فصل: بَابُ إقْرَارِ الْمُفَاوَضَةِ بِالدَّيْنِ:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: المبسوط



.بَابُ إقْرَارِ الْمُفَاوَضَةِ بِالدَّيْنِ:

قَالَ رَحِمَهُ اللَّهُ وَإِذَا أَقَرَّ أَحَدُ الْمُتَفَاوِضَيْنِ بِدَيْنٍ فِي مَرَضِ مَوْتِهِ مِنْ تِجَارَتِهِمَا يُوَحَّدُ شَرِيكُهُ بِهِ فِي الْحَالِ وَفِيهِ طَرِيقَانِ لَنَا: أَحَدُهُمَا أَنَّ الْمُتَفَاوِضَيْنِ فِي حُقُوقِ التِّجَارَةِ صَارَا بِمَنْزِلَةِ شَخْصٍ وَاحِدٍ وَمُبَاشَرَةُ أَحَدِهِمَا سَبَبُ وُجُوبِ الدَّيْنِ كَمُبَاشَرَتِهِمَا وَالْإِقْرَارُ مِنْ بَابِ التِّجَارَةِ فَوُجُودُهُ مِنْ أَحَدِهِمَا كَوُجُودِهِ مِنْهُمَا وَالْأَصَحُّ أَنْ يَقُولَ وُجُوبُ الدَّيْنِ بِمُبَاشَرَةِ السَّبَبِ عَلَى مَنْ بَاشَرَهُ وَلَكِنَّ الشَّرِيكَ مُطَالَبٌ بِهِ بِسَبَبِ التَّحَمُّلِ الثَّابِتِ بِمُقْتَضَى صَدْرِ الْمُفَاوَضَةِ بَيْنَهُمَا؛ لِأَنَّ عَقْدَ الْمُفَاوَضَةِ يَقْتَضِي الْوَكَالَةَ الْعَامَّةَ وَالْكَفَالَةَ الْعَامَّةَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَنْ صَاحِبِهِ فِي دُيُونِ التِّجَارَةِ فَإِنَّهَا تَقْتَضِي الْمُسَاوَاةَ بِهَذَا فَالْمُفَاوِضُ الْمُقِرُّ وَإِنْ كَانَ مَرِيضًا فَقَدْ وَجَبَ عَلَيْهِ الدَّيْنُ بِإِقْرَارِهِ حَتَّى إذَا لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ دَيْنٌ فِي الصِّحَّةِ كَانَ مُطَالَبًا بِهِ فِي الْحَالِ وَإِنْ كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ فِي الصِّحَّةِ فَحَقُّ غَرِيمِ الصِّحَّةِ مُقَدَّمٌ وَلَكِنَّ حَقَّ الْمُقَرِّ لَهُ فِي الْمَرَضِ ثَابِتٌ أَيْضًا حَتَّى إذَا فَرَغَتْ التَّرِكَةُ مِنْ حَقِّ غَرِيمِ الصِّحَّةِ صَرَفَ الْمُقَرُّ لَهُ فِي الْمَرَضِ وَإِذَا ثَبَتَ الْوُجُوبُ فِي حَقِّ الْمُقِرِّ صَارَ الشَّرِيكُ مُطَالَبًا بِهِ بِحُكْمِ الْكَفَالَةِ وَتَأَخُّرِهِ فِي حَقِّ الْمُقِرِّ لِمَكَانِ دَيْنِ الصِّحَّةِ لَا يُوجِبُ التَّأْخِيرَ فِي الشَّرِيكِ كَالْعَبْدِ الْمَحْجُورِ يُقِرُّ عَلَى نَفْسِهِ بِدَيْنٍ وَيَكْفُلُ الْبَيَانَ عَنْهُ، يُؤَاخِذُ الْكَفِيلَ فِي الْحَالِ بِهِ وَإِنْ كَانَ مُؤَخَّرًا فِي حَقِّ الْأَصْلِ إلَى مَا بَعْدَ الْعِتْقِ وَهَذَا لَا تَأْجِيلَ فِي أَصْلِ الْمَالِ إنَّمَا التَّأْخِيرُ لِضَرُورَةِ انْعِدَامِ مَحَلِّ الْقَضَاءِ وَلَا ضَرُورَةَ فِي حَقِّ الْكَفِيلِ فَيَكُونُ مُطَالَبًا فِي الْحَالِ بِإِيفَائِهِ وَلَوْ كَانَ الْمُفَاوِضُ الْمَرِيضَ أَقَرَّ لِوَارِثِهِ بِدَيْنٍ لَمْ يُلْزِمْهُ شَرِيكَهُ.
وَبِهَذَا تَبَيَّنَ أَنَّ الصَّحِيحَ هُوَ الطَّرِيقُ الثَّانِي دُونَ الْأَوَّلِ فَإِنَّهُ لَوْ جُعِلَ إقْرَارُ أَحَدِهِمَا لَصَارَ الشَّرِيكُ الْآخَرُ مُطَالَبًا بِالْمَالِ هُنَا وَلَكِنَّ إقْرَارَ الْمَرِيضِ لِوَارِثِهِ بَاطِلٌ فَلَمْ يَجِبْ بِهِ الْمَالُ فِي ذِمَّةِ الْمُقِرِّ وَالْوُجُوبُ عَلَى الشَّرِيكِ بِحُكْمِ الْكَفَالَةِ فَإِذَا لَمْ يَكُنْ الْمَالُ وَاجِبًا عَلَى الْأَصِيلِ لَا يَجِبُ عَلَى الْكَفِيلِ خِلَافَ الْأَوَّلِ فَإِنَّ إقْرَارَهُ لِلْأَجْنَبِيِّ صَحِيحٌ وَإِنْ كَانَ مُؤَخَّرًا عَنْ حَقِّ غُرَمَاءِ الصِّحَّةِ فَوَجَبَ بِهِ الْمَالُ عَلَى الْأَصِيلِ وَصَارَ الْكَفِيلُ مُطَالَبًا بِهِ بِحُكْمِ الْكَفَالَةِ وَكَذَلِكَ لَوْ كَفَلَ لِوَارِثِهِ بِشَيْءٍ؛ لِأَنَّ كَفَالَةَ الْمَرِيضِ لِوَارِثِهِ بَاطِلَةٌ غَيْرُ مُوجِبَةٍ الْمَالَ عَلَيْهِ فَأَمَّا إذَا كَفَلَ لِلْأَجْنَبِيِّ فَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ يُؤَاخَذُ بِهِ شَرِيكُهُ سَوَاءٌ كَفَلَ بِأَمْرِ الْأَصِيلِ أَوْ بِغَيْرِ أَمْرِهِ وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ لَا يُؤَاخَذُ الشَّرِيكُ بِهِ وَكَذَلِكَ إنْ أَقَرَّ أَحَدُ الْمُتَفَاوِضَيْنِ بِكَفَالَةٍ فِي صِحَّتِهِ أَوْ مَرَضِهِ فَعَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ يُؤَاخَذُ بِهِ شَرِيكُهُ وَعِنْدَهُمَا لَا يُؤَاخَذُ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ حُجَّتُهُمَا أَنَّ دَيْنَ الْكَفَالَةِ لَيْسَ مِنْ دَيْنِ التِّجَارَةِ؛ لِأَنَّ سَبَبَهُ لَا يَنْزِعُ مَا هُوَ تَبَرُّعٌ.
(أَلَا تَرَى) أَنَّهُ لَوْ حَصَلَ مِنْ الْمَرِيضِ كَانَ مُعْتَبَرًا مِنْ الثُّلُثِ وَلَوْ حَصَلَ مِنْ الْعَبْدِ الْمَأْذُونِ وَالْمُكَاتَبِ لَمْ يَكُنْ صَحِيحًا وَمَا وَجَبَ عَلَى أَحَدِ الْمُتَفَاوِضَيْنِ لَا بِجِهَةِ التِّجَارَةِ لَا يَكُونُ شَرِيكُهُ مُطَالَبًا بِهِ كَمَا يَجِبُ مِنْ مَهْرِ امْرَأَتِهِ وَأَرْشِ الْجِنَايَةِ بِجِنَايَتِهِ وَكَلَامُهُمَا يَتَّضِحُ فِي الْكَفَالَةِ بِغَيْرِ الْأَصْلِ فَإِنَّهُ تَبَرُّعٌ مَحْضٌ حَتَّى لَا يَسْتَوْجِبَ الْكَفِيلُ الرُّجُوعَ عَلَى الْأَصِيلِ عِنْدَ الْأَدَاءِ وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ طَرِيقَانِ: الْأَوَّلُ أَنَّ هَذَا الدَّيْنَ وَجَبَ بِمَا هُوَ مِنْ مُتَضَمَّنَاتِ عَقْدِ الْمُفَاوَضَةِ فَيَكُونُ الشَّرِيكُ مُطَالَبًا بِهِ كَالْوَاجِبِ بِطَرِيقِ الْوَكَالَةِ إذَا تَوَكَّلَ أَحَدُهُمَا عَنْ الْغَيْرِ بِالشِّرَاءِ وَبَيَانُهُ فِيمَا قُلْنَا أَنَّ عَقْدَ الْمُفَاوَضَةِ يَقْتَضِي الْوَكَالَةَ الْعَامَّةَ وَالْكَفَالَةَ الْعَامَّةَ وَبِهَذَا تَبَيَّنَ أَنَّهُ مِنْ جِنْسِ التِّجَارَةِ؛ لِأَنَّ عَقْدَ الْمُفَاوَضَةِ يَتَضَمَّنُ مَا هُوَ مِنْ جِنْسِ التِّجَارَةِ.
الثَّانِي أَنَّ فِي الْكَفَالَةِ مَعْنَى الْبُيُوعِ فِي الِابْتِدَاءِ وَلَكِنَّهُ مُفَاوَضَةُ أَيِّهِمَا خُصُوصًا فِي الْكَفَالَةِ بِالْأَمْرِ فَإِنَّهُ يَرْجِعُ بِمَا يُؤَدِّي إلَى الْأَصِيلِ فَفِي حَقِّ الْعَبْدِ الْمَأْذُونِ وَالْمُكَاتَبِ وَالْمَرِيضِ اعْتَبِرْنَا مَعْنَى التَّبَرُّعِ فِيهِ فِي الِابْتِدَاءِ فَلَمْ يَكُنْ صَحِيحًا وَفِي حَقِّ الْمُفَاوِضِ اعْتَبِرْنَا مَعْنَى الْمُفَاوَضَةِ فِي الِانْتِهَاءِ؛ لِأَنَّهُ صَحِيحٌ فِي حَقِّ مَنْ بَاشَرَ سَبَبَهُ فَإِذَا صَحَّ انْقَلَبَتْ مُفَاوَضَةً فَعِنْدَ صَيْرُورَةِ الشَّرِيكِ الْآخَرِ مُطَالِبًا لَهُ فِي الْحَالِ وَتَأَخَّرَ فِي حَقِّ الْمَرِيضِ عَنْ حَقِّ غُرَمَاءِ الصِّحَّةِ؛ لِأَنَّ إقْرَارَ الشَّرِيكِ عَلَيْهِ لَا يَكُونُ الْعَبْدُ مِنْ إقْرَارِهِ بِنَفْسِهِ وَهُوَ لَوْ أَقَرَّ بِنَفْسِهِ تَأَخَّرَ عَنْ حَقِّ غُرَمَاءِ الصِّحَّةِ فَكَذَلِكَ مَا لَزِمَ بِإِقْرَارِ شَرِيكِهِ أَوْ يُجْعَلُ هَذَا كَإِقْرَارِهِمَا جَمِيعًا فَإِنْ (قِيلَ) كَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ هَذَا فِي حَقِّ الْمَرِيضِ مِنْ ثُلُثِ مَالِهِ؛ لِأَنَّ الْوُجُوبَ عَلَيْهِ كَانَ لِسَبَبِ الْكَفَالَةِ عَنْ شَرِيكِهِ وَكَفَالَةُ الْمَرِيضِ مُعْتَبَرَةٌ مِنْ ثُلُثِهِ (قُلْنَا) هَذَا إذْ لَوْ كَانَتْ مُبَاشَرَةُ الْكَفَالَةِ فِي الْمَرَضِ وَهُنَا الْكَفَالَةُ بِمُقْتَضَى عَقْدِ الْمُفَاوَضَةِ فَإِنَّمَا كَانَ فِي حَالِ الصِّحَّةِ فَالْوُجُودُ وَإِنْ حَصَلَ فِي حَالَةِ الْمَرَضِ لَمَا كَانَ سَبَبُهُ مَوْجُودًا فِي حَالِ الصِّحَّةِ فَالْوَاجِبُ كَانَ مُعْتَبَرًا مِنْ جَمِيعِ مَالِهِ فَإِنْ (قِيلَ) إذَا كَانَ سَبَبُهُ فِي حَالِ الصِّحَّةِ يَنْبَغِي أَنْ لَا يَتَأَخَّرَ عَنْ حَقِّ غُرَمَاءِ الصِّحَّةِ (قُلْنَا) وُجُوبُ الدَّيْنِ عَلَيْهِ بِذَلِكَ السَّبَبِ إنَّمَا حَصَلَ فِي الْمَرَضِ فَكَانَ ذَلِكَ مَزِيدَ الْمَرَضِ لِهَذَا الْمَرِيضِ؛ وَلِأَنَّ إقْرَارَ الْغَيْرِ عَلَيْهِ لَا يَكُونُ أَبْعَدَ مِنْ إقْرَارِهِ عَلَى نَفْسِهِ وَلَوْ أَقَرَّ الصَّحِيحُ لِوَارِثِ الْمَرِيضِ بِدَيْنٍ لَزِمَ الصَّحِيحَ كُلُّهُ دُونَ الْمَرِيضِ؛ لِأَنَّ إقْرَارَ الصَّحِيحِ فِي حَقِّ الْمَرِيضِ كَإِقْرَارِهِ بِنَفْسِهِ وَإِقْرَارُهُ لِوَارِثِهِ بَاطِلٌ فَكَذَلِكَ إقْرَارُ الصَّحِيحِ فِي حَقِّهِ وَلَيْسَ مِنْ ضَرُورَةِ امْتِنَاعِ وُجُوبِ الْمَالِ عَلَى الْكَفِيلِ أَنْ لَا يَجِبَ عَلَى الْأَصِيلِ فَلِهَذَا وَجَبَ الْمَالُ عَلَى الصَّحِيحِ فَإِنْ (قِيلَ) إقْرَارُ الْمَرِيضِ لِوَارِثِهِ إنَّمَا لَا يَصِحُّ لِتُهْمَةِ الْإِيثَارِ وَهُوَ غَيْرُ مَوْجُودٍ فِي حَقِّ إقْرَارِ شَرِيكِهِ (قُلْنَا) لَيْسَ كَذَلِكَ بَلْ يَتَمَكَّنُ تُهْمَةُ الْمُوَاضَعَةِ هُنَا مِنْ حَيْثُ إنَّهُ لَمَّا عَلِمَ أَنَّ إقْرَارَهُ لِوَارِثِهِ بِنَفْسِهِ لَا يَصِحُّ لِشَرِيكِهِ لِتَقَرُّبِهِ لَهُ ثُمَّ يُسْتَوْفَى مِنْ مَالِ الْمَرِيضِ فَلْيُمَكِّنْ هَذِهِ التُّهْمَةَ؛ (قُلْنَا) لَا يَصِحُّ الْإِقْرَارُ فِي حَقِّ الْمَرِيضِ وَلَا تُهْمَةَ فِي مَا يُقِرُّ لَهُ الشَّرِيكُ عَلَى نَفْسِهِ فِي حَقِّهِ فَكَانَ هُوَ مُطَالَبًا بِالْمَالِ.
وَلَوْ كَانَ الْمُفَاوِضُ قَالَ لِرَجُلٍ مَا ذَابَ لَكَ عَلَى فُلَانٍ فَهُوَ عَلَيَّ أَوْ مَا وَجَبَ لَكَ عَلَيْهِ أَوْ مَا قُضِيَ لَكَ عَلَيْهِ ثُمَّ مَرِضَ ثُمَّ أَقَرَّ فُلَانٌ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ لِذَلِكَ الرَّجُلِ وَقُضِيَ بِهَا لَهُ عَلَيْهِ لَزِمَ الْمَرِيضَ ذَلِكَ مِنْ جَمِيعِ الْمَالِ؛ لِأَنَّ وُجُوبَ هَذَا الْمَالِ عَلَيْهِ وَإِنْ كَانَ بِطَرِيقِ الْكَفَالَةِ وَلَكِنْ صَحَّ سَبَبُهُ فِي حَالِ الصِّحَّةِ وَلَزِمَ حَتَّى لَوْ أَرَادَ الرُّجُوعَ عَنْهُ لَمْ يَمْلِكْ ذَلِكَ فَكَانَ بِمَنْزِلَةِ سَائِرِ الدُّيُونِ فِي كَوْنِهِ مُعْتَبَرًا مِنْ جَمِيعِ الْمَالِ.
