الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: موارد الظمآن لدروس الزمان
.فصل في وجوه مداواة مرض القلب: اعلم وفقنا الله وإياك وجميع المسلمين لما يحبه ويرضاه أن مداواة مرض القلب واجبة وهي تأتي من وجوهٍ كثيرةٍ جدا نشير إلى بعضها.أحدها وهي من أنفعها العزلة المصحوبة بالاشتغال بالعلوم النافعة.فبالعزلة يتقيد الظاهر عن مخالطة من لا تصلح مخالطته ومن لا يأمن دخول الآفات عليه بصحبته.فيتخلص من المعاصي التي يتعرض لها بالمخالطة مثل الغيبة والمداهنة والتملق والرياء والتصنع.ويحصل له بذلك السلامة من مسارقة الطباع الرديئة والأخلاق الدنيئة.ويحصل بذلك أيضا صيانة دينه ونفسه عن التعرض للخصومات وأنواع الشرور والفتن.فإن النفس تولعًا وتسرعًا إلى الخوض في مثل هذا.فينبغي للإنسان أن يكف لسانه عن السؤال عن أخبار الناس وما هم مشغولون فيه وما هم منهمكون فيه ومنكبون عليه من القيل والقال مما لا فائدة فيه وضرره يزيد وربما أنه ضرر خالص.وقال آخر وإذا هممت بالباطل وما لا فائدة فيه فاجعل مكانه تسبيحًا وتهليلاً.وينبغي أن يصون سمعه عن الإصغاء إلى أراجيف البلدان وما شملت عليه من الأحوال التي تضر ولا تنفع.وليحرص على أن لا يأتيه من شأنه التطلع والبحث عن شؤونه وأحواله كأصحاب المقابلات والمولعين بأكل لحوم الغوافل.وليجتنب صحبة من لا يتورع في منطقه ولا يضبط لسانه عن الاسترسال في دقائق الغيبة والتعرض بالطعن على الناس والقدح فيهم.فإن ذلك مما يكدر صفاء القلب ويؤدي إلى ارتكاب مساخط الرب.فليهجره وليفر منه من الأسد ولا يجتمع معه في مكان البتة.وفي الخبر: «مثل الجليس السوء كمثل الكير إن لم يحرقك بشرره علق بك من ريحه».وفي الأخبار السالفة أن الله تعالى أوحى إلى موسى عليه السلام: «يا ابن عمران كن يقظانًا وارتد لنفسك إخوانًا وكل أخٍ أو صاحب لا يؤازرك على مبرتي فهو لك عدو».وأوحى الله تعالى إلى داود عليه السلام فقال له: «يا داود ما لي أرك منتبذًا وحدانيًا» فقال إلهي قليت الخلق من أجلك.فقال: «يا داود كن يقظانًا وارتد لنفسك أخدانًا وكل خدنٍ لا يوافقك على مبرتي فلا تصحبه فإنه لك عدو ويقسي قلبك ويباعدك مني».قال الشاعر:وروي عن عيسى عليه السلام: «لا تجالسوا الموتى فتموت قلوبكم» قيل من الموتى؟ قال: «المحبون للدنيا الراغبون فيها وبالابتعاد عن الناس إلا لضرورة أو حاجة ماسة ينكف بصر الإنسان عن النظر إلى زينة الدنيا وزهرتها وزخرفها».وينصرف خاطره عن الاستحسان على ما ذمه الله منها فتمتنع بذلك النفس عن التطلع إلى الدنيا والاستشراف لها ومنافسة أهلها فيها.قال جل وعلا وتقدس: {وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِّنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنيَا} الآية. والله أعلم وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم. .فصل في علامات اتباع الهوى: قال بعض العلماء: من علامات اتباع الهوى المسارعة إلى نوافل الخيرات والتكاسل عن القيام بالواجبات وهذه حال كثير من الناس.