فصل: ذَبِيحَةُ الْأَخْرَسِ:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: المبسوط



.ذَبِيحَةُ الْأَخْرَسِ:

(وَعَنْ) عَامِرٍ قَالَ: لَا بَأْسَ بِذَبِيحَةِ الْأَخْرَسِ إذَا كَانَ مِنْ أَهْلِ الْإِسْلَامِ أَوْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَبِهِ نَأْخُذُ، فَإِنَّ إشَارَةَ الْأَخْرَسِ وَتَحْرِيكَهُ الشَّفَتَيْنِ بِمَنْزِلَةِ الْبَسْمَلَةِ مِنْ النَّاطِقِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَصِيرُ بِهِ شَارِعًا فِي الصَّلَاةِ، كَمَا يَكُونُ النَّاطِقُ شَارِعًا بِالتَّكْبِيرِ، ثُمَّ الْأَهْلِيَّةُ لِلذَّبْحِ يَكُونُ لِلذَّابِحِ مِنْ أَهْلِ تَسْمِيَةِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى الْخُلُوصِ، وَذَلِكَ بِاعْتِقَادِهِ التَّوْحِيدَ، وَالْأَخْرَسُ مُعْتَقِدٌ لِذَلِكَ ثُمَّ الْمُحَرَّمُ بَعْدَهُ الْإِعْرَاضُ عَنْ التَّسْمِيَةِ، وَلَا يَتَحَقَّقُ الْإِعْرَاضُ مِنْ الْأَخْرَسِ فَعُذْرُهُ أَبْلَغُ مِنْ عُذْرِ النَّاسِي، وَإِذَا كَانَ بِعُذْرِ النِّسْيَانِ يَنْعَدِمُ الْإِعْرَاضُ، فَبِعُذْرِ الْخَرَسِ أَوْلَى.
(وَعَنْ) عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي الرَّجُلِ إذَا ذَبَحَ الشَّاةَ أَوْ الطَّيْرَ فَقَطَعَ رَأْسَهُ قَالَ: لَا بَأْسَ بِأَكْلِهِ، (وَعَنْهُ) أَنَّهُ قَالَ تِلْكَ ذَكَاةٌ وَحِيَّةٌ أَيْ سَرِيعَةٌ.
(وَعَنْ) عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ رَجُلٍ ضَرَبَ عُنُقَ بَطَّةٍ بِالسَّيْفِ فَسَبَقَ فَأَمَاتَهُ قَالَ: يُؤْكَلُ وَبِهِ نَأْخُذُ؛ لِأَنَّهُ أَتَى بِمَا هُوَ الْمُحْتَاجُ إلَيْهِ، وَهُوَ قَطْعُ الْحُلْقُومِ وَالْأَوْدَاجِ، وَزَادَ عَلَى ذَلِكَ إلَّا أَنَّهُ بَدَأَ بِالْقَطْعِ مِنْ قِبَلِ الْحَلْقِ حَتَّى أَبَانَ رَأْسَهُ، فَلَا يُشَكُّ فِي إبَاحَةِ أَكْلِهِ، وَيُكْرَهُ هَذَا الصَّنِيعُ؛ لِأَنَّهُ زِيَادَةُ إيلَامٍ غَيْرِ مُحْتَاجٍ إلَيْهِ، وَإِنْ بَدَأَ مِنْ قِبَلِ الْقَفَا، فَإِنْ قَطَعَ الْحُلْقُومَ وَالْأَوْدَاجَ قَبْلَ أَنْ تَمُوتَ الشَّاةُ حَلَّتْ، فَإِنْ مَاتَتْ قَبْلَ أَنْ تَقْطَعَ الْحُلْقُومَ وَالْأَوْدَاجَ لَمْ تُؤْكَلْ؛ لِأَنَّ فِعْلَ الذَّكَاةِ بِقَطْعِ الْحُلْقُومِ وَالْأَوْدَاجِ عِنْدَ الْقُدْرَةِ، وَإِنْ مَاتَتْ بِفِعْلٍ لَيْسَ بِذَكَاةٍ شَرْعًا، وَذَلِكَ مُوجِبٌ لِلْحُرْمَةِ، بِخِلَافِ مَا إذَا مَاتَ قَبْلَ قَطْعِ الْحُلْقُومِ وَالْأَوْدَاجِ (وَعَنْ) سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: الذَّكَاةُ مَا بَيْنَ اللَّبَّةِ وَاللَّحْيَيْنِ وَبِهِ نَأْخُذُ، وَقَدْ رُوِيَ هَذَا اللَّفْظُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَالْمُرَادُ بَيَانُ مَحَلِّ الذَّكَاةِ عِنْدَ الِاخْتِيَارِ، وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ أَعْلَى الْحَلْقِ وَأَوْسَطَهُ وَأَسْفَلَهُ سَوَاءٌ فِي ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْكُلَّ فِي الْمَعْنَى الْمَطْلُوبِ بِالذَّكَاةِ سَوَاءٌ.
(وَعَنْ) إبْرَاهِيمَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى قَالَ: إذَا ذَبَحْتَ، فَلَا تَذْكُرْ مَعَ اسْمِ اللَّهِ تَعَالَى شَيْئًا، وَهَكَذَا نُقِلَ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: جَرِّدُوا التَّسْمِيَةَ عِنْدَ الذَّبْحِ، وَالْأَصْلُ فِيهِ قَوْله تَعَالَى {فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا} وَإِنَّ أَهْلَ الْجَاهِلِيَّةِ كَانُوا يَذْكُرُونَ آلِهَتَهُمْ عِنْدَ الذَّبْحِ فَحَرَّمَ ذَلِكَ الشَّرْعُ بِقَوْلِهِ: {وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ} وَأَمَرَ بِتَسْمِيَةِ اللَّهِ تَعَالَى عِنْدَ الذَّبْحِ عَلَى الْخُلُوصِ لِمُخَالَفَةِ الْمُشْرِكِينَ، فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَذْكُرَ مَعَ اسْمِ اللَّهِ تَعَالَى غَيْرُهُ، وَإِذَا أَرَادَ أَنْ يَدْعُوَ فَيَقُولُ: اللَّهُمَّ تَقَبَّلْ مِنْ فُلَانٍ يَنْبَغِي أَنْ يُقَدِّمَ ذَلِكَ عَلَى فِعْلِ الذَّبْحِ أَوْ يُؤَخِّرَهُ عَنْهُ، فَأَمَّا مَعَ النَّحْرِ لَا يُذْكَرُ غَيْرُ اسْمِ اللَّهِ تَعَالَى، وَهُوَ تَأْوِيلُ الْحَدِيثِ «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا ضَحَّى عَنْ أُمَّتِهِ قَالَ: هَذَا عَمَّنْ شَهِدَ لِي بِالْبَلَاغِ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ» إنَّمَا قَالَ: بَعْدَ الذَّبْحِ لَا مَعَهُ.
