فصل: كِتَابُ الْوَدِيعَةِ:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: المبسوط



.كِتَابُ الْوَدِيعَةِ:

(قَالَ) الشَّيْخُ الْإِمَامُ الْأَجَلُّ الزَّاهِدُ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي سَهْلٍ السَّرَخْسِيُّ- رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى، إمْلَاءً-: الْإِيدَاعُ عَقْدٌ جَائِزٌ؛ لِأَنَّهُ تَصَرُّفٌ مِنْ الْمَالِكِ فِي مِلْكِهِ، وَقَدْ يَحْتَاجُ إلَيْهِ عِنْدَ إرَادَةِ السَّفَرِ، وَالْحَاجُّ يَحْتَاجُ إلَى إيدَاعِ بَعْضِ مَالِهِ فِي كُلِّ مَوْضِعٍ؛ لِيَنْتَفِعَ بِهِ إذَا رَجَعَ، وَالْمُودَعُ مَنْدُوبٌ إلَى الْقَبُولِ- شَرْعًا-؛ لِمَا فِيهِ مِنْ الْإِعَانَةِ عَلَى الْبِرِّ.
قَالَ اللَّهُ- تَعَالَى-: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى}.
وَقَالَ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «إنَّ اللَّهَ- تَعَالَى- فِي عَوْنِ الْعَبْدِ مَا دَامَ الْعَبْدُ فِي عَوْنِ أَخِيهِ».
وَبَعْدَ الْقَبُولِ، عَلَيْهِ أَدَاءُ مَا الْتَزَمَ- وَهُوَ الْحِفْظُ- حَتَّى يُؤَدِّيَهَا إلَى صَاحِبِهَا؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إلَى أَهْلِهَا}.
وَقَدْ قِيلَ فِي سَبَبِ النُّزُولِ: إنَّ الْمُرَادَ رَدُّ مِفْتَاحِ الْكَعْبَةِ عَلَى عُثْمَانَ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ؛ لِأَنَّهُ حِينَ أَتَاهُ بِهِ قَالَ: خُذْهُ بِأَمَانَةِ اللَّهِ- تَعَالَى- وَلَكِنَّ ظَاهِرَ الْآيَةِ يَتَنَاوَلُ كُلَّ أَمَانَةٍ.
قَالَ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «مَنْ ائْتَمَنَ أَمَانَةً فَلْيُؤَدِّهَا».
وَقَالَ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «أَدِّ الْأَمَانَةَ إلَى مَنْ ائْتَمَنَك، وَلَا تَخُنْ مَنْ خَانَك».
وَقَالَ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «عَلَامَةُ الْمُنَافِقِ ثَلَاثٌ: إذَا حَدَّثَ كَذَبَ، وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ، وَإِذَا ائْتُمِنَ خَانَ» عَلَى الْمُوَحِّدِ أَنْ يَحْتَرِزَ عَمَّا هُوَ مِنْ عَلَامَةِ الْمُنَافِقِ، وَذَلِكَ بِأَنْ يَحْفَظَ الْوَدِيعَةَ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي يَحْفَظُ بِهِ مَال نَفْسِهِ؛ فَيَضَعَهَا فِي بَيْتِهِ، أَوْ صُنْدُوقِهِ؛ لِأَنَّهُ وَعَدَ لِصَاحِبِهَا ذَلِكَ، وَخَلْفُ الْوَعْدِ مَذْمُومٌ، وَإِذَا تَرَكَ الْحِفْظَ بَعْدَ غَيْبَةِ صَاحِبِهَا: فَفِيهِ تَرْكُ الْوَفَاءِ بِمَا الْتَزَمَ، وَالْغَرُورُ فِي حَقِّ صَاحِبِهَا، وَذَلِكَ حَرَامٌ.
فَإِنْ وَضَعَهَا فِي بَيْتِهِ أَوْ صُنْدُوقِهِ، فَهَلَكَتْ: لَمْ يَضْمَنْهُ؛ لِحَدِيثِ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ أَنَّ النَّبِيَّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «مَنْ أَوْدَعَ وَدِيعَةً فَهَلَكَتْ: فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ» وَلِحَدِيثِ ابْنِ الزُّبَيْرِ عَنْ جَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «لَيْسَ عَلَى الْمُسْتَعِيرِ غَيْرِ الْمُغِلِّ ضَمَانٌ، وَلَا عَلَى الْمُودَعِ غَيْرِ الْمُغِلِّ ضَمَانٌ» فَالْمُرَادُ بِالْمُغِلِّ: الْخَائِنُ.
قَالَ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «لَا إغْلَالَ وَلَا إسْلَالَ فِي الْإِسْلَامِ» وَالْإِغْلَالُ: الْخِيَانَةُ، وَالْإِسْلَالُ: السَّرِقَةُ.
وَقَدْ قِيلَ: الْمُغِلُّ الْمُنْتَفِعُ، مِنْ قَوْلِهِمْ: أَرْضٌ مُغِلٌّ، أَيْ كَثِيرُ الرِّيعِ وَالْغَلَّةِ، فَعَلَى هَذَا: الْمُرَادُ: الْمُنْتَفِعُ بِغَيْرِ إذْنِ صَاحِبِهِ.
وَقَالَ عُمَرُ: الْعَارِيَّةُ كَالْوَدِيعَةِ، لَا يَضْمَنُهَا صَاحِبُهَا إلَّا بِالتَّعَدِّي.
وَقَالَ عَلِيٌّ: لَا ضَمَانَ عَلَى رَاعٍ، وَلَا عَلَى مُؤْتَمَنٍ.
وَالْمَعْنَى فِيهِ: أَنَّ الْمُودَعَ مُتَبَرِّعٌ فِي حِفْظِهَا لِصَاحِبِهَا، وَالتَّبَرُّعُ لَا يُوجِبُ ضَمَانًا عَلَى الْمُتَبَرِّعِ لِلْمُتَبَرَّعِ عَلَيْهِ، فَكَانَ هَلَاكُهَا فِي يَدِهِ كَهَلَاكِهَا فِي يَدِ صَاحِبِهَا، وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِ الْفُقَهَاءِ- رَحِمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى-: يَدُ الْمُودَعِ كَيَدِ الْمُودِعِ.
وَيَسْتَوِي إنْ هَلَكَ بِمَا يُمْكِنُ التَّحَرُّزُ عَنْهُ، أَوْ بِمَا لَا يُمْكِنُ؛ لِأَنَّ الْهَلَاكَ بِمَا يُمْكِنُ التَّحَرُّزُ عَنْهُ بِمَعْنَى الْعَيْبِ فِي الْحِفْظِ، وَلَكِنَّ صِفَةَ السَّلَامَةِ عَنْ الْعَيْبِ إنَّمَا تَصِيرُ مُسْتَحَقًّا فِي الْمُعَاوَضَةِ- دُونَ التَّبَرُّعِ- وَالْمُودَعُ مُتَبَرِّعٌ، فَإِنْ دَفَعَهَا إلَى بَعْضِ مَنْ فِي عِيَالِهِ- مِنْ زَوْجَتِهِ أَوْ وَلَدِهِ أَوْ وَالِدَيْهِ أَوْ أَجِيرِهِ- فَلَا ضَمَان عَلَيْهِ إذَا هَلَكَتْ- اسْتِحْسَانًا- وَفِي الْقِيَاسِ: هُوَ ضَامِنٌ؛ لِأَنَّهُ اسْتَحْفَظَ- مَنْ اسْتَحْفَظَ- مِنْهُ، وَيُؤَيِّدُ وَجْهَ الْقِيَاسِ-
قَوْله تَعَالَى-: {وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمْ}.
وَالْمُرَادُ: النِّسَاءُ، فَإِنْ كَانَ هُوَ مَنْهِيًّا عَنْ دَفْعِ مَالِ نَفْسِهِ إلَى امْرَأَتِهِ، فَمَا ظَنُّك فِي مَالِ غَيْرِهِ؟.
وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ: أَنَّ الْمَطْلُوبَ مِنْهُ: حِفْظُ الْوَدِيعَةِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي يَحْفَظُ مَالَ نَفْسِهِ، وَالْإِنْسَانُ يَحْفَظُ مَالَ نَفْسِهِ بِيَدِ مَنْ فِي عِيَالِهِ، عَلَى مَا قِيلَ: قِوَامُ الْعَالَمِ بِشَيْئَيْنِ: كَاسِبٍ يَجْمَعُ، وَسَاكِنَةٍ تَحْفَظُ، وَلِأَنَّهُ لَا يَجِدُ بُدًّا مِنْ هَذَا، فَإِنَّهُ إذَا خَرَجَ مِنْ دَارِهِ- فِي حَاجَتِهِ- لَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَجْعَلَ الْوَدِيعَةَ مَعَ نَفْسِهِ، وَإِذَا خَلَّفَهَا فِي دَارِهِ صَارَتْ فِي يَدِ امْرَأَتِهِ حُكْمًا، وَمَا لَا يُمْكِنُ الِامْتِنَاعُ عَنْهُ عَفْوٌ.
وَذُكِرَ فِي جُمْلَةِ مَنْ فِي عِيَالِهِ: الْأَجِيرُ، وَالْمُرَادُ: التِّلْمِيذُ الْخَاصُّ الَّذِي اسْتَأْجَرَهُ مُشَاهَرَةً، أَوْ مُسَانَهَةً، فَأَمَّا الْأَجِيرُ بِعَمَلٍ مِنْ الْأَعْمَالِ- كَسَائِرِ الْأَجَانِبِ- يَضْمَنُ الْوَدِيعَةَ بِالدَّفْعِ إلَيْهِ.
فَإِذَا انْشَقَّ الْكِيسُ فِي صُنْدُوقِهِ؛ فَاخْتَلَطَ بِدَرَاهِمِهِ: فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ؛ لِانْعِدَامِ الصُّنْعِ الْمُوجِبِ لِلضَّمَانِ عَلَيْهِ، وَلَوْ يُمْكِنُ تَقْصِيرٌ، فَذَلِكَ مِنْ الْمُودَعِ بِأَنْ جَعَلَ دَرَاهِمَ الْوَدِيعَةِ فِي كِيسٍ بَالٍ، وَلَكِنَّ الْمُخْتَلَطَ مُشْتَرَكٌ بَيْنَهُمَا بِقَدْرِ مِلْكِهِمَا، فَإِنْ هَلَكَ بَعْضُهَا هَلَكَ مِنْ مَالِهَا جَمِيعًا وَيُقَسَّمُ الْبَاقِي بَيْنَهُمَا عَلَى قَدْرِ مَا كَانَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ أَحَدُهُمَا بِأَنْ يَجْعَلَ الْهَالِكَ مِنْ نَصِيبِهِ بِأَوْلَى مِنْ الْآخَرِ، وَالْأَصْلُ فِي الْمَالِ الْمُشْتَرَكِ إذَا هَلَكَ شَيْءٌ مِنْهُ: أَنَّ مَا هَلَكَ هَلَكَ عَلَى الشَّرِكَةِ، وَمَا بَقِيَ عَلَى الشَّرِكَةِ بِاعْتِبَارِ أَنَّ الْهَالِكَ يُجْعَلُ كَأَنْ لَمْ يَكُنْ.
(وَإِنْ) فَعَلَ ذَلِكَ إنْسَانٌ مِمَّنْ هُوَ فِي عِيَالِ الْمُودَعِ- مِنْ صَغِيرٍ، أَوْ كَبِيرٍ، أَوْ مَمْلُوكٍ أَوْ أَجْنَبِيٍّ- فَلَا ضَمَانَ فِيهِ عَلَى الْمُسْتَوْدَعِ؛ لِانْعِدَامِ الْخَلْطِ مِنْهُ حَقِيقَةً وَحُكْمًا، فَإِنَّ فِعْلَ مَنْ فِي عِيَالِهِ كَفِعْلِهِ فِيمَا هُوَ مَأْمُورٌ بِهِ مِنْ جِهَتِهِ صَرِيحًا، أَوْ دَلَالَةً، وَذَلِكَ لَا يُوجَدُ فِي الْخَلْطِ، وَلَكِنَّ الضَّمَانَ عَلَى الَّذِي خَلَطَهَا بِمُبَاشَرَةِ الْفِعْلِ الْمُوجِبِ لِلضَّمَانِ.
وَالصَّغِيرُ وَالْكَبِيرُ فِي ذَلِكَ سَوَاءٌ؛ لِأَنَّ الصَّغِيرَ مُؤَاخَذٌ بِضَمَانِ الْفِعْلِ، فَإِنَّ تَحَقَّقَ الْفِعْلُ بِوُجُودِهِ: لَا يَنْعَدِمُ بِالْحَجْرِ بِسَبَبِ الصِّغَرِ.
ثُمَّ الْخَلْطُ أَنْوَاعٌ ثَلَاثَةٌ: (خَلْطٌ) يَتَعَذَّرُ التَّمْيِيزُ بَعْدَهُ- كَخَلْطِ الشَّيْءِ بِجِنْسِهِ- فَهَذَا مُوجِبٌ لِلضَّمَانِ؛ لِأَنَّهُ يَتَعَذَّرُ بِهِ عَلَى الْمَالِكِ الْوُصُولُ إلَى عَيْنِ مِلْكِهِ.
وَخَلْطٌ يَتَيَسَّرُ مَعَهُ التَّمْيِيزُ- كَخَلْطِ السُّودِ بِالْبِيضِ، وَالدَّرَاهِمِ بِالدَّنَانِيرِ- فَهَذَا لَا يَكُونُ مُوجِبًا لِلضَّمَانِ؛ لِتَمَكُّنِ الْمَالِكِ مِنْ الْوُصُولِ إلَى عَيْنِ مِلْكِهِ، فَهَذِهِ مُجَاوَرَةٌ- لَيْسَ بِخَلْطٍ-.
وَخَلْطٌ يَتَعَسَّرُ مَعَهُ التَّمْيِيزُ- كَخَلْطِ الْحِنْطَةِ بِالشَّعِيرِ-
فَهُوَ مُوجِبٌ لِلضَّمَانِ؛ لِأَنَّهُ يَتَعَذَّرُ عَلَى الْمَالِكِ الْوُصُولُ إلَى عَيْنِ مِلْكِهِ، إلَّا بِحَرَجٍ، وَالْمُتَعَسِّرُ كَالْمُتَعَذِّرِ- كَمَا بَيَّنَّاهُ فِي الْغَصْبِ-.
(فَإِنْ قِيلَ): تَمْيِيزُ الْحِنْطَةِ مِنْ الشَّعِيرِ مُمْكِنٌ: بِأَنْ يُصَبَّ مِنْ مَاءٍ فَتَرَسَّبُ الْحِنْطَةُ، وَيَطْفُو الشَّعِيرُ، (قُلْنَا): فِي هَذَا إفْسَادٌ لِلْمَخْلُوطِ فِي الْحَالِ، ثُمَّ الْحِنْطَةُ لَا تَخْلُو عَنْ حَبَّاتِ الشَّعِيرِ، كَمَا لَا يَخْلُو الشَّعِيرُ عَنْ حَبَّاتِ الْحِنْطَةِ، فَمَا كَانَ مِنْ حَبَّاتِ الْحِنْطَةِ لِصَاحِبِ الشَّعِيرِ يَرْسُبُ، وَمَا كَانَ مِنْ حَبَّاتِ الشَّعِيرِ لِصَاحِبِ الْحِنْطَةِ يَطْفُو، فَعَرَفْنَا أَنَّ التَّمْيِيزَ مُتَعَذِّرٌ بِهَذَا الطَّرِيقِ أَيْضًا.
وَكَذَلِكَ خَلْطُ الْجِيَادِ بِالزُّيُوفِ، إنْ كَانَ بِحَيْثُ يَتَعَذَّرُ التَّمْيِيزُ، أَوْ يَتَعَسَّرُ، فَهُوَ مُوجِبٌ لِلضَّمَانِ عَلَى الْخَالِطِ، وَإِنْ كَانَ بِحَيْثُ يَتَيَسَّرُ التَّمْيِيزُ، لَا يَكُونُ مُوجِبًا لِلضَّمَانِ عَلَيْهِ، يَقُولُ: فَإِنْ لَمْ يَظْهَرْ بِالْخَلْطِ، فَقَالَ أَحَدُهُمَا: أَنَا آخُذُ الْمَخْلُوطَ، وَأَغْرَمُ لِصَاحِبِي مِثْلَ مَا كَانَ لَهُ، فَرَضِيَ بِهِ صَاحِبُهُ: جَازَ؛ لِأَنَّ الْحَقَّ لَهُمَا، فَإِذَا تَرَاضَيَا عَلَى شَيْءٍ صَحَّ ذَلِكَ فِي حَقِّهِمَا، وَإِنْ أَبَى ذَلِكَ أَحَدُهُمَا، فَإِنَّهُ يُبَاعُ الْمَخْلُوطُ وَيُقْسَمُ الثَّمَنُ بَيْنَهُمَا عَلَى قِيمَةِ الْحِنْطَةِ وَالشَّعِيرِ، عَلَى التَّفْسِيرِ الَّذِي بَيَّنَّاهُ فِي الْغَصْبِ قَبْلَ هَذَا الْجَوَابِ.
إنَّمَا يَسْتَقِيمُ عَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ- رَحِمَهُمَا اللَّهُ وَرِوَايَةُ الْحَسَنِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ فِي أَنَّ مِلْكَ الْمَالِكِ لَا يَنْقَطِعُ عَنْ الْمَخْلُوطِ، بَلْ لَهُ الْخِيَارُ بَيْنَ الشَّرِكَةِ فِي الْمَخْلُوطِ وَبَيْنَ تَضْمِينِ الْخَالِطِ، فَأَمَّا عَلَى مَا هُوَ الظَّاهِرُ مِنْ مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ: الْمَخْلُوطُ مِلْكٌ لِلْخَالِطِ، وَحَقُّهُمَا فِي ذِمَّتِهِ، فَلَا يُبَاعُ مَالُهُ فِي دَيْنِهِمَا؛ لِمَا فِيهِ مِنْ الْحَجْرِ عَلَيْهِ وَأَبُو حَنِيفَةَ لَا يَرَى ذَلِكَ.
وَالْأَصَحُّ: أَنَّهُ قَوْلُهُمْ جَمِيعًا؛ لِأَنَّ مِلْكَهُمَا- وَإِنْ انْقَطَعَ عَنْ الْمَخْلُوطِ- فَالْحَقُّ فِيهِ بَاقٍ، مَا لَمْ يَصِلْ إلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بَدَلُ مِلْكِهِ، وَلِهَذَا لَا يُبَاحُ لِلْخَالِطِ أَنْ يَنْتَفِعَ بِالْمَخْلُوطِ قَبْلَ أَدَاءِ الضَّمَانِ، فَلِبَقَاءِ حَقِّهِمَا يَكُونُ لَهُمَا أَنْ يَسْتَوْفِيَا حَقَّهُمَا مِنْ الْمَخْلُوطِ، إمَّا صُلْحًا بِالتَّرَاضِي، أَوْ بَيْعًا وَقِسْمَة الثَّمَنِ، إذَا لَمْ يَتَرَاضَيَا عَلَى شَيْءٍ.
وَإِذَا كَانَ عِنْدَ الرَّجُلِ وَدِيعَةٌ- دَرَاهِمُ أَوْ دَنَانِيرُ، أَوْ شَيْءٌ مِنْ الْمَكِيلِ، أَوْ الْمَوْزُونِ- فَأَنْفَقَ طَائِفَةً مِنْهُمَا فِي حَاجَتِهِ: كَانَ ضَامِنًا لِمَا أَنْفَقَ مِنْهَا- اعْتِبَارًا لِلْبَعْضِ بِالْكُلِّ- وَلَوْ لَمْ يَصِرْ ضَامِنًا لَمَا بَقِيَ مِنْهَا؛ لِأَنَّهُ فِي الْبَاقِي حَافِظٌ لِلْمَالِكِ، وَبِمَا أَنْفَقَ لَمْ يَتَعَيَّبْ الْبَاقِي، فَإِنَّ هَذَا مِمَّا لَا يَضُرُّهُ التَّبْعِيضُ، فَهُوَ كَمَا لَوْ أَوْدَعَهُ وَدِيعَتَيْنِ، فَأَنْفَقَ إحْدَاهُمَا: لَا يَكُونُ ضَامِنًا لِلْأُخْرَى، فَإِنْ جَاءَ بِمِثْلِ مَا أَنْفَقَ، فَخَلَطَهُ بِالْبَاقِي، صَارَ ضَامِنًا لِجَمِيعِهَا؛ لِأَنَّ مَا أَنْفَقَ صَارَ دَيْنًا فِي ذِمَّتِهِ، وَهُوَ لَا يَنْفَرِدُ بِقَضَاءِ الدَّيْنِ بِغَيْرِ مَحْضَرٍ مِنْ صَاحِبِهِ، فَيَكُونُ فِعْلُهُ هَذَا خَلْطًا لِمَا بَقِيَ بِمِلْكِ نَفْسِهِ، وَذَلِكَ مُوجِبٌ لِلضَّمَانِ عَلَيْهِ، فَإِنْ كَانَ حِين أَنْفَقَ بَعْضَهَا وَجَاءَ، بِمِثْلِهِ فَخَلَطَ بِالْبَاقِي أُفْتِي بِأَنَّهُ صَارَ ضَامِنًا لَهَا كُلَّهَا، فَبَاعَهَا ثُمَّ جَاءَ رَبُّ الْوَدِيعَةِ فَضَمَّنَهَا إيَّاهُ، وَفِي الثَّمَنِ فَضْلٌ قَالَ: يَطِيبُ لَهُ حِصَّةُ مَا خَلَطَهُ بِهَا مِنْ مَالِهِ مِنْ الْفَضْلِ؛ لِأَنَّهُ رِبْحٌ حَصَلَ عَلَى مِلْكِهِ وَضَمَانِهِ، وَيَتَصَدَّقُ بِحِصَّةِ الثَّانِي مِنْ الْوَدِيعَةِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ، وَفِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ- رَحِمَهُ اللَّهُ-: لَا يَتَصَدَّقُ بِهِ؛ لِأَنَّهُ بِالضَّمَانِ قَدْ مَلَكَهُ، مُسْتَنِدًا إلَى وَقْتِ وُجُوبِ الضَّمَانِ، وَلِهَذَا نَفَذَ بَيْعُهُ، فَكَانَ هَذَا رِبْحًا حَاصِلًا عَلَى مِلْكِهِ وَضَمَانِهِ، فَيَطِيبُ لَهُ كَمَا فِي حِصَّةِ مِلْكِهِ، وَهُمَا يَقُولَانِ: هَذَا رِبْحٌ حَصَلَ لَهُ بِكَسْبٍ خَبِيثٍ، فَإِنَّهُ مَمْنُوعٌ مِنْ بَيْعِ الْوَدِيعَةِ، إمَّا لِبَقَاءِ مِلْكِ الْمُودِعِ- كَمَا فِي الْبَاقِي بَعْدَ الْخَلْطِ فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ، أَوْ لِبَقَاءِ حَقِّهِ عَلَى مَا قُلْنَا- وَالرِّبْحُ الْحَاصِلُ بِكَسْبٍ خَبِيثٍ سَبِيلُهُ التَّصَدُّقُ بِهِ، وَلِأَنَّ الْمُودَعَ عِنْدَ الْبَيْعِ يُخْبِرُ الْمُشْتَرِي أَنَّهُ يَبِيعُ مِلْكَهُ وَحَقَّهُ، وَهُوَ كَاذِبٌ فِي ذَلِكَ، وَالْكَذِبُ فِي التِّجَارَةِ يُوجِبُ الصَّدَقَةَ؛ بِدَلِيلِ حَدِيثِ قَيْسِ بْنِ عُرْوَةَ الْكِنَانِيِّ قَالَ: «كُنَّا نَتَبَايَعُ فِي الْأَسْوَاقِ بِالْأَوْسَاقِ وَنُسَمِّي أَنْفُسَنَا السَّمَاسِرَةَ، فَدَخَلَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَسَمَّانَا بِأَحْسَنِ الْأَسْمَاءِ وَقَالَ: يَا مَعْشَرَ التُّجَّارِ، إنَّ تِجَارَتَكُمْ هَذِهِ يَحْضُرُهَا اللَّغْوُ وَالْكَذِبُ؛ فَشُوبُوهَا بِالصَّدَقَةِ».
فَعَمِلْنَا بِالْحَدِيثِ فِي إيجَابِ التَّصَدُّقِ بِالْفَضْلِ.
وَهَذَا إذَا كَانَتْ الْوَدِيعَةُ شَيْئًا يُبَاعُ.
فَإِنْ كَانَتْ دَرَاهِمَ: فَالدَّرَاهِمُ يُشْتَرَى بِهَا، ثُمَّ يُنْظَرُ: إنْ اشْتَرَى بِهَا بِعَيْنِهَا وَنَقَدَهَا، لَا يَطِيبُ لَهُ الْفَصْلُ أَيْضًا، وَإِنْ اشْتَرَى بِهَا، وَنَقَدَ غَيْرَهَا، أَوْ اشْتَرَى بِدَرَاهِمَ مُطْلَقَةٍ، ثُمَّ نَقَدَهَا: يَطِيبُ لَهُ الرِّبْحُ هُنَا؛ لِأَنَّ الدَّرَاهِمَ لَا تَتَعَيَّنُ بِنَفْسِ الْعَقْدِ، مَا لَمْ يَنْضَمَّ إلَيْهِ التَّسْلِيمُ.
وَلِهَذَا لَوْ أَرَادَ أَنْ يُسَلِّمَ غَيْرَهَا كَانَ لَهُ ذَلِكَ، فَأَمَّا بِالْقَبْضِ يَتَعَيَّنُ نَوْعٌ تَعَيُّنٍ، وَلِهَذَا لَا يُمْلَكُ اسْتِرْدَادُ الْمَقْبُوضِ مِنْ الْبَائِعِ لِيُعْطِيَهُ مِثْلَهَا؛ فَلِهَذَا قُلْنَا: إذَا اسْتَعَانَ فِي الْعَقْدِ وَالنَّقْدِ جَمِيعًا بِالدَّرَاهِمِ الْوَدِيعَةِ أَوْ الْمَغْصُوبَةِ، لَا يَطِيبُ لَهُ الْفَضْلُ، وَكَذَلِكَ إنْ اشْتَرَى بِهَا مَأْكُولًا وَنَقَدَهَا، لَمْ يَحِلَّ لَهُ أَنْ يَأْكُلَ ذَلِكَ قَبْلَ أَدَاءِ الضَّمَانِ.
وَلَوْ اشْتَرَى بِدَرَاهِمَ مُطْلَقَةٍ ثُمَّ نَقَدَ تِلْكَ الدَّرَاهِمَ: حَلَّ لَهُ أَنْ يَنْتَفِعَ بِهَا.
وَفِي النَّوَادِرِ: لَوْ اشْتَرَى دِينَارًا بِعَشَرَةِ دَرَاهِمَ، وَنَقَدَ الدَّرَاهِمَ الْمَغْصُوبَةَ: لَمْ يَحِلَّ لَهُ أَنْ يَنْتَفِعَ بِالدِّينَارِ، مَا لَمْ يُؤَدِّ الضَّمَانَ؛ لِأَنَّ صَاحِبَ الدَّرَاهِمِ إذَا اسْتَحَقَّ دَرَاهِمَهُ فَسَدَ الْعَقْدُ، وَوَجَبَ عَلَيْهِ رَدُّ الدِّينَارِ، فَكَانَتْ كَالْمَقْبُوضِ بِحُكْمِ عَقْدٍ فَاسِدٍ.
بِخِلَافِ مَا لَوْ نَقَدَهَا فِي ثَمَنِ الطَّعَامِ؛ لِأَنَّهُ بِالِاسْتِحْقَاقِ هُنَاكَ لَا يَبْطُلُ الشِّرَاءُ، بَلْ يَبْقَى الثَّمَنُ دَيْنًا فِي ذِمَّتِهِ- كَمَا كَانَ-.
وَعَلَى هَذَا قَالُوا: لَوْ غَصَبَ ثَوْبًا وَاشْتَرَى بِهِ جَارِيَةً، لَمْ يَحِلَّ لَهُ أَنْ يَطَأَهَا؛ لِأَنَّهُ لَوْ اسْتَحَقَّ الثَّوْبَ لَزِمَهُ رَدُّ الْجَارِيَةِ، وَلَوْ تَزَوَّجَ بِالثَّوْبِ الْمَغْصُوبِ امْرَأَةً: حَلَّ لَهُ أَنْ يَطَأَهَا؛ لِأَنَّ الْمَغْصُوبَ مِنْهُ إذَا اسْتَحَقَّ الثَّوْبَ، لَا يَبْطُلُ النِّكَاحُ وَلَا التَّسْمِيَةُ.
(فَإِنْ) كَانَ أَخَذَ بَعْضَ الْوَدِيعَةِ لِيُنْفِقَهُ فِي حَاجَتِهِ، ثُمَّ بَدَا لَهُ، فَرَدَّهُ إلَى مَوْضِعِهِ، ثُمَّ ضَاعَتْ الْوَدِيعَةُ: فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ رَفْعَهُ حِفْظٌ، فَلَا يَكُونُ مُوجِبًا لِلضَّمَانِ عَلَيْهِ.
بَقِيَ مُجَرَّدُ نِيَّةِ الْإِنْفَاقِ فِي حَاجَتِهِ، وَبِمُجَرَّدِ النِّيَّةِ لَا يَصِيرُ ضَامِنًا، كَمَا لَوْ نَوَى أَنْ يَغْصِبَ مَالَ إنْسَانٍ؛ وَهَذَا لِقَوْلِهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «إنَّ اللَّهَ- تَعَالَى- تَجَاوَزَ لِأُمَّتِي عَمَّا حَدَّثَتْ بِهِ أَنْفُسُهُمْ مَا لَمْ يَعْمَلُوا، أَوْ يَتَكَلَّمُوا».
وَالْعِرَاقِيُّونَ يَقُولُونَ: كَادَ وَلَمَّا.
أَيْ: كَادَ يَعْصِي فَعُصِمَ، وَالْمَعْصُومُ لَا يُعَاقَبُ بِعُقُوبَةِ مَنْ عَصَى، وَلَئِنْ صَارَ ضَامِنًا بِالرَّفْعِ فَقَدْ عَادَ إلَى الْوِفَاقِ بِرَدِّ الْعَيْنِ إلَى مَكَانِهِ، وَذَلِكَ يُبْرِئُهُ عَنْ الضَّمَانِ عِنْدَنَا- عَلَى مَا نُبَيِّنُهُ- بِخِلَافِ مَا سَبَقَ؛ لِأَنَّ هُنَاكَ إنَّمَا جَاءَ بِمِلْكِ نَفْسِهِ، فَوَضَعَهُ مَكَانَ مَا أَنْفَقَ، وَلِهَذَا لَا يَكُونُ عَوْدًا إلَى الْوِفَاقِ فِيمَا خَالَفَ فِيهِ، وَهُنَا إنَّمَا جَاءَ الْوَدِيعَةِ بِعَيْنِهَا، فَتَحَقَّقَ عَوْدُهُ إلَى الْوِفَاقِ، وَهَذَا أَوْلَى الْوَجْهَيْنِ عِنْدِي؛ فَإِنَّهُ لَوْ بَاعَهَا ثُمَّ ضَمِنَ قِيمَتَهَا، نَفَذَ الْبَيْعُ مِنْ جِهَتِهِ، وَإِنَّمَا يَسْتَنِدُ مِلْكُهُ بِالضَّمَانِ إلَى وَقْتِ وُجُوبِ الضَّمَانِ، فَلَوْ لَمْ يَكُنْ الرَّفْعُ لِلْبَيْعِ مُوجِبًا لِلضَّمَانِ عَلَيْهِ قَبْلَ الْبَيْعِ وَالتَّسْلِيمِ، لَمْ يَسْتَنِدْ مِلْكُهُ إلَى تِلْكَ الْحَالَةِ، فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَنْفُذَ بَيْعُهُ، وَالرِّوَايَةُ مَحْفُوظَةٌ فِي هَذَا الْكِتَابِ.
وَفِي الْمُضَارَبَةِ أَنَّ الْبَيْعَ نَافِذٌ، فَعَرَفْنَا أَنَّ الْأَوْجَهَ هُوَ الطَّرِيقُ الثَّانِي.
وَإِذَا طَلَبَ الْمُودِعُ الْوَدِيعَةَ فَقَالَ الْمُسْتَوْدَعُ: قَدْ رَدَدْتُهَا عَلَيْك فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ؛ لِأَنَّهُ أَمِينٌ وَالْقَوْلُ قَوْلُ الْأَمِينِ مَعَ الْيَمِينِ؛ لِإِنْكَارِهِ السَّبَبَ الْمُوجِبَ لِلضَّمَانِ، وَإِخْبَارِهِ بِمَا هُوَ مُسَلَّطٌ عَلَيْهِ- وَهُوَ رَدُّ الْوَدِيعَةِ عَلَى صَاحِبِهَا- وَالْمُودِعُ هُوَ الَّذِي سَلَّطَهُ عَلَى ذَلِكَ، فَيُجْعَلُ قَوْلُهُ كَقَوْلِ الْمُسَلَّطِ إلَّا أَنَّهُ يُسْتَحْلَفُ لِنَفْيِ التُّهْمَةِ عَنْهُ، وَكَذَلِكَ لَوْ سُرِقَتْ أَوْ ضَاعَتْ، أَوْ ذَهَبَتْ وَقَالَ: لَا أَدْرِي كَيْفَ ذَهَبَتْ؛ لِأَنَّهُ أَمِينٌ أَخْبَرَ بِمَا هُوَ مُحْتَمَلٌ، وَلِأَنَّهُ يُنْكِرُ وُجُوبَ الضَّمَانِ عَلَيْهِ، وَالْمَالِكُ يَدَّعِي عَلَيْهِ سَبَبَ الضَّمَانِ- وَهُوَ الْمَنْعُ بَعْدَ الطَّلَبِ- فَلَا يُصَدَّقُ إلَّا بِحُجَّةٍ.
(وَاخْتَلَفَ) الْمُتَأَخِّرُونَ رَحِمَهُمُ اللَّهُ فِيمَا إذَا قَالَ- ابْتِدَاءً-: لَا أَدْرِي كَيْفَ ذَهَبَتْ، فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: هُوَ ضَامِنٌ لَهَا؛ لِأَنَّهُ جَهِلَهَا بِمَا قَالَ، وَالْمُودَعُ بِالتَّجْهِيلِ يَصِيرُ ضَامِنًا، بِخِلَافِ مَا إذَا قَالَ: ذَهَبَتْ وَلَا أَدْرِي كَيْفَ ذَهَبَتْ؛ لِأَنَّهُ بِقَوْلِهِ: ذَهَبَتْ، يُخْبِرُ بِهَلَاكِهَا، وَيَكْفِيهِ هَذَا الْمِقْدَارُ، فَلَا مُعْتَبَرَ بَعْدَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: لَا أَدْرِي كَيْف ذَهَبَتْ.
وَالْأَصَحُّ: أَنَّهُ لَا يَصِيرُ ضَامِنًا؛ لِأَنَّهُ مُخْبِرٌ بِهَلَاكِهَا، مُحْتَرِزٌ عَنْ الْكَذِبِ وَالْمُجَازَفَةِ فِي الْقَوْلِ بِقَوْلِهِ: لَا أَدْرِي كَيْفَ ذَهَبَتْ؛ وَهَذَا لِأَنَّ أَصْلَ الذَّهَابِ مَعْلُومٌ مِنْ هَذَا اللَّفْظِ- لَا مَحَالَةَ- وَإِنَّمَا التَّجْهِيلُ فِي كَيْفِيَّةِ الذَّهَابِ.
وَالْإِخْبَارُ بِأَصْلِ الذَّهَابِ يَكْفِي فِي بَرَاءَتِهِ عَنْ الضَّمَانِ.
وَإِنْ قَالَ: بَعَثْت بِهَا إلَيْك مَعَ رَسُولِي، وَسَمَّى بَعْضَ مَنْ فِي عِيَالِهِ: فَهُوَ كَقَوْلِهِ: رَدَدْتُهَا عَلَيْك؛ لِأَنَّ يَدَ مَنْ فِي عِيَالِهِ لَمَّا جَعَلَ كَيَدِهِ فِي الْحِفْظِ، فَكَذَلِكَ فِي الرَّدِّ: يَدُ مَنْ فِي عِيَالِهِ كَيَدِهِ؛ فَلَا يَصِيرُ بِهَذَا مُقِرًّا بِالسَّبَبِ الْمُوجِبِ لِلضَّمَانِ عَلَيْهِ.
(وَإِذَا) قَالَ: بَعَثْت بِهَا إلَيْك مَعَ أَجْنَبِيٍّ: فَهُوَ ضَامِنٌ حَتَّى يُقَرَّ الْمُودِعُ بِوُصُولِهَا إلَيْهِ عِنْدَنَا.
(قَالَ) ابْنُ أَبِي لَيْلَى رَحِمَهُ اللَّهُ: لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ، وَهَذَا بِنَاءً عَلَى أَنَّ عِنْدَهُ لِلْمُودَعِ أَنْ يُودِعَ غَيْرَهُ؛ لِأَنَّهُ يَحْفَظُ الْوَدِيعَةَ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي يَحْفَظُ مَالَهُ، وَقَدْ يُودِعُ الْإِنْسَانُ مَالَ نَفْسِهِ مِنْ أَجْنَبِيٍّ، فَكَذَلِكَ لَهُ أَنْ يُودِعَ الْوَدِيعَةَ مِنْ غَيْرِهِ؛ فَلَا يَصِيرُ ضَامِنًا بِالدَّفْعِ إلَى غَيْرِهِ لِيَحْفَظَ، أَوْ يَرُدَّ- كَمَا فِي حَقِّ مَنْ فِي عِيَالِهِ- وَعِنْدَنَا: لَيْسَ لِلْمُودَعِ أَنْ يُودِعَ غَيْرَهُ؛ لِأَنَّ الْحِفْظَ يَتَفَاوَتُ فِيهِ النَّاسُ، وَالْمُودِعُ إنَّمَا رَضِيَ بِحِفْظِهِ وَأَمَانَتِهِ دُونَ غَيْرِهِ، فَإِذَا دَفَعَ إلَى أَجْنَبِيٍّ، فَقَدْ صَارَ تَارِكًا لِلْحِفْظِ الَّذِي الْتَزَمَهُ، مُسْتَحْفِظًا عَلَيْهِ مَنْ اُسْتُحْفِظَ مِنْهُ؛ فَيَكُونُ ضَامِنًا، بِخِلَافِ مَنْ فِي عِيَالِهِ: فَإِنَّ الْمُودَعَ هُوَ الْحَافِظُ لَهُ بِيَدِ مَنْ فِي عِيَالِهِ؛ لِأَنَّ مَنْ فِي عِيَالِهِ فِي يَدِهِ، فَمَا فِي يَدِ مَنْ فِي عِيَالِهِ كَذَلِكَ.
فَأَمَّا إذَا دَفَعَ إلَى أَجْنَبِيٍّ: لَا يَكُونُ هُوَ حَافِظًا لَهُ، بَلْ الْأَجْنَبِيُّ هُوَ الْحَافِظُ لَهُ، وَالْمُودِعُ لَمْ يَرْضَ بِهَذَا؛ فَيَكُونُ ضَامِنًا حَتَّى يُقَرَّ الْمُودِعُ بِوُصُولِهَا إلَيْهِ، فَإِذَا أَقَرَّ بِذَلِكَ بَرِئَ عَنْ الضَّمَانِ بِوُصُولِ الْمَالِ إلَى يَدِ صَاحِبِهِ- كَمَا يَبْرَأُ الْغَاصِبُ بِوُصُولِ الْمَغْصُوبِ إلَى يَدِ صَاحِبِهِ-.
وَكَذَلِكَ الْعَارِيَّةُ- فِي جَمِيعِ ذَلِكَ-؛ لِأَنَّهَا أَمَانَةٌ كَالْوَدِيعَةِ.
وَفِي هَذَا بَيَانُ أَنَّ الْمُسْتَعِيرَ لَيْسَ لَهُ أَنْ يُودِعَ أَجْنَبِيًّا كَالْمُودَعِ، وَقَدْ قَالَ بَعْضُ مَشَايِخِنَا رَحِمَهُمُ اللَّهُ: لَهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ لِلْمُسْتَعِيرِ أَنْ يُعِيرَ فِيمَا لَا تَتَفَاوَتُ النَّاسُ فِي الِانْتِفَاعِ بِهِ.
وَفِي الْإِعَارَةِ إيدَاعٌ وَزِيَادَةٌ، وَلَكِنَّ الْأَوَّلَ أَصَحُّ؛ لِأَنَّ الْمُسْتَعِيرَ عِنْدَنَا مَالِكٌ لِلْمَنْفَعَةِ، فَإِعَارَاتُهُ مِنْ الْغَيْرِ تَصَرُّفٌ فِيمَا هُوَ مَمْلُوكٌ لَهُ- وَهُوَ الْمَنْفَعَةُ- ثُمَّ يَتَعَدَّى تَسْلِيمُهُ إلَى الْعَيْنِ حُكْمًا؛ لِتَصَرُّفِهِ فِي مِلْكِ نَفْسِهِ، فَلَا يَكُونُ مُوجِبًا لِلضَّمَانِ عَلَيْهِ.
فَأَمَّا إيدَاعُهُ مِنْ الْغَيْرِ فَهُوَ تَصَرُّفٌ فِي الْعَيْنِ، وَلَا حَقَّ لَهُ فِي الْعَيْنِ، فَيَكُونُ مُوجِبًا لِلضَّمَانِ عَلَيْهِ كَالْإِيدَاعِ مِنْ الْمُودِعِ.
فَإِنْ قَالَ: بَعَثْت بِهَا إلَيْك مَعَ هَذَا الْأَجْنَبِيِّ أَوْ اسْتَوْدَعْتهَا إيَّاهُ، ثُمَّ رَدَّهَا عَلَيَّ، فَضَاعَتْ: عِنْدِي لَمْ يُصَدَّقْ وَهُوَ ضَامِنٌ لَهَا؛ لِأَنَّهُ أَقَرَّ بِوُجُودِ السَّبَبِ الْمُوجِبِ لِلضَّمَانِ عَلَيْهِ ثُمَّ ادَّعَى مَا يُسْقِطُ عَنْهُ، فَلَا يُصَدَّقُ- كَالْغَاصِبِ إذَا ادَّعَى رَدَّ الْمَغْصُوبِ- فَإِنْ أَقَامَ الْبَيِّنَةَ عَلَى ذَلِكَ بَرِئَ مِنْ الضَّمَانِ؛ لِأَنَّهُ أَثْبَتَ الْبَرَاءَةَ بِالْحُجَّةِ وَالثَّابِتُ بِالْبَيِّنَةِ كَالثَّابِتِ بِإِقْرَارِ الْخَصْمِ، وَهُوَ مَذْهَبُنَا، فَإِنَّ الْمُودَعَ إذَا خَالَفَ ثُمَّ عَادَ إلَى الْوِفَاقِ: يَبْرَأُ عَنْ الضَّمَانِ.
وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ: لَا يَبْرَأُ، وَبَيَانُهُ: فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، وَفِيمَا إذَا لَبِسَ ثَوْبَ الْوَدِيعَةِ ثُمَّ نَزَعَهُ، فَهَلَكَ.
وَحُجَّةُ الشَّافِعِيِّ قَوْلُهُ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «عَلَى الْيَدِ مَا أَخَذَتْ حَتَّى تَرُدَّ».
وَهُوَ حِين أَخَذَهَا لِلِاسْتِعْمَالِ صَارَتْ مَضْمُونَةً عَلَيْهِ، حَتَّى لَوْ هَلَكَتْ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ: ضَمِنَهَا، فَلَا يَبْرَأُ إلَّا بِالرَّدِّ عَلَى الْمَالِكِ- وَلَمْ يُوجَدْ- وَلِأَنَّ الْوَدِيعَةَ تُضْمَنُ بِالْخِلَافِ مِنْ طَرِيقِ الْقَوْلِ- وَهُوَ الْجُحُودُ- تَارَةً، وَبِالْخِلَافِ مِنْ طَرِيقِ الْفِعْلِ أُخْرَى، ثُمَّ إذَا ضَمِنَهَا بِالْجُحُودِ لَمْ يَبْرَأْ بِذَلِكَ الْخِلَافِ مَا لَمْ يَرُدَّهَا إلَى الْمَالِكِ فَكَذَلِكَ بِالِاسْتِعْمَالِ بَلْ أَوْلَى؛ لِأَنَّ الِاسْتِعْمَالَ يَتَّصِلُ بِالْعَيْنِ، وَالْجُحُود لَا يَتَّصِلُ بِهِ.
وَقَاسَ بِالْمُسْتَأْجِرِ لِلدَّابَّةِ إلَى مَكَان: إذَا جَاوَزَهُ ثُمَّ عَادَ إلَيْهِ لَمْ يَبْرَأْ.
وَكَذَلِكَ الْمُسْتَعِيرُ يَعْلَمُ أَنَّهُ أَمِينٌ ضَمِنَ الْأَمَانَةَ بِالْخِيَانَةِ، وَلِأَنَّ الْمُودِعَ مُعِيرٌ يَدَهُ مِنْ الْمُودَعِ فِي الْحِفْظِ، فَإِذَا خَالَفَ فَقَدْ اسْتَرَدَّ يَدَ عَارِيَّتِهِ، وَهُوَ يَنْفَرِدُ بِهِ، ثُمَّ إذَا عَادَ إلَى الْوِفَاقِ فَقَدْ أَرَادَ إعَادَةَ يَدِهِ ثَانِيًا مِنْهُ، وَهُوَ لَا يَنْفَرِدُ بِهِ، وَلِأَنَّ مُوجَبَ الْعَقْدِ هُوَ الْحِفْظُ لِلْمَالِكِ، وَبِالْخِلَافِ يَفُوتُ مُوجَبُ الْعَقْدِ، إمَّا لِتَرْكِهِ الْحِفْظَ أَصْلًا، أَوْ لَتَرْكِهِ الْحِفْظَ لِلْمَالِكِ حِينَ حَفِظَهَا لِنَفْسِهِ؛ فَلَا يَبْقَى الْعَقْدُ بَعْدَ فَوَاتِ مُوجَبِهِ، وَلِأَنَّ الْإِنْسَانَ إنَّمَا يَأْتَمِنُ الْأَمِينَ عَلَى مَالِهِ- دُونَ الْخَائِنِ- وَمُطْلَقُ الْعَقْدِ يَتَقَيَّدُ بِدَلَالَةِ الْعُرْفِ- كَالشِّرَاءِ بِمُطْلَقِ الدَّرَاهِمِ يَتَقَيَّدُ بِنَقْدِ الْبَلَدِ- وَإِذَا تَقَيَّدَ الْعَقْدُ بِمَا قَبْلَ الْخِلَافِ: لَا يَبْقَى بَعْدَهُ، وَحُجَّتُنَا فِي ذَلِكَ: أَنَّ الْإِيدَاعَ مُطْلَقٌ فَكَانَ بَاقِيًا بَعْدَ الْخِلَافِ، وَبَيَانُ الْوَصْفِ أَنَّهُ قَالَ: احْفَظْ مَالِي، أَوْ قَالَ: احْفَظْهُ أَبَدًا.
