.ما على الرسول إلا البلاغ:
(وَ) نَشْهَدُ (أَنَّهُ بَلَّغَ) إِلَى النَّاسِ كَافَّةً (مَا) أَيِ: الَّذِي (قَدْ أُرْسِلَا) بِالْبِنَاءِ لِلْمَفْعُولِ وَالْأَلِفُ لِلِاطِّلَاقِ (بِهِ) مِنْ رَبِّهِ (وَكُلَّ مَا إِلَيْهِ أُنْزِلَا) مِنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ.وَفِي هَذَا الْبَحْثِ مَسَائِلُ عَظِيمَةُ الْخَطَرِ جَلِيلَةُ الْقَدْرِ:الْأُولَى: أَنَّهُ أَيِ: الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُبَلِّغٌ عَنِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، لَمْ يَقُلْ شَيْئًا مِنْ رَأْيِهِ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِالتَّبْلِيغِ، بَلْ لَيْسَ عَلَيْهِ إِلَّا بَلَاغُ الرِّسَالَةِ مِنَ اللَّهِ إِلَى النَّاسِ، وَتِلَاوَةُ آيَاتِهِ عَلَى النَّاسِ، وَتَعْلِيمُهُمُ الْحِكْمَةَ وَالتِّبْيَانَ، وَذَلِكَ مَعْنَى كَوْنِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَسُولَ اللَّهِ فَأَمْرُهُ وَنَهْيُهُ تَبْلِيغٌ لِأَمْرِهِ وَنَهْيِهِ، وَأَخْبَارُهُ وَقَصَصُهُ تَبْلِيغٌ لِمَا قَصَّهُ اللَّهُ وَأَخْبَرَ بِهِ، وَلِذَا كَانَ طَاعَتُهُ طَاعَةً لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَمَعْصِيَتُهُ مَعْصِيَةً لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَتَكْذِيبُهُ تَكْذِيبًا لِإِخْبَارِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فِي أَنَّهُ رَسُولُهُ.قَالَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى:
{وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولًا وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا} [النِّسَاءِ: 79]، وَقَالَ تَعَالَى:
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ} [الْأَنْفَالِ: 20-21]، وَقَالَ تَعَالَى:
{وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ} [الْمَائِدَةِ: 92]، وَقَالَ تَعَالَى:
{أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ} [النُّورِ: 54]، وَقَالَ تَعَالَى:
{فَإِنْ أَعْرَضُوا فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلَاغُ} [الشُّورَى: 48]، وَقَالَ تَعَالَى:
{إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ} [الرَّعْدِ: 7]، وَقَالَ تَعَالَى:
{إِنْ أَنْتَ إِلَّا نَذِيرٌ} [فَاطِرٍ: 23]، وَقَالَ:
{قُلْ إِنَّمَا أَنَا مُنْذِرٌ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ} [ص: 65]، وَقَالَ تَعَالَى:
{قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا} [الْكَهْفِ: 110]، وَقَالَ:
{نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ} [ق: 45]، وَقَالَ تَعَالَى:
{قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا إِلَّا بَلَاغًا مِنَ اللَّهِ وَرِسَالَاتِهِ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا} [الْجِنِّ: 22]، وَقَالَ:
{وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ} [الذَّارِيَاتِ: 55]، وَقَالَ تَعَالَى:
{فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشَى} [الْأَعْلَى: 9]، وَقَالَ تَعَالَى:
{فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ} [الْغَاشِيَةِ: 21]، وَقَالَ تَعَالَى:
{وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الْحَشْرِ: 7]، وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ
{وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى} [النَّجْمِ: 4]، وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى عَنْ أَبِي أُمَامَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ:
«لَيَدْخُلَّنَ الْجَنَّةَ بِشَفَاعَةِ رَجُلٍ لَيْسَ بِنَبِيٍّ مِثْلُ الْحَيَّيْنِ-أَوْ مِثْلُ أَحَدِ الْحَيَّيْنِ- رَبِيعَةَ وَمُضَرَ» فَقَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَا رَبِيعَةُ وَمُضَرَ؟ قَالَ:
«إِنَّمَا أَقُولُ مَا أَقُولُ»، وَلَهُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، وَقَالَ: كُنْتُ أَكْتُبُ كُلَّ شَيْءٍ أَسْمَعُهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُرِيدُ حِفْظَهُ، فَنَهَتْنِي قُرَيْشٌ فَقَالُوا: إِنَّكَ تَكْتُبُ كُلَّ شَيْءٍ تَسْمَعُهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَكَلَّمُ فِي الْغَضَبِ وَالرِّضَا، فَأَمْسَكْتُ عَنِ الْكِتَابِ حَتَّى ذَكَرْتُ ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ:
«اكْتُبْ فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ مَا خَرَجَ مِنِّي إِلَّا الْحَقُّ»، وَلَهُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ:
«لَا أَقُولُ إِلَّا حَقًّا». قَالَ بَعْضُ أَصْحَابِهِ: فَإِنَّكَ تُدَاعِبُنَا. قَالَ:
«إِنِّي لَا أَقُولُ إِلَّا حَقًّا»، وَلِلْبَزَّارِ عَنْهُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:
«مَا أَخْبَرْتُكُمْ أَنَّهُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَهُوَ الَّذِي لَا شَكَّ فِيهِ» وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنَ الْأَحَادِيثِ، وَيَكْفِي فِي ذَلِكَ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى:
{وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ} [الْحَاقَّةِ: 44]، الْآيَاتِ.
.الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَلَّغَ جَمِيعَ مَا أُرْسِلَ بِهِ:
أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَلَّغَ جَمِيعَ مَا أُرْسِلَ بِهِ لَمْ يَكْتُمْ مِنْهُ حَرْفًا وَاحِدًا، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:
{يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} [الْمَائِدَةِ: 67].وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَامَ فِينَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَاتَ يَوْمٍ فَذَكَرَ الْغُلُولَ فَعَظَّمَهُ وَعَظَّمَ أَمْرَهُ ثُمَّ قَالَ:
«لَا أُلْفِيَنَّ أَحَدَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى رَقَبَتِهِ بَعِيرٌ لَهُ رُغَاءٌ يَقُولُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَغِثْنِي. فَأَقُولُ: لَا أَمْلِكُ لَكَ شَيْئًا، قَدْ أَبْلَغْتُكَ، لَا أُلْفِيَنَّ أَحَدَكُمْ يَجِيءُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى رَقَبَتِهِ فَرَسٌ لَهُ حَمْحَمَةٌ فَيَقُولُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَغِثْنِي. فَأَقُولُ: لَا أَمْلِكُ لَكَ شَيْئًا، قَدْ أَبْلَغْتُكَ. لَا أُلْفِيَنَّ أَحَدَكُمْ يَجِيءُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى رَقَبَتِهِ شَاةٌ لَهَا ثُغَاءٌ يَقُولُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَغِثْنِي. فَأَقُولُ: لَا أَمْلِكُ لَكَ شَيْئًا، قَدْ أَبْلَغْتُكَ. لَا أُلْفِيَنَّ أَحَدَكُمْ يَجِيءُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى رَقَبَتِهِ نَفْسٌ لَهَا صِيَاحٌ فَيَقُولُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَغِثْنِي. فَأَقُولُ: لَا أَمْلِكُ لَكَ شَيْئًا، قَدْ أَبْلَغْتُكَ. لَا أُلْفِيْنَّ أَحَدَكُمْ يَجِيءُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى رَقَبَتِهِ رِقَاعٌ تَخْفِقُ فَيَقُولُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَغِثْنِي فَأَقُولُ: لَا أَمْلِكُ لَكَ شَيْئًا، قَدْ أَبْلَغْتُكَ. لَا أُلْفِيَنَّ أَحَدَكُمْ يَجِيءُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى رَقَبَتِهِ صَامِتٌ فَيَقُولُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَغِثْنِي. فَأَقُولُ: لَا أَمْلِكُ لَكَ شَيْئًا، قَدْ أَبْلَغْتُكَ».وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ الطَّوِيلِ قَوْلُهُ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
