فصل: بَابُ جَرِّ الْوَلَاءِ:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: المبسوط



.بَابُ جَرِّ الْوَلَاءِ:

(قَالَ): رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ رُوِيَ عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: إذَا كَانَتْ الْحُرَّةُ تَحْتَ مَمْلُوكٍ فَوَلَدَتْ عَتَقَ الْوَلَدُ بِعِتْقِهَا، فَإِذَا أُعْتِقَ أَبُوهُمْ جَرَّ الْوَلَاءَ وَبِهِ نَأْخُذُ؛ لِأَنَّ الْوَلَدَ جُزْءٌ مِنْ أَجْزَائِهَا وَهِيَ حُرَّةٌ بِجَمِيعِ أَجْزَائِهَا فَيَنْفَصِلُ الْوَلَدُ مِنْهَا حُرًّا ثُمَّ الْوَلَاءُ كَالنَّسَبِ، وَالْوَلَدُ يُنْسَبُ إلَى أَبِيهِ بِالنَّسَبِ فَكَذَلِكَ فِي الْوَلَاءِ يَكُونُ مَنْسُوبًا إلَى مَنْ يُنْسَبُ إلَيْهِ أَبُوهُ، وَالْأَبُ بَعْدَ الْعِتْقِ يُنْسَبُ بِالْوَلَاءِ إلَى مُعْتِقِهِ فَكَذَلِكَ وَلَدُهُ.
وَاسْتَدَلَّ عَلَى إثْبَاتِ جَرِّ الْوَلَاءِ بِحَدِيثِ الزُّبَيْرِ أَيْضًا فَإِنَّهُ أَبْصَرَ بِخَيْبَرَ فِتْيَةً لُعْسًا أَعْجَبَهُ ظُرْفُهُمْ وَأُمُّهُمْ مَوْلَاةٌ لِرَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ وَأَبُوهُمْ عَبْدٌ لِبَعْضِ الْحُرْقَةِ مِنْ جُهَيْنَةَ أَوْ لِبَعْضِ أَشْجَعَ فَاشْتَرَى الزُّبَيْرُ أَبَاهُمْ فَأَعْتَقَهُ قَالَ انْتَسَبُوا إلَيَّ وَقَالَ رَافِعٌ: بَلْ هُمْ مُوَالِيَّ فَاخْتَصَمَا إلَى عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَقَضَى بِالْوَلَاءِ لِلزُّبَيْرِ وَفِي هَذَا دَلِيلٌ أَنَّ الْوَلَدَ مَنْسُوبٌ إلَى مَوَالِي أُمِّهِ مَا لَمْ يَظْهَرْ لَهُ وَلَاءٌ مِنْ جَانِبِ أَبِيهِ، فَإِذَا ظَهَرَ بِالْعِتْقِ جَرَّ الْأَبُ وَلَاءَ الْوَلَدِ إلَى مَوَالِيهِ وَهَذَا؛ لِأَنَّ فِي النَّسَبِ الْوَلَدُ مَنْسُوبٌ إلَى أُمِّهِ إذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ نَسَبٌ مِنْ أَبِيهِ لِلضَّرُورَةِ، كَالْوَلَدِ مِنْ الزِّنَا وَوَلَدِ الْمُلَاعَنَةِ بَعْدَمَا انْقَطَعَ نَسَبُهُ مِنْ أَبِيهِ ثُمَّ إذَا ظَهَرَ لَهُ النَّسَبُ مِنْ جَانِبِ الْأَبِ بِأَنْ أَكْذَبَ الْمَلَاعِنُ نَفْسَهُ صَارَ الْوَلَدُ مَنْسُوبًا إلَيْهِ، وَكَذَلِكَ فِي الْوَلَاءِ، وَقَوْلُهُ: فِتْيَةٌ لُعْسًا بَيَانٌ لِمَلَاحَتِهِمْ فَهُوَ حُمْرَةٌ تَضْرِبُ إلَى السَّوَادِ قَالَ الشَّاعِرُ لَمْيَاءُ فِي شَفَتَيْهَا حُوَّةُ لُعْسٍ وَفِي اللِّثَاتِ وَفِي أَنْيَابِهَا شَنَبُ وَقَوْلُهُ: أَعْجَبَنِي ظُرْفُهُمْ أَيْ مَلَاحَتُهُمْ وَقِيلَ كِيَاسَتُهُمْ فَمَنْ كَانَ بِهَذَا اللَّوْنِ فَهُوَ كَيِّسٌ عَادَةً، ثُمَّ ذَكَرَ الشَّعْبِيُّ قَالَ: إذَا أَعْتَقَ الْجَدُّ جَرَّ الْوَلَاءَ وَهَكَذَا يَرْوِي الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَفِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ الْجَدُّ لَا يَجُرُّ الْوَلَاءَ، بِخِلَافِ الْأَبِ وَقَدْ بَيَّنَّا فِي صَدَقَةِ الْفِطْرِ، فَإِنَّ هَذِهِ أَرْبَعُ مَسَائِلَ: جَرُّ الْوَلَاءِ وَصَدَقَةُ الْفِطْرِ، وَصَيْرُورَتُهُ مُسْلِمًا بِإِسْلَامِ جَدِّهِ، وَدُخُولُ الْجَدِّ فِي الْوَصِيَّةِ لِلْقَرَابَةِ بِخِلَافِ الْأَبِ فِي الْفُصُولِ الْأَرْبَعَةِ رِوَايَتَانِ بَيَّنَّا وَجْهَ الرِّوَايَتَيْنِ هُنَاكَ، وَاسْتَبْعَدَ مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى قَوْلَ مَنْ يَقُولُ النَّافِلَةُ بِإِسْلَامِ الْجَدِّ يَصِيرُ مُسْلِمًا.
فَقَالَ: لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَكَانَ بَنُو آدَمَ مُسْلِمِينَ بِإِسْلَامِ آدَمَ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَلَا يُسْبَى صَغِيرٌ أَبَدًا، وَهَذَا بَاطِلٌ وَكَذَلِكَ فِي جَرِّ الْوَلَاءِ بِعِتْقِ الْجَدِّ لَوْ أُعْتِقَ الْأَبُ فَلَا بُدَّ مِنْ الْقَوْلِ بِأَنَّ الْأَبَ جَرَّ وَلَاءَ الْوَلَدِ إلَى مَوَالِيهِ، وَالْجَدُّ أَبٌ وَبَعْدَمَا ثَبَتَ جَرُّ الْوَلَاءِ بِالْأُبُوَّةِ لَا يَتَحَقَّقُ نَقْلُهُ إلَى غَيْرِهِ.
(قَالَ): وَإِذَا أَسْلَمَ رَجُلٌ عَلَى يَدِ رَجُلٍ وَوَالَاهُ، ثُمَّ أُسِرَ أَبُوهُ فَأُعْتِقَ، فَإِنَّ الِابْنَ يَكُونُ مَوْلًى لِمَوَالِي الْأَبِ؛ لِأَنَّ وَلَاءَ الْمُوَالَاةِ ضَعِيفٌ وَالضَّعِيفُ لَا يَظْهَرُ فِي مُقَابَلَةِ الْقَوِيِّ، فَكَأَنَّهُ لَا وَلَاءَ عَلَى الْوَلَدِ لِأَحَدٍ وَهَذَا بِخِلَافِ مَا لَوْ كَانَ الِابْنُ مُعْتِقَ إنْسَانٍ فَأَعْتَقَ أَبَاهُ إنْسَانٌ آخَرُ فَإِنَّهُ لَا يَنْجَرُّ وَلَاءُ الِابْنِ إلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْوَلَاءَ الثَّابِتَ عَلَى الِابْنِ مِثْلُ الْوَلَاءِ الَّذِي ظَهَرَ لِلْأَبِ وَهُوَ فِي هَذَا مَقْصُودٌ فَبَعْدَمَا صَارَ مَقْصُودًا فِي حُكْمٍ لَا يُمْكِنُ جَعْلُهُ تَبَعًا فِي عَيْنِ ذَلِكَ.
(قَالَ): وَإِذَا تَزَوَّجَ الْعَبْدُ الْحُرَّةَ فَوَلَدَتْ لَهُ أَوْلَادًا فَأَوْلَادُهَا مَوَالٍ لِمَوَالِي الْأُمِّ مُعْتَقَةً كَانَتْ أَوْ مُوَالِيَةً، فَمَتَى أُعْتِقَ أَبُوهُمْ جَرَّ وَلَاءَهُمْ إلَى مَوْلَاهُ، أَمَّا إذَا كَانَتْ مُوَالِيَةً؛ فَلِأَنَّ الْوَلَدَ لَوْ كَانَ مَقْصُودًا بِوَلَاءِ الْمُوَالَاةِ كَانَ يَسْقُطُ اعْتِبَارُهُ بِظُهُورِ وَلَاءِ الْعِتْقِ لِلْأَبِ فَكَيْفَ إذَا كَانَ تَبَعًا، وَأَمَّا إذَا كَانَتْ مُعْتَقَةً فَلِأَنَّ الْوَلَدَ هُنَا تَبَعٌ فِي الْوَلَاءِ وَإِنَّمَا كَانَ تَبَعًا لِلْأُمِّ لِضَرُورَةِ عَدَمِ الْوَلَاءِ لِلْأَبِ وَالثَّابِتُ بِالضَّرُورَةِ لَا يَبْقَى بَعْدَ ارْتِفَاعِ الضَّرُورَةِ وَإِذَا كَانَتْ الْأُمُّ مُعْتَقَةَ إنْسَانٍ وَالْأَبُ حُرٌّ مُسْلِمٌ نَبَطِيٌّ لَمْ يَعْتِقْهُ أَحَدٌ فَالْوَلَدُ مَوْلًى لِمَوَالِي الْأُمِّ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ- رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى- وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ الْأَبُ وَالِيَ رَجُلَانِ وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي الْفَصْلَيْنِ لَا يَكُونُ الْوَلَدُ مَوْلًى لِمَوَالِي الْأُمِّ، وَلَكِنَّهُ مَنْسُوبٌ إلَى قَوْمِ أَبِيهِ.