وَلَا يَشْكُلُ عَلَى أَحَدٍ أَنَّ هَذَا اللَّفْظَ يَتَنَاوَلُ الْحِفْظَ قَبْلَ الْخِلَافِ وَبَعْدَهُ، ثُمَّ لَمْ يَبْطُلْ بِالْخِلَافِ؛ لِأَنَّ بُطْلَانَ الشَّيْءِ بِمَا هُوَ مَوْضِعٌ لِإِبْطَالِهِ، أَوْ بِمَا يُنَافِيهِ، وَالِاسْتِعْمَالُ لَيْسَ بِمَوْضِعٍ لِإِبْطَالِ الْإِيدَاعِ، وَهُوَ لَا يُنَافِيهِ.
أَلَا تَرَى أَنَّ الْأَمْرَ بِالْحِفْظِ مَعَ الِاسْتِعْمَالِ صَحِيحٌ- ابْتِدَاءً- بِأَنْ يَقُولَ لِلْغَاصِبِ: أَوْدَعْتُك، وَهُوَ مُسْتَعْمِلٌ لَهُ، وَالْخِلَافُ لَيْسَ يَرِدُ؛ لِأَنَّ الْأَمْرَ قَوْلٌ، وَرَدُّ الْقَوْلِ بِقَوْلٍ مِثْلِهِ، وَلِأَنَّ الْخِلَافَ يَكُونُ فِي حَالِ غَيْبَةِ الْمُودَعِ، وَلَوْ قَالَ: رَدَدْت الْأَمْرَ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ: لَمْ يَرْتَدَّ.
وَلِأَنَّهُ تَصَرُّفٌ فِي حِفْظِ الْوَاجِبِ بِالْأَمْرِ عَلَى خِلَافِ مَا يُوجِبُهُ، وَلَيْسَ بِتَصَرُّفٍ فِي الْأَمْرِ وَصِحَّةِ الْأَمْرِ، كَأَنْ يَكُونَ الْآمِرُ أَهْلًا لَهُ.
وَكَوْنُ الْحِفْظِ مَقْصُودًا مِنْ الْمَأْمُورِ، وَلَمْ يَنْعَدِمْ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ- بِخِلَافِ الْجُحُودِ- فَإِنَّهُ رَدٌّ لِلْأَمْرِ بِعَيْنِهِ؛ لِأَنَّ الْجَاحِدَ يَكُونُ مُتَمَلِّكًا لِلْعَيْنِ.
وَالْمَالِكُ فِي مِلْكِهِ لَا يَكُونُ مَأْمُورًا بِالْحِفْظِ مِنْ جِهَةِ غَيْرِهِ.
وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ: أَوَامِرُ الشَّرْعِ، فَالْجُحُودُ فِيهَا رَدٌّ، وَالْخِلَافُ لَا يَكُونُ رَدًّا، حَتَّى لَوْ تَرَكَ صَوْمًا أَوْ صَلَاةً: لَمْ يُكَفَّرْ.
(وَكَذَلِكَ) فِي أَوَامِرِ الْعِبَادِ إذَا وَكَّلَهُ بِبَيْعِ عَيْنٍ بِأَلْفٍ، فَبَاعَهُ بِخَمْسِمِائَةٍ، وَسَلَّمَ: لَمْ تَبْطُلْ الْوَكَالَةُ مَعَ تَحَقُّقِ الْخِلَافِ، وَمَعَ أَنَّ الْوَكَالَةَ جَائِزَةٌ غَيْرُ لَازِمَةٍ- كَالْإِيدَاعِ-.
وَعُذْرُهُ أَنَّ الْبَيْعَ لَا يَسْتَغْرِقُ الْمُدَّةَ، فَالْأَمْرُ بِهِ لَا يَبْطُلُ بِالْخِلَافِ، وَالْحِفْظُ يَسْتَغْرِقُ الْمُدَّةَ، فَيَبْطُلُ الْأَمْرُ بِهِ إذَا خَالَفَ فِي بَعْضِ الْمُدَّةِ هُنَا وَهُنَاكَ حَتَّى يَصِيرَ ضَامِنًا، وَيَشْكُلُ بِالِاسْتِئْجَارِ لِلْحِفْظِ، فَإِنَّهُ يَسْتَغْرِقُ الْمُدَّةَ ثُمَّ لَا يَبْطُلُ بِالْخِلَافِ مِنْ طَرِيقِ الْفِعْلِ.
وَعُذْرُهُ عَنْ الْإِجَارَةِ أَنَّهَا لَازِمَةٌ حَتَّى لَا يَبْطُلَ بِالْجُحُودِ ضَعِيفٌ؛ لِأَنَّ بُطْلَانَ الْعَقْدِ عِنْدَهُ بِفَوَاتِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ، وَاللَّازِمُ وَغَيْرُ اللَّازِمِ فِيهِ سَوَاءٌ.
إنَّمَا يَفْتَرِقُ اللَّازِمُ وَغَيْرُ اللَّازِمِ فِيمَا هُوَ رَدٌّ، ثُمَّ فِي الِاسْتِئْجَارِ الْعَقْدُ وَرَدَ عَلَى مَنْفَعَةِ الْحَافِظِ فِي الْمُدَّةِ، وَالْمَنْفَعَةُ تَحْدُثُ شَيْئًا فَشَيْئًا، فَبِتَرْكِ الْحِفْظِ فِي بَعْضِ الْمُدَّةِ يَبْطُلُ الْعَقْدُ فِي ذَلِكَ الْقَدْرِ، وَيَكُونُ بَاقِيًا فِيمَا وَرَاءَهُ كَبَقَاءِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ، فَكَذَلِكَ فِي الْحِفْظِ بِغَيْرِ بَدَلٍ.
فَأَمَّا اسْتِئْجَارُ الدَّابَّةِ إلَى مَكَان فَقَدْ قَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا رَحِمَهُمُ اللَّهُ: إنْ اسْتَأْجَرَهَا ذَاهِبًا وَجَائِيًا يَبْرَأْ عَنْ الضَّمَانِ بِالْعَوْدِ إلَى ذَلِكَ الْمَكَانِ، فَيَصِيرُ ضَامِنًا بِالْمُجَاوَزَةِ لِوُجُودِ سَبَبِ الضَّمَانِ، ثُمَّ بِالْعَوْدِ إلَى ذَلِكَ الْمَكَانِ: لَا يَعُودُ الْعَقْدُ بَيْنَهُمَا.
وَلَوْ سَلَّمْنَا فَنَقُولُ: الْعَقْدُ هُنَاكَ يَرِدُ عَلَى مَنَافِعِ الدَّابَّةِ فِي ذَلِكَ الْمَكَانِ، فَبِإِخْرَاجِ الدَّابَّةِ مِنْ ذَلِكَ الْمَكَانِ يَفُوتُ الْمَعْقُودُ عَلَيْهِ أَصْلًا، وَهُنَا الْعَقْدُ يَرِدُ عَلَى مَنْفَعَةِ الْحَافِظِ، وَبِالْخِلَافِ مِنْ طَرِيقِ الْفِعْلِ لَمْ يَفُتْ جَمِيع الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ، إنَّمَا وَقَعَ التَّغَيُّرُ فِي التَّسْلِيمِ فِي بَعْضِهِ؛ لِأَنَّهُ كَانَ مَأْمُورًا بِتَسْلِيمِ الْعَيْنِ فِي الْمِصْرِ، فَإِذَا أَخْرَجَهُ يَتَغَيَّرُ التَّسْلِيمُ، مِنْ غَيْرِ أَنْ يَفُوتَ الْمَعْقُودُ عَلَيْهِ، حَتَّى أَنَّ فِي الْإِجَارَةِ: لَوْ حَمَلَ عَلَيْهَا حِمْلًا آخَرَ فِي ذَلِكَ الْمَكَانِ، ثُمَّ نَزَعَ: بَرِئَ عَنْ الضَّمَانِ لِبَقَاءِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ، وَتَمَكُّن التَّغَيُّرِ كَانَ فِي الِاسْتِيفَاءِ، وَلِأَنَّ الْمُسْتَأْجِرَ ضَامِنٌ بِالْإِمْسَاكِ لَا فِي الْمَكَانِ الْمَأْمُورِ بِهِ، وَهُوَ فِي الْإِمْسَاكِ عَامِلٌ لِنَفْسِهِ.
أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ أَمْسَكَهَا أَيَّامًا فِي بَيْتِهِ: كَانَ ضَامِنًا.
فَلَا يَتَحَقَّقُ الرَّدُّ مِنْهُ بَعْدَ الْخِلَافِ إذَا كَانَ مُمْسِكًا لِمَنْفَعَةِ نَفْسِهِ، فَأَمَّا الْمُودَعُ لَا يَضْمَنُ بِالْإِمْسَاكِ، بَلْ بِالِاسْتِعْمَالِ، وَقَدْ زَالَ ذَلِكَ كُلُّهُ، حَتَّى أَنَّ فِي الْإِجَارَةِ إذَا لَمْ يُضْمَنْ بِالْإِمْسَاكِ: بَرِئَ بِتَرْكِ الْخِلَافِ، عَلَى مَا قَالَ فِي الْإِجَارَاتِ: إذَا اسْتَأْجَرَتْ الْمَرْأَةُ ثَوْبَ صِيَانَةٍ لِتَلْبَسَهُ أَيَّامًا، فَلَبِسَتْ بِاللَّيْلِ: كَانَتْ ضَامِنَةً، فَإِذَا جَاءَ النَّهَارُ بَرِئَتْ؛ لِأَنَّ الضَّمَانَ عَلَيْهَا بِالِاسْتِعْمَالِ لَيْلًا- دُونَ الْإِمْسَاكِ-.
(إذَا) ثَبَتَ بَقَاءُ عَقْدِ الْوَدِيعَةِ، فَنَقُولُ: يَدُ الْمُودَعِ كَيَدِ الْمُودِعِ، فَإِمَّا أَنْ يُجْعَلَ فِي حَالَةِ الْخِلَافِ، كَانَ الْعَيْنُ فِي يَدِ الْمَالِكِ، وَالْمُسْتَعْمَلُ مُتَشَبِّثٌ بِهِ فَإِنْ هَلَكَ مِنْ عَمَلِهِ: ضُمِنَ وَإِلَّا فَلَا.
كَمَا لَوْ تَشَبَّثَ بِثَوْبٍ فِي يَدِ صَاحِبِهِ، وَهَذَا اخْتِيَارُ الْهِنْدُوَانِيِّ- رَحِمَهُ اللَّهُ-، وَالْأَصَحُّ: أَنَّهُ ضَامِنٌ إذَا هَلَكَ فِي حَالَةِ الْخِلَافِ، سَوَاءٌ كَانَ مِنْ اسْتِعْمَالِهِ، أَوْ مِنْ غَيْرِ اسْتِعْمَالِهِ، وَفِي الْكِتَابِ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ؛ فَإِنَّهُ قَالَ: بَرِئَ عَنْ الضَّمَانِ وَذَلِكَ لَا يَكُونُ إلَّا بَعْدَ صَيْرُورَةِ الْعَيْنِ مَضْمُونًا عَلَيْهِ.
وَلَوْ تَنَازَعَا فِي الْهَلَاكِ أَنَّهُ كَانَ فِي حَالَةِ الْخِلَافِ، أَوْ بَعْدَ تَرْكِ الْخِلَافِ: كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَ الْمَالِكِ، فَعَرَفْنَا أَنَّهُ صَارَ ضَامِنًا، وَطَرِيقُ صَيْرُورَتِهِ ضَامِنًا تَفْوِيتُ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ وَنَزَعَ يَده ضِمْنًا لِلْخِلَافِ.
وَلَكِنْ مَا ثَبَتَ ضِمْنًا لِلشَّيْءِ يَتَقَدَّرُ بِقَدْرِهِ، فَفِيمَا وَرَاءَ زَمَانِ الْخِلَافِ يَدُ الْمُودَعِ كَيَدِ الْمُودِعِ؛ لِبَقَاءِ الْعَقْدِ، وَالِاسْتِدَامَة فِيمَا يُسْتَدَامُ لَهُ حُكْمُ الْإِنْشَاءِ، وَلَوْ أَوْدَعَهُ ابْتِدَاءً بَرِئَ عَنْ الضَّمَانِ بِاعْتِبَارِ أَنَّ يَدَ الْمُودَعِ كَيَدِ الْمُودِعِ، فَكَذَلِكَ هُنَا، وَتَبَيَّنَ بِهَذَا أَنَّ اسْتِرْدَادَهُ يَدَ عَارِيَّتِهِ كَانَ مَقْصُودًا، عَلَى حَالَةِ الْخِلَافِ؛ لِأَنَّهُ ثَبَتَ ضِمْنًا لَهُ وَدَعْوَى تُقَيِّدُ الْأَمْرَ بِمَا قَبْلَ الْخِلَافِ كَلَام بَاطِلٌ؛ فَإِنَّ أَحَدًا لَا يَظُنُّ بِصَاحِبِ الْمَالِ أَنْ يَقُولَ: احْفَظْ مَالِي مَا لَمْ تَخُنْ، فَإِذَا خُنْت فَلَا تَحْفَظْ، وَلَكِنَّهُ يَقُولُ: احْفَظْ، وَلَا تَخُنْ، فَإِذَا خُنْت فَاتْرُكْ الْخِيَانَةَ، وَاحْفَظْهُ لِي؛ لِأَنَّ مَقْصُودَهُ مِنْ الْأَمْرِ بِالْحِفْظِ أَنْ يَكُونَ مَالُهُ مَصُونًا عِنْدَهُ.
وَالْحَاجَةُ إلَى ذَلِكَ فِي حَالَةِ الْخِلَافِ أَظْهَرُ.