(وَعَنْ) رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ «أَنَّ بَعِيرًا مِنْ إبِلِ الصَّدَقَةِ قَدْ نَدَّ فَرَمَاهُ رَجُلٌ بِسَهْمٍ وَسَمَّى فَقَتَلَهُ فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إنَّ لَهَا أَوَابِدَ كَأَوَابِدِ الْوَحْشِ، فَإِذَا فَعَلْتُ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ فَافْعَلُوا بِهِ كَمَا فَعَلْتُمْ بِهَذَا ثُمَّ كُلُوهُ» وَبِهِ نَأْخُذُ فَنَقُولُ: عِنْدَ تَعَذُّرِ الْحِلِّ بِذَكَاةِ الِاخْتِيَارِ يَثْبُتُ الْحِلُّ بِذَكَاةِ الِاضْطِرَارِ، وَذَلِكَ بِالْجُرْحِ فِي أَيْ مَوْضِعٍ أَصَابَهُ، وَمَعْنَى قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إنَّ لَهَا أَوَابِدَ كَأَوَابِدِ الْوَحْشِ» أَيْ إنَّ لَهَا تَنَفُّرًا وَاسْتِيحَاشًا كَمَا يَكُونُ الْوَحْشُ، إلَّا أَنَّ الْأَغْلَبَ مِنْ حَالِهَا الْإِلْفُ، وَالْوَحْشِيُّ أَغْلَبُ حَالِهِ التَّوَحُّشُ، فَإِذَا صَارَ أَلُوفًا الْتَحَقَ بِمَا هُوَ أَلُوفٌ غَالِبًا، وَإِذَا تَوَحَّشَ الْتَحَقَ بِالْوَحْشِيِّ غَالِبًا، وَالْمُرَادُ بِإِبِلِ الصَّدَقَةِ مَا يُؤْخَذُ بِالصَّدَقَةِ أَوْ مَا كَانَ يُنْحَرُ لِإِطْعَامِ الْمَسَاكِينِ، وَقَدْ كَانَ ذَلِكَ مَعْرُوفًا فِي زَمَنِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْخُلَفَاءِ بَعْدَهُ.
(وَعَنْ) عَتَّابَةَ بْنِ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ بَعِيرًا تَرَدَّى فِي نَهْرٍ بِالْمَدِينَةِ فَوُجِئَ مِنْ قِبَلِ خَاصِرَتِهِ فَأَخَذَ مِنْهُ ابْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عُسَيْرًا بِدِرْهَمَيْنِ، وَفِي هَذَا دَلِيلٌ أَنَّ الْحِلَّ يَثْبُتُ بِذَكَاةِ الِاضْطِرَارِ عِنْدَ تَعَذُّرِ الذَّكَاةِ بِالِاخْتِيَارِ، وَأَنَّهُ لَا فَرَّقَ بَيْنَ أَنْ يَتَعَذَّرَ ذَلِكَ بِتَوَحُّشِهِ، وَبَيْنَ أَنْ يَتَعَذَّرَ سُقُوطُهُ فِي مَهْوَى، فَإِنَّ ابْنَ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا مَعَ زُهْدِهِ وَتَفَرُّدِهِ رَغِبَ فِي الشِّرَاءِ مِنْهُ، وَالْعُسَيْرُ تَصْغِيرُ الْعَسِيرِ، وَقَدْ رُوِيَ عُشَيْرَاءُ، وَهُوَ سَوَادُ الْبَطْنِ، وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ (وَعَنْ) إبْرَاهِيمَ رَحِمَهُ اللَّهُ قَالَ إذَا تَرَدَّى بَعِيرٌ فِي بِئْرٍ، وَلَمْ يَقْدِرُوا أَنْ يَنْحَرُوهُ فَمِنْ حَيْثُ نُحِرَ فَهُوَ لَهُ ذَكَاةٌ.
فَفِي هَذَا بَيَانُ أَنَّ السُّنَّةَ فِي الْبَعِيرِ النَّحْرُ، وَفِي الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ الذَّبْحُ، وَبِهِ نَطَقَ الْكِتَابُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {إنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً} وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ} وَالْمُرَادُ الشَّاةُ، وَاَلَّذِي جَاءَ فِي الْحَدِيثِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «نَحَرْنَا الْبَدَنَةَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ سَبْعَةٍ، وَالْبَقَرَةَ عَنْ سَبْعَةٍ» مَعْنَاهُ وَذَبَحْنَا الْبَقَرَةَ عَنْ سَبْعَةٍ، وَمِثْلُ هَذَا الْإِضْمَارِ مَعَ الْعَطْفِ مَعْلُومٌ فِي لِسَانِ الْعَرَبِ قَالَ الْقَائِلُ:
عَلَفْتُهَا تِبْنًا وَمَاءً بَارِدًا

أَيْ، وَسَقَيْتُهَا بَارِدًا؛ لِأَنَّ الْمَاءَ لَا يُعْلَفُ.

.ذَكَاةُ السَّمَكِ وَالْجَرَادِ:

وَعَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: ذَكَاةُ السَّمَكِ وَالْجَرَادِ أَخْذُهُ، وَمُرَادُهُ بَيَانُ أَنَّ الذَّكَاةَ لَيْسَتْ بِشَرْطٍ فِيهِمَا بَلْ يَثْبُتُ الْحِلُّ فِيهِمَا بِالْأَخْذِ مِنْ غَيْرِ ذَكَاةٍ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا تَثْبُتُ الْحُرْمَةُ بِكَوْنِ الْآخِذِ مَجُوسِيًّا أَوْ وَثَنِيًّا، وَمَا يُشْتَرَطُ فِيهِ الذَّكَاةُ يُشْتَرَطُ فِيهِ الْأَهْلِيَّةُ لِلْمُذَكِّي، وَحَيْثُ لَمْ يُشْتَرَطْ فِي السَّمَكِ وَالْجَرَادِ عَرَفْنَا أَنَّ الذَّكَاةَ فِيهِمَا لَيْسَتْ بِشَرْطٍ، كَمَا قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أُحِلَّتْ لَنَا مَيْتَتَانِ وَدَمَانِ»، وَسُئِلَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ الْجَرَادِ يَأْخُذُهُ الرَّجُلُ مِنْ الْأَرْضِ وَفِيهِ الْمَيِّتُ وَغَيْرُهُ قَالَ: كُلْهُ كُلْهُ، وَفِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ كُلْهُ كُلَّهُ فَاللَّفْظُ الْأَوَّلُ تَكْرَارٌ لِلْمُبَالَغَةِ، وَالثَّانِي بَيَانُ أَنَّهُ يُؤْكَلُ كُلُّهُ وَبِهِ نَأْخُذُ، وَأَنَّ الْجَرَادَ وَإِنْ وُجِدَ مَيِّتًا فَلَا بَأْسَ بِأَكْلِهِ؛ لِأَنَّ مَوْتَهُ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ بِسَبَبٍ، فَإِنَّهُ بَحْرِيُّ الْأَصْلِ بَرِّيُّ الْمَعَاشِ، كَمَا قِيلَ: إنَّ بِيضَ السَّمَكِ إذَا انْحَصَرَ عَنْهُ الْمَاءُ يَصِيرُ جَرَادًا، فَإِذَا مَاتَ فِي الْبَرِّ فَقَدْ مَاتَ فِي غَيْرِ مَوْضِعِ أَصْلِهِ، وَإِذَا مَاتَ فِي الْمَاءِ فَقَدْ مَاتَ فِي غَيْرِ مَوْضِعِ مَعَاشِهِ، وَذَلِكَ سَبَبٌ لِمَوْتِهِ، وَالدَّلِيلُ عَلَى إبَاحَةِ أَكْلِ الْجَرَادِ مَا رُوِيَ أَنَّ مَرْيَمَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا سَأَلَتْ لَحْمًا هَشًّا فَرُزِقَتْ الْجَرَادَ، وَأَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَانَ مُولَعًا بِأَكْلِ الْجَرَادِ حَتَّى قَالَ يَوْمًا فِي مَجْلِسِهِ: لَيْتَ لَنَا قَصْعَةً مِنْ جَرَادٍ فَنَأْكُلُهُ، أَوْ قَالَ: نَقْعَةً.