فترى الواحد منهم يهتم للنوافل ويكثر منها والفروض ما يهتم لها تجده يصوم مثلاً البيض والاثنين والخميس ولا تجده لسانه عن القذف والغيبة والكذب.ولا يفتش على نفسه بدقةٍ فتجد عنده عقوق والدين أو قطيعة رحم أو أكل من مشتبه أو يعامل في الربا أو في شركات تتعامل مع البنوك في الربا أو يبيع ويشتري في المحرمات كآلات الملاهي وتصليحها.ومن ناحية الزكاة تجده يخرجها إلى من يتقاضى منه خدمًه أو يدفعها إلى من تجب عليه نفقته أو لمن يهدي إليها أو يتسامح معه في المعاملة أو نحو ذلك.ومن قبل الصلاة التي هي آكد أركان الإسلام بعد الشهادتين وهي التي إذا صلحت... وأديت تماما صلح سائر الأعمال فلا تجده يعتني بها.ويحرص على تحضير قلبه لها وطرد الأفكار التي تخل بأدائها ولا يعني بمعرف معني ما يتلو.المهم أنه مع ذلك لا تجده مستدركا لما فرط فيه ولا لما أهمله وما ذاك إلا أنهم لم يشتغلوا بالتفتيش والتفقد لأنفسهم التي خدعتهم ولم يحلفوا بمجاهدة أهوائهم التي استرقتهم وملكتهم. ولو اشتغلوا في تصليح ذلك لكان لهم فيه أعظم شغلٍ ولم يجدوا فسحًة واسعًة لشيء من النوافل.قال بعض العلماء من كانت النوافل والفضائل أهم إليه من أداء الفرائض فهو مخدوع.وقال آخر: هلاك الناس في اثنين اشتغال بنافلة وتضييع فريضة. وعمل بالجوارح بلا مواطاة القلب وإنما حرموا الوصول بتضييع الأصول.وقال آخر: انقطع الخلق عن الله بخصلتين إحداهما أنهم طلبوا النوافل وضيعوا الفرائض. والثانية: أنهم عملوا أعمالاً بالظاهرة ولم يأخذوا أنفسهم بالصدق فيها والنصح لها ولا يقبل العمل إلا بالصدق وإصابة الحق.وقال آخر: أفضل شيء للعبد معرفته بنفسه ووقوفه على حده وإحكامه لحالته التي أقيم فيها وابتداؤه بالعمل بما افترض الله عليه واجتنابه لما نهى الله عنه بعلم يرشده في جميع ذلك.وقال آخر: أنعم الله عليك فيما أمرك به من الطاعات المؤقتة بالأوقات بنعمتين عظيمتين.إحداهما تقيدها لك بأعيان الأوقات لتوقعها فيها فتفوز بثوابها ولولا التوقيت لسوفت بها ولم تعمل بها حتى تفوت فيفوتك ثوابها.والنعمة الثانية توسيع أوقاتها عليك ليبقى لك نصيب من الاختيار حتى تأتى الطاعات في حال سكون وتمهل من غير حرج ولا ضيق.اللهم ثبت وقو محبتك في قلوبنا واشرح صدورنا ونورها بنور الإيمان واجعلنا هداة معتدين وألهمنا ذكرك وشكرك واجعلنا ممن يفوز بالنظر إلى وجهك في جنات النعيم يا حليم ويا كريم واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين الأحياء منهم والميتين برحمتك يا أرحم الراحمين وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين..فصل في بيان أن الله تعالى غني عن خلقه: واعلم أن الله جل وعلا وتقدس غني عن خلقه لا تنفعه طاعتهم ولا تضره معصيتهم وأن التكاليف كلها إنما أوجبها عليهم لما يرجع إليهم من مصالحهم لا غير.فمن وفقه الله ونور بصيرته وشرح صدره وكتب في قلبه الإيمان وبغض إليه العصيان لم يقتصر على الفرائض واجتناب النواهي.بل يضيف إلى ذلك المبادرة إلى أعمال الطاعات والمسارعة إلى نوافل العبادات وفعل الخيرات.وقال: واعلم رحمك الله أنا تلمحنا الواجبات فرأينا الحق جل وعلا جعل في كل ما أوجبه تطوعًا من جنسه في أي الأنواع كان.ليكون ذلك التطوع من الجنس جابرًا لما عسى أن يقع من خلل في قيام العبد بالواجبات.وكذلك جاء في الحديث: «أنه ينظر في مفروض صلاة العبد فإن نقص منها شيء كمل من النوافل».فافهم رحمك الله هذا واجتهد ولا تكن مقتصرًا على ما فرض الله عليك بل لتكن عزيمة وناهضة قوية توجب اجتهادك وإكبابك على معاملة الله فيما يجب وفيما يسن.ففي الحديث ولا يزال عبدي يتقرب إلى بالنوافل حتى أحبه. الحديث.ولو كان العباد لا يجدون في موازينهم إلا فعل الواجبات وثواب ترك المحرمات لفاتهم من الخير والمنة ما لا يحصره حاصر ولا يحرزه حارز.فسبحان من فتح لعباده باب المعاملة وهيء لهم أسباب المواصلة فالموفقون أهل الفهم والمعرفة جعلوا الأوقات كلها وقتًا واحدًا والعمر كله نهجًا إلى الله تعالى قاصدًا.وعلموا أن الوقت كله لله فلم يجعلوا منه شيئًا لغيره.جعلوا أوقاتهم في طاعة الله فعلاً ونية. وقال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ}.علموا أن الأنفاس أمانات عندهم وودائع لديهم.وعلموا أنهم مطالبون برعايتها فوجهوا همهم لحفظها وأدائها.قال بعضهم إحالتك الأعمال إلى وجود الفراغ حمق وجهل ووجه ذلك: أولاً أنه إيثار للدنيا على الآخرة، وليس هذا من شأن عقلاء المؤمنين وهو خلاف ما طلب منك قال الله جلا ولعلا وتقدس: {بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى}.والثاني أن تسويف العمل إلى آوان الفراغ غلط لأنه قد لا يجد مهلة بأن يختطفه الموت قبل ذلك.أو يزداد شغله لأن أشغال الدنيا يتداعى بعضها إلى بعضه كما قيل:والثالث أنه ربما يفرغ منها إلى الذي لا يرضيه من تبدل عزمه وضعف نيته.المهم أن الواجب عليه المبادرة إلى الأعمال الصالحة على أي حالٍ كان. .فائدة: قال بعض العلماء أصل كل معصية وشهوة الرضا عن النفس لأنه أصل جميع الصفات المذمومة وعدم الرضا عن النفس أصل الصفات المحمودة وذلك لأن الرضا عن النفس يوجب تغطية عيوبها ومساويها وقبائحها فيصير قبيحها حسنا كما قيل:آخر: آخر: وعدم الرضا عن النفس على العكس من هذا لأن العبد إذ ذاك يتهم نفسه ويتطلب عيوبها ولا يغتر بما يظهر من الطاعة والانقياد. آخر: اللهم اجعلنا من حزبك المفلحين وعبادك الصالحين الذين أهلتهم لخدمتك وجعلتهم ممن قبلت أعماله يا رب العالمين وصلى الله على محمد وآله وصحبه أجمعين.فصل:اعلم وفقنا الله وإياك وجميع المسلمين لما يحبه ويرضاه أن من رضي عن نفسه استحسن حالها وسكن إليها ومن استحسن حال نفسه وسكن إليها استولت عليه الغفلة.وبالغفلة ينصرف قلبه عن التفقد والمراعاة لخواطره فتثور حينئذٍ دواعي الشهوة على العبد.وليس عنده من المراقبة والملاحظة والتذكير ما يدفعها به ويقهرها.فتصير الشهوة غالبة له بسبب ذلك ومن غلبته شهوته وقع في المعاصي.وأصل ذلك كله رضاه عن نفسه ومن لم يرض عن نفسه لم يستحسن حالها ولم يسكن إليها.ومن كان بهذا الوصف كان متيقظًا منتبهًا للطوارئ وبالتيقظ والنبيه يتمكن من تفقد خواطره ومراعاتها.وعند ذلك تخمد نيران الشهوة فلا يكون لها غلبة ولا قوة فيضعف العبد حينئذ بصفة العفة.فإذا صار عفيفًا كان مجتنبًا لكل ما نهاه الله عنه محافظًا على جميع ما أمره به هذا هو معنى الطاعة لله عز وجل وأصل هذا كله عدم الرضا عن نفسه.فإذا يجب على الإنسان أن يعرف نفسه ويلزم من ذلك عدم الرضا عنها وبقدر تحقق العبد في معرفة نفسه يصلح له حاله ويعلوا مقامه.وكان العلماء المخلصون يذمون نفوسهم ويتهمونها ولا يرضون عنها.قال بعضهم من لم يهتم نفسه على دوام الأوقات ولم يخالفها ولم يجرها إلى مكروها فهو مغرور ومن نظر إليها باستحسان شيء منها فقد أهلكها.وكيف يرضى عنها عاقل وهي الأمارة بالسوء وقال بعض العلماء لا تسكن إلى نفسك وإن دامت طاعتها لك في طاعة الله.وقال آخر: ما رضيت عن نفسي طرفة عين.وقال آخر: إن من الناس ناس لو مات نصف أحدهم ما أنزجر النصف الآخر ولا أحسبني إلا منهم.وقال آخر: فائدة الصحبة إنما هي للزيادة في الحال وعدم النقصان فيها فإياك وصحبة من لا ينهضك حاله ولا يدلك على الله مقاله.فصحبة من يرضى عن نفسه وإن كان عالمًا شر محض ولا فائدة فيها لأن علمه في الغالب غير نافع له.وجهله الذي أوجب رضاه عن نفسه صار غاية الضرر لأنه فاته العلم الذي يريه عيبه حتى لا يرضى عن نفسه الأمارة بالسوء.وقال ابن القيم رحمه الله لما ذكر النفس الامارة بالسوء قال منها أن يعرف أنها جاهلة ظالمة وأن الجهل والظلم يصدر عنهما كل قولٍ وعملٍ قبيح.ومن وصفه الجهل والظلم لا مطمع في استقامته واعتداله البتة فيوجب له ذلك بذل الجهد في العلم النافع الذي يخرجها به عن وصف الجهل والعمل الصالح الذي يخرجها به عن وصف الظلم ومع هذا فجهلها أكثر من علمها وظلمها أعظم من عدلها.فحقيق بمن هذا شأنه أن يرغب إلى خالقها وفاطرها أن يقيه شرها وأن يؤتيها تقواها ويزكيها فهو خير من زكاها وأن لا يكله إليها طرفة عين فإنه إن وكله إليها هلك فما هلك من هلك إلا حيث وكل إلى نفسه.وقال النبي صلى الله عليه وسلم لحصين بن المنذر: «قل اللهم ألهمني رشدي وقني شر نفسي» وفي خطبة الحاجة «ونعوذ بالله من شرور أنفسنا» وقد قال تعالى: {وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} وقال: {إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ}.فمن عرف حقيقة نفسه وما طبعت عليه علم أنها منبع كل شر ومأوى كل سوء وأن كل خير فيها ففضل من الله من به عليها لم يكن منها كما قال تعالى: {وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَا مِنكُم مِّنْ أَحَدٍ أَبَداً}.وقال تعالى: {وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ} فهذا الحب وهذه الكراهة لم يكونا في النفس ولا بها.ولكن هو الذي من بهما بسببهما من الراشدين: {فَضْلاً مِّنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} عليم بمن يصلح لهذا الفضل ويزكوا عليه وبه ويثمر عنده حكيم فلا يضعه عند غير أهله انتهى بتصرف يسير.فعلى العاقل اللبيب محاسبة نفسه دائمًا والمحاسبة هي مطالعة القلب وأعمال اللسان وأعمال الجوارح.فأجعل ذنوبك نصب عينيك فإن غفلت عنها اجتمعت بسرعةٍ وكثرت.وتأمل وفكر فلو أنك وضعت في كل معصيةٍ تحدثها حجرًا في دارك لامتلأ بيتك في مدة يسيرةٍ.فمثلاً عندك غيبة أو عندك كذب أو عندك رياء أو عندك عقوق أو قطيعة رحم أو ظلم لمسلم أو لنفسك أو لأهلك أو لأولادك أو الجيران أو تعامل معاملة لا تجوز.أو عندك كفار خدام أو سواقين أو عندك ملاهي كالتلفاز والفيديو أو عنك صور أو تشرب الدخان أو حلق لحية أو إسبال أو تشبه بكفار أو سفر لبلادهم.أو لك أولاد يدرسون عندهم برضا منك أو أكلك وشربك ولبسك من شركاتٍ تتعامل بالربا أو أن عملك لا تؤديه كاملاً مكملاً وتأخذ ما عليه كاملاً.أو لا تتنسخ من الزكاة أو نحو ذلك مما لا يحصره العد.فتيقظ وحاسب نفسك وفتش عليها بدقةٍ وأسأل الله الحي القيوم أن يتجاوز عنك. قال تبارك وتعالى: {وَإِن تُبْدُواْ مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُم بِهِ اللّهُ} قيل إن هذه الآية أعظم آية في المؤاخذة.ولما نزلت بكى عبد الله بن عمر رضي الله عنهما فقال ابن عباس يرحم أبا عبد الرحمن وإن الله تبارك وتعالى يقول: {لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا}.وقال ابن القيم رحمه الله: فمن له بصيرة بنفسه وبصيرة بحقوق الله وهو صادق في طلبه لم يبق له نظره في سيئاته حسنًة البتة فلا يلقى الله إلا بالإفلاس المحض والفقر الصرف.لأنه إذا فتش عن عيوب نفسه وعيوب عمله علم أنها لا تصلح لله وأن تلك البضاعة لا تشترى بها النجاة من عذاب الله فضلاً عن الفوز بعظيم ثوابه.فإن خلص له عمل وحال مع الله وصفًا له معه وقت شاهد منة الله عليه ومجرد فضله وأنه ليس من نفسه ولا هي أهل لذاك.فهو دائمًا مشاهد لمنة الله عليه ولعيوب نفسه وعمله لأنه متى تطلبها رآها وهذا من أجل أنواع المعارف وأنفعها للعبد.ولذلك كان سيد الاستغفار: «اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت خلقتني وأنا عبدك وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت أعوذ بك من شر ما صنعت أبوء لك بنعمتك علي وأبوء بذنبي فاغفر لي إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت».فتضمن هذا الاستغفار الاعتراف من العبد بربوبية الله وإلهيته وتوحيده والاعتراف بأنه خالقه العالم به إذ أنشأه نشأةً تستلزم عجزه عن أداء حقه وتقصيره فيه والاعتراف بأنه عبده الذي ناصيته بيده وفي قبضته لا مهرب له منه ولا ولي له سواه.ثم التزم الدخول تحت عهده وهو أمره ونهيه الذي عهده إليه على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم وإن ذلك بحسب استطاعتي لا بحسب أداء حقك فإنه غير مقدور للبشر إنما جهد المقل وقدر الطاقة.ومع هذا فأنا مصدق بوعدك ثم انزع إلى الاستعاذة والاعتصام بك من شر ما فرطت فيه من أمرك ونهيك فإنك إن لم تعذني من شره وإلا أحاطت بي الهلكة فإن إضاعة حقك سبب الهلاك وأنا أقر لك والتزم وأبخع بذنبي.فمنك المنة والإحسان والفضل ومني الذنب والإساءة فأسألك أن تغفر لي بمحو ذنبي وأن تعفيني من شره إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت فلهذا كان هذا الدعاء سيد الاستغفار.