وَإِذَا طَلَبَ الْمُودِعُ الْوَدِيعَةَ، فَجَحَدَهَا الْمُسْتَوْدَعُ، كَانَ ضَامِنًا لَهَا؛ لِوَجْهَيْنِ (أَحَدُهُمَا): أَنَّهُ بِالْجُحُودِ صَارَ مُتَمَلِّكًا؛ فَإِنَّ الشَّرْعَ جَعَلَ الْقَوْلَ قَوْلَهُ فِيمَا فِي يَدِهِ، وَلَا يَتَمَلَّكُ أَحَدٌ مَالَ الْغَيْرِ بِغَيْرِ رِضَاهُ إلَّا بِالضَّمَانِ، وَلِأَنَّ الْمَالِكَ عَزَلَهُ عَنْ الْحِفْظِ حِينَ طَالَبَهُ بِالرَّدِّ، فَهُوَ بِالْجُحُودِ صَارَ مَانِعًا الْمَالِكَ عَنْ مِلْكِهِ، مُفَوِّتًا عَلَيْهِ يَدَهُ الثَّابِتَةَ حُكْمًا؛ فَيَكُونُ كَالْغَاصِبِ: ضَامِنًا بِهَذَا الطَّرِيقِ، وَلَمْ يُذْكَرْ فِي الْكِتَابِ إذَا جَحَدَهَا، لَا فِي وَجْهِ الْمُودَعِ، فَإِنْ قَالَ لَهُ إنْسَانٌ: مَا حَالُ وَدِيعَةِ فُلَانٍ عِنْدَك؟ فَجَحَدَهَا، أَوْ جَحَدَهَا فِي وَجْهِ الْمُودِع، مِنْ غَيْرِ أَنْ يُطَالِبَهُ بِالرَّدِّ بِأَنْ قَالَ لَهُ: مَا حَالُ وَدِيعَتِي عِنْدَك؟ لِيَشْكُرَهُ عَلَى حِفْظِهَا، فَجَحَدَهَا.
وَذَكَرَ الْفَصْلَيْنِ فِي اخْتِلَافِ زُفَرَ وَيَعْقُوبَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ أَنَّهُ عَلَى قَوْلِ زُفَرَ يَكُونُ ضَامِنًا؛ لِمَا ذَكَرَ: أَنَّهُ بِالْجُحُودِ مُتَمَلِّكٌ لَهَا، وَمُفَوِّتٌ يَد الْمَالِكِ حُكْمًا.
(وَقَالَ) أَبُو يُوسُفَ: لَا يَكُونُ ضَامِنًا؛ لِأَنَّ الْمَالِكَ مَا عَزَلَهُ عَنْ الْحِفْظِ؛ فَيَكُونُ الْعَقْدُ بَاقِيًا وَبِاعْتِبَارِ بَقَائِهِ، يَدُهُ كَيَدِ الْمَالِكِ فِي الْعَيْنِ، وَلِأَنَّ الْجُحُودَ فِي حَالِ غَيْبَةِ الْمَالِكِ مِنْ الْحِفْظِ؛ لِأَنَّهُ طَرِيقٌ لِدَفْعِ طَمَعِ الطَّامِعِينَ عَنْهَا؛ فَلَا يَكُونُ مُوجِبًا لِلضَّمَانِ عَلَيْهِ.
فَإِنْ أَقَامَ رَبُّ الْوَدِيعَةِ الْبَيِّنَةَ بَعْدَ جُحُودِ الْمُودَعِ أَنَّهُ اسْتَوْدَعَهُ كَذَا، ثُمَّ أَقَامَ الْمُسْتَوْدَعُ الْبَيِّنَةَ أَنَّهَا ضَاعَتْ: فَهُوَ ضَامِنٌ لَهَا؛ لِأَنَّهُ بِالْجُحُودِ صَارَ ضَامِنًا، وَهَلَاكُ الْمَضْمُونِ فِي يَدِ الضَّامِنِ يُقَرِّرُ عَلَيْهِ الضَّمَانَ، وَكَذَلِكَ إنْ أَقَامَ الْبَيِّنَةَ أَنَّهَا كَانَتْ ضَاعَتْ قَبْلَ جُحُودِهِ؛ لِأَنَّ الْبَيِّنَةَ لَا تُقْبَلُ إلَّا بَعْدَ تَقَدُّمِ الدَّعْوَى، وَهُوَ مُنَاقِضٌ فِي كَلَامِهِ، فَجُحُودُهُ أَصْلَ الْإِيدَاعِ يَمْنَعُهُ مِنْ دَعْوَى الْهَلَاكِ قَبْلَهُ؛ فَلِهَذَا لَا تُقْبَلُ بَيِّنَتُهُ، إلَّا أَنْ يُقِرَّ الْمُودِعُ بِذَلِكَ، فَحِينَئِذٍ لَا ضَمَانَ عَلَى الْمُودَعِ؛ لِأَنَّ الْإِقْرَارَ مُوجِبٌ بِنَفْسِهِ فِي حَقِّ الْمُقِرِّ، وَلِأَنَّ الْمُنَاقِضَ إذَا صَدَّقَهُ خَصْمُهُ كَانَ مَقْبُولَ الْقَوْلِ.
وَإِنْ قَالَ: لَمْ تُودِعْنِي شَيْئًا ثُمَّ قَالَ: قَدْ أَوْدَعْتنِي وَلَكِنَّهَا هَلَكَتْ: فَهُوَ ضَامِنٌ لَهَا؛ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ جُحُودَهُ أَصْلَ الْإِيدَاعِ يَمْنَعُهُ مِنْ دَعْوَى الْهَلَاكِ قَبْلَهُ، وَالْهَلَاكُ بَعْدَ الْجُحُودِ يُؤَكِّدُ الضَّمَانَ عَلَيْهِ.
وَإِنْ قَالَ: قَدْ أَعْطَيْتُكهَا، ثُمَّ قَالَ بَعْدَ أَيَّامٍ: لَمْ أُعْطِكَهَا، وَلَكِنَّهَا ضَاعَتْ، لَمْ يُصَدَّقْ وَهُوَ ضَامِنٌ لَهَا.
وَطَعَنَ عِيسَى فِي هَذَا وَقَالَ: لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ تَكَلَّمَ بِكَلَامَيْنِ، لَوْ تَكَلَّمَ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى الِانْفِرَادِ لَمْ يَكُنْ ضَامِنًا، فَبِمَجْمُوعِهِمَا كَيْفَ يَصِيرُ ضَامِنًا؟ وَتَقْرِيرُ هَذَا مِنْ وَجْهَيْنِ، (أَحَدُهُمَا): أَنَّ الضَّمَانَ يَسْتَدْعِي سَبَبًا- لَا مَحَالَةَ- وَلَمْ يُوجَدْ؛ لِأَنَّ قَبْضَهُ بِإِذْنِ الْمَالِكِ، وَلَمْ يُوجَدْ مِنْهُ جُحُودٌ لِيَكُونَ ضَامِنًا.
(وَالثَّانِي): أَنَّ قَوْلَ الْمُودَعِ: رَدَدْتُهَا، أَوْ هَلَكَتْ، مُعْتَبَرٌ فِي نَفْيِ الضَّمَانِ عَنْهُ، لَا فِي ثُبُوتِ الرَّدِّ بِهِ؛ وَلِهَذَا لَوْ ادَّعَى الرَّدَّ عَلَى الْوَصِيِّ، لَمْ يَضْمَنْ الْوَصِيُّ شَيْئًا، وَإِذَا كَانَ الْمَقْصُودُ نَفْيَ الضَّمَانِ عَنْهُ، وَلَا تَنَاقُضَ بَيْنَ كَلَامَيْهِ فِيمَا هُوَ الْمَقْصُودُ، لَا يَكُونُ ضَامِنًا شَيْئًا.
وَوَجْهُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّهُ مُنَاقِضٌ فِي كَلَامِهِ؛ لِأَنَّ إخْبَارَهُ بِالرَّدِّ يَمْنَعُهُ مِنْ دَعْوَى الْهَلَاكِ فِي يَدِهِ، وَإِخْبَارهُ بِالْهَلَاكِ فِي يَدِهِ يَمْنَعُهُ مِنْ دَعْوَى الرَّدِّ؛ فَسَقَطَ اعْتِبَارُ كَلَامِهِ لِلتَّنَاقُضِ، فَيَبْقَى سَاكِتًا مُمْتَنِعًا مِنْ رَدِّ الْوَدِيعَةِ بَعْدَ مَا طَالَبَ بِهَا، وَذَلِكَ سَبَبٌ مُوجِبٌ لِلضَّمَانِ عَلَيْهِ؛ فَكَانَ ضَامِنًا لِهَذَا.
فَإِنْ قَالَ: اسْتَوْدَعْتنِي أَلْفَ دِرْهَمٍ، فَضَاعَتْ، وَقَالَ الطَّالِبُ: كَذَبْتَ، بَلْ غَصَبْتهَا مِنِّي، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُسْتَوْدَعِ؛ لِأَنَّ الْمُقِرَّ لَهُ يَدَّعِي عَلَيْهِ سَبَبَ الضَّمَانِ- وَهُوَ الْغَصْبُ- وَالْمُسْتَوْدَعُ مُنْكِرٌ لِذَلِكَ، وَلَمْ يَسْبِقْ مِنْهُ إقْرَارٌ بِسَبَبٍ مُوجِبٍ لِلضَّمَانِ، إنَّمَا ذَكَرَ أَنَّ صَاحِبَ الْمَالِ وَضَعَ مَالَهُ فِي مَوْضِعٍ، فَضَاعَ، وَفِعْلُ الْإِنْسَانِ فِي مَالِ نَفْسِهِ لَا يَكُونُ مُوجِبًا لِلضَّمَانِ عَلَى غَيْرِهِ.
وَإِنْ قَالَ الْمُسْتَوْدَعُ: أَخَذْتهَا مِنْك وَدِيعَةً، وَقَالَ الْآخَرُ: بَلْ غَصَبْتنِي، فَهُوَ ضَامِنٌ لَهَا؛ لِإِقْرَارِهِ بِوُجُودِ الْفِعْلِ الْمُوجِبِ لِلضَّمَانِ مِنْهُ فِي مِلْكِ الْغَيْرِ- وَهُوَ الْأَخْذُ-.
قَالَ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «عَلَى الْيَدِ مَا أَخَذَتْ حَتَّى تَرُدَّ».
ثُمَّ ادَّعَى مَا يُسْقِطُ الضَّمَانَ عَنْهُ، وَهُوَ إذْنُ الْمَالِكِ إيَّاهُ فِي الْأَخْذِ، فَلَا يُصَدَّقُ عَلَى ذَلِكَ، وَيَكُونُ ضَامِنًا، إلَّا أَنْ يُقِيمَ الْبَيِّنَةَ، أَوْ يَأْتِيَ الْمَالِكُ الْيَمِينَ؛ فَيَقُومَ نُكُولُهُ مَقَامَ إقْرَارِهِ.
وَإِنْ قَالَ رَبُّ الْمَالِ: بَلْ أَقْرَضْتُكَهَا قَرْضًا، وَقَالَ الْمُسْتَوْدَعُ: بَلْ وَضَعْتَهَا عِنْدِي وَدِيعَةً، أَوْ أَخَذْتُهَا مِنْك وَدِيعَةً، وَقَدْ ضَاعَتْ، فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُمَا تَصَادَقَا عَلَى أَنَّ الْأَخْذَ حَصَلَ بِإِذْنِ الْمَالِكِ؛ فَلَا يَكُونُ مُوجِبًا لِلضَّمَانِ إلَّا بِاعْتِبَارِ عَقْدِ الضَّمَانِ.
وَالْمَالِكُ يَدَّعِي ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: أَقْرَضْتُكهَا، وَالْمُودَعُ مُنْكِرٌ فَكَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ- لِإِنْكَارِهِ- ثُمَّ بَيَّنَ فِي خَلْطِ الْحِنْطَةِ بِالشَّعِيرِ أَنَّهُ إنْ كَانَ بِحَيْثُ يُسْتَطَاعُ أَنْ يُخَلَّصَ؛ فَلَا ضَمَانَ عَلَى الْمُودَعِ.
وَقَدْ يَكُونُ ذَلِكَ بِأَنْ يَدُقَّ حَبَّاتِ الْحِنْطَةِ فَتُغَرْبَلَ، فَتَتَمَيَّزَ مِنْ الشَّعِيرِ، فَإِذَا كَانَ بِهَذِهِ الصِّفَةِ: كَانَ هَذَا كَخَلْطِ الْبِيضِ بِالسُّودِ؛ فَلَا يَكُونُ مُوجِبًا لِلضَّمَانِ.
(رَجُلٌ) اسْتَوْدَعَ رَجُلًا أَلْفَ دِرْهَمٍ، وَلَهُ عَلَى الْمُسْتَوْدَعِ أَلْفٌ قَرْضٌ، فَأَعْطَاهُ أَلْفَ دِرْهَمٍ، ثُمَّ اخْتَلَفَا بَعْدَ أَيَّامٍ فَقَالَ الطَّالِبُ: أَخَذْتُ الْوَدِيعَةَ وَقَالَ الْمُسْتَوْدَعُ: أَعْطَيْت الْقَرْضَ وَقَدْ ضَاعَتْ الْوَدِيعَةُ: فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُسْتَوْدَعِ؛ لِأَنَّهُ هُوَ الدَّافِعُ لِلْأَلْفِ، فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ إنَّهُ مِنْ أَيْ جِهَةٍ دَفَعَهُ، وَقَدْ زَعَمَ أَنَّهُ دَفَعَهُ عَنْ جِهَةِ قَضَاءِ الدَّيْنِ؛ فَبَرِئَ مِنْ الدَّيْنِ بِهِ، وَبَقِيَتْ الْوَدِيعَةُ فِي يَدِهِ، وَقَدْ أَخْبَرَ بِهَلَاكِهَا؛ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ فِي ذَلِكَ، يُوَضِّحُهُ: أَنَّهُ لَوْ لَمْ يَدْفَعْ إلَيْهِ شَيْئًا حَتَّى أَخْبَرَ بِهَلَاكِ الْوَدِيعَةِ، كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ، وَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ إلَّا أَدَاءُ الْأَلْفِ- بَدَلَ الْقَرْضِ- فَكَذَلِكَ إذَا أَخْبَرَ بِهَلَاكِ الْوَدِيعَةِ بَعْدَ أَدَاءِ الْأَلْفِ.
(رَجُلٌ) اسْتَوْدَعَ صَبِيًّا مَحْجُورًا عَلَيْهِ مَالًا، فَاسْتَهْلَكَهُ: لَمْ يَضْمَنْ، فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ.
وَهُوَ ضَامِنٌ فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَالشَّافِعِيِّ رَحِمَهُمَا اللَّهُ.
وَجْهُ قَوْلِهِمَا: أَنَّ ضَمَانَ الِاسْتِهْلَاكِ ضَمَانُ فِعْلٍ، وَالصَّبِيُّ وَالْبَالِغُ فِيهِ سَوَاءٌ؛ لِمَا بَيَّنَّا أَنْ تَحَقُّقَ الْفِعْلِ بِوُجُودِهِ.
أَلَا تَرَى أَنَّ الْوَدِيعَةَ لَوْ كَانَتْ عَبْدًا، أَوْ أَمَةً، فَقَتَلَهُمَا الصَّبِيُّ، كَانَ ضَامِنًا بِهَذَا الطَّرِيقِ.
فَكَذَلِكَ فِي سَائِرِ الْأَمْوَالِ.
وَلِأَنَّ الْإِيدَاعَ مِنْ الصَّبِيِّ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّهُ اسْتِحْفَاظُ مَنْ لَا يَحْفَظُ، فَكَأَنَّهُ لَمْ يُودِعْهُ وَلَكِنَّهُ جَاءَ فَأَتْلَفَ مَالَهُ.
وَاسْتِحْفَاظُ مَنْ لَا يَحْفَظُ: تَضْيِيعٌ لِلْمَالِ، فَكَأَنَّهُ أَلْقَاهُ عَلَى قَارِعَةِ الطَّرِيقِ، وَلَوْ فَعَلَ ذَلِكَ فَأَتْلَفَهُ صَبِيٌّ كَانَ ضَامِنًا؟ فَكَذَا هَذَا.