«وَقَدْ تَرَكْتُ فِيكُمْ مَا لَنْ تَضِلُّوا بَعْدَهُ إِنِ اعْتَصَمْتُمْ بِهِ كِتَابُ اللَّهِ، وَأَنْتُمْ تَسْأَلُونَ عَنِّي فَمَا أَنْتُمْ قَائِلُونَ؟ قَالُوا: نَشْهَدُ أَنَّكَ قَدْ بَلَّغْتَ وَأَدَّيْتَ وَنَصَحْتَ. فَقَالَ بِأُصْبُعِهِ السَّبَّابَةِ يَرْفَعُهَا إِلَى السَّمَاءِ وَيَنْكُتُهَا إِلَى النَّاسِ: اللَّهُمَّ اشْهَدْ اللَّهُمَّ اشْهَدْ» ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، الْحَدِيثَ. وَفِيهِمَا مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي ذَلِكَ الْجَمْعِ الْأَعْظَمِ حِينَ خَطَبَ: اللَّهُمَّ هَلْ بَلَّغْتُ اللَّهُمَّ هَلْ بَلَّغْتُ؟ وَمِنْ حَدِيثِ أَبِي بَكْرَةَ فِي تِلْكَ الْخُطْبَةِ أَيْضًا:
«أَلَا هَلْ بَلَّغْتُ» قَالُوا: نَعَمْ. قَالَ:
«اللَّهُمَّ اشْهَدْ فَلْيُبَلِّغِ الشَّاهِدُ الْغَائِبَ فَرُبَّ مُبَلِّغٍ أَوْعَى مِنْ سَامِعٍ» وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي جُحَيْفَةَ وَهْبِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ السِّوَائِيِّ قَالَ: قُلْتُ لِعَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: هَلْ عِنْدَكُمْ شَيْءٌ مِنَ الْوَحْيِ مِمَّا لَيْسَ فِي الْقُرْآنِ؟ فَقَالَ:
«لَا وَالَّذِي فَلَقَ الْحَبَّةَ وَبَرَأَ النَّسَمَةَ، إِلَّا فَهْمًا يُعْطِيهِ اللَّهُ رَجُلًا فِي الْقُرْآنِ، وَمَا فِي هَذِهِ الصَّحِيفَةِ» قُلْتُ: وَمَا فِي هَذِهِ الصَّحِيفَةِ؟ قَالَ:
«الْعَقْلُ وَفِكَاكُ الْأَسِيرِ، وَأَنْ لَا يُقْتَلُ مُسْلِمٌ بِكَافِرٍ»، وَفِيهِ مِنْ رِوَايَةِ الْأَعْمَشِ عَنْ إِبْرَاهِيمَ التَّيْمِيِّ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: مَا عِنْدَنَا شَيْءٌ إِلَّا كِتَابُ اللَّهِ وَهَذِهِ الصَّحِيفَةُ عَنِ النَّبِيِّ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
«الْمَدِينَةُ حَرَمٌ مَا بَيْنَ عَيْرٍ إِلَى كَذَا، مَنْ أَحْدَثَ فِيهَا حَدَثًا أَوْ آوَى مُحْدِثًا فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللَّهِ والملائكة والناس أحمعين» الْحَدِيثَ. وَفِي رِوَايَةٍ قَالَ: خَطَبَنَا عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَلَى مِنْبَرٍ مِنْ آجُرٍ وَعَلَيْهِ سَيْفٌ فِيهِ صَحِيفَةٌ مُعَلَّقَةٌ فَقَالَ:
«وَاللَّهِ مَا عِنْدَنَا مِنْ كِتَابٍ يُقْرَأُ إِلَّا كِتَابُ اللَّهِ، وَمَا فِي هَذِهِ الصَّحِيفَةِ. فَنَشَرَهَا فَإِذَا فِيهَا أَسْنَانُ الْإِبِلِ، وَإِذَا فِيهَا: الْمَدِينَةُ حَرَمٌ مِنْ عَيْرٍ إِلَى كَذَا، فَمَنْ أَحْدَثَ فِيهَا حَدَثًا فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللَّهِ والملائكة والناس أحمعين، لَا يَقْبَلُ اللَّهُ مِنْهُ صَرْفًا وَلَا عَدْلًا. وَإِذَا فِيهِ: ذِمَّةُ الْمُسْلِمِينَ وَاحِدَةٌ يَسْعَى بِهَا أَدْنَاهُمْ، فَمَنْ أَخَفَرَ مُسْلِمًا فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللَّهِ والملائكة والناس أحمعين، لَا يَقْبَلُ اللَّهُ مِنْهُ صَرْفًا وَلَا عَدْلًا. وَإِذَا فِيهَا مَنْ وَالَى قَوْمًا بِغَيْرِ إِذَنْ مَوَالِيهِ فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللَّهِ والملائكة والناس أحمعين لَا يَقْبَلُ اللَّهُ مِنْهُ صَرْفًا وَلَا عَدْلًا»، وَلِابْنِ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ هَارُونَ بْنِ عَنْتَرَةَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: كُنْتُ عِنْدَ ابْنِ عَبَّاسٍ، فَجَاءَ رَجُلٌ فَقَالَ لَهُ: إِنَّ أُنَاسًا يَأْتُونَ فَيُخْبِرُونَا أَنَّ عِنْدَكُمْ شَيْئًا لَمْ يُبْدِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلنَّاسِ. فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: (أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ:
{يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ} [الْمَائِدَةِ: 67]، وَاللَّهِ مَا وَرَّثَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَوْدَاءَ فِي بَيْضَاءَ) وَإِسْنَادُهُ جَيِّدٌ. وَتَقَدَّمَ قَوْلُ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ:
«مَنْ حَدَّثَكَ أَنَّ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَتَمَ شَيْئًا مِمَّا أُنْزِلَ عَلَيْهِ فَقَدْ كَذَبَ، وَاللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ} [الْمَائِدَةِ: 67]» الْآيَةَ.الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: أَنَّ هَذَا الَّذِي بَلَّغَهُ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ رَبِّهِ تَعَالَى هُوَ جَمِيعُ دِينِ الْإِسْلَامِ مُكْمَلًا مُحْكَمًا:أَنَّ هَذَا الَّذِي بَلَّغَهُ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ رَبِّهِ تَعَالَى هُوَ جَمِيعُ دِينِ الْإِسْلَامِ مُكْمَلًا مُحْكَمًا لَمْ يَبْقَ فِيهِ نَقْصٌ بِوَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ فَيَحْتَاجُ إِلَى تَكْمِيلٍ وَلَمْ يَبْقَ فِيهِ إِشْكَالٌ فَيَحْتَاجُ إِلَى حَلٍّ، وَلَا إِجْمَالٌ فَيَفْتَقِرُ إِلَى تَفْصِيلٍ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:
{مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} [الْأَنْعَامِ: 38]، فَكَمَا أَنَّ الْإِمَامَ الْمُبِينَ قَدْ أَحْصَى كُلَّ مَا هُوَ كَائِنٌ، كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ، فَكَذَلِكَ هَذَا الْقُرْآنُ وَافٍ شَافٍ كَافٍ مُحِيطٌ بِجَمِيعِ أُصُولِ الشَّرِيعَةِ وَفُرُوعِهَا وَأَقْوَالِهَا وَأَعْمَالِهَا وَسِرِّهَا وَعَلَانِيَتِهَا، فَمَنْ لَمْ يَكْفِهِ فَلَا كُفِيَ، وَمَنْ لَمْ يَشْفِهِ فَلَا شُفِيَ
{أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [الْعَنْكَبُوتِ: 51]،
{فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ} وَكَمَا وَفَّى بِتَقْرِيرِ الدِّينِ وَتَكْمِيلِهِ وَشَرْحِهِ وَتَفْصِيلِهِ كَذَلِكَ هُوَ وَافٍ بِالذَّبِّ عَنْهُ وَبِرَدِّ كُلِّ شُبْهَةٍ تَرِدُ عَلَيْهِ، وَبِقَمْعِ كُلِّ مُلْحِدٍ وَمُعَانِدٍ وَمُشَاقٍّ وَمُحَادٍّ، وَبِدَمْغِ كُلِّ بَاطِلٍ وَإِزْهَاقِهِ
{وَلَا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا} [الْفُرْقَانِ: 33]،
{بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ} [الْأَنْبِيَاءِ: 18]،
{إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الْحِجْرِ: 9]،
{إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آيَاتِنَا لَا يَخْفَوْنَ عَلَيْنَا أَفَمَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمَّنْ يَأْتِي آمِنًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جَاءَهُمْ وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ مَا يُقَالُ لَكَ إِلَّا مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ وَذُو عِقَابٍ أَلِيمٍ وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا لَقَالُوا لَوْلَا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُولَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ} [فُصِّلَتْ: 40-44].