وهو متضمن لمحض العبودية فأي حسنة تبقى للبصير الصادق مع مشاهدته عيوب نفسه وعمله ومنة الله عليه فهذا هو الذي يعطيه نظره إلى نفسه ونقصه. اهـ.قال بعض الزهاد: لا يكون العبد من المتقين حتى يحاسب نفسه أشد من محاسبة الشريك لشريكه والشريكان يتحاسبان بعد العمل. وقال الحسن: المؤمن قوام على نفسه يحاسبها لله تعالى وإنما خف الحساب على قوم حاسبوا أنفسهم في الدنيا وإنما شق الحساب على قوم أخذوا هذا الأمر من غير محاسبة.وفي الحديث أبي طلحة أنه لما شغله الطين في صلاته فتدبر شغله فجعل حائطه صدقة لله تعالى ندمًا ورجاءً لعوض مما فاته وتأديبًا لنفسه.المهم أن يعلم العبد أن أعدى عدو له نفسه التي بين جنبيه وقد خلقت أمارة بالسوء أمارة بالشر فرارة من الخير.والإنسان مأمور بتزكيتها وتقويمها وقودها بسلاسل العبر إلى عبادة ربها وخالقها ومنعها عن لذتها وشهواتها المهلكة.فإن أهملها شردت وجمحت ولم يظفر بها ذلك وإن لازمها بالتوبيخ والتقريع والمعاتبة والعذل والملامة ولم عن تذكيرها وعتابها اعتدلت بإذن الله تعالى. فالعاقل اللبيب من يوبخ نفسه ويعاتبها ويوضح لها عيوبها كلها ويقرر عندها جهلها وحماقتها فإنها إذا أراد الله تعذر وترعوي وترجع.فيقول لها: ما أعظم جهلك تدعين الحكمة والفطنة وأنت من أجهل الناس وأحمقهم.وأكبر برهان على ذلك إهمالك واستهانتك أما تعرفين ما بين يديك من الأهوال والعظائم والمزعجات والمخاوف.أما تقرئين وتسمعين قول القائلين وأوفى الواعدين وأقدر القادرين: {إِنَّ لَدَيْنَا أَنكَالاً وَجَحِيماً * وَطَعَاماً ذَا غُصَّةٍ وَعَذَاباً أَلِيماً * يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ وَكَانَتِ الْجِبَالُ كَثِيباً مَّهِيلاً}. وقوله تعالى: {وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى * يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي}. الآية.وقوله عز من قائل: {وَإِذَا أُلْقُوا مِنْهَا مَكَاناً ضَيِّقاً مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُوراً}. الآية وقوله جل وعلا: {مِّن وَرَآئِهِ جَهَنَّمُ وَيُسْقَى مِن مَّاء صَدِيدٍ * يَتَجَرَّعُهُ وَلاَ يَكَادُ يُسِيغُهُ وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِن كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ وَمِن وَرَآئِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ}.وقوله تبارك وتعالى: {فَأَنذَرْتُكُمْ نَاراً تَلَظَّى}.وقوله جل وعلا: {إِنَّهَا تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ * كَأَنَّهُ جِمَالَتٌ صُفْرٌ}.ونحو هذه الآيات المخوفة ثم يقول لنفسه: فمالك تفرحين وتضحكين وتشتغلين باللهو وأنت مطلوبة لهذا الأمر العظيم والخطب الجسيم وبين يديك إحدى منزلتين الجنة أو النار فكيف يهنؤك نوم أو يلذ لك مأكول أو مشروب وأنت لا تدرين في أي الفرقين تكونين: {فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ}. وقل لها: أما تعلمن أن كل ما هو آت قريب وأن العيد ما ليس آت.أما تعلمين أن الموت يأتي بغتة من غير تقديم رسول ومن غير مواعدة وأنه لا يأتي في الشتاء دون صيف ولا في صيف دون شتاء ولا في نهار دون ليل ولا في ليل دون نهار ولا يأتي في الصبا دون الكبر ولا في الكبر دون الصبا.بل كل نفس يمكن أن يأتيها الموت بغتة فإن لم يأت الموت بغتة جاءه المرض لا محالة ثم المرض يفضي إلى الموت.فمالك يا نفس لا تستعدين والموت أقرب إليك من حبل الوريد.فهكذا معاملة الزهاد والعباد في توبيخ أنفسهم وعتابها فإن مطلبهم من المناجاة الاسترضاء ومقصودهم من المعاتبة التنبيه والاسترعاء.فمن أهمل معاتبة نفسه وتوبيخها وأهمل مناجاتها لم يكن لنفسه مراعيًا فنسأل الله العظيم الحي القيوم معرفة حقيقة بأحوال أنفسنا وغرورها.وختامًا فالعاقل من بذل وسعه في التفكير التام وعلم أن دار الدنيا رحلة فجمع للسفر رحلة.فمبدأ السفر من ظهور الآباء إلى بطون الأمهات ثم إلى الدنيا ثم إلى القبر ثم الحشر ثم إلى دار الإقامة الأبدية. فدار الإقامة للمؤمن هي دار السلام من جميع الآفات وهي دار الخلود والعدو سبانا منها إلى دار الدنيا.فالواجب علينا الاجتهاد في فكاك أسرنا ثم في حث السير إلى الوصول إلى دارنا الأولى وفي مثل هذا قيل: آخر: ثم اعلم أن مقدار السير في الدنيا ويقطع بالأنفاس كما قيل: ويسير الإنسان في هذه الدنيا سير السفينة لا يحس بسيرها وهو جالس فيها كما قيل: ويقول آخر: آخر: والله أعلم. وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.فَصْلٌ: اعلم أيها الأخ أن جميع مصيبات الدنيا وشرورها وأحزانها كأحلام نوم أو كظل زائل.إن أضحكت قليلاً أبكت كثيرًا وإن سرت يومًا أو أيامًا ساءت أشهرًا أو أعوامًا وإن متعت قليلاً منعت طويلاً.وما حصل للعبد فيها من سرور إلا أعقبه أحزان وشرور كما قيل: من سره زمن ساءته أزمان.وقال بعض العلماء لبعض الملوك: إن أحق الناس بذم الدنيا وقلاها من بسط به فيها وأعطي حاجته منها.لأنه يتوقع أفة تعدو على ماله فتجتاحه، أو على جمعه فتفرقه، أو تأتي سلطانه فتهدمه من قواعده.أو تدب إلى جسمه فتسقمه، أو تفجعه بشيء هو ضنين به من أحبابه.فالدنيا أحق بالذم هي الآخذة لما أعطت، والراجعة لما وهبت.بينما هي تضحك صاحبها إذا هي تضحك منه غيره.وبينما هي تبكي له إذ بكت عليه.وبينما هي تبسط كفه بالإعطاء إذ بسطتها بالاسترداد.تعقد التاج على رأس صاحبها اليوم وتعفره بالتراب غدًا.سواء عليها ذهاب ما ذهب وبقاء ما بقي تجد في الباقي من الذاهب خلفًا وترضى بكل بدلاً. ثم علم أيها الأخ أن من بورك له في عمره أدرك في يسير الزمن من منن الله ما لا يدخل تحت دوائر العبارة.فبركة العمر أن يرزق الله العبد من الفطنة واليقظة ما يحمله على الجد والاجتهاد على اغتنام أوقات عمره وانتهاز فرصة إمكانه.فيبادر إلى الأعمال القلبية والأعمال البدنية ويستفرغ في ذلك مجهوده بالكلية وكل ذلك في عمره قصير وزمن يسير.والخذلان كل الخذلان أن تتفرغ من الشواغل ثم لا تتوجه إلى الله جل وعلا.ومن الخذلان أيضًا أن تصدق العوائق والشواغل عن التوجه إلى الله تعالى.