وَحُجَّةُ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ مَا قَالَ فِي الْكِتَابِ: لِأَنَّهُ صَبِيٌّ، وَقَدْ سَلَّطَهُ رَبُّ الْمَالِ عَلَى مَالِهِ حِينَ دَفَعَهُ إلَيْهِ.
(وَفِي) تَفْسِيرِ هَذَا التَّسْلِيطِ نَوْعَانِ مِنْ الْكَلَامِ (أَحَدُهُمَا): أَنَّهُ تَسْلِيطٌ بِاعْتِبَارِ الْعَادَةِ؛ لِأَنَّ عَادَةَ الصِّبْيَانِ إتْلَافُ الْمَالِ؛ لِقِلَّةِ نَظَرِهِمْ فِي عَوَاقِبِ الْأُمُورِ، فَهُوَ لَمَّا مَكَّنَهُ مِنْ ذَلِكَ- مَعَ عِلْمِهِ بِحَالِهِ- يَصِيرُ كَالْإِذْنِ لَهُ فِي الْإِتْلَافِ.
وَبِقَوْلِهِ: احْفَظْ، لَا يُخْرِجُ مِنْ أَنْ يَكُونَ إذْنًا؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا يُخَاطِبُ بِهَذَا مَنْ لَا يَحْفَظُ، فَهُوَ كَمُقَدِّمِ الشَّعِيرِ بَيْنَ يَدَيْ الْحِمَارِ، وَقَالَ: لَا تَأْكُلْ، بِخِلَافِ الْعَبْدِ وَالْأَمَةِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ عَادَةِ الصَّبِيَّانِ الْقَتْلُ؛ لِأَنَّهُمْ يَهَابُونَ الْقَتْلَ، وَيَفِرُّونَ مِنْهُ، فَلَا يَكُونُ إيدَاعُهُ تَسَلُّطًا عَلَى الْقَتْلِ- بِاعْتِبَارِ عَادَتِهِمْ-.
وَهَذَا بِخِلَافِ الدَّابَّةِ، فَإِنَّ مِنْ عَادَتِهِمْ إتْلَافَ الدَّوَابِّ، رُكُوبًا، فَيَثْبُتُ التَّسْلِيطُ فِي الدَّابَّةِ بِطَرِيقِ الْعَادَةِ، وَإِلَّا صَحَّ أَنْ تَقُولَ: مَعْنَى التَّسْلِيطِ: تَحْوِيلُ يَدِهِ فِي الْمَالِ إلَيْهِ؛ فَإِنَّ الْمَالِكَ- بِاعْتِبَارِ يَدِهِ- كَانَ مُتَمَكِّنًا مِنْ اسْتِهْلَاكِهِ، فَإِذَا حَوَّلَ يَدَهُ إلَيْهِ، صَارَ مُمَكَّنًا لَهُ مِنْ اسْتِهْلَاكِهِ- بَالِغًا كَانَ الْمُودَعُ، أَوْ صَبِيًّا- إلَّا أَنَّهُ بِقَوْلِهِ: احْفَظْ، قَصَدَ أَنْ يَكُونَ هَذَا التَّحْوِيلُ مَقْصُورًا عَلَى الْحِفْظِ- دُونَ غَيْرِهِ- وَهَذَا صَحِيحٌ فِي حَقِّ الْبَالِغِ، بَاطِلٌ فِي حَقِّ الصَّبِيِّ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا الْتَزَمَ بِالْعَقْدِ، وَالصَّبِيُّ لَيْسَ مِنْ أَهْلِهِ، فَيَبْقَى التَّسْلِيطُ عَلَى الِاسْتِهْلَاكِ بِتَحْوِيلِ الْيَدِ إلَيْهِ مُطْلَقًا، بِخِلَافِ الْعَبْدِ وَالْأَمَةِ، فَإِنَّ الْمَالِكَ- بِاعْتِبَارِ يَدِهِ- مَا كَانَ مُتَمَكِّنًا مِنْ قَتْلِ الْآدَمِيِّ، فَتَحْوِيلُ الْيَدِ إلَيْهِ لَا يَكُونُ تَسْلِيطًا عَلَى قَتْلِهِ؛ لِأَنَّ الْإِيدَاعَ مِنْ الْمَالِكِ تَصَرُّفٌ فِي مِلْكِهِ، وَالْمَمْلُوكُ فِي حُكْمِ الدَّمِ مُبْقًى عَلَى أَصْلِ الْحُرِّيَّةِ؛ فَلَا يَتَنَاوَلُهُ الْإِيدَاعُ.
وَالتَّسْلِيطُ يَثْبُتُ بِاعْتِبَارِهِ، بِخِلَافِ مَا لَوْ قَالَ: اُقْتُلْ عَبْدِي؛ لِأَنَّ ذَاكَ اسْتِعْمَالٌ، وَالِاسْتِعْمَالُ وَرَاءَ التَّسْلِيطِ، فَإِنَّ بَعْدَ الِاسْتِعْمَالِ إذَا لَحِقَهُ ضَمَانٌ، يَرْجِعُ عَلَى الْمُسْتَعْمَلِ، وَبَعْدَ التَّسْلِيطِ يَسْقُطُ حَقُّ الْمُسَلَّطِ فِي التَّضْمِينِ- لِرِضَاهُ بِهِ- وَلَا يَثْبُتُ لِأَحَدٍ حَقُّ الرُّجُوعِ عَلَيْهِ.
وَلِهَذَا قُلْنَا فِي هَذَا الْمَوْضِعِ: إنَّ الصَّبِيَّ الْمُسْتَهْلِكَ، إذَا ضُمِنَ لِلْمُسْتَحَقِّ، لَا يُرْجَعُ عَلَى الْمُودَعِ، بِخِلَافِ مَا لَوْ قَالَ لَهُ: أَتْلِفْهُ، فَذَلِكَ اسْتِعْمَالٌ لِلصَّبِيِّ، وَهَذَا تَسْلِيطٌ لَهُ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ: أَبَحْتُ لَك أَنْ تَأْكُلَ هَذَا الطَّعَامَ، إنْ شِئْت، وَلَوْ قَالَ ذَلِكَ، فَأَكَلَهُ الصَّبِيُّ، لَمْ يَضْمَنْ.
وَلَوْ جَاءَ مُسْتَحَقٌّ وَضَمِنَهُ، لَمْ يَرْجِعْ عَلَى الَّذِي قَالَ لَهُ ذَلِكَ؛ فَهَذَا مِثْلُهُ، إلَّا أَنَّ أَبَا يُوسُفَ يَقُولُ: قَوْلُهُ: احْفَظْهُ، بِمَنْزِلَةِ الِاسْتِثْنَاءِ مِمَّا تَنَاوَلَهُ مُطْلَقُ التَّسْلِيمِ.
وَالِاسْتِثْنَاءُ تَصَرُّفٌ مِنْ الْمُسْتَثْنِي عَلَى نَفْسِهِ فِي حَقِّهِ؛ فَلَا يَعْتَبِرُ لِصِحَّتِهِ حَالَ الْمُخَاطَبِ بِهِ، أَوْ ثُبُوتَ وِلَايَةٍ لَهُ عَلَيْهِ، بَلْ بِاسْتِثْنَائِهِ يَخْرُجُ مَا وَرَاءَ الْحِفْظِ مِنْ هَذَا التَّسْلِيطِ.
فَإِذَا اسْتَهْلَكَهُ الصَّبِيُّ كَانَ مُسْتَهْلِكًا بِغَيْرِ إذْنِهِ.
وَلَكِنْ أَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ يَقُولَانِ: التَّسْلِيطُ: بِالْفِعْلِ، وَهُوَ نَقْلُ الْيَدِ إلَيْهِ مُطْلَقًا.
وَقَوْلُهُ: احْفَظْ، كَلَامٌ، فَلَا يَتَحَقَّقُ اسْتِثْنَاؤُهُ مِنْ الْفِعْلِ الْمُطْلَقِ، بَلْ يَكُونُ مُعَارِضًا لِذَلِكَ الْفِعْلِ الَّذِي هُوَ تَسْلِيطٌ، وَلَا يَكُونُ مُعَارِضًا إلَّا بَعْدَ صِحَّتِهِ حُكْمًا؛ لِكَوْنِ الْمُخَاطَبِ مِنْ أَهْلِ الِالْتِزَامِ بِالْعَقْدِ، وَذَلِكَ فِي حَقِّ الْبَالِغِ دُونَ الصَّبِيِّ، فَيَبْقَى التَّسَلُّطُ فِي حَقِّ الصَّبِيِّ.
وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ: أَنَّ الصَّبِيَّ لَوْ ضَيَّعَ الْوَدِيعَةَ، لَمْ يَضْمَنْ؛ بِأَنْ رَأَى إنْسَانًا يَأْخُذُهَا، أَوْ دَلَّهُ عَلَى أَخْذِهَا، وَالْبَائِع يَضْمَنُ- بِمِثْلِهِ-.
فَعَرَفْنَا أَنَّ الْعَارِضَ صَحِيحٌ فِي حَقِّ الْبَالِغِ- دُونِ الصَّبِيِّ-.
وَعَلَى هَذَا: لَوْ أَوْدَعَ عَبْدًا، مَحْجُورًا عَلَيْهِ، مَالًا فَاسْتَهْلَكَهُ: لَمْ يَضْمَنْ، عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ حَتَّى يُعْتَقَ؛ لِأَنَّ الْعَارِضَ صَحِيحٌ فِي حَقِّهِ دُونَ الْمَوْلَى فَإِنَّهُ الْتِزَامٌ بِالْعَقْدِ.
وَعَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ: يُبَاعُ فِيهِ فِي الْحَالِ؛ لِأَنَّ الْمُودَعَ يَتَصَرَّفُ عَلَى نَفْسِهِ فِي الِاسْتِثْنَاءِ؛ فَيَبْقَى الِاسْتِهْلَاكُ بِغَيْرِ إذْنِهِ.
فَإِنْ كَانَ الْعَبْدُ صَبِيًّا لَمْ يَضْمَنْ عِنْدَهُمَا فِي الْحَالِ، وَلَا بَعْدَ الْبُلُوغِ وَالْعِتْقِ؛ لِأَنَّ الْعَارِضَ لَمْ يَصِحَّ فِي حَقِّهِ وَلَا فِي حَقِّ الْمَوْلَى.
وَإِنْ كَانَ الصَّبِيُّ، أَوْ الْعَبْدُ مَأْذُونًا، كَانَ ضَامِنًا فِي الْحَالِ؛ لِأَنَّ الْعَارِضَ قَدْ صَحَّ فِي حَقِّهِمَا، وَفِي حَقِّ الْمَوْلَى؛ فَالْمَأْذُونُ مِنْ أَهْلِ الِالْتِزَامِ بِالْعَقْدِ، وَلِهَذَا يُؤَاخَذَانِ بِضَمَانِ التَّضْيِيعِ.
وَعَلَى هَذَا: الْخِلَافُ لَوْ أَقْرَضَ صَبِيًّا مَحْجُورًا عَلَيْهِ، أَوْ عَبْدًا مَحْجُورًا عَلَيْهِ، مَالًا فَاسْتَهْلَكَهُ؛ لِأَنَّ التَّسْلِيمَ إلَيْهِ تَسْلِيطٌ.
وَقَوْلُهُ: أَقْرَضْتُكَ: مُعَارِضُ لِقَوْلِهِ: احْفَظْ فِي الْوَدِيعَةِ- عَلَى مَا بَيَّنَّا-، وَكَذَلِكَ لَوْ بَاعَ مِنْ صَبِيٍّ مَحْجُورٍ عَلَيْهِ، أَوْ عَبْدٍ مَحْجُورٍ عَلَيْهِ شَيْئًا، فَاسْتَهْلَكَهُ، فَهُوَ عَلَى هَذَا الْخِلَافِ؛ لِأَنَّ التَّسْلِيمَ إلَيْهِمَا تَسْلِيطٌ.
وَقَوْلُهُ: بِعْت، مُعَارِضٌ فَلَا يَعْمَلُ هَذَا الْمُعَارِضُ فِي حَقِّ الصَّبِيِّ أَصْلًا، وَلَا فِي حَقِّ الْعَبْدِ حَتَّى يُعْتَقَ، فَهَذَا هُوَ الْحَرْفُ الَّذِي يَخْرُجُ عَلَيْهِ هَذِهِ الْمَسَائِلُ.
(وَإِنْ) هَلَكَتْ الْوَدِيعَةُ عِنْدَ الصَّبِيِّ وَالْعَبْدِ: فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِمَا؛ لِانْعِدَامِ صَنِيعٍ مُوجِبٍ لِلضَّمَانِ مِنْهُمَا.
وَفِي قَتْلِ الْعَبْدِ وَالْأَمَةِ يَجِبُ عَلَيْهِمَا مَا يَجِبُ قَبْلَ الْإِيدَاعِ، فَعَلَى عَاقِلَةِ الصَّبِيِّ قِيمَةُ الْمَقْتُولِ فِي ثَلَاثِ سِنِينَ- عَمْدًا قَتَلَهُ أَوْ خَطَأً؛ لِأَنَّ عَمْدَ الصَّبِيِّ وَخَطَأَهُ سَوَاءٌ- وَعَلَى الْمَمْلُوكِ الْقِصَاصُ إنْ قَتَلَهُ عَمْدًا، وَإِنْ قَتَلَهُ خَطَأً: يُخَاطَبُ الْمَوْلَى بِالدَّفْعِ، أَوْ الْفِدَاءِ فِي الْعَبْدِ، وَعَلَيْهِ الْقِيمَةُ فِي الْمُدْبِرِ، وَأُمِّ الْوَلَدِ، يَعْنِي الْأَقَلَّ مِنْ قِيمَةِ الْمَقْتُولِ وَقِيمَةِ الْقَاتِلِ.
وَعَلَى الْمُكَاتَبِ أَنْ يَسْعَى فِي الْأَقَلِّ مِنْ قِيمَتِهِ، وَمِنْ قِيمَةِ الْمَقْتُولِ.
وَلَوْ أَوْدَعَ رَجُلًا شَيْئًا فَاسْتَهْلَكَهُ ابْنٌ لَهُ صَغِيرٌ، أَوْ عَبْدٌ: فَعَلَى الْمُسْتَهْلِكِ ضَمَانُهُ فِي الْحَالِ؛ لِأَنَّ قَبُولَهُ الْوَدِيعَةَ يَكُونُ إذْنًا لِمَنْ فِي عِيَالِهِ بِأَنْ يَحْفَظَهَا.
وَالصَّبِيُّ وَالْعَبْدُ إذَا كَانَ مَأْذُونًا فِي حِفْظِ الْوَدِيعَةِ يُؤَاخَذُ بِضَمَانِ الِاسْتِهْلَاكِ.
(رَجُلٌ) اسْتَوْدَعَ رَجُلًا أَلْفَ دِرْهَمٍ، فَدَفَعَهَا الْمُسْتَوْدَعُ إلَى آخَرَ، وَادَّعَى أَنَّ رَبَّ الْوَدِيعَةِ أَمَرَهُ بِذَلِكَ: لَمْ يُصَدَّقْ عَلَيْهِ إلَّا بِبَيِّنَةٍ.
(وَقَالَ) ابْنُ أَبِي لَيْلَى: هُوَ مُصَدَّقٌ فِي ذَلِكَ مَعَ يَمِينِهِ؛ لِأَنَّ عِنْدَهُ: لِلْمُودَعِ أَنْ يُودِعَ، وَهُوَ مُنْكِرٌ لِوُجُوبِ الضَّمَانِ عَلَيْهِ.
فَأَمَّا عِنْدَنَا: لَيْسَ لِلْمُودَعِ أَنْ يُودِعَ، فَدَفْعُهُ إلَى الثَّانِي سَبَبٌ لِوُجُوبِ الضَّمَانِ عَلَيْهِ.
ثُمَّ يَدَّعِي مَا يُسْقِطُ الضَّمَانَ عَنْهُ- وَهُوَ الْإِذْنُ-؛ فَلَا يُصَدَّقُ إلَّا بِبَيِّنَةٍ، كَمَا لَوْ أَخَذَ مَالَ إنْسَانٍ فَادَّعَى أَنَّهُ أَخَذَهُ بِإِذْنِهِ، وَلَهُ أَنْ يَسْتَحْلِفَ صَاحِبَهَا أَنَّهُ لَمْ يَأْمُرْهُ بِالدَّفْعِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ أَقَرَّ بِالْأَمْرِ بَرِئَ الْمُودَعُ، فَإِذَا أَنْكَرَ يُسْتَحْلَفُ؛ لِرَجَاءِ نُكُولِهِ.
فَإِنْ كَانَ رَبُّ الْوَدِيعَةِ أَمَرَهُ أَنْ يَدْفَعَهَا إلَى رَجُلٍ، فَقَالَ: قَدْ دَفَعْتُهَا، وَقَالَ الرَّجُلُ: لَمْ أَقْبِضْهَا مِنْك، وَقَالَ رَبُّ الْوَدِيعَةِ: لَمْ تَدْفَعْهَا، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُودَعِ مَعَ يَمِينِهِ؛ لِأَنَّ دَعْوَاهُ الدَّفْعَ إلَى مَنْ أَمَرَ الْمَالِكُ بِالدَّفْعِ إلَيْهِ بِمَنْزِلَةِ دَعْوَاهُ الدَّفْعَ إلَى مَالِكِهَا؛ فَيَكُونُ مُصَدَّقًا فِي بَرَاءَتِهِ عَنْ الضَّمَانِ دُونَ وُصُولِ الْمَالِ إلَى ذَلِكَ الرَّجُلِ، حَتَّى لَا يَضْمَنَ ذَلِكَ الرَّجُلُ، مَا لَمْ تَقُمْ الْبَيِّنَةُ عَلَى قَبْضِهِ.
وَإِذَا قَالَ صَاحِبُ الْوَدِيعَةِ لِلْمُودَعِ: اخْبَأْهَا فِي بَيْتِك هَذَا، فَخَبَّأَهَا فِي بَيْتٍ آخَرَ فِي دَارِهِ تِلْكَ، فَضَاعَتْ: فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ- اسْتِحْسَانًا- وَفِي الْقِيَاسِ: هُوَ ضَامِنٌ؛ لِأَنَّهُ خَالَفَ أَمْرَهُ نَصًّا، فَهُوَ كَمَا لَوْ قَالَ: اخْبَأْهَا فِي دَارِك هَذِهِ، فَخَبَّأَهَا فِي دَارٍ أُخْرَى؛ فَهَلَكَتْ.
وَفِي الِاسْتِحْسَانِ يَقُولُ: إنَّمَا يُعْتَبَرُ مِنْ كَلَامِهِ مَا يَكُونُ مُفِيدًا دُونَ مَا لَا يَكُونُ مُفِيدًا.
أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ قَالَ: احْفَظْهَا بِيَمِينِك دُونَ يَسَارِك، أَوْ: اُنْظُرْ إلَيْهَا بِعَيْنِك الْيُمْنَى دُونَ الْيُسْرَى، لَمْ يُعْتَبَرْ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُفِيدٍ.
إذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ: الْبَيْتَانِ فِي دَارٍ وَاحِدَةٍ لَا يَتَفَاوَتَانِ فِي مَعْنَى الْحِرْزِيَّةِ؛ لِأَنَّ الْكُلَّ حِرْزٌ وَاحِدٌ.
أَلَا تَرَى أَنَّ السَّارِقَ إذَا أَخْرَجَ الْمَتَاعَ مِنْ أَحَدِ الْبَيْتَيْنِ إلَى الْبَيْتِ الْآخَرِ، لَمْ يُقْطَعْ إذَا أُخِذَ قَبْلَ أَنْ يُخْرِجَهُ مِنْ الْحِرْزِ، فَأَمَّا الدَّارَانِ يَتَفَاوَتَانِ فِي الْحِرْزِ، فَكَانَ تَقْيِيدُهُ فِي الدَّارِ مُفِيدًا؛ لِأَنَّ كُلَّ دَارٍ حِرْزٌ عَلَى حِدَةٍ.
أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ قَالَ لَهُ: لَا تَخْرُجْ بِهَا مِنْ الْكُوفَةِ، فَخَرَجَ بِهَا إلَى الْبَصْرَةِ كَانَ ضَامِنًا؛ لِأَنَّ التَّقْيِيدَ فِي الْمِصْرَيْنِ مُفِيدٌ، فَإِنْ انْتَقَلَ مِنْ الْكُوفَةِ إلَى الْبَصْرَةِ، أَوْ إلَى غَيْرِهَا لِشَيْءٍ لَمْ يَكُنْ لَهُ مِنْهُ بُدٌّ، فَهَلَكَتْ: فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْمُودَعَ إنَّمَا يَلْتَزِمُ شَرْطَ الْمُودِعِ بِحَسَبِ إمْكَانِهِ.
أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ قَالَ: أَمْسِكْهَا بِيَدِك وَلَا تَضَعْهَا لَيْلًا وَلَا نَهَارًا، فَوَضَعَهَا فِي بَيْتِهِ؛ فَهَلَكَتْ: لَمْ يَضْمَنْهَا،؛ لِأَنَّ مَا شَرَطَ عَلَيْهِ لَيْسَ فِي وُسْعِهِ- بِاعْتِبَارِ الْعَادَةِ- فَكَذَلِكَ يَسْقُطُ اعْتِبَارُ شَرْطِهِ.
إذَا لَمْ يَجِدْ بُدًّا مِنْ الِانْتِقَالِ مِنْ بَلَدٍ إلَى بَلَدٍ، فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ إذَا هَلَكَتْ، وَهَذَا بِنَاءً عَلَى أَصْلِنَا؛ فَإِنَّ لِلْمُودَعِ أَنْ يُسَافِرَ الْوَدِيعَةِ عِنْدَ إطْلَاقِ الْعَقْدِ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ: لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ فِيهِ تَعْرِيضَ الْمَالِ لِلْهَلَاكِ.
قَالَ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «الْمُسَافِرُ وَمَتَاعُهُ وَمَالُهُ عَلَى قَلَتٍ إلَّا مَا وَقَى اللَّهُ- تَعَالَى-».
وَلَيْسَ لِلْمُودَعِ تَعْرِيضُ الْوَدِيعَةِ لِلْمُتْلِفِ، وَهَذَا بِخِلَافِ الْأَبِ وَالْوَصِيِّ وَالْمُضَارَبِ؛ فَإِنَّهُمْ يُسَافِرُونَ لِلتِّجَارَةِ وَطَلَبِ الرِّبْحِ.
أَلَا تَرَى أَنَّ لَهُمْ أَنْ يُسَافِرُوا بِالْمَالِ مِنْ طَرِيقِ الْبَحْرِ.
وَلَيْسَ لِلْمُودَعِ حَقُّ التَّصَرُّفِ وَالِاسْتِرْبَاحِ فِي الْوَدِيعَةِ؛ وَلِهَذَا: لَا يُسَافِرُ مِنْ طَرِيقِ الْبَحْرِ، يُوَضِّحُهُ: أَنَّ مَقْصُودَ الْمُودِعِ أَنْ يَكُونَ مَالُهُ فِي الْمِصْرِ مَحْفُوظًا، يَتَمَكَّنُ مِنْهُ مَتَى شَاءَ، وَيَفُوتُ عَلَيْهِ هَذَا الْمَقْصُودُ إذَا سَافَرَ الْمُودَعُ بِهِ.
وَحُجَّتُنَا فِي ذَلِكَ: أَنَّ الْأَمْرَ مُطْلَقٌ، فَلَا يَتَقَيَّدُ بِمَكَانٍ دُونَ مَكَان، كَمَا لَا يَتَقَيَّدُ بِزَمَانٍ؛ وَهَذَا لِأَنَّ مَنْ يُرَاعَى أَمْرُهُ فِي شَيْءٍ يُرَاعَى إطْلَاقُ أَمْرِهِ، كَأَوَامِرِ الشَّرْعِ، وَالْأَمْكِنَةُ كُلُّهَا فِي صِفَةِ الْأَمْرِ سَوَاءٌ، إنَّمَا الْخَوْفُ مِنْ النَّاسِ- دُونَ الْمَكَانِ- فَإِذَا كَانَ الطَّرِيقُ أَمْنًا، كَانَ الْحِفْظُ فِيهِ كَالْحِفْظِ فِي جَوْفِ الْمِصْرِ.
وَمُرَادُ رَسُولِ اللَّهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: بَيَانُ الْحَالَةِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ.
فَإِنَّ الْمُسْلِمِينَ كَانُوا لَا يَأْمَنُونَ خَارِجَ الْمَدِينَةِ؛ لِغَلَبَةِ الْكُفَّارِ.
أَلَا تَرَى أَنَّهُ فِيمَا أَخْبَرَ مِنْ الْأَمْرِ بَعْدَهُ قَالَ: يُوشِكُ أَنْ تَخْرُجَ الظَّعِينَةُ مِنْ الْقَادِسِيَّةِ إلَى مَكَّةَ لَا تَخَافُ إلَّا اللَّهَ- تَعَالَى- وَالذِّئْبَ عَلَى غَنَمِهَا.
وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَتَقَيَّدَ مُطْلَقُ أَمْرِهِ بِالْعُرْفِ وَالْمَقْصُودِ؛ لِأَنَّ النَّصَّ مُقَدَّمٌ عَلَى ذَلِكَ، وَالْمَقْصُودُ مُشْتَرَكٌ، فَقَدْ يَكُونُ قَصْدُهُ: أَنْ يُحْمَلَ الْمَالُ إلَيْهِ، خُصُوصًا إذَا سَافَرَ إلَى الْبَلَدِ الَّذِي فِيهِ صَاحِبُ الْمَالِ، وَلِأَنَّ الْمُودَعَ لَا يَتَعَذَّرُ عَلَيْهِ الْخُرُوجُ لِلسَّفَرِ فِي حَاجَتِهِ بِسَبَبِ قَبُولِ الْوَدِيعَةِ، وَإِذَا خَرَجَ: فَإِمَّا أَنْ يَدْفَعَ الْوَدِيعَةَ إلَى غَيْرِهِ؛ فَيَكُونَ تَارِكًا لِلنَّصِّ؛ لِأَنَّهُ أَمَرَهُ أَنْ يَحْفَظَ بِنَفْسِهِ، وَإِمَّا أَنْ يَحْمِلَ مَعَ نَفْسِهِ؛ فَيَكُونَ مُخَالِفًا لِمَقْصُودِهِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ مُرَاعَاةَ النَّصِّ أَوْلَى مِنْ مُرَاعَاةِ الْمَقْصُودِ، وَلِهَذَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: مَالَهُ حِمْلٌ وَمُؤْنَةٌ، وَمَا لَا حِمْلَ لَهُ وَلَا مُؤْنَةَ فِي ذَلِكَ سَوَاءٌ- بَعُدَتْ الْمَسَافَةُ أَوْ قَرُبَتْ- لِمُرَاعَاةِ النَّصِّ، وَهُوَ الْقِيَاسُ.
وَاسْتَحْسَنَ أَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ فَقَالَ: إذَا كَانَ لَهُ حِمْلٌ وَمُؤْنَةٌ، فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُسَافِرَ بِهِ؛ لِأَنَّهُ يَلْزَمُ صَاحِبَهَا مُؤْنَةُ الرَّدِّ، وَلَا وِلَايَةَ لَهُ عَلَيْهِ فِي إلْزَامِ الْمُؤْنَةِ إيَّاهُ.
وَاسْتَحْسَنَ مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ فَقَالَ: إذَا قَرُبَتْ الْمَسَافَةُ فَلَهُ أَنْ يُسَافِرَ بِهَا، وَإِذَا بَعُدَتْ الْمَسَافَةُ فَلَيْسَ لَهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ يَعْظُمُ الضَّرَرُ وَالْمُؤْنَةُ عَلَى صَاحِبِهَا عِنْدَ بُعْدِ الْمَسَافَةِ، إذَا أَرَادَ رَدَّهَا.
وَلَوْ أَوْدَعَهُ وَدِيعَةً فَقَالَ: لَا تَدْفَعْهَا إلَى امْرَأَتِك، أَوْ عَبْدِك، أَوْ وَلَدِك، أَوْ أَجِيرِك؛ فَإِنِّي أَتَّهِمُهُمْ عَلَيْهَا، فَدَفَعَهَا إلَى الَّذِي نَهَاهُ عَنْهُ، فَهَلَكَتْ: فَإِنْ كَانَ يَجِدُ بُدًّا مِنْ الدَّفْعِ إلَيْهِ- بِأَنْ كَانَ لَهُ سِوَاهُ أَهْلٌ وَخَدَمٌ-: فَهُوَ ضَامِنٌ، وَإِنْ كَانَ لَا يَجِدُ بُدًّا مِنْ ذَلِكَ: لَمْ يَضْمَنْ؛ لِأَنَّ شَرْطَهُ هَذَا مُفِيدٌ، وَقَدْ يَأْتَمِنُ الْإِنْسَانُ الرَّجُلَ عَلَى مَالِهِ وَلَا يَأْتَمِنُ زَوْجَتَهُ، إلَّا أَنَّهُ إنَّمَا يَلْزَمُهُ مُرَاعَاةُ شَرْطِهِ بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ.
فَإِذَا كَانَ يَجِدُ بُدًّا مِنْ الدَّفْعِ إلَى مَنْ نَهَاهُ عَنْهُ؛ فَهُوَ مُتَمَكِّنٌ مِنْ حِفْظِهَا عَلَى الْوَجْهِ الْمَأْمُورِ بِهِ، فَيَصِيرُ ضَامِنًا بِحِفْظِهَا عَلَى الْوَجْهِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ، وَإِذَا كَانَ لَا يَجِدُ بُدًّا مِنْ ذَلِكَ، فَهُوَ حَافِظٌ لَهَا- بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ- وَلَيْسَ عَلَيْهِ أَكْثَرُ مِنْ ذَلِكَ: فَلَا يَضْمَنُهَا.
وَإِذَا اسْتَعْمَلَ الْمُودَعُ الْوَدِيعَةَ وَأَقَرَّ بِذَلِكَ ثُمَّ قَالَ: رَدَدْتُهَا إلَى مَكَانِهَا فَهَلَكَتْ: لَمْ يُصَدَّقْ إلَّا بِبَيِّنَةٍ؛ لِأَنَّ السَّبَبَ الْمُوجِبَ لِلضَّمَانِ عَلَيْهِ- وَهُوَ الِاسْتِعْمَالُ- مَعْلُومٌ، ثُمَّ ادَّعَى مَا يُسْقِطُ الضَّمَانَ عَنْهُ- وَهُوَ تَرْكُ الْخِلَافِ قَبْلَ الْهَلَاكِ- فَلَا يَصْدُقُ إلَّا بِحُجَّةٍ فَإِنْ أَقَامَ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ رَدَّهُ إلَى وَضْعِهِ صَحِيحًا، ثُمَّ هَلَكَ: كَانَ الثَّابِتُ بِالْبَيِّنَةِ كَالثَّابِتِ بِإِقْرَارِ الْخَصْمِ، فَلَا يَضْمَنُ شَيْئًا عِنْدَنَا.