(أَلَا تَرَى) أَنَّ الصَّحِيحَ لَوْ ضَمِنَ الدَّرَكَ عَنْ رَجُلٍ فِي دَارٍ بَاعَهَا ثُمَّ مَرِضَ فَلَزِمَ الدَّرَكُ كَانَ مُطَالَبًا مِنْ جَمِيعِ الْمَالِ؛ لِأَنَّ سَبَبَهُ لَزِمَ فِي حَالِ الصِّحَّةِ عَلَى وَجْهٍ لَا يُمْكِنُهُ الرُّجُوعُ عَنْهُ فَكَانَ مُعْتَبَرًا مِنْ جَمِيعِ الْمَالِ؛ لِأَنَّ سَبَبَهُ لَزِمَ فِي حَالِ الصِّحَّةِ هُنَا؛ لِأَنَّ الْوُجُوبَ مُسْتَنِدٌ إلَى سَبَبِهِ وَلَمَّا تَمَّ السَّبَبُ هُنَا وَلَزِمَهُ فِي حَالِ الصِّحَّةِ اسْتَنَدَ حُكْمُ الْوُجُوبِ إلَيْهِ فَلِهَذَا كَانَ مُزَاحِمًا لِغُرَمَاءِ الصِّحَّةِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.

.بَابُ الْإِقْرَارِ لِمَا فِي الْبَطْنِ:

(قَالَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ الْإِقْرَارُ لِمَا فِي الْبَطْنِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا أَنْ يُبَيِّنَ سَبَبًا صَالِحًا مُسْتَقِيمًا بِأَنْ يَقُولَ: لِمَا فِي بَطْنِ فُلَانَةَ عَلَيَّ أَلْفُ دِرْهَمٍ مِنْ جِهَةِ مِيرَاثٍ وَرِثَهُ عَنْ أَبِيهِ فَاسْتَهْلَكَتْهُ أَوْ وَصِيَّةٌ أَوْصَى بِهَا بِمَا لَهُ فَاسْتَهْلَكَتْهُ فَهَذَا صَحِيحٌ)؛ لِأَنَّهُ بَيَّنَ سَبَبًا مُسْتَقِيمًا لَوْ عَايَنَهُ حَكَمْنَا بِوُجُوبِ الْمَالِ عَلَيْهِ فَكَذَلِكَ إذَا ثَبَتَ بِإِقْرَارِهِ هَذَا؛ لِأَنَّ الْإِقْرَارَ فِي الْحَقِيقَةِ لِلْمُوَرِّثِ وَالْمُوصِي فَإِنَّ الْمَالَ مَنْفِيٌّ عَلَى حَقِّهِ مَا لَمْ يَصْرِفْهُ إلَى وَارِثِهِ أَوْ إلَى مَنْ أَوْصَى لَهُ بِهِ وَكَذَلِكَ الْمُوَرِّثُ وَالْمُوصِي مِنْ أَهْلِ الْإِقْرَارِ لَهُ فَهُوَ نَظِيرُ مَا لَوْ قَالَ لِدَابَّةِ فُلَانٍ عَلَيَّ أَلْفُ دِرْهَمٍ أَوْصَى لَهُ بِالْعَلَفِ فَاسْتَهْلَكَتْهُ ثُمَّ إنْ وَلَدَتْ وَلَدًا حَيًّا فَالْمُقَرُّ بِهِ لَهُ وَإِنْ وَلَدَتْهُ مَيِّتًا فَالْمَالُ مَرْدُودٌ عَلَى وَرَثَةِ الْمَيِّتِ وَالْمُوصِي، وَإِنْ جَاءَتْ بِوَلَدَيْنِ أَحَدُهُمَا ذَكَرٌ وَالْآخَرُ أُنْثَى فَفِي الْوَصِيَّةِ يُقْسَمُ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ وَفِي الْمِيرَاثِ يَكُونُ بَيْنَهُمَا لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ؛ لِأَنَّ قَوْلَ الْمُقِرِّ فِي بَيَانِ السَّبَبِ مَقْبُولٌ، وَهَذَا إذَا وَضَعَتْهُ لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنْ حِينِ مَاتَ الْمُوصِي وَالْمُوَرِّثُ حَتَّى عَلِمَ أَنَّهُ كَانَ مَوْجُودًا فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ وَإِنْ وَضَعَتْهُ لِأَكْثَرَ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ؛ لَمْ يَسْتَحِقَّ شَيْئًا إلَّا أَنْ تَكُونَ الْمَرْأَةُ مُعْتَدَّةً فَحِينَئِذٍ إذَا جَاءَتْ بِالْوَلَدِ لِأَقَلَّ مِنْ سَنَتَيْنِ حَتَّى حُكِمَ بِثُبُوتِ السَّبَبِ فِي ذَلِكَ حُكْمًا بِوُجُودِهِ فِي الْبَطْنِ حِينَ مَاتَ الْمُوصِي وَالْمُوَرِّثُ.
الْوَجْهُ الثَّانِي أَنْ يُبَيِّنَ سَبَبًا بِمُسْتَحِيلٍ بِأَنْ يَقُولَ لِمَا فِي بَطْنِ فُلَانَةَ عَلَيَّ أَلْفُ دِرْهَمٍ ثَمَنُ بَيْعٍ بَايَعَتْهُ أَوْ قَرْضٍ أَقْرَضَتْهُ فَهَذَا بَاطِلٌ؛ لِأَنَّ الْمُبَايَعَةَ وَالْإِقْرَاضَ لَا يُتَصَوَّرُ مِنْ الْجَنِينِ حَقِيقَةً وَلَا حُكْمًا أَمَّا الْحَقِيقَةُ فَلَا يُشْكِلُ وَأَمَّا الْحُكْمُ فَلِأَنَّهُ لَا وِلَايَةَ لِأَحَدٍ عَلَى الْجَنِينِ حَتَّى يَكُونَ تَصَرُّفُهُ بِمَنْزِلَةِ تَصَرُّفِ الْجَنِينِ فَيَصِيرُ مُضَافًا إلَيْهِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ وَاذَا كَانَ مَا سَبَّبَهُ مِنْ السَّبَبِ مُحَالًا صَارَ كَلَامُهُ لَغْوًا فَلَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ فَإِنْ (قِيلَ) هَذَا يَكُونُ رُجُوعًا عَنْ إقْرَارِهِ بِإِذْنٍ وَالرُّجُوعُ عَنْ الْإِقْرَارِ لَا يَصِحُّ وَإِنْ كَانَ مَوْصُولًا (قُلْنَا) لَا كَذَلِكَ بَلْ هُوَ بَيَانُ السَّبَبِ مُحْتَمَلٌ فَقْدُ نَسَبِهِ عَلَى الْجَاهِلِ فَيَظُنُّ أَنَّ الْجَنِينَ يَثْبُتُ عَلَيْهِ الْوِلَايَةُ كَالْمُنْفَصِلِ فَيُعَامِلُهُ ثُمَّ يُقِرُّ بِذَلِكَ الْمَالِ لِلْجَنِينِ بِنَاءً عَلَى ظَنِّهِ وَتَبَيُّنِ سَبَبِهِ ثُمَّ يَعْلَمُ أَنَّ ذَلِكَ السَّبَبَ كَانَ بَاطِلًا فَكَانَ كَلَامُهُ بَيَانًا لَا رُجُوعًا فَلِهَذَا كَانَ مَقْبُولًا مِنْهُ.
وَالثَّالِثُ أَنْ يُقِرَّ لِلْجَنِينِ بِمَالٍ مُطْلَقٍ مِنْ دَيْنٍ أَوْ عَيْنٍ فَيَقُولُ لِمَا فِي بَطْنِ فُلَانَةَ عَلَيَّ أَلْفُ دِرْهَمٍ، أَوْ هَذَا الْعَيْنُ مِلْكٌ لِمَا فِي بَطْنِ فُلَانَةَ فَوَلَدَتْ لِمُدَّةٍ يُعْلَمُ أَنَّهُ كَانَ فِي الْبَطْنِ وَقْتَ الْإِقْرَارِ فَالْإِقْرَارُ بَاطِلٌ فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ وَقَالَ مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ الْإِقْرَارُ صَحِيحٌ.
وَجْهُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ أَنَّ مُطْلَقَ كَلَامِ الْعَاقِلِ مَحْمُولٌ عَلَى الصِّحَّةِ مَا أَمْكَنَ؛ لِأَنَّ عَقْلَهُ وَدِينَهُ يَدْعُو بِهِ إلَى التَّكَلُّمِ بِمَا هُوَ صَحِيحٌ لَا بِمَا هُوَ لَغْوٌ فَيُجْعَلُ مُطْلَقُ إقْرَارِهِ صَحِيحًا بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ بَيَّنَ سَبَبًا صَحِيحًا لِإِقْرَارِهِمَا وَهَذَا لِأَنَّ الْإِقْرَارَ حُجَّةٌ مَهْمَا أَمْكَنَ إعْمَالُهُ لَا يَجُوزُ إبْطَالُهُ وَالْجَنِينُ جُعِلَ فِي حُكْمِ الْمُنْفَصِلِ حَتَّى يَصِحَّ الْإِقْرَارُ وَسَبَبُهُ وَيَصِحَّ إعْتَاقُهُ وَالْإِقْرَارُ يَعْتِقُهُ وَيَرِثُ وَيُوصِي لَهُ فَكَمَا أَنَّ الْإِقْرَارَ لِلْمُنْفَصِلِ بِالْمَالِ مُطْلَقًا يَكُونُ إقْرَارًا صَحِيحًا فَكَذَلِكَ الْإِقْرَارُ بِهِ لِلْجَنِينِ وَلِأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ مُطْلَقَ الْإِقْرَارِ بِالْمَالِ مَحْمُولٌ عَلَى الِالْتِزَامِ بِالْعَقْدِ فَكَأَنَّهُ أَقَرَّ بِهِ وَهَذَا لِأَنَّ دِينَهُ وَعَقْلَهُ يَمْنَعَانِهِ مِنْ الِاسْتِهْلَاكِ وَيَدْعُو بِهِ إلَى الِالْتِزَامِ بِالْعَقْدِ فَيَجِبُ حَمْلُ مُطْلَقِ إقْرَارِهِ عَلَيْهِ.