والواجب عليك أن تبادر إلى التوجه إلى الله بالأعمال الصالحة وأن ترمي بالعوائق والشواغل خلف ظهرك. وقد قيل سيروا إلى الله عرجًا ومكاسير ولا تنتظروا الصحة فإن انتظار الصحة بطالة والعاقل من بادر إلى الأعمال الصالحة قال الشاعر حاثًا على اغتنام الوقت: ثم اعلم أيها الأخ الحريص على حفظ وقته عن الضياع أنه إن قلت أشغالك وقلت عوائقك ثم قعدت عن الجد والاجتهاد فيما يقربك إلى الله من أنواع الطاعات أن هذا هو الخذلان أعاذنا الله منه.ففراغ القلب من الأشغال نعمة عظيمة لمن وفقه الله اغتنامها فصرفها في الباقيات الصالحات والويل لمن كفر هذه النعمة بان فتح على نفسه باب الهوى وانجر في قياد الشهوات.قال رجب: «بادروا بالأعمال سبعًا هل تنتظرون إلا فقرا منسيَا أو غني مضغيَا أو مرضًا مفسدا أو هرمًا مفندَا أو موتًا مجهزَا أو الدجال فشر غائب ينتظر أو الساعة فالساعة أدهى وأمر».وقال بعضهم: الفكرة سراج القلب فإذا ذهبت فلا إضاءة له فالقلب الخالي من الفكرة خالي من النور مظلم بوجود الجهل والغرور.ففكر الزاهدين في فناء الدنيا واضمحلالها وقلة وفائها لطلابها فيزدادون بالفكر زهدًا فيها.وفكر العابدين في جميل الثواب فيزدادون نشاطًا عليه ورغبة فيه.وفكر العارفين في الآلاء والنعماء فيزدادون نشاطًا في جميع أنواع العبادة ويذدادون محبة لله وشكرًا له وحمدًا على نعمه التي لا تعد ولا تحصى قال جل وعلا وتقدس: {وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ اللّهِ لاَ تُحْصُوهَا}. فصل:ثم اعلم أنه ليس ذكر الموت النافع هو أن يقول الموت فقط فإن هذا قليل الفائدة بل لابد مع ذلك من تفكر بقلب فارغ عن الشهوات واستحضار لحاله عند الموت وأهواله وشدائده وسكراته ويتفكر في شدة النزع والألم الذي يعانيه عند خروج الروح من البدن أعاننا الله على ذلك وجميع المسلمين.حتى قالوا: إنه أشد من الضرب بالسيف ونشر بالمناشير وقرض بالمقاريض لأنه يهجم على الإنسان ويستغرق جميع أجزائه من كل عرق من العروق وعصب من الأعصاب وجزء من الأجزاء ومفصل من المفاصل ومن أصل كل شعرة وبشرة من المفرق إلى القدم ليستل الروح منها.فلا تسأل عن كربه وألمه ولذلك لا يقدر على الصياح مع شدة الألم لزيادة الكرب حيث قهر كل قوة وضعف كل جارحة فلم يبق له قوة الاستغاثة أما العقل فقد غشيه وشوشه.وأما اللسان فقد حجزه وأبكمه والأطراف فقد ضعفها ووهنها وخدرها فإن بقيت فيه قوة سمعت له عند نزع الروح وجذبها خوارًا وغرغرة من حلقه وصدره وقد تغير لونه واربد وجهه حتى كأنه ظهر من التراب الذي هو أصله.وقد جذب منه كل عرق على حدته فالألم منتشر في داخله وخارجه حتى ترتفع الحدقتان إلى أعالي أجفانه. وتتقلص الشفتان ويتقلص اللسان وتخضر أنامله فلا تسأل عن بدن يجذب منه كل عرق من عروقه.ثم يموت كل عضو من أعضائه تدريجًا فتبرد أولاً قدماه ثم ساقاه ثم فخذاه ولكل عضو سكرة بعد سكرة وكربة بعد كربة حتى يبلغ بها إلى الحلقوم فعند ذلك ينقطع عن الدنيا وأهلها وتعظم حسرة المفرط ويندم حيث لا ينفعه الندم. آخر: اللهم اختم لنا بخاتمة السعادة واجعلنا ممن كتبت لهم الحسنى وزيادة واغفر لنا ولوالدينا وجميع المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
|