(وَعَنْ) عَمْرَةَ قَالَتْ: خَرَجْتُ مَعَ وَلِيدَةٍ لَنَا فَاشْتَرَيْنَا خِرِّيتَةً بِقَفِيزٍ مِنْ حِنْطَةٍ فَوَضَعْنَاهَا فِي زِنْبِيلٍ فَخَرَجَ رَأْسُهَا مِنْ جَانِبٍ، وَذَنَبُهَا مِنْ جَانِبٍ فَمَرَّ بِنَا عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَقَالَ لِي: بِكَمْ أَخَذْتِ فَأَخْبَرْتُهُ فَقَالَ: مَا أَطْيَبَهُ وَأَرْخَصَهُ وَأَوْسَعَهُ لِلْعِيَالِ فَفِي هَذَا الْحَدِيثِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْجَرَادَ مَأْكُولٌ وَبِهِ نَأْخُذُ، وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، فَإِنَّهُ سُئِلَ عَنْ الْخِرِّيتِ فَقَالَ: فَأَمَّا نَحْنُ، فَلَا نَرَى بِهِ بَأْسًا، فَأَمَّا أَهْلُ الْكِتَابِ فَيَكْرَهُونَهُ، وَأَمَّا الرَّوَافِضُ قَاتَلَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى فَيَأْخُذُونَ بِقَوْلِ أَهْلِ الْكِتَابِ، وَيُحَرِّمُونَ الْخِرِّيتَ، وَيَدَعُونَ قَوْلَ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مَعَ دَعْوَاهُمْ مَحَبَّتَهُ، وَأَهْلُ الْكِتَابِ يَزْعُمُونَ أَنَّ الْخِرِّيتَ مِنْ جُمْلَةِ الْمَمْسُوخَاتِ، وَهَذَا بَاطِلٌ، فَإِنَّ الْمَمْسُوخَ لَا نَسْلَ لَهُ، وَلَا يَبْقَى بَعْدَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ بَلْ الْخِرِّيتُ نَوْعٌ مِنْ السَّمَكِ، وَالسَّمَكُ مَأْكُولٌ بِجَمِيعِ أَنْوَاعِهِ يَثْبُتُ الْحِلُّ فِيهِ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ} وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أُحِلَّتْ لَنَا مَيْتَتَانِ وَدَمَانِ أَمَّا الْمَيْتَتَانِ فَالسَّمَكُ وَالْجَرَادُ، وَأَمَّا الدَّمَانِ فَالْكَبِدُ وَالطِّحَالُ» فَهَذَا دَلِيلٌ أَنَّهُ لَا بَأْسَ لِلْإِنْسَانِ أَنْ يَتَكَلَّمَ مَعَ النِّسَاءِ وَالْإِمَاءِ بِمَا لَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ، فَإِنَّ هَذَا لَيْسَ مِنْ جُمْلَةِ مَا لَا يَعْنِيهِ، فَإِنَّمَا الَّذِي لَا يَعْنِي الْمَرْءَ مِمَّا وَرَدَ النَّهْيُ عَنْهُ أَنْ يَكُونَ فِيهِ مَأْثَمٌ.
(وَعَنْ) إبْرَاهِيمَ رَحِمَهُ اللَّهُ قَالَ مَا أَطْيَبَ إهَابَهُ وَهُوَ كَذَلِكَ، وَقَدْ قِيلَ: إنَّ أَطْيَبَ الْأَشْيَاءِ مِنْ السَّمَكِ الذَّنَبُ، وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا أَنَّهُ أَتَاهُ عَبْدٌ أَسْوَدُ فَقَالَ: إنَّنِي فِي غَنَمٍ لِأَهْلِي، وَإِنِّي سَلِيلُ الطَّرِيقِ فَأَسْقِي مِنْ لَبَنِهَا بِغَيْرِ إذْنِهِمْ، فَقَالَ: لَا، فَقَالَ: إنِّي أَرْمِي الصَّيْدَ فَأُصْمِيَ وَأُنْمِي قَالَ: كُلْ مَا أَصْمَيْتَ وَدَعْ مَا أَنْمَيْتَ.
قَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى: الْإِصْمَاءُ مَا رَأَيْتَهُ، وَالْإِنْمَاءُ مَا تَوَارَى عَنْكَ، وَبِهِ نَأْخُذُ، إلَّا أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ إذَا تَوَارَى عَنْهُ، وَقَعَدَ فِي طَلَبِهِ، فَإِذَا لَمْ يَقْعُدْ عَنْ طَلَبِهِ لَا يَحْرُمُ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ مَا لَا يُسْتَطَاعُ بِالِامْتِنَاعِ عَنْهُ يَكُونُ عَفْوًا، وَفِي الْحَدِيثِ دَلِيلٌ أَنَّهُ لَيْسَ لِلرَّاعِي أَنْ يَسْقِي مِنْ لَبَنِ الْغَنَمِ بِغَيْرِ إذْنِ أَهْلِهَا، فَإِنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا نَهَاهُ عَنْ ذَلِكَ، وَهَذَا لِأَنَّ الرَّاعِيَ أَمَرَ بِالرَّعْيِ وَالْحِفْظِ وَالسَّقْيُ وَمِنْ لَبَنِهَا بِمَنْزِلَةِ هِبَةٍ عَنْهَا، وَلَا يَجُوزُ لَهُ ذَلِكَ بِدُونِ إذْنِ أَهْلِهَا، وَاَلَّذِي جَاءَ فِي الْحَدِيثِ «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَرَّ بِرَاعِي الْغَنَمِ فَاسْتَسْقَاهُ اللَّبَنَ» تَأْوِيلُهُ أَنَّ ذَلِكَ الرَّاعِيَ كَانَ يَرْعَى غَنَمَ نَفْسِهِ أَوْ كَانَ مَأْذُونًا مِنْ جِهَةِ مَالِكِهِ بِذَلِكَ، وَقَدْ عَرَفَ ذَلِكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَلَا تَرَى إلَى قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «لَا يَحِلُّ مَالُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إلَّا بِطِيبَةٍ مِنْ نَفْسِهِ».