وَإِنْ كَانَتْ الْوَدِيعَةُ أَمَةً، فَوَطِئَهَا الْمُودَعُ، فَوَلَدَتْ: فَالْوَلَدُ مَمْلُوكٌ لِصَاحِبِ الْأَصْلِ، وَعَلَى الْمُودَعِ الْحَدُّ، وَلَا يَثْبُتُ نَسَبُ الْوَلَدِ مِنْهُ؛ لِأَنَّ فِعْلَهُ زِنًا مَحْضٌ، وَكَوْنُهَا وَدِيعَةً عِنْدَهُ لَا يُمْكِنُ فِي شُبْهَةِ الْمُحِلِّ إلَّا أَنْ يَدَّعِي شُبْهَةَ نِكَاحٍ، أَوْ شِرَاءٍ؛ فَحِينَئِذٍ يَسْقُطُ الْحَدُّ عَنْهُ، وَيُغَرَّمُ الْعُقْرَ لِلشُّبْهَةِ.
(وَإِذَا) اسْتَوْدَعَ رَجُلَانِ رَجُلًا وَدِيعَةً مِنْ دَرَاهِمَ، أَوْ دَنَانِيرَ، أَوْ ثِيَابٍ، أَوْ دَوَابَّ، أَوْ عَبِيدٍ، ثُمَّ حَضَرَ أَحَدُهُمَا وَطَلَبَ حَقَّهُ مِنْهُ: لَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ حَتَّى يَجْتَمِعَا وَلَوْ خَاصَمَهُ إلَى الْقَاضِي، لَمْ يَأْمُرْهُ بِدَفْعِ نَصِيبِهِ إلَيْهِ، فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ.
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ- رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى-: يَأْمُرُهُ بِأَنْ يُقَسِّمَ ذَلِكَ وَيَدْفَعَ نَصِيبَهُ إلَيْهِ، وَلَا تَكُونُ قِسْمَتُهُ جَائِزَةً عَلَى الْغَائِبِ، وَعَنْ مُحَمَّدٍ- فِي الْأَمَالِي- قَالَ: قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ أَقْيَسُ وَقَوْلُ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَوْسَعُ وَجْهٌ: قَوْلُهُمَا: أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ الْمُودِعَيْنِ مَالِكٌ لِنَصِيبِهِ حَقِيقَةً؛ فَلَا يَتَعَذَّرُ عَلَيْهِ قَبْضُ نَصِيبِهِ فِي غَيْبَةِ الْآخَرِ، كَالشَّرِيكَيْنِ فِي الدَّيْنِ إذَا حَضَرَ أَحَدُهُمَا كَانَ لَهُ أَنْ يُطَالِبَ الْمَدْيُونَ بِنَصِيبِهِ؛ وَهَذَا لِأَنَّهُ يَجِبُ دَفْعُ الضَّرَرِ عَنْ الْحَاضِرِ، كَمَا يَجِبُ دَفْعُ الضَّرَرِ عَنْ الْغَائِبِ، وَإِنَّمَا يَنْدَفِعُ الضَّرَرُ عَنْهُمَا فِيمَا قُلْنَا: بِأَنْ يَقْسِمَ، فَيَدْفَعَ إلَى الْحَاضِرِ نَصِيبَهُ، لِيَنْدَفِعَ الضَّرَرُ عَنْهُ، ثُمَّ لَا تَنْفُذُ قِسْمَتُهُ عَلَى الْغَائِبِ، حَتَّى إذَا هَلَكَ الْبَاقِي فِي يَدِهِ، ثُمَّ حَضَرَ الْغَائِبُ: كَانَ لَهُ أَنْ يُشَارِكَ الْحَاضِرَ فِيمَا قَبَضَ دَفْعًا لِلضَّرَرِ عَنْهُ، هَذَا فِي الْمَكِيلِ وَالْمَوْزُونِ وَاضِحٌ، فَإِنَّ الْحَاضِرَ لَهُ أَنْ يَنْفَرِدَ بِأَخْذِ نَصِيبِهِ مِنْهُمَا مَعَ غَيْبَةِ الْآخَرِ، فَكَذَلِكَ لِلْمُودَعِ أَنْ يَدْفَعَ نَصِيبَهُ إلَيْهِ.
وَقَدْ بَيَّنَّا نَظِيرَهُ فِي مَالِ الْمَفْقُودِ.
وَمَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ مَرْوِيٌّ عَنْ عَلِيٍّ.
وَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّهُ لَوْ دَفَعَ شَيْئًا إلَى الْحَاضِرِ: فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ الْمَدْفُوعُ مِنْ نَصِيبِهِمَا جَمِيعًا، أَوْ نَصِيبِ الْحَاضِرِ خَاصَّةً، وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يُجْعَلَ ذَلِكَ مِنْ نَصِيبِ الْحَاضِرِ خَاصَّةً؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لَا يَكُونُ إلَّا بَعْدَ قِسْمَةٍ مُعْتَبَرَةٍ، وَلَيْسَ لِلْمُودَعِ وِلَايَةٌ عَلَى الْغَائِبِ فِي الْقِسْمَةِ، فَلَمْ يَبْقَ إلَّا أَنْ يَكُونَ الْمَدْفُوعُ مِنْ النَّصِيبَيْنِ، وَدَفْعُ مَالِ الْغَيْرِ إلَى الْغَيْرِ يَكُونُ جِنَايَةً؛ فَلَا يَكُونُ لِلْمُودَعِ أَنْ يُبَاشِرَ ذَلِكَ، وَلَا يَأْمُرُهُ الْقَاضِي بِهِ.
وَالْحَاضِرُ، وَإِنْ كَانَ يَتَضَرَّرُ بِهَذَا، فَقَدْ رَضِيَ بِالْتِزَامِ هَذَا الضَّرَرِ حِين سَاعَدَ شَرِيكَهُ عَلَى الْإِيدَاعِ قَبْلِ الْقِسْمَةِ، وَإِنْ كَانَ يَتَمَكَّنُ هُوَ مِنْ أَخْذِهِ.
فَكَذَلِكَ لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ يَكُونُ لِلْمُودَعِ أَنْ يَدْفَعَ إلَيْهِ.
أَلَا تَرَى أَنَّ صَاحِبَ الدَّيْنِ إذَا طَالَبَ الْمُودَعَ بِقَضَاءِ دَيْنِهِ مِنْ الْوَدِيعَةِ، لَمْ يُؤْمَرْ الْمُودَعُ بِذَلِكَ، وَلَوْ ظَفِرَ بِهِ وَهُوَ مِنْ جِنْسِ حَقِّهِ كَانَ لَهُ أَنْ يَأْخُذَهُ، وَهَذَا بِخِلَافِ الدَّيْنِ؛ لِأَنَّ الْمَدْيُونَ إنَّمَا يَقْضِي بِالدَّيْنِ مِنْ مِلْكِ نَفْسِهِ، فَدَفْعُهُ نَصِيبَ الْآخَرِ إلَيْهِ تَصَرُّفٌ فِي مِلْكِهِ، وَلَيْسَ فِيهِ قِسْمَةٌ عَلَى الْغَائِبِ؛ فَلِهَذَا يُؤْمَرُ بِخِلَافِ مَا نَحْنُ فِيهِ.
(رَجُلٌ) أَوْدَعَ رَجُلًا دَرَاهِمَ، فَجَاءَ رَجُلٌ فَقَالَ: أَرْسَلَنِي إلَيْك صَاحِبُ الْوَدِيعَةِ لِتَدْفَعَهَا إلَيَّ، فَصَدَّقَهُ، وَدَفَعَهَا إلَيْهِ، فَهَلَكَتْ عِنْدَهُ، ثُمَّ حَضَرَ صَاحِبُهَا وَأَنْكَرَ الرِّسَالَةَ: فَإِنَّهُ يَضْمَنُهَا لَهُ؛ لِأَنَّهُ دَفَعَ مَالَهُ إلَى غَيْرِهِ.
وَبِتَصَادُقِهِمَا: لَا يَثْبُتُ الْأَمْرُ فِي حَقِّ الْمَالِكِ إذَا أَنْكَرَ؛ فَكَانَ ضَامِنًا، وَلَا يَرْجِعُ بِهَا عَلَى الرَّسُولِ إذَا كَانَتْ الْوَدِيعَةُ هَلَكَتْ فِي يَدِهِ، أَوْ زَعَمَ أَنَّهُ أَوْصَلَهَا إلَى صَاحِبِهَا؛ لِأَنَّهُ قَدْ صَدَّقَهُ- فَإِنَّهُ رَسُولٌ أَمِينٌ- وَإِنَّ الْمَالِكَ ظَالِمٌ فِي تَضْمِينِهِ إيَّاهُ، وَمَنْ ظُلِمَ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَظْلِمَ غَيْرَهُ، إلَّا أَنْ يَكُونَ الْمَقْبُوضُ قَائِمًا بِعَيْنِهِ فِي يَدِهِ فَيَأْخُذَهُ؛ لِأَنَّهُ قَدْ تَمَلَّكَهُ بِأَدَاءِ بَدَلِهِ، وَإِنْ كَانَ كَذَّبَهُ فِي دَعْوَى الرِّسَالَةِ، أَوْ لَمْ يُصَدِّقْهُ وَلَمْ يَكْذِبْهُ، وَدَفَعَ الْمَالَ إلَيْهِ، ثُمَّ جَاءَ الْمَالِكُ فَضَمِنَهُ، فَلَهُ أَنْ يَرْجِعَ عَلَى الرَّسُولِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُقَرَّ بِأَنَّهُ كَانَ أَمِينًا، وَلَكِنْ دَفَعَ الْمَالَ إلَيْهِ بِنَاءً عَلَى قَوْلِهِ أَنَّهُ رَسُولُ الْمَالِكِ، وَأَنَّهُ لَا يَلْحَقُهُ غُرْمٌ بِسَبَبِ الدَّفْعِ إلَيْهِ، فَإِذَا لَحِقَهُ غُرْمٌ كَانَ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ عَلَيْهِ بِهِ، وَلَوْ صَدَّقَهُ فِي دَعْوَى الرِّسَالَةِ، وَدَفَعَهُ إلَيْهِ، وَضَمِنَهُ يَعْنِي أَنَّ الرَّسُولَ قَالَ لَهُ: إنْ لَحِقَك فِيهِ غُرْمٌ فَأَنَا ضَامِنٌ لَك، ثُمَّ حَضَرَ الْمَالِكُ وَضَمِنَهُ: فَلَهُ أَنْ يَرْجِعَ عَلَى الرَّسُولِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ ضَمِنَ لَهُ ذَلِكَ، وَهَذِهِ كَفَالَةٌ مُضَافَةٌ إلَى سَبَبِ وُجُوبِ الْمَالِ؛ فَإِنَّهُمَا يَتَصَادَقَانِ أَنَّ الْمَالِكَ ظَالِمٌ وَأَنَّ مَا يَقْبِضُهُ دَيْنٌ عَلَيْهِ لِلْمُودِعِ، وَالرَّسُولُ ضَمِنَ لَهُ ذَلِكَ مُضَافًا إلَى سَبَبِ الْوُجُوبِ؛ فَلِهَذَا طَالَبَهُ بِهِ.
(وَإِذَا) كَانَ عِنْدَ رَجُلٍ وَدِيعَةٌ، أَوْ عَارِيَّةٌ، أَوْ بِضَاعَةٌ، فَغَصَبَهَا مِنْهُ رَجُلٌ، فَهُوَ خَصْمُهُ فِيهَا عِنْدَنَا، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ- رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى-: لَا خُصُومَةَ بَيْنَهُمَا، حَتَّى يَحْضُرَ الْمَالِكُ.
وَلِأَنَّ الْمَالَ مِلْكُ صَاحِبِهِ، فَإِنَّمَا يُخَاصَمُ فِي الِاسْتِرْدَادِ، هُوَ أَوْ وَكِيلُهُ، وَالْمُودَعُ لَيْسَ بِوَكِيلٍ عَنْهُ فِي الْخُصُومَةِ؛ فَلَا يُخَاصِمُ فِي الِاسْتِرْدَادِ كَأَجْنَبِيٍّ آخَرَ.
وَلَكِنَّا نَقُولُ: لِلْمُودَعِ يَدٌ مُعْتَبَرَةٌ فِي الْوَدِيعَةِ، وَقَدْ أَزَالَهَا الْغَاصِبُ؛ فَكَانَ لَهُ أَنْ يُخَاصِمَ عَنْ نَفْسِهِ؛ لِإِعَادَةِ الْيَدِ الَّتِي أَزَالَهَا بِالْغَصْبِ، وَلِأَنَّهُ مَأْمُورٌ بِالْحِفْظِ مِنْ جِهَةِ الْمُودِعِ، وَلَا يَتَأَتَّى لَهُ الْحِفْظُ إلَّا بِاسْتِرْدَادِ عَيْنِهِ مِنْ الْغَاصِبِ، أَوْ اسْتِرْدَادِ قِيمَتِهِ بَعْدَ هَلَاكِ الْعَيْنِ؛ لِيَحْفَظَ مَالِيَّتَهُ عَلَيْهِ، فَكَانَ كَالْمَأْمُورِ بِهِ دَلَالَةً، وَفِي إثْبَاتِ حَقِّ الْخُصُومَةِ لَهُ تَحْقِيقُ مَعْنَى الْحِفْظِ؛ لِأَنَّ الْغَاصِبَ إذَا عَلِمَ أَنَّ الْمُودَعَ لَا يُخَاصِمُهُ فِي حَالِ غَيْبَةِ الْمُودِعِ تَجَاسَرَ عَلَى أَخْذِهِ؛ فَلِهَذَا كَانَ الْمُودَعُ فِيهِ خَصْمًا.
وَإِنْ كَانَتْ الْوَدِيعَةُ عِنْدَ رَجُلَيْنِ- مِنْ ثِيَابٍ أَوْ غَيْرِهَا- فَاقْتَسَمَاهَا وَجَعَلَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نِصْفَهَا فِي بَيْتِهِ، فَهَلَكَ أَحَدُ النِّصْفَيْنِ، أَوْ كِلَاهُمَا: فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِمَا.
وَهَكَذَا أَمْرُ النَّاسِ؛ لِأَنَّهُمَا لَا يَسْتَطِيعَانِ أَنْ يَجْتَمِعَا عَلَى حِفْظِهَا فِي مَكَان وَاحِدٍ؛ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ الْمُودَعَ إنَّمَا يَلْتَزِمُ الْحِفْظَ بِحَسَبِ إمْكَانِهِ.
وَمَعْلُومٌ أَنَّهُمَا لَا يَقْدِرَانِ عَلَى أَنْ يَتْرُكَا جَمِيعَ أَشْغَالِهِمَا، وَيَجْتَمِعَا فِي مَكَان وَاحِدٍ لِحِفْظِ الْوَدِيعَةِ.
وَالْمَالِكُ لَمَّا أَوْدَعَهُمَا- مَعَ عِلْمِهِ بِذَلِكَ- فَقَدْ صَارَ رَاضِيًا بِقِسْمَتِهَا وَحِفْظِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لِلنِّصْفِ دَلَالَةً، وَالثَّابِتُ بِالدَّلَالَةِ كَالثَّابِتِ بِالنَّصِّ.
وَإِنْ أَبَيَا الْقِسْمَةَ وَأَوْدَعَاهُ عِنْدَ رَجُلٍ، فَهَلَكَ: ضَمِنَاهُ؛ لِتَرْكِهِمَا مَا الْتَزَمَاهُ مِنْ الْحِفْظِ وَالْمُسْتَبْضