الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: زاد المعاد في هدي خير العباد **
في شوَّال سنة ثمان قال ابن سعد: قالوا: ولما أراد رسولُ الله صلى الله عليه وسلم المسير إلى الطائف، بعث الطُّفيل بن عمرو إلى ذى الكَفَّيْنِ: صنم عمرو بن حُمَمَة الدوسى، يَهدِمه، وأمره أن يستمدَّ قومه، ويُوافيه بالطائف، فخرج سريعاً إلى قومه، فهدم ذا الكَفَّيْنِ، وجعل يَحُشُّ النار في وجههِ ويُحَرِّقه ويقول: يَا ذَا الكَفَيْنِ لَسْتُ مِنْ عُبَّادِكا مِيلادُنَا أقْدَمُ مِنْ مِيلاَدِكَا إنى حَشَشْتُ النَّار في فُؤادِكَا وانحدر معه من قومه أربعمائة سراعاً، فوافَوا النبى صلى الله عليه وسلم بالطائف بعد مقدمه بأربعة أيام، وقدم بِدَبَّابَةٍ ومنجنيق . قال ابن سعد: ولما خرجَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم مِن حُنَيْن يُريد الطائفَ، قَدِمَ خالدُ ابن الوليد على مقدمته، وكانت ثقيف قد رَمُّوا حِصنهم، وأدخلوا فيه ما يصلُح لهم لسنة، فلما انهزموا من أوطاس، دخلوا حِصنهم وأغلقوه عليهم، وتهيؤوا للقتال، وسار رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنزل قريباً من حصن الطائف، وعسكر هناك، فرَمَوا المسلمين بالنبل رمياً شديداً، كأنه رِجْلُ جَرَادٍ حتى أُصيب ناسٌ من المسلمين بجراحة، وقُتِلَ منهم اثنا عشر رجلاً، فارتفع رسولُ الله صلى الله عليه وسلم إلى موضع مسجد الطائف اليومَ، وكان معه من نسائه أمُّ سلمة وزينب، فضرب لهما قُبَّتين، وكان يُصَلِّى بين القُبَّتين مدة حصار الطائف، فحاصرهم ثمانية عشر يوماً، وقال ابن إسحاق: بِضعاً وعشرين ليلة . ونصب عليهم المنجنيق، وهو أول ما رمى به في الإسلام . وقال ابن سعد: حدَّثنا قبيصة، حدثنا سفيان، عن ثور بن يزيد، عن مكحول أن النبى صلى الله عليه وسلم نصب المنجنيق على أهل الطائف أربعين يوماً . قال ابن إسحاق: حتى إذا كان يوم الشَّدْخَةِ عند جِدار الطائف، دخل نَفَر مِن أصحابِ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم تحتَ دبابةٍ، ثم دخلوا بها إلى جدار الطائف ليحرقوه، فأرسلت عليهم ثقيف سِكَكَ الحديد مُحماة بالنار، فخرجوا من تحتها، فرمتهم ثقيف بالنَّبل، فقتلُوا منهم رجالاً، فأمر رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بقطع أعناب ثقيف، فوقع الناسُ فيها يقطعون. قال ابن سعد: فسألوه أن يدعها للهِ وللرَّحم، فقال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: (فإنى أدَعُهَا للهِ ولِلرَّحمِ) فَنَادى منادى رسول الله صلى الله عليه وسلم: أيُّما عبدٍ نزل من الحِصن وخرج إلينا فهو حر، فخرج منهم بضعةَ عشر رجلاً، منهم أبو بكرة، فأعتقهم رسولُ الله صلى الله عليه وسلم ودفع كُلَّ رجل منهم إلى رجل من المسلمين يمونهُ، فشَقَّ ذلك على أهلِ الطائف مشقةً شديدة ولم يُؤذَن لرسول الله صلى الله عليه وسلم في فتح الطائف، واستشار رسولُ الله صلى الله عليه وسلم نوفلَ ابنَ معاوية الدِّيلى، فقال: (ما ترى)؟ فقال: ثَعْلَبٌ في جُحْرٍ، إن أقمتَ عليه أخذتَه، وإن تركتَه لم يضرك. فأمر رسولُ الله صلى الله عليه وسلم عمرَ بن الخطاب، فأذَّن في الناس بالرحيل، فضجَّ الناسُ من ذلك، وقالوا: نرحـل ولم يُفتح علينا الطائف؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (فاغدُوا على القتال) فَغَدَوْا فأصابت المسلمين جراحات، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إنَّا قَافِلُونَ غداً إن شاء اللهُ)، فسُرُّوا بذلك وأذعنوا، وجعلوا يرحلون، ورسولُ الله صلى الله عليه وسلم يضحك، فلما ارتحلوا واستقلُّوا، قال: (قولوا: آيبُون تَائِبُونَ، عَابِدُونَ لِرَبِّنَا حَامِدُونَ)، وقيل: يا رسول الله؛ ادعُ الله على ثقيف، فقال: (اللَّهُمَّ اهْدِ ثَقيفاً وائتِ بِهِمْ). واستشهدَ مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بالطائف جماعةٌ، ثم خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من الطائف إلى الجِعرانة، ثم دخل منها محرماً بعُمْرَة، فقضى عُمْرتَه، ثم رجع إلى المدينة . قال ابن إسحاق: وقدم رسولُ الله صلى الله عليه وسلم المدينة مِن تبوك في رمضانَ، وقَدِمَ عليه في ذلك الشهر وفدُ ثقيف، وكان مِن حديثهم: أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم لما انصرف عنهم اتَّبع أثَره عروةُ بن مسعود حتى أدركه قبل أن يدخُل المدينة، فأسلم وسأله أن يرجعَ إلى قومه بالإسلام، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: (كما يتحدث قومُك أنهم قاتلوك)، وعرف رسول الله صلى الله عليه وسلم أن فيهم نخوة الامتناع الذي كان منهم، فقال عُرْوَة: يا رسول الله؛ أنا أحبُّ إليهم مِن أبكارهم، وكان فيهم كذلك محبَّباً مطاعاً، فخرج يدعو قومه إلى الإسلام رجاء ألا يُخالفوه لمنزلته فيهم، فلما أشرف لهم على عُلِّيَّة له، وقد دعاهم إلى الإسلام، وأظهر لهم دينَه، رمَوْه بالنبل مِن كل وجه، فأصابه سهمٌ فقتله، فقيل لعُرْوة: ما ترى في دمك؟ قال: كرامة أكرمنى الله بها، وشهادةٌ ساقها الله إلىَّ، فليس في إلا ما في الشهداء الذين قُتِلُوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن يرتحِلَ عنكم، فادفِنونى معهم، فدفنُوه معهَم، فزعموا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال فيه: (إن مَثَلَه في قَوْمِهِ، كَمَثَلِ صَاحبِ يَس في قَوْمِهِ). ثم أقامت ثقيف بعد قتل عُرْوَة أشهراً، ثم إنهم ائتمروا بينَهم، ورأوا أنه لا طاقة لهم بحرب مَنْ حولهم مِن العرب، وقد بايعوا وأسلموا، فأجمعوا أن يرسلوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلاً، كما أرسلوا عُرْوَة، فكلَّموا عبد ياليل ابن عمرو بن عُمير، وكان في سن عُرْوَة بن مسعود، وعرضوا عليه ذلك، فأبى أن يفعل وخشى أن يُصنع به كما صُنِع بعُرْوَة، فقال: لستُ بفاعل حتى تُرسلوا معى رجالاً، فأجمعوا أن يبعثوا معه رجلين من الأحلاف، وثلاثةً من بنى مالك، فيكونون ستة، فبعثوا معه الحَكَم بن عَمْرو بن وَهْب، وشُرَحبيل بن غيلان، ومن بنى مالك: عثمان بن أبى العاص، وأوس ابن عوف، ونمير بن خَرَشَة، فخرج بهم، فلما دَنَوْا من المدينة، ونزلوا قناة لَقُوا بها المغيرة بن شعبة، فاشتدَّ ليبشر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقدومهم عليه، فلقيه أبو بكر فقال: أقسمتُ عليك بالله لا تسبقنى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أكونَ أنا أُحدِّثه، ففعل، فدخل أبو بكر على رسولِ الله صلى الله عليه وسلم فأخبره بقدومهم عليه، ثم خرج المغيرةُ إلى أصحابه، فروَّح الظهر معهم، وأعلمهم كيف يُحيُّون رسولَ الله صلى الله عليه وسلم، فلم يفعلوا إلا بتحية الجاهلية، فلما قَدِمُوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ضرب عليهم قُبَّة في ناحية مسجده كما يزعمون. وكان خالدُ بن سعيد بن العاص هو الذي يمشى بينهم، وبين رسولِ الله صلى الله عليه وسلم حتى اكتتبوا كِتابهم، وكان خالد هو الذي كتبه، وكانوا لا يأكلون طعاماً يأتيهم من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى يأكُلَ منه خالد، حتى أسلموا. وقد كان فيما سألوا رسولَ الله صلى الله عليه وسلم أن يدع لهم الطاغيةَ، وهى اللاتُ لا يَهدمها ثلاث سنين، فأبى رسول الله صلى الله عليه وسلم عليهم، فما برِحُوا يسألونه سنةً سنةً، ويأبى عليهم، حتى سألوه شهراً واحداً بعد قدومهم، فأبى عليهم أن يدعها شيئاً مسمَّى، وإنما يريدون بذلك فيما يُظهرون أن يَسْلَمُوا بتركها من سفهائهم ونسائهم وذراريهم، ويكرهون أن يُروِّعوا قومهم بهدمها حتى يدخُلَهُمُ الإسلامُ، فأبىَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم إلا أن يبعث أبا سفيان بن حرب والمغيرة بن شعبة يهدمانها، وقد كانوا يسألونه مع ترك الطاغية أن يُعفيهم مِن الصلاة، وأن لا يكسروا أوثانَهم بأيديهم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أما كسرُ أوثانكم بأيديكم، فسنُعفيكم منه، وأما الصلاةُ، فلا خير في دين لا صلاة فيه). فلما أسلمُوا وكتب لهم رسولُ الله صلى الله عليه وسلم كتاباً، أمَّر عليهم عثمان بن أبى العاص، وكان من أحدثهم سناً، وذلك أنه كان من أحرصهم على التفقه في الإسلام، وتعلُّم القرآن. فلما فرغوا من أمرهم وتوجَّهوا إلى بلادهم راجعين، بعث رسولُ الله صلى الله عليه وسلم معهم أبا سفيان بن حرب، والمغيرة بن شعبة في هدم الطاغية، فخرجا مع القوم، حتى إذا قدموا الطائف، أراد المغيرة بن شعبة أن يُقَدِّمَ أبا سفيان، فأبى ذلك عليه أبو سفيان، فقال: ادخل أنت على قومك، وأقام أبو سفيان بماله بذى الهَدْمِ، فلما دخل المغيرةُ بن شعبة، علاها يضربُها بالمعول، وقام دونَه بنو مُعتِّب خشية أن يُرمى أو يُصاب كما أُصيب عُروة، وخرج نساء ثقيف حُسَّراً يبكين عليها، ويقول أبو سفيان والمغيرة يضربها بالفأس (واهاً لك واهاً لك) فلما هدمها المغيرةُ، وأخذ مالها وحُليها، أرسل إلى أبى سفيان مجموعَ مالها مِن الذهب والفضَّة والجَزْع. وقد كان أبو مليح بن عروة وقارب بن الأسود قدما على رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل وفد ثقيف حين قُتِلَ عُروة يريدان فراق ثقيف، وأن لا يُجامعاهم على شىء أبداً، فأسلما، فقال لهما رسول الله صلى الله عليه وسلم: (تولَّيا مَنْ شِئْتُمَا) قالا: نتولَّى الله ورسوله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (وخالَكُمَا أَبَا سُفْيَانَ بْنَ حَرْبٍ)، فقالا: وخالنا أبا سفيان. فلما أسلم أهل الطائف، سأل أبو مليح رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقضى عن أبيه عُروة دَيْنًا كان عليه من مال الطاغية، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: (نعم)، فقال له قارب بن الأسود: وعن الأسود يا رسول الله فاقْضِهِ وعُروة والأسود أخوان لأب وأُم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إنَّ الأَسْوَدَ مَاتَ مُشْرِكاً) فقال قارب ابن الأسود: يا رسول الله؛ لكن تَصِلُ مسلماً ذا قرابة يعنى نفسَه وإنما الدَّيْنُ علىَّ، وأنا الذي أُطْلَبُ به، فأمر النبى صلى الله عليه وسلم أبا سفيان أن يَقضى دَيْنَ عُروة والأسود من مال الطاغية، ففعل. وكان كتابُ رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي كتب لهم: (بسم الله الرحمن الرحيم: من محمد النبى رسول الله إلى المؤمنين، إن عِضَاه وَجٍّ وصيدَه حرام، لا يُعضد، من وُجِدَ يصنعُ شيئاً مِن ذلك، فإنه يُجلد، وتُنزع ثيابه، فإن تعدَّى ذلك، فإنه يؤخذ، فيبلغ به إلى النبى محمد، وإن هذا أمرُ النبى محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم). فكتب خالد بن سعيد بأمر الرسول محمد بن عبد الله، فلا يتعداه أحد، فيظلم نفسه فيما أمر به محمد رسول الله. فهذه قصة ثقيف من أولها إلى آخرها، سُقناها كما هي، وإن تخلل بين غزوها وإسلامها غزاةُ تبوك وغيرها، لكن آثرنا أن لا نقطع قِصتهم، وأن ينتظم أوَّلُهَا بآخرها ليقع الكلام على فقه هذه القصة وأحكامها في موضع واحد فنقول: فيها مِن الفقه: جوازُ القتال في الأشهر الحُرُم، ونسخُ تحريم ذلك، فإنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج من المدينة إلى مكة في أواخر شهر رمضان بعد مضى ثمان عشرة ليلة منه، والدليل عليه ما رواه أحمد في (مسنده): حدثنا إسماعيل عن خالد الحذَّاء، عن أبى قِلابة، عن أبى الأشعث، عن شدادِ ابن أوس، أنه مَرَّ مع رسول الله صلى الله عليه وسلم زمَنَ الفتح على رجل يحتجِمُ بالبقيع لثمان عشرة ليلة خلت من رمضان، وهو آخذ بيدى، فقال: (أفْطَرَ الحَاجِمُ والْمَحْجومُ)، وهذا أصح مِن قول مَن قال: إنه خرج لعشر خلون من رمضان، وهذا الإسناد على شرط مسلم، فقد رَوى به بعينه: (إنَّ اللهَ كَتَبَ الإحْسَانَ عَلَى كُلِّ شَىء). وأقام بمكة تسع عشرة ليلة يقصرُ الصلاة، ثم خرج إلى هوازن، فقاتلهم، وفرغ منهم، ثم قصد الطائف، فحاصرهم بضعاً وعشرين ليلة في قول ابن إسحاق، وثمان عشرة ليلة في قول ابن سعد، وأربعين ليلة في قول مكحول. فإذا تأملت ذلك، علمتَ أن بعض مدةِ الحصار في ذى القعدة، ولا بُد، ولكن قد يُقال: لم يبتدئ القتال إلا في شوَّال، فلما شرع فيه، لم يقطعه للشهر الحرام، ولكن من أين لكم أنه صلى الله عليه وسلم ابتدأ قِتالاً في شهر حرام، وفرق بين الابتداء والاستدامة. ومنها: جواز غزوِ الرجل وأهلُه معه، فإن النبى صلى الله عليه وسلم كان معه في هذه الغزوة أُم سلمة وزينب. ومنها: جواز نصب المنجنيق على الكفار، ورميهم به وإن أفضى إلى قتل مَن لم يُقاتل مِن النساء والذُرِّية. ومنها: جوازُ قطع شجر الكُفار إذا كان ذلك يُضعفهم ويَغيظهم، وهو أنكى فيهم ومنها: أنَّ العبد إذا أَبَقَ من المشركين ولحق بالمسلمين، صار حراً. قال سعيد ابن منصور: حدَّثنا يزيد بن هارون، عن الحجاج، عن مِقْسَم، عن ابن عباس، قال: كان رسولُ الله صلى الله عليه وسلم يعتِقُ العبيد إذا جاؤوا قَبْلَ مواليهم. وروى سعيد بن منصور أيضاً، قال: قضى رسولُ الله صلى الله عليه وسلم في العبد وسيده قضيتين: قضى أن العبدَ إذا خرجَ مِن دار الحرب قبل سيده أنه حر، فإن خرج سيدُّه بعده لم يُرد عليه، وقضى أن السيد إذا خرج قبل العبد، ثم خرج العبد، رُدَّ على سيده. وعن الشعبى، عن رجل مِن ثقيف، قال: سألنا رسولَ الله صلى الله عليه وسلم أن يَرُدَّ علينا أبا بَكْرَةَ، وكان عبداً لنا أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو محاصِر ثقيفاً، فأسلم، فأبى أن يَرُدَّهُ علينا، فقال: (هُوَ طَلِيقُ الله، ثمَّ طَلِيقُ رَسُولِهِ) فلم يرده علينا. قال ابن المنذر: وهذا قول كل مَن يُحفظ عنه من أهل العلم. ومنها: أن الإمام إذا حاصر حِصناً، ولم يُفتح عليه، ورأى مصلحةَ المسلمين في الرحيل عنه، لم يَلزمه مصابرتُه، وجاز له ترك مصابرته، وإنما تلزم المصابرةُ إذا كان فيها مصلحة راجحة على مفسدتها. ومنها: أنه أحرم من الجِعْرَانَةِ بعُمْرة، وكان داخلاً إلى مكة، وهذه هي السُّـنَّة لمن دخلها من طريق الطائف وما يليه، وأما ما يفعلُه كثيرٌ ممن لا علم عندهم من الخروج من مكة إلى الجِعْرانة ليُحرم منها بعُمْرة، ثم يرجع إليها، فهذا لم يفعله رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، ولا أحدٌ من أصحابه البتة، ولا استحبَّه أحدٌ من أهل العلم، وإنما يفعله عوام الناس، زعموا أنه اقتداء بالنبى صلى الله عليه وسلم وغلطوا، فإنه إنما أحرم منها داخلاً إلى مكة، ولم يخرج منها إلى الجِعرانة ليُحرم منها، فهذا لون، وسُـنَّته لون.. وبالله التوفيق ومنها: استجابةُ الله لرسوله صلى الله عليه وسلم دعاءه لثقيف أن يهديَهم، ويأتى بهم، وقد حاربوه وقاتلوه، وقتلوا جماعةً من أصحابه، وقتلوا رسولَ رسوله الذي أرسله إليهم يدعوهم إلى الله، ومع هذا كُلِّه فدعا لهم، ولم يدع عليهم، وهذا من كمال رأفته، ورحمته، ونصيحته صلوات الله وسلامه عليه. ومنها: كمالُ محبة الصِّدِّيق له، وقصدُه التقربَ إليه، والتحبب بكل ما يمكنه، ولهذا ناشد المغيرة أن يدعه هو يُبشِّر النبى صلى الله عليه وسلم بقدوم وفد الطائف، ليكون هو الذي بشَّره وفرَّحه بذلك، وهذا يدل على أنه يجوز للرجل أن يسأل أخاه أن يؤثِرَهُ بقُرْبَةٍ من القُرْبِ، وأنه يجوز للرجل أن يُؤثر بها أخاه، وقول مَن قال من الفقهاء: لا يجوز الإيثار بالقُرَبِ، لا يصح . وقد آثرتْ عائشةُ عمرَ بن الخطاب بدفنه في بيتها جوار النبى صلى الله عليه وسلم، وسألها عمرُ ذلك، فلم تكره له السؤال، ولا لها البذلَ، وعلى هذا، فإذا سأل الرجل غيره أن يؤثره بمقامه في الصف الأول، لم يُكره له السؤال، ولا لذلك البذل، ونظائره . ومَن تأمل سيرةَ الصحابة، وجدهم غيرَ كارهين لذلك، ولا ممتنعين منه، وهل هذا إلا كرمٌ وسخاء، وإيثارٌ على النفس بما هوأعظمُ محبوباتها تفريحاً لأخيه المسلم، وتعظيماً لقدره، وإجابة له إلى ما سأله، وترغيباً له في الخير، وقد يكون ثواب كل واحد من هذه الخصال راجحاً على ثواب تلك القُرْبة، فيكون المؤثر بها ممن تاجر، فبذل قُرْبةً، وأخذ أضعافها، وعلى هذا فلا يمتنع أن يُؤثر صاحب الماءِ بمائه أن يتوضأ به ويتيمم هو إذا كان لا بُد مِن تيمم أحدهما، فآثر أخاه، وحاز فضيلة الإيثار، وفضيلة الطُّهر بالتراب، ولا يمنع هذا كتاب ولا سُـنَّة، ولا مكارم أخلاق، وعلى هذا فإذا اشتد العطش بجماعة، وعاينوا التلف ومع بعضهم ماء، فآثر على نفسه، واستسلم للموت، كان ذلك جائزاً، ولم يقل: إنه قاتل لنفسه، ولا أنه فعل مُحَرَّماً، بل هذا غاية الجود والسخاء كما قال تعالى ومنها: أنه لا يجوزُ إبقاء مواضع الشِّرك والطواغيت بعد القُدرة على هدمها وإبطالها يوماً واحداً، فإنها شعائرُ الكفر والشِّرك، وهى أعظمُ المنكرات، فلا يجوز الإقرارُ عليها مع القُدرة ألبتة، وهذا حكمُ المشاهد التي بُنيت على القبور التي اتُخِذَت أوثاناً وطواغيت تُعبد من دون الله، والأحجار التي تُقصد للتعظيم والتبرك، والنذر والتقبيل، لا يجوز إبقاء شىء منها على وجه الأرض مع القُدرة على إزالته، وكثير منها بمنزلة اللات والعُزَّى، ومناة الثالثة الأخرى، أو أعظم شركاً عندها، وبها والله المستعان . ولم يكن أحد من أرباب هذه الطواغيت يعتقد أنها تخلق وترزق، وتُميت وتُحيى، وإنما كانوا يفعلون عندها وبها ما يفعلُه إخوانهم من المشركين اليوم عند طواغيتهم، فاتبع هؤلاء سَنَن مَن كان قبلهم، وسلكوا سبيلهم حذو القُذَّة بالقُذَّة، وأخذوا مأخذهم شِبراً بشِبر، وذراعاً بذراع، وغلب الشِّرك على أكثر النفوس لظهور الجهل وخفاء العلم، فصار المعروف منكراً، والمنكر معروفاً، والسُّـنَّة بدعة، والبدعة سُـنَّة، ونشأ في ذلك الصغير، وهرم عليه الكبير، وطُمست الأعلام، واشتدت غربةُ الإسلام، وقلَّ العُلماء، وغلب السفهاء، وتفاقم الأمر، واشتد البأسُ، وظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدى الناس، ولكن لا تزالُ طائفة مِن العِصابة المحمَّدية بالحق قائمين، ولأهل الشِّرك والبِدع مجاهدين إلى أن يرث الله سبحانه الأرض ومَن عليها، وهو خير الوارثين ومنها: جواز صرف الإمام الأموال التي تصير إلى هذه المشاهد والطواغيت في الجهاد ومصالح المسلمين، فيجوز للإمام،بل يجب عليه أن يأخذ أموال هذه الطواغيت التي تُساق إليها كلها، ويصرفها على الجند والمقاتلة، ومصالح الإسلام، كما أخذ النبىُّ صلى الله عليه وسلم أموال اللات، وأعطاها لأبى سفيان يتألَّفه بها، وقضى منها دَيْن عُروة والأسود، وكذلك يجب عليه أن يهدم هذه المشاهد التي بُنيت على القبور التي اتُخِذت أوثاناً، وله أن يقطعها للمقاتلة، أو يبيعها ويستعين بأثمانها على مصالح المسلمين، وكذلك الحكم في أوقافها، فإن وقفها، فالوقف عليها باطل، وهو مال ضائع، فيُصرف في مصالح المسلمين، فإن الوقف لا يصح إلا في قُرْبة وطاعة لله ورسوله، فلا يَصِحُّ الوقف على مشهد، ولا قبر يُسرج عليه ويُعظَّم، ويُنذَر له، ويُحَج إليه، ويُعبد من دون الله، ويُتخَذ وثناً من دونه، وهذا مما لا يخالف فيه أحد من أئمة الإسلام، ومَن اتبع سبيلهم. ومنها: أنَّ وادى وَجّ وهو وادٍ بالطائف حَرَمٌ يحرم صيدُه، وقطعُ شجره، وقد اختلف الفقهاء في ذلك، والجمهور قالوا: ليس في البقاع حَرَمٌ إلا مكة والمدينة، وأبو حنيفة خالفهم في حَرَم المدينة، وقال الشافعى رحمه الله في أحد قوليه: وَجٌ حَرَم يحرم صيده وشجره، واحتجَّ لهذا القول بحديثين أحدهما هذا الذي تقدم، والثانى: حديث عُروة بن الزبير، عن أبيه الزبير، أن النبى صلى الله عليه وسلم قال: (إنَّ صَيْدَ وَجّ وعِضَاهَه حَرَم مُحَرَّم لله) رواه الإمام أحمد وأبو داود. وهذا الحديث يُعرف بمحمد بن عبد الله بن إنسان عن أبيه عن عُروة. قال البخارى في تاريخه: لا يُتابَع عليه. قلت: وفى سماع عُروة من أبيه نظر، وإن كان قد رآه.. والله أعلم ولما قدم رسولُ الله صلى الله عليه وسلم المدينة، ودخلت سنة تسع، بعث المُصَدِّقين يأخذون الصدقات من الأعراب، قال ابن سعد: ثم بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم المُصَدِّقِين، قالوا: لما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم هلال المحرَّم سنة تسع، بعث المُصَدِّقين يصدقون العرب، فبعث عُيينة بن حِصن إلى بنى تميم، وبعث يزيد بن الحُصين إلى أسلم وغِفار، وبعث عَبَّاد بن بشر الأشهلى إلى سليم ومُزينة، وبعث رافع بن مكيث إلىجُهينة،وبعث عمرو بن العاص إلى بنى فَزَارَة، وبعث الضحَّاك بن سفيان إلى بنى كِلاب، وبعث بشر بن سفيان إلى بنى كعب، وبعث ابن اللُّتْبِيَّة الأزدى إلى بنى ذبيان، وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم المُصَدِّقين أن يأخذوا العفوَ منهم، ويتوقَّوْا كرائم أموالهم . قيل: ولما قدم ابن اللُّتْبِيَّة حاسبه . وكان في هذا حُجَّة على محاسبة العمال والأمناء، فإن ظهرت خيانتُهم عزلهم، وولَّى أميناً . قال ابن إسحاق: وبعث المهاجر بنَ أبى أُمية إلى صنعاء، فخرج عليه العَنسى وهو بها، وبعث زياد بن لبيد إلى حضرموت، وبعث عدىًَّ بنَ حاتم إلى طئ وبنى أسد، وبعث مالك بن نُويرة على صدقات بنى حنظلة، وفرَّق صدقات بنى سعد على رجلين، فبعث الزِّبْرقان بن بدر على ناحية، وقيس بن عاصم على ناحية، وبعث العلاء بن الحضرمى على البحرين، وبعث علياً رضوان الله عليه إلى نجران ليجمع صدقاتهم، ويقدم عليه بجزيتهم ذكر سَرِيَّة عُيينة بن حصن الفَزَارى إلى بنى تميم، وذلك في المحرَّم من هذه السنة، بعثه إليهم في سَرِيَّة لِيغزوهم في خمسين فارساً ليس فيهم مهاجرى ولا أنصارى، فكان يسيرُ الليل ويكمُن النهار، فهجم عليهم في صحراء، وقد سرَّحوا مواشيهم، فلما رأوا الجمع ولَّوْا، فأخذ منهم أحد عشر رجلا وإحدى وعشرين امرأة وثلاثين صبياً، فساقهم إلى المدينة،فأُنزِلُوا في دار رملة بنت الحارث فقدم فيهم عدة من رؤسائهم: عطارد بن حاجب، والزِّبْرقان بن بدر، وقيس بن عاصم، والأقرع بن حابس، وقيس بن الحارث، ونعيم بن سعد، وعمرو بن الأهتم، ورباح بن الحارث، فلما رأوا نِساءهم وذراريَهم، بكوا إليهم، فَعَجِلُوا، فجاؤوا إلى باب النبى صلى الله عليه وسلم، فنادوا: يا محمد اخرُج إلينا، فخرج رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، وأقام بلالٌ الصلاة، وتعلَّقُوا برسول الله صلى الله عليه وسلم يكلمونه، فوقف معهم، ثم مضى فصلَّى الظهرَ، ثم جلس في صحن المسجد، فقدَّموا عُطارد بن حاجب، فتكلَّم وخطب، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ثابت بن قيس ابن شماس، فأجابهم، وأنزل الله فيهم: فقام الزِّبْرقان شاعر بَنى تميم فأنشد مفاخراً: وكـم قَسَرْنَا من الأحْياءِ كُلِّهِـم ** عند النِّهابِ وفَضْلُ العزِّ يُتَّبِــعُ
ونَحْنُ يُطْعِمُ عِنْدَ القَحْطِ مُطْعِمُنَـا ** مِن الشِّواءِ إذا لم يُؤْنَس القــَزَعُ
بِمَا تَرَى النَّاسَ تَأْتِينَا سَرَاتُهُــمُ ** مِنْ كُلِّ أرْضٍ هُويّاً ثُمَّ نَصْطَنِــعُ
فَنَنْحَرُ الكُومَ عُبْطاً في أَرُومَتِنَــا ** للنازلين إذا ما أُنْزِلُوا شَبِعُـــوا
فلا ترانا إلى حىٍّ نُفاخِرُهُـــم ** إلا اسْتَفَادُوا فَكَانُوا الرَّأْسَ يُقْتَطعُ
فمَـــنْ يُفَاخِرُنَا في ذَاكَ نَعْرِفُه ** فَيَرْجِعُ القَوْمُ والأخْبَارُ تُسْتَمَـعُ
إنَّا أَبَيْنَا وَلاَ يَأْبَى لَنَا أحَــــدٌ ** إنَّا كَذلِكَ عِنْدَ الفَخْـر نَرْتَفِـع فقام شاعر الإسلام حسَّان بن ثابت، فأجابه على البديهة: يَرْضَى ِبها كُلُّ مَنْ كَانَتْ سَـرِيرَتُهُ ** تَقْوى الإله وكُلُّ الخَيْر مُصْطَنَـعُ
قَـوْمٌ إذا حَارَبُوا ضَرُّوا عَدُوَّهُم ** أَوْ حَاوَلُوا النَّفْعَ في أَشْيَاعِهِمْ نَفَعُوا
سَجِيَّةٌ تِلْكَ فِيهمْ غَيْرُ مُحْــدَثَةٍ ** إنَّ الخَلائِقَ فاعْلَم شَرُّهَا البِـدَعُ
إنْ كَانَ في النَّاسِ سَبَّاقُونَ بَعْدَهُمُ ** فَكُـلُّ سَبقٍ لأَدْنَى سَبْقِهِمْ تَبَـعُ
لاَ يَرْقَعُ النَّاسُ مَا أَوْهَتْ أَكُفُّهُـمُ ** عِنْدَ الدِّفَاعِ ولاَ يُوهُونَ مَا رَقَعُوا
إنْ سَابَقُوا النَّاسَ يَوْمَاً فَازَ سَبْقُهُم ** أَوْ وازَنُوا أَهْلَ مَجْدٍ بِالنَّدى مَتَعُوا
أَعِفَّةٌ ذُكِرَتْ في الوَحْى عِفَّتُهُـمْ ** لاَ يَطْبَعُونَ وَلا يُرْدِيـهُمُ الطَّمَـعُ
لاَ يَبْخَلُونَ عَلَى جَار بفَضْلِهِمُ ** وَلا يَمَسُّهُمُ مِنْ مَطْمَعٍ طَبَـعُ
إذَا نَصَبْنَا لِحَىٍّ لَمْ نَدِبَّ لَهُـمْ ** كَمَا يَدِبُّ إلى الوَحْشيّةِ الـذُّرُعُ
نَسْمُوا إذا الحَرْبُ نَالَتْنَا مَخَالِبُهَا ** إذا الزَّعَانِفُ مِنْ أَظْفَارِهَا خَشَعُوا
لاَ يَفْخَرُونَ إذَا نَالُوا عَدُوَّهُـمُ ** وإنْ أُصِيبُوا فَلا جَـوْرٌ وَلاَ هَلَـعُ
كَأَنَّهُمْ في الوَغَى والمَوْتُ مُكْتَنِـعٌ ** أُسْدٌ بحلية في أرسَاغِهـا فَـدَعُ
خُذْ مِنْهُمُ مَا أتَوا عَفْواً إذا غضبُوا ** وَلا يَكُنْ هَمكَ الأمْرَ الذي منعُوا
فَإنَّ في حَرْبِهِمْ فَاتْرُكْ عَدَاوَتَهُـمْ ** شَراً يُخاضُ عَلَيْهِ السُّمُّ والسَّلَـعُ
أَكْـرِمْ بِقَوْمٍ رَسُولُ اللهِ شِيعَتُهُمْ ** إذَا تَفَاوَتَتِ الأهـوَاءُ والشِّيَــعُ
أَهْدَى لَهُمْ مِدْحَتِى قَلْبٌ يُـوَازِرُهُ ** فيما أحَبَّ لِسَانٌ حائِكٌ صَنَـعُ
فَإنَّهُمْ أَفْضَـلُ الأَحْيَاءِ كُلِّهِـم ** إنْ جَدَّ بِالنَّاسِ جِدُّ القَوْل أو شمعوا فلما فرغ حسَّان، قال الأقرع بن حابس: إنَّ هذا الرجل لَمُؤَتَّى له، لَخطيبُه أخطبُ مِن خطيبنا، ولَشاعره أشعر من شاعرنا، ولأصواتهم أعلى من أصواتنا، ثم أسلموا، فأجازهم رسولُ الله صلى الله عليه وسلم فأحسن جوائزهم . قال ابن إسحاق: فلما قدم وفد بنى تميم، دخلوا المسجد، ونادوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أخرج إلينا يا محمد، فآذى ذلك رسولَ الله صلى الله عليه وسلم مِن صياحهم، فخرج إليهم، فقالوا: جئنا لِنفاخِرك، فأْذن لشاعرنا وخطيبنا قال: (نعم قَدْ أذِنْتُ لخطيبكم فليقم)، فقام عُطارد بن حاجب، فقال: الحمدُ لله الذي جعلنا ملوكاً، الذي له الفضل علينا، والذي وهب لنا أموالاً عِظاماً نفعل فيها المعروفَ، وجعلنا أعزَّ أهلِ المشرق وأكثَره عدداً، وأيسـرَه عُدّة، فمَن مثلُنا في الناس؟ ألسنا رؤوس الناس، وأُولى فضلهم، فمَن فاخرنا، فليعُدّ مثل ما عَدَدْنَا، فلو شئنا لأكثرنا من الكلام، ولكن نستحيى من الإكثار لما أعطانا، أقول هذا لأن تأتوا بمثل قولنا، أو أمرٍ أفضل مِن أمرنا . ثم جلس، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لثابت بن قيس بن شماس: (قُمْ فَأَجِبْهُ)، فقام فقال: الحمد لله الذي السَّمواتُ والأرضُ خلقه، قضى فيهن أمرَه، ووسع كرسيَّه علمه، ولم يكن شىء قط إلا من فضله، ثم كان من فضله أن جعلنا ملوكاً، واصطفى من خير خلقه رسولاً، أكرمَه نَسَباً، وأصدقَه حديثاً، وأفْضلَه حسباً، فأنزل عليهِ كِتاباً، وائتمنه على خلقه، وكان خيرة الله مِن العالمين، ثم دعا الناسَ إلى الإيمان بالله، فآمن به المهاجرون من قومه ذوى رحمه، أكرم الناس أحساباً، وأحسنهم وجوهاً، وخير الناس فعلاً، ثم كان أوَّل الخلق إجابة واستجابة لله حين دعاه رسول الله صلى الله عليه وسلم نحن، فنحن أنصار الله، ووزراءُ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم، نُقاتِلُ الناسَ حتى يؤمنوا، فمن آمن بالله ورسولِه منع ماله ودمه، ومَن نكث جاهدناه في الله أبداً، وكان قتلُه علينا يسيراً، أقول هذا، وأستغفر الله العظيم للمؤمنين والمؤمنات، والسلام عليكم . ثم ذكر قيام الزِّبْرقان وإنشاده، وجواب حسَّان له بالأبيات المتقدمة، فلما فرغ حسَّان من قوله، قال الأقرع بن حابس: إن هذا الرجل خطيبُه أخطبُ مِن خطيبنا، وشاعِرُه أشعر من شاعرنا، وأقوالُهم أعلى من أقوالنا، ثم أجازهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فأحسن جوائزهم . قال ابن سعد: قالُوا: بعث رسولُ الله قُطبة بن عامر في عشرين رجلاً إلى حيٍّ مِن خثعم بناحية تَبَالة، وأمره أن يَشُنَّ الغارة، فخرجوا على عشرة أبعِرة يعتقِبُونها، فأخذوا رجلاً، فسألوه، فاستعجمَ عليهم، فجعل يصيحُ بالحاضرة ويحذِّرهم، فضربوا عنقه، ثم أقاموا حتى نام الحاضرة، فشنُّوا عليهم الغارة، فاقتتلوا قِتالاً شديداً حتى كَثُر الجرحى في الفريقين جميعاً، وقَتَل قُطــبةُ بن عامر مَن قتل، وساقُوا النَّعَم والنساءَ والشَّاء إلى المدينة، وفى القصة: أنه اجتمع القوم وركبوا في آثارهم، فأرسل اللهُ سبحانه عليهم سيلاً عظيماً حال بينهم وبين المسلمين، فساقُوا النَّعَم والشاءَ والسبى، وهم ينظرون لا يستطيعون أن يعبروُا إليهم حتى غابوا عنهم . قالوا: بعث رسولُ الله صلى الله عليه وسلم جيشاً إلى بنى كلاب، وعليهم الضحاك بن سفيان بن عوف الطائى، ومعه الأصْيَدُ بن سلمة، فلقوهم بالزُّجِّ (زُجِّ لاوة)، فدعَوْهم إلى الإسلام، فأبَوْا، فقاتلوهم، فهزموهم . فلحق الأصْيَد أباه سلمة، وسلمة على فرس له في غدير بالزُجِّ، فدعاه إلى الإسلام، وأعطاهُ الأمان، فسبَّه وسبَّ دينه، فضرب الأصْيَد عرقوبى فرس أبيه، فلما وقع الفرس على عرقوبيه، ارتكز سلمة على الرمح في الماء، ثم استمسك حتى جاءه أحدُهم فقتله، ولم يقتله ابنه . قالوا: فلما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم أنَّ ناساً من الحبشة تراياهم أهلُ جدة، فبعث إليهم علقمة بن مُجَزِّز في ثلاثمائة، فانتهى إلى جزيرة في البحر، وقد خاض إليهم البحر، فهربُوا منه، فلما رجع تعجَّل بعض القوم إلى أهليهم، فأذن لهم، فتعجَّل عبد الله بن حذافة السهمى، فأمَّره على مَن تعجَّل، وكانت فيه دُعابة، فنزلوا ببعض الطريق، وأوقدوا ناراً يصطلُون عليها، فقال: عزمتُ عليكم إلا تواثبتم في هذه النار، فقام بعضُ القوم، فتجهَّزوا حتى ظن أنهم واثبون فيها، فقال: اجلسوا إنما كُنتُ أضحكُ معكم، فذكروا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: (مَنْ أَمَرَكُم بِمَعْصِيَةٍ فلا تُطِيعُوهُ) . قلت: في ( الصحيحين ) عن علىّ بن أبى طالب قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم سَرِيَّة، واستَعملَ عليهم رجلاً من الأنصار، وأمرهم أن يسمعوا له ويُطيعوا، فأغضبوه، فقال: اجمعوا لى حطباً، فجمعوا، فقال: أوقدوا ناراً، ثم قال: ألم يأمْركُم رسولُ الله صلى الله عليه وسلم أن تسمعوا لى؟ قالوا: بلى . قال: فادخلوها، فنظر بعضُهم إلى بعض، وقالوا: إنما فررنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من النار، فكانُوا كذلك حتى سكن غضبُه، وطُفئت النار، فلما رجعوا، ذكروا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: (لَوْ دَخَلُوهَا مَا خَرَجُوا مِنْهَا أَبَداً)، وقال: (لا طَاعَة في مَعْصِيَة الله، إنَّمَا الطَّاعَةُ في المَعْروف) . فهذا فيه أنَّ الأمير كان من الأنصار، وأنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الذي أمَّره، وأنَّ الغضب حمله على ذلك . وقد روى الإمام أحمد في (مسنده) عن ابن عباس، في قوله تعالى: قالوا: وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم علىَّ بن أبى طالب في مائة وخمسين رجلاً من الأنصار على مائة بعير، وخمسين فرساً، ومعه راية سوداء، ولواء أبيض إلى الفُلس، وهو صنم طيئ ليهدمه، فشنوا الغارَة على محلة آل حاتم مع الفجر، فهدموه، وملؤوا أيديَهم من السبى والنَّعَم والشاء، وفى السبى أختُ عدى بن حاتم، وهرب عدى إلى الشام، ووجدوا في خزانته ثلاثة أسياف، وثلاثة أدراع، فاستعمل على السبى أبو قتادة، وعلى الماشية والرِّثَّةِ عبد الله بن عتيك، وقسم الغنائم في الطريق، وعزل الصفى لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يقسم على آل حاتم حتى قَدِمَ بهم المدينة . قال ابن إسحاق: قال عدى بن حاتم: ما كان رجل من العرب أشدَّ كراهية لرسول الله صلى الله عليه وسلم منى حين سمعتُ به صلى الله عليه وسلم وكنت امرءاً شريفاً، وكنت نصرانياً، وكنت أسير في قومى بالمرباع، وكنت في نفسى على دين، وكنت ملكاً في قومى، فلما سمعتُ برسول الله صلى الله عليه وسلم، كرهتُه، فقلت لغلام عربى كان لى، وكان راعياً لإبلى: لا أبا لك ؛ اعدد لى من إبلى أجمالاً ذللاً سماناً فاحبسها قريباً منى، فإذا سمعتَ بجيش لمحمد قد وطئ هذه البلاد فآذِنِّى، ففعل، ثم إنه أتانى ذات غداة، فقال: يا عدى ؛ ما كنتَ صانعاً إذا غشيتكَ خيلُ محمد، فاصنعه الآن، فإنى قد رأيتُ رايات، فسألت عنها فقالوا: هذه جيوشُ محمد . قال: فقلت: فقرِّب إلىَّ أجمالى، فقرَّبها، فاحتملتُ بأهلى وولدى، ثم قلت: ألحق بأهل دينى مِن النصارى بالشام، وخلفتُ بنتاً لحاتم في الحاضرة، فلما قدمتُ الشام، أقمتُ بها، وتحالفنى خيلُ رسول الله صلى الله عليه وسلم، فتُصيبُ ابنة حاتم فيمن أصابت، فَقُدِمَ بها على رسول الله صلى الله عليه وسلم في سبايا من طيئ، وقد بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم هربى إلى الشام، فمرَّ بها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله ؛ غاب الوافد، وانقطع الوالد، وأنا عجوز كبيرة، ما بى من خدمة، فَمُنَّ علىَّ، مَنَّ اللهُ عليك، قال: (مَن وافدك)؟ قالت: عدىُّ بن حاتم . قال: (الذي فَرَّ من الله ورسوله)؟ قالت: فَمُنَّ علىَّ . قال: فلما رجع ورجل إلى جنبه يُرى أنه علىّ، قال: سليه الحملان، قالت: فسألتُه، فأمر لها به . قال عدى: فأتتنى أُختى، فقالت: لقد فعل فعلة ما كان أبوك يفعلُها، ائته راغباً أو راهباً، فقد أتاه فلان فأصاب منه، وأتاه فلان فأصاب منه، قال عدى: فأتيتُه وهو جالس في المسجد، فقال القومُ: هذا عدىُّ بنُ حاتم، وجئتُ بغير أمان ولا كتاب، فلما دُفِعْتُ إليه، أخذ بيدى، وقد كان قبل ذلك قال: (إنى أرجو أن يجعل الله يدَه في يدى)، قال: فقام لى، فلقيَتْهُ امرأة، ومعها صبى، فقالا: إنَّ لنا إليكَ حاجة، فقام معهما حتى قضى حاجـتهما، ثم أخذ بيدى حتى أتى داره، فألقت له الوليدة وسادة، فجلس عليها، وجلستُ بين يديه، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: (ما يُفِرُّكَ؟ أيُفِرُّكَ أن تقول: لا إله إلا الله، فهل تعلم من إله سوى الله)؟ قال: قلت: لا . قال: ثم تكلم ساعة، ثم قال: (إنما تَفِرُّ أن يقال: الله أكبر، وهل تعلم شيئاً أكبرُ من الله)؟ قال: قلت: لا . قال: (فإنَّ اليهود مغضوبٌ عليهم وإنَّ النصارى ضالون) قال: فقلت: إنى حنيف مسلم . قال: فرأيتُ وجهه ينبسِطُ فرحـاً . قال: ثم أمرنى فأُنزلتُ عند رجل من الأنصار، وجعلتُ أغشاه، آتيه طرفى النهار، قال: فبينا أنا عنده، إذ جاء قوم في ثياب من الصوف من هذه النمار، قال: فصلَّى وقام، فحثَّ عليهم، ثم قال: (يا أيُّهَا النَّاسُ ؛ ارْضَخوا منَ الفَضْل ولَوْ بصَاع، ولَوْ بنِصْفِ صَاع، وَلَوْ بقَبْضَةٍ، وَلَو بِبَعْضِ قَبْضَةٍ، يقى أحَدُكُمْ وَجْهَهُ حَرَّ جَهَنَّمَ أَو النَّارَ وَلَوْ بِتَمْرَةٍ، وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرةٍ، فَإنْ لَمْ تَجِدوا فَبِكَلِمَةٍ طَيِّبَةٍ، فَإنَّ أَحَدَكُم لاقى الله، وقائلٌ لَهُ مَا أَقُولُ لَكُمْ: أَلَمْ أَجْعَلْ لَكَ مَالاً وَوَلَداً؟ فيقول: بَلَى، فيقول: أيْنَ مَا قَدَّمْتَ لِنَفْسِكَ، فَيَنْظُرُ قُدَّامَهُ، وبَعْدَهُ وعَنْ يمينِهِ وعَنْ شِمَالِهِ، ثم لا يَجدُ شَيْئاً يقى به وَجْهَهُ حَرَّ جَهَنَّمَ، لِيقِ أحَدُكُمْ وَجْهَهُ النَّار وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ، فإنْ لَمْ يَجدْ فَبكلمةٍ طيِّبةٍ، فإنى لا أخافُ عَلَيْكُم الفَاقَة، فإنَّ الله نَاصِرُكُم ومُعْطيكم حَتَّى تَسيرَ الظَّعِينةُ مَا بَيْنَ يَثْرِبَ والحيرة، وأكثر ما يُخَافُ عَلَى مَطيَّتها السُّرّق)، قال: فجعلتُ أقول في نفسى: فأين لصوص طيئ؟، قال ابن إسحاق: ولما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم من الطائف، كتب بُجَيْر ابن زُهَيْر إلى أخيه كعب يُخبره أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قتل رجالاً بمكة ممن كان يهجوه ويؤذيه، وأنَّ مَن بقى من شعراء قريش ابن الزَّبَعْرَى، وهُبيرة بن أبى وهب قد هربوا في كلِّ وجه، فإن كانت لك في نفسك حاجة، فَطِرْ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنه لا يقتل أحداً جاءه تائباً مسلماً، وإن أنت لم تفعل، فانج إلى نجائك، وكان كعب قد قال: فبَيِّنْ لَنَا إنْ كُنْتَ لَسْتَ بِفَاعِــلٍ ** عَلى أىِّ شَىءٍ غَيْر ذَلِكَ دَلَّكَــا
عَلَى خُلُـق لَمْ تُلْفِ أُمَّاً ولا أبـاً ** عَلَيْهِ ولَمْ تُدْرِكْ عليه أخَـاًلَكــَا
فَـإنْ أَنْتَ لَمْ تَفْعَلْ فَلَسْتُ بآسفٍ ** وَلاَ قَائِـــلٍ إمَّا عَثَرْتَ لَعًالَكَا
سَقَــاكَ بِهَا المَأْمُونُ كَأْسَاً رَويَّةً ** فَأَنْهَلَكَ المَأْمُــونُ مِنْهَا وَعَلَّكَـا قال: وبعث بها إلى بُجير، فلما أتت بُجيراً، كره أن يكتمها رسولَ الله صلى الله عليه وسلم، فأنشده إياها، فقال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: (سَقَاكَ المَأْمُونُ، صَدَقَ وإنَّهُ لَكَذُوبٌ، أَنَا المَأْمُونُ)، ولما سمع: (عَلَى خُلُق لَمْ تُلْفِ أُما وَلا أَباً عَلَيْهِ)، فقال: أجل. قال: لم يلف عليه أباه ولا أُمه، ثم قال بجير لكعب: إلى الله لا العُزَّى ولا اللاتِ وَحْدَهُ ** فَتَنْجُـو إذَا كَانَ النَّجَاءُ وتَسْلَـمُ
لَدَى يَوْمَ لا يَنْجُو وليس بِمـُفْلِتٍ ** مِنَ النَّاسِ إلا طَاهِرُ القَلْبِ مُسْلِمُ
فَــدِينُ زُهَيْرٍ وهو لا شَىءَ دِينُهُ ** ودِينُ أبى سُلْمى عَلىَّ مُحَـــرَّمُ فلما بلغ كعباً الكتاب، ضاقت به الأرضُ، وأشفق على نفسه، وأرجف به مَن كان في حاضِره من عدوه، فقال: هو مقتول، فلما لم يجد من شىء بُداً، قال قصيدته التي يمدح فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذكر خوفه وإرجاف الوشاة به من عدوه، ثم خرج حتى قدم المدينة، فنزل على رجل كانت بينه وبينه معرفة من جُهينة، كما ذُكِر لى، فغدا به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حين صلَّى الصبح، فصلَّى مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم أشار إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: هذا رسولُ الله، فقم إليه فاستأمِنْه، فَذُكِرَ لى أنه قام إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى جلس إليه، فوضع يده في يده، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يعرِفُه، فقال: يا رسول الله؛ إنَّ كعب ابن زهير قد جاء ليستأمِنَك تائباً مسلماً، فهل أنتَ قابلٌ منه إن أنا جئتُك به؟ قال: رسول الله صلى الله عليه وسلم: (نعم). قال: أنا يا رسولَ الله كعب بن زهير. قال ابن إسحاق: فحدَّثنى عاصم بن عمر بن قتادة، أنه وثب عليه رجل من الأنصار، فقال: يا رسولَ الله؛ دعنى وعدو الله أضربْ عنقه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (دعه عنك، فقد جاء تائباً نازعاً عما كان عليه) قال: فغضب كعب على هذا الحى من الأنصار لما صنع به صاحبُهم، وذلك أنه لم يتكلم فيه رجل من المهاجرين إلا بخير، فقال قصيدته اللامية التي يصف فيها محبوبته وناقته التي أولها: يَسْـعَى الغُوَاةُ جَنَابَيْهَا وَقَوْلُهُــمُ ** إنَّكَ يَا ابْنَ أبى سُلْمَى لَمَقْتُـــولُ
