فصل: بابُ السَّلَمِ:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: المبسوط



.بابُ السَّلَمِ:

قَالَ:- رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى- (اعْلَمْ بِأَنَّ السَّلَمَ أَخْذُ عَاجِلٍ بِآجِلٍ وَهُوَ نَوْعُ بَيْعٍ لِمُبَادَلَةِ الْمَالِ بِالْمَالِ اُخْتُصَّ بِاسْمٍ) لِاخْتِصَاصِهِ بِحُكْمٍ يَدُلُّ الِاسْمُ عَلَيْهِ وَهُوَ تَعْجِيلُ أَحَدِ الْبَدَلَيْنِ وَتَأْخِيرُ الْآخَرِ كَالصَّرْفِ وَقِيلَ السَّلَمُ وَالسَّلَفُ بِمَعْنًى وَاحِدٍ وَإِنَّمَا سُمِّيَ هَذَا الْعَقْدُ بِهِ لِكَوْنِهِ مُعَجَّلًا عَلَى وَقْتِهِ فَإِنَّ أَوَانَ الْبَيْعِ مَا بَعْدَ وُجُودِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ فِي مِلْكِ الْعَاقِدِ وَإِنَّمَا يُقْبَلُ السَّلَمُ فِي الْعَادَةِ فِيمَا لَيْسَ بِمَوْجُودٍ فِي مِلْكِهِ فَلِكَوْنِ الْعَقْدِ مُعَجَّلًا عَلَى وَقْتِهِ سُمِّيَ سَلَمًا وَسَلَفًا وَالْقِيَاسُ يَأْبَى جَوَازُهُ؛ لِأَنَّهُ بَيْعُ الْمَعْدُومِ وَبَيْعُ مَا هُوَ مَوْجُودٌ غَيْرُ مَمْلُوكٍ لِلْعَاقِدِ بَاطِلٌ فَبَيْعُ الْمَعْدُومِ أَوْلَى بِالْبُطْلَانِ وَلَكِنَّا تَرَكْنَا الْقِيَاسَ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ أَمَّا الْكِتَابُ فَقَوْلُهُ:- تَعَالَى- {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ} وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَشْهَدُ أَنَّ السَّلَمَ الْمُؤَجَّلَ فِي كِتَابِ اللَّهِ- تَعَالَى- أُنْزِلَ فِيهِ أَطْوَلُ آيَةٍ وَتَلَا هَذِهِ الْآيَةَ وَالسُّنَّةُ مَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «نَهَى عَنْ بَيْعِ مَا لَيْسَ عِنْدَ الْإِنْسَانِ وَرَخَّصَ فِي السَّلَمِ» فَفِي هَذَا دَلِيلُ أَنَّهُ جَوَّزَهُ لِلْحَاجَةِ مَعَ قِيَامِ السَّبَبِ الْمُعَجِّزِ لَهُ عَنْ التَّسْلِيمِ وَهُوَ عَدَمُ وُجُودِهِ فِي مِلْكِهِ وَلَكِنْ بِطَرِيقِ إقَامَةِ الْأَجَلِ مُقَامَ الْوُجُودِ فِي مِلْكِهِ رُخْصَةً؛ لِأَنَّ بِالْوُجُودِ فِي مِلْكِهِ يَقْدِرُ عَلَى التَّسْلِيمِ وَبِالْأَجَلِ كَذَلِكَ فَإِنَّهُ يَقْدِرُ عَلَى التَّسْلِيمِ إمَّا بِالتَّكَسُّبِ فِي الْمُدَّةِ أَوْ مَجِيءِ أَوَانِ الْحَصَادِ فِي الطَّعَامِ وَفِي الْحَدِيثِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَخَلَ الْمَدِينَةَ فَوَجَدَهُمْ يُسَلِّفُونَ فِي الثِّمَارِ السَّنَةَ وَالسَّنَتَيْنِ فَقَالَ: صَلَوَاتُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِ: «مَنْ أَسْلَمَ فَلْيُسْلِمْ فِي كَيْلٍ مَعْلُومٍ وَوَزْنٍ مَعْلُومٍ إلَى أَجَلٍ مَعْلُومٍ» فَقَدْ قَرَّرَهُمْ عَلَى أَصْلِ الْعَقْدِ وَبَيَّنَ شَرَائِطَهُ فَذَلِكَ دَلِيلُ جَوَازِ الْعَقْدِ.

.شَرَائِطُ السَّلَمِ:

ثُمَّ الشَّرَائِطُ الَّتِي يُحْتَاجُ إلَى ذِكْرِهَا فِي السَّلَمِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ سَبْعَةٌ (إعْلَامُ) الْجِنْسِ فِي الْمُسْلَمَ فِيهِ (وَإِعْلَامُ النَّوْعِ) (وَإِعْلَامُ الْقَدْرِ) وَ(إعْلَامُ الصِّفَةِ) وَ(إعْلَامُ الْأَجَلِ) وَ(إعْلَامُ الْمَكَانِ) الَّذِي يُوَفِّيهِ فِيهِ فِيمَا لَهُ حَمْلٌ وَمُؤْنَةٌ وَإِعْلَامُ قَدْرِ رَأْسِ الْمَالِ فِيمَا يَتَعَلَّقُ الْعَقْدُ عَلَى قَدْرِهِ وَالْأَصْلُ فِي هَذِهِ الشَّرَائِطِ الْحَدِيثُ الَّذِي رَوَيْنَا فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ بِإِعْلَامِ الْقَدْرِ بِأَنَّ تَرْكَ إعْلَامِهِ يُفْضِي إلَى الْمُنَازَعَةِ الَّتِي تَمْنَعُ الْبَائِعَ عَنْ التَّسْلِيمِ وَالتَّسَلُّمِ فَدَلَّ ذَلِكَ عَنْ أَنَّ كُلَّ جَهَالَةٍ تُفْضِي إلَى الْمُنَازَعَةِ الْمَانِعَةِ عَنْ التَّسْلِيمِ وَالتَّسَلُّمِ يَجِبُ إزَالَتُهَا بِالْإِعْلَامِ وَجَهَالَةُ الْجِنْسِ تُفْضِي إلَى ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ إذَا أَسْلَمَ فِي شَيْءٍ فَرَبُّ السَّلَمِ يُطَالِبُهُ بِإِعْلَامِ الْأَشْيَاءِ وَالْمُسْلَمُ إلَيْهِ لَا يُعْطَى إلَّا أَدْنَى الْأَشْيَاءِ وَيَحْتَجُّ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى صَاحِبِهِ بِمُطْلَقِ الِاسْمِ فَلَا بُدَّ مِنْ إعْلَامِ الْجِنْسِ لِقَطْعِ هَذِهِ الْمُنَازَعَةِ وَكَذَلِكَ إعْلَامُ النَّوْعِ فَإِنَّهُ إذَا أَسْلَمَ إلَيْهِ فِي تَمْرٍ فَالْمُسْلَمُ إلَيْهِ يُعْطِيهِ الدَّقَلَ وَرَبُّ السَّلَمِ يُطَالِبُهُ بِالْفَارِسِيِّ وَيَحْتَجُّ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى صَاحِبِهِ بِمُطْلَقِ الِاسْمِ فَلَا بُدَّ مِنْ إعْلَامِ النَّوْعِ لِقَطْعِ هَذِهِ الْمُنَازَعَةِ وَكَذَلِكَ إعْلَامُ الصِّفَةِ؛ لِأَنَّهُ إذَا أَسْلَمَ إلَيْهِ فِي الْحِنْطَةِ فَرَبُّ السَّلَمِ يُطَالِبُهُ بِحِنْطَةٍ جَيِّدَةٍ وَالْمُسْلَمُ إلَيْهِ لَا يُسْلِمُ إلَّا الرَّدِيءَ وَيَحْتَجُّ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِاسْمِ الْحِنْطَةِ فَلَا بُدَّ مِنْ بَيَانِ الصِّفَةِ لِقَطْعِ هَذِهِ الْخُصُومَةِ وَإِعْلَامُ الْقَدْرِ مَنْصُوصٌ عَلَيْهِ فِي الْحَدِيثِ وَجَهَالَتُهُ تُفْضِي إلَى الْمُنَازَعَةِ وَلِأَنَّ الْمَقْصُودَ بِهَذَا الْعَقْدِ الِاسْتِرْبَاحُ وَلَا يُعْرَفُ ذَلِكَ إلَّا بِمَعْرِفَةِ مِقْدَارِ الْمَالِيَّةِ وَالْمَالِيَّةُ تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْجِنْسِ وَالنَّوْعِ وَالصِّفَةِ وَالْقَدْرِ فَلَا بُدَّ مِنْ إعْلَامِ ذَلِكَ كُلِّهِ لِيَصِيرَ مَا هُوَ الْمَقْصُودُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَعْلُومًا لَهُ فَأَمَّا الْأَجَلُ فَهُوَ مِنْ شَرَائِطِ السَّلَمِ عِنْدَنَا وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: الْأَجَلُ يَثْبُتُ تَرْفِيهًا لَا شَرْطًا حَتَّى يَجُوزَ السَّلَمُ عِنْدَنَا حَالًّا فِي الْمَوْجُودِ فَأَمَّا فِي الْمَعْدُومِ لَا يَجُوزُ السَّلَمُ إلَّا مُؤَجَّلًا وَاحْتَجَّ فِي ذَلِكَ بِالْحَدِيثِ وَرَخَّصَ فِي السَّلَمِ فَأَثْبَتَ فِي السَّلَمِ رُخْصَةً مُطْلَقَةً وَاشْتِرَاطُ التَّأْجِيلِ فِيهِ لَا يَكُونُ زِيَادَةً عَلَى النَّصِّ.
وَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّهُ صَارَ مُعَاوَضَةَ مَالٍ بِمَالٍ فَيَكُونُ الْأَجَلُ فِيهِ تَرْفِيهًا لَا شَرْطًا كَالْبَيْعِ وَالْإِجَارَةِ وَهَذَا لِأَنَّ الْمُسْلَمَ فِيهِ دَيْنٌ وَشَرْطُ جَوَازِ الْعَقْدِ الْقُدْرَةُ عَلَى التَّسْلِيمِ وَتَسْلِيمُ الدَّيْنِ بِالْمِثْلِ الْمَوْجُودِ فِي الْعَالَمِ وَالظَّاهِرُ مِنْ حَالِ الْعَاقِلِ أَنَّهُ لَا يُقْدِمُ عَلَى الْتِزَامِ تَسْلِيمِ مَا لَا يَقْدِرُ عَلَى تَسْلِيمِهِ فَإِذَا قِيلَ السَّلَمُ فِيمَا هُوَ مَوْجُودٌ فِي الْعَالَمِ فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ قَادِرٌ عَلَى تَسْلِيمِهِ وَذَلِكَ يَكْفِي لِجَوَازِ الْعَقْدِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ قَادِرًا عَلَى التَّسْلِيمِ فِيمَا يَدْخُلُ فِي مِلْكِهِ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ يَقْدِرُ عَلَى التَّحْصِيلِ وَالتَّسْلِيمِ وَلِهَذَا أَوْجَبْنَا تَسْلِيمَ رَأْسِ الْمَالِ عَلَى رَبِّ السَّلَمِ أَوَّلًا قَبْلَ قَبْضِ الْمُسْلَمِ فِيهِ وَبِهَذَا فَارَقَ الْكِتَابَةَ الْحَالَّةَ، قَالَ: (فَإِنِّي لَا أُجَوِّزُ الْكِتَابَةَ الْحَالَّةَ فَإِنَّ الْعَبْدَ يَخْرُجُ مِنْ يَدِ مَوْلَاهُ غَيْرَ مَالِكٍ لِشَيْءٍ) فَلَا يَكُونُ قَادِرًا عَلَى تَسْلِيمِ الْبَدَلِ وَرُبَّمَا يَدْخُلُ فِي مِلْكِهِ بِالْعَقْدِ لَا يَقْدِرُ عَلَى التَّحْصِيلِ إلَّا بِمُدَّةٍ فَلِهَذَا لَا أُجَوِّزُهُ إلَّا مُؤَجَّلًا فَأَمَّا الْمُسْلَمُ إلَيْهِ حُرٌّ مِنْ أَهْلِ الْمِلْكِ قَبْلَ الْعَقْدِ فَالظَّاهِرُ قُدْرَتُهُ عَلَى التَّسْلِيمِ إلَّا أَنْ يَكُونَ مُعْدَمًا فِي الْعَالَمِ فَحِينَئِذٍ لَا يَقْدِرُ عَلَى التَّسْلِيمِ إلَّا بِوُجُودِهِ فِي أَوَانِهِ فَلَا يَجُوزُ السَّلَمُ فِيهِ إلَّا مُؤَجَّلًا وَحُجَّتُنَا فِي ذَلِكَ قَوْلُهُ: صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «مَنْ أَسْلَمَ فَلْيُسْلِمْ فِي كَيْلٍ مَعْلُومٍ وَوَزْنٍ مَعْلُومٍ إلَى أَجَلٍ مَعْلُومٍ» فَقَدْ شُرِطَ لِجَوَازِ السَّلَمِ إعْلَامُ الْأَجَلِ كَمَا شُرِطَ إعْلَامُ الْقَدْرِ وَالْمُرَادُ بَيَانُ أَنَّ الْأَجَلَ مِنْ شَرَائِطِ السَّلَمِ كَالرَّجُلِ يَقُولُ مَنْ أَرَادَ الصَّلَاةَ فَلْيَتَوَضَّأْ إلَّا أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِهِ إذَا أَسْلَمَ مُؤَجَّلًا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الْأَجَلُ مَعْلُومًا وَفِي قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَخَّصَ فِي السَّلَمِ مَا يَدُلُّ عَلَى الْأَجَلِ أَيْضًا؛ لِأَنَّ الرُّخْصَةَ فِي الشَّيْءِ تَيْسِيرٌ مَعَ قِيَامِ الْمَانِعِ وَالْمَانِعُ هُوَ الْعَجْزُ عَنْ التَّسْلِيمِ فَعَرَفْنَا أَنَّهُ رَخَّصَ فِيهِ مَعَ قِيَامِ الْعَجْزِ عَنْ التَّسْلِيمِ بِإِقَامَةِ الْأَجَلِ مُقَامَهُ؛ لِأَنَّ بِهِ يَقْدِرُ عَلَى التَّسْلِيمِ إمَّا بِالتَّكَسُّبِ أَوْ بِمَجِيءِ زَمَانِ الْحَصَادِ وَهُوَ كَالرُّخْصَةِ فِي الْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ فَإِنَّ إقَامَةَ الْمَسْحِ مُقَامَ الْغُسْلِ لِلتَّيْسِيرِ وَهُوَ الْمَعْنَى فِي قَوْلِهِ فِي الْمَسْأَلَةِ: فَإِنَّا نَقُولُ: بَاعَ مَا لَا يَقْدِرُ عَلَى تَسْلِيمِهِ عِنْدَ وُجُوبِ التَّسْلِيمِ فَلَا يَجُوزُ الْعَقْدُ كَمَا لَوْ قِيلَ السَّلَمُ فِي الْمَعْدُومِ حَالًّا وَبَيَانُ ذَلِكَ أَنَّ عَقْدَ السَّلَمِ مِنْ عُقُودِ الْمَفَالِيسِ فَإِنَّهُ يَكُونُ بِدُونِ ثَمَنِ الْمِثْلِ وَلَوْ كَانَ مَوْجُودًا فِي مِلْكِهِ لَكَانَ يَبِيعُهُ بِأَوْفَى الْأَثْمَانِ وَلَا يُقْبَلُ السَّلَمُ فِيهِ بِدُونِ الْقِيمَةِ وَلَا يُقَالُ: إنَّهُ إنَّمَا يُقْبَلُ السَّلَمُ فِيهِ لِإِسْقَاطِ مُؤْنَةِ الْإِحْضَارِ وَالْإِرَاءَةِ لِلْمُشْتَرِي فِيهِ؛ لِأَنَّ صَاحِبَ الشَّرْعِ اسْتَثْنَى السَّلَمَ مِنْ بَيْعِ مَا لَيْسَ عِنْدَ الْإِنْسَانِ وَبِالْإِجْمَاعِ الْمُرَادُ بَيْعُ مَا لَيْسَ فِي مِلْكِهِ فَإِنَّ مَا فِي مِلْكِهِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ حَاضِرًا يَجُوزُ بَيْعُهُ إذَا كَانَ الْمُشْتَرِي رَآهُ قَبْلَ ذَلِكَ وَمَا لَيْسَ فِي مِلْكِهِ وَإِنْ كَانَ حَاضِرًا لَا يَجُوزُ بَيْعُهُ فَعَرَفْنَا أَنَّ الْمُرَادَ قَبُولُ السَّلَمِ فِيمَا لَا يُقْدَرُ عَلَى تَسْلِيمِهِ وَبِالْعَقْدِ لَا يَصِيرُ قَادِرًا عَلَى التَّسْلِيمِ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ سَبَبٌ لِلْوُجُوبِ عَلَيْهِ لَا لَهُ فَلَا تَثْبُتُ بِهِ قُدْرَتُهُ عَلَى التَّسْلِيمِ وَإِنَّمَا تَكُونُ قُدْرَتُهُ بِالِاكْتِسَابِ وَيَحْتَاجُ ذَلِكَ إلَى مُدَّةٍ فَإِذَا كَانَ مُؤَجَّلًا لَا يَظْهَرُ الْمَانِعُ وَهُوَ عَجْزُهُ عَنْ التَّسْلِيمِ وَإِذَا كَانَ حَالًّا يَظْهَرُ الْمَانِعُ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ بِالِاتِّفَاقِ يَجِبُ تَسْلِيمُ رَأْسِ الْمَالِ أَوَّلًا فَلَوْ جَازَ أَنْ يَكُونَ الْمُسْلَمُ فِيهِ حَالًّا لَمْ يَجِبْ تَسْلِيمُ رَأْسِ الْمَالِ أَوَّلًا؛ لِأَنَّ قِيمَةَ الْمُعَاوَضَةِ التَّسْوِيَةُ بَيْنَ الْمُتَعَاقِدَيْنِ فِي التَّمْلِيكِ وَالتَّسْلِيمِ وَيَتَّضِحُ هَذَا فِيمَا إذَا كَانَ رَأْسُ الْمَالِ عَيْنًا فَإِنْ أَوَّلَ التَّسَلُّمَيْنِ فِي الْبَدَلِ الَّذِي هُوَ دَيْنٌ كَالثَّمَنِ فِي بَيْعِ الْعَيْنِ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ السَّلَمَ اخْتَصَّ بِالدَّيْنِ مَعَ مُشَارَكَةِ الْعَيْنِ الدَّيْنَ فِيمَا هُوَ الْمَقْصُودُ فَمَا كَانَ ذَلِكَ إلَّا لِاخْتِصَاصِهِ بِحُكْمٍ يَخْتَصُّ بِهِ الدَّيْنُ وَلَيْسَ ذَلِكَ إلَّا الْأَجَلُ وَبِهِ يَبْطُلُ قَوْلُهُمْ: إنَّ السَّلَمَ الْحَالَّ أَبْعَدُ عَنْ الْغَرَرِ مِنْ الْمُؤَجَّلِ؛ لِأَنَّ السَّلَمَ فِي الْعَيْنِ أَبْعَدُ عَنْ الْغَرَرِ مِنْ السَّلَمِ فِي الدَّيْنِ وَمَعَ ذَلِكَ اخْتَصَّ السَّلَمُ بِالدَّيْنِ وَهَذَا بِخِلَافِ الْكِتَابَةِ عِنْدَنَا فَإِنَّ الْبَدَلَ فِي الْكِتَابَةِ مَعْقُودٌ بِهِ لَا مَعْقُودٌ عَلَيْهِ وَالْقُدْرَةُ عَلَى تَسْلِيمِ الْمَعْقُودِ بِهِ لَيْسَ بِشَرْطٍ لِجَوَازِ الْعَقْدِ كَالثَّمَنِ فِي الْمَبِيعِ فَأَمَّا الْمُسْلَمُ فِيهِ مَعْقُودٌ عَلَيْهِ وَالْقُدْرَةُ عَلَى تَسْلِيمِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ شَرْطٌ لِجَوَازِ الْعَقْدِ كَمَا فِي بَيْعِ الْعَيْنِ وَلِأَنَّ الْكِتَابَةَ عَقْدُ إرْفَاقٍ فَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمَوْلَى لَا يُضَيِّقُ عَلَيْهِ فِي الْمُطَالَبَةِ بِالْبَدَلِ وَأَمَّا السَّلَمُ عَقْدُ تِجَارَةٍ وَهُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى الضِّيقِ فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ يُطَالِبُهُ بِالتَّسْلِيمِ عَقِيبَ الْعَقْدِ وَهُوَ عَاجِزٌ عَنْ ذَلِكَ فَلِهَذَا لَمْ يُجَوِّزُهُ إلَّا مُؤَجَّلًا وَلَمْ يُبَيَّنْ فِي الْكِتَابِ أَدْنَى الْأَجَلِ فِي السَّلَمِ وَذَكَرَ أَحْمَدُ بْنُ أَبِي عُمْرَانَ مِنْ أَصْحَابِنَا- رَحِمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى-: أَنَّ أَدْنَى الْأَجَلِ فِيهِ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ اعْتِبَارًا لِلْأَجَلِ بِالْخِيَارِ الَّذِي وَرَدَ الشَّرْعُ فِيهِ بِالتَّقْدِيرِ بِثَلَاثَةِ أَيَّامٍ وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ الرَّازِيّ يَقُولُ أَدْنَى الْأَجَلِ فِيهِ أَنْ يَكُونَ أَكْثَرَ مِنْ نِصْفِ يَوْمٍ؛ لِأَنَّ الْمُعَجَّلَ مَا كَانَ مَقْبُوضًا فِي الْمَجْلِسِ وَالْمُؤَجَّلَ مَا يَتَأَخَّرُ قَبْضُهُ عَنْ الْمَجْلِسِ وَلَا يَبْقَى الْمَجْلِسُ بَيْنَهُمَا فِي الْعَادَةِ أَكْثَرَ مِنْ نِصْفِ يَوْمٍ وَمِنْ مَشَايِخِنَا- رَحِمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى- مَنْ قَالَ: أَدْنَى الْأَجَلِ شَهْرٌ.
اسْتِدْلَالًا بِمَسْأَلَةِ كِتَابِ الْأَيْمَانِ إذَا حَلَفَ الْمَدِينُ لَيَقْضِيَنَّ دَيْنَهُ عَاجِلًا فَقَضَاهُ قَبْلَ تَمَامِ الشَّهْرِ بَرَّ فِي يَمِينِهِ فَإِذَا كَانَ مَا دُونَ الشَّهْرِ فِي حُكْمِ الْعَاجِلِ كَانَ الشَّهْرُ فَمَا فَوْقَهُ فِي حُكْمِ الْآجِلِ فَأَمَّا تَعْجِيلُ رَأْسِ الْمَالِ فَنَقُولُ إذَا كَانَ رَأْسُ الْمَالِ دَرَاهِمَ أَوْ دَنَانِيرَ يَكُونُ التَّعْجِيلُ فِيهِ شَرْطًا قِيَاسًا وَاسْتِحْسَانًا؛ لِأَنَّ الدَّرَاهِمَ وَالدَّنَانِيرَ لَا يَتَعَيَّنَانِ فِي الْعُقُودِ فَيَكُونُ هَذَا بَيْعَ الدَّيْنِ بِالدَّيْنِ وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ لِنَهْيِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «عَنْ بَيْعِ الْكَالِئِ بِالْكَالِئِ» يَعْنِي: النَّسِيئَةَ بِالنَّسِيئَةِ فَأَمَّا إذَا كَانَ رَأْسُ الْمَالِ عُرُوضًا هَلْ يَكُونُ التَّعْجِيلُ شَرْطًا الْقِيَاسُ أَنْ لَا يَكُونَ شَرْطًا وَفِي الِاسْتِحْسَانِ يَكُونُ شَرْطًا وَجْهُ الْقِيَاسِ أَنَّ الْعُرُوضَ سِلْعَةٌ تَتَعَيَّنُ فِي الْعُقُودِ بِخِلَافِ الدَّرَاهِمِ فَلَوْ لَمْ يُشْتَرَطْ التَّعْجِيلُ لَا يُؤَدِّي إلَى بَيْعِ الدَّيْنِ بِالدِّينِ وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ السَّلَمَ أَخْذُ عَاجِلٍ بِآجِلٍ وَالْمُسْلَمُ فِيهِ آجِلٌ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ رَأْسُ الْمَالِ عَاجِلًا لِيَكُونَ حُكْمُهُ ثَابِتًا عَلَى مَا يَقْتَضِيهِ الِاسْمُ لُغَةً كَالصَّرْفِ وَالْحَوَالَةِ وَالْكَفَالَةِ فَإِنَّ هَذِهِ الْعُقُودَ تَثْبُتُ أَحْكَامُهَا بِمُقْتَضَيَاتِ أَسَامِيهَا لُغَةً وَمِنْ عُلَمَائِنَا- رَحِمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى- مَنْ عَبَّرَ وَقَالَ: شَرْطُ جَوَازِ السَّلَمِ إعْلَامُ قَدْرِ رَأْسِ الْمَالِ وَتَعْجِيلُهُ وَإِعْلَامُ الْمُسْلَمِ فِيهِ وَتَأْجِيلُهُ وَبَعْضُهُمْ عَبَّرَ بِعِبَارَةٍ أُخْرَى شَرْطُ جَوَازِ السَّلَمِ أَنْ يَكُونَ الْمُسْلَمُ فِيهِ مَضْبُوطَ الْوَصْفِ مَعْلُومَ الْقَدْرِ مَوْجُودًا مِنْ وَقْتِ الْعَقْدِ إلَى وَقْتِ التَّسْلِيمِ فَأَمَّا بَيَانُ مَكَانِ الْإِيفَاءِ فِيمَا لَهُ حَمْلٌ وَمُؤْنَةٌ مِنْ شَرَائِطِ جَوَازِ السَّلَمِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ الْآخَرَ وَكَانَ يَقُولُ أَوَّلًا لَيْسَ بِشَرْطٍ وَلَكِنْ إنْ بَيَّنَ مَكَانًا تَعَيَّنَ ذَلِكَ الْمَكَانُ لِلْإِيفَاءِ وَإِنْ لَمْ يُبَيِّنْ يَتَعَيَّنْ مَوْضِعُ الْعَقْدِ لِلْإِيفَاءِ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ- رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى- وَحُجَّتُهُمَا فِي ذَلِكَ أَنَّ مَوْضِعَ الْعَقْدِ مَوْضِعُ الِالْتِزَامِ فَيَتَعَيَّنُ لِإِيفَاءِ مَا الْتَزَمَهُ فِي ذِمَّتِهِ كَمَوْضِعِ الِاسْتِقْرَاضِ وَالِاسْتِهْلَاكِ وَهَذَا لِأَنَّ الْمُسْلَمَ فِيهِ دَيْنٌ وَمَحَلُّهُ الذِّمَّةُ فَإِنَّمَا يَصِيرُ مَمْلُوكًا لِرَبِّ السَّلَمِ فِي ذَلِكَ الْمَكَانِ وَالتَّسْلِيمُ إنَّمَا يَجِبُ فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي ثَبَتَ الْمِلْكُ لَهُ فِيهِ أَلَا تَرَى أَنَّ مَنْ بَاعَ حِنْطَةً بِعَيْنِهَا بِالسَّوَادِ يَجِبُ تَسْلِيمُهَا مَوْضِعَ الْحِنْطَةِ؛ لِأَنَّهُ مَلَكَهَا فِي ذَلِكَ الْمَوْضِعِ وَلِأَنَّ أَحَدَ الْبَدَلَيْنِ وَهُوَ رَأْسُ الْمَالِ يَجِبُ تَسْلِيمُهُ فِي مَوْضِعِ الْعَقْدِ فَكَذَلِكَ الْبَدَلُ الْآخَرُ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ فِي حُكْمِ مَكَانِ التَّسْلِيمِ مُطْلَقٌ فَيَقْتَضِي الْمُسَاوَاةَ بَيْنَ الْبَدَلَيْنِ وَبِأَنْ جَازَ تَعْبِيرُهُ بِالشَّرْطِ فَذَلِكَ لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ غَيْرُ ثَابِتٌ بِمُطْلَقِ الْعَقْدِ وَيَجُوزُ تَعْبِيرُهُ بِاشْتِرَاطِ الْآجِلِ وَالْمُطْلَقِ بِمُطْلَقِ الْبَيْعِ ثَبَتَ عَقِيبَ الْعَقْدِ وَيَجُوزُ تَعْبِيرُهُ بِشَرْطِ الْخِيَارِ وَتَوَجُّهُ الْمُطَالَبَةِ بِتَسْلِيمِ الثَّمَنِ ثَابِتٌ بِمُطْلَقِ الْعَقْدِ عَقِيبَهُ ثُمَّ يَجُوزُ تَعْبِيرُهُ بِاشْتِرَاطِ الْأَجَلِ وَأَبُو حَنِيفَةَ يَقُولُ مَكَانُ الْإِيفَاءِ مَجْهُولٌ وَجَهَالَتُهُ تُفْضِي إلَى الْمُنَازَعَةِ فَيَجِبُ التَّحَرُّزُ عَنْ ذَلِكَ بِإِعْلَامِهِ كَزَمَانِ التَّسْلِيمِ وَإِنَّمَا قُلْنَا ذَلِكَ؛ لِأَنَّ مَوْضِعَ الْإِلْزَامِ إنَّمَا يَتَعَيَّنُ لِلتَّسْلِيمِ بِسَبَبٍ يَسْتَحِقُّ بِهِ التَّسْلِيمَ بِنَفْسِ الِالْتِزَامِ كَالْقَرْضِ وَالْغَصْبِ وَالِاسْتِهْلَاكِ وَالسَّلَمُ لَا يَجُوزُ إلَّا مُؤَجَّلًا فَعَرَفْنَا أَنَّهُ لَا يُسْتَحَقُّ التَّسْلِيمُ عَقِيبَ الْعَقْدِ فِيهِ بِحَالٍ وَإِنَّمَا اسْتِحْقَاقُ التَّسْلِيمِ عِنْدَ حُلُولِ الْأَجَلِ وَعِنْدَ ذَلِكَ لَا نَدْرِي أَنَّهُ فِي أَيِّ مَكَان يَكُونُ ثُمَّ قَالَ: (أَرَأَيْتَ لَوْ عُقِدَ عَقْدُ السَّلَمِ فِي السَّفِينَةِ فِي لُجَّةِ الْبَحْرِ أَكَانَ يَتَعَيَّنُ مَوْضِعُ الْعَقْدِ لِلتَّسْلِيمِ عِنْدَ حُلُولِ الْأَجَلِ) هَذَا مَا لَا يَقُولُهُ عَاقِلٌ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ مَكَانَ الْعَقْدِ لَوْ تَعَيَّنَ لِتَسْلِيمِ الْمُسْلَمِ فِيهِ لَمْ يَجُزْ تَعْبِيرُهُ بِالشَّرْطِ كَمَكَانِ الْبَيْعِ فِي بَيْعِ الْعَيْنِ فَإِنَّهُ لَوْ بَاعَ حِنْطَةً فِي السَّوَادِ عَلَى أَنْ يُسَلِّمَهَا فِي الْمِصْرِ لَا يَجُوزُ الْعَقْدُ وَلَمَّا أَجَازَ هُنَا بَيَانَ مَكَانِ الْإِيفَاءِ عَرَفْنَا أَنَّ مَوْضِعَ الْعَقْدِ غَيْرُ مُتَعَيَّنٍ لَهُ وَهَذَا بِخِلَافِ رَأْسِ الْمَالِ فَإِنَّهُ لَمَّا تَعَيَّنَ الْعَقْدُ بِتَسْلِيمِهِ لَمْ يَجُزْ تَعْبِيرُهُ بِالشَّرْطِ ثُمَّ هُنَاكَ مَوْضِعُ الْعَقْدِ غَيْرُ مُتَعَيِّنٍ وَلَكِنَّ الشَّرْطَ تَسْلِيمُ رَأْسِ الْمَالِ قَبْلَ الِافْتِرَاقِ حَتَّى لَوْ مَشَيَا فَرْسَخًا ثُمَّ سَلَّمَ إلَيْهِ رَأْسَ الْمَالِ قَبْلَ أَنْ يُفَارِقَهُ كَانَ صَحِيحًا فَأَمَّا فِيمَا لَا حَمْلَ لَهُ وَلَا مُؤْنَةَ فَلَا خِلَافَ أَنَّ بَيَانَ مَكَانِ الْإِيفَاءِ لَيْسَ بِشَرْطٍ وَلَكِنْ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ- رَحِمَهُمَا اللَّهُ- فِي أَظْهَرِ الرِّوَايَتَيْنِ يَجِبُ تَسْلِيمُهُ فِي مَوْضِعِ الْعَقْدِ؛ لِأَنَّهُ مَوْضِعُ الِالْتِزَامِ وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى عَنْهُمَا يُسَلِّمُ إلَيْهِ حَيْثُ مَا لَقِيَهُ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ سَوَاءٌ بَيَّنَّا الْمَكَانَ أَوْ لَمْ نُبَيِّنْ؛ لِأَنَّ الشَّرْطَ الَّذِي لَيْسَ بِمُفِيدٍ لَا يَكُونُ مُعْتَبَرًا وَالْمَالِيَّةُ فِيمَا لَا حَمْلَ لَهُ وَلَا مُؤَنَهُ لَا تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْأَمْكِنَةِ إنَّمَا تَخْتَلِفُ لِعِزَّةِ الْوُجُودِ وَكَثْرَةِ الْوُجُودِ فَأَمَّا فِيمَا لَهُ حَمْلٌ وَمُؤْنَةٌ تَخْتَلِفُ مَالِيَّتُهُ بِاخْتِلَافِ الْمَكَانِ فَإِنَّ الْحِنْطَةَ وَالْحَطَبَ مَوْجُودٌ فِي الْمِصْرِ وَالسَّوَادِ جَمِيعًا ثُمَّ يَشْتَرِي فِي الْمِصْرِ بِأَكْثَرَ مِمَّا يَشْتَرِي بِهِ فِي السَّوَادِ وَمَا كَانَ ذَلِكَ إلَّا لِاخْتِلَافِ الْمَكَانِ وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ مَا يَخْتَلِفُ مَالِيَّةُ الْمُسْلَمِ فِيهِ بِاخْتِلَافِهِ فَإِعْلَامُهُ شَرْطٌ لِجَوَازِ الْعَقْدِ وَهَذَا الْخِلَافُ فِي فُصُولٍ أَرْبَعَةٍ (أَحَدُهَا) السَّلَمُ (وَالثَّانِي) إذَا بَاعَ عَبْدًا بِحِنْطَةٍ مَوْصُوفَةٍ فِي الذِّمَّةِ إلَى أَجَلٍ يُشْتَرَطُ بَيَانُ مَكَانِ الْإِيفَاءِ لِجَوَازِ الْعَقْدِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَعِنْدَهُمَا لَا يُشْتَرَطُ بَيَانُ مَكَانِ الْإِيفَاءِ (وَالثَّالِثُ) إذَا اسْتَأْجَرَ دَارًا بِمَا لَهُ حَمْلٌ وَمُؤْنَةٌ دَيْنًا فِي ذِمَّتِهِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ- رَحِمَهُ اللَّهُ- يُشْتَرَطُ بَيَانُ مَكَانِ الْإِيفَاءِ وَعِنْدَهُمَا يَتَعَيَّنُ مَوْضِعُ الدَّارِ لِلِاسْتِيفَاءِ لَا مَوْضِعَ الْعَقْدِ (وَالرَّابِعُ) إذَا اقْتَسَمَا دَارًا وَشَرَطَ أَحَدُهُمَا عَلَى صَاحِبِهِ شَيْئًا لَهُ حَمْلٌ وَمُؤْنَةٌ فَهُوَ عَلَى هَذَا الْخِلَافِ وَيَأْتِي بَيَانُ ذَلِكَ فِي الْإِجَارَاتِ وَالْقِسْمَةِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى فَأَمَّا إعْلَامُ قَدْرِ رَأْسِ الْمَالِ فِيمَا يَتَعَلَّقُ الْعَقْدُ عَلَى قَدْرِهِ كَالْمَكِيلِ وَالْمَوْزُونِ فَشَرْطُ السَّلَمِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَعِنْدَهُمَا لَيْسَ بِشَرْطٍ وَالْإِشَارَةُ إلَى عَيْنِهِ تَكْفِي وَكَذَلِكَ إذَا كَانَ رَأْسُ الْمَالِ عَدَدِيًّا مُتَقَارِبًا كَالْفُلُوسِ وَالْجَوْزِ وَالْبَيْضِ وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ إعْلَامِ الْقَدْرِ الْقُدْرَةُ عَلَى التَّسْلِيمِ وَانْقِطَاعِ الْمُنَازَعَةِ وَذَلِكَ حَاصِلٌ بِالْإِشَارَةِ إلَى الْعَيْنِ فَيُغْنِي ذَلِكَ عَنْ إعْلَامِ الْقَدْرِ كَمَا فِي الثَّمَنِ وَالْأُجْرَةِ وَكَمَا فِي الْمُضَارَبَةِ لَوْ دَفَعَ إلَيْهِ دَرَاهِمَ غَيْرَ مَعْلُومَةِ الْمِقْدَارِ مُضَارَبَةً بِالنِّصْفِ كَانَ جَائِزًا وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ رَأْسَ الْمَالِ لَوْ كَانَ ثَوْبًا لَا يُشْتَرَطُ إعْلَامُ ذُرْعَانِهِ وَالذَّرْعُ فِي الْمَذْرُوعَاتِ لِلْإِعْلَامِ بِمَنْزِلَةِ الْقَدْرِ فِي الْمُقَدَّرَاتِ أَلَا تَرَى أَنَّ فِي الْمُسْلَمِ فِيهِ كَمَا يُشْتَرَطُ إعْلَامُ الْقَدْرِ يُشْتَرَطُ إعْلَامُ الذِّرَاعِ إذَا كَانَ ثَوْبًا ثُمَّ فِي رَأْسِ الْمَالِ لَا يُشْتَرَطُ إعْلَامُ الذَّرْعِ فِي الْمَذْرُوعَاتِ لِكَوْنِهِ عَيْنًا فَكَذَلِكَ لَا يُشْتَرَطُ إعْلَامُ الْقَدْرِ فِي الْمُقَدَّرَاتِ وَمَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ مَرْوِيٌّ عَنْ ابْنِ عُمَرَ ذَكَرَهُ فِي كِتَابِ الصُّلْحِ وَقَوْلُ الْفَقِيهِ مِنْ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ مُقَدَّمٌ عَلَى الْقِيَاسِ وَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّ هَذَا مُقَدَّرٌ يَتَنَاوَلُهُ عَقْدُ السَّلَمِ فَلَا بُدَّ مِنْ إعْلَامِ قَدْرِهِ كَالسَّلَمِ فِيهِ وَتَحْقِيقُهُ أَنَّ جَهَالَةَ قَدْرِ رَأْسِ الْمَالِ تُؤُدِّيَ إلَى جَهَالَةِ الْمُسْلَمِ فِيهِ؛ لِأَنَّ الْمُسْلَمَ إلَيْهِ يُنْفِقُ رَأْسَ الْمَالِ شَيْئًا فَشَيْئًا وَرُبَّمَا يَجِدُ بَعْدَ ذَلِكَ زُيُوفًا فَيَرُدُّهُ وَلَا يَسْتَنِدُ لَهُ فِي مَجْلِسِ الرَّدِّ فَيَبْطُلُ الْعَقْدُ بِقَدْرِ مَا رَدُّوا لَا لَمْ يَكُنْ مِقْدَارُ رَأْسِ الْمَالِ مَعْلُومًا لَا يُعْلَمُ فِي كَمْ اُنْتُقِضَ السَّلَمُ وَفِي كَمْ بَقِيَ وَإِذَا كَانَ مِقْدَارُ رَأْسِ الْمَالِ مَعْلُومًا بِوَزْنِ الْمَرْدُودِ فَيُعْلَمُ أَنَّهُ فِي كَمْ اُنْتُقِضَ الْعَقْدُ وَمَا يُؤَدِّي إلَى جَهَالَةِ الْمُسْلَمِ فِيهِ يَجِبُ الِاحْتِرَازُ عَنْهُ وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ مَوْهُومًا أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ أَسْلَمَ فِي مَكِيلٍ بِمِكْيَالِ رَجُلٍ بِعَيْنِهِ لَا يَجُوزُ الْعَقْدُ؛ لِأَنَّهُ يُتَوَهَّمُ هَلَاكُ ذَلِكَ الْمِكْيَالِ وَهُوَ مُخَالِفٌ لِغَيْرِهِ مِنْ الْمَكَايِيلِ فَإِذَا هَلَكَ صَارَ مِقْدَارُ الْمُسْلَمِ فِيهِ مَجْهُولًا فَكَذَلِكَ هُنَا يَجِبُ التَّحَرُّزُ عَنْ الْجَهَالَةِ بِإِعْلَامِ مِقْدَارِ رَأْسِ الْمَالِ بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ رَأْسُ الْمَالِ ثَوْبًا؛ لِأَنَّ الذُّرْعَانَ فِي الثَّوْبِ الْمُعَيَّنِ صِفَةٌ وَلِهَذَا لَوْ اشْتَرَى ثَوْبًا عَلَى أَنَّهُ عَشَرَةُ أَذْرُعٍ فَوَجَدَهُ أَحَدَ عَشَرَ ذِرَاعًا تُسَلَّمُ لَهُ الزِّيَادَةُ وَلَوْ وَجَدَهُ تِسْعَةَ أَذْرُعٍ لَا يَحُطُّ عَنْهُ شَيْئًا مِنْ الثَّمَنِ فَالْمُسْلَمُ فِيهِ لَا يَنْقَسِمُ عَلَى عَدَدِ الذَّرِعَانِ فَيُشْتَرَطُ فِيهِ إعْلَامُهُ ثُمَّ لَا يُتَصَوَّرُ اسْتِحْقَاقُ ذَرْعٍ بِعَيْنِهِ مِنْ الثَّوْبِ وَإِنَّمَا يُتَصَوَّرُ اسْتِحْقَاقُ النِّصْفِ أَوْ الثُّلُثِ وَذَلِكَ لَا يُؤَدِّي إلَى جَهَالَةِ الْمُسْلَمِ فِيهِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَعْلُومَ الذَّرْعِ بِخِلَافِ الْمِقْدَارِ عَلَى مَا بَيَّنَّا وَإِنَّمَا لَمْ يَذْكُرْ فِي جُمْلَةِ الشَّرَائِطِ تَعْجِيلَ رَأْسِ الْمَالِ فِي الْمَجْلِسِ؛ لِأَنَّا عَدَّدْنَا الشَّرَائِطَ الَّتِي يُحْتَاجُ إلَى ذِكْرِهَا فِي الْعَقْدِ وَتَعْجِيلُ رَأْسِ الْمَالِ لَيْسَ مِنْ ذَلِكَ فِي شَيْءٍ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ شَرْطُ بَقَاءِ الْعَقْدِ لَا شَرْطُ انْعِقَادِهِ صَحِيحًا فَإِنَّ الْعَقْدَ بَيْنَهُمَا لَازِمٌ قَبْلَ تَعْجِيلِ رَأْسِ الْمَالِ مَا دَامَ فِي الْمَجْلِسِ فَلِهَذَا لَمْ يَذْكُرْهُ مِنْ جُمْلَةِ الشَّرَائِطِ قَالَ: (وَإِذَا شَرَطَ طَعَامَ قَرْيَةٍ بِعَيْنِهَا أَوْ أَرْضٍ خَاصَّةٍ لَا يَبْقَى طَعَامُهَا فِي أَيْدِي النَّاسِ فَالسَّلَمُ فَاسِدٌ) لِمَا رُوِيَ أَنَّ زَيْدَ بْنَ شُعْبَةَ أَسْلَمَ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي التَّمْرِ فَقَالَ: «أَسْلَمْتُ إلَيْك فِي تَمْرِ حَائِطِ فُلَانٍ فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَمَّا حَائِطُ فُلَانٍ فَلَا أُسْلِمُ إلَّا فِي تَمْرٍ جَيِّدٍ» وَفِي مِثْلِهِ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَرَأَيْتَ لَوْ أَذْهَبَ اللَّهُ ثَمَرَتَهُ بِمَ يَسْتَحِلُّ أَحَدُكُمْ مَالَ أَخِيهِ لَا تُسَلِّفُوا فِي الثِّمَارِ حَتَّى يَبْدُوَ صَلَاحُهَا» وَفِي هَذَا إشَارَةٌ إلَى الْمَعْنَى وَهُوَ أَنَّ قُدْرَةَ الْعَاقِدِ عَلَى التَّسْلِيمِ عِنْدَ وُجُوبِ التَّسْلِيمِ شَرْطٌ لِجَوَازِ الْعَقْدِ وَلَا يُعْلَمُ قُدْرَتُهُ عَلَى التَّسْلِيمِ عِنْدَ حُلُولِ الْأَجَلِ إلَّا بِوُجُودِ الثِّمَارِ فِي تِلْكَ النَّخْلَةِ أَوْ الْحَائِطِ الَّذِي عَيَّنَهُ وَوُجُودُ ذَلِكَ مَوْهُومٌ وَبِالْمَوْهُومِ لَا تَثْبُتُ الْقُدْرَةُ عَلَى التَّسْلِيمِ وَكَذَلِكَ إذَا عَيَّنَ أَرْضًا لَا يَبْقَى طَعَامُهَا فِي أَيْدِي النَّاسِ فَقُدْرَتُهُ عَلَى التَّسْلِيمِ عِنْدَ وُجُوبِ التَّسْلِيمِ مَوْهُومٌ قَالَ: (وَلَا بَأْسَ بِأَنْ يَأْخُذَ بَعْضَ رَأْسِ مَالِهِ وَبَعْضَ مَا أَسْلَمَ فِيهِ إذَا حَلَّ الْأَجَلُ عِنْدَنَا) وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَكَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ لَا يُجَوِّزُ ذَلِكَ وَبِهِ أَخَذَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى قَالَ: (وَإِذَا أَخَذَ بَعْضَ رَأْسِ مَالِهِ فَسَدَ الْعَقْدُ وَيَسْتَرِدُّ مَا بَقِيَ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ) لِقَوْلِهِ: صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «لَا تَأْخُذْ إلَّا سَلَمَك أَوْ رَأْسَ مَالِك» فَإِذَا أَخَذَ بَعْضَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فَلَمْ يَأْخُذْ لَا هَذَا وَلَا ذَاكَ فَلَا يَتَمَكَّنُ مِنْهُ شَرْعًا؛ وَلِأَنَّهُ حِينَ أَخَذَ بَعْضَ رَأْسِ الْمَالِ فَقَدْ اخْتَارَ فَسْخَ الْعَقْدِ فَيَنْفَسِخُ فِي الْكُلِّ وَحُجَّتُنَا فِي ذَلِكَ أَنَّ أَخْذَ رَأْسِ الْمَالِ إقَالَةٌ وَلَوْ أَقَالَهُ فِي الْكُلِّ جَازَ فَلِذَلِكَ إذَا أَقَالَهُ فِي الْبَعْضِ يَجُوزُ أَيْضًا كَمَا فِي بَيْعِ الْعَيْنِ وَتَأْوِيلُ الْحَدِيثِ أَنَّ النَّهْيَ عَنْ أَخْذِ شَيْءٍ آخَرَ سِوَى رَأْسِ الْمَالِ وَالْمُسْلَمِ فِيهِ وَأَنَّهُ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ مَا أَخَذَ غَيْرَ رَأْسِ الْمَالِ وَغَيْرَ الْمُسْلَمِ فِيهِ وَإِنَّمَا يَكُونُ ذَلِكَ عِنْدَ الِاسْتِبْدَالِ وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: ذَلِكَ الْمَعْرُوفُ الْحَسَنُ الْجَمِيلُ وَكَانَ يَكْفِيه أَنْ يَقُولَ جَائِزٌ وَإِنَّمَا ذَكَرَ هَذَا اللَّفْظَ؛ لِأَنَّ السَّلَمَ بِدُونِ ثَمَنِ الْمِثْلِ يَكُونُ عَادَةً وَالْمُسْلَمُ إلَيْهِ يَنْدَمَ عِنْدَ مَحَلِّ الْأَجَلِ وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ أَقَالَ نَادِمًا بَيْعَتَهُ أَقَالَ اللَّهُ عَثَرَاتِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» إلَّا أَنَّهُ لَوْ أَقَالَهُ فِي الْكُلِّ فَاتَ مَقْصُودُ رَبِّ السَّلَمِ وَهُوَ الرِّبْحُ فَأَقَالَهُ فِي الْبَعْضِ انْتِدَابًا إلَى مَا نُدِبَ إلَيْهِ وَاسْتَوْفَى بَعْضَ الْمُسْلَمِ فِيهِ لَيُحَصِّلَا مَقْصُودَهُ فِي الرِّبْحِ فَفِيهِ النَّظَرُ لَهُمَا وَهُوَ الْمَعْرُوفُ الْحَسَنُ الْجَمِيلُ.