قَالَ: وَكَيْفَ يُنْسَبُ إلَى قَوْمِ أُمِّهِ، وَأَبُوهُ حُرٌّ لَهُ عَشِيرَةٌ وَمَوَالٍ، بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ الْأَبُ عَبْدًا وَتَقْرِيرُ هَذَا مِنْ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنَّ الْعَبْدَ رَقِيقٌ بِجَمِيعِ أَجْزَائِهِ، وَمَاؤُهُ جُزْءٌ مِنْهُ فَإِنَّمَا تَثْبُتُ الْحُرِّيَّةُ لِمَائِهِ لِاتِّصَالِهِ بِرَحِمِهَا فَلِهَذَا كَانَ الْوَلَدُ مَوْلًى لِمَوَالِيهَا حَتَّى يُعْتَقَ الْأَبُ، وَهَذَا الْمَعْنَى مَعْدُومٌ إذَا كَانَ الْأَبُ حُرًّا، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ كَانَ حُرًّا عَرَبِيًّا كَانَ الْوَلَدُ مَنْسُوبًا إلَى قَوْمِ أَبِيهِ، وَلَا يَكُونُ مَوْلًى لِمَوَالِي أُمِّهِ، فَكَذَلِكَ إذَا كَانَ أَعْجَمِيًّا؛ لِأَنَّ الْعَرَبَ وَالْعَجَمَ فِي حُرِّيَّةِ الْأَصْلِ سَوَاءٌ، وَالثَّانِي أَنَّ الرِّقَّ تَلِفَ حُكْمًا فَإِذَا كَانَ الْأَبُ عَبْدًا، كَانَ حَالُ هَذَا الْوَلَدِ فِي الْحُكْمِ كَحَالِ مَنْ لَا أَبَ لَهُ، فَيَكُونُ مَنْسُوبًا إلَى مَوْلَى الْأُمِّ.
وَهَذَا الْمَعْنَى مَعْدُومٌ إذَا كَانَ الْأَبُ حُرًّا؛ لِأَنَّ الْحُرِّيَّةَ حَيَاةٌ بِاعْتِبَارِ صِفَةِ الْمَالِكِيَّةِ وَالْعَرَبُ وَالْعَجَمُ فِيهِ سَوَاءٌ.
وَجْهُ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ- رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى- أَنَّ وَلَاءَ الْعَتَاقَةِ وَلَاءُ نِعْمَةٍ وَهُوَ قَوِيٌّ مُعْتَبَرٌ فِي الْأَحْكَامِ وَالْحُرِّيَّةُ وَالنَّسَبُ فِي حَقِّ الْعَجَمِ ضَعِيفٌ، أَلَا تَرَى أَنَّ حُرِّيَّتَهُمْ تَحْتَمِلُ الْإِبْطَالَ بِالِاسْتِرْقَاقِ بِخِلَافِ حُرِّيَّةِ الْعَرَبِ؛ وَلِأَنَّ الْعَجَمَ ضَيَّعُوا أَنْسَابَهُمْ أَلَا تَرَى أَنَّ تَفَاخُرَهُمْ لَيْسَ بِالنَّسَبِ وَلَكِنَّ تَفَاخُرَهُمْ كَانَ قَبْلَ الْإِسْلَامِ بِعِمَارَةِ الدُّنْيَا، وَبَعْدَ الْإِسْلَامِ بِالدِّينِ، وَإِلَيْهِ أَشَارَ سَلْمَانُ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ حِينَ قَالَ سَلْمَانُ ابْنُ مَنْ قَالَ سَلْمَانُ ابْنُ الْإِسْلَامِ، فَإِذَا ثَبَتَ هَذَا الضَّعْفُ فِي جَانِبِ الْأَبِ كَانَ هَذَا وَمَا لَوْ كَانَ الْأَبُ عَبْدًا سَوَاءً، وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ الْأَبُ مَوْلَى الْمُوَالَاةِ؛ لِأَنَّ وَلَاءَ الْمُوَالَاةِ ضَعِيفٌ لَا يَظْهَرُ فِي مُقَابَلَةِ وَلَاءِ الْعَتَاقَةِ، فَوُجُودُهُ كَعَدَمِهِ فَأَمَّا إذَا كَانَ الْأَبُ عَرَبِيًّا فَلَهُ نَسَبٌ مُعْتَبَرٌ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْكَفَاءَةَ بِالنَّسَبِ تُعْتَبَرُ فِي حَقِّ الْعَرَبِ وَلَا تُعْتَبَرُ فِي حَقِّ الْعَجَمِ.
وَالْأَصْلُ فِي النِّسْبَةِ النَّسَبُ.
فَإِذَا كَانَ فِي جَانِبِ الْأَبِ نَسَبٌ مُعْتَبَرٌ أَوْ وَلَاءٌ قَوِيٌّ كَانَ الْوَلَدُ مَنْسُوبًا إلَيْهِ، وَإِذَا عُدِمَ ذَلِكَ كَانَ الْوَلَدُ مَوْلًى لِمَوَالِي الْأُمِّ.
وَاسْتَدَلَّ أَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِعَرَبِيَّةٍ تَزَوَّجَهَا رَجُلٌ مِنْ الْمَوَالِي، فَوَلَدَتْ لَهُ ابْنًا فَإِنَّ الْوَلَدَ يُنْسَبُ إلَى قَوْمِ أَبِيهِ دُونَ قَوْمِ أُمِّهِ، فَكَذَلِكَ إذَا كَانَتْ مُعْتَقَةً؛ لِأَنَّ كَوْنَهَا عَرَبِيَّةً وَكَوْنَهَا مُعْتَقَةً سَوَاءٌ، كَمَا سَوَّيْنَا بَيْنَهُمَا فِي جَانِبِ الْأَبِ وَلَكِنْ أَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ- رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى- فَرَّقَا بَيْنَهُمَا وَقَالَا فِي الْفَرْقِ: إنَّ الْعَرَبِيَّةَ لَمْ تُجِزْ عَلَيْهَا نِعْمَةَ عَتَاقٍ وَمَعْنَى هَذَا أَنَّ الْأُمَّ إذَا كَانَتْ مُعْتَقَةً فَالْوَلَدُ يُنْسَبُ إلَى قَوْمِهَا بِالْوَلَاءِ وَالنِّسْبَةُ بِالْوَلَاءِ أَقْوَى لِأَنَّهُ مُعْتَبَرٌ شَرْعًا، وَإِذَا كَانَتْ عَرَبِيَّةً فَلَوْ انْتَسَبَ الْوَلَدُ إلَى قَوْمِهَا إنَّمَا يُنْسَبُ بِالنَّسَبِ، وَالِانْتِسَابُ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْأُمِّ ضَعِيفٌ جِدًّا وَكَذَلِكَ بِوَاسِطَةِ الْأُمِّ إلَى أَبِيهَا حَتَّى لَا تَسْتَحِقُّ الْعُصُوبَةَ بِمِثْلِ هَذَا النَّسَبِ فَلِهَذَا رَجَّحْنَا جَانِبَ الْأَبِ؛ لِأَنَّ النِّسْبَةَ إلَيْهِ بِالنَّسَبِ وَإِذَا كَانَ نَسَبُهُ ضَعِيفًا لَا يَسْتَحِقُّ بِهِ الْعُصُوبَةَ.
(قَالَ): وَإِذَا أَعْتَقَ الرَّجُلُ أَمَةً وَوَلَدَهَا، أَوْ كَانَتْ حُبْلَى حِينَ أَعْتَقَهَا، أَوْ أُعْتِقَتْ وَوَلَدَتْ بَعْدَ الْعِتْقِ لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ، وَقَدْ أَعْتَقَ الْأَبَ رَجُلٌ آخَرُ، كَانَ الْوَلَدُ مَوْلَى الَّذِي أَعْتَقَهُ مَعَ أُمِّهِ دُونَ مَنْ أَعْتَقَ أَبَاهُ.
أَمَّا إذَا كَانَ الْوَلَدُ مُنْفَصِلًا عَنْهَا فَهُوَ مَمْلُوكٌ لِمَالِك الْأُمِّ فَتَنَاوَلَهُ الْعِتْقُ مَقْصُودًا وَالْوَلَدُ إذَا صَارَ مَقْصُودًا بِوَلَاءِ الْعِتْقِ لَا يَكُونُ تَبَعًا لِلْأَبِ وَكَذَلِكَ إنْ كَانَتْ حُبْلَى بِهِ؛ لِأَنَّ الْجَنِينَ بِإِعْتَاقِهَا يُعْتَقُ مَقْصُودًا فَإِنَّ الْجَنِينَ فِي حُكْمِ الْعِتْقِ كَشَخْصٍ عَلَى حِدَةٍ حَتَّى يُفْرَدَ بِالْعِتْقِ، فَهُوَ وَالْمُنْفَصِلُ سَوَاءٌ، وَكَذَلِكَ لَوْ وَلَدَتْ لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ بِيَوْمٍ مِنْ حِينِ أُعْتِقَتْ لِأَنَّا تَيَقَّنَّا أَنَّهُ كَانَ مَوْجُودًا فِي الْبَطْنِ حِينَ أُعْتِقَتْ وَكَذَلِكَ لَوْ وَلَدَتْ وَلَدَيْنِ أَحَدُهُمَا لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ بِيَوْمٍ؛ لِأَنَّ التَّوْأَمَ خُلِقَا مِنْ مَاءٍ وَاحِدٍ، فَمِنْ ضَرُورَةِ التَّيَقُّنِ بِوُجُودِ أَحَدِهِمَا حِينَ أُعْتِقَتْ التَّيَقُّنُ بِوُجُودِ الْآخَرِ، فَأَمَّا إذَا وَلَدَتْ لِأَكْثَرَ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ فَلَمْ يَتَيَقَّنْ بِوُجُودِ هَذَا الْوَلَدِ حِينَ أُعْتِقَتْ فَكَانَ مَوْلًى لِمَوَالِي الْأُمِّ تَبَعًا.
وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْحِلَّ إذَا كَانَ قَائِمًا بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ فَإِنَّمَا يُسْنَدُ الْعُلُوقُ إلَى أَقْرَبِ الْأَوْقَاتِ، إذْ لَا ضَرُورَةَ فِي الْإِسْنَادِ إلَى مَا وَرَاءَهُ إلَّا إذَا كَانَتْ مُعْتَدَّةً مِنْ مَوْتٍ أَوْ طَلَاقٍ، فَحِينَئِذٍ إذَا جَاءَتْ بِهِ لِتَمَامِ سَنَتَيْنِ مُنْذُ يَوْمِ مَاتَ أَوْ طَلَّقَ فَالْوَلَدُ مَوْلًى لِمَوَالِي الْأُمِّ؛ لِأَنَّ الْحِلَّ لَيْسَ بِقَائِمٍ فِي الْمُعْتَدَّةِ مِنْ طَلَاقٍ بَائِنٍ أَوْ مَوْتٍ، فَيُسْنَدُ الْعُلُوقُ إلَى أَبْعَدِ الْأَوْقَاتِ لِضَرُورَةِ الْحَاجَةِ إلَى إثْبَاتِ النَّسَبِ، وَإِذَا حَكَمْنَا بِذَلِكَ ظَهَرَ أَنَّ الْوَلَدَ كَانَ مَوْجُودًا فِي الْبَطْنِ حِينَ أُعْتِقَتْ وَكَذَلِكَ إذَا كَانَتْ مُعْتَدَّةً مِنْ طَلَاقٍ رَجْعِيٍّ لِأَنَّا لَا نُثْبِتُ الرَّجْعَةَ بِالشَّكِّ، وَمِنْ ضَرُورَةِ إثْبَاتِ النَّسَبِ إلَى سَنَتَيْنِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُجْعَلَ مُرَاجِعًا الْحُكْمُ بِأَنَّ الْعُلُوقَ قَبْلَ الطَّلَاقِ وَإِنْ جَاءَتْ بِهِ لِأَكْثَرَ مِنْ سَنَتَيْنِ، كَانَ الْوَلَدُ مَوْلًى لِمَوَالِي الْأَبِ فَصَارَ مُرَاجِعًا لِتَيَقُّنِنَا أَنَّ الْعُلُوقَ حَصَلَ بَعْدَ الطَّلَاقِ، وَإِنْ كَانَتْ أَقَرَّتْ بِانْقِضَاءِ الْعِدَّةِ فَإِنْ جَاءَتْ بِالْوَلَدِ لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ بَعْدَ ذَلِكَ، وَلِتَمَامِ سَنَتَيْنِ مُنْذُ طَلَّقَ، فَالْوَلَدُ مَوْلًى لِمَوَالِي الْأُمِّ لِأَنَّا عَلِمْنَا مُجَازَفَتَهَا فِي الْإِقْرَارِ بِانْقِضَاءِ الْعِدَّةِ حِينَ أَقَرَّتْ وَهِيَ حَامِلٌ فَيُسْنَدُ الْعُلُوقُ إلَى أَبْعَدِ الْأَوْقَاتِ، وَلَا يَصِيرُ مُرَاجِعًا إلَّا أَنْ تَكُونَ جَاءَتْ بِهِ لِأَكْثَرَ مِنْ سَنَتَيْنِ مُنْذُ طَلَّقَ، فَحِينَئِذٍ يَصِيرُ مُرَاجِعًا؛ لِأَنَّ إقْرَارَهَا بِانْقِضَاءِ الْعِدَّةِ صَارَ لَغْوًا حِينَ تَيَقَّنَّا أَنَّهَا كَانَتْ حَامِلًا يَوْمئِذٍ، فَكَانَ وَلَاءُ الْوَلَدِ لِمَوَالِي الْأَبِ؛ لِأَنَّا لَمْ نَتَيَقَّنْ بِكَوْنِهِ مَوْجُودًا فِي الْبَطْنِ حِينَ أُعْتِقَتْ وَلَا يَصِيرُ مَقْصُودًا بِالْوَلَاءِ إلَّا بِذَلِكَ.
(قَالَ): أَمَةٌ مُعْتَقَةٌ وَلَدَتْ مِنْ عَبْدٍ فَالْوَلَدُ مَوْلًى لِمَوَالِي أُمِّهِ، فَإِنْ أُعْتِقَ الْوَلَدُ وَأُمُّهُ فَمُوَالَاتُهُ مُوَالَاةٌ لِمَوَالِي الْأُمِّ بِمَنْزِلَةِ مُوَالَاةِ الْأُمِّ لَوْ كَانَتْ هِيَ الَّتِي أَعْتَقَهَا، وَكَذَلِكَ إنْ أَسْلَمَ عَلَى يَدِ الْوَلَدِ رَجُلٌ وَوَالَاهُ فَهُوَ مَوْلًى لِمَوَالِي الْأُمِّ أَيْضًا يَعْقِلُونَ عَنْهُ وَيَرِثُونَهُ؛ لِأَنَّ وَلَدَهَا كَنَفْسِهَا وَلَوْ أَسْلَمَ عَلَى يَدِهَا وَوَالَاهَا كَانَ مَوْلًى لِمَوَالِيهَا فَهَذَا مِثْلُهُ، فَإِنْ أَعْتَقَ الْأَبُ بَعْدَ ذَلِكَ جَرَّ وَلَاؤُهَا وَلَاءَ كُلِّهِمْ حَتَّى يَكُونَ مَوْلًى لِمَوَالِي الْأَبِ؛ لِأَنَّ وَلَاءَ الْأُمِّ انْجَرَّ إلَى قَوْمِ الْأَبِ فَكَذَلِكَ مَا يَنْبَنِي عَلَيْهِ مِنْ وَلَاءِ مُعْتَقِهِ وَمَوْلَاهُ وَهَذَا لِأَنَّ نِسْبَةَ مُعْتَقِهِ وَمَوْلَاهُ إلَى قَوْمِ الْأُمِّ كَانَ بِوَاسِطَةٍ، وَقَدْ انْقَطَعَتْ هَذِهِ الْوَاسِطَةُ حِينَ صَارَ هُوَ مَنْسُوبًا إلَى قَوْمِ الْأَبِ، وَيَسْتَوِي إنْ كَانَ وَلَدُ الْمُعْتَقَةِ حَيًّا أَوْ مَيِّتًا لَهُ وَلَدٌ أَوْ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ لِأَنَّهُ تَبِعَ فِي حُكْمِ الْوَلَاءِ لِمُعْتِقِ أُمِّهِ وَبَقَاءُ الْأَصْلِ يُغْنِي عَنْ اعْتِبَارِ بَقَاءِ التَّبَعِ؛ لِأَنَّ ثُبُوتَ الْحُكْمِ فِي التَّبَعِ بِثُبُوتِهِ فِي الْأَصْلِ وَلَا يَرْجِعُ عَاقِلَةُ الْأُمِّ عَلَى عَاقِلَةِ الْأَبِ بِمَا غَرِمُوا مِنْ أَرْشِ جِنَايَتِهِ لِأَنَّهُمْ غَرِمُوا ذَلِكَ حِينَ كَانَ مَوْلًى لَهُمْ حَقِيقَةً فَإِنَّ حُكْمَ جَرِّ الْوَلَاءِ فِي الْوَلَدِ ثَبَتَ مَقْصُورًا عَلَى الْحَالِ لِأَنَّ سَبَبَهُ وَهُوَ عِتْقُ الْأَبِ مَقْصُورٌ غَيْرُ مُسْتَنِدٍ إلَى وَقْتٍ سَابِقٍ وَكَذَلِكَ حُكْمُهُ بِخِلَافِ الْمَلَاعِنِ إذَا أَكْذَبَ نَفْسَهُ وَقَدْ عَقَلَ جِنَايَةَ الْوَلَدِ قَوْمُ أُمِّهِ فَإِنَّهُمْ يَرْجِعُونَ عَلَى عَاقِلَةِ الْأَبِ بِذَلِكَ؛ لِأَنَّ النَّسَبَ يَثْبُتُ مِنْ وَقْتِ الْعُلُوقِ فَتَبَيَّنَ بِإِكْذَابِهِ نَفْسَهُ أَنَّهُ كَانَ ثَابِتَ النَّسَبِ مِنْهُ حِينَ عَلِقَ وَقَوْمُ الْأُمِّ كَانُوا مُجْبَرِينَ عَلَى أَدَاءِ الْأَرْشِ فَلَا يَكُونُونَ مُتَبَرِّعِينَ فِي ذَلِكَ.
وَلَوْ لَمْ يُعْتَقْ الْأَبُ فَأَرَادَ الْمَوْلَى الَّذِي أَسْلَمَ عَلَى يَدَيْ أَبِيهِ أَنْ يَتَحَوَّلَ بِوَلَائِهِ إلَى مِلْكِ أَبِيهِ وَقَدْ عَقَلَ عَنْهُ مَوَالِي الْأُمِّ لَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ عَقْدَهُ مَعَ الِابْنِ تَأَكَّدَ بِحُصُولِ الْمَقْصُودِ بِهِ فَلَا يَحْتَمِلُ الْفَسْخَ وَفِي التَّحَوُّلِ إلَى غَيْرِهِ فَسْخُ الْأَوَّلِ بِخِلَافِ مَا إذَا أَعْتَقَ الْأَبَ فَإِنَّهُ لَيْسَ فِي تَحَوُّلِ وَلَائِهِ إلَى مَوَالِي الْأَبِ فَسْخُ ذَلِكَ الْعَقْدِ الَّذِي جَرَى بَيْنَهُ وَبَيْنَ الِابْنِ بَلْ فِيهِ تَأْكِيدُ ذَلِكَ وَلِأَنَّ هَذَا التَّحَوُّلَ يَثْبُتُ حُكْمًا لِضَرُورَةِ اتِّبَاعِ التَّبَعِ الْأَصْلَ وَالْأَوَّلُ يَكُونُ عَنْ قَصْدٍ مِنْهُ وَقَدْ يَثْبُتُ الشَّيْءُ حُكْمًا فِي مَوْضِعٍ لَا يَجُوزُ إثْبَاتُهُ قَصْدًا وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ وَإِلَيْهِ الْمَرْجِعُ وَالْمَآبُ.

.بَابُ وَلَاءِ الْمُوَالَاةِ:

(قَالَ) إبْرَاهِيمُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إذَا أَسْلَمَ الرَّجُلُ عَلَى يَدِ الرَّجُلِ وَوَالَاهُ فَإِنَّهُ يَرِثُهُ وَيَعْقِلُ عَنْهُ وَلَهُ أَنْ يَتَحَوَّلَ بِوَلَائِهِ إلَى غَيْرِهِ مَا لَمْ يَعْقِلْ عَنْهُ فَإِذَا عَقَلَ عَنْهُ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَتَحَوَّلَ عَنْهُ إلَى غَيْرِهِ وَبِهَذَا نَأْخُذُ وَالْإِسْلَامُ عَلَى يَدَيْهِ لَيْسَ بِشَرْطٍ لِعَقْدِ الْمُوَالَاةِ وَإِنَّمَا ذَكَرَهُ عَلَى سَبِيلِ الْعَادَةِ وَسَوَاءٌ أَسْلَمَ عَلَى يَدِهِ أَوْ أَتَاهُ مُسْلِمًا وَعَاقَدَهُ عَقْدَ الْوَلَاءِ كَانَ مَوْلًى لَهُ وَكَانَ الشَّعْبِيُّ يَقُولُ لَا وَلَاءَ إلَّا لِذِي نِعْمَةٍ يَعْنِي الْعَتَاقَ وَبِهِ يَأْخُذُ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَإِنَّمَا أَخَذْنَا فِيهِ بِقَوْلِ إبْرَاهِيمَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ لِحَدِيثِ أَبِي الْأَشْعَثِ حَيْثُ سَأَلَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ رَجُلٍ أَسْلَمَ عَلَى يَدَيْهِ وَوَالَاهُ فَمَاتَ وَتَرَكَ مَالًا فَقَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مِيرَاثُهُ لَكَ فَإِنْ أَبَيْتَ فَلِبَيْتِ الْمَالِ وَلِحَدِيثِ زِيَادَةَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ رَجُلًا مِنْ أَهْلِ الْأَرْضِ أَتَاهُ بِوَالِيهِ فَأَبَى عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ذَلِكَ فَأَتَى ابْنَ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَوَالَاهُ وَلِحَدِيثِ مَسْرُوقٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَجُلًا مِنْ أَهْلِ الْأَرْضِ وَالَى ابْنَ عَمٍّ لَهُ وَأَسْلَمَ عَلَى يَدَيْهِ فَمَاتَ، وَتَرَكَ مَالًا فَسَأَلَ ابْنَ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ مِيرَاثِهِ فَقَالَ هُوَ لِمَوْلَاهُ وَأَيَّدَ أَقَاوِيلَ الصَّحَابَةِ حَدِيثُ تَمِيمٍ الدَّارِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ «سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ الرَّجُلِ يُسْلِمُ عَلَى يَدَيْ الرَّجُلِ، مَا السُّنَّةُ فِيهِ؟ قَالَ: هُوَ أَوْلَى النَّاسِ بِمَحْيَاهُ وَمَمَاتِهِ»، وَأَيَّدَ هَذَا قَوْله تَعَالَى {وَاَلَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ}.
وَقَدْ بَيَّنَّا فِي أَوَّلِ الْكِتَابِ فَإِنْ أَسْلَمَ عَلَى يَدَيْهِ وَلَمْ يُوَالِهِ، لَمْ يُعْقَلْ عَنْهُ، وَلَمْ يَرِثْهُ إلَّا عَلَى قَوْلِ الرَّوَافِضِ فَإِنَّهُمْ يَقُولُونَ بِالْإِسْلَامِ عَلَى يَدَيْهِ يَكُونُ مَوْلًى لَهُ؛ لِأَنَّهُ أَحْيَاهُ بِإِخْرَاجِهِ إيَّاهُ مِنْ ظُلْمَةِ الْكُفْرِ؛ لِأَنَّ الْكُفَّارَ كَالْمَوْتَى فِي حَقِّ الْمُسْلِمِينَ.
فَهُوَ كَمَا لَوْ أَحْيَاهُ بِالْعِتْقِ، وَعَلَى هَذَا يَزْعُمُونَ أَنَّ النَّاسَ مَوَالِي عَلِيٍّ وَأَوْلَادِهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ فَإِنَّ السَّيْفَ كَانَ بِيَدِهِ، وَأَكْثَرُ النَّاسِ أَسْلَمُوا مِنْ هَيْبَتِهِ، وَهَذَا بَاطِلٌ عِنْدَنَا، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى هُوَ الَّذِي أَحْيَاهُ بِالْإِسْلَامِ بِأَنْ هُدَاهُ لِذَلِكَ، وَبَيَانُ ذَلِكَ فِي قَوْله تَعَالَى {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ} أَيْ كَافِرًا فَرَزَقْنَاهُ الْهُدَى.
وَقَالَ تَعَالَى: {وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ} يَعْنِي بِالْإِسْلَامِ فَدَلَّ أَنَّ الْمُنْعِمَ بِالْإِسْلَامِ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُضَافَ ذَلِكَ إلَى الَّذِي عَرَضَ عَلَيْهِ الْإِسْلَامَ؛ لِأَنَّهُ بِمَا صَنَعَ نَائِبٌ عَنْ الشَّرْعِ مُبَاشِرٌ مَا يَحِقُّ عَلَيْهِ لِلَّهِ تَعَالَى، فَهُوَ فِي حَقِّهِ كَغَيْرِهِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ لَا يَكُونُ مَوْلًى لَهُ مَا لَمْ يُعَاقِدْهُ عَقْدَ الْوَلَاءِ، ثُمَّ مِنْ أَيْنَ لَهُمْ هَذَا التَّحَكُّمَ أَنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ أَسْلَمُوا مِنْ هَيْبَةِ عَلِيٍّ وَهُوَ كَانَ صَغِيرًا حِينَ أَسْلَمَ الْكِبَارُ مِنْ الصَّحَابَةِ؟ وَأَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ كَانَا مُقَدَّمَيْنِ عَلَيْهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ فِي أُمُورِ الْقِتَالِ وَغَيْرِ الْقِتَالِ، لَا يَخْفَى ذَلِكَ عَلَى مَنْ يَتَأَمَّلُ فِي أَحْوَالِهِمْ وَلَكِنَّ الرَّوَافِضَ قَوْمٌ بُهْتٌ لَا يَحْتَرِزُونَ عَنْ الْكَذِبِ، بَلْ بِنَاءُ مَذْهَبِهِمْ عَلَى الْكَذِبِ، فَإِنْ أَسْلَمَ رَجُلٌ عَلَى يَدَيْ رَجُلٍ وَوَالَى رَجُلَانِ آخَرَ، فَهُوَ مَوْلَى هَذَا الَّذِي وَالَاهُ يَرِثُهُ وَيَعْقِلُ عَنْهُ؛ لِأَنَّهُ بِالْإِسْلَامِ عَلَى يَدَيْ الْأَوَّلِ لَمْ يَصِرْ مَوْلًى لَهُ وَلَوْ كَانَ مَوْلًى بِأَنْ عَاقَدَهُ كَانَ لَهُ أَنْ يَتَحَوَّلَ عَنْهُ، وَقَدْ فَعَلَ ذَلِكَ حِينَ عَاقَدَ مَعَ الثَّانِي فَكَيْفَ إذَا لَمْ يَكُنْ مَوْلًى لِلْأَوَّلِ؟ فَإِنْ مَاتَ عَنْ عَمَّةٍ أَوْ خَالَةٍ أَوْ غَيْرِهِمَا مِنْ الْقَرَابَةِ كَانَ مِيرَاثُهُ لِقَرَابَتِهِ دُونَ الْمَوْلَى؛ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّهُ لَا يَمْلِكُ إبْطَالَ حَقِّ الْمُسْتَحِقِّ عَنْ مَالِهِ بِعَقْدِهِ، كَمَا لَوْ أَوْصَى بِجَمِيعِ مَالِهِ وَلَهُ وَارِثٌ وَذَوُو الْأَرْحَامِ مِنْ جُمْلَةِ الْوَرَثَةِ.
قَالَ: «الْخَالُ وَارِثُ مَنْ لَا وَارِثَ لَهُ» فَلَا يَمْلِكُ إبْطَالَ حَقِّهِ بِعَقْدِهِ.