(وَعَنْ) مُوسَى بْنِ طَلْحَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ «أَنَّ أَعْرَابِيًّا أَهْدَى إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَرْنَبًا مَشْوِيًّا قَالَ: لِأَصْحَابِهِ كُلُوا قَالَ الْأَعْرَابِيُّ: إنِّي رَأَيْتُ دَمًا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَيْسَ بِشَيْءٍ، وَقَالَ لِلْأَعْرَابِيِّ: إذَنْ فَكُلْ فَقَالَ: إنِّي صَائِمٌ، قَالَ: صَوْمَ مَاذَا؟ قَالَ: صَوْمَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ، فَقَالَ: هَلَّا جَعَلْتهَا الْبِيضَ»، وَبِهِ نَأْخُذُ فَنَقُولُ: الْأَرْنَبُ مَأْكُولٌ، وَقَدْ قَبِلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْهَدِيَّةَ فِيهِ وَأَكَلَ مِنْهُ، وَأَمَرَ أَصْحَابَهُ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ بِذَلِكَ (وَقَوْلُ) الْأَعْرَابِيِّ: إنِّي رَأَيْتُ دَمًا مُرَادُهُ مَا يَقُولُ جُهَّالُ الْعَرَبِ: أَنَّ الْأَرْنَبَةَ تَحِيضُ كَالنِّسَاءِ فَبَيَّنَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِشَيْءٍ، وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَا بَأْسَ لِلْمُهْدِي أَنْ يَأْكُلَ مِنْ هَدِيَّتِهِ، فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَعَاهُ إلَى الْأَكْلِ، وَإِنَّمَا بُعِثَ لِيُتَمِّمَ مَكَارِمَ الْأَخْلَاقِ، فَمَا كَانَ يَدْعُو أَحَدًا إلَى مَا يُخَالِفُ ذَلِكَ، وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ إذَا دُعِيَ إلَى طَعَامٍ وَهُوَ صَائِمٌ لَا بَأْسَ بِأَنْ يَمْتَنِعَ وَيَقُولَ: إنِّي صَائِمٌ، وَقَدْ قَرَّرَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى مَا قَالَ حَيْثُ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «صَوْمَ مَاذَا؟ قَالَ: صَوْمَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ» وَقَدْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَحُثُّهُمْ عَلَى ذَلِكَ، وَيَقُولُ «الْحَسَنَةُ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا صَوْمُ ثَلَاثَةِ أَيَّامِ مِنْ الشَّهْرِ كَصَوْمِ جَمِيعِ الشَّهْرِ» وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْأَفْضَلَ أَنْ يَكُونَ صَوْمُهُ فِي الْأَيَّامِ الْبِيضِ؛ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «هَلَّا جَعَلْتَهَا الْبِيضَ» وَالْبِيضُ الثَّالِثَ عَشْرَ، وَالرَّابِعَ عَشْرَ، وَالْخَامِسَ عَشْرَ، وَعِنْدَ بَعْضِهِمْ أَوَّلُهَا الرَّابِعَ عَشْرَ، وَآخِرُهَا السَّادِسَ عَشْرَ، سُمِّيَتْ بِيضًا لِطُلُوعِ الْقَمَرِ فِي لَيَالِيِهَا مِنْ أَوَّلِ اللَّيْلِ إلَى آخِرِ اللَّيْلِ، فَكَأَنَّ اللَّيْلَ يَسْتَوِي بِالنَّهَارِ فِي الْبَيَاضِ.
(وَقِيلَ:) لِمَا رُوِيَ أَنَّ آدَمَ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ لَمَّا أُهْبِطَ إلَى الْأَرْضِ بَعْدَ زَلَّتِهِ اغْبَرَّ جَسَدُهُ صَامَ الرَّابِعَ عَشْرَ فَابْيَضَّ ثُلُثُ جَسَدِهِ ثُمَّ صَامَ الْخَامِسَ عَشْرَ فَابْيَضَّ ثُلُثٌ آخَرُ ثُمَّ صَامَ السَّادِسَ عَشْرَ فَابْيَضَّ جَمِيعُ جَسَدِهِ، وَعَادَ اللَّوْنُ الْأَوَّلُ فَسُمِّيَتْ بِيضًا لِذَلِكَ وَعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا «أَنَّهُ أُهْدِيَ لَهَا ضَبٌّ فَسَأَلَتْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ أَكْلِهِ فَكَرِهَهُ فَجَاءَ سَائِلٌ فَأَرَادَتْ أَنْ تُطْعِمَهُ إيَّاهُ فَقَالَ: صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ أَتُطْعِمِينَ مَا لَا تَأْكُلِينَ» وَبِهَذَا نَأْخُذُ فَنَقُولُ: لَا يَحِلُّ أَكْلُ الضَّبِّ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يَحِلُّ لِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُئِلَ عَنْ الضَّبِّ فَقَالَ: لَمْ يَكُنْ مِنْ طَعَامِ قَوْمِي فَأَجِدُ نَفْسِي تَعَافُهُ فَلَا أُحِلُّهُ وَلَا أُحَرِّمُهُ» وَفِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا قَالَ: «أُكِلَ الضَّبُّ عَلَى مَائِدَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَفِي الْآكِلِينَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ كَانَ يَنْظُرُ إلَيْهِ وَيَضْحَكُ» وَاعْتِمَادُنَا عَلَى حَدِيثِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا فِيهِ يُبَيِّنُ أَنَّ امْتِنَاعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ أَكْلِهِ لِحُرْمَتِهِ لَا لِأَنَّهُ كَانَ يَعَافُهُ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ نَهَاهَا عَنْ التَّصَدُّقِ بِهِ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ كَرَاهِيَةُ الْأَكْلِ لِلْحُرْمَةِ لَأَمَرَهَا بِالتَّصَدُّقِ بِهِ، كَمَا أَمَرَهَا بِهِ فِي شَاةِ الْأَنْصَارِيِّ بِقَوْلِهِ: «أَطْعِمُوهَا الْأَسَارَى» وَالْحَدِيثُ الَّذِي فِيهِ دَلِيلُ الْإِبَاحَةِ مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهُ كَانَ قَبْلَ ثُبُوتِ الْحُرْمَةِ، ثُمَّ الْأَصْلُ أَنَّهُ مَتَى تَعَارَضَ الدَّلِيلَانِ أَحَدُهُمَا يُوجِبُ الْحَظْرَ وَالْآخَرُ يُوجِبُ الْإِبَاحَةَ يَغْلِبُ الْمُوجِبُ لِلْحَظْرِ، وَقَالَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ رَحِمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى: حُرْمَةُ الضَّبِّ؛ لِأَنَّهُ مِنْ الْمَمْسُوخَاتِ عَلَى مَا رُوِيَ أَنَّ فَرِيقَيْنِ مِنْ عُصَاةِ بَنِي إسْرَائِيلَ أَخَذَ أَحَدُهُمَا طَرِيقَ الْبَحْرِ، وَالْآخَرُ طَرِيقَ الْبَرِّ، فَمُسِخَ الَّذِينَ أَخَذُوا طَرِيقَ الْبَرِّ ضِبَابًا، وَقِرَدَةً، وَخَنَازِيرَ (وَرُوِيَ) هَذَا الْأَثَرُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَكِنَّهُ غَيْرُ مَشْهُورٍ.