(أَلَا تَرَى) أَنَّ أَحَدَ الْمُتَفَاوِضَيْنِ إذَا أَقَرَّ بِمَالٍ مُطْلَقٍ يَلْزَمُ شَرِيكَهُ، وَالْعَبْدُ الْمَأْذُونُ إذَا أَقَرَّ بِالْمَالِ مُطْلَقًا يَصِحُّ إقْرَارُهُ وَيُؤْخَذُ بِهِ فِي الْحَالِ وَكَانَ ذَلِكَ بِاعْتِبَارِ حَمْلِ مُطْلَقِ الْإِقْرَارِ عَلَى جِهَةِ التِّجَارَةِ فَكَذَلِكَ هُنَا يُحْمَلُ مُطْلَقُ إقْرَارِهِ عَلَى جِهَةِ التِّجَارَةِ فَكَأَنَّهُ بَيَّنَ جِهَةَ التِّجَارَةِ؛ وَلِأَنَّ الْإِقْرَارَ ابْتِدَاءً هُنَا يَقَعُ لِلْجَنِينِ وَهُوَ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ أَنْ يَثْبُتَ لَهُ حَقُّ ابْتِدَاءٍ مَا لَمْ يَنْفَصِلْ وَلِهَذَا لَا يَلِي عَلَيْهِ أَحَدٌ؛ لِأَنَّهُ مَا دَامَ مُخْتَبِئًا فِي الْبَطْنِ فَهُوَ فِي حُكْمِ الْإِجْرَاءِ وَالْإِبْعَاضِ فَأَمَّا الْعِتْقُ وَالْوَصِيَّةُ مِمَّا يَحْتَمِلُ التَّعْلِيقَ بِالشَّرْطِ فَيُجْعَلُ كَالْمُضَافِ إلَى مَا بَعْدَ الِانْفِصَالِ وَالْإِقْرَارُ بِالسَّبَبِ لَيْسَ بِإِيجَابِ حَقٍّ لَهُ ابْتِدَاءً بَلْ إخْبَارٌ بِأَنَّهُ عَلِقَ مِنْ مَائِهِ وَالْإِقْرَارُ بِاسْتِهْلَاكِ مِيرَاثٍ أَوْ وَصِيَّةٍ لَهُ لَا يَكُونُ إيجَابًا لِلْجَنِينِ ابْتِدَاءً بَلْ يَكُونُ إقْرَارًا لِلْمُوَرِّثِ وَالْمُوصِي ثُمَّ يَنْتَقِلُ إلَيْهِ بِسَبَبِ الْإِرْثِ وَالْوَصِيَّةِ إنْ انْفَصَلَ حَيًّا أَمَّا هَذَا إيجَابُ الْحَقِّ لِلْجَنِينِ ابْتِدَاءً وَهُوَ لَيْسَ بِأَهْلٍ لِذَلِكَ فَلِهَذَا بَطَلَ إقْرَارُهُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

.بَابُ الْخِيَارِ:

(قَالَ رَحِمَهُ اللَّهُ رَجُلٌ أَقَرَّ لِرَجُلٍ بِدَيْنٍ مِنْ قَرْضٍ أَوْ غَصْبٍ أَوْ وَدِيعَةٍ أَوْ عَارِيَّةٍ قَائِمَةٍ أَوْ مُسْتَهْلَكَةٍ عَلَى أَنَّهُ بِالْخِيَارِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ فَالْإِقْرَارُ جَائِزٌ وَالْخِيَارُ بَاطِلٌ أَمَّا جَوَازُ الْإِقْرَارِ فَلِوُجُودِ الصِّيغَةِ الْمُلْزِمَةِ بِقَوْلِهِ: عَلَيَّ أَوْ عِنْدِي لِفُلَانٍ وَأَمَّا الْخِيَارُ فَبَاطِلٌ)؛ لِأَنَّ الْإِقْرَارَ بَاطِلٌ إنْ اخْتَارَ وَلَا يَلِيقُ بِهِ الْخِيَارُ؛ لِأَنَّ الْخَبَرَ إنْ كَانَ صَادِقًا فَصُدِّقَ اخْتَارَهُ أَوْ لَمْ يَخْتَرْهُ وَإِنْ كَانَ كَذِبًا لَمْ يَتَعَيَّنْ بِاخْتِيَارِهِ وَعَدَمِ اخْتِيَارِهِ وَإِنَّمَا مَا يَبَرُّ يَشْتَرِطُ الْخِيَارَ فِي الْعُقُودِ بِالشَّرْطِ لِيَتَغَيَّرَ بِهِ صِفَةُ الْعَقْدِ وَيَتَخَيَّرَ مَنْ لَهُ بَيْنَ فَسْخِهِ وَإِمْضَائِهِ؛ وَلِأَنَّ الْخِيَارَ فِي مَعْنَى التَّعْلِيقِ بِالشَّرْطِ فَمَا دَخَلَ عَلَيْهِ وَهُوَ حُكْمُ الْعَقْدِ وَالْإِقْرَارِ لَا يَحْتَمِلُ التَّعْلِيقَ بِالشَّرْطِ فَكَذَلِكَ لَا يَحْتَمِلُ اشْتِرَاطَ الْخِيَارِ إلَّا أَنَّ التَّعْلِيقَ يَدْخُلُ عَلَى أَصْلِ السَّبَبِ فَمُنِعَ كَوْنُ الْكَلَامِ إقْرَارًا وَالْخِيَارُ يَدْخُلُ عَلَى حُكْمِ السَّبَبِ فَإِذَا لُغِيَ بَقِيَ حُكْمُ الْإِقْرَارِ وَهُوَ اللُّزُومُ ثَانِيًا وَهَذَا كَمَا أَنَّ التَّعْلِيقَ بِالشَّرْطِ يَمْنَعُ وُقُوعَ الطَّلَاقِ وَاشْتِرَاطُ الْخِيَارِ لَا يَمْنَعُهُ وَيَسْتَوِي إنْ صَدَّقَهُ صَاحِبُهُ فِي الْخِيَارِ أَوْ كَذَّبَهُ وَهَذَا بِخِلَافِ مَا إذَا أَقَرَّ بِدَيْنٍ مِنْ ثَمَنِ بَيْعٍ عَلَى أَنَّهُ فِيهِ بِالْخِيَارِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ فَإِنَّ هُنَاكَ يَثْبُتُ الْخِيَارُ إذَا صَدَّقَهُ صَاحِبُهُ؛ لِأَنَّ سَبَبَ الْوُجُوبِ عَقْدٌ يَقْبَلُ الْخِيَارَ فَإِذَا تَصَادَقَا عَلَيْهِ صَارَ ذَلِكَ كَالْمُعَايَنِ فِي حَقِّهِمَا وَإِنْ كَذَّبَهُ صَاحِبُهُ لَمْ يَثْبُتْ الْخِيَارُ؛ لِأَنَّ مُقْتَضَى مُطْلَقِ الْبَيْعِ اللُّزُومُ فَمَنْ ادَّعَى دَعْوَةً مُعْتَبَرَةً بِاشْتِرَاطِ الْخِيَارِ فِيهِ لَا يُقْبَلُ قَوْلُهُ إلَّا بِحُجَّةٍ فَأَمَّا مَا سَبَبُ وُجُوبِ الْمَالِ فِعْلًا مِنْ فَرْضٍ أَوْ غَصْبٍ أَوْ اسْتِهْلَاكٍ وَذَلِكَ لَا يَلِيقُ بِهِ الْخِيَارُ وَلَوْ عَايَنَ اشْتِرَاطَ الْخِيَارِ فِيهِ كَانَ لَغْوًا فَلِهَذَا لَمْ يَثْبُتْ وَإِنْ تَصَادَقَا عَلَيْهِ.
وَإِنْ أَقَرَّ بِالدَّيْنِ مِنْ كَفَالَةٍ عَلَى شَرْطِ مُدَّةٍ مَعْلُومَةٍ طَوِيلَةٍ أَوْ قَصِيرَةٍ فَإِنْ صَدَّقَهُ الْمُقَرُّ لَهُ فَهُوَ كَمَا قَالَ وَالْخِيَارُ ثَابِتٌ لَهُ إلَى آخِرِ الْمُدَّةِ؛ لِأَنَّ الْكَفَالَةَ عَقْدٌ يَصِحُّ اشْتِرَاطُ الْخِيَارِ فِيهِ فَيُجْعَلُ مَا تَصَادَقَا عَلَيْهِ كَالْمُعَايَنِ فِي حَقِّهِمَا وَفَرَّقَ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ بَيْنَ الْبَيْعِ وَبَيْنَ الْكَفَالَةِ فَقَالَ فِي الْبَيْعِ لَا يَجُوزُ اشْتِرَاطُ الْخِيَارِ أَكْثَرَ مِنْ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ وَفِي الْكَفَالَةِ يَجُوزُ ذَلِكَ وَإِنْ طَالَتْ الْمُدَّةُ؛ لِأَنَّ الْكَفَالَةَ عَقْدٌ مَبْنِيٌّ عَلَى التَّوَسُّعِ.
(أَلَا تَرَى) أَنَّهُ يَحْتَمِلُ التَّعْلِيقَ بِبَعْضِ الْأَخْطَارِ نَحْوَ قَوْلِهِ مَا ذَابَ لَكَ عَنْ فُلَانٍ فَهُوَ عَلَيَّ وَنَحْوَ الْكَفَالَةِ بِالدَّرَكِ فَإِنَّهُ تَعْلِيقٌ بِخَطَرِ الِاسْتِحْقَاقِ فَإِذَا كَانَ هُوَ مُحْتَمِلًا لِلتَّعْلِيقِ كَانَ الْخِيَارُ مُلَائِمًا لَهُ بِأَصْلِهِ فَيَجُوزُ اشْتِرَاطُهُ مُدَّةً مَعْلُومَةً قَصُرَتْ أَوْ طَالَتْ فَأَمَّا الْبَيْعُ مَبْنِيٌّ عَلَى الْعِتْقِ حَتَّى لَا يَحْتَمِلَ التَّعْلِيقَ بِالشَّرْطِ أَصْلًا فَلَمْ يَكُنْ الْخِيَارُ مُلَائِمًا لَهُ بِاعْتِبَارِ أَصْلِهِ فَقُلْنَا لَا يَجُوزُ اشْتِرَاطُهُ إلَّا بِقَدْرِ مَا وَرَدَ بِهِ الشَّرْعُ بِخِلَافِ الْقِيَاسِ وَذَلِكَ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ وَإِنْ كَذَّبَهُ صَاحِبُهُ بِالْخِيَارِ لَزِمَهُ الْمَالُ وَلَمْ تَصْدُقْ عَلَى شَرْطِ الْخِيَارِ؛ لِأَنَّ مُقْتَضَى عَقْدِ الْكَفَالَةِ اللُّزُومُ كَمَا هُوَ مُقْتَضَى مُطْلَقِ الْبَيْعِ وَهَذَا بِخِلَافِ الْأَجَلِ فَإِنَّهُ إذَا ادَّعَى الْكَفَالَةَ بِالْمَالِ إلَى أَجَلٍ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ وَإِنْ لَمْ يُصَدِّقْهُ صَاحِبُهُ؛ لِأَنَّ الْأَجَلَ مِنْ مُقْتَضَيَاتِ الْكَفَالَةِ.
(أَلَا تَرَى) أَنَّ مَنْ كَفَلَ بِمَالٍ مُوجَدٍ مُطْلَقًا يُثْبِتُ الْأَجَلَ فِي حَقِّ الْكَفِيلِ وَكَذَلِكَ الْكَفَالَةُ تُوجِبُ الْمَالَ لِلْكَفِيلِ عَلَى الْأَصِيلِ إذَا كَانَ يَأْمُرُهُ كَمَا يُوجِبُ لِلطَّالِبِ عَلَى الْكَفِيلِ وَمَا يَكُونُ لِلْكَفِيلِ عَلَى الْأَصِيلِ مُؤَجَّلٌ أَنْ يُؤَدِّيَهُ عَنْهُ فَلَمَّا كَانَ الْأَصْلُ مِنْ مُقْتَضَيَاتِ الْكَفَالَةِ جُعِلَ الْقَوْلُ فِيهِ قَوْلَ مَنْ يَدَّعِيهِ بِخِلَافِ الْخِيَارِ فَإِنَّهُ لَيْسَ مِنْ مُقْتَضَيَاتِ الْكَفَالَةِ فَلَا يُقْبَلُ قَوْلُ مَنْ يَدَّعِيهِ إلَّا بِحُجَّةٍ.
وَإِقْرَارُ الصَّبِيِّ التَّاجِرِ جَائِزٌ فِي جَمِيعِ تِجَارَاتِهِ؛ لِأَنَّ الْإِقْرَارَ مِنْ صِيَغِ التُّجَّارِ وَهُوَ مِمَّا لَا يَسْتَغْنِي التَّاجِرُ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَتَعَذَّرُ عَلَى مَنْ يُعَامِلُهُ إشْهَادُ الشَّاهِدَيْنِ عَلَيْهِ كُلَّ مُعَامَلَةٍ فَإِذَا عَلِمَ أَنَّ إقْرَارَهُ لَهُ لَا يَكُونُ صَحِيحًا يَتَحَذَّرُ عَنْ الْمُعَامَلَةِ مَعَهُ فَلِهَذَا جَوَّزْنَا إقْرَارَهُ وَبِخِلَافِ إقْرَارِ الْأَبِ وَالْوَصِيِّ عَلَيْهِ فَإِنَّهُ لَا يَكُونُ صَحِيحًا لِعَدَمِ التَّصَوُّرِ فَإِنَّ الْإِقْرَارَ مَا يُقِرُّ الْمَرْءُ بِهِ عَلَى نَفْسِهِ فَأَمَّا مَا يُقِرُّ بِهِ عَلَى غَيْرِهِ يَكُونُ شَهَادَةً فَمِنْ الْأَبِ لَا يَتَحَقَّقُ الْإِقْرَارُ عَلَى الصَّبِيِّ وَيَتَحَقَّقُ مِنْ الصَّبِيِّ الْمَأْذُونِ الْإِقْرَارُ عَلَى نَفْسِهِ وَيَسْتَوِي إنْ أَقَرَّ بِدَيْنٍ أَوْ عَيْنٍ مِمَّا اكْتَسَبَهُ بِتِجَارَتِهِ أَوْ كَانَ مَوْرُوثًا لَهُ عَنْ أَبِيهِ؛ لِأَنَّ إقْرَارَهُ فِيهِ بِاعْتِبَارِ مِلْكِهِ وَالْكُلُّ فِي حُكْمِ الْمِلْكِ سَوَاءٌ.
(أَلَا تَرَى) أَنَّ سَائِرَ تَصَرُّفَاتِهِ يَجُوزُ فِيهِمَا فَكَذَلِكَ إقْرَارُهُ وَذُكِرَ فِي الْمُجَرَّدِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ إقْرَارَهُ فِيمَا يَرِثُهُ مِنْ أَبِيهِ لَا يَكُونُ صَحِيحًا؛ لِأَنَّ صِحَّةَ إقْرَارِهِ فِيمَا اكْتَسَبَهُ بِتِجَارَتِهِ لِوُقُوعِ الْحَاجَةِ إلَيْهِ وَذَلِكَ غَيْرُ مَوْجُودٍ فِيمَا وَرِثَهُ عَنْ أَبِيهِ وَالْأَصَحُّ مَا ذَكَرَهُ فِي الْكِتَابِ؛ لِأَنَّ انْفِكَاكَ الْحَجْرِ عَنْهُ فِيمَا هُوَ مِنْ جُمْلَةِ التِّجَارَةِ بِالْإِذْنِ بِمَنْزِلَةِ انْفِكَاكِ الْحَجْرِ عَنْهُ فِيمَا هُوَ مِنْ جُمْلَةِ التِّجَارَةِ بِالْإِذْنِ بِمَنْزِلَةِ انْفِكَاكِ الْحَجْرِ عَنْهُ بِالْبُلُوغِ وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الْإِقْرَارَ مِنْ التِّجَارَةِ وَكَذَلِكَ لَوْ أَقَرَّ الصَّبِيُّ الْمَأْذُونُ عَلَى أَبِيهِ بِدَيْنٍ جَازَ إقْرَارُهُ؛ لِأَنَّهُ فِي حُكْمِ جَوَازِ الْإِقْرَارِ فَصَارَ انْفِكَاكُ الْحَجْرِ عَنْهُ بِالْإِذْنِ كَانْفِكَاكِ الْحَجْرِ عَنْهُ بِالْبُلُوغِ وَلَوْ أَقَرَّ بِدَيْنِ أَبِيهِ بَعْدَ الْبُلُوغِ صَحَّ إقْرَارُهُ وَاسْتَوْفَى جَمِيعَ الدَّيْنِ مِنْ نَصِيبِهِ إنْ أَنْكَرَ شُرَكَاؤُهُ فَكَذَلِكَ إذَا أَقَرَّ بِهِ بَعْدَ الْإِذْنِ وَلَوْ أَقَرَّ عَلَى نَفْسِهِ بِالْمَهْرِ وَأَرْشِ الْجِنَايَةِ وَدَيْنِ الْكَفَالَةِ لَمْ يَصِحَّ إقْرَارُهُ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْأَسْبَابَ لَيْسَتْ بِتِجَارَةٍ وَقَدْ نُفِيَ الْحَجْرُ عَلَيْهِ بِقِيَامِ الصِّغَرِ فِيمَا لَيْسَ بِتِجَارَةٍ.
(أَلَا تَرَى) أَنَّ أَحَدَ الْمُتَفَاوِضَيْنِ لَوْ أَقَرَّ بِالْمَهْرِ وَأَرْشِ الْجِنَايَةِ يُؤَاخِذُ بِهِ شَرِيكَهُ بِخِلَافِ مَا إذَا أَقَرَّ بِالدَّيْنِ مُطْلَقًا فَهَذَا مِثْلُهُ.
فَالْكَفَالَةُ فِي حَقِّ الصَّبِيِّ بِمَنْزِلَةِ الْمَهْرِ وَأَرْشِ الْجِنَايَةِ؛ لِأَنَّهُ يُنْزَعُ ابْتِدَاءً بِخِلَافِ الْمُفَاوِضِ عَلَى مَا بَيَّنَّا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.