تَوْضِيحُهُ أَنَّ سَبَبَ ذِي الرَّحِمِ وَهُوَ الْقَرَابَةُ أَقْوَى؛ لِأَنَّهُ مُتَّفَقٌ عَلَى ثُبُوتِهِ شَرْعًا، وَإِنْ اخْتَلَفُوا فِي الْإِرْثِ بِهِ، وَعَقْدُ الْوَلَاءِ مُخْتَلَفٌ فِي ثُبُوتِهِ شَرْعًا فَلَا يَظْهَرُ الضَّعِيفُ فِي مُقَابَلَةِ الْقَوِيِّ، (فَإِنْ قِيلَ): يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ لِلْمَوْلَى الثُّلُثُ لِأَنَّهُ خَالِصُ حَقِّهِ يَمْلِكُ وَضْعَهُ فِيمَنْ شَاءَ.
(قُلْنَا): نَعَمْ وَلَكِنَّهُ بِعَقْدِ الْوَلَاءِ مَا وَضَعَ شَيْئًا مِنْ مَالِهِ فِيهِ، وَإِنَّمَا جَعَلَهُ وَارِثًا مِنْهُ وَفِي سَبَبِ الْوِرَاثَةِ ذُو الْقَرَابَةِ يَتَرَجَّحُ فَلَا يَظْهَرُ اسْتِحْقَاقُ الْمَوْلَى مَعَهُ بِهَذَا السَّبَبِ فِي شَيْءٍ مِنْ الْمَالِ، بِخِلَافِ الْوَصِيَّةِ بِالثُّلُثِ فَإِنَّهُ خِلَافَةٌ فِي الْمَالِ مَقْصُودًا.
تَوْضِيحُهُ: أَنَّ التَّمَلُّكَ بِالْوَصِيَّةِ غَيْرُ التَّمَلُّكِ بِالْإِرْثِ أَلَا تَرَى أَنَّ الْمُوصَى لَهُ لَا يَرُدُّ بِالْعَيْبِ، وَلَا يَصِيرُ مَغْرُورًا فِيمَا اشْتَرَاهُ الْمُوصِي بِخِلَافِ الْوَارِثِ فَلَا يُمْكِنُ جَعْلُ الثُّلُثِ لَهُ، لَا بِطَرِيقِ الْوَصِيَّةِ؛ لِأَنَّهُ مَا أَوْجَبَ لَهُ ذَلِكَ وَلَا بِطَرِيقِ الْإِرْثِ لِتَرَجُّحِ اسْتِحْقَاقِ الْقَرِيبِ عَلَيْهِ، وَإِذَا وَالَى رَجُلٌ رَجُلًا ثُمَّ وُلِدَ لَهُ ابْنٌ مِنْ امْرَأَةٍ قَدْ وَالَتْ رَجُلًا، فَوَلَاءُ الْوَلَدِ لِمَوَالِي الْأَبِ؛ لِأَنَّ الْأَبَ هُوَ الْأَصْلُ فِي النَّسَبِ وَالْوَلَاءِ، فَإِذَا كَانَ لِلْوَلَدِ فِي جَانِبِ الْأَبِ وَلَاءٌ هُوَ مُسَاوٍ لِلْوَلَاءِ الَّذِي فِي جَانِبِ الْأُمِّ يَتَرَجَّحُ جَانِبُهُ، كَمَا فِي وَلَاءِ الْعِتْقِ.
(قَالَ) وَكَذَلِكَ إنْ كَانَتْ وَالَتْ وَهِيَ حُبْلَى بِهِ، وَهَذَا بِخِلَافِ وَلَاءِ الْعَتَاقَةِ فَإِنَّهَا إذَا أُعْتِقَتْ وَهِيَ حُبْلَى بِهِ، وَكَانَ وَلَاءُ الْوَلَدِ لِمَوَالِي أُمِّهِ؛ لِأَنَّ الْوَلَدَ هُنَاكَ يَكُونُ مَقْصُودًا بِالسَّبَبِ وَهُوَ الْعِتْقُ، فَإِنَّ الْجَنِينَ مَحَلٌّ لِلْعِتْقِ مَقْصُودًا، وَهُنَا الْجَنِينُ لَمْ يَصِرْ مَقْصُودًا بِالْوَلَاءِ؛ لِأَنَّهُ مَا دَامَ فِي الْبَطْنِ فَهُوَ لَيْسَ بِمَحَلٍّ لِعَقْدِ الْمُوَالَاةِ مَقْصُودًا؛ لِأَنَّ تَمَامَ هَذَا الْعَقْدِ بِالْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ وَلَيْسَ لِأَحَدٍ عَلَيْهِ وِلَايَةُ الْقَبُولِ، وَإِذَا كَانَ تَبَعًا فَاتِّبَاعُهُ الْأَبَ أَوْلَى كَمَا بَيَّنَّا.
وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ لَهُمَا أَوْلَادٌ صِغَارٌ حِينَ وَالَى الْأَبُ إنْسَانًا، وَقَدْ وَالَتْ الْأُمُّ قَبْلَ ذَلِكَ آخَرَ، فَالْأَوْلَادُ مَوَالٍ لِمَوَالِي الْأَبِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ لِلْأُمِّ وِلَايَةُ عَقْدِ الْوَلَاءِ عَلَى الْأَوْلَادِ فِي قَوْلِهِمَا، وَفِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى لَهَا ذَلِكَ عِنْدَ عَدَمِ الْأَبِ، أَمَّا مَعَ وُجُودِ الْأَبِ فَلَا، وَلَئِنْ كَانَ لَهَا ذَلِكَ مَعَ وُجُودِ الْأَبِ فَهِيَ مَا عَقَدَتْ عَلَيْهِمْ إنَّمَا عَقَدَتْ عَلَى نَفْسِهَا خَاصَّةً، وَلَئِنْ جُعِلَ عَقْدُهَا عَلَى نَفْسِهَا عَقْدًا عَلَى الْأَوْلَادِ فَعَقْدُ الْأَبِ كَذَلِكَ عَلَى نَفْسِهِ عَقْدٌ عَلَى الْأَوْلَادِ، وَوَلَاءُ الْمُوَالَاةِ يَقْبَلُ التَّحَوُّلَ، فَيُجْعَلُ الْأَبُ مُحَوَّلًا لِوَلَائِهِمْ إلَى مَنْ وَالَاهُ، وَذَلِكَ صَحِيحٌ مِنْهُ، وَلِهَذَا كَانَ الْأَوْلَادُ مَوَالٍ لِمَوَالِي الْأَبِ فَإِنْ جَنَى الْأَبُ جِنَايَةً فَعَقَلَ الَّذِي وَالَاهُ عَنْهُ فَلَيْسَ لِوَلَدِهِ أَنْ يَتَحَوَّلَ عَنْهُ إلَى غَيْرِهِ بَعْدَ الْكِبَرِ؛ لِأَنَّ وَلَاءَ الْأَبِ تَأَكَّدَ بِعَقْدِ الْجِنَايَةِ، وَيَتَأَكَّدُ التَّبَعُ بِتَأَكُّدِ الْأَصْلِ وَكَمَا لَيْسَ لِلْأَبِ أَنْ يَتَحَوَّلَ عَنْهُ إلَى غَيْرِهِ بَعْدَمَا عَقَلَ جِنَايَتَهُ، فَكَذَلِكَ لَيْسَ لِوَلَدِهِ ذَلِكَ إذَا كَبُرَ، وَكَذَلِكَ إذَا كَانَ هَذَا الْوَلَدُ جَنَى، أَوْ جَنَى بَعْضُ إخْوَتِهِ فَعَقَلَ عَنْهُ مَوْلَاهُ، فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَتَحَوَّلَ عَنْهُ؛ لِأَنَّ الْأَبَ مَعَ أَوْلَادِهِ كَالشَّخْصِ الْوَاحِدِ فِي حُكْمِ الْوَلَاءِ، فَبِعَقْلِ جِنَايَةِ أَحَدِهِمْ بِتَأَكُّدِ الْعَقْدِ فِي حَقِّهِمْ جَمِيعًا بِخِلَافِ مَا قَبْلَ عَقْلِ الْجِنَايَةِ عَنْ أَحَدٍ مِنْهُمْ؛ لِأَنَّ هُنَاكَ وَلَاؤُهُمْ لَمْ يَتَأَكَّدْ فَإِنَّ تَأَكُّدَ الْعَقْدِ بِحُصُولِ الْمَقْصُودِ بِهِ، وَإِنَّمَا لَمْ يُجْعَلْ هَذَا الْعَقْدُ مُتَأَكِّدًا قَبْلَ حُصُولِ الْمَقْصُودِ بِهِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ مَعْنَى الْمُعَاوَضَةِ، بَلْ أَحَدُهُمَا مُتَبَرِّعٌ عَلَى صَاحِبِهِ بِالْقِيَامِ عَلَى نُصْرَتِهِ وَعَقْلِ جِنَايَتِهِ، وَالْآخَرُ مُتَبَرِّعٌ عَلَى صَاحِبِهِ فِي جَعْلِهِ إيَّاهُ خَلِيفَتَهُ فِي مَالِهِ بَعْدَ وَفَاتِهِ.