ثُمَّ قَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الْمَمْسُوخَ لَا نَسْلَ لَهُ وَلَا بَقَاءَ، فَهَذَا الَّذِي يُوجَدُ الْآنَ لَيْسَ بِمَمْسُوخٍ، وَإِنْ نَسَخَ قَوْمٌ مِنْ جِنْسِهِ، وَلَكِنَّهُ مِنْ الْخَبَائِثِ؛ وَلِهَذَا عَافَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَيَدْخُلُ تَحْتَ قَوْله تَعَالَى {وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمْ الْخَبَائِثَ} لِكَوْنِهِ مُسْتَخْبَثًا طَبْعًا كَسَائِرِ الْهَوَامِّ.
وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي أَوْفَى قَالَ: «أَصَبْنَا يَوْمَ حُنَيْنٍ حُمُرًا أَهْلِيَّةً فَذَبَحْنَاهَا، وَإِنَّ الْقِدْرَ لَتَغْلِي بِهَا فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَكْفِئُوهَا بِمَا فِيهَا، وَنَهَى عَنْ أَكْلِهَا» فَقُلْنَا بَيْنَنَا: إنَّمَا حَرَّمَهَا؛ لِأَنَّهَا نُهْبَةٌ لَمْ تُخَمَّسْ فَلَقِيتُ سَعِيدَ بْنَ جُبَيْرٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ فَذَكَرْتُ لَهُ ذَلِكَ فَقَالَ: بَلْ حَرَّمَهَا أَلْبَتَّةَ، وَبِهِ نَأْخُذُ فَنَقُولُ: لَا يَحِلُّ تَنَاوُلُ الْحِمَارِ الْأَهْلِيِّ، وَكَانَ بِشْرٌ الْمَرِيسِيُّ يُبِيحُ ذَلِكَ، وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ، وَقَدْ رَوَى أَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا سُئِلَتْ عَنْ ذَلِكَ فَتَلَتْ قَوْله تَعَالَى {قُلْ لَا أَجِدُ فِيمَا أُوحِيَ إلَيَّ مُحَرَّمًا} الْآيَةَ.
(وَعَنْ) طَاوُسٍ قَالَ: قُلْتُ لِجَابِرِ بْنِ فِهْرٍ: إنَّكُمْ تَزْعُمُونَ أَنَّ لَحْمَ الْحِمَارِ الْأَهْلِيِّ حَرَامٌ قَالَ: كَانَ الْحَكَمُ بْنُ عَمْرٍو يَقُولُ ذَلِكَ عِنْدَنَا بِالْبَصْرَةِ فَأَتَى ذَلِكَ الْخَبَرُ يَعْنِيَ ابْنَ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، وَفِي حَدِيثِ الْحُرِّ بْنِ غَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: لَمْ يَبْقَ لِي مِنْ مَالِي إلَّا حُمَيْرَاتٌ فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «كُلْ مِنْ سَمِينِ مَالِكَ، فَإِنِّي إنَّمَا نَهَيْتُكُمْ عَنْ خَوَلِ الْقَرْيَةِ» وَاعْتَبَرُوا الْحِمَارَ الْأَهْلِيَّ بِالْوَحْشِيِّ، فَإِنَّهُ مَأْكُولٌ بِالِاتِّفَاقِ، وَكُلّ حَيَوَانٍ وَحْشِيُّهُ مَأْكُولٌ فَالْأَهْلِيُّ مِنْ جِنْسِهِ مَأْكُولٌ كَالْإِبِلِ وَالْبَقَرِ، وَمَا لَا يَكُونُ أَهْلِيُّهُ مَأْكُولًا فَوَحْشِيُّهُ لَا يَكُونُ مَأْكُولًا كَالْكَلْبِ وَالسِّنَّوْرِ، وَحُجَّتُنَا فِي ذَلِكَ مَا رَوَيْنَا مِنْ الْحَدِيثِ فِيهِ يَتَبَيَّنُ أَنَّهُ مَا كَانَ حَرَّمَهَا يَوْمَ خَيْبَرَ لِقِلَّةِ الظَّهْرِ؛ لِأَنَّهُ أَمَرَ بِإِكْفَاءِ الْقُدُورِ بَعْدَ مَا صَارَ لَحْمًا لَيْسَ فِيهِ مَنْفَعَةُ الظَّهْرِ، وَمَا حَرَّمَهَا لِأَنَّهَا نُهْبَةٌ لَمْ تُخَمَّسْ، فَإِنَّهُ كَانَ مَأْكُولًا فَلِلْغَانِمِينَ حَقُّ التَّنَاوُلِ مِنْهُ قَبْلَ الْخُمُسِ كَالطَّعَامِ وَالْعَلَفِ، وَمَا حَرَّمَهَا لِأَنَّهَا حَوَلُ الْقِرْبَةِ، مَأْخُوذٌ مِنْ الْحَوَّالِ مُتَنَاوِلِ الْجِيَفِ كَالْجَلَالَةِ، فَإِنَّهُ خَصَّ الْحُمُرَ الْأَهْلِيَّةَ بِذَلِكَ، وَفِي هَذَا الْمَعْنَى الْحِمَارُ وَغَيْرُهُ سَوَاءٌ فَعُرْفُنَا أَنَّهُ حَرَّمَهَا أَلْبَتَّةَ.
(وَقَدْ) رَوَى أَنَّهُ أَمَرَ أَبَا طَلْحَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَنَادَى «أَلَا إنَّ اللَّهَ تَعَالَى وَرَسُولَهُ يَنْهَيَانِكُمْ عَنْ لُحُومِ الْحُمُرِ الْأَهْلِيَّةِ، فَإِنَّهَا رِجْسٌ» وَرَوَى ابْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى يَوْمَ خَيْبَرَ عَنْ مُتْعَةِ النِّسَاءِ، وَعَنْ الْحِمَارِ الْأَهْلِيِّ»، وَلَمَّا بَلَغَ عَلِيًّا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَتْوَى ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا بِإِبَاحَةِ الْمُتْعَةِ فَقَالَ لَهُ نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ مُتْعَةِ النِّسَاءِ، وَعَنْ الْحُمُرِ الْأَهْلِيَّةِ زَمَنَ خَيْبَرَ فَتُرَجَّحُ الْآثَارُ الْمُوجِبَةُ لِلْحُرْمَةِ، ثُمَّ لَا حُجَّةَ فِي حَدِيثِ الْحَبْرِ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ، فَإِنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «كُلْ مِنْ سَمِينِ مَالِكَ» أَيْ بِعْهُ، وَاسْتَنْفِقْ ثَمَنَهُ فَقَدْ يُقَالُ فُلَانٌ أَكَلَ عَقَارَهُ، وَالْمُرَادُ هَذَا، وَقَالَ الْقَائِلُ: إنَّ لَنَا أَحْمِرَةً عِجَافًا يَأْكُلْنَ كُلَّ لَيْلَةٍ إكَافًا، وَالْمُرَادُ ثَمَنُ الْإِكَافِ، وَمَا نَقَلُوهُ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا لَا يَكَادُ يَصِحُّ عَنْهُ، وَالْمَشْهُورُ عَنْهُ أَنَّهُ حَرَّمَ الْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ فَاسْتَدَلَّ لِذَلِكَ بِالْآيَةِ {لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً} عَلَى مَا تَبَيَّنَ، وَعَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا اسْتَدَلَّتْ بِعَامٍ دَخَلَهُ الْخُصُوصُ بِالِاتِّفَاقِ، وَقَدْ ثَبَتَ النَّهْيُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي لَحْمِ الْحِمَارِ فَكَانَ دَلِيلُ الْخُصُوصِ فِي هَذَا الْعَامِ، وَاعْتِبَارُ الْأَهْلِيِّ بِالْوَحْشِيِّ سَاقِطٌ، فَإِنَّهُ لَا مُشَابَهَةَ بَيْنَهُمَا مَعْنًى، وَالْمُشَابَهَةُ صُورَةً لَا تَكُونُ دَلِيلَ الْحِلِّ، وَقَدْ صَحَّ فِي الْأَثَرِ «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَبَاحَ تَنَاوُلَ الْحِمَارِ الْوَحْشِيِّ»، كَمَا رُوِيَ «أَنَّ أَعْرَابِيًّا أَهْدَى إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِمَارًا وَحْشِيًّا عَفِيرًا أَوْ رِجْلَ حِمَارٍ وَحْشِيٍّ فَأَمَرَ أَبَا بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ أَنْ يَقْسِمَهُ بَيْنَ الرِّفَاقِ» ثُمَّ كَمَا وَرَدَ الْحَدِيثُ بِالْأَمْرِ بِالْإِكْفَاءِ لِلْقِدْرِ فِي لَحْمِ الْحِمَارِ فَقَدْ وَرَدَ مِثْلُهُ فِي الضَّبِّ، وَهُوَ حَدِيثُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ ابْنِ حَسَنَةَ قَالَ: «كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي سَفَرٍ فَأَصَابَتْنَا مَجَاعَةٌ، وَنَزَلْنَا فِي أَرْضٍ كَثِيرَةِ الضِّبَابِ فَأَخَذْنَاهَا، وَأَنَّ الْقُدُورَ لَتَغْلِي بِهَا فَأَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِإِكْفَاءِ الْقُدُورِ» وَمَعْلُومٌ أَنَّ تَضْيِيعَ الْمَالِ لَا يَحِلُّ، فَعَرَفْنَا أَنَّ الْأَمْرَ بِإِكْفَاءِ الْقُدُورِ فِي الْمَوْضِعَيْنِ لِلْحُرْمَةِ.
(وَعَنْ) أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ قَالَ: «أَكَلْنَا لَحْمَ فَرَسٍ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ» وَعَنْ الْحُرَيْثِ قَالَ: كُنَّا إذَا نَتَجَتْ فَرَسٌ أَخَذْنَا فَلُوًّا ذَبَحْنَاهُ، وَقُلْنَا الْأَمْرُ قَرِيبٌ، فَبَلَغَ ذَلِكَ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ فَكَتَبَ إلَيْنَا أَنْ لَا تَفْعَلُوا، فَإِنَّ فِي الْأَمْرِ تَرَاخِيًا، وَبِهَذَيْنِ الْحَدِيثَيْنِ يَسْتَدِلُّ مَنْ يُرَخِّصُ فِي لَحْمِ الْخَيْلِ، فَإِنَّهُمْ كَانُوا يَذْبَحُونَهُ لِمَنْفَعَةِ الْأَكْلِ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ وَالشَّافِعِيِّ رَحِمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى، وَأَمَّا أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فَإِنَّهُ كَانَ يَكْرَهُ لَحْمَ الْخَيْلِ، فَظَاهِرُ اللَّفْظِ فِي كِتَابِ الصَّيْدِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْكَرَاهَةَ لِلتَّنْزِيهِ، فَإِنَّهُ قَالَ: رَخَّصَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ رَحِمَهُمُ اللَّهُ فِي لَحْمِ الْخَيْلِ، فَأَمَّا أَنَا لَا يُعْجِبُنِي أَكْلُهُ، وَمَا قَالَ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ أَكْرَهُ لَحْمَ الْخَيْلِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ كَرَاهَةُ التَّحْرِيمِ، فَقَدْ رُوِيَ أَنَّ أَبَا يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى قَالَ لِأَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ إذَا قُلْتُ فِي شَيْءٍ أَكْرَهُهُ فَمَا رَأْيُكَ فِيهِ قَالَ: التَّحْرِيمُ، ثُمَّ مَنْ أَبَاحَهُ اسْتَدَلَّ بِالتَّعَامُلِ الظَّاهِرِ بِبَيْعِ لَحْمِ الْخَيْلِ فِي الْأَسْوَاقِ مِنْ غَيْرِ نَكِيرِ مُنْكِرٍ، وَلِأَنَّ سُؤْرَهُ طَاهِرٌ عَلَى الْإِطْلَاقِ، وَبَوْلُهُ بِمَنْزِلَةِ بَوْلِ مَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ فَعَرَفْنَا أَنَّهُ مَأْكُولٌ كَالْأَنْعَامِ، وَإِنْ رُوِيَ فِيهِ نَهْيٌ فَلِأَنَّ الْخَيْلَ كَانَتْ قَلِيلَةً فِيهِمْ، وَكَانَ سِلَاحًا يَحْتَاجُونَ إلَيْهِ فِي الْحَرْبِ؛ فَلِهَذَا نَهَاهُمْ عَنْ أَكْلِهِ لَا لِحُرْمَتِهِ، وَحُجَّةُ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى {وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً} الْآيَةَ، فَقَدْ مَنَّ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى عِبَادِهِ بِمَا جَعَلَ لَهُمْ مِنْ مَنْفَعَةِ الرُّكُوبِ وَالزِّينَةِ فِي الْخَيْلِ، وَلَوْ كَانَ مَأْكُولًا لَكَانَ الْأَوْلَى بَيَانَ مَنْفَعَةِ الْأَكْلِ؛ لِأَنَّهُ أَعْظَمُ وُجُوهِ الْمَنْفَعَةِ، وَبِهِ بَقَاءُ النُّفُوسِ، وَلَا يَلِيقُ بِحِكْمَةِ الْحَكِيمِ تَرْكُ أَعْظَمِ وُجُوهِ الْمَنْفَعَةِ عِنْدَ إظْهَارِ الْمِنَّةِ وَذِكْرُ مَا دُونَ ذَلِكَ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ فِي الْأَنْعَامِ ذَكَرَ الْأَكْلَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ} وَلِأَنَّهُ ضَمَّ الْخَيْلَ إلَى الْبِغَالِ وَالْحَمِيرِ فِي الذِّكْرِ دُونَ الْأَنْعَامِ، وَالْقُرْآنُ فِي الذِّكْرِ دَلِيلُ الْقُرْآنِ فِي الْحُكْمِ، وَبِنَحْوِهِ اسْتَدَلَّ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا حِينَ كَرِهَ لَحْمَ الْخَيْلِ، كَمَا رُوِيَ عَنْهُ فِي الْكِتَابِ، وَفِي حَدِيثِ خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «نَهَى عَنْ أَكْلِ لَحْمِ الْخَيْلِ وَالْبِغَالِ وَالْحَمِيرِ» وَفِي حَدِيثِ الْمِقْدَامِ بْنِ مَعْدِ يَكْرِبَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ حَرَامٌ عَلَيْكُمْ لُحُومُ الْبِغَالِ وَالْحَمِيرِ وَالْخَيْلِ».
وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الدَّلِيلَ الْمُوجِبَ لِلْحُرْمَةِ يَتَرَجَّحُ، فَإِنَّ مَا كَانَ مِنْ الرُّخْصَةِ مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهُ كَانَ فِي الِابْتِدَاءِ قَبْلَ النَّهْيِ، وَلِأَنَّ نِتَاجَهُ غَيْرُ مَأْكُولٍ وَهُوَ الْبَغْلُ؛ لِأَنَّ الْبَغْلَ نِتَاجُ الْفَرَسِ، وَالْوَلَدُ جُزْءٌ مِنْ الْأُمِّ، وَحُكْمُهُ حُكْمُهَا فِي الْحِلِّ وَالْحُرْمَةِ، فَإِذَا لَمْ يَكُنْ مَأْكُولًا عَرَفْنَا أَنَّ الْخَيْلَ لَيْسَ بِمَأْكُولٍ.
ثُمَّ الْخَيْلُ تُشْبِهُ الْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ ذُو حَافِرٍ أَهْلِيٍّ بِخِلَافِ الْأَنْعَامِ، فَإِنَّهَا ذَوَاتُ خُفٍّ لَا ذَوَاتُ حَوَافِرَ، وَقَدْ رَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى الْكَرَاهَةَ فِي سُؤْرِ الْفَرَسِ كَمَا فِي لَبَنِهِ، وَإِنَّمَا جُعِلَ بَوْلُهُ كَبَوْلِ مَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ لِمَعْنَى الْبَلْوَى فِيهِ، فَلِلْبَلْوَى تَأْثِيرٌ فِي تَخْفِيفِ حُكْمِ النَّجَاسَةِ، وَمَنْ قَالَ: الْكَرَاهَةُ لِلتَّنْزِيهِ لَا لِلتَّحْرِيمِ قَالَ:
إنَّ الْفَرَسَ كَالْآدَمِيِّ مِنْ وَجْهٍ، وَمِنْ حَيْثُ إنَّهُ يَحْصُلُ إرْهَابُ الْعَدُوِّ بِهِ، وَيَسْتَحِقُّ السَّهْمَ مِنْ الْغَنِيمَةِ، وَالْآدَمِيُّ غَيْرُ مَأْكُولٍ لِكَرَامَتِهِ لَا لِنَجَاسَتِهِ، وَالْخَيْلُ كَذَلِكَ كُرِهَ أَكْلُهَا عَلَى طَرِيقِ التَّنْزِيهِ لِمَعْنَى الْكَرَامَةِ؛ وَلِهَذَا جَعَلَ الْخَيْلَ طَاهِرَةَ السُّؤْرِ، وَجَعَلَ بَوْلَهُ كَبَوْلِ مَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ.
(وَعَنْ) إبْرَاهِيمَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى قَالَ: لَا بَأْسَ بِثَمَنِ كَلْبِ الصَّيْدِ، وَرُوِيَ «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَخَّصَ فِي ثَمَنِ كَلْبِ الصَّيْدِ» وَبِهِ نَأْخُذُ فَنَقُولُ: بَيْعُ الْكَلْبِ الْمُعَلَّمِ يَجُوزُ، وَعَلَى قَوْلِ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ لَا يَجُوزُ بَيْعُ الْكَلْبِ أَصْلًا مُعَلَّمًا كَانَ أَوْ غَيْرَ مُعَلَّمٍ لِمَا رُوِيَ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ ثَمَنِ الْكَلْبِ وَحُلْوَانِ الْكَاهِنِ وَمَهْرِ الْبَغِيِّ، وَأَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَتْلِ الْكِلَابِ» فَلَوْ كَانَتْ مَالًا مُتَقَوِّمًا لِمَا أَمَرَ بِذَلِكَ، وَلِأَنَّ الْكَلْبَ نَجِسُ الْعَيْنِ بِدَلِيلِ نَجَاسَةِ سُؤْرِهِ، فَلَا يَجُوزُ بَيْعُهُ كَالْخِنْزِيرِ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُ لَوْ كَانَ مَحِلُّ الْبَيْعِ لَمْ يَفْتَرِقْ بَيْنَ الْمُعَلَّمِ مِنْهُ وَغَيْرِ الْمُعَلَّمِ كَالْفَهْدِ وَالْبَازِي، وَحُجَّتُنَا فِي ذَلِكَ مَا رَوَاهُ إبْرَاهِيمُ مِنْ الرُّخْصَةِ، وَذَلِكَ بَعْدَ النَّهْيِ وَالتَّحْرِيمِ فِيهِ يَتَبَيَّنُ تَيْسِيرُ انْتِسَاخِ مَا رُوِيَ مِنْ النَّهْيِ، وَهَذَا لِأَنَّهُمْ كَانُوا أَلِفُوا اقْتِنَاءَ الْكِلَابِ، وَكَانَتْ الْكِلَابُ فِيهِمْ تُؤْذِي الضِّيفَانَ وَالْغُرَبَاءَ فَنَهَوْا عَنْ اقْتِنَائِهَا فَشَقَّ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ فَأُمِرُوا بِقَتْلِ الْكِلَابِ، وَنُهُوا عَنْ بَيْعِهَا تَحْقِيقًا لِلزَّجْرِ عَنْ الْعَادَةِ الْمَأْلُوفَةِ، ثُمَّ رَخَّصَ لَهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ فِي ثَمَنٍ مُنْتَفَعًا بِهِ مِنْ الْكِلَابِ، وَهُوَ كَلْبُ الصَّيْدِ وَالْحَرْثِ وَالْمَاشِيَةِ، وَقَدْ جَاءَ فِي حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «نَهَى عَنْ بَيْعِ الْكَلْبِ إلَّا كَلْبَ الصَّيْدِ، وَالْحَرْثِ وَالْمَاشِيَةِ» وَرَوَى «أَنَّهُ قَضَى فِي كَلْبِ الصَّيْدِ بِأَرْبَعِينَ دِرْهَمًا، وَفِي كَلْبِ الْحَرْثِ بِفَرْقٍ مِنْ طَعَامٍ، وَفِي كَلْبِ الْمَاشِيَةِ بِشَاةٍ مِنْهُ».
(وَعَنْ) عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ أَنَّهُ قُضِيَ عَلَى رَجُلٍ أَتْلَفَ كَلْبًا لِامْرَأَةٍ بِعِشْرِينَ بَعِيرًا، وَالْحَدِيثُ لَهُ قِصَّةُ مَعْرُوفَةٌ، وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهُ مَالٌ مُتَقَوِّمٌ، وَهُوَ مُنْتَفَعٌ بِهِ شَرْعًا جَازَ بَيْعُهُ كَسَائِرِ الْأَمْوَالِ، وَبَيَانُ كَوْنِهِ مُنْتَفَعًا بِهِ أَنَّهُ يَحِلُّ الِانْتِفَاعُ بِهِ فِي حَالَةِ الِاخْتِيَارِ، وَيَجُوزُ تَمْلِيكُهُ بِغَيْرِ عِوَضٍ فِي حَالَةِ الْحَيَاةِ بِالْهِبَةِ، وَبَعْدَ الْمَوْتِ بِالْوَصِيَّةِ فَيَجُوزُ تَمْلِيكُهُ بِالْعِوَضِ أَيْضًا، وَبِهَذَا يَتَبَيَّنُ أَنَّهُ لَيْسَ بِنَجِسِ الْعَيْنِ، فَإِنَّ الِانْتِفَاعَ بِمَا هُوَ نَجِسُ الْعَيْنِ لَا يَحِلُّ فِي حَالَةِ الِاخْتِيَارِ كَالْخَمْرِ، وَلَا يَجُوزُ تَمْلِيكُهُ قَصْدًا بِالْهِبَةِ وَالْوَصِيَّةِ، ثُمَّ الصَّحِيحُ مِنْ الْمَذْهَبِ أَنَّ الْمُعَلَّمَ وَغَيْرَ الْمُعَلَّمِ إذَا كَانَ بِحَيْثُ يَقْبَلُ التَّعْلِيمَ سَوَاءٌ فِي حُكْمِ الْبَيْعِ حَتَّى ذَكَرَ فِي النَّوَادِرِ لَوْ بَاعَ جَرْوًا جَازَ بَيْعُهُ؛ لِأَنَّهُ يَقْبَلُ التَّعْلِيمَ، فَأَمَّا الَّذِي لَا يَجُوزُ بَيْعُهُ الْعَقُورُ مِنْهُ الَّذِي لَا يَقْبَلُ التَّعْلِيمَ؛ لِأَنَّهُ عَيْنٌ مُؤْذٍ غَيْرُ مُنْتَفَعٍ بِهِ فَلَا يَكُونُ مَالًا مُتَقَوِّمًا كَالذِّئْبِ، وَهَكَذَا يَقُولُ فِي الْأَسَدِ إنْ كَانَ بِحَيْثُ يَقْبَلُ التَّعْلِيمَ، وَيُصْطَادُ بِهِ، فَبَيْعُهُ جَائِزٌ، وَإِنْ كَانَ لَا يَقْبَلُ ذَلِكَ وَلَا يَنْتَفِعُ بِهِ فَحِينَئِذٍ لَا يَجُوزُ بَيْعُهُ، وَالْفَهْدُ وَالْبَازِي يَقْبَلُ التَّعْلِيمَ عَلَى كُلِّ حَالٍّ فَجَازَ بَيْعُهُمَا كَذَلِكَ.
(وَعَنْ) جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «نَهَى عَنْ بَيْعِ الْكَلْبِ وَالسِّنَّوْرِ» وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ يَنْقُضُ هَذَا الْحَدِيثَ فِي السِّنَّوْرِ حَدِيثُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ «كَانَ يُصْغِي لَهَا الْإِنَاءَ فَتَشْرَبُ مِنْهُ» وَهُوَ مَشْهُورٌ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَحَدِيثُ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُصْغِي الْإِنَاءَ لِلْهِرِّ لِيَشْرَبَ مِنْهُ ثُمَّ يَتَوَضَّأُ» وَفِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهَا لَيْسَتْ بِنَجِسَةٍ، وَقَدْ نَصَّ عَلَى ذَلِكَ بِقَوْلِهِ «أَنَّهَا لَيْسَتْ بِنَجِسَةٍ أَنَّهَا مِنْ الطَّوَّافِينَ عَلَيْكُمْ وَالطَّوَّافَاتِ»، وَيَجُوزُ الِانْتِفَاعُ بِهَا مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ، وَمَا يَكُونُ بِهَذِهِ الصِّفَةِ فَهُوَ مَالٌ مُتَقَوِّمٌ يَجُوزُ بَيْعُهُ، وَالنَّهْيُ إنْ ثَبَتَ مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهُ كَانَ فِي الِابْتِدَاءِ.