وَقَـالَ كُلُّ صَـدِيقٍ كُنْتُ آمُلُـهُ ** لا أُلْهِيَنَّكَ إنى عَنْكَ مَشْغُـــولُ
فَقُلْتُ خَلُّوا طَرِيقِى لاَ أَبَا لَكُــم ** فَكُلُّ ما قَدَّرَ الرَّحْمنُ مَفْعُـــولُ
كُلُّ ابن أُنْثَى وإن طَالَتْ سَــلاَمَتُه ** يَوْماً عَلَى آلةٍ حَدْبَاءَ مَحْمُـــولُ
نُبِّئْتُ أنَّ رَسُــــولَ اللهِ أَوْعَدَنى ** والعَفْوُ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ مَأْمُـــولُ
مَهْلاً هَدَاكَ الذي أَعْطَاكَ نَافِلَةَ الــ ** ــقُرْآنِ فيهَا مَوَاعيظٌ وَتَفْصِيــلُ
لاَ تَأْخُذَنِّى بِأَقْوَالِ الوُشَـاةِ ولَــمْ ** أُذْنِبْ ولو كَثُـرَتْ في الأَقَاويــلُ
لَقَدْ أَقُـــومُ مَقَاماً لَوْ يَقُـومُ بِهِ ** أرى وأَسْمَعُ مَا لَوْ يَسْمَعُ الفِيــلُ
لَظَلَّ تُرْعَدُ مِنْ خَــوْفٍ بـَوادِرُه ** إنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ رَسُولِ اللهِ تَنْوِيــلُ
حَـتَّى وَضَعْتُ يَمِينِى مَا أُنَازِعُهَـا ** في كَفِّ ذِى نَقِماتٍ قَوْلُه القِيــلُ
فَلَهْـوَ أَخْوفُ عندى إذ أُكَلِّمُــه ** وقيلَ إنَّك منســـوبٌ ومسؤولُ
مِنْ ضَيْغَمٍ بِضَراءِ الأَرْضِ مُخْـدَرُهُ ** في بَطْنِ عَثَّـــرَ غِيلٌ دُونَه غِيـلُ
يَغْـدُوُ فيُلْحِمُ ضِرغـَامَيْن عَيْشُهُمَا ** لَحْمٌ مِنَ النَّاسِ، مَعْفُورٌ خَرَادِيــلُ
إذا يُسَـاورُ قِرْناً لاَ يَحِـــلُّ لَهُ ** أَنْ يَتْرُكَ القِرْنَ إلاَّ وَهو مَفْلُــولُ
مِنْـهُ تَظَلُّ سِبَاعُ الجَوِّ نَافِــــرَةً ** وَلا تَمَـــشَّى بوَادِيهِ الأرَاجِيـلُ
وَلا يَزَالُ بِوَادِيهِ أخُو ثِقَـــــةٍ ** مضرَّج البَزِّ والدُّرْسَـــانِ مَأْكُولُ
إنَّ الرَّسُـولَ لَنُورٌ يُسْتَضَاءُ بِــهِ ** مُهَنَّــدٌ مِنْ سُيُوفِ اللهِ مَسْلُـولُ
في عُصْبَةٍ مِنْ قُرَيْشٍ قَالَ قَائِلـُـهُمْ ** بِبَطْنِ مَكَّةَ لما أسْلَمُــوا زُولُــوا
زَالُوا فَما زَالَ أَنْكَاسٌ ولا كُشُـفٌ ** عِنْدَ اللِّقَـاءِ وَلا مِيلٌ مَعَازِيـــلُ
يمْشُونَ مَشْىَ الجِمالِ الزُّهْرِ يَعْصِمُهُم ** ضَرْبٌ إذَا عَرَّدَ السُـودُ التَّنابِيـلُ
شُـــمُّ العَرَانِينِ أَبْطَالٌ لَبُوسُـهُمُ ** مِنْ نَسْجِ دَاوُدَ في الهَيْجا سَرَابيــلُ
بيضٌ سَوَابِغُ قَدْ شُكَّتْ لها حَلَــقٌ ** كَأنَّهَا حَلَقُ القَفْعـاءِ مَجْـــدُولُ
لَيْسُوا مَفَارِيحَ إنْ نَالَتْ رِمَاحُهُــمُ ** قَوْمَاً ولَيْسُوا مَجَازِيعاً إذا نِيلُــوا
لاَ يَقَع الطَّعْنُ إلاَّ في نُحُـورِهــمُ ** وَمَا لَهُمْ عَنْ حِياضِ المَوْتِ تَهْلِيـلُ قال ابن إسحاق: قال عاصم بن عمر بن قتادة: فلما قال كعب: (إذاَ عرَّدَ السُودُ التَّنابِيلُ) وإنما عنى معشر الأنصار لِما كان صاحبنا صنع به ما صنع، وخص المهاجرين بمدحته، غضبت عليه الأنصارُ، فقال بعد أن أسلم يمدح الأنصار في قصيدته التي يقول فيها: وَرِثُوا المَكَارِمَ كَابِـــراً عَنْ كَابِـرٍ ** إنَّ الخِيَارَ هُمُ بَنُو الأَخْيـــــارِ
البَاذِلِينَ نُفُوسَهـــــمْ لِنَبِيِّهـمْ ** يَوْمَ الهِيَاجِ وسَطْوَةِ الجَبَّـــــارِ
وَالذَّائِدِينَ النَّاسَ عَنْ أَدْيَانِهِــــم ** بِالمَشْــرَفِىِّ وبِالقَنَا الخَطَّـــارِ
والبَائِعِينَ نُفُوسَهْمُ لِنَبِيِّهِـــــمْ ** لِلْمَوْتِ يَوْمَ تَعانُقٍ وَكِــــرارِ
يَتَطَهَّـــــرُونَ يَرَوْنَهُ نُسُكاً لَهُمْ ** بِدِمَاءِ مَنْ عَلِقُوا مِنَ الكُفَّــــارِ
وَإذَا حَلَلْتَ لِيَمْنَعُوكَ إلَيْهِــــم ** أَصْبَحْتَ عِنْدَ مَعَاقِلِ الأعْفَـــارِ
قَوْمٌ إذا خَوَتِ النُّجُومُ فَإنَّهُــــم ** لِلطــــارِقِينَ النَّازِلِينَ مَقَـارِى وكعب بن زهير من فحول الشعراء، هو وأبوه، وابنه عقبة، وابن ابنه العوام بن عقبة، ومما يُستحسن لكعب قوله: يَسْعَى الفَتَى لأُمُورٍ لَيْسَ يُدْركُهَــا ** فَالنَّفْسُ وَاحِـــدَةٌ وَالهَمُّ مُنْتَشِـرُ
وَالمَرْءُ مَا عَاشَ مَمْـــدُودٌ لَهُ أمَلٌ ** لاَ تَنْتَهِى العَيْنُ حَتَّى يَنْتَهى الأَثَــرُ ومما يُستحسن له أيضاً قوله في النبى صلى الله عليه وسلم: ففى عِطافَيْهِ أو أَثْنَــاءِ بُرْدَتِـهِ ** مَا يَعْلَمُ اللهُ مِنْ دِينٍ وَمِنْ كَـرَمِ قال ابن إسحاق: وكانت في زمن عُسْرَةٍ مِنَ الناس، وجَدْبٍ من البلاد، وحين طابت الثمارُ، والناس يُحبون المُقام في ثمارهم وظِلالهم، ويكرهون شُخوصهم على تلك الحال، وكان رسولُ الله صلى الله عليه وسلم قلَّما يخرج في غزوة إلا كنَّى عنها، وورَّى بغيرها، إلا ما كان مِن غزوة تَبُوك، لبُعْد الشُّقة، وشِدة الزمان. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ذاتَ يوم، وهو في جَهَازه للجَدِّ بنِ قيس أحد بنى سلمة: (يا جَدُّ؛ هَلْ لَكَ العَامَ في جِلاَدِ بَنى الأَصْفَرِ)؟ فقال: يا رسول الله؛ أَوَ تأذنُ لى ولا تَفْتِنِّى؟ فواللهِ لقد عرف قومى أنه ما مِن رَجُلٍ بأشدَّ عجباً بالنساء منى، وإنِّى أخشى إن رأيتُ نساءَ بنى الأصفر أن لا أصبِرَ، فأعرضَ عنه رسولُ الله صلى الله عليه وسلم وقال: (قَدْ أَذِنْتُ لَكَ)، ففيه نزلت الآية: وقال قوم من المنافقين بعضهم لبعض: لا تنفِرُوا في الحَرِّ، فأنزل الله فيهم: ثُم إنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم جدَّ في سفره، وأمر الناسَ بالجَهَاز، وحضَّ أهلَ الغِنَى على النفقة والحُملان في سبيل الله، فحمل رجال من أهل الغِنَى واحتسبُوا، وأنفق عثمانُ بن عفانُ في ذلك نفقةً عظيمة لم يُنفِقْ أحدٌ مِثلها. قلت: كانت ثلاثمائة بعير بأحْلاسها وأقتابِها وعُدَّتها، وألفَ دينار عَيْناً. وذكر ابنُ سعد قال: بلغ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم أنَّ الرومَ قد جمعت جموعاً كثيرة بالشام، وأن هِرَقْل قد رَزَق أصحابَه لسنة، وأجلبت معه لَخْمٌ، وجُذام، وعَامِلَة، وغسان، وقدَِّموا مقدماتهم إلى البلقاء. وجاء البكَّاؤون وهم سبعة يستحمِلُون رسولَ الله صلى الله عليه وسلم، فقال: وفى بعض الروايات: وعبد الله بن مُغَفَّل، ومعقِلُ بن يسار. وبعضهم يقول: البكَّاؤون بنو مُقَرِّن السبعة، وهم من مُزينة. وابن إسحاق: يعدُّ فيهم عَمْرو بن الحُمام بن الجَموح. وأرسل أبا موسى أصحابُه إلى رسولِ الله صلى الله عليه وسلم لِيحمِلهم، فوافاه غضبان، فقال: (واللهِ لا أحملكم، ولا أَجدُ ما أحمِلُكم عليه)، ثم أتاه إبل، فأرسل إليهم، ثم قال: (مَا أَنَا حمَلْتُكُم، ولَكِنَّ الله حَمَلَكُم، وإنِّى وَاللهِ لاَ أَحْلِفُ عَلَى يَمِينٍ، فَأَرَى غَيْرَهَا خَيْرَاً مِنْهَا، إلاَّ كَفَّرْتُ عَنْ يَمِينى وَأَتَيْتُ الذي هُوَ خَيْرٌ). وقام عُلبة بن زيد فصلَّى من الليل وبكى، وقال: اللَّهُمَّ إنَّك قد أمرتَ بالجهاد، ورغَّبتَ فيه، ثم لم تجعل عندى ما أتقوَّى به مع رسولك، ولم تجعل في يد رسولك ما يحمِلُنى عليه، وإنى أتصدَّق على كل مسلم بكل مَظْلِمَةٍ أصابنى فيها مِن مال، أو جسد، أو عِرض، ثم أصبح مع الناس، فقال النبى صلى الله عليه وسلم: (أيْنَ المُتَصَدِّقُ هذِهِ اللَّيْلَة)؟. فلم يقم إليه أحد، ثم قال: (أَيْنَ المُتَصَدِّقُ فَلْيَقُمْ)، فَقَام إليه، فأخبرَه، فقال النبى صلى الله عليه وسلم: (أَبْشِرْ فَوالذى نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَقَدْ كُتِبَتْ في الزَّكَاةِ المتَقَبَّلَة). وجاءَ المعذِّرُونَ من الأعرابِ ليؤذن لهم، فلم يَعْذِرْهم. قال ابن سعد: وهم اثنان وثمانون رجلاً، وكان عبدُ الله بنُ أُبَىّ بن سَلول قد عسكر على ثنية الوَداع في حُلفائه من اليهود والمنافقين، فكان يقال: ليس عسكره بأقلِّ العسكرين، واستخلف رسولُ الله صلى الله عليه وسلم على المدينة محمد بن مسلمة الأنصارى. وقال ابن هشام: سباع بن عُرْفُطَةَ، والأول أثبت. فلما سار رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، تخلَّف عبدُ الله بن أُبَىّ ومَنْ كان معه، وتخلَّف نَفَر مِن المسلمين مِن غير شك ولا ارتياب، منهم: كعبُ بن مالك، وهِلالُ ابن أُمية، ومُرَارَةُ بنُ الربيع وأبو خَيثمة السالمى، وأبو ذر، ثم لحقه أبو خيثمة، وأبو ذر، وشهدها رسولُ الله صلى الله عليه وسلم في ثلاثين ألفاً مِن الناس، والخيلُ عشرة آلاف فرس، وأقام بها عشرين ليلة يقصُر الصَّلاة، وهِرَقْلُ يومئذِ بحمص. قال ابن إسحاق: ولما أراد رسولُ الله صلى الله عليه وسلم الخروجَ، خلَّف علىَّ بنَ أبى طالب على أهله، فأرْجَفَ به المنافقون، وقالوا: ما خلَّفه إلا استثقالاً وتخففاً منه، فأخذ علىُّ رضى الله عنه سِلاحه، ثم خرج حتى أتى رسولَ الله صلى الله عليه وسلم وهو نازل بالجُرْفِ، فقال: يا نبىَّ الله؛ زعم المنافقون أَنك إنما خلَّفتنى لأنك استثقلتنى وتخففتَ منى، فقال: (كَذَبُوا، ولكِنِّى خَلَّفْتُكَ لما تركْتُ وَرَائِى، فارْجعْ فَاخْلُفْنى في أهْلِى وَأَهْلِكَ، أَفَلاَ تَرْضَى أنْ تَكُونَ مِنِّى بِمَنْزِلَةِ هَارُون مِنْ مُوسى؟ إلا أنَّهُ لا نَبِىَّ بَعْدِى) فرجع علىُّ إلى المدينة. ثُمَّ إنَّ أبا خيثمة رجع بعد أن سار رسولُ الله صلى الله عليه وسلم أياماً إلى أهله في يوم حار، فوجد امرأتين له في عريشينِ لهما في حائطه، قد رشَّت كُلُّ واحدة منهما عريشَها، وبرَّدَتْ له ماء، وهيأت له فيه طعاماً، فلما دخل، قام على باب العريش، فنظر إلى امرأتيه وما صنعتا له، فقال: رسولُ الله صلى الله عليه وسلم في الضِّحِّ، والرِّيح، والحر، وأبو خيثمة في ظِلٍّ بارد، وطعام مُهَيأ، وامرأة حسناء، في ماله مقيم؟ ما هذا بالنَّصَفِ، ثم قال: واللهِ لا أدخل عريشَ واحدة منكما حتى ألحقَ برسولِ الله صلى الله عليه وسلم، فهيِّئا لى زاداً، ففعلتا، ثم قدَّم ناضِحه، فارتحله، ثم خرج في طلب رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أدركه حين نزل تَبُوك، وقد كان أدرك أبا خيثمة عُميرُ بن وهب الجمحى في الطريق يطلُب رسولَ الله صلى الله عليه وسلم، فترافقا حتى إذا دنوا من تَبُوك، قال أبو خيثمة لِعُمير بن وهب: إنَّ لى ذنباً، فلا عليك أن تتخلَّف عنى حتى آتىَ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم، ففعل حتى إذا دنا مِن رسولِ الله صلى الله عليه وسلم وهو نازل بتَبُوك، قال الناس: هذا راكبٌ على الطريق مُقبل، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (كُنْ أبَا خَيْثَمَةَ) قالوا: يا رسول الله؛ هو واللهِ أبو خيثمة، فلما أناخَ أقبل، فسلَّم على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال له رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: (أوْلى لَكَ يَا أبَا خَيْثَمَة)، فأخبرَ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم خبرَه، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم خَيْرَاً ودعا له بخير. وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم حين مرَّ بالحِجْر بديار ثمود، قال: (لا تَشْرَبُوا مِنَ مَائِهَا شَيْئاً، وَلا تَتَوَضَّؤوا مِنْهُ لِلصَّلاةِ، وما كَانَ مِنْ عَجِينٍ عَجَنْتُمُوه فَاعْلِفُوهُ الإبِلَ، ولا تَأْكُلُوا مِنْهُ شَيْئاً، ولا يَخْرُجَنَّ أحَدٌ منكم إلا ومعه صَاحِبٌ له)، ففعل النَّاسُ، إلا أنَّ رجلين من بنى ساعدة خرج أحـدُهما لحاجته، وخرج الآخرُ في طلب بعيره، فأما الذي خرج لحاجته، فإنه خُنِق على مذهبه، وأما الذي خرج في طلب بعيره، فاحتملته الريحُ حتى طرحته بجبلى طيئ، فأُخبرَ بذلك رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، فقال: (ألمْ أنْهَكُم أَنْ لا يَخْرُجَ أحَدٌ مِنْكُم إلاَّ ومَعَهُ صَاحِبُه)، ثم دعا للذى خُنِقَ على مذهبه فشُفى، وأما الآخر، فأهدته طيئ لرسول الله صلى الله عليه وسلم حين قدم المدينة. قلت: والذي في (صحيح مسلم)، من حديث أبى حُمَيد: انطلقنا حتى قَدِمْنَا تَبُوكَ، فقال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: (سَتَهُبُّ عَلَيْكُم اللَّيْلَةَ رِيحٌ شَدِيدَةٌ، فَلا يَقُمْ مِنْكُم أحَدٌ، فَمنْ كانَ لَهُ بَعِيرٌ فَلْيَشُدَّ عِقَالهُ) فهبَّت رِيحٌ شَدِيدَة، فقام رجل فحملته الريحُ حتى ألقته بِجَبَلَىْ طَىِّء. قال ابن هشام: بلغنى عن الزُّهْرى أنه قال: لما مرَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحِجْر، سجَّى ثوبه على وجهه، واستحثَّ راحلته، ثم قال: (لا تَدْخُلُوا بُيوتَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُم إلاَّ وَأَنْتُم بَاكُونَ خَوْفاً أنْ يُصِيبَكُم مَا أَصَابَهُمْ). قلت: في (الصحيحين) من حديث ابن عمر، أنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا تَدْخُلوا عَلى هؤلاءِ القَوْمِ المُعَذَّبِينَ إلاَّ أنْ تَكُونُوا بَاكِينَ، فإنْ لم تَكُونُوا بَاكِينَ، فَلا تَدْخُلوا عَلَيْهِم لا يُصِيبُكم مِثْلُ مَا أَصَابَهُم). وفى (صحيح البخارى) أنه أمرهم بإلقاء العجين وطرحه. وفى (صحيح مسلم): أنه أمرهم أن يَعْلِفوا الإبلَ العَجِينَ، وأن يُهرِيقُوا الماءَ، ويستقوا من البئر التي كانت تَرِدُها الناقة. وقد رواه البخارىُّ أيضاً، وقد حفظ راويه ما لم يحفظه مَنْ روى الطرح. وذكر البيهقىُّ أنه نادى فيهم: الصلاةَ جامعة، فلما اجتمعوا، قال: (علامَ تدخُلون على قوم غَضِبَ اللهُ عليهم)، فناداه رجل فقال: نَعْجَبُ مِنْهُم يَا رَسول الله، فقال: (ألاَ أُنْبِئُكُم بِما هُوَ أعْجَبُ مِنْ ذلِكَ؟ رَجُلٌ مِنْ أنْفُسِكُم يُنَبِّئُكُمْ بِمَا كَانَ قَبْلَكُم وَمَا هُو كَائِنٌ بَعْدَكُم، اسْتَقِيمُوا وَسَدِّدُوا، فإنَّ الله عَزَّ وَجَلَّ لاَ يَعْبأُ بِعَذِابِكُم شَيْئاً، وَسَيأتِى اللهُ بِقَوْمٍ لا يَدْفَعُونَ عَنْ أَنْفْسِهِم شيئاً). قال ابن إسحاق: وأصبح الناسُ ولا ماء معهم، فَشكَوْا ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فدعا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، فأرسلَ الله سُبحانه سحابةً، فأمطرت حتى ارتوى الناسُ، واحتملُوا حاجَتهم من الماء. ثم إنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم سار حتى إذا كان ببعضِ الطريق، ضلَّت ناقتُه، فقال زيد بن اللُّصَيْتِ وكان منافقاً : أليس يزعُمُ أنه نبى، ويُخبركم عن خبر السماء، وهو لا يدرى أين ناقتُه؟ فقال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: (إنَّ رَجُلاً يَقُولُ، وذَكَرَ مَقَالَتَهُ، وإنِّى والله لا أعْلَمُ إلاَّ ما عَلَّمنى اللهُ، وقَدْ دَلَّنى اللهُ عَلَيْهَا، وهى في الوَادى في شِعْبِ كَذا وكَذَا، وقَدْ حَبَسَتْها شَجَرَةٌ بِزِمَامِها، فانْطَلِقُوا حَتَّى تَأْتونى بها) فذهبوا فأَتَوْهُ بها .وفى طريقه تلك خَرَصَ حديقة المرأة بعشرة أوسق . ثم مضى رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، فجعل يتخلَّف عنه الرجلُ فيقولون: تخلَّف فلان، فيقول: (دَعُوه فإنْ يَكُ فِيهِ خَيْرٌ، فَسَيُلْحِقُهُ اللهُ بِكُم، وإنْ يَكُ غَيْرَ ذلِكَ، فَقَد أرَاحَكُمُ اللهُ مِنْهُ). وتلوَّم على أبى ذَرٍ بعيرُه، فلما أبطأ عليه، أخذ متاعه على ظهره، ثم خرج يتبعُ أثر رسول الله صلى الله عليه وسلم ماشياً، ونزل رسولُ الله صلى الله عليه وسلم في بعض منازله، فنظر ناظر مِن المسلمين فقال: يا رسولَ الله؛ إنَّ هذا الرجل يمشى على الطريق وحدَه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (كُنْ أبَا ذَرٍ)، فلما تأمله القومُ، قالوا: يا رسول الله؛ واللهِ هو أبو ذر. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (رَحِمَ اللهُ أبا ذَرٍ؛ يَمْشِى وَحْدَهُ، ويَمُوتُ وَحْدَهُ، ويُبْعَثُ وحْدَهُ). قال ابن إسحاق: فحدَّثنى بريدة بن سفيان الأسلمى، عن محمد بن كعب القُرظى، عن عبد الله بن مسعود قال: لما نفى عثمانُ أبا ذر إلى الرَّبذَةِ، وأصابه بها قَدَرُه، لم يكن معه أحدٌ إلا امرأتُه وغلامُه، فأوصاهما: أن غَسِّلانى وكَفِّنانى، ثم ضعانى على قارعة الطريق، فأوَّل رَكْب يمرُّ بكم فقولُوا: هذا أبو ذر صاحبُ رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأعينونا على دفنه، فلما مات، فعلا ذلك به، ثم وضعاه على قارعة الطريق، وأقبل عبدُ الله بن مسعود في رهط معه من أهل العِراق عُمَّاراً فلم يَرُعْهُمْ إلا بالجِنازة على ظهر الطَّريق قد كادت الإبلُ تَطَؤُها، وقام إليهم الغلام، فقال: هذا أبو ذر صاحبُ رسول الله صلى الله عليه وسلم فأعينونا على دفنه، قال: فاستهلَّ عبدُ الله يبكى ويقول: صدقَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: (تَمْشِى وَحْدَكَ، وتَمُوتُ وَحْدَكَ، وتُبْعَثُ وَحْدَكَ)، ثم نزل هو وأصحابه، فوارَوْه، ثم حَدَّثهم عبدُ الله بن مسعود حديثه، وما قال له رسولُ الله صلى الله عليه وسلم في مسيره إلى تَبُوك. قلت: وفى هذه القصة نظر، فقد ذكر أبو حاتم بن حبان في (صحيحه) وغيره في قصة وفاته، عن مجاهد، عن إبراهيم بن الأشتر، عن أبيه، عن أُم ذر، قالت: لما حضرت أبا ذَر الوفاةُ، بَكَيْتُ، فقال: ما يُبكيكِ؟ فقلت: ما لى لا أبكى، وأنت تموتُ بفَلاة من الأرض، وليس عندى ثوبٌ يسعُك كفَناً، ولا يدان لى في تغييبك؟ قال: أبشرى ولا تبكى، فإنى سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لنَفَرٍ أنا فيهم: (لَيَمُوتَنَّ رَجُلٌ منكم بِفلاةٍ مِنَ الأرض يَشْهَدُه عِصَابةٌ من المُسْلمين) وليس أحَدٌ من أولئِكَ النَّفَرِ إلا وقد مات في قريةٍ وجمَاعةٍ، فأنا ذلِكَ الرَّجُلُ، فواللهِ ما كَذَبْتُ ولا كُذِبْتُ، فأبصرى الطريق، فقُلت: أنَّى وقد ذهب الحاجُّ، وتقطعت الطُّرُقُ؟، فقال: اذهبى فتبصَّرى. قالت: فكنتُ أُسنِدُ إلى الكَثِيبِ أتبصَّر، ثم أرجع فأُمرِّضه، فبينا أنا وهو كذلك، إذ أنا برجال على رِحالهم كأنهم الرَّخَمُ تَخُبُّ بهم رواحِلُهم، قالت: فأشَرتُ إليهم، فأسرعوا إلىَّ حَتى وقفُوا علىَّ فقالوا: يا أَمةَ الله؛ مالك؟ قلت: امرؤ من المسلمين يَمُوت تُكفنونه. قالوا: ومَن هو؟ قلت: أبو ذر. قالوا: صاحِبُ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم؟ قلت: نعم، ففدَّوْه بآبائهم وأُمهاتِهم، وأسرعوا إليه حتى دخلوا عليه، فقال لهم: أبشِروا فإنى سـمعتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يقول لنَفَر أنا فيهم: (لَيَمُوتَنَّ رَجُلٌ منكم بِفَلاةٍ مِن الأرضِ يَشْهَدُه عِصَابةٌ من المؤمنين) وَلَيْسَ مِنْ أُولئِكَ النَّفَرِ رَجُلٌ إلاَّ وقد هَلَكَ في جَمَاعَةٍ، واللهِ ما كَذَبْتُ ولاَ كُذِبْتُ، إنه لو كان عندى ثوبٌ يسعُنى كفناً لى أو لامرأتى، لم أكُفَّن إلا في ثوب هُوَ لى أو لها، فإنى أنشُدُكُم الله أن لا يكفِّنَنى رجل منكم كان أميراً، أو عريفاً، أو بريداً، أو نقيباً، وليس من أولئك النَّفَر أحد إلا وقد قارفَ بعضَ ما قال إلا فتًى من الأنصار قال: أنا يا عمُّ، أُكَفِّنُك في ردائى هذا، وفى ثوبين مِن عَيبتى من غزل أُمى. قال: أنتَ فكفِّنى، فكفَّنه الأنصارى، وقاموا عليه، ودفنوه في نَفَر كُلُّهم يمان. رجعنا إلى قصة تبوك: وقد كان رهطٌ من المنافقين، منهم: وديعة بن ثابت أخو بنى عَمْرو بن عَوْف، ومنهم رجل مِن أشجع حليف لبنى سلمة يقال له: مَخْشى بن حُمَيِّر، قال بعضهم لبعضٍ: أتحسبون جلاد بنى الأصفر، كقتال العرب بَعضِهم لبعض؟ واللهِ لكأنَّا بكم غداً مقرَّنين في الحِبال، إرجافاً وترهيباً للمؤمنين. فقال مَخْشِى بن حُمَيِّر: واللهِ لودِدت أنى أُقَاضَى على أن يُضرب كُل منا مائةَ جَلدة، وإنَّا ننفلِتُ أن ينزل فينا قرآن لمقالتكم هذه. وقال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم لعمَّار بن ياسر: (أدْرِك القَوْمَ، فإنهم قد احْتَرَقُوا فَسَلْهُم عَمَّا قالوا؟ فإن أنكروا، فَقُلْ: بل قُلتُم: كذا وكذا). فانطلق إليهم عمَّار، فقال لهم ذلك، فأتوا رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يعتذِرُون إليه، فقال وديعة بن ثاب: كنا نخوضُ ونلعبُ، فأنزل الله فيهم: وذكر ابن عائذ في (مغازيه)، أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم نزل تَبُوكَ في زمان قلَّ ماؤُها فيه، فاغترف رسولُ الله صلى الله عليه وسلم غَرفةً بيده من ماء، فمضمض بها فاه، ثم بصقه فيها، ففارت عينُها حتى امتلأت، فهى كذلك حتى الساعة. قلت: في (صحيح مسلم) أنه قال قبل وصوله إليها: (إنَّكُم سَتَأتُونَ غداً إنْ شَاءَ اللهُ تَعَالى عَيْنَ تَبُوك، وإنَّكُم لَنْ تَأْتُوها حَتَّى يُضْحِىَ النَّهارُ، فمَن جَاءَهَا فلا يَمَسنَّ مِنْ مائِها شيئاً حتى آتى). قال: فجئناها وقَدْ سَبَق إليها رَجُلانِ، والعَيْن مِثْلُ الشِّرَاكِ تًبِضُّ بشئ من ماءٍ، فسألهما رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: (هل مَسَسْتُما مِن مائها شيئاً)؟ قالا: نَعم، فسبَّهُمَا النبى صلى الله عليه وسلم، وقال لهما ما شاء اللهُ أن يقول، ثُمَّ غرفُوا مِن العَيْن قليلاً قليلاً حتى اجتمع في شئ، وغسل رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه وجهَه ويَدَيْه، ثم أعاده فيها، فجرت العين بماء مُنْهمِرٍ، حتى استقى النَّاسُ، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يُوشِكُ يا مُعاذُ إن طالتْ بكَ حَياةٌ أن ترى ما هاهنا قدْ مُلِئ جِنَاناً). ولما انتهى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى تَبُوك، أتاه صاحبُ أَيْلَة، فصالحَه وأعطاه الجزيةَ، وأتاه أهل جَرْبا، وأذْرُح، فأعطَوْه الجزيَة، وكتب لهم رسولُ الله صلى الله عليه وسلم كتاباً، فهو عِندهم، وكتب لِصاحب أَيْلة: (بسم الله الرحمن الرحيم، هذا أَمَنَةٌ مِن الله، ومحمد النبى رسول الله لِيُحَنَّةَ بن رُؤْبَةَ، وأهلِ أَيْلَة، سُفنهم، وسيارتهم في البرِّ والبحرِ، لهم ذِمةُ اللهِ، ومحمد النبى، ومَنْ كان معهم مِن أهل الشام، وأهل اليمن، وأهل البحر، فمَن أحدث منهم حَدَثاً، فإنه لا يَحولُ مالُه دونَ نفسه، وإنَّه لمن أخذه مِن الناس، وإنه لا يحِلُّ أن يُمنعوا ماءً يردونه، ولا طريقاً يردونه من بَحْرٍ أو بَرٍّ) . قال ابن إسحاق: ثم إنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث خالد بن الوليد إلى أُكَيْدر دُومة، وهو أُكَيْدر بن عبد الملِك، رجل مِن كِندة، وكان نصرانياً، وكان ملكاً عليها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لخالد: (إنَّكَ سَتجِدُه يَصِيدُ البَقَرَ)، فخرجَ خالد حتى إذا كان مِن حصنه بمنظر العَيْن، وفى ليلة مُقمرة صَافية، وهو على سطـح له، ومعه امرأته، فباتَتِ البقرُ تَحُكُّ بِقُرونها بابَ القصر، فقالتْ له امرأتُه: هل رأيتَ مثل هذا قطُّ؟ قال: لا واللهِ. قالت: فمَن يترك هذه؟ قال: لا أحد، فنزل، فأمر بفرسه، فأُسرجَ له، وركب معه نَفَر مِن أهل بيته فيهم أخ له يقال له: حسَّان، فركب وخرجُوا معه بمطاردهم، فلما خرجُوا، تلقَّتهم خيلُ رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخذته، وقتلوا أخاه، وقد كان عليه قَباء مِن دِيباج مخوَّصٌ بالذهب، فاستلبه خالد، فبعثَ به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قبلَ قدومه عليه، ثم إن خالداً قدم بأُكَيْدر على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فحقن له دَمَه، وصالحه على الجزية، ثم خلَّى سبيله، فرجع إلى قريته. وقال ابنُ سعد: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم خالداً في أربعمائة وعشرين فارساً، فذكر نحو ما تقدَّم. قال: وأجار خالد أُكَيْدر من القتل حتى يأتىَ به رسولَ الله صلى الله عليه وسلم، على أن يَفتح له دُومة الجندل، ففعلَ وصالحه على ألفى بعير، وثمانمائة رأس، وأربعمائة دِرع، وأربعمائة رُمح، فعزل للنبىِّ صلى الله عليه وسلم صَفِيَّهُ خالِصاً، ثم قسم الغنيمة، فأخرج الخُمس، فكان للنبى صلى الله عليه وسلم، ثم قسم ما بقى في أصحابه، فصار لِكل واحد منهم خَمْسُ فرائض. وذكر ابنُ عائذ في هذا الخبر، أنَّ أُكَيْدر قال عن البقر: واللهِ ما رأيتها قط أتتنا إلا البارحة، ولقد كنتُ أُضْمِرُ لها اليومينِ والثلاثة، ولكن قدر الله. قال موسى بن عُقبة: واجتمع أُكَيْدر، ويُحَنَّة عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فدعاهما إلى الإسلام، فأبيا، وأقرا بالجزية، فقاضاهما رسولُ الله صلى الله عليه وسلم على قضية دُومة، وعلى تَبوك، وعلى أَيْلَة، وعلى تيماء، وكتب لهما كتاباً. رجعنا إلى قصة تبوك: قال ابن إسحاق: فأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بتَبُوك بِضعَ عشرة ليلةً لم يُجاوزها، ثم انصرف قافلاً إلى المدينة، وكان في الطريق ماء يخرج من وَشَل يُروى الراكبَ والراكبين والثلاثة، بوادٍ يقال له: وادى المُشَقَّق، فقال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: (مَنْ سَبَقَنَا إلى ذلِك المَاءِ، فَلاَ يَسْتَقِينَّ منه شَيْئاً حَتَّى نأتيه) قال: فسبقه إليه نَفَر من المنافقين، فاستَقَوْا، فلم ير فيه شـيئاً، فقال: (مَنْ سَبَقَنَا إلى هذَا المَاءِ)؟ فقيل له: يا رسول الله؛ فلان وفلان. فقال: (أوَ لَمْ أَنْهَهُم أَنْ يَسْتَقُوا مِنْهُ شَيْئاً حَتَّى آتيَه)، ثم لَعَنهم رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، ودعا عليهم، ثم نَزَل فوضع يده تحتَ الوشل، فجعل يَصُبُّ في يده ما شاء الله أن يَصُبَّ، ثم نَضَحه به، ومسحه بيده، ودعا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بما شاء الله أن يدعوَ به، فانخرق مِن الماءكما يقول مَن سمعه ما إن له حِسّاً كحِسِّ الصواعِق، فشرب الناسُ، واستقوا حاجتهم منه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لَئِنْ بَقِيتُم أوْ مَنْ بَقِىَ مِنْكُم لَيَسْمَعَنَّ بهذا الوادى، وهُوَ أخْصَبُ مَا بين يَدَيْهِ ومَا خلفه). قلت: ثبت في (صحيح مسلم) أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لهم: (إنَّكُم سَتَأْتُونَ غَداً إنْ شَاءَ اللهُ عَيْنَ تَبُوك، وإنَّكُم لَنْ تَأْتُوها حَتَّى يُضْحِى النّهارُ، فَمَنْ جَاءَهَا فَلاَ يَمسَّ مِنْ مَائِها شَيئاً).... الحديث، وقد تقدَّم.فإن كانت القصة واحدة، فالمحفوظُ حديث مسلم، وإن كانت قصتين، فهو ممكن. قال: وحدَّثنى محمد بن إبراهيم بن الحارث التيمى، أن عبدَ اللهِ ابن مسعود كان يُحَدِّثُ، قال: قُمت مِن جوفِ الليل، وأنا معَ رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوةِ تَبُوكَ، فرأيت شُعلةً من نار في ناحية العسكر، فاتَّبَعْتُها أنظُرُ إليها، فإذا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، وأبو بكر، وعمر، وإذا عبدُ الله ذو البِجادَيْنِ المزنى قد مات، وإذا هم قد حفروا له، ورسولُ الله صلى الله عليه وسلم في حُفرته، وأبو بكر وعمر يُدليانه إليه، وهو يقول: (أدنيا إلىَّ أخاكما)، فدلياه إليه، فلما هيأه لشقه، قال: (اللَّهُمَّ إنِّى قَدْ أَمْسَيْتُ رَاضِياً عَنْهُ، فَارْضَ عَنْهُ)، قال: يقولُ عبد الله بن مسعود: ياليتنى كنتُ صاحِبَ الحُفرة. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم مَرْجعَه مِن غزوة تَبُوك: (إنَّ بالمَدِينَةِ لأَقْواماً ما سِرْتُم مَسيراً، ولا قَطَعْتُمْ وادياً إلاَّ كَانُوا مَعَكُم) قالوا: يا رسول الله؛ وهُمْ بالمدينة؟ قال: (نَعَمْ حَبَسَهُم العُذْرُ). ذكر البيهقى في (الدلائل)، والحاكم من حديث عُقبة بن عامر، قال: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تَبُوك، فاسترقد رسولُ الله صلى الله عليه وسلم ليلة لمَّا كان منها عَلَى ليلة، فلم يستيقِظ فيها حتَّى كانت الشمسُ قِيدَ رُمـح قال: (أَلَمْ أَقُلْ لَكَ يَا بِلالُ اكْلأ لَنا الفَجْرَ)، فقال: يا رسول اللهِ؛ ذهب بى من النومِ الذي ذَهَبَ بك، فانتقلَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم من ذلكَ المنزل غيرَ بعيد، ثم صلَّى، ثم ذهب بقِيةَ يومه وليلته، فأصبح بتَبُوكَ، فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهلُه، ثم قال: (أمَّا بَعْدُ.. فَإنَّ أَصْدَقَ الحَدِيثِ كِتَابُ اللهِ، وأَوْثَقُ العُرَى كَلِمَةُ التَّقْوَى، وَخَيْرُ المِلَل مِلَّةُ إبراهيمَ، وخَيْرُ السَّنَنِ سُـنَّةُ مُحَمَّدٍ، وأَشْرَفُ الحَدِيثِ ذِكْرُ اللهِ، وأَحْسَنُ القَصَصِ هذا القُرآنُ، وخَيْرُ الأُمُورِ عَوَازِمُها، وَشَرُّ الأُمُور مُحْدَثَاتُها، وأَحْسَنُ الهَدْى هَدْىُ الأَنْبِيَاءِ، وأَشْرَفُ المْوتِ قَتْلُ الشُّهَداءِ، وأَعْمَى العَمَى الضَّلالةُ بَعْدَ الهُدَى، وخَيْرُ الأعْمَالِ مَا نَفَعَ، وخَيْرُ الهُدى ما أتُّبعَ، وشرُّ العَمَى عَمَى القَلْبِ، واليَدُ العُلْيَا خَيْرٌ مِنَ اليَدِ السُّفْلَى، ومَا قَلَّ وكَفَى خَيْرٌ مِمَّا كَثُرَ وَأَلْهَى، وشَرُّ المَعْذِرَةِ حِينَ يَحْضُرُ المَوْت، وشَرُّ النَّدامَةِ يَوْمَ القِيَامَةِ، ومِنَ النَّاسِ مَنْ لاَ يأْتى الجُمُعَةَ إلا دُبُراً، ومِنْهُم مَنْ لاَ يَذْكُرُ اللهَ إلا هُجْراً، ومنْ أَعْظَم الخَطَايَا اللِّسانُ الكَذَّابُ، وخَيْرُ الغِنى غِنى النَّفْسِ، وَخَيْرُ الزَّادِ التَّقْوى، وَرَأْسُ الحُكْمِ مَخَافَةُ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، وخَيْرُ مَا وَقَرَ في القُلوبِ اليَقِينُ، والارْتيابُ مِنَ الكُفْرِ، والنِّياحَةُ مِنْ عَمَلِ الجَاهِلِيَّةِ، وَالغُلُولُ مِنْ جُثا جَهَنَّمَ، والسُّكْر كَىٌ مِنَ النَّارِ، والشِّعْرُ مِنْ إبْلِيسَ، والخَمْرُ جماعُ الإثْمِ، وشَرُّ المَأْكَلِ مَالُ اليَتِيمِ، والسَّعِيدُ مَنْ وُعِظَ بِغَيْرِه، والشَّقِىُّ مَنْ شَقى في بَطْنِ أُمِّهِ، وإنَّما يَصِيرُ أَحَدُكُم إلى مَوْضِع أَرْبَعَةِ أَذْرُعٍ، والأَمْرُ إلى الآخِرَةِ، ومَلاكُ العَمَلِ خَوَاتِمُهُ، وشرُّ الرَّوَايا رَوَايا الكَذِب، وكُلُّ مَا هُوَ آتٍ قَرِيبٌ، وسِبَابُ المُؤْمِنِ فُسوقٌ، وقِتَالُه كُفْرٌ، وأَكْلُ لَحْمِهِ مِنْ مَعْصِيَةِ اللهِ، وَحُرْمَةُ مَالِهِ كَحُرْمَةِ دَمِهِ، ومَنْ يتألَّ عَلى اللهِ يُكَذِّبْه، ومَنْ يَغْفِرْ يُغْفَرْ لَه، ومَنْ يَعْفُ، يَعْفُ اللهُ عَنْهُ، ومَنْ يَكْظِم الغَيْظَ يَأْجُرْهُ اللهُ، ومَنْ يَصْبِرْ عَلى الرَّزِيِّةِ يُعَوِّضه اللهُ، ومَنْ يَبْتَغِ السُّمْعَةَ، يُسَمِّع اللهُ بِهِ، ومَنْ يَتَصَبَّر، يُضْعِفِ اللهُ لَهُ، ومَنْ يَعْصِ اللهَ يُعَذِّبْه الله).. ثم استغفر ثلاثاً. وذكر أبو داود في (سننه) من حديث ابن وهب: أخبرنى معاويةُ، عن سعيد بن غَزوان، عن أبيه أنه نزلَ بتَبُوك، وهو حاجٍ، فإذا رجلٌ مُقْعَدٌ، فسألتُه عن أمره، قال: سأُحدِّثُك حديثاً، فلا تُحَدِّثْ به ما سمعتَ أنِّى حَىٌ: إنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم نزلَ بتَبُوكَ إلى نخلة، فقال: (هذِهِ قِبْلَتُنا)، ثم صلَّى إليهَا، قال: فأقبلتُ وأنا غلامٌ أسعى، حتى مررتُ بينه وبينها، فقال: (قطَع صلاتَنا، قطعَ الله أثَرَه)، قال: فما قُمتُ عليهما إلى يومى هذا. ثم ساقه أبو داود من طريق وكيع، عن سعيد بن عبد العزيز، عن مولى ليزيد بن نمران، عن يزيد بن نِمران، قال: رأيت رجلاً بتَبُوك مقعداً، فقال: مررتُ بين يدىْ رسول الله صلى الله عليه وسلم على حمار وهو يُصلِّى، فقال: (اللَّهُمَّ اقْطَعْ أَثَرَهُ)، فما مشيتُ عليهما بعد. وفى هذا الإسناد والذي قبله ضعف. قال أبو داود: حدثنا قُتيبة بن سعيد، حدثنا اللَّيث، عن يزيد بن أبى حبيب، عن أبى الطفيلِ، عن عامِر بن واثلة، عن معاذ بن جَبل، أن النبىَّ صلى الله عليه وسلم كان في غزوةِ تَبُوك إذا ارتحل قبلَ أن تَزِيغَ الشَّمسُ، أَخَّرَ الظُّهر حتى يجمعها إلى العصر، فيُصَلِّيهما جميعاً، وإذا ارتحل قَبْلَ المغرب، أخَّرَ المغربَ حتَّى يُصلىها مع العِشاء، وإذا ارتحلَ بعد المغرب، عَجَّلَ العِشاء، فصلاها مع المغرب. وقال الترمذى: (إذَا ارْتَحَلَ بَعْدَ زَيْغِ الشَّمْسِ، عَجَّلَ العَصْرَ إلى الظُّهْرِ وَصَلَّى الظُّهْرَ والعَصْرَ جَمِيعاً)، وقال: حديثٌ حسن غريب. وقال أبو داود: هذا حديثٌ مُنكر، وليس في تقديمِ الوقتِ حديثٌ قائِم. وقال أبو محمد بن حزم: لا يَعْلَمُ أحدٌ مِن أصحابِ الحديثِ ليزيد بنِ أبى حبيب سماعاً مِن أبى الطُّفَيْل. وقال الحاكم في حديث أبى الطُّفَيْل هذا: هو حديثٌ رواتُه أئمة ثقات، وهو شاذ الإسناد والمتن، لا نعرِف له عِلَّة نُعلِّله بها، فنظرنا فإذا الحديث موضوع، وذكر عن البخارى: قلت لقُتيبة بن سعيد: مع مَن كتبتَ عن اللَّيث حديثَ يزيد بن أبى حبيب عن أبى الطُّفَيْل؟ قال: كتَبتُه مع خالد المدائنى، وكان خالد المدائنى يُدخل الأحاديثَ على الشيوخ. ورواه أبو داود أيضاً: حدَّثنا يزيد بن خالد بن يزيد بن عبد الله بن موهب الرَّملى، حدثنا مفضَّل بن فضالة، واللَّيث ابن سعد، عن هِشام بن سعد، عن أبى الزُّبير، عن أبى الطُّفَيْل، عن معاذ بن جبل: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان في غزوة تَبُوكَ إذا زاغَت الشَّمسُ قبل أن يرتَحِلَ جمعَ بين الظُّهر والعصر، وفى المغرب مِثْلَ ذلك: إن غابَتِ الشَّمسُ قبل أن يرتَحِلَ، جمع بينَ المغربِ والعِشاء، وإن ارتحل قبل أن تَغِيبَ الشمسُ، أخَّرَ المغرب حتَّى يَنْزِلَ لِلعِشَاءِ، ثم يجمَع بينهما. وهِشام بن سعد: ضعيف عندهم، ضعَّفه الإمام أحمد، وابنُ معين، وأبو حاتم، وأبو زُرعة، ويحيى بن سعيد، وكان لا يُحدِّث عنه، وضعَّفه النسائىُّ أيضاً، وقال أبو بكر البزَّار: لم أر أحداً توقَّف عن حديث هِشام ابن سعد، ولا اعتلَّ عليه بعِلَّة تُوجب التوقف عنه، وقال أبو داود: حديث المفضَّل واللَّيث حديث منكر. ذكر أبو الأسود في (مغازيه) عن عُرْوَة قال: ورجع رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم قافلاً مِن تَبُوك إلى المدينة، حتى إذا كان ببعض الطريق، مكر برسولِ الله صلى الله عليه وسلم ناسٌ من المنافقين، فتآمرُوا أن يطرحُوه من رأسِ عَقَبَةٍ في الطريق، فلما بلغوا العقبة، أرادوا أن يسلكُوها معه، فلما غشيَهم رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، أُخبر خبرهم، فقال: (مَنْ شَاءَ مِنْكُم أَنْ يَأْخُذَ بِبَطْنِ الوَادِى، فإنَّه أَوْسَعُ لَكُمْ) وأَخذ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم العَقَبة، وأخذ الناسُ ببطن الوادى إلا النَّفَرَ الذين هَمُّوا بالمكر برسول الله صلى الله عليه وسلم، لما سمعوا بذلك، استعدُّوا وتلثَّموا، وقد همُّوا بأمر عظيم، وأمر رسُولُ الله صلى الله عليه وسلم حُذيفةَ بنَ اليمان، وعمَّارَ بن ياسر، فمشيا معه، وأمر عمَّاراً أن يأخذ بزِمام الناقة، وأمر حُذيفة أن يسوقها، فبينا هُم يسيرون، إذ سمعوا وكزة القومِ مِن ورائهم قد غَشَوْه، فَغَضِبَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، وأمر حُذيفة أن يردهم، وأبصرَ حذيفة غضبَ رسول الله صلى الله عليه وسلم، فرجع ومعه مِحجن، واستقبل وجوهَ رواحلهم، فضربها ضرباً بالمحجن، وأبصرَ القومَ، وهم متلثِّمون، ولا يشعرُ إلا أن ذلك فعل المسافر، فأرعبهم اللهُ سبحانه حين أبصروا حُذيفة، وظنوا أنَّ مكرهم قد ظهر عليه، فأسرعُوا حتى خالَطُوا الناسَ، وأقبل حُذيفة حتى أدرك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما أدركه، قال: (اضْرِب الرَّاحِلَة يا حُذَيْفَة، وامْشِ أنْتَ ياعَمَّارُ)، فأسرعوا حتى استووا بِأَعْلاها، فخرجوا من العَقَبَةِ ينتظرون الناسَ، فقال النبى صلى الله عليه وسلم لحذيفَة: (هَلْ عَرَفْتَ مِنْ هؤُلاءِ الرَّهْطِ أو الرَّكْبِ أحَداً)؟ قال حُذيفة: عرفتُ راحِلة فلان وفلان، وقال: كانت ظلمة الليل، وغشيتُهم، وهم متلثِّمون، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (هل عَلِمْتُم ما كانَ شأن الرَّكْبِ وما أرادوا)؟ قالوا: لا واللهِ يا رسول الله، قال: (فإنهم مَكَرُوا لِيَسِيرُوا مَعِى، حَتَّى إذا اطَّلعتُ في العَقَبَةِ طَرحُونى منها) قالوا: أَوَ لا تأمُرُ بهم يا رسول الله إذاً، فنضرِبَ أعناقهم، قال: (أكره أن يتحدَّث الناسُ ويقولوا: إنَّ محمداً قد وضع يده في أصحابه)، فسماهم لهما، وقال:(اكتماهم) وقال ابن إسحاق في هذه القصة: (إنَّ الله قد أخبرنى بأسمائهم، وأسماء آبائهم، وسأُخبِرُك بهم إن شاء الله غداً عند وجه الصبح، فانطلِقْ حتى إذا اصبَحْت، فاجمعهم)، فلما أصبح قال: (ادع عبد الله بن أُبَىّ، وسعد بن أبى سرح، وأبا خاطر الأعرابى، وعامراً، وأبا عامر، والجُلاس بن سويد ابن الصامت، وهو الذي قال: لا ننتهى حتى نرمى محمداً مِن العَقَبَةِ الليلة، وإن كان محمد وأصحابُه خيراً منا، إنا إذاً لغنم وهو الراعى، ولا عقل لنا وهو العاقِل، وأمره أن يدعُوَ مجمع بن حارثة، ومليحاً التيمى، وهو الذي سرق طِيبَ الكعبة، وارتدَّ عن الإسلام، وانطلق هارِباً في الأرض، فلا يُدْرى أين ذهب، وأمره أن يدعوَ حِصن بن نمير الذي أغار على تمر الصدقة فسرقه، وقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: (وَيْحَكَ، ما حَمَلَكَ عَلَى هذَا)؟ فقال: حملنى عليه أنى ظننتُ أنَّ الله لا يُطلعك عليه، فأما إذا أطلعك الله عليه، وعلمتَه، فأنا أشهد اليوم أنك رسُولُ الله، وإنى لم أُؤمن بك قطُّ قبل هذه الساعة، فأقال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم عثرَته، وعفا عنه، وأمره أن يدعو طُعيمة بن أبيرق، وعبدَ الله ابن عُيينة، وهو الذي قال لأصحابه: اسهرُوا هذه الليلة تسلمُوا الدهرَ كُلَّه، فواللهِ ما لكم أمر دون أن تقتلُوا هذا الرجل، فدعاه فقال: (وَيْحَكَ، مَا كَانَ يَنْفَعُكَ مِنْ قَتْلى لَوْ أنِّى قُتِلْتُ)؟ فقال عبد الله: فواللهِ يا رسولَ الله لا نزالُ بخير ما أعطاك الله النصرَ على عدوِّك، إنما نحن باللهِ وبِكَ، فتركه رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، وقال: (ادعُ مُرَّة بن الربيع)، وهو الذي قال: نقتل الواحد الفرد، فيكون الناسُ عامةً بقتله مطمئنين، فدعاه رسولُ الله صلى الله عليه وسلم فقال: (وَيْحَكَ، مَا حَمَلَكَ عَلى أنْ تَقُولَ الذي قُلْتَ)؟ فقال: يا رسولَ الله؛ إن كنتُ قلتُ شيئاً من ذلك إنك لعالِم بهِ، وما قلتُ شيئاً من ذلك، فجمعهم رسولُ الله صلى الله عليه وسلم وهم اثنا عشر رجلاً الذين حاربُوا اللهَ ورسولَه وأرادوا قتله، فأخبرهم رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بقولهم، ومنطقهم، وسرهم، وعلانيتهم، وأطلعَ اللهُ سبحانه نبيه على ذلك بعلمه، ومات الاثنا عشر منافقين محاربين للهِ ولرسوله، وذلك قوله عَزَّ وَجَلَّ: قلت: وفى سياق ما ذكره ابن إسحاق وَهْمٌ من وجوه: أحدُها: أنَّ النبىَّ صلى الله عليه وسلم أسرَّ إلى حُذيفة أسماء أُولئك المنافقين، ولم يُطلع عليهم أحداً غيره، وبذلك كان يُقال لحذيفة: إنه صاحِبُ السِّرِّ الذي لا يعلمهُ غيرُه، ولم يكن عمر، ولا غيرُه يعلمُ أسماءهم، وكان إذا مات الرجل وشكُّوا فيه، يقول عمر: انظروا، فإن صلَّى عليه حذيفة، وإلا فهو منافق منهم. الثانى: ما ذكرناه من قوله: فيهم عبد الله بن أُبَىّ، وهو وَهْمٌ ظاهر، وقد ذكر ابن إسحاق نفسه، أنَّ عبد الله بن أُبَىِّ تخلَّف في غزوة تبوك. الثالث: أن قوله: وسعد بن أبى سرح وَهْمٌ أيضاً، وخطأ ظاهرٌ، فإن سعد ابن أبى سرح لم يُعرف له إسلام ألبتة، وإنما ابنُه عبد الله كان قد أسلم وهاجر، ثم ارتدَّ ولَحِقَ بمكة، حتى استأمن له عثمانُ النبىَّ صلى الله عليه وسلم عام الفتح، فأمَّنه وأسلم، فَحَسُنَ إسلامُه، ولم يظهر منه بعد ذلك شئ يُنكر عليه، ولم يكن مع هؤلاء الاثنى عشر ألبتة، فما أدرى ما هذا الخطأ الفاحش. الرابع: قوله: وكان أبو عامر رأسَهم، وهذا وَهْمٌ ظاهر لا يخفى على مَنْ دونَ ابن إسحاق، بل هو نفسُه قد ذكر قِصة أبى عامر هذا في قصة الهجرة، عن عاصم بن عمر بن قتادة، أن أبا عامر لما هاجر رسولُ الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، خرجَ إلى مكة ببضعَة عشرَ رجلاً، فلما افتتح رسولُ الله صلى الله عليه وسلم مكة، خرج إلى الطائف، فلما أسلم أهلُ الطائف، خرج إلى الشام، فمات بها طريداً وحيداً غريباً، فأين كان الفاسقُ وغزوة تَبُوك ذهاباً وإياباً. وأقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم مِنْ تَبُوك، حتى نزل بذى أوَان، وبينها وبين المدينة ساعة، وكان أصحابُ مسجد الضِّرار أتَوْه وهو يتجهَّز إلى تَبُوك، فقالوا: يا رسولَ الله ؛ إنَّا قد بنينا مسجداً لِذى العِلَّة والحاجة، واللَّيلة المطيرة الشاتية، وإنَّا نُحِبُّ أن تأتيَنا فتُصَلِّىَ لنا فيه، فقال: (إنِّى عَلى جَناح سَفَر، وحَالِ شُغْلٍ، وَلَوْ قَدِمْنا إنْ شَاءَ اللهُ لأَتَيْنَاكُم فَصَلَّيْنَا لَكُم فيه)، فلما نزل بذى أوانَ جاءه خبرُ المسجد من السماء، فدَعا مالك بن الدُّخْشم أخا بنى سلمة بن عوف، ومَعن بن عدى العجلانى، فقال: (انطلقا إلى هذا المسجدِ الظالِمِ أهلُه، فاهدِماه، وحرِّقاه، فخرجا مُسرعَين، حتى أتيا بنى سالم بن عوف، وهم رهطُ مالك بن الدُّخشم، فقال مالك لمعن: أنْظِرْنى حتى أخرُج إليك بنارٍ مِن أهلى، ودخل إلى أهله، فأخذ سعفاً من النخل، فأشعل فيه ناراً، ثم خرجا يشتدَّان حتى دخلاه وفيه أهلُه، فحرقاه وهدماه، فتفَرَّقوا عنه، فأنزل الله فيه: وذكر ابن إسحاق الذين بنوه، وهم إثنا عشر رجلاً، منهم: ثعلبةُ بن حاطب . وذكر عثمان بن سعيد الدارمى: حدَّثنا عبد الله بن صالح، حدَّثنى معاوية بن صالح، عن علىّ بن أبى طلحة، عن ابن عباس في قوله: فلما دنا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم من المدينة، خرج الناس لتلقيه، وخرج النساءُ والصبيان والولائد يقلن: وَجَـبَ الشُّكْرُ عَلَيْنَا ** مَا دَعَــا للهِ دَاعِى وبعضُ الرواة يَهِمُ في هذا ويقولُ: إنما كان ذلك عند مقدَمِه إلى المدينة من مكةَ، وهو وَهْمٌ ظاهر، لأن ثنياتِ الوداع إنما هي من ناحية الشام، لا يراها القادِمُ من مكة إلى المدينة، ولا يمرُّ بها إلا إذا توجَّه إلى الشام، فلما أشرف على المدينة، قال: (هذِهِ طَابَةُ، وَهَذَا أُحُدٌ جَبَلٌ يُحِبُّنا ونُحِبُّه) . فلما دَخلَ قال العباسُ: يا رسول الله؛ ائذن لى أمتدِحك. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم (قل: لا يَفْضُض اللهُ فَاكَ) فقال: ثُـمَّ هَبَطْتَ البِلادَ لاَ بَشَـرٌ أَنْـ ** تَ وَلا مُضْغَــةٌ وَلاَ عَـلَقُ
بَلْ نُطْفَةٌ تَرْكَبُ السَّفِينَ وَقَدْ ** أَلْجَمَ نَسْــراً وَأَهْلَه الغَـرَقُ
تُنْقَلُ مِنْ صَالِبٍ إلى رَحِـمٍ إذَا ** مَضَى عَالَمٌ بَـدَا طَبَــقُ
حَتَّى احْتَوَى بَيْتُكَ المُهَيْمِنُ مِن ** خِنْدِفَ عَلْيَا تَحْتَها النُّطُـــقُ
وَأَنْتَ لمَّا وُلِدْتَ أَشْرَقَتِ الـ ** أرض وَضَاءَتْ بِنُورِكَ الأُفُــقُ
فَنَحْنُ في ذَلِك الضياءِ وَفى النْـ ** ـورِ وَسُبْلَ الرَّشَادِ نَخْــتَرِق ولما دخل رسولُ الله صلى الله عليه وسلم المدينَة، بدأ بالمسجد فصلَّى فيه ركعتين، ثم جلس للنَّاس، فجاءه المخلَّفون، فطفِقُوا يعتذِرون إليه، ويحلِفُون له، وكانوا بضعةً وثمانين رجلاً، فقبل منهم رسولُ الله صلى الله عليه وسلم علانيتهم، وبايعهم، واستغفر لهم، وَوَكَل سَرائِرَهم إلى الله، وجاءه كعبُ بنُ مالك، فلما سلَّم عليه، تبسم تبسُّمَ المُغْضَبِ، ثم قال له: (تعال). قال: فجئتُ أمشى حتى جلستُ بين يديه، فقال لى:(ماخَلَّفَكَ، ألم تَكُنْ قَدِ ابْتَعْتَ ظَهرَك)؟ فقلتُ: بَلَى إنى واللهِ لو جلستُ عندَ غيرِك من أهل الدنيا، لرأيتُ أن أخرُجَ مِن سخطه بعُذرٍ، ولقد أُعطِيتُ جدلاً، ولكنى واللهِ لقد عَلِمْتُ إن حدثتُك اليومَ حديثَ كذب تَرضى به علىَّ، ليوشِكَنَّ اللهُ أَن يُسْخِطَك عَلىَّ، ولئن حدَّثْتُكَ حَديثَ صِدقٍ، تَجِدُ علىَّ فيه، إنِّى لأرجُو فيه عفوَ اللهِ عنى، واللهِ ما كان لى مِن عذر، واللهِ ما كنتُ قَطُّ أقوى ولا أيسرَ مِنى حين تخلَّفتُ عنك. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أما هذَا فَقَدْ صَدَقَ، فقُم حتى يقضِىَ اللهُ فيك). فقمتُ، وثار رِجالٌ من بنى سلمة، فاتبعونى يُؤنِّبونى، فقالوا لى: واللهِ ما علمناكَ كنتَ أذنبتَ ذنباً قبلَ هذا، ولقد عَجَزْتَ ألا تكونَ اعتذرتَ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بما اعتذر إليه المخلَّفون، فقد كان كافيَك ذنبَك استغفارُ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم لك. قال: فواللهِ ما زالوا يُؤنبونى حتى أردتُ أن أرجع، فأكذِبَ نفسى، ثم قلتُ لهم: هل لقى هذا معى أحدٌ؟ قالوا: نعم رَجُلانِ قالا مِثْلَ ما قلتَ، فقيل لهما مثلَ ما قيل لك، فقلتُ: مَن هما؟ قالوا: مُرارة بنُ الربيع العامرى، وهِلالُ بنُ أُمية الواقفى، فذكروا لى رجلين صالِحين شهدا بدراً فيهما أُسوةٌ، فمضيتُ حين ذكروهما لى. ونهى رسولُ الله صلى الله عليه وسلم المسلمينَ عن كلامِنا أيُّها الثَّلاثَةُ مِن بين مَنْ تخلَّفَ عنه، فاجْتَنَبَنَا النَّاسُ، وتغيَّروا لنا، حتى تنكرت لى الأرضُ، فما هي بالتى أعرِفُ، فلبثنا على ذلك خمسينَ ليلةً، فأما صاحباى، فاستكانا وقعدا في بيوتِهما يَبكيانِ، وأما أنا فكنتُ أشبَّ القوم وأجلدَهم، فكنتُ أخرج، فأشهدُ الصلاةَ مع المسلمين، وأطوفُ في الأسواق، ولا يُكلِّمنى أحد، وآتى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأُسَلِّمُ عليه وهو في مجلسه بعد الصلاة، فأقول في نفسى: هل حرَّك شفتيه بردِّ السلام علىَّ أم لا؟ ثم أُصَلِّى قريباً منه، فأسارِقه النظر، فإذا أقبلتُ على صلاتى، أقبل إلىَّ، وإذا التفتُّ نحوه، أعرضَ عنى، حتى إذا طالَ علىَّ ذلك مِن جفوة المسلمين، مشيتُ حتى تسوَّرتُ جدار حائط أبى قتادة، وهو ابنُ عمى، وأحبُّ الناسِ إلىَّ، فسلَّمتُ عليه، فواللهِ ما ردَّ علىَّ السلامَ، فقلت: يا أبا قتادة؛ أنشدُك باللهِ، هل تعلَمُنى أُحِبُّ الله ورسولَه صلى الله عليه وسلم؟ فسكت، فعُدت، فناشدتُه، فسكت، فعُدت فناشدتُه، فقال: اللهُ ورَسُولُه أعلمُ، ففاضت عيناى، وتولّيتُ حتَّى تسورتُ الجِدَار. فبينا أنا أمشى بسوق المدينة، إذا نَبَطِى من أنباطِ الشام ممن قَدِمَ بالطعام يَبيعه بالمدينة يقولُ: مَنْ يدُلُّ على كعبِ بْنِ مالك، فطفِقَ الناسُ يُشِيرونَ لهُ حتَّى إذا جاءنى، دفع إلىَّ كتاباً من ملك غَسَّان، فإذا فيه: أما بعدُ.. فإنه بلغنى أن صاحبك قد جفاك، ولم يجعلك الله بدار هوان، ولا مضيعة، فالحق بنا نُواسِك. فَقُلْتُ لما قرأتها: وهذا أيضاً مِن البلاء، فتيممتُ بها التنور، فسجرتُها حتى إذا مضت أربعون ليلةً مِن الخمسين، إذا رسولُ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم يأتينى، فقال: إنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يأمُرُك أن تعتزِلَ امرأتَك، فقلتُ: أُطلقها أم ماذا؟ قال: لا ولكن اعتزلها ولا تقربْها، وأرسل إلى صاحبىَّ مثل ذلك، فقلتُ لامرأتى: الحقى بأهلك، فكونى عندهم حتى يَقْضِىَ اللهُ في هذا الأمر، فجاءت امرأةُ هلال بن أُمية، فقالت: يا رسول الله؛ إنَّ هلالَ بنَ أُمية شيخ ضائع ليس له خادم، فهل تكره أن أخدُمه قال: (لا ولكـن لا يقرَبُك)، قالت: إنه واللهِ ما بِه حركة إلى شىء، واللهِ ما زال يبكى منذ كان مِن أمره ما كان إلى يومه هذا، قال كعب: فقال لى بعضُ أهلى: لو استأذنتَ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم في امرأتك كما أذن لامرأة هِلال بن أُمية أن تخدُمه، فقلت: واللهِ لا أستأذِنُ فيها رسولَ الله صلى الله عليه وسلم، وما يُدرينى ما يقولُ رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا استأذنتُه فيها، وأنا رجل شاب، ولبثتُ بعد ذلك عشرَ ليالٍ حتى كَمُلَت لنا خمسون ليلةً من حين نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كلامنا، فلما صَلَّيتُ صلاةَ الفجر صُبْحَ خمسين ليلةً على سطح بيت من بيوتنا، بينا أنا جالس على الحال التي ذكر الله تعالى، قد ضاقت علىَّ نفسى، وضاقت علىَّ الأرضُ بما رحُبت، سمعتُ صوتَ صارخ أوفى على جبل سَلْعٍ بأعلى صوتِه: يا كعبَ ابنَ مالك؛ أبشر، فخررتُ ساجداً، فعرفتُ أن قد جاء فرجٌ مِن اللهِ، وآذن رسول الله صلى الله عليه وسلم بتوبة الله علينا حين صَلَّى الفجر، فذهب الناسُ يُبشرونَنا، وذهب قِبَلَ صاحبىَّ مبشرون، وركضَ إلىَّ رجل فرساً، وسعى ساع مِن أسلمَ، فأوفى على ذِرْوة الجبل، وكان الصوتُ أسرعَ مِن الفرس، فلما جاءنى الذي سمعتُ صوته يبشرنى، نزعتُ له ثوبىَّ فكسوتُه إياهما ببُشراه، واللهِ ما أملك غيرهما، واستعرتُ ثوبين، فلبستُهما، فانطلقتُ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فتلقانى الناسُ فوجاً فوجاً يُهنئوننى بالتوبة يقولون: لِيهْنِكَ توبةُ الله عليك، قال كعب: حتى دخلتُ المسجد، فإذا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم جالس حولَه الناس، فقام إلىَّ طلحةُ بنُ عُبيد الله يُهروِلُ حتى صافحنى وهنَّأنى، واللهِ ما قام إلىَّ رجل من المهاجرين غيره، ولستُ أنساها لِطلحة، فلما سلَّمتُ على رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال وهو يَبْرُقُ وجهُه من السرور: (أَبْشِرْ بِخَيْر يَوْم مَرَّ عَلَيْكَ مُنْذُ وَلَدَتْكَ أُمُّكَ). قال قلتُ: أمِن عندك يا رسـولَ الله، أم مِن عند الله؟ قال: (لا بَلْ مِنْ عِنْدِ اللهِ)، وكان رسولُ الله صلى الله عليه وسلم إذا سُرَّ استنار وجهُه حتى كأنه قِطعةُ قمر، وكنا نعرفُ ذلك منه، فلما جلستُ بين يديه، قلت: يا رسول الله؛ إنَّ مِن توبتى أن أنخلِع مِن مالى صَدَقة إلى الله، وإلى رسوله، فقال: (أَمْسِكْ عَلَيْكَ بَعْضَ مَالِكَ، فَهُوَ خَيْرٌ لَكَ)، قلت: فإنى أُمِسكُ سهمى الذي بخَيْبرَ. فقلتُ: يا رسول الله؛ إنَّ الله إنما نجانى بالصدق، وإنَّ من توبتى ألاَّ أُحَدِّثُ إلا صدقاً ما بقيتُ، فواللهِ ما أعلم أحداً من المسلمين أبلاه الله في صدق الحديث منذ ذكرتُ ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم إلى يومى هذا ما أبلانى، واللهِ ما تعمدتُ بعد ذلك إلى يومى هذا كذباً، وإنى لأرجو أن يحفظنى الله فيما بقيتُ، فأنزلَ الله تعالى على رسوله: قال كعب: وكان تخلُّفنا أيُّها الثَّلاثَةُ عن أمر أُولئك الذين قبل منهم رسولُ الله صلى الله عليه وسلم حين حلفوا له، فبايعهم، واستغفر لهم، وأرجأ أمرَنا حتى قضى اللهُ فيه، فبذلك قال الله: وقال عثمان بن سعيد الدارمى: حدَّثنا عبد الله بن صالح، حدَّثنى معاوية بن صالح، عن علىّ بن أبى طلحة، عن ابن عباس، في قوله: فمنها: جوازُ القتال في الشهر الحرام إن كان خروجُه في رجب محفوظاً على ما قاله ابن إسحاق، ولكن ههنا أمر آخر، وهو أن أهلَ الكتاب لم يكونوا يُحرِّمون الشهرَ الحرام، بخلاف العرب، فإنها كانت تُحرِّمه، وقد تقدَّم أنَّ في نسخ تحريمِ القتال فيه قولين، وذكرنا حُجَج الفريقين . ومنها: تصريحُ الإمام للرعية، وإعلامُهم بالأمر الذي يضرُّهم سترُه وإخفاؤُه، ليتأهبوا له، ويُعِدُّوا له عُدته، وجوازُ ستر غيره عنهم والكناية عنه للمصلحة. ومنها: أنَّ الإمام إذا استنفر الجيش، لزمهم النفيرُ، ولم يجز لأحد التخلفُ إلا بإذنه، ولا يُشترطُ في وجوب النفير تعيينُ كلِّ واحد منهم بعينه، بل متى استنفر الجيش، لزم كُلَّ واحد منهم الخروجُ معه، وهذا أحدُ المواضع الثلاثة التي يصير فيها الجهاد فرض عَيْن. والثانى: إذا حضر العدوُّ البلد. والثالث: إذا حضر بين الصفين. ومنها: وجوبُ الجهاد بالمال، كما يجبُ بالنفس، وهذا إحدى الروايتين عن أحمد، وهى الصوابُ الذي لا ريب فيه، فإن الأمر بالجهاد بالمال شقيقُ الأمر بالجهاد بالنفس في القرآن وقرينُه، بل جاء مقدَّماً على الجهاد بالنفس في كُلِّ موضع، إلا موضعاً واحداً، وهذا يدل على أن الجهاد به أهم وآكدُ من الجهاد بالنفس، ولا ريبَ أنه أحدُ الجهادين، كما قال النبى صلى الله عليه وسلم: (مَنْ جَهَّزَ غَازِياً فَقَدْ غَزَا)، فيجب على القادر عليه، كما يجب على القادر بالبدن، ولا يَتِمُّ الجهاد بالبدن إلا ببذله، ولا ينتصر إلا بالعدد والعُدد، فإن لم يقدر أن يكثر العَدد، وجب عليه أن يمد بالمال والعُدة، وإذا وجب الحجُّ بالمال على العاجز بالبدن، فوجوبُ الجهاد بالمال أَوْلى وأَحرى. ومنها: ما برز به عُثمانُ بن عفان من النفقةِ العظيمة في هذه الغزوة، وسبق به الناس، فقال النبى صلى الله عليه وسلم: (غَفَرَ اللهُ لَكَ يا عُثْمَانُ ما أَسْرَرْتَ، ومَا أَعْلَنْتَ، ومَا أَخْفَيْتَ، وما أبْدَيْتَ). ثم قال: (ما ضَرَّ عُثْمَانَ مَا فَعَلَ بَعْدَ اليَوْمِ)، وكان قد أنفق ألفَ دينار، وثلاثمائة بعير بعُدتها وأحلاسها وأقتابِها. ومنها: أن العاجزَ بماله لا يُعذرُ حتى يَبْذُلَ جهده، ويتحقَّقَ عجزُهُ، فإن الله سبحانه إنما نفى الحَرَجَ عن هؤلاء العاجزين بعد أن أتَوْا رسولَ الله صلى الله عليه وسلم ليحملهم، فقال: ومنها: استخلافُ الإمام إذا سافر رجلاً من الرعية على الضعفاء، والمعذورين، والنساء، والذُرِّية، ويكون نائبه مِن المجاهدين، لأنه من أكبر العون لهم. وكان رسولُ الله صلى الله عليه وسلم يستخلِف ابنَ أُمِّ مكتوم، فاستخلفه بضعَ عشرة مرة، وأما في غزوة تَبُوك. فالمعروفُ عند أهل الأثر أنه استخلف علىَّ ابن أبى طالب، كما في (الصحيحين) عن سعد بن أبى وقاص، قال: خلَّف رسولُ الله صلى الله عليه وسلم علياً رضى الله عنه في غزوة تَبُوك، فقال: يا رسول الله؛ تُخَلِّفُنى مَعَ النساءِ والصبيان، فقال: (أَمَا تَرْضَى أَنْ تَكُونَ مِنِّى بِمَنْزِلَةِ هارُونَ مِنْ مُوسَى، غَيْرَ أَنَّهُ لاَ نَبِىَّ بَعْدِى). ولكن هذه كانت خلافةً خاصة على أهله صلى الله عليه وسلم، وأما الاستخلافُ العام، فكان لمحمد بن مسلمة الأنصارى، ويدل على هذا أن المنافقين لما أرجفُوا به، وقالوا: خلَّفه استثقالاً، أخذ سلاحه ثم لحق بالنبى صلى الله عليه وسلم، فأخبره، فقال: (كَذَبُوا، ولكِـنْ خَلَّفْتُكَ لِما تَرَكْتُ وَرائى، فارْجعْ فاخْلُفْنى في أَهْلى وَأَهْلِكَ). ومنها: جواز الخَرْصِ للرُّطَبِ على رؤوس النخل، وأنه من الشرع، والعمل بقول الخارص، وقد تقدَّم في غزاة خَيْبَر، وأن الإمام يجوز أن يخرِصَ بنفسه، كما خرصَ رسول الله صلى الله عليه وسلم حديقة المرأة. ومنها أنَّ الماء الذي بآبار ثمود، لا يجوز شُربه، ولا الطبخُ منه، ولا العجينُ به، ولا الطهارةُ به، ويجوز أن يُسقى البهائم إلا ما كان من بئر الناقة. وكانت معلومةً باقية إلى زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم استمر عِلْمُ الناسِ بها قرناً بعد قرن إلى وقتنا هذا، فلا يرِدُ الركوبُ بئراً غيرها، وهى مطويَّةٌ محكمة البناء، واسعة الأرجاء، آثار العِتق عليها بادية، لا تشتبِه بغيرها. ومنها: أنَّ مَن مرَّ بديار المغضوب عليهم والمعذَّبين، لم ينبغ له أن يدخُلَها، ولا يُقيم بها، بل يُسرع السير، ويتقنَّع بثوبه حتى يُجاوِزَها، ولا يدخل عليهم إلا باكياً معتبراً. ومن هذا إسراعُ النبى صلى الله عليه وسلم السير في وادى مُحَسِّر بين مِنَى وعَرَفة، فإنه المكانُ الذي أهلك الله فيه الفيلَ وأصحابه. ومنها: أنَّ النبى صلى الله عليه وسلم كان يجمعُ بين الصلاتين في السفر، وقد جاء جمعُ التقديم في هذه القصة في حديث معاذ، كما تقدَّم، وذكرنا عِلَّة الحديث. ومَن أنكره، ولم يجئ جمع التقديم عنه في سفر إلا هذا، وصح عنه جمعُ التقديمِ بعَرَفة قبل دخوله إلى عَرَفة، فإنه جَمَعَ بين الظهر والعصر في وقت الظهر، فقيل: ذلك لأجل النُّسُك، كما قال أبو حنيفة. وقيل: لأجل السفر الطويل، كما قاله الشافعى وأحمد. وقيل: لأجل الشغل، وهو اشتغالُه بالوقوف، واتصالُه إلى غروب الشمس. قال أحمد: يجمع للشغل، وهو قول جماعة من السَّلَف والخَلَف، وقد تقدَّم. ومنها: جوازُ التَّيَمُم بالرمل، فإن النبى صلى الله عليه وسلم وأَصحابَه، قطعوا الرمال التي بين المدينة وتَبُوك، ولم يحملوا معهم تراباً بلا شك، وتلك مفاوز مُعْطِشة شكوا فيها العطشَ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقطعاً كانوا يتيممون بالأرض التي هم فيها نازلون، هذا كُلُّه مما لا شك فيه مع قوله صلى الله عليه وسلم: (فَحَيْثُمَا أَدْرَكَتْ رَجُلاً مِنْ أُمَّتِى الصَّلاةُ، فَعِنْدَهُ مَسْجِدُه وَطَهُورُه). ومنها: أنَّه صلى الله عليه وسلم أقام بتَبُوك عشرين يوماً يَقْصُر الصلاة، ولم يَقل للأُمَّة: لا يقصر الرجل الصلاة إذا أقام أكثرَ من ذلك، ولكن اتفقت إقامتُه هذه المدة، وهذه الإقامة في حال السفر لا تخرج عن حكم السفر، سواءٌ طالت أو قصرت إذا كان غيرَ مستوطن، ولا عازم على الإقامة بذلك الموضع. وقد اختلف السَّلَفُ والخَلَف في ذلك اختلافاً كثيراً، ففى (صحيح البخارى) عن ابن عباس، قال: أقامَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم في بعض أسفاره تسعَ عشرةَ يُصلِّى ركعتين، فنحن إذا أقمْنا تِسْعَ عشرةَ نُصَلِّى ركعتين، وإن زدنا على ذلك أتممنا، وظاهرُ كلام أحمد أن ابن عباس أراد مدة مقامه بمكة زمنَ الفتح، فإنه قال: أقام رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بمكة ثمان عشرة زمنَ الفتح، لأنه أراد حُنَيْناً، ولم يكن ثَمَّ أجمعَ المُقام، وهذه إقامته التي رواها ابنُ عباس. وقال غيرُه: بل أراد ابنُ عباس مقامه بتَبُوك، كما قال جابر بن عبد الله: أقام النبىُّ صلى الله عليه وسلم بتَبُوك عشرينَ يوماً يقصُر الصلاة، رواه الإمام أحمد في (مسنده). وقال عبد الرحمن بن المِسور بن مَخْرَمَة: أقمنا مع سعد ببعض قرى الشام أربعين ليلة يقصُرُها سعد ونُتِمُّها. وقال نافعُ: أقام ابنُ عمر بأذَربيجَانَ ستةَ أشهر يُصَلِّى ركعتين، وقد حال الثلجُ بينه وبين الدخول. وقال حفصُ بن عُبيد الله: أقام أنسُ بنُ مالك بالشام سنتين يُصَلِّى صلاةَ المسافر. وقال أنسُ: أقام أصحابُ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم بِرَامَهُرْمُزَ سَبعة أشهر يقصُرون الصلاة. وقال الحسن: أقمتُ مع عبد الرحمن بن سَمُرة بكابُل سنتينِ يقصرُ الصلاة ولا يجمع. وقال إبراهيم: كانوا يُقيمون بالرَّىِّ السنة، وأكثر من ذلك، وسجستان السنتين. فهذا هَدْى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه كما ترى، وهو الصوابُ. وأما مذاهبُ الناس، فقال الإمام أحمد: إذا نوى إقامةَ أربعة أيام، أتم، وإن نوى دونها، قصر، وحمل هذه الآثار على أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه لم يُجمعوا الإقامة ألبتة، بل كانوا يقُولون: اليوم نخرج، غداً نخرج. وفى هذا نظر لا يخفى، فإنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم فتح مكة، وهى ما هي، وأقام فيها يُؤسِّسُ قواعِدَ الإسلام، ويهدِمُ قواعِدَ الشِّرك، ويُمهِّد أمر ما حولها مِن العرب، ومعلوم قطعاً أن هذا يحتاج إلى إقامة أيام لا يتأتَّى في يوم واحد، ولا يومين، وكذلك إقامتُه بتَبُوك، فإنه أقام ينتظر العدو، ومن المعلوم قطعاً، أنه كان بينه وبينهم عِدَّةُ مراحل يحتاج قطعها إلى أيام، وهو يعلم أنهم لا يُوافون في أربعة أيام، وكذلك إقامة ابن عمر بأذربيجان ستة أشهر يقصُر الصلاة من أجل الثلج، ومن المعلوم أن مثل هذا الثلج لا يتحللُ ويذوب في أربعة أيام، بحيث تنفتح الطُّرُق، وكذلك إقامة أنس بالشام سنتين يقصُر، وإقامةُ الصحابة بِرَامَهُرْمُزَ سبعة أشهر يقصُرون، ومن المعلوم أن مثل هذا الحِصار والجهاد يُعلَم أنه لا ينقضى في أربعة أيام. وقد قال أصحاب أحمد: إنه لو أقام لجهاد عدو، أو حبس سلطان، أو مرض، قصر، سواء غلب على ظنِّه انقضاءُ الحاجة في مدة يسيرة أو طويلة، وهذا هو الصواب، لكن شرطوا فيه شرطاً لا دليل عليه من كتاب، ولا سُـنَّة، ولا إجماع، ولا عمل الصحابة. فقالُوا: شرط ذلك احتمالُ انقضاء حاجته في المدة التي لا تقطع حكم السفر، وهى ما دُون الأربعة الأيام، فيقال: من أين لكم هذا الشرط، والنبىُّ لما أقام زيادة على أربعة أيام يقصُر الصلاة بمكة وتَبُوك لم يقل لهم شَيْئاً، ولم يُبين لهم أنه لم يَعزم على إقامة أكثر من أربعة أيام، وهو يعلمُ أنهم يقتدون به في صلاته، ويتأسَّوْنَ به في قصرها في مدة إقامته، فلم يقل لهم حرفاً واحداً: لا تقصروا فوق إقامة أربع ليال، وبيان هذا مِن أهم المهمات، وكذلك اقتداءُ الصحابة به بعدَه، ولم يقولوُا لمن صَلَّى معهم شيئاً من ذلك. وقال مالك والشافعى: إنْ نوى إقامةَ أكثرَ مِن أربعة أيام أتمَّ، وإن نوى دونها قصر. وقال أبو حنيفة: إنْ نوى إقامة خمسة عشر يوماً أتمَّ، وإن نوى دونها قصر، وهو مذهب الليث بنِ سعد، ورُوى عن ثلاثة من الصحابة: عمر، وابنه، وابن عباس. وقال سعيد بن المسيِّب: إذا أقمتَ أربعاً فصَلِّ أربعاً، وعنه: كقول أبى حنيفة. وقال علىُّ بن أبى طالب: إنْ أقامَ عشراً، أتمَّ، وهو روايةٌ عن ابن عباس. وقال الحسن: يقصُر ما لم يقدَم مصراً. وقالت عائشةُ: يقصُر ما لم يضع الزاد والمزاد. والأئمة الأربعة متفقون على أنه إذا أقام لحاجة ينتظر قضاءها يقول: اليوم أخرج، غداً أخرج، فإنه يقصر أبداً، إلا الشافعىّ في أحد قوليه، فإنه يقصُر عنده إلى سبعة عشر، أو ثمانية عشر يوماً، ولا يقصُر بعدها. وقد قال ابن المنذر في (إشرافه): أجمع أهل العلم أن للمسافر أن يقصر ما لم يُجْمِع إقامة وإن أتى عليه سنون. ومنها: جوازُ بلِ استحبابُ حِنْث الحالف في يمينه إذا رأى غيرَها خيراً منها، فيكفِّرُ عن يمينه، ويفعلُ الذي هو خير، وإن شاء قدَّم الكَفَّارة على الحِـنث، وإن شاء أخَّرها، وقد رُوى حديث أبى موسى هذا: (إلاَّ أَتَيْتُ الذي هُوَ أَخْيَرُ، وتحلَّلتُها)، وفى لفظ: (إلاَّ كَفَّرْتُ عَنْ يَمِينى وَأَتَيْتُ الذي هُوَ أَخْيَرُ)، وفى لفظ: (إلاَّ أَتَيْتُ الذي هُوَ خَيْرٌ، وَكَفَّرْتُ عَنْ يَمِينى)، وكلُّ هذه الألفاظ في (الصحيحين)، وهى تقتضى عدم الترتيب. وفى السنن من حديث عبد الرحمن بن سمرة، عن النبى صلى الله عليه وسلم: (إذَا حَلَفْتَ عَلَى يَمِينٍ، فَرَأَيْتَ غَيْرَهَا خَيْراً مِنْهَا،. فَكَفِّرْ عَنْ يَمِينِكَ، ثُمَّ ائْتِ الذي هُوَ خَيْرٌ). وأصله في (الصحيحين)، فذهب أحمد، ومالك، والشافعى إلى جواز تقديم الكَفَّارة على الحِنث، واستثنى الشافعىُّ التكفيرَ بالصوم، فقال: لا يجوزُ التقديمُ، ومنع أبو حنيفة تقديمَ الكفَّارة مطلقاً. ومنها: انعقادُ اليمين في حال الغضب إذا لم يَخْرُج بصحابه إلى حد لا يعلم معه ما يقول، وكذلك ينفُذ حكمه، وتَصِحُّ عقُودُه، فلو بلغ به الغضبُ إلى حد الإغلاق، لم تنعقِدْ يمينه ولا طلاقه. قال أحمد في رواية حنبل في حديث عائشة: سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (لا طَلاَقَ وَلا عَتَاقَ في إغْلاَقٍ)، يريد الغضبَ. ومنها: قولُه صلى الله عليه وسلم : (ما أنا حملتُكم، ولكن الله حملَكم)، قد يتعلق به الجبرىُّ، ولا متعلق له به، وإنما هذا مثل قوله: (واللهِ لا أُعْطى أحَداً شَيْئاً، ولا أَمْنَعُ، وإنَّما أَنَا قَاسِمٌ، أَضَعُ حَيْثُ أُمِرْتُ)، فإنه عبد الله ورسوله، إنما يتصرف بالأمر، فإذا أُمِرَه ربه بشىءٍ، نفذه، فالله هو المعطى، والمانع، والحامل، والرسول منفذ لما أمر به. وأما قوله تعالى: ومنها: تركُه قتل المنافقين، وقد بلغه عنهم الكفرُ الصـريحُ، فاحتج به مَن قال: لا يُقْتَلُ الزنديق إذا أظهر التوبة، لأنهم حـلفوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم أنهم ما قالوا، وهذا إذا لم يكن إنكاراً، فهو توبة وإقلاع، وقد قال أصحابُنا وغيرهم:ومَن شُهِدَ عليه بالرِّدَّةِ، فشهد أنْ لا إلهَ إلا الله، وأنَّ محمداً رسول الله، لم يكشف عن شىء عنه بعد، وقال بعض الفقهاء: إذا جحد الرِّدَّة، كفاه جحدها. ومَن لم يقبل توبة الزنديق، قال: هؤلاء لم تَقُمْ عليهم بيِّنة، ورسول الله صلى الله عليه وسلم لا يحكمُ عليهم بعلمه، والذي بلَّغ رسول الله صلى الله عليه وسلم عنهم قولَهم لم يبلِّغه إياه نصـابُ البيِّنة، بل شهد به عليهم واحد فقط، كما شـهد زيدُ ابن أرقم وحدَه على عبد الله بن أُبَىّ، وكذلك غيرُه أيضاً، إنما شـهد عليه واحد. وفى هذا الجواب نظر، فإن نفاق عبد الله بن أُبَىّ، وأقوالَه في النفاق كانت كـثيرةً جداً، كالمتواترة عند النبى صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وبعضهم أقرَّ بلسانه، وقال: فالجوابُ الصحيح إذن: أنه كان في ترك قتلهم في حياة النبى صلى الله عليه وسلم مصلحة تتضمن تأليفَ القلوب على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وجمع كلمة الناس عليه، وكان في قتلهم تنفيرٌ، والإسلام بعدُ في غُربة، ورسولُ الله صلى الله عليه وسلم أحرصُ شىْءٍ على تأليف الناسِ، وأتركُ شىْء لما يُنَفِّرُهم عن الدخول في طاعته، وهذا أمر كان يختصُّ بحال حياته صلى الله عليه وسلم، وكذلك تركُ قتل مَن طعن عليه في حكمه بقوله في قصة الزُّبير وخصمه: أنْ كَانَ ابْنَ عَمَّتِكَ. وفى قسمه بقوله: إنَّ هذِهِ لَقِسْمَةٌ مَا أُرِيدَ بِهَا وَجْهُ اللهِ. وقول الآخر له: إنك لم تعدِل، فإنَّ هذا محضُ حقه، له أن يستوفِيَه، وله أن يترُكَه، وليس للأُمة بعده تركُ استيفاء حقِّه، بل يتعينُ عليهم استيفاؤه، ولا بُدَّ، ولتقرير هذه المسائل موضع آخر، والغرضُ التنبيه والإشارة.
|