وَعَقْدُ التَّبَرُّعِ لَا يَلْزَمُ بِنَفْسِهِ مَا لَمْ يَتَّصِلْ بِهِ الْقَبْضُ، وَلَوْ كَانَ هَذَا مُعَاوَضَةً بِاعْتِبَارِ الْمَعْنَى لَمْ يَخْرُجْ مِنْ أَنْ يَكُونَ مُتَبَرِّعًا صُورَةً، فَيَكُونُ كَالْهِبَةِ بِشَرْطِ الْعِوَضِ لَا يَتِمُّ بِنَفْسِهِ مَا لَمْ يَتَّصِلْ بِهِ الْقَبْضُ، فَإِنْ كَانَ لَهُ ابْنٌ كَبِيرٌ حِينَ وَالَى الْأَبَ فَأَسْلَمَ الِابْنُ عَلَى يَدَيْ رَجُلٍ آخَرَ وَوَالَاهُ، فَوَلَاؤُهُ لَهُ؛ لِأَنَّهُ مَقْصُودٌ بِاكْتِسَابِ سَبَبِ الْوَلَاءِ هُنَا بِمَنْزِلَةِ اكْتِسَابِ أَبِيهِ، فَهُوَ كَمَا لَوْ أَعْتَقَ الْأَبَ إنْسَانٌ، وَالِابْنَ إنْسَانٌ آخَرُ، فَيَكُونُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَوْلًى لِمَنْ أَعْتَقَهُ، وَإِنْ أَسْلَمَ الِابْنُ وَلَمْ يُوَالِ أَحَدًا فَوَلَاؤُهُ مَوْقُوفٌ.
نَعْنِي بِهِ أَنَّهُ لَا يَكُونُ مَوْلًى لِمَوَالِي الْأَبِ، بِخِلَافِ الْمَوْلُودِ فِي وَلَائِهِ وَالصَّغِيرِ عِنْدَ عَقْدِ الْأَبِ؛ لِأَنَّ عَقْدَ الْوَلَاءِ تَرَتَّبَ عَلَى الْإِسْلَامِ عَادَةً، وَالِابْنُ الْكَبِيرُ لَا يَتْبَعُ أَبَاهُ فِي الْإِسْلَامِ بِخِلَافِ الصَّغِيرِ وَالْمَوْلُودِ بَعْدَ الْإِسْلَامِ، فَكَذَلِكَ فِي حُكْمِ الْوَلَاءِ الَّذِي تَرَتَّبَ عَلَيْهِ؛ وَهَذَا لِأَنَّ الصَّغِيرَ لَيْسَ بِأَصْلٍ فِي اكْتِسَابِ سَبَبِ الْوَلَاءِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يَصِحُّ هَذَا الْعَقْدُ مِنْهُ بِدُونِ إذْنِ وَلِيِّهِ فَيُجْعَلُ فِيهِ تَبَعًا لِأَبِيهِ، أَمَّا الْكَبِيرُ أَصْلٌ فِي اكْتِسَابِ سَبَبِ هَذَا الْوَلَاءِ حَتَّى يَصِحَّ مِنْهُ عَقْدُ الْوَلَاءِ بِدُونِ إذْنِ أَبِيهِ، وَبَيْنَ كَوْنِهِ أَصْلًا فِي الْحُكْمِ وَتَبَعًا فِيهِ مُنَافَاةٌ، وَلِهَذَا لَا يَصِيرُ مَوْلًى لِلَّذِي وَالَاهُ أَبُوهُ.
وَإِذَا أَسْلَمَتْ الذِّمِّيَّةُ وَوَالَتْ رَجُلًا وَلَهَا وَلَدٌ صَغِيرٌ مِنْ رَجُلٍ ذِمِّيٍّ لَمْ يَكُنْ وَلَاءُ وَلَدِهَا لِمَوْلَاهَا فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ- رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى- وَفِي قِيَاسِ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ: رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يَكُونُ وَلَاءُ وَلَدِهَا لِمَوْلَاهَا، فَمِنْهُمْ مَنْ جَعَلَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ قِيَاسَ وِلَايَةِ التَّزْوِيجِ، أَنَّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يَثْبُتُ ذَلِكَ لِلْأُمِّ عَلَى وَلَدِهَا الصَّغِيرِ حَتَّى يَصِحَّ عَقْدُهَا وَلَا يَتَعَلَّقُ بِهِ صِفَةُ اللُّزُومِ حَتَّى يَثْبُتَ لِلْوَلَدِ خِيَارُ الْبُلُوغِ، فَكَذَلِكَ يَصِحُّ هَذَا الْعَقْدُ مِنْهَا فِي حَقِّ الْوَلَدِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ صِفَةُ اللُّزُومِ بِنَفْسِهِ وَعِنْدَهُمَا لَيْسَ لِلْأُمِّ وِلَايَةُ التَّزْوِيجِ مَعَ اخْتِلَافٍ فِي الرِّوَايَةِ عَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى هُنَاكَ، وَكَذَلِكَ وَلَاءُ الْمُوَالَاةِ، وَالْأَظْهَرُ أَنَّ هَذِهِ مَسْأَلَةٌ عَلَى حِدَةٍ.
وَوَجْهُ قَوْلِهِمَا: أَنَّ حُكْمَ الْوَلَاءِ يَثْبُتُ بِعَقْدٍ فَيَسْتَدْعِي عَلَى الْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ، وَيَتَرَدَّدُ بَيْنَ الْمَنْفَعَةِ وَالْمَضَرَّةِ، وَالْوَلَدُ بَعْدَ الِانْفِصَالِ لَا يَكُونُ تَبَعًا لِلْأُمِّ فِي مِثْلِ هَذَا الْعَقْدِ، وَلَا يَكُونُ لَهَا عَلَيْهِ وِلَايَةُ الْمُبَاشَرَةِ لِهَذَا الْعَقْدِ كَعَقْدِ الْكِتَابَةِ.
وَأَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ: وَلَاءُ الْمُوَالَاةِ إمَّا أَنْ يُعْتَبَرَ بِالْإِسْلَامِ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ عَادَةً، أَوْ بِوَلَاءِ الْعَتَاقَةِ فَإِنْ اُعْتُبِرَ بِالْإِسْلَامِ فَالْوَلَدُ الصَّغِيرُ يَتْبَعُ أُمَّهُ فِي الْإِسْلَامِ، فَكَذَا فِي هَذَا الْوَلَاءِ، وَإِنْ اُعْتُبِرَ بِوَلَاءِ الْعَتَاقَةِ فَالْوَلَدُ يَتْبَعُ أُمَّهُ فِيهِ إذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَاءٌ مِنْ جَانِبِ أَبِيهِ؛ وَهَذَا لِأَنَّهُ يَتَمَحَّضُ مَنْفَعَةٌ فِي حَقِّ هَذَا الْوَلَدِ؛ لِأَنَّهُ مَا دَامَ حَيًّا فَمَوْلَاهُ يَقُومُ بِنُصْرَتِهِ وَيَعْقِلُ جِنَايَتَهُ، وَإِذَا بَلَغَ قَبْلَ أَنْ يَعْقِلَ جِنَايَتَهُ كَانَ لَهُ أَنْ يَتَحَوَّلَ عَنْهُ إنْ شَاءَ، فَعَرَفْنَا أَنَّهُ مَنْفَعَةٌ مَحْضَةٌ فِي حَقِّهِ، فَيَصِحُّ مِنْ الْأُمِّ كَقَبُولِ الْهِبَةِ وَالصَّدَقَةِ بِخِلَافِ عَقْدِ الْكِتَابَةِ فَإِنَّ فِيهِ إلْزَامُ الدَّيْنِ فِي ذِمَّتِهِ، وَلَا يَتَمَحَّضُ مَنْفَعَةٌ فِي حَقِّهِ.
وَإِذَا أَسْلَمَ حَرْبِيٌّ أَوْ ذِمِّيٌّ عَلَى يَدَيْ رَجُلٍ وَوَالَاهُ، ثُمَّ أَسْلَمَ ابْنُهُ عَلَى يَدَيْ آخَرَ وَوَالَاهُ، كَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَوْلَى الَّذِي وَالَاهُ، وَلَا يَجُرُّ بَعْضُهُمْ وَلَاءَ بَعْضٍ، وَلَيْسَ هَذَا كَالْعَتَاقِ، وَأَشَارَ إلَى الْفَرْقِ وَلَا فَرْقَ فِي الْحَقِيقَةِ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَقْصُودٌ فِي سَبَبِ الْوَلَاءِ، وَهُوَ الْعَقْدُ وَلَوْ كَانَ مَقْصُودًا فِي سَبَبِ وَلَاءِ الْعِتْقِ أَيْضًا لَمْ يَجُرَّ أَحَدُهُمَا وَلَاءَ الْآخَرِ، وَإِنَّمَا مُرَادُهُ مِنْ الْفَرْقِ أَنَّ الْوَلَدَ الْكَبِيرَ لَمَّا أَسْلَمَ عَلَى يَدَيْ الثَّانِي لَا يَصِيرُ مَوْلًى لِمَوَالِي أَبِيهِ؛ لِأَنَّ هُنَاكَ سَبَبُ الْوَلَاءِ الْعَقْدُ لَا الْإِسْلَامُ، وَهُوَ أَصْلٌ فِي الْعَقْدِ يَتَمَكَّنُ مِنْ مُبَاشَرَتِهِ بِنَفْسِهِ، فَلِهَذَا لَا يُجْعَلُ فِيهِ تَبَعًا لِأَبِيهِ.
حَرْبِيٌّ أَسْلَمَ وَوَالَى مُسْلِمًا فِي دَارِ الْحَرْبِ، أَوْ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ فَهُوَ مَوْلَاهُ؛ لِأَنَّ سَبَبَهُ هُوَ الْعَقْدُ الَّذِي جَرَى بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ، وَالْعَقْدُ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ صَحِيحٌ، سَوَاءٌ كَانَ فِي دَارِ الْحَرْبِ أَوْ كَانَ أَحَدُهُمَا فِي دَارِ الْحَرْبِ وَالْآخَرُ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ كَعَقْدِ النِّكَاحِ؛ وَهَذَا لِأَنَّ الْمَقْصُودَ التَّنَاصُرُ، وَالْمُسْلِمُ يَقُومُ بِنُصْرَتِهِ حَيْثُ يَكُونُ، أَوْ يُعْتَبَرُ وَلَاءُ الْمُوَالَاةِ بِوَلَاءِ الْعِتْقِ وَلَوْ أَنَّ مُسْلِمًا فِي دَارِ الْإِسْلَامِ أَعْتَقَ عَبْدًا مُسْلِمًا لَهُ فِي دَارِ الْحَرْبِ كَانَ مَوْلًى لَهُ، فَكَذَلِكَ فِي الْمُوَالَاةِ، فَإِنْ سَبَى ابْنَهُ فَأُعْتِقَ لَمْ يَجُزْ وَلَاءُ الْأَبِ؛ لِأَنَّ الْوَالِدَ لَا يَتْبَعُ وَلَدَهُ فِي الْوَلَاءِ، فَإِنَّ الْوَلَاءَ كَالنَّسَبِ، وَالْوَالِدُ لَا يُنْسَبُ إلَى وَلَدِهِ؛ لِأَنَّهُ فَرْعُهُ وَالْأَصْلُ لَا يُنْسَبُ إلَى الْفَرْعِ، فَلِهَذَا لَا يَجُرُّ الِابْنُ وَلَاءَ الْأَبِ، وَإِنْ سُبِيَ أَبُوهُ فَأُعْتِقَ جَرَّ وَلَاءَهُ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ وَلَاءَ الْمُوَالَاةِ لَا يَظْهَرُ فِي مُقَابَلَةِ وَلَاءِ الْعِتْقِ، فَكَانَ الِابْنُ بَعْدَ عِتْقِ الْأَبِ بِمَنْزِلَةِ مَنْ لَا وَلَاءَ لَهُ، فَيَجُرُّ الْأَبُ وَلَاءَهُ، بِخِلَافِ مَا إذَا أَسْلَمَ الْأَبُ وَوَالَى رَجُلَانِ؛ لِأَنَّ وَلَاءَ الِابْنِ هُنَا مُسَاوٍ لِوَلَاءِ الْأَبِ، فَيَظْهَرُ فِي مُقَابَلَتِهِ فَيَكُونُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَوْلًى لِمَوْلَاهُ، وَلَوْ كَانَ ابْنُ ابْنِهِ لَمْ يُسْبَ وَلَكِنَّهُ أَسْلَمَ عَلَى يَدَيْ رَجُلٍ وَوَالَاهُ ثُمَّ سُبِيَ الْجَدُّ فَأُعْتِقَ لَمْ يَجُرَّ وَلَاءَ نَافِلَتِهِ؛ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ الْجَدَّ لَا يَجُرُّ الْوَلَاءَ إلَّا أَنْ يَجُرَّ وَلَاءَ ابْنِهِ، فَإِنْ تَحَقَّقَ ذَلِكَ فَحِينَئِذٍ يَجُرُّ وَلَاءَ ابْنِهِ، وَإِنَّمَا يُتَصَوَّرُ جَرُّهُ وَلَاءَ ابْنِهِ فِيمَا إذَا سُبِيَ أَبُوهُ فَاشْتَرَاهُ هَذَا الْجَدُّ حَتَّى عَتَقَ عَلَيْهِ، فَيَصِيرُ ابْنُهُ مَوْلًى لِمَوَالِيهِ، وَيَنْجَرُّ إلَيْهِ وَلَاءُ النَّافِلَةِ بِهَذِهِ الْوَاسِطَةِ، فَأَمَّا إذَا أَعْتَقَ الِابْنُ غَيْرَهُ فَالْجَدُّ لَا يَجُرُّ وَلَاءَهُ؛ لِكَوْنِهِ مَقْصُودًا بِالْعِتْقِ وَلَا يَجُرُّ وَلَاءَ وَلَدِهِ أَيْضًا.
(قَالَ): وَمُوَالَاةُ الصَّبِيِّ بَاطِلَةٌ، يَعْنِي إذَا أَسْلَمَ عَلَى يَدَيْ صَبِيٍّ وَوَالَاهُ؛ لِأَنَّ بِالْعَقْدِ يَلْتَزِمُ نُصْرَتَهُ فِي الْحَالِ، وَالصَّبِيُّ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ النُّصْرَةِ، وَلِهَذَا لَا يَدْخُلُ فِي الْعَاقِلَةِ وَهُوَ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الِالْتِزَامِ بِخِلَافِ مَا إذَا أَسْلَمَ عَلَى يَدَيْ امْرَأَةٍ وَوَالَاهَا؛ لِأَنَّ الْمَرْأَةَ مِنْ أَهْلِ الِالْتِزَامِ بِالْعَقْدِ وَمِنْ أَهْلِ اكْتِسَابِ سَبَبِ الْوَلَاءِ بِالْعِتْقِ، فَكَذَلِكَ بِالْعَقْدِ وَإِنْ وَالَى رَجُلٌ عَبْدًا لَمْ نُجِزْهُ إلَّا أَنْ يَكُونَ بِإِذْنِ الْمَوْلَى، فَحِينَئِذٍ يَكُونُ مَوْلًى لَهُ لِأَنَّهُ عَقْدُ الْتِزَامِ النُّصْرَةِ، وَالْعَبْدُ لَا يَمْلِكُهُ بِنَفْسِهِ بِدُونِ إذْنِ مَوْلَاهُ فَإِنْ كَانَ بِإِذْنِهِ، فَحِينَئِذٍ يَكُونُ عَقْدُهُ كَعَقْدِ مَوْلَاهُ، فَيَكُونُ الْوَلَاءُ لِلْمَوْلَى كَمَا إذَا أَعْتَقَ عَبْدًا مِنْ كَسْبِهِ بِإِذْنِ مَوْلَاهُ؛ وَهَذَا لِأَنَّ الْمَقْصُودَ بِهِ النُّصْرَةُ وَالْمِيرَاثُ بَعْدَ الْمَوْتِ وَنُصْرَةُ الْعَبْدِ لِمَوْلَاهُ وَهُوَ لَيْسَ بِأَهْلٍ لِلْمِلْكِ بِالْإِرْثِ، وَلِهَذَا يُجْعَلُ الْمَوْلَى خَلَفًا عَنْهُ فِيمَا هُوَ مِنْ حُكْمِ هَذَا الْعَقْدِ، وَإِنْ وَالَى صَبِيًّا بِإِذْنِ أَبِيهِ أَوْ وَصِيِّهِ يَجُوزُ؛ لِأَنَّ عِبَارَةَ الصَّبِيِّ إذَا كَانَ يَعْقِلُ مُعْتَبَرَةٌ فِي الْعُقُودِ، وَالْتِزَامُهُ بِالْعَقْدِ بِإِذْنِ وَلِيِّهِ صَحِيحٌ فِيمَا لَا يَكُونُ مَحْضُ مَضَرَّةٍ كَالْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ وَنَحْوِهِ؛ لِأَنَّ الْوَلِيَّ يَمْلِكُ عَلَيْهِ هَذَا الْعَقْدَ فَإِنَّهُ لَوْ قَبِلَ الْوَلَاءَ لِوَلَدِهِ عَلَى إنْسَانٍ كَانَ صَحِيحًا، فَكَذَلِكَ يَمْلِكُهُ الْوَلَدُ بِإِذْنِ أَبِيهِ ثُمَّ يَكُونُ مَوْلًى لِلصَّبِيِّ؛ لِأَنَّهُ أَهْلٌ لِلْوَلَاءِ بِنَفْسِهِ إذَا صَحَّ سَبَبُهُ أَلَا تَرَى أَنَّهُ إذَا وَرِثَ قَرِيبَهُ يُعْتَقُ عَلَيْهِ، وَيَكُونُ مَوْلًى لَهُ فَكَذَا حُكْمُ وَلَاءِ الْمُوَالَاةِ بِخِلَافِ الْعَبْدِ، وَلَوْ أَسْلَمَ عَلَى يَدَيْ مُكَاتَبٍ وَوَالَاهُ كَانَ جَائِزًا؛ لِأَنَّ الْمُكَاتَبَ مِنْ أَهْلِ الِالْتِزَامِ بِالْعَقْدِ وَمِنْ أَهْلِ مُبَاشَرَةِ سَبَبِ الْوَلَاءِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ يُكَاتِبُ عَبْدَهُ فَيَكُونُ صَحِيحًا مِنْهُ، وَإِذَا أَدَّى مُكَاتَبَتَهُ فَيُعْتَقُ قَبْلَ أَدَائِهِ كَانَ مَوْلًى لِمَوْلَاهُ، فَكَذَا هُنَا يَكُونُ مَوْلًى لِمَوْلَاهُ؛ لِأَنَّهُ مَعَ الرِّقِّ لَيْسَ بِأَهْلٍ لِمُوجِبِ الْوَلَاءِ وَهُوَ الْإِرْثُ فَيَخْلُفُهُ مَوْلَاهُ فِيهِ.
وَلَوْ وَالَى ذِمِّيٌّ مُسْلِمًا أَوْ ذِمِّيًّا جَازَ وَهُوَ مَوْلَاهُ، وَإِنْ أَسْلَمَ الْأَسْفَلُ؛ لِأَنَّ الذِّمِّيَّ مِنْ أَهْلِ الِالْتِزَامِ بِالْعَقْدِ وَمِنْ أَهْلِ اكْتِسَابِ سَبَبِ الْوَلَاءِ كَالْمُسْلِمِ، وَإِذَا صَحَّ الْعَقْدُ فَإِسْلَامُ الْأَسْفَلِ لَا يَزِيدُهُ إلَّا وَكَادَّةً وَيَبْقَى مَوْلًى لَهُ بَعْدَ إسْلَامِهِ حَتَّى يَتَحَوَّلَ إلَى غَيْرِهِ، وَلَوْ أَسْلَمَ رَجُلٌ مِنْ نَصَارَى الْعَرَبِ عَلَى يَدَيْ رَجُلٍ مِنْ غَيْرِ قَبِيلَتِهِ وَوَالَاهُ لَمْ يَكُنْ مَوْلَاهُ، وَلَكِنْ يُنْسَبُ إلَى عَشِيرَتِهِ.
وَأَصْلُهُ هُمْ يَعْقِلُونَ عَنْهُ وَيَرِثُونَهُ، وَكَذَلِكَ الْمَرْأَةُ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ النَّسَبَ فِي حَقِّ الْعَرَبِ مُعْتَبَرٌ، وَأَنَّهُ يُضَاهِي وَلَاءَ الْعِتْقِ، وَمَنْ كَانَ عَلَيْهِ وَلَاءُ الْعِتْقِ لَمْ يَصِحَّ مِنْهُ عَقْدُ الْمُوَالَاةِ مَعَ أَحَدٍ، فَكَذَلِكَ مَنْ كَانَ لَهُ نَسَبٌ مِنْ الْعَرَبِ لَا يَصِحُّ مِنْهُ عَقْدُ الْمُوَالَاةِ مَعَ أَحَدٍ، وَهَذَا بِخِلَافِ وَلَاءِ الْعِتْقِ فَإِنَّ مَنْ ثَبَتَ عَلَيْهِ الرِّقُّ مِنْ نَصَارَى الْعَرَبِ إذَا أُعْتِقَ كَانَ مَوْلًى لِمُعْتِقِهِ؛ لِأَنَّ وَلَاءَ الْعِتْقِ قَوِيٌّ كَالنَّسَبِ فِي حَقِّ الْعَرَبِ أَوْ أَقْوَى مِنْهُ، فَيَظْهَرُ مَعَ وُجُودِهِ، وَيَتَقَرَّرُ حُكْمُهُ بِتَقَرُّرِ سَبَبِهِ، فَأَمَّا وَلَاءُ الْمُوَالَاةِ ضَعِيفٌ لَا يَتَقَرَّرُ سَبَبُهُ مَعَ وُجُودِ النَّسَبِ فِي حَقِّ الْعَرَبِيِّ.
وَالْحُكْمُ يَنْبَنِي عَلَى السَّبَبِ.
ذِمِّيٌّ أَسْلَمَ وَلَمْ يُوَالِ أَحَدًا ثُمَّ أَسْلَمَ آخَرُ عَلَى يَدَيْهِ وَوَالَاهُ فَهُوَ مَوْلَاهُ؛ لِأَنَّهُ مِنْ أَهْلِ الِالْتِزَامِ بِالْعَقْدِ وَمِنْ أَهْلِ الْمَقْصُودِ بِالْوَلَاءِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لِأَحَدٍ عَلَيْهِ وَلَاءٌ فَهُوَ مَوْلَاهُ لِأَنَّهُ مِنْ أَهْلِ الِالْتِزَامِ بِالْعَقْدِ، وَمِنْ أَهْلِ الْمَقْصُودِ بِالْوَلَاءِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لِأَحَدٍ عَلَيْهِ وَلَاءٌ، وَإِنْ أَسْلَمَ ذِمِّيٌّ عَلَى يَدِ حَرْبِيٍّ فَإِنَّهُ لَا يَكُونُ مَوْلَاهُ وَإِنْ أَسْلَمَ الْحَرْبِيُّ بَعْدَ ذَلِكَ وَهَذَا ظَاهِرٌ؛ لِأَنَّهُ لَوْ أَسْلَمَ عَلَى يَدَيْ مُسْلِمٍ لَمْ يَكُنْ مَوْلًى لَهُ، وَلَكِنْ فَائِدَةُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ بَيَانُ أَنَّ الْحَرْبِيَّ الَّذِي يَعْرِضُ الْإِسْلَامَ عَلَى غَيْرِهِ وَيُلَقِّنُهُ لَا يَصِيرُ مُسْلِمًا بِذَلِكَ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ قَالَ: وَإِنْ أَسْلَمَ الْحَرْبِيُّ بَعْدَ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ مَوْلَاهُ؛ وَهَذَا لِأَنَّ مَنْ يُلَقِّنُ غَيْرَهُ شَيْئًا لَا يَكُونُ مُبَاشِرًا لِذَلِكَ الشَّيْءِ بِنَفْسِهِ كَاَلَّذِي يُلَقِّنُ غَيْرَهُ طَلَاقَ امْرَأَتِهِ وَعِتْقَ عَبْدِهِ.
(قَالَ): رَجُلٌ وَالَى رَجُلًا فَلَهُ أَنْ يَتَحَوَّلَ عَنْهُ مَا لَمْ يَعْقِلْ عَنْهُ وَلَكِنْ إنَّمَا يَنْتَقِضُ الْعَقْدُ بِحَضْرَتِهِ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ تَمَّ بِهِمَا وَمِثْلُ هَذَا الْعَقْدِ لَا يَفْسَخُهُ أَحَدُهُمَا إلَّا بِمَحْضَرٍ مِنْ صَاحِبِهِ كَعَقْدِ الشَّرِكَةِ وَالْمُضَارَبَةِ وَالْوَكَالَةِ؛ وَهَذَا لِأَنَّ تَمَكُّنَ كُلِّ أَحَدٍ مِنْهُمَا مِنْ الْفَسْخِ بِاعْتِبَارِ أَنَّ الْعَقْدَ غَيْرُ لَازِمٍ بِنَفْسِهِ، لَا بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ غَيْرُ مُنْعَقِدٍ بِنَفْسِهِ، فَفِي فَسْخِ أَحَدِهِمَا إلْزَامُ الْآخَرِ حُكْمَ الْفَسْخِ فِي عَقْدٍ كَانَ مُنْعَقِدًا فِي حَقِّهِ، فَلَا يَكُونُ إلَّا بِمَحْضَرٍ مِنْهُ لِمَا عَلَيْهِ مِنْ الضَّرَرِ، وَلَوْ ثَبَتَ حُكْمُ الْفَسْخِ فِي حَقِّهِ قَبْلَ عِلْمِهِ وَهُوَ نَظِيرُ الْخِطَابِ بِالشَّرْعِيَّاتِ فَإِنَّهُ لَا يَظْهَرُ حُكْمُ الْخِطَابِ فِي حَقِّ الْمُخَاطَبِ مَا لَمْ يَعْلَمْ بِهِ لِدَفْعِ الضَّرَرِ عَنْهُ، وَكَذَلِكَ لَوْ أَنَّ الْأَعْلَى تَبْرَأَ مِنْ وَلَاءِ الْأَسْفَلِ صَحَّ ذَلِكَ إذَا كَانَ بِمَحْضَرٍ مِنْهُ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ غَيْرُ لَازِمٍ مِنْ الْجَانِبَيْنِ، وَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنْ يَنْفَرِدَ بِفَسْخِهِ بِغَيْرِ رِضَاءِ صَاحِبِهِ بَعْدَ أَنْ يَكُونَ بِمَحْضَرٍ مِنْهُ، وَإِنْ وَالَى الْأَسْفَلُ رَجُلًا آخَرَ كَانَ ذَلِكَ نَقْضًا لِلْعَقْدِ مَعَ الْأَوَّلِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ بِمَحْضَرٍ مِنْهُ؛ لِأَنَّ انْتِقَاضَ الْعَقْدِ فِي حَقِّ الْأَوَّلِ هُنَا يَثْبُتُ حُكْمًا لِصِحَّةِ الْعَقْدِ مَعَ الثَّانِي وَفِي الْعَقْدِ مَعَ الثَّانِي لَا يُشْتَرَطُ حَضْرَةُ الْأَوَّلِ، فَكَذَلِكَ فِيمَا يَثْبُتُ حُكْمًا لَهُ بِخِلَافِ الْفَسْخِ مَقْصُودًا، وَهُوَ نَظِيرُ عَزْلِ الْوَكِيلِ حَالَ غَيْبَتِهِ لَا يَصِحُّ مَقْصُودًا وَيَصِحُّ حُكْمًا لِعِتْقِ الْعَبْدِ الَّذِي وَكَّلَهُ بِبَيْعِهِ.
(فَإِنْ قِيلَ): فَلِمَاذَا يَجْعَلُ صِحَّةَ الْعَقْدِ مَعَ الثَّانِي مُوجِبًا فَسْخَ الْعَقْدِ الْأَوَّلِ وَلَوْ وَالَاهُمَا جُمْلَةً صَحَّ؟ (قُلْنَا): لِأَنَّ الْوَلَاءَ كَالنَّسَبِ مَا دَامَ ثَابِتًا مِنْ إنْسَانٍ لَا يُتَصَوَّرُ ثُبُوتُهُ مِنْ غَيْرِهِ فَكَذَلِكَ الْوَلَاءُ، فَعَرَفْنَا أَنَّ مِنْ ضَرُورَةِ صِحَّةِ الْعَقْدِ مَعَ الثَّانِي بُطْلَانَ الْعَقْدِ الْأَوَّلِ، ثُمَّ وَلَاءُ الْمُوَالَاةِ بَعْدَ صِحَّتِهِ مُعْتَبَرٌ بِوَلَاءِ الْعِتْقِ حَتَّى إذَا أَعْتَقَ الْأَسْفَلُ عَبْدًا وَوَالَاهُ رَجُلٌ فَوَلَاءُ مُعْتِقِهِ وَوَلَاؤُهُ لِلْأَعْلَى الَّذِي هُوَ مَوْلَاهُ، وَلَوْ مَاتَ الْأَعْلَى ثُمَّ مَاتَ الْأَسْفَلُ فَإِنَّمَا يَرِثُهُ الذُّكُورُ مِنْ أَوْلَادِ الْأَعْلَى دُونَ الْإِنَاثِ عَلَى نَحْوِ مَا بَيَّنَّاهُ فِي وَلَاءِ الْعِتْقِ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.