وَكَذَلِكَ السُّنَّةُ مِنْ جَوَامِعِ كَلِمِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّتِي اخْتَصَّهُ اللَّهُ بِهَا، هِيَ رُوحُ الْمَعَانِي وَالْوَحْيُ الثَّانِي، وَالْحِكْمَةُ وَالْبَيَانُ وَتِبْيَانُ الْقُرْآنِ، وَالنُّورُ وَالْبُرْهَانُ. فَلَمْ يُتَوَفَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى بَيَّنَ الشَّرِيعَةَ أَكْمَلَ بَيَانٍ، وَلَمْ يَكُنْ لِيَتَوَفَّاهُ اللَّهُ تَعَالَى قَبْلَ بَيَانِ مَا بِالنَّاسِ إِلَيْهِ حَاجَةً فِي دِينِهِمْ وَدُنْيَاهُمْ وَآخِرَتِهِمْ، وَاللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ:
{وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [النَّحْلِ: 64]، وَيَقُولُ تَعَالَى:
{وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [النَّحْلِ: 44]، ثُمَّ يُخْبِرُ أَنَّهُ مَا أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلَّا لِذَلِكَ، فَكَيْفَ يَتَوَفَّاهُ قَبْلَ إِنْفَادِ ذَلِكَ وَإِنْجَازِهِ، مَعَ قَوْلِهِ تَعَالَى لَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلِأُمَّتِهِ كُلِّهِمْ:
{وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ} [الْبَقَرَةِ: 151]، فَكَيْفَ يَعِدُنَا تَعَالَى بِإِتْمَامِ النِّعْمَةِ وَإِكْمَالِ الدِّينِ ثُمَّ يَتَوَفَّى رَسُولَهُ قَبْلَ إِنْجَازِ ذَلِكَ وَهُوَ عَزَّ وَجَلَّ
{لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ}؟ وَالَّذِي بَعَثَهُ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا مَا تَوَفَّاهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ حَتَّى بَلَّغَ مَا أَرْسَلَهُ اللَّهُ بِهِ أَكْمَلَ بِلَاغٍ وَبَيَّنَهُ أَتَمَّ بَيَانٍ وَفَصَّلَهُ أَوْضَحَ تَفْصِيلٍ وَأَكْمَلَ بِهِ الدِّينَ وَأَتَمَّ عَلَيْنَا النِّعْمَةَ وَلِهَذَا أَنْزَلَ عَلَيْهِ فِي آخِرِ مَا أَنْزَلَ فِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ الَّذِي اخْتُصَّ بِهِ هُوَ وَأُمَّتُهُ وَهَدَاهُمْ لَهُ فِي أَشْرَفِ مَوْقِفٍ وَأَفْضَلِ عَشِيَّةٍ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ وَهُوَ وَاقِفٌ بِعَرَفَةَ فِي ذَلِكَ الْجَمْعِ الْأَعْظَمِ الَّذِي لَمْ يَتَّفِقْ وُقُوعُ مِثْلُهُ وَلَمْ يَتَّفِقْ أَكْثَرُ النَّاسِ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَهُ
{الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} [الْمَائِدَةِ: 3]، فَأَخْبَرَ فِيهَا بِإِكْمَالِ دِينِهِ الَّذِي وَعَدَنَا إِظْهَارَهُ فِي قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ:
{هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} [التَّوْبَةِ: 33]، وَبِإِتْمَامِهِ النِّعْمَةَ كَمَا وَعَدَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:
{وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ} وَتَقَدَّمَ الْحَدِيثُ الصَّحِيحُ فِي قَوْلِ الْيَهُودِيِّ لِعُمَرَ فِي شَأْنِهَا وَمَا رَدَّ عَلَيْهِ بِهِ.وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَوْلُهُ تَعَالَى:
{الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} [الْمَائِدَةِ: 3]، وَهُوَ الْإِسْلَامُ، أَخْبَرَ اللَّهُ نَبِيَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُؤْمِنِينَ أَنَّهُ قَدْ أَكْمَلَ لَهُمْ شَرَائِعَ الْإِيمَانِ فَلَا يَحْتَاجُونَ إِلَى زِيَادَةٍ أَبَدًا، وَقَدْ أَتَمَّهُ فَلَا يَنْقُصُهُ أَبَدًا، وَقَدْ رَضِيَهُ فَلَا يُسْخِطُهُ أَبَدًا. قُلْتُ: وَفِي ضِمْنِ هَذَا الْخِطَابِ مَعْنًى فَارْضَوْا بِهِ أَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ، وَلِهَذَا قَالَ النَّبِيُّ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
«ذَاقَ طَعْمَ الْإِيمَانِ مَنْ رَضِيَ بِاللَّهِ رَبًّا وَبِالْإِسْلَامِ دِينًا وَبِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَبِيًّا» وَأَمَرَنَا بِهَذَا الذِّكْرِ فِي كُلِّ مَسَاءٍ وَصَبَاحٍ، وَقَالَ أَسْبَاطٌ عَنِ السُّدِّيِّ: نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ يَوْمَ عَرَفَةَ وَلَمْ يَنْزِلْ بَعْدَهَا حَلَالٌ وَلَا حَرَامٌ، وَرَجَعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَمَاتَ، قَالَتْ أَسْمَاءُ بِنْتُ عُمَيْسٍ: حَجَجْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تِلْكَ الْحَجَّةَ، فَبَيْنَمَا نَحْنُ نَسِيرُ إِذْ تَجَلَّى لَهُ جِبْرِيلُ، فَبَيْنَمَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الرَّاحِلَةِ فَلَمْ تُطِقِ الرَّاحِلَةُ مِنْ ثِقَلِ مَا يُمِيلُهَا مِنَ الْقُرْآنِ فَبَرَكَتْ، فَأَتَيْتُهُ فَسَجَّيْتُ عَلَيْهِ بُرْدًا كَانَ عَلَيَّ.وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ وَغَيْرُ وَاحِدٍ: مَاتَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ يَوْمِ عَرَفَةَ بِأَحَدٍ وَثَمَانِينَ يَوْمًا. رَوَاهُمَا ابْنُ جَرِيرٍ، وَلَهُ عَنْ هَارُونَ بْنِ عَنْتَرَةَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ
{الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} وَذَلِكَ يَوْمَ الْحَجِّ بَكَى عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
«مَا يُبْكِيكَ؟» قَالَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: كُنَّا فِي زِيَادَةٍ مِنْ دِينِنَا فَأَمَّا إِذَا أُكْمِلَ فَإِنَّهُ لَمْ يَكْمُلْ شَيْءً إِلَّا نَقَصَ، فَقَالَ:
«صَدَقْتَ»، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا فِي قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى:
{وَلَا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا} [الْفُرْقَانِ: 33]، قَالَ وَلَا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ أَيْ بِمَا يَلْتَمِسُونَ بِهِ غَيْرَ الْقُرْآنِ وَالرَّسُولِ
{إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ} الْآيَةَ أَيْ لِإِنْزَالِ جِبْرِيلَ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى بِجَوَابِهِمْ.وَمَا هَذَا إِلَّا اعْتِنَاءٌ وكبر شرف الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَيْثُ كَانَ يَأْتِيهِ الْوَحْيُ مِنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ بِالْقُرْآنِ صَبَاحًا وَمَسَاءً وَلَيْلًا وَنَهَارًا، سَفَرًا وَحَضَرًا، وَكُلُّ مَرَّةٍ كَانَ يَأْتِيهِ الْمَلَكُ بِالْقُرْآنِ لَا كَإِنْزَالِ الْكُتُبِ قَبْلَهُ الْمُتَقَدِّمَةِ، فَهَذَا الْمَقَامُ أَعْلَى وَأَجَلُّ وَأَعْظَمُ مَكَانَةً مِنْ سَائِرِ إِخْوَانِهِ الْأَنْبِيَاءِ صلوات الله وسلامه عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ، فَالْقُرْآنُ أَشْرَفُ كِتَابٍ أَنْزَلَهُ اللَّهُ، وَمُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَعْظَمُ نَبِيٍّ أَرْسَلَهُ اللَّهُ تَعَالَى. وَقَدْ جَمَعَ اللَّهُ لِلْقُرْآنِ الصِّفَتَيْنِ مَعًا: فَفِي الْمَلَأِ الْأَعْلَى أُنْزِلَ جُمْلَةً وَاحِدَةً مِنَ اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ إِلَى بَيْتِ الْعِزَّةِ فِي السَّمَاءِ الدُّنْيَا، ثُمَّ أُنْزِلَ بَعْدَ ذَلِكَ إِلَى الْأَرْضِ مُنَجَّمًا بِحَسَبِ الْوَقَائِعِ وَالْحَوَادِثِ.
{كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا وَلَا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا} [الْفُرْقَانِ: 33]،
{وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلًا} [الْإِسْرَاءِ: 106].وَكَمَا وَفَّى بِالرَّدِّ عَلَى كُلِّ مُشَاقٍّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ مِنَ الْوَثَنِيِّينَ وَالْمُنَافِقِينَ وَالْكِتَابِيِّينَ وغيرهم، وَنَزَلَ مُنَجَّمًا عَلَى حَسَبِ ذَلِكَ، فَكَذَلِكَ هُوَ وَافٍ بِرَدِّ شُبْهَةِ كُلِّ مُلْحِدٍ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، اقْرَأْ عَلَى مَنِ ادَّعَى النُّبُوَّةَ
{وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ} [الْأَحْزَابِ: 40]، وَعَلَى الدَّجَّالِ فَوَاتِحَ سُورَةِ الْكَهْفِ، وَعَلَى الْمُعَطِّلِ وَالْمُشَبِّهِ
{لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} {يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا}، وَعَلَى النَّافِي لِلْقَدَرِ
{مَنْ يَشَأِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الْأَنْعَامِ: 39]،
{إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} [الْقَمَرِ: 49].وَعَلَى الْجَبْرِيَّةِ الْغُلَاةِ
{لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [الْبَقَرَةِ: 286]،
{رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} [النِّسَاءِ: 165]،
{قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ} [الْأَنْعَامِ: 149]،
{فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ} [الْأَنْعَامِ 149]، وَعَلَى نُفَاةِ الرُّؤْيَةِ
{وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [الْقِيَامَةِ: 23]، وَعَلَى الرَّافِضَةِ
{ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} [التَّوْبَةِ: 40]، وَعَلَى النَّاصِبَةِ
{وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ} [التَّوْبَةِ: 100]، الْآيَةَ.
{إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا} [الْأَحْزَابِ: 33]، وَعَلَى الْفَرِيقَيْنِ
{وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا} [الْحَشْرِ: 10]، وَعَلَى كُلِّ ذِي بِدْعَةٍ مُطْلَقًا
{الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} إِلَى آخِرِهَا مَعَ قَوْلِهِ تَعَالَى:
{أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ} [آلِ عِمْرَانَ: 83]،
{وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ} [آلِ عِمْرَانَ: 85].(الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ): أَنَّ هَذَا الدِّينَ التَّامَّ الْمُكَمِّل لَا يَقْبَلُ زِيَادَةً وَلَا نَقْصًا:أَنَّ هَذَا الدِّينَ التَّامَّ الْمُكَمِّلَ الَّذِي بَلَّغَهُ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى النَّاسِ كَافَّةً لَا يَقْبَلُ زِيَادَةً عَلَى مَا شُرِعَ فِيهِ مِنْ أَصُولِ الْمِلَّةِ وَفُرُوعِهَا وَلَا نَقْصًا مِنْهَا وَلَا تَغْيِيرًا وَلَا تَبْدِيلًا وَلَا يُقْبَلُ من أحد دينا سِوَاهُ، وَلَا تُقْبَلُ لِأَحَدٍ عِبَادَةٌ لَمْ يَتَعَبَّدْهَا مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا أَصْحَابُهُ، وَلَا يُعْبَدُ اللَّهُ تَعَالَى إِلَّا بِمَا شَرَعَ، وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ يَأْتِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ الْكَلَامُ عَلَيْهَا فِي الْفَصْلِ الْأَخِيرِ، وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ.