط بالأرض. وروي عن الضحاك أنه من زمردة خضراء، وعليه كَنَفَا السماء، وخُضرة السماء منه. والثالث: أنه جبل من نار في النار، قاله الضحاك في رواية عنه عن ابن عباس. والرابع: أنه اسم من أسماء القرآن، قاله قتادة. والخامس: أنه حرف من كلمة. ثم فيه خمسة أقوال. أحدها: أنه افتتاح اسمه «قدير»، قاله أبو العالية. والثاني: أنه افتتاح أسمائه: القدير، والقاهر، والقريب، ونحو ذلك. قاله القرظي. والثالث: أنه افتتاح «قُضي الأمرُ»، وأنشدوا: قُلنا لها قِفِي فقالتْ قافْ *** معناه: أقف، فاكتفت بالقاف من «أقف»، حكاه جماعة منهم الزجاج. والرابع: قف عند أمرنا ونهينا، ولا تَعْدُهُما، قاله أبو بكر الورّاق. والخامس: قُلْ يا محمد، حكاه الثعلبي. قوله تعالى: {والقرآنِ المَجيدِ} قال ابن عباس، وابن جبير: المَجيد: الكريم. وفي جواب هذا القسم أربعة أقوال. أحدها: أنه مُضمر، تقديره: لَيُبْعَثُنَّ بَعْدَ الموت. قاله الفراء، وابن قتيبة، ويدُلُّ عليه قولُ الكفار: {هذا شيءٌ عجيبٌ}. والثاني: أنه قوله: {قد عَلِمْنا ما تَنْقُص الأرضُ منهم}، فيكون المعنى: [قاف] والقرآنِ المجيدِ لقد عَلِمْنا، فحُذفت اللاّمُ لأنّ ما قبْلَها عِوَضٌ منها، كقوله: {والشَّمسِ وضُحَاها... قد أفلح} [الشمس: 1-9] أي: لقد أفلح، أجاز هذا القول الزجاج. والثالث: أنه قوله: {ما يَلْفِظُ من قول}، حكي عن الأخفش. والرابع: أنه في سورة أُخرى، حكاه أبو سليمان الدمشقي، ولم يبيِّن في أي سورة. قوله تعالى: {بَلْ عَجِبوا} مفسَّر في [ص: 4] إلى قوله: {شيءٌ عجيبٌ} أي: مُعْجِبٌ. {أئذا مِتْنا} قال الأخفش: هذا الكلام على جواب، كأنه قيل لهم: إنكم ترجعون، فقالوا: أئذا متنا وكنا ترابا؟ وقال غيره: تقدير الكلام: ق والقرآنِ لَيُبْعَثُنَّ، فقال: أئذا متنا وكنا تراباً؛ والمعنى: أنُبْعَث إذا كنا كذلك؟! وقال ابن جرير: لمّا تعجَّبوا من وعيد الله على تكذيبهم بمحمد صلى الله عليه وسلم فقالوا: هذا شيء عجيب، كان كأنه قال لهم: ستعلمون إذا بُعثتم ما يكون حالُكم في تكذيبكم محمداً، فقالوا: أئذا متنا وكنا ترابا؟! قوله تعالى: {ذلك رَجْعٌ} أي: ردٌّ إلى الحياة {بعيدٌ} قال ابن قتيبة: أيْ: لا يكون. {قد عَلِمْنا ما تَنْقُصُ الأرضُ منهم} أي: ما تأكل من لحومهم ودمائهم وأشعارهم إذا ماتوا، يعني أن ذلك لا يَعْزُب عن عِلْمه {وعندنا} مع عِلْمنا بذلك {كتابٌ حفيظٌ} أي: حافظ لعددهم وأسمائهم، ولِما تَنْقُص الأرضُ منهم، وهو اللوح المحفوظ قد أُثبت فيه ما يكون. {بل كذَّبوا بالحق} وهو القرآن. والمَريج: المختلِط قال ابن قتيبة: يقال: مَرِج [أمرُ] الناس، ومَرِج الدِّينُ. وأصل هذا أن يَقْلَق الشيء، ولا يستقر، يقال: مَرِج الخاتم في يدي، إذا قلق، للهُزَال. قال المفسرون: ومعنى اختلاط أمرهم: أنهم كانوا يقولون للنبي صلى الله عليه وسلم: مَرَّة: ساحر، ومرة شاعر، ومرة مُعَلمَّ، ويقولون للقرآن مرة: سحر، ومرة: مُفْتَرى، ومرة: رَجَز، فكان أمرُهم ملتبساً مختلطاً عليهم.
{أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ (6) وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (7) تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ (8) وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكًا فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ (9) وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ (10) رِزْقًا لِلْعِبَادِ وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا كَذَلِكَ الْخُرُوجُ (11) كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَأَصْحَابُ الرَّسِّ وَثَمُودُ (12) وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ وَإِخْوَانُ لُوطٍ (13) وَأَصْحَابُ الْأَيْكَةِ وَقَوْمُ تُبَّعٍ كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ (14) أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ (15)} ثم دلَّهم على قُدرته على البعث بقوله: {أفلم ينظُروا إلى السماء فوقَهم كيف بنيناها} بغير عمد {وزيَّنَّاها} بالكواكب {وما لها من فُروج} أي: من صُدوع وشُقوق. والزَّوج: الجنس. والبهيج: الحَسَن، قاله أبو عبيدة، وقال ابن قتيبة: البهيج: الذي يُبْتَهَج به. قوله تعالى: {تَبْصِرَةً وذكرى لكل عبد منيب} قال الزجاج: أي: فَعَلنا ذلك لِنُبَصِّر ونَدُلَّ على القُدرة. والمُنيب: الذي يَرْجِع إلى الله ويفكِّر في قُدرته. قوله تعالى: {ونزَّلنْا من السماء ماء} وهو المطر {مُبارَكاً} أي: كثير الخير، فيه حياة كل شيء {فأنْبَتْنا به جَنَّاتٍ} وهي البساتين {وحَبَّ الحَصِيدِ} أراد: الحَبَّ الحَصيدَ، فأضافه إلى نَفْسه، كقوله: {لَهُوَ حَقُّ اليَقِينِ} [الواقعة: 95] وقوله: {مِنْ حَبْلِ الوَريدِ} [ق: 16] فالحَبْلُ هو الوَريد، وكما يقال: صلاةُ الأُولى، يراد: الصلاةُ الأُولى، ويقال: مسجدُ الجامع، يراد: المسجدُ الجامعُ، وإنما تضاف هذه الأشياء إلى أنفسها لاختلاف لفظ اسمها، وهذا قول الفراء، وابن قتيبة. وقال غيرهما: أراد حَبَّ النّبتِ الحَصيدِ {والنَّخْلَ} أي: وأنْبَتْنا النخل {باسقاتٍ} و«بُسوقها» طُولها. قال ابن قتيبة: يقال: بَسقَ الشيءُ يَبْسُقُ بُسوقاً: إذا طال، والنَّضيد: المنضود بعضُه فوق بعض، وذلك قبل أن يتفتَّح، فاذا انشقَّ جُفُّ طلْعه وتفرَّق فليس بنضيدٍ. قوله تعالى: {زِرْقاً للعِبادِ} أي: أنْبَتْنا هذه الأشياء للرِّزق {وأَحْيَيْنا به} أي: بالمطر {بَلْدَةً مَيْتاً كذلك الخروجُ} من القُبور. ثم ذكر الأُمم المكذِّبة بما بعد هذا. وقد سبق بيانه إلى قوله: {فحَقَّ وَعيدِ} أي: وجب عليهم عذابي. {أفعَيِينا بالخَلْقِ الأَوَّلِ} هذا جواب لقولهم: ذلك رَجْعٌ بَعيدٌ. والمعنى: أعَجَزْنا عن ابتداء الخَلْق، وهو الخَلْق الأَوَّل، فنعيا بالبعث وهو الخلق الثاني؟! وهذا تقرير لهم، لأنهم اعترفوا أنه الخالق، وأنكروا البعث {بل هم في لَبْسٍ} أي: في شَكٍّ {مِنْ خَلْقٍ جديدٍ} وهو البعث.
{وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ (16) إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ (17) مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ (18) وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ (19) وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ (20) وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ (21) لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ (22)} {ولقد خَلَقْنا الإنسان} يعني ابن آدم {ونَعلمُ ما تُوسوِسُ به نَفْسُه} أي: ما تحدِّثه به نفسه. وقال الزجاج: نعلم ما يُكِنُّه في نَفْسه. قوله تعالى: {ونحن أقربُ إليه} أي: بالعِلْم {من حَبْلِ الوريد} الحَبْل هو الوريد، وإنما أضافه إلى نفسه لِما شرحناه آنفاً في قوله: {وحَبَّ الحَصيدِ} [ق: 9] قال الفراء: والوريد: عِرْقٌ بين الحُلْقوم والعِلْباوَيْن. وعنه أيضاً قال: عرق بين اللَّبَّة والعِلْباوَيْن. وقال الزجاج: الوريد: عِرْق في باطن العُنُق، [وهما وريدان]، والعِلْباوَان: العَصَبتان الصَّفراوان في مَتْن العُنُق، واللَّبَّتان: مَجرى القُرط في العُنُق. وقال ابن الأنباري: اللَّبَّة حيث يتذبذب القُرْط مِمّا يَقْرُبُ من شحمة الأُذن. وحكى بعض العلماء أن الوريد: عِرْقٌ متفرِّق في البدن مُخالِط لجميع الأعضاء. فلمّا كانت أبعاض الإِنسان يحجب بعضُها بعضاً، أَعْلَمَ أن عِلْمه لا يحجُبه شيءٌ. والمعنى: ونحن أقربُ إليه حين يَتلقَّى المتُلقِّيان، وهما الملَكان الموكَّلان بابن آدم يتلقيَّانِ عَمَلَه وقوله: {إذا يَتلقَّى المُتلقِّيان} أي: يأخُذان ذلك ويُثْبِتانه {عن اليمين} كاتب الحسنات {وعن الشِّمال} كاتب السَّيِّئات. قال الزجاج: والمعنى: عن اليمين قَعيد، وعن الشِّمال قَعيد، فدلَّ أحدُهما على الآخر، فحذف المدلولُ عليه، قال الشاعر: نَحْنُ بِمَا عِنْدَنَا وأنْتَ بِمَا عِنْ *** دَكَ رَاضٍ والرَّأْيُ مُخْتَلِفُ وقال آخر: رَمَانِي بِأَمْرٍ كُنْتُ مِنْهُ وَوالِدِي *** بَريئاً ومِنْ أَجْلِ الطَّوِىِّ رَمَانِي المعنى: كنتُ منه بريئاً. وقال ابن قتيبة: القَعيد بمعنى قاعد، كما يقال: «قدير» بمعنى «قادر»، ويكون القعيد بمعنى مُقاعِد، كالأكيل والشَّريب بمنزلة: المُؤاكِل والمُشارِب. قوله تعالى: {ما يَلْفِظُ} يعني الانسان، أي: ما يتكلَّم من كلام فيَلْفِظُه، أي: يَرميه من فمه، {إلاّ لَدَيْه رقيبٌ} أي: حافظ، وهو الملَك الموكَّل به، إِمّا صاحب اليمين، وإِمّا صاحب الشمال {عَتيدٌ} قال الزجاج: العَتيد: الثّابِت اللاّزم. وقال غيره: العَتيد: الحاضر معه أينما كان. وروى أبو أمامة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " كاتِبُ الحَسَنات على يمين الرجلُ، وكاتب السَّيِّئات على يساره، فكاتب الحسنات أمين على كاتب السيئات، فإذا عمل حسنة كتبها له صاحب اليمين عشراً، وإذا عمل سيئة، وأراد صاحب الشمال أن يكتبها، قال صاحب اليمين: أَمْسِكْ، فيُمْسِك عنه سَبْعَ ساعات، فإن استغفر منها لم يُكتَب عليه شيءٌ، وإن لم يستغفر كُتِب عليه سيِّئة واحدة " وقال ابن عباس: جَعَل اللهُ على ابن آدم حافظين في الليل، وحافظين في النهار. واختلفوا هل يكتُبان جميع أفعاله وأقواله على قولين. أحدهما: أنهما يكتُبان عليه كل شيء حتى أنينه في مرضه، قاله مجاهد. والثاني: أنهما لا يكتبان إلاّ ما يؤجَر [عليه]، أو يُوزَر، قاله عكرمة. فأمّا مجلسهما، فقد نطق القرآن بأنهما عن اليمين وعن الشمال، وكذلك ذكرنا في حديث أبي أمامة. وقد روى عليّ كرَّم اللهُ وجهه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " إن مقعد ملَكَيك على ثنيَّتيك، ولسانُك قلمهما، وريقك مدادهما، وأنت تجري فيما لا يعنيك " وروي عن الحسن والضحاك قالا: مجلسهما تحت الشعر على الحنك. قوله تعالى: {وجاءت سَكرْةُ المَوت} وهي غَمرتُه وشِدَّتُه، التي تَغشى الإِنسان وتَغْلِب على عقله وتدُلُّه على أنه ميت {بالحق} وفيه وجهان. أحدهما: أن معناه: جاءت بحقيقة الموت. والثاني: بالحق من أمر الآخرة، فأبانت للانسان ما لم يكن بيَّنّا له من أمر الآخرة. ذكر الوجهين الفراء، وابن جرير. وقرأ أبو بكر الصديق رضي الله عنه: {وجاءت سَكْرةُ الحق بالموت}، قال ابن جرير: ولهذه القراءة وجهان. أحدهما: أن يكون الحق هو الله تعالى، فيكون المعنى: وجاءت سَكْرة الله بالموت. والثاني: أن تكون السَّكْرة هي الموت، أضيفت إلى نفسها، كقوله: {إِنَّ هذا لَهُوَ حَقُّ اليقينِ} [الواقعة 95]، فيكون المعنى: وجاءت السَّكْرة الحَقُّ بالموت، بتقديم «الحَقّ». وقرأ ابن مسعود، وأبو عمران: «وجاءت سَكَراتُ» على الجمع «الحَقِّ بالموتِ» بتقديم «الحَقّ» وقرأ أُبيُّ ابن كعب، وسعيد بن جبير: «وجاءت سَكَراتُ الموت» على الجمع «بالحق» بتأخير «الحق». قوله تعالى: {ذلك} أي: فيقال للانسان حينئذ: «ذلك» أي: ذلك الموت {ما كنتَ منه تَحِيدُ} أي: تهرُب وتفِرّ. وقال ابن عباس: تَكره. قوله تعالى: {ونُفِخ في الصُّور} يعني نفخة البعث {ذلك} اليوم {يومُ الوعيد} أي: يوم وقوع الوعيد. قوله تعالى: {معها سائق} فيه قولان. أحدهما: أن السائق: ملَك يسوقها إلى مَحْشَرها، قاله أبو هريرة. والثاني: أنه قرينها من الشياطين، سمِّي سائقا، لأنه يتبَعها وإِن لم يَحثَّها. وفي الشهيد ثلاثة أقوال. أحدها: أنه ملَك يَشهد عليها بعملها، قاله عثمان بن عفان، والحسن. وقال مجاهد: الملَكان: سائق: وشهيد. وقال ابن السائب: السائق: الذي كان يكتب عليه السَّيَِئات، والشهيد: الذي كان يكتب الحسنات. والثاني: أنه العمل يَشهد على الإنسان، قاله أبو هريرة. والثالث: الأيدي والأرجل تَشهد عليه بعمله، قاله الضحاك. وهل هذه الآيات عامّة، أم خاصَّة؟ فيها قولان. أحدهما: أنها عامة، قاله الجمهور. والثاني: خاصة في الكافر، قاله الضحاك، ومقاتل. قوله تعالى: {لقد كنتَ} أي: ويقال له: {لقد كنتَ في غفلة من هذا} اليوم وفي المخاطَب بهذه الآيات ثلاثة أقوال. أحدها: أنه الكافر، قاله ابن عباس، وصالح بن كيسان في آخرين. والثاني: أنه عامّ في البَرِّ والفاجر، قاله حسين بن عبد الله بن عبيد الله بن عباس، واختاره ابن جرير. والثالث: أنه النبيّ صلى الله عليه وسلم، وهذا قول ابن زيد. فعلى القول الأول يكون المعنى: لقد كنتَ في غفلة من هذا اليوم في الدنيا بكفرك به؛ وعلى الثاني: كنتَ غافلاً عن أهوال القيامة {فكَشَفْنا عنك غِطاءك} الذي كان في الدنيا يغشى قلبك وسمعك وبصرك. وقيل معناه: أريناك ما كان مستوراً عنك؛ وعلى الثالث: لقد كنتَ قبل الوحي في غفلة عمّا أُوحي إِليك، فكشفنا عنك غطاءك بالوحي {فبصرُك اليومَ حديدٌ} وفي المراد بالبصر قولان. أحدهما: البصر المعروف، قاله الضحاك. والثاني: العِلمْ، قاله الزجاج. وفي قوله: «اليومَ» قولان. أحدهما: أنه يوم القيامة، قاله الأكثرون. والثاني: أنه في الدنيا، وهذا على قول ابن زيد. فأمّا قوله: «حديدٌ» فقال ابن قتيبة: الحديد بمعنى الحادّ. أي: فأنت ثاقب البصر. ثم فيه ثلاثة أقوال. أحدها: فبصرك حديدٌ إلى لسان الميزان حين تُوزَن حسناتُك وسيِّئاتُك، قاله مجاهد. والثاني: أنه شاخص لا يطرف لمعاينة الأخرة، قاله مقاتل. والثالث: أنه العِلْم النافذ، قاله الزجاج.
{وَقَالَ قَرِينُهُ هَذَا مَا لَدَيَّ عَتِيدٌ (23) أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ (24) مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ مُرِيبٍ (25) الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آَخَرَ فَأَلْقِيَاهُ فِي الْعَذَابِ الشَّدِيدِ (26) قَالَ قَرِينُهُ رَبَّنَا مَا أَطْغَيْتُهُ وَلَكِنْ كَانَ فِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ (27) قَالَ لَا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ (28) مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَمَا أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (29)} قوله تعالى: {وقال قرينُه} قال مقاتل: هو مَلَكُه الذي كان يكتُب عملَه السيّءَ في دار الدنيا، يقول لربِّه: قد كتبتُ ما وكَّلْتَني به، فهذا عندي مُعَدٌّ حاضرٌ من عمله الخبيث، فقد أتيتُك به وبعمله. وفي «ما» قولان. أحدهما: أنها بمعنى «من» قاله مجاهد. والثاني: أنها بمعنى الشيء، فتقديره: هذا شيء لديَّ عتيدٌ، قاله الزجاج. وقد ذكرنا معنى العتيد في هذه السورة [ق: 18] فيقول الله تعالى {ألْقيَا في جهنَّم} وفي معنى هذا الخطاب ثلاثة أقوال. أحدها: أنه مخاطبة للواحد بلفظ الخطاب للاثنين، قال الفراء: والعرب تأمر الواحد والقوم بأمر الاثنين، فيقولون للرجُل: ويلك ارحلاها وازجُراها، سمعتها من العرب، وأنشدني بعضهم: فقُلْتُ لِصَاحِبِي لا تَحْبِسانا *** بِنَزْعِ أُصُولِهِ واجْتَزَّ شِيحا وأنشدني أبو ثَرْوان: فانْ تَزْجُرانِي يابْنَ عَفَّان أَنْزَجِرْ *** وإِنْ تَدَعَانِي أَحْمِ عِرْضاً مُمَنَّّعا ونرى أن ذلك منهم، لأن أدنى أعوان الرجُل في إبله وغنمه اثنان، وكذلك الرُّفقة أدنى ما تكون ثلاثة، فجرى الكلام على صاحبيه، ألا ترى الشعر أكثر شيء قِيلاً: يا صَاحِبَيَّ ويا خليليَّ. قال امرؤ القيس: خَلِيلَيَّ مُرَّا بِي على أُمِّ جُنْدَبٍ *** نُقَضِّي لُباناتِ الْفُؤادِ المُعَذَّبِ ثم قال: ألم تَرَأَنِي كُلمَّا جِئْتُ طارِقاً *** وَجَدْتُ بها طِيباً وإِنْ لَمْ تَطَيَّبِ فرجع إلى الواحد، وأول كلامه اثنان، وإِلى هذا المعنى ذهب مقاتل، وقال: «ألقيا» خطاب للخازن، يعني خازن النار. والثاني: أنه فِعل ثُنِّي توكيداً، كأنه لمّا قال: «ألقيا»، ناب عن أَلْقِ أَلْقِ، وكذلك: قِفا نَبْكِ، معناه: قِفْ قِفْ، فلمّا ناب عن فعلين، ثُنِّي، قاله المبرد. والثالث: أنه أمر للملكين، يعني السائق والشهيد، وهذا اختيار الزجاج. فأمّا «الكَفّارُ» فهو أشَدُّ مُبالَغةً من الكافر. و«العنيد» قد فسرناه في [هود: 59]. قوله تعالى: {منَّاعٍ للخير} في المراد بالخير هاهنا ثلاثة أقوال. أحدها: الزكاة المفروضة، قاله قتادة. والثاني: أنه الإسلام، يمنع الناس من الدُّخول فيه، قاله الضحاك، ومقاتل، وذكر أنها نزلت في الوليد بن المغيرة، منع بني أخيه عن الإسلام. والثالث: أنه عامٌّ في كل خير من قول أو فعل، حكاه الماوردي. قوله تعالى: {مُعتَدٍ} أي: ظالم لا يُقِرُّ بالتوحيد {مُريبٍ} أي: شاكّ في الحق، من قولهم: أرابَ الرجُلُ: إذا صار ذا رَيْب. قوله تعالى: {قال قرينُه} فيه قولان. أحدهما: شيطانه، قاله ابن عباس، ومجاهد، وقتادة، والجمهور. وفي الكلام اختصار تقديره: إن الإنسان ادّعى على قرينه من الشياطين أنه أضلَّه فقال: {ربَّنا ما أطغيتُه} أي: لم يكن لي قُوَّة على إضلاله بالإكراه، وإنما طغى هو بضلاله. والثاني: أنه الملَك الذي كان يكتُب السَّيِّئات. ثم فيما يدَّعيه الكافرُ على الملَك قولان. أحدهما: [أنه] يقول: زاد عليَّ فيما كتب، فيقول الملَك: ما أطغيتُه، أي: ما زدتُ عليه، قاله سعيد بن جبير. والثاني: أنه يقول: كان يُعْجِلني عن التَّوبة، فيقول: ربَّنا ما أطغيتُه، هذا قول الفراء. قوله تعالى: {ولكن كان في ضلال بعيدٍ} أي: بعيد من الهُدى، فيقول الله تعالى: {لا تختصموا لديَّ}. في هذا الخصام قولان. أحدهما: أنه اعتذارهم بغير عذر، قاله ابن عباس. والثاني: أنه خصامهم مع قرنائهم الذين أغوَوْهم، قاله أبو العالية. فأما اختصامهم فيما كان بينهم من المظالم في الدنيا، فلا يجوز أن يُهمَل، لأنه يوم التناصف. قوله تعالى: {وقد قدَّمتُ إليكم بالوعيد} أي: قد أخبرتُكم على ألسُن الرُّسل بعذابي في الآخرة لمن كفر. {ما يُبَدَّلُ القولُ لديَّ} فيه قولان. أحدهما: ما يبدَّل [القول] فيما وعدتُه من ثواب وعقاب، قاله الأكثرون. والثاني: ما يُكذَّب عندي ولا يغيَّر القول عن جهته، لأنِّي أعْلَمُ الغيب وأعْلَمُ كيف ضلُّوا وكيف أضللتموهم، هذا قول ابن السائب واختيار الفراء وابن قتيبة، ويدل عليه أنه قال تعالى: {ما يُبَدَّل القول لديَّ} ولم يقل: ما يُبَدَّل قولي {وما أنا بظلاّمٍ للعبيدِ} فأَزيدَ على إساءة المُسيء، أو أنقص من إحسان المُحسن.
{يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ (30) وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ (31) هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ (32) مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ (33) ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ (34) لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ (35) وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُمْ بَطْشًا فَنَقَّبُوا فِي الْبِلَادِ هَلْ مِنْ مَحِيصٍ (36) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ (37) وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ (38) فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ (39) وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَأَدْبَارَ السُّجُودِ (40)} {يومَ نقول لجهنم} قرأ ابن كثير، وأبو عمرو، وابن عامر؛ وحمزة، والكسائي: «يومَ نقول» بالنون المفتوحة وضم القاف. [وقرأ نافع، وأبو بكر، والمفضل عن عاصم: «يومَ يقول» بالياء المفتوحة وضم القاف]. وقرأ أُبيُّ بن كعب، والحسن، وعبد الوارث عن أبي عمرو: «يومَ يُقال» بياء مضمومة وفتح القاف وإثبات ألف. قال الزجاج: وانتصاب «يومَ» على وجهين، أحدهما: على معنى: ما يُبدَّل القولُ لديَّ في ذلك اليوم. والثاني: على معنى: وأَنْذِرْهم يومَ نقولُ لجهنم. فأمّا فائدة سؤاله إيّاها، وقد عَلِم هل امتلأتْ أم لا، فإنه توبيخ لمن أُدْخِلها، وزيادة في مكروهه، ودليل على تصديق قوله: {لأَملأنَّ جهنمَ} [الأعراف: 18]. وفي قولها: {هل من مزيد} قولان عند أهل اللغة. أحدهما: أنها تقول ذلك بعد امتلائها، فالمعنى: هل بقي فيَّ موضعٌ لم يمتلئ؟ أي: قد امتلأتُ. والثاني: أنها تقول تغيُّظاً على من عصى اللهَ تعالى، وجَعَلَ اللهُ فيها أن تميِّز وتخاطِب، كما جَعَلَ في النملة أن قالت: {أُدخُلوا مساكنَكم} [النمل: 18] وفي المخلوقات أن تسبِّح بحمده. قوله تعالى: {وأُزلِفَتِ الجَنَّة للمُتَّقين} اي: قُرِّبت للمُتَّقين [الشركَ] {غيرَ بَعيدٍ} أي: جُعلتْ عن يمين العرش حيث يراها أهلُ الموقف، ويقال لهم: {هذا} الذي ترونه {ما تُوعَدونَ} وقرأ عثمان بن عفان، وابن عمر، ومجاهد، وعكرمة، وابن محيصن: «يُوعَدونَ» بالياء {لكُلِّ أوَّاب} وفيه أقوال قد ذكرناها في [بني إسرائيل: 25] وفي {حفيظٍ} قولان. أحدهما: الحافظ لذنوبه حتى يرجع عنها، قاله ابن عباس. والثاني: الحافظ لأمر الله تعالى، قاله مقاتل. قوله تعالى: {من خَشِيَ الرَّحمنَ بالغيبِ} قد بيَّنّاه في [الأنبياء: 49] {وجاء بقلبٍ مُنيبٍ} أي: راجع إلى طاعة الله عن معصيته. {أُدخلوها} أي: يقال لهم: أُدخلوا الجنة {بسلام} وذلك أنهم سَلِموا من عذاب الله، وسلموا فيها من الغُموم والتغيُّر والزَّوال، وسلَّم اللهُ وملائكتُه عليهم {ذلك يومُ الخُلود} في الجنة، لأنه لا موت فيها ولا زوال. {لهم ما يشاؤون فيها} وذلك أنهم يَسألون الله حتى تنتهي مسائلُهم، فيُعْطَوْن ما شاؤوا، ثم يَزيدُهم ما لم يَسألوا، فذلك قوله: {ولدينا مَزيدٌ} وللمفسرين في المراد بهذا المزيد ثلاثة أقوال. أحدها: أنه النظر إلى الله عز وجل؛ روى عليٌ رضي الله عنه عن النبي عليه السلام في قوله: «ولدينا مَزيدٌ» قال: يتجلَّى لهم. وقال أنس بن مالك: في قوله «ولدينا مزيد» يتجلَّى لهم الرب تعالى في كل جمعة. والثاني: أن السحاب يَمُرَّ بأهل الجنة، فيمطرهم الحورَ، فتقول الحور: نحن اللواتي قال الله عزل وجل: «ولدينا مزيد»، حكاه الزجاج. والثالث: أن الزِّيادة على ما تمنَّوه وسألوا ممّا لم تسمع به أذن ولم يخطُر على قلب بشر، ذكره أبو سليمان الدمشقي. ثم خوَّف كفار مكة بما بعد هذا إلى قوله: {فنَقَّبوا في البلاد} قرأ الجمهور «فنَقَّبوا» بفتح النون والقاف مع تشديدها. وقرأ أُبيُّ بن كعب، وابن عباس، والحسن، وابن السميفع، ويحيى بن يعمر. كذلك، إلا أنهم كسروا القاف على جهة الأمر تهدُّداً. وقرأ عمر بن الخطاب، وعمر بن عبد العزيز، وقتادة، وابن أبي عبلة، وعبيد عن أبي عمر، «فنَقَبوا» بفتح القاف وتخفيفها. قال الفراء: ومعنى «فنقَّبوا» ساروا في البلاد، فهل كان لهم من الموت {مِن مَحيص} فأُضمرت «كان» هاهنا، كقوله: {أهلَكْناهم فلا ناصر لهم} [محمد: 13] أي: فلم يكن لهم ناصر. ومن قرأ «فنَقِّبوا» بكسر القاف، فإنه كالوعيد؛ والمعنى: اذهبوا في البلاد وجيئوا فهل من الموت مِن مَحيص؟! وقال الزجاج «نَقِّبوا»: طوِّقوا وفتِّشوا، فلم تَرَوا مَحيصاً من الموت. قال امرؤ القيس: لقَدْ نَقَّبْتُ في الآفاقِ حتَّى *** رَضِيتُ مِنَ الْغَنِيمَةِ بالإِيابِ فأمّا المَحيص فهو الَمعْدلِ؛ وقد استوفينا شرحه في [سورة النساء: 121]. قوله تعالى: {إنَّ في ذلك} يعني الذي ذكره من إهلاك القرى {لَذِكرى} أي: تذكرة وعِظَة {لِمَن كان له قلبٌ} قال ابن عباس: أي: عقل. قال الفراء: وهذا جائز في اللغة أن تقول: ما لَكَ قلب، وما معك قَلبُك، تريد العقل. وقال ابن قتيبة: لما كان القلب موضعاً للعقل كنى به [عنه]. وقال الزجاج: المعنى: لمن صرف قلبه إلى التفهُّم، {أو ألقى السَّمْع} أي: استَمَع مِنِّي {وهو شهيدٌ} أي: وقَلْبُه فيما يسمع. وقال الفراء: وهو شهيد أي: شاهد ليس بغائب. قوله تعالى: {ولقد خَلَقْنا السموات والأرض} ذكر المفسرون أن اليهود قالت: خَلَقَ اللهُ السموات والأرض وما بينهما في ستة أيام، آخرها يوم الجمعة، واستراح يوم السبت، فلذلك لا نعمل فيه شيئا، فنزلت هذه الآيات، فأكذبهم اللهُ عز وجل بقوله: {وما مَسَّنا مِن لغوبٍ} قال الزجاج: واللُّغوب التَّعب والإعياء. قوله تعالى: {فاصْبِر على ما يقولون} أي: من بَهتهم وكذبهم. قال المفسرون: ونسخ معنى قوله: «فاصْبِر» بآية السيف {وسَبِّح بحمد ربِّك} أي: صَلِّ بالثَّناء على ربِّك والتنزيه [له] ممَّا يقول المُبْطِلون {قَبْلَ طُلوع الشمس} وهي صلاة الفجر. {وقَبْلَ الغُروب} فيها قولان. أحدهما: صلاة الظهر والعصر، قاله ابن عباس. والثاني: صلاة العصر، قاله قتادة. وروى البخاري ومسلم في «الصحيحين» من حديث جرير بن عبد الله، قال: " كُنّا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة البدر، فقال: إنَّكم سَترُونَ ربَّكم عِيانا كما ترون هذا القمر، لا تُضَامُّونَ في رؤيته، فإن استطعتم أن لا تُغْلَبوا على صلاةٍ قَبْلَ طُلوع الشمس وقبل الغُروب فافعلوا ". وقرأ «فسبِّح بحمد ربِّك قبل طُلوع الشمس وقبل الغروب». قوله تعالى: {ومن الليل فسبِّحْه} فيه ثلاثة أقوال. أحدها: أنها صلاة الليل كلِّه، أيَّ: وقت صلّى منه، قاله مجاهد. والثاني: صلاة العشاء، قاله ابن زيد. والثالث: صلاة المغرب والعشاء قاله مقاتل. قوله تعالى: {وأدبارَ السُّجود} قرأ ابن كثير، ونافع، وحمزة، وخلف: بكسر الهمزة؛ وقرأ الباقون بفتحها. قال الزجاج: من فتح ألف «أدبار» فهو جمع دُبُر، ومن كسرها فهو مصدر: أدبر يُدْبِر إدباراً. وللمفسرين في هذا التسبيح ثلاثة أقوال. أحدها: أنه الرَّكعتان بعد صلاة المغرب، روي عن عمر، وعليّ، والحسن بن علي، رضي الله عنهم، وأبي هريرة، والحسن، ومجاهد، والشعبي، والنخعي، وقتادة، في آخرين، وهو رواية العوفي عن ابن عباس. والثاني: أنه النوافل بعد المفروضات قاله ابن زيد. والثالث: أنه التسبيح باللسان في أدبار الصلوات المكتوبات، رواه مجاهد عن ابن عباس. وروي عن أبي الأحوص أنه قال في جميع التسبيح المذكور في هاتين الآيتين كذلك.
{وَاسْتَمِعْ يَوْمَ يُنَادِ الْمُنَادِ مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ (41) يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ (42) إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَإِلَيْنَا الْمَصِيرُ (43) يَوْمَ تَشَقَّقُ الْأَرْضُ عَنْهُمْ سِرَاعًا ذَلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنَا يَسِيرٌ (44) نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ فَذَكِّرْ بِالْقُرْآَنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ (45)} قوله تعالى: {واسْتَمِعْ يومَ يُنادي المُنادي} قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وابن عامر، «ينادي المُنادي» بياء في الوصل. ووقف ابن كثير بياءٍ، ووقف نافع وأبو عمرو بغير ياءٍ. ووقف الباقون ووصلوا بياءٍ. قال أبو سليمان الدمشقي: المعنى: واستمع حديث يوم ينادي المنادي. قال المفسرون: والمنادي إسرافيل، يقف على صخرة بيت المقدس فينادي: يا أيها الناس هلُمُّوا إلى الحساب، إن الله يأمركم أن تجتمعوا لفصل القضاء؛ وهذه هي النفخة الأخيرة. والمكان القريب صخرة بيت المقدس. قال كعب ومقاتل: هي أقرب الأرض إلى السماء بثمانية عشر ميلاً وقال ابن السائب: باثني عشر ميلاً قال الزجاج: ويقال: إن تلك الصخرة في وسط الأرض. قوله تعالى: {يومَ يَسْمَعونَ الصَّيحة} وهي [هذه] النَّفخة الثانية {بالحَقِّ}، أي: بالبعث الذي لا شكَّ فيه {ذلك يومُ الخُروج} من القبور. {إنا نحنُ نُحيي ونُميتُ} أي: نُميت في الدنيا ونُحيي للبعث {وإلينا المَصيرُ} بعد البعث، وهو قوله {يوم تَشَقَّقُ الأرضُ عنهم} قرأ ابن كثير، ونافع، وابن عامر، «تَشَّقَّقُ» بتشديد الشين؛ وقرأ الباقون بتخفيفها {سراعاً} أي: فيخرجون منها سِراعاً، {ذلك حَشْرٌ علينا يَسيرٌ} أي هَيِّنٌ. ثم عزَّى نبيَّه فقال: {نحنُ أعلمُ بما يقولون} في تكذيبك، يعني كفار مكة {وما أنتَ عليهم بجَبَّارٍ} قال ابن عباس: لم تبعث لتجبرَهم على الاسلام إنما بُعثتَ مذكِّراً، وذلك قبل أن يؤمَر بقتالهم؛ وأنكر الفراء هذا القول فقال: العرب لا تقول «فَعَّال من أفْعَلتُ» لا يقولون «خَرَّاج» يريدون «مُخْرِج» ولا «دخَّال» يريدون «مُدْخِل»، إنما يقولون: «فَعَّال» من «فَعَلْتُ»، وإنما الجَبَّار هنا في موضع السلطان من الجبرية، وقد قالت العرب في حرف واحد: «دَرَّاك» من «أدْرَكْتُ»، وهو شاذ، فإن جعل هذا على هذه الكلمة فهو وجه. وقال ابن قتيبة: {بجبَّار} أي: بمسلَّط، والجبَّار: الملِك، سمِّي بذلك لِتَجَبُّره، يقول: لستَ عليهم بملِك مُسَلَّط. قال اليزيدي: لستَ بمسلَّط فتَقْهَرهم على الإسلام، وقال مقاتل: لِتَقْتُلَهم. وذكر المفسرون أن قوله: {وما أنت عليهم بجبَّار} منسوخ بآية السيف. قوله تعالى: {فذكِّر بالقرآن} أي: فَعِظْ به {مَنْ يَخافُ وَعيدِ} [وقرأ يعقوب: «وعيدي» بياءٍ في الحالين]، أي: ما أَوعدتُ مَنْ عَصاني من العذاب.
{وَالذَّارِيَاتِ ذَرْوًا (1) فَالْحَامِلَاتِ وِقْرًا (2) فَالْجَارِيَاتِ يُسْرًا (3) فَالْمُقَسِّمَاتِ أَمْرًا (4) إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَصَادِقٌ (5) وَإِنَّ الدِّينَ لَوَاقِعٌ (6) وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْحُبُكِ (7) إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ (8) يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ (9) قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ (10) الَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ سَاهُونَ (11) يَسْأَلُونَ أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ (12) يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ (13) ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ (14) إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (15) آَخِذِينَ مَا آَتَاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ (16) كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ (17) وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (18) وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ (19) وَفِي الْأَرْضِ آَيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ (20) وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ (21) وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ (22) فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ (23)} قوله تعالى: {والذَّاريات ذَرْواً} يعني الرِّياح، يقال: ذَرَت الرِّيحُ الترابَ تَذْرُوه ذَرْواً، إذا فرَّقَتْه، قال الزجاج: يقال ذَرَت فهي ذارية، وأذْرَت فهي مُذْرية بمعنى واحد. {والذّارياتِ}، مجرورة على القَسَم، المعنى: أحْلفِ بالذّارياتِ وهذه الأشياء، والجواب {إنما تُوعَدون لَصادقٌ}، قال قوم: المعنى: وربِّ الذاريات، وربِّ الجاريات. قوله تعالى: {فالحاملاتِ وِقْراً} يعني السحاب التي تحمل وِقْرها من الماء. {فالجارياتِ يُسْراً} يعني السُّفن تجري ميسَّرة [في الماء] جَرياً سهلاً. {فالمقسِّماتِ أَمْراً} يعني الملائكة تقسم الأمور على ما أمَر اللهُ به، قال ابن السائب: والمقسِّمات أربعة: جبريل، وهو صاحب الوحي والغِلظة، وميكائيل، وهو صاحب الرِّزق والرَّحمة، وإسرافيل، وهو صاحب الصُّور واللَّوح، وعزرائيل، وهو قابض الأرواح. وإنما أقسَم بهذه الأشياء لِما فيها من الدلالة على صُنعه وقُدرته. ثم ذكر المُقسَم عليه فقال: {إنّما تُوعَدون} أي: من الثواب والعقاب يومَ القيامة {لَصادقٌ} أي: لَحَقّ. {وإنَّ الدِّين} فيه قولان. أحدهما: الحساب. والثاني: الجزاء {لَواقعٌ} أي: لَكائن. ثم ذكر قَسَماً آخر فقال: {والسَّماءِ ذاتِ الحُبُكِ} وقرأ عمر بن الخطاب، وأبو رزين: {الحِبِكِ} بكسر الحاء والباء جميعاً. وقرأ عثمان بن عفان، والشعبي، وأبو العالية، وأبو حيوة، «الحِبْكِ» بكسر الحاء وإسكان الباء. وقرأ أُبيُّ ابن كعب، وابن عباس، وأبو رجاء، وابن أبي عبلة، «الحُبْكِ» برفع الحاء وإسكان الباء. وقرأ ابن مسعود، وعكرمة: «الحَبَكِ» بفتح الحاء والباء جميعاً. وقرأ أبو الدرداء، وأبو الجوزاء، وأبو المتوكل، وأبو عمران الجوني، وعاصم الجحدري: [«الحَبِكِ»] بفتح الحاء وكسر الباء. ثم في معنى «الحبك» أربعة أقوال: أحدها: ذات الخَلْق الحَسَن، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس، وبه قال قتادة. والثاني: البُنيان المُتْقَن، قاله مجاهد. والثالث: ذات الزِّينة، قاله سعيد بن جبير. وقال الحسن: حُبُكها نُجومها. والرابع: ذات الطرائق، قاله الضحاك واللغويون. وقال الفراء: الحُبُك: تَكَسُّر كلِّ شيء كالرَّمْل إذا مَرَّت به الرِّيح السّاكنة، والماء القائم إذا مَرّت به الرِّيح، والشَّعرةُ الجَعْدَة تكسُّرُها حُبُك، وواحد الحُبُك: حِباك وحَبِيكة. وقال الزجاج: أهل اللغة يقولون: الحُبُك: الطرَّائق الحَسَنة، والمَحْبُوك في اللغة: ما أُجيد عملُه، وكل ما تراه من الطَّرائق في الماء وفي الرَّمْل إذا أصابته الرِّيح فهو حُبُك. وروي عن عبد الله بن عمرو أنه قال: هذه هي السماء السابعة. ثم ذكر جواب القَسَم الثاني، قال: {إنَّكم} يعني أهل مكة {لَفي قَوْلٍ مختلِفٍ} في أمر محمد صلى الله عليه وسلم، بعضُكم يقول: شاعر، وبعضكم يقول: مجنون، وفي القرآن [بعضكم] يقول: سِحْر، وبعضكم يقول: كَهانة ورَجَز، إلى غير ذلك. {يؤفَكُ عنه مَنْ أُفِكَ} أي: يُصْرَف عن الإيمان [به] مَن صُرِف [فحُرِمَه]. [والهاء في «عنه» عائدة إلى القرآن، وقيل: يُصْرَف عن هذا القول، أي: من أجْله وسببه عن الإيمان من صُرِف]. وقرأ قتادة «مَنْ أَفَكَ» بفتح الألف والفاء. وقرأ عمرو بن دينار «مَنْ أَفِكَ» بفتح الألف وكسر الفاء. {قُتِل الخَرَّاصُونَ} قال الفراء: يعني: [لُعن] الكذّابون الذين قالوا: إن النبي صلى الله عليه وسلم ساحر وكذَّاب وشاعر، خَرَصوا ما لا علم لهم به. وفي رواية العوفي عن ابن عباس: أنهم الكهنة. وقال ابن الأنباري: والقتل إذ أُخبر عن الله به فهو بمعنى اللعنة، لأن من لعنه الله فهو بمنزلة المقتول الهالك. قوله تعالى {الذين هم في غَمْرة} أي: في عمىً وجهالة بأمر الآخرة {ساهون} أي: غافلون. والسَّهو: الغَفلة عن الشيء وذهاب القلب عنه. {يَسألونَ أيّان يومُ الدِّين} أي: يقولون: يا محمد متى يومُ الجزاء؟! تكذيباً منهم واستهزاءاً. ثم أخبر عن ذلك اليوم فقال: {يومَ هُم على النّار} قال الزجاج: «اليومَ» منصوب على معنى: يقع الجزاء يومَ هُم على النّار. {يُفْتَنونَ} أي: يُحرَقون ويعذَّبون، ومن ذلك يقال للحجارة السُّود التي كأنها قد أُحرقت بالنار الفَتِين. قوله تعالى: {ذُوقوا} المعنى: يقال لهم: ذوقوا {فِتْنَتَكم} وفيها قولان. أحدهما: تكذيبكم، قاله ابن عباس. والثاني: حريقكم، قاله مجاهد. قال أبو عبيدة: هاهنا تم الكلام، ثم ائتنف، فقال {هذا الذي كنتم به تستعجِلونَ} قال المفسرون: يعني الذي كنتم تستعجلونه في الدنيا استهزاءاً. ثم ذكر ما وعَد اللهُ لأهل الجنة فقال: {إنَّ المُتَّقِينَ في جنّاتٍ وعُيونٍ} وقد سبق شرح هذا [البقرة: 25، الحجر: 45]. قوله تعالى: {آخذين} قال الزجاج: هو منصوب على الحال، فالمعنى: في جنّات وعيون في حال أخذ {ما آتاهم ربُّهم} قال المفسرون: أي: ما أعطاهم اللهُ من الكرامة {إنَّهم كانوا قبلَ ذلك محسِنين} في أعمالهم. وفي الآية وجه آخر: «آخذين ما آتاهم ربُّهم» أي: عاملين بما أمرهم به من الفرائض «إنهم كانوا قبلَ» أن تفرض الفرائض عليهم، «محسِنين» أي: مطيعين، وهذا معنى قول ابن عباس في رواية مسلم البطين. ثم ذكر إحسانهم فقال: {كانوا قليلاً من الليل ما يَهجعون} والهُجوع: النَّوم بالليل دون النهار. وفي «ما» قولان. أحدهما: النفي. ثم في المعنى قولان. أحدهما: كانوا يسهرون قليلاً من الليل. قال أنس بن مالك، وأبو العالية: هو ما بين المغرب والعشاء. والثاني: كانوا ما ينامون قليلاً من الليل. واختار قوم الوقف على قوله «قليلاً» على معنى كانوا من الناس قليلاً، ثم ابتدأ فقال: «من الليل ما يهجعون» على معنى نفي النوم عنهم البتَّة، وهذا مذهب الضحاك، ومقاتل. والقول الثاني: أن «ما» بمعنى الذي، فالمعنى: كانوا قليلاً من الليل الذي يهجعونه، وهذا مذهب الحسن، والأحنف بن قيس، والزهري. وعلى هذا يحتمل أن تكون «ما» زائدة. قوله تعالى: {وبالأسحار هُمْ يَستغفرون} وقد شرحناه في [آل عمران: 17]. قوله تعالى: {وفي أموالهم حَقٌ} أي نصيب، وفيه قولان. أحدهما: أنه ما يَصِلون به رَحِمًا، أو يَقْرون به ضيفاً، أو يحملون به كلاًّ، أو يُعينون به محروماً، وليس بالزَّكاة، قاله ابن عباس. والثاني: أنه الزكاة قاله قتادة، وابن سيرين. قوله تعالى: {للسائل} وهو الطالب. وفي {المحروم} ثمانية أقوال. أحدها: أنه الذي ليس له سهم في فيء المسلمين، وهو المُحارَف، قاله ابن عباس. وقال إبراهيم: هو الذي لا سهم له في الغنيمة. والثاني: أنه الذي لا ينمى له شيء، قاله مجاهد، وكذلك قال عطاء: هو المحروم في الرِّزق والتجارة. والثالث: أنه المسلم الفقير، قاله محمد بن علي. والرابع: أنه المتعفِّف الذي لا يَسأل شيئاً، قاله قتادة، والزهري. والخامس: أنه الذي يجيء بعد الغنيمة، وليس له فيها سهم، قاله: الحسن ابن محمد بن الحنفية. والسادس: أنه المصاب ثمرته وزرعه أو نسل ماشيته، قاله ابن زيد. والسابع: أنه المملوك، حكاه الماوردي. والثامن: أنه الكَلْب، روي عن عمر بن عبد العزيز. وكان الشعبي يقول: أعياني أن أعلَم ما المحروم. وأظهر الأقوال قول قتادة والزهري، لأنه قرنه بالسائل، والمتعفِّف لا يَسأل ولا يكاد الناس يعطون من لا يسأل ثم يتحفظ بالتعفُّف من ظُهور أثر الفاقة عليه، فيكون محروما من قِبَل نفسه حين لم يَسأل، ومن قِبَل الناس حين لا يُعطونه، وإنما يفطن له متيقِّظ. وقد ذكر المفسرون أن هذه الآية منسوخة بآية الزكاة، ولا يصح. قوله تعالى: {وفي الأرض آياتٌ} كالجبال والأنهار والأشجار والثمار وغير ذلك {للموقنين} بالله عز وجل الذين يعرفونه بصنعه. {وفي أنفُسكم} آياتٌ إذ كنتم نُطَفاً، ثم عظاماً، ثم عَلَقاً، ثم مُضَغاً، إلى غير ذلك من أحوال الاختلاف، ثم اختلاف الصُّوَر والألوان والطبائع، وتقويم الأدوات، والسمع والبصر والعقل، وتسهيل سبيل الحدث، إلى غير ذلك من العجائب المودَعة في ابن آدم. وتمَّ الكلام عند قوله: «وفي أنفسكم»، ثم قال: {أفلا تُبْصِرونَ} قال مقاتل: أفلا تبصرون كيف خَلَقكم فتعرِفوا قُدرته على البعث. قوله تعالى: {وفي السَّماء رِزْقُكم} وقرأ أُبيُّ بن كعب، وحميد، وأبو حصين الأسدي: «أرْزاقُكم» براءٍ ساكنة وبألف بين الزاي والقاف. وقرأ ابن مسعود، والضحاك، وأبو نهيك: «رازِقُكم» بفتح الراء وكسر الزّاي وبألف بينهما. وعن ابن محيصن كهاتين القراءتين. وفيه قولان. أحدهما: أنه المطر، رواه أبو صالح عن ابن عباس، وليث عن مجاهد، وهو قول الجمهور. والثاني: الجنة، رواه ابن أبي نجيح عن مجاهد. وفي قوله: {ما تُوعَدونَ} قولان. أحدهما: أنه الخير والشر كلاهما يأتي من السماء، قاله أبو صالح عن ابن عباس، وابن أبي نجيح عن مجاهد. والثاني: الجنة رواه ليث عن مجاهد. قال: أبو عبيدة: في هذه الآية مضمر مجازه: عند مَنْ في السماء رزقُكم، وعنده ما توعدون، والعرب تُضْمِر، قال نابغة [ذبيان]: كأنَّكَ مِنْ جِمالِ بَني أُقَيْشٍ *** يُقَعْقَعُ خَلْفَ رِجْلَيْهِ بِشَنِّ أراد: كأنك جملٌ من جِمال بني أُقَيش. قوله تعالى: {إنَّه لَحَقٌ} قال الزجاج: يعني: ما ذكره من أمر الآيات والرِّزق وما توعدون وأمر النبي صلى الله عليه وسلم، {مِثْلَ ما أنَّكم تَنْطِقونَ} قرأ حمزة، والكسائي، وأبو بكر عن عاصم: «مِثْلُ» برفع اللام. وقرأ الباقون بنصب اللام. قال الزجاج: فمن رفع «مِثْلُ» فهي من صفة الحق، والمعنى: إنه لَحَقٌ مِثْلُ نُطْقكم؛ ومن نصب فعلى ضربين: أحدهما: أن يكون في موضع رفع، إلا أنه لمّا أُضيف إلى «أنَّ» فُتح. والثاني: أن يكون منصوبا على التأكيد، على معنى: إنه لَحَقٌ حَقّاً مِثْلَ نُطقكم، وهذا الكلام كما تقول: إنه لَحَقٌ كما أنَّك تتكلَّم.
{هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ (24) إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلَامًا قَالَ سَلَامٌ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ (25) فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ (26) فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ قَالَ أَلَا تَأْكُلُونَ (27) فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لَا تَخَفْ وَبَشَّرُوهُ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ (28) فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ فَصَكَّتْ وَجْهَهَا وَقَالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ (29) قَالُوا كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ إِنَّهُ هُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ (30) قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ (31) قَالُوا إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ (32) لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ طِينٍ (33) مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُسْرِفِينَ (34) فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (35) فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (36) وَتَرَكْنَا فِيهَا آَيَةً لِلَّذِينَ يَخَافُونَ الْعَذَابَ الْأَلِيمَ (37)} قوله تعالى: {هل أتاكَ حديثُ ضَيْفِ إبراهيمَ المُكْرَمِينَ} «هل» بمعنى: «قد» في قول ابن عباس، ومقاتل، فيكون المعنى: قد أتاك فاستمع نَقْصُصْهُ عليك، وضَيفُه: هم الذين جاؤوا بالبشرى. وقد ذكرنا عددهم في [هود: 70] وذكرنا هناك معنى الضَّيف. وفي معنى: «المُكْرَمِينَ» أربعة أقوال. أحدهما: لأنه أكرمهم بالعِجْل، قاله أبو صالح عن ابن عباس، وبه قال مجاهد. والثاني: بأن خدمهم هو وامرأته بأنفُسهما، قاله السدي. والثالث: أنهم مُكْرَمون عند الله، قاله عبد العزيز بن يحيى. والرابع: لأنهم أضياف، والأضياف مُكْرَمون، قاله أبو بكر الورَّاق. قوله تعالى: {فقالوا سلاماً} قد ذكرناه في [هود: 70]. قوله تعالى: {قومٌ مُنْكَرونَ} قال الزجاج: ارتفع على معنى: أنتم قومٌ مُنْكَرونَ. وللمفسرين في سبب إنكارهم أربعة أقوال. أحدها: لأنه لم يعرفهم، قاله ابن عباس. والثاني: لأنهم سلَّموا عليه، فأنكر سلامهم، في ذلك الزمان وفي تلك الأرض، قاله أبو العالية. والثالث: لأنهم دخلوا [عليه] من غير استئذان. والرابع: لأنه رأى فيهم صورة البشر وصورة الملائكة. قوله تعالى: {فراغَ إلى أهله} قال ابن قتيبة: أي: عَدَل إليهم في خُفْية، ولا يكون الرَّواغُ إلاَّ أن تُخْفِيَ ذهابَك ومَجيئك. قوله تعالى: {فجاء بِعِجْلٍ سمينٍ} وكان مشويّاً {فقرَّبه إليهم} قال الزجاج: والمعنى: فقرَّبه إليهم ليأكلوا منه، فلم يأكلوا، فقال: {ألا تأكلونَ}؟! على النَّكير، أي: أمرُكم في ترك الأكل ممّا أُنْكِرُه. قوله تعالى: {فأوجس منهم خِيفةً} قد شرحناه في [هود: 70]، وذكرنا معنى «غلامٍ عليمٍ» في [الحجر: 54]. {فأقبلَت امرأتُه} وهي: سارة. قال الفراء وابن قتيبة: لم تُقْبِل مِن مَوضع إلى مَوضع، وإنما هو كقولك: أقبلَ يَشتُمني، وأقبل يَصيح ويتكلَّم، أي: أخذ في ذلك، والصَّرَّة: الصَّيحة. وقال أبو عبيدة: الصَّرَّة: شِدة الصَّوت. وفيما قالت في صَيحتها قولان. أحدهما: أنها تأوَّهتْ، قال قتادة. والثاني: أنها قالت: يا ويلتا، ذكره الفراء. قوله تعالى: {فصَكَّت وَجْهَها} فيه قولان. أحدهما: لطمتْ وجهها، قاله ابن عباس. والثاني: ضربتْ جبينها تعجُّباً، قاله مجاهد. ومعنى الصَّكِّ: ضَرْبُ الشيء بالشيء العريض. {وقالت عجوزٌ} قال الفراء: هذا مرفوع بإضمار «أتَلِدُ عجوزٌ». وقال الزجاج: المعنى: أنا عجوز عقيمٌ، فكيف ألِدُ؟! وقد ذكرنا معنى {العقيم} في [هود: 72]. {قالوا كذلكِ قال ربُّكِ} أنك ستَلِدين غُلاماً؛ والمعنى: إنما نُخبرك عن الله عز وجل وهو حكيم عليم يَقْدِر أن يَجعل العقيم وَلُوداً، فعَلِم [حينئذ] إبراهيمُ أنهم ملائكة. {قال فما خَطْبُكم} مفسر في [الحجر: 57]. قوله تعالى: {حجارةً من طِينٍ} قال ابن عباس: هو الآجُرُّ. قوله تعالى: {مُسوَّمةً عند ربِّك} قد شرحناه في [هود: 83]. قوله تعالى: {للمُسرِفين} قال ابن عباس: للمشركين. قوله تعالى: {فأخرَجْنا مَن كان فيها}، أي: من قُرى لوط {مِن المؤمنين} وذلك قوله تعالى: {فأسْرِ بأهلك...} الآية: [هود: 82]. {فما وَجَدْنَا فيها غيرَ بَيْتٍ من المُسلمين} وهو لوط وابنتاه، وصَفهم اللهُ عز وجل بالإيمان والإسلام، لأنه ما من مؤمِن إلا وهو مُسْلِم. {وتَرَكْنا فيها آيةً} أي: علامة للخائفين من عذاب الله تَدُلُّهم على أن الله أهلكهم. وقد شرحنا هذا في [العنكبوت: 35] وبيَّنَّا الَمكني عنها.
{وَفِي مُوسَى إِذْ أَرْسَلْنَاهُ إِلَى فِرْعَوْنَ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ (38) فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ وَقَالَ سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ (39) فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ وَهُوَ مُلِيمٌ (40) وَفِي عَادٍ إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ (41) مَا تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلَّا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ (42) وَفِي ثَمُودَ إِذْ قِيلَ لَهُمْ تَمَتَّعُوا حَتَّى حِينٍ (43) فَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ وَهُمْ يَنْظُرُونَ (44) فَمَا اسْتَطَاعُوا مِنْ قِيَامٍ وَمَا كَانُوا مُنْتَصِرِينَ (45) وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ (46) وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ (47) وَالْأَرْضَ فَرَشْنَاهَا فَنِعْمَ الْمَاهِدُونَ (48) وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (49) فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ (50) وَلَا تَجْعَلُوا مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آَخَرَ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ (51)} قوله تعالى: {وفي موسى} اي: وفيه ايضاً آية {إذ أَرسلْناه إلى فرعون بسُلطان مُبِينٍ} اي: بحُجَّة ظاهرة {فتولَّى} اي: أعرَضَ {بِرُكْنه} قال مجاهد: بأصحابه. وقال ابو عبيدة: «بِرُكْنه» و«بجانبه» سواء، إنما هي ناحيته، {وقال ساحرٌ}: اي وقال لموسى: هذا ساحر {أو مجنونٌ} وكان أبو عبيدة يقول «أو» بمعنى الواو. فأمّا «الَيمُّ» فقد ذكرناه في [الأعراف: 136] و«مُليم» في [الصافات: 142]. قوله تعالى: {وفي عاد} اي: في إهلاكهم آية ايضاً {إذ أَرسلْنا عليهم الرِّيحُ العَقيم} وهي التي لا خَير فيها ولا بَرَكة، لا تُلْقِح شجراً ولا تَحْمِل مطراً، وإنما هي للإهلاك. وقال سعيد بن المسيّب: هي الجَنُوب. {ما تَذَر من شيء أَتَتْ عليه} أي: من أنفُسهم وأموالهم {إلا جَعلتْه كالرَّميم} اي: كالشيء الهالك البالي. قال الفراء: الرَّميم: نبات الأرض إذا يَبِس وَدِيس. وقال الزجاج: الرَّميم: الورَق الجافّ المتحطِّم مثل الهشيم. {وفي ثمودَ} آيةٌ ايضاً {إذ قيل لهم تَمتَّعوا حتَّى حِين} فيه قولان. أحدهما: أنه قيل لهم: تَمتَّعوا في الدُّنيا إلى وقت انقضاء آجالكم تهدُّداً لهم. والثاني: أن صالحاً قال لهم بعد عَقْر النّاقة: تَمتَّعوا ثلاثة أيام؛ فكان الحِين وقتَ فناء آجالهم، {فَعتْوا عن أَمْر ربِّهم} قال مقاتل: عصوا أَمْره {فأخذَتْهم الصاعقة} يعني العذاب، وهو الموت من صيحة جبريل. وقرأ الكسائي وحده «الصَّعْقةُ» [بسكون العين من غير الف]؛ وهي الصَّوت الذي يكون عن الصاعقة. قوله تعالى: {وهم ينظُرونَ} فيه قولان. أحدهما: يَرَوْن ذلك عِياناً. والثاني: وهم يَنتظرون العذاب، فأتاهم صيحةٌ يومَ السبت. قوله تعالى: {فما استطاعوا من قيام} فيه قولان. أحدهما: ما استطاعوا نُهوضاً من تلك الصَّرعة. والثاني: ما أطاقوا ثُبوتاً لعذاب الله. {وما كانوا منتصِرين} أي: ممتنعين من العذاب. قوله تعالى: {وقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ} قرأ أبو عمرو إلاّ عبد الوارث، وحمزة، والكسائي: بخفض الميم، وروى عبد الوارث رفع الميم، والباقون بنصبها. قال الزجاج: من خفض القوم فالمعنى: وفي قومِ نوحٍ آيةٌ، ومن نصب فهو عطف على معنى قوله «فأخذتْهم الصّاعقةُ» فإن معناه: أهلكْناهم، فيكون المعنى: وأهلَكْنا قومَ نوح، والأحسن والله أعلم أن يكون محمولاً على قوله «فأخذْناه وجنوده فنبذنْاهم في اليمِّ» لأن المعنى: أغرقناه، وأغرقْنا قومَ نوح. {والسماء بنيناها} المعنى: وبنينا السماء بنيناها {بأَيْدٍ} أي: بقْوَّة، وكذلك قال ابن عباس، ومجاهد، وقتادة، وسائر المفسرين واللغويين «بأيد» اي: بقُوَّة. وفي قوله: {وإنّا لَموسِعونَ} خمسة أقوال. أحدها: لموسِعون الرِّزق بالمطر، قاله الحسن. والثاني: لموسِعون السماء، قاله ابن زيد. والثالث: لقادرون، قاله ابن قتيبة. والرابع: لموسِعون ما بين السماء والأرض، قاله الزجاج. والخامس: لذو سعة لا يضيق عمّا يريد، حكاه الماوردي. قوله تعالى: {والأرض فرشناها فنِعْم الماهدون} قال الزجاج: هذا عطفٌ على ما قبله منصوبٌ بفعل مُضْمر محذوف يدلُّ عليه قوله: «فرشْناها»، فالمعنى: فرشْنا الأرض فرشْناها «فنِعْم الماهدون» أي: فنِعْم الماهدون نحن. قال مقاتل: «فرشْناها» أي: بسطْناها مسيرة خمسمائة عام، وهذا بعيد. وقد قال قتادة: الأرضُ عشرون ألف فرسخ، والله تعالى أعلم. قوله تعالى: {ومِنْ كُلِّ شيء خَلقْنا زوجين}، اي: صِنفين ونَوعَين كالذكر والأنثى، والبرِّ والبحر والليِّل والنَّهار، والحُلو والمُرِّ، والنُّور والظُّلمة، وأشباه ذلك {لعلَّكم تذكَّرون} فتعلْموا أن خالق الأزواج واحد. {ففِرُّوا إلى الله} بالتَّوبة من ذنوبكم؛ والمعنى: اهْرُبوا ممّا يوجِب العِقاب من الكُفر والعِصيان إلى ما يوجِب الثَّواب من الطَّاعة والإيمان.
{كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ (52) أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ (53) فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَمَا أَنْتَ بِمَلُومٍ (54) وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ (55) وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56) مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ (57) إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ (58) فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذَنُوبًا مِثْلَ ذَنُوبِ أَصْحَابِهِمْ فَلَا يَسْتَعْجِلُونِ (59) فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ يَوْمِهِمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (60)} قوله تعالى: {كذلك} أي: كما كذَّبك قومُك وقالوا: ساحر أو مجنون، كانوا من قبلك يقولون للأنبياء. قوله تعالى: {أتواصوْا به} أي: أوْصى أوَّلُهم آخرَهم بالتكذيب؟! وهذا استفهام توبيخ. وقال أبو عبيدة: أتواطؤوا عليه فأخذه بعضُهم من بعض؟! قوله تعالى: {بلْ هم قوم طاغون} اي: يحملُهم الطُّغيان فيما أُعطوا من الدُّنيا على التكذيب؛ والمشار إِليهم اهل مكة. {فتولَّ عنهم} فقد بلَّغْتَهم {فما أنت} عليهم {بملومٍ} لأنَّك قد أدَّيت الرِّسالة. ومذهب أكثر المفسرين أن هذه الآية منسوخة، ولهم في ناسخها قولان. أحدهما: أنه قوله {وذكِّر فإن الذِّكرى تنفع المؤمنين}. والثاني: آية السيف. وفي قوله «وذكِّر» قولان. أحدهما: عِظْ، قاله مقاتل. والثاني: ذكِّرهم بأيّام الله وعذابه ورحمته، قاله الزجاج. قوله تعالى: {وما خلقْتُ الجنَّ والإنس إلاّ لِيعْبُدونِ} أثبت الياء في «يعْبُدون» و«يُطْعِمون» و«لا يستعجِلون» في الحالين يعقوب. واختلفوا في هذه الآية على أربعة أقوال. أحدها: إلاّ لآمُرهم أن يعبدوني، قاله عليُّ بن أبي طالب، واختاره الزجاج. والثاني: إلا لِيُقِرُّوا بالعُبودية طوْعاً وكرْهاً، قاله ابن عباس؛ وبيان هذا قوله {ولئن سألتهم منْ خلقهم ليقولُنَّ الله} [الزخرف: 87]. والثالث: أنه خاصّ في حقِّ المؤمنين. قال سعيد بن المسيّب: ما خلقتُ منْ يعبُدني إلا ليعبُدَني. وقال الضحاك، والفراء، وابن قتيبة: هذا خاصّ لأهل طاعته، وهذا اختيار القاضي ابي يعلى فإنه قال: معنى هذا الخصوصُ لا العمومُ، لأن البُله والأطفال والمجانين لا يدخُلون تحت الخطاب وإن كانوا من الإنس، فكذلك الكُفَّار يخرُجون من هذا بدليل قوله: {ولقد ذرأْنا لجهنَّم كثيراً من الجِنِّ والإنس} [الأعراف: 179]، فمن خُلق للشَّقاء ولجهنَّم، لم يخلق للعبادة. والرابع: إلا ليخضعوا إليَّ ويتذللَّوا. ومعنى العبادة في اللغة: الذُّلُّ والانقياد. وكُلُّ الخلْق خاضعٌ ذليلٌ لقضاء الله عز وجل لا يملك خُروجاً عمّا قضاه اللهُ عز وجل، هذا مذهب جماعة من أهل المعاني. قوله تعالى: {ما أُريدُ منهم من رِزْقٍ} أي: ما أُريدُ أن يرزُقوا أنفسهم {وما أُريدُ أن يُطْعِموني} أي: أن يُطْعِموا أحداً من خَلْقي، لأنِّي أنا الرَّزّاق. وإنما أسند الإطعام إلى نفسه، لأن الخلق عيالُ الله، ومن أطعمَ عِيالَ أحد فقد أطعمه. وقد جاء في الحديث الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: " يقول اللهُ عز وجل يوم القيامة: يا ابن آدم: استطعمتُكَ فلم تُطْعِمْني "، اي: لم تُطْعِم عبدي. فأما {الرَّزّاق} فقرأ الضحاك، وابن محيصن: «الرّازق» بوزن «العالِم». قال الخطابي: هو المتكفِّل بالرِّزق القائمُ على كل نَفْس بما يُقيمها من قُوتها. {والمتينُ} الشديد القُوَّة الذي لا تنقطع قُوَّته ولا يَلحقه في أفعاله مَشقَّة. وقد روى قتيبة عن الكسائي أنه قرأ: «المتينِ» بكسر النون. وكذا قرأ أبو رزين، وقتادة، وأبو العالية، والأعمش. قال الزجاج: {ذو القوَّة المتينِ} أي: ذو الاقتدار الشديد، ومن رفع «المتين» فهو صفة الله عز وجل، ومن خفضه جعله صفة للقُوة، لأن تأنيث القُوَّة كتأنيث المُوعظة، فهو كقوله: {فمن جاءه مَوعِظةٌ من ربِّه} [البقرة: 275]. قوله تعالى: {فإنَّ لِلذينَ ظَلموا} يعني مشركي مكة {ذَنوباً} أي: نصيباً من العذاب {مِثْلَ ذَنوبِ أصحابهم} الذين أُهلكوا، كقوم نوح وعاد وثمود. قال الفراء: الذَّنوب في كلام العرب: الدَّلْوُ العظيمة، ولكن العرب تذهب بها إلى النَّصيب والحظِّ، قال الشاعر: لَنا ذَنُوبٌ وَلكُمْ ذَنُوبُ *** فإِنْ أَبَيْتُم فَلَنا الْقَلِيبُ والذَّنوب، يُذَكَّر ويؤنَّث. وقال ابن قتيبة، أصل الذَّنوب: الدَّلو العظيمة، وكانوا يَستقون، فيكون لكل واحدٍ ذَنوبٌ، فجُعل «الذَّنوب» مكان «الحظّ والنصيب» قوله تعالى: {فلا يَستعجِلونِ} أي: بالعذاب إن أُخِّروا إلى يوم القيامة، وهو يومهم الذي يوعدون، ويقال: هو يوم بدر.
{وَالطُّورِ (1) وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ (2) فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ (3) وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ (4) وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ (5) وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ (6) إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ (7) مَا لَهُ مِنْ دَافِعٍ (8) يَوْمَ تَمُورُ السَّمَاءُ مَوْرًا (9) وَتَسِيرُ الْجِبَالُ سَيْرًا (10) فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (11) الَّذِينَ هُمْ فِي خَوْضٍ يَلْعَبُونَ (12) يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ دَعًّا (13) هَذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ (14) أَفَسِحْرٌ هَذَا أَمْ أَنْتُمْ لَا تُبْصِرُونَ (15) اصْلَوْهَا فَاصْبِرُوا أَوْ لَا تَصْبِرُوا سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (16)} قوله تعالى: {والطُّورِ} هذا قَسم بالجبل الذي كلَّم اللهُ عز وجل عليه موسى عليه السلام، وهو بأرض مَدْين [واسمه زَبير]. {وكتابٍ مسطورٍ} أي: مكتوب، وفيه أربعة أقوال. أحدها: أنه اللوح المحفوظ، قاله أبو صالح عن ابن عباس. والثاني: كتب أعمال بني آدم، قاله مقاتل، والزجاج. والثالث: التوراة. والرابع: «القرآن» حكاهما الماوردي. قوله تعالى: {في رَقٍّ} قال أبو عبيدة: الرَّقُّ: الوَرَق. فأما المنشور فهو المبسوط. قوله تعالى: {والبيتِ المعمورِ} فيه قولان. أحدهما: أنه بيت في السماء. وفي أي سماء هو؟ [فيه] ثلاثة أقوال: أحدها: [أنه] في السماء السابعة. رواه أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم. وحديث مالك بن صعصعة الذي أُخرج في «الصحيحين» يدل عليه. والثاني: أنه في السماء السادسة، قاله عليّ رضي الله عنه. والثالث: أنه في السماء الدنيا، رواه أبو هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقال ابن عباس: هو حيال الكعبة يحُجُّه كُلَّ يوم سبعون ألف ملك ثم لا يعودون فيه حتى تقوم الساعة، يسمى الضُّراح. وقال الربيع بن أنس: كان البيت المعمور مكان الكعبة في زمان آدم، فلمّا كان زمن نوح أمر الناس بحجِّه، فعصوه، فلمّا طغى الماءُ رُفع فجُعل بحذاء البيت في السماء الدنيا. والثاني: أنه البيت الحرام، قاله الحسن. وقال أبو عبيدة: ومعنى: «المعمور» الكثير الغاشية. قوله تعالى: {والسَّقْفِ المرفوعِ} فيه قولان: أحدهما: أنه السماء، قاله علي رضي الله عنه والجمهور. والثاني: العرش، قاله الربيع. قوله تعالى: {والبحرِ} فيه قولان. أحدهما: أنه بحر تحت العرش ماؤه غليظ يُمْطَر العباد منه بعد النفخة الأولى أربعين صباحاً فينبتُون في قبورهم، قاله عليّ رضي الله عنه. والثاني: أنه بحر الأرض، ذكره الماوردي. وفي {المسجور} أربعة أقوال. أحدها: المملوء، قاله الحسن، وأبو صالح، وابن السائب، وجميع اللغويين. والثاني: أنه المُوقد، قاله مجاهد، وابن زيد. وقال شمر بن عطية: هو بمنزلة التنور المسجور. والثالث: أنه اليابس الذي قد ذهب ماؤه ونضب، قاله أبو العالية. وروي عن الحسن قال: تسجر، يعني البحار، حتى يذهب ماؤها، فلا يبقى فيها قطرة. وقول هذين يرجع إلى معنى قول مجاهد. وقد نقل في الحديث أن الله تعالى يجعل البحار كلَّها ناراً، فتزاد في نار جهنم. والرابع: أن «المسجور» المختلط عذْبه بمِلحه، قاله الربيع بن أنس. فأقسم اللهُ تعالى بهذه الأشياء للتنبيه على ما فيها من عظيم قدرته على أن تعذيب المشركين حق، فقال: {إنَّ عذاب ربِّك لواقعٌ} أي: لكائن في الآخرة. ثم بيَّن متى يقع، فقال: {يومَ تمورُ السماءُ موْراً} وفيه ثلاثة أقوال. أحدها: تدور دَوْراً «رواه عكرمة عن ابن عباس، وبه قال مجاهد، وهو اختيار الفراء وابن قتيبة والزجاج. والثاني: تحرَّكُ تحرُّكاً، رواه ابن ابي طلحة عن ابن عباس، وبه قال قتادة. وقال أبو عبيدة «تمور» أي: تَكفّأُ، وقال الأعشى: كأنَّ مِشْيتَها مِنْ بيْتِ جارَتِها *** مَوْرُ السَّحابةِ لا ريْثٌ ولا عَجَلُ والثالث: يموج بعضها في بعض لأمر الله تعالى، قاله الضحاك. وما بعد هذا قد سبق بيانه [النمل: 88] إلى قوله: {الذين هُمْ في خوْضٍ يلعبون} أي: يخوضون في حديث محمد صلى الله عليه وسلم بالتكذيب والاستهزاء، ويلهُون بذكْره، فالويل لهم. {ويوم يُدعُّون} قال ابن قتيبة: أي: يُدْفعون، يقال: دععْتُه أدُعُّه، أي: دفعته، ومنه قوله {يدُعُّ اليتيم} [الماعون: 2] قال ابن عباس: يُدْفع في أعناقهم حتى يردوا النّار. وقال مقاتل: تُغلُّ أيديهم إلى أعناقهم وتُجْمعُ نواصيهم إلى أقدامهم، ثم يُدفعون إلى جهنم على وجوههم، حتى إذا دَنوا منها قالت لهم خزنتُها: {هذه النار التي كنتم بها تكذِّبون} في الدنيا {أفسحر هذا} العذاب الذي ترون؟ فإنكم زعمتم أن الرُّسل سحرةٌ {أمْ أنتم لا تُبْصِرون} النار؟ فلمّا أُلقوا فيها قال لهم خزنتُها: {إصْلوها}. وقال غيره: لمّا نسبوا محمداً صلى الله عليه وسلم إلى أنه ساحر يغطِّي على الأبصار بالسِّحر، وُبِّخوا عند رؤية النار بهذا التوبيخ، وقيل: {إصلوها} أي: قاسوا شِدَّتها {فاصبِروا} على العذاب {أو لا تصْبِروا سواءٌ عليكم} الصَّبر والجزع {إنمَّا تُجْزوْن} جزاء {ما كنتم تعملون} من الكفر والتكذيب.
{إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ (17) فَاكِهِينَ بِمَا آَتَاهُمْ رَبُّهُمْ وَوَقَاهُمْ رَبُّهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ (18) كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (19) مُتَّكِئِينَ عَلَى سُرُرٍ مَصْفُوفَةٍ وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ (20)} ثم وصف ما للمؤمنين بما بعد هذا، وقوله: {فاكِهين} قرئت بألف وبغير ألف، وقد شرحناها في [يس: 55]، {ووقاهم} أي: صرف عنهم و{الجحيم} مذكور في [البقرة: 119]. {كُلوا} أي: يقال لهم: كُلوا {واشربوا هنيئاً} تأمنون حدوث المرض عنه. قال الزجاج: المعنى: لِيهْنِكم ما صِرتم إليه، وقد شرحنا هذا في سورة [النساء: 4] ثم ذكر حالهم عند أكلهم وشربهم فقال: {مُتَّكِئين على سُرُرٍ} وقال ابن جرير: فيه محذوف تقديره: على نمارق على سُرُر، وهي جمع سرير {مصفوفةٍ} قد وُضع بعضُها إلى جنْب بعض. وباقي الآية مفسَّر في سورة [الدخان: 54].
{وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ (21) وَأَمْدَدْنَاهُمْ بِفَاكِهَةٍ وَلَحْمٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ (22) يَتَنَازَعُونَ فِيهَا كَأْسًا لَا لَغْوٌ فِيهَا وَلَا تَأْثِيمٌ (23) وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ غِلْمَانٌ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَكْنُونٌ (24) وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ (25) قَالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ (26) فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ (27) إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ (28)} قوله تعالى: {وأَتبعْناهم ذُرِّياتِهم} قرأ ابن كثير، وعاصم، وحمزة، والكسائي: «واتَّبعْتهم» بالتاء «ذُرِّيَّتُهم» واحدة {بهم ذُرِّيَّتَهم} واحدة أيضاً. وقرأ نافع: «واتَّبعتْهم ذُرِّيَّتُهم» واحدة «بهم ذُرِّيَّاتِهم» جمعاً. وقرأ ابن عامر «وأَتْبعْناهم ذُرِّيَّاتِهم» «بهم ذُرِّيّاتِهم» جمعاً في الموضعين. واختلفوا في تفسيرها على ثلاثة أقوال. أحدها: أن معناها: واتَّبعتهم ذريتُهم بإيمان ألحقنا بهم [ذرياتهم] من المؤمنين في الجنة، وإن كانوا لم يبلُغوا أعمال آبائهم، تكرمةً من الله تعالى لآبائهم المؤمنين باجتماع أولادهم معهم، روى هذا المعنى سعيد بن جبير عن ابن عباس. والثاني: واتَّبعتهم ذريتُهم بإيمان، أي: بلغت أن آمنتْ، ألحقنا بهم ذُرِّيَّتهم الصِّغار الذين لم يبلُغوا الإيمان. وروى هذا المعنى العوفي عن ابن عباس، وبه قال الضحاك. ومعنى هذا القول: أن أولادهم الكبار تبعوهم بإيمان منهم، وأولادهم الصغار تبعوهم بإيمان الآباء، [لأن الولد يُحكم له بالإسلام تبعاً لوالده. والثالث: «وأتبَعْناهم ذُرِّياتهم» بإيمان الآباء] فأدخلناهم الجنة، وهذا مروي عن ابن عباس أيضاً. قوله تعالى: {وما ألتْناهم} قرأ نافع، وأبو عمرو، وابن عامر، وعاصم، وحمزة، والكسائي: «وما ألَتْناهم» بالهمزة وفتح اللام. وقرأ ابن كثير: «وما ألِتْناهم» بكسر اللام. وروى ابن شنبوذ عن قنبل عنه «ومالِتْناهم» بإسقاط الهمزة مع كسر اللام. وقرأ أبو العالية، وأبو نهيك، ومعاذ القارئ بإسقاط الهمزة مع فتح اللام. وقرأ ابن السميفع «وما آلَتْناهم» بمد الهمزة وفتحها. وقرأ الضحاك، وعاصم، الجحدري: «وماوَلَتْناهم» بواو مفتوحة من غير همزة وبنصب اللام. وقرأ ابن مسعود، وأبو المتوكل: «وما أَلَتُّهُمْ» مثل جَعلتُهم. وقد ذكرنا هذه الكلمة في [الحجرات: 140] والمعنى: ما نَقَصْنا الآباء بما أعطَيْنا الذُّرِّيَّةَ. {كُلُّ امريءٍ بما كسب رهينٌ} أي: مُرْتَهَن بعمله لا يؤاخذ أحدٌ بذَنْب أحد. وقيل: هذا الكلام يختصُّ بصفة أهل النار، وذلك الكلام قد تَمَّ. قوله تعالى: {وأَمْدَدْناهم} قال ابن عباس: هي الزيادة على الذي كان لهم. قوله تعالى: {يَتنازعون} قال أبو عبيدة: أي: يتعاطَون ويتداولون، وأنشد الأخطل: نازَعْتُهُ طَيِّبَ الرَّاحِ الْشَّمُولِ وقَدْ *** صَاحَ الدَّجاجُ وحانَتْ وَقْعَةُ الْسّاري قال الزَّجَّاج: يتناول هذا الكأسَ من يد هذا، وهذا من يد هذا، فأمّا الكأس فقد شرحناها في [الصافات: 45]. قوله تعالى: {لا لَغْوٌ فيها ولا تأثيمٌ} قرأ ابن كثير، وأبو عمرو: «لا لَغْوَ فيها ولا تأثيمَ» نصباً وقرأ الباقون: «لا لَغْوٌ فيها ولا تأثيمٌ» رفعاً منوَّناً. قال ابن قتيبة: أي: لا تَذهبُ بعقولهم فيَلْغُوا ويَرْفُثوا فيأثموا، كما يكون ذلك في خمر الدنيا. وقال غيره: التأثيم: تفعيل من الإثم، يقال آثمه: إذا جعله ذا إثم: والمعنى أن تلك الكأس لا تجعلهم آثمين. {ويطوف عليهم} للخدمة {غِلْمانٌ لهم كأنَّهم} في الحُسن والبياض {لؤلؤٌ مكنونٌ} أي: مصونٌ لمْ تَمَسَّه الأيدي. وسئل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقيل: يا نبيَّ الله، هذا الخادم، فكيف المخدوم؟ فقال: " إنَّ فَضْل المخدوم على الخادم كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب ". قوله تعالى: {وأقبل بعضُهم على بعض يتساءلون} قال ابن عباس: يتذاكرون ما كانوا فيه في الدنيا من الخوف والتعب، وهو قوله: {قالوا إنّا كُنّا قَبْلُ في أهلنا} أي: في دار الدنيا {مشفقين} أي: خائفين من العذاب، {فمنَّ اللهُ علينا} بالمغفرة {ووقانا عذابَ السَّموم} أي: عذاب النار. وقال الحسن: السَّموم من أسماء جهنم. وقال غيره: سَموم: جهنم. وهو ما يوجد من نَفْحها وَحرِّها، {إنّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ ندعوه} أي: نوحِّده ونُخْلِص له {إنَّه هو البَرُّ} وقرأ نافع، والكسائي: «أنَّه» بفتح الهمزة. وفي معنى «البَرِّ» ثلاثة أقوال: أحدها: الصادق فيما وعد، رواه أبو صالح عن ابن عباس. والثاني: اللطيف، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس. والثالث، العطوف على عباده المحسن إليهم الذي عَمَّ بِبِرِّه جميع خَلْقه، قاله أبو سليمان الخطابي.
{فَذَكِّرْ فَمَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِكَاهِنٍ وَلَا مَجْنُونٍ (29) أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ (30) قُلْ تَرَبَّصُوا فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُتَرَبِّصِينَ (31) أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلَامُهُمْ بِهَذَا أَمْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ (32) أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَلْ لَا يُؤْمِنُونَ (33) فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ (34)} قوله تعالى: {فذكِّر} أي: فَعِظ بالقرآن {فما أنت بنعمة ربِّك} أي: بإنعامه عليك بالنبوَّة {بكاهنٍ} وهو الذي يوهم أنه يعلم الغيب ويُخْبِر عمّا في غد من غير وحي. والمعنى: إنما تَنْطِق بالوحي لا كما يقول [فيك] كفار مكة. {أم يقولون شاعرٌ} أي: هو شاعر. وقال أبو عبيدة: «أم» بمعنى «بل» قال الأخطل: كَذَبتْكَ عَيْنُكَ أَمْ رَأَيْتَ بِواسِطٍ *** غَلَسَ الْظَّلامِ مِنَّ الرَّبابِ خَيالاَ لم يستفهم، إنما أوجب أنه رأى. قوله تعالى: {نَتربَّصُ به رَيْبَ المَنون} فيه قولان: أحدهما: أنه الموت، قاله ابن عباس. والثاني: حوادث الدهر، قاله مجاهد، قال ابن قتيبة: حوادث الدهر وأوجاعه ومصائبه، و«المَنون» الدهر، قال أبو ذؤيب: أمِنَ المَنُونِ ورَيْبِهِ تَتَوَجَّعُ *** والدَّهْرُ ليْسَ بمُعْتِبٍ مَنْ يَجْزَعُ هكذا أنشدنَاه أصحابُ الأصمعيّ عنه، وكان يذهب إلى أن المَنونَ الدَّهْرُ، قال: وقوله «والدَّهْرُ ليس بمُعْتِبٍ» يدُلُّ على ذلك، كأنه قال: «أمِنَ الدِّهْرُ ورَيْبِهِ تتَوَجَّعُ؟!» قال الكسائيُّ: العرب تقول: لا أكلِّمك آخِرَ المَنون، أي: آخِرَ الدَّهْر. قوله تعالى: {قُلْ تربَّصوا} أي: انتظِروا بي ذلك {فإني معكم من المتربِّصين} أي: من المُنتظِرين عذابَكم، فعُذِّبوا يومَ بدر بالسيف. وبعض المفسرين يقول: هذا منسوخ بآية السيف، ولا يصح، إِذ لاتضَادَّ بين الآيتين. قوله تعالى: {أمْ تأمُرُهم أحلامُهم بهذا} قال المفسرون: كانت عظماء قريش توصَف بالأحلام، وهي العُقول، فأزرى اللهُ بحُلومهم، إذ لم تُثمِر لهم معرفةَ الحق من الباطل. وقيل لعمرو بن العاص: ما بال قومِك لم يؤمِنوا وقد وصفهم اللهُ تعالى بالعُقول؟! فقال: تلك عُقول كادها بارئُها، أي: لمْ يَصْحَبْها التَّوفيقُ. وفي قوله: «أَمْ تأمُرُهم» وقوله: {أَمْ هُمْ} قولان. أحدهما: أنهما بمعنى «بل»، قاله أبو عبيدة. والثاني: بمعنى ألف الاستفهام، قاله الزجاج؛ قال: والمعنى: أتأمُرُهم أحلامُهم بترك القَبول ممَّن يدعوهم إلى التوحيد ويأتيهم على ذلك بالدَّلائل، أم يكفُرون طُغياناً وقد ظهر لهم الحق؟! وقال ابن قتيبة: المعنى: أم تدُلُّهم عقولُهم على هذا؟! لأن الحِلم يكون بالعقل، فكني عنه به. قوله تعالى: {أَمْ يقولون تقوَّله} أي: افتَعَل القرآنَ من تِلقاء نَفْسه؟ والتَّقوُّل: تكلُّف القول، ولا يستعمل إلاّ في الكذب {بّلْ} أي: ليس الأمر كما زعموا {لا يؤمِنون} بالقرآن، استكباراً. {فَلْيأتوا بحديثٍ مِثلِه} في نَظْمه وحُسن بيانه. وقرأ أبو رجاء، وأبو نهيك، ومورّق العجلي، وعاصم الجحدري: «بحديثِ مِثْلِه» بغير تنوين {إن كانوا صادقِين} أن محمداً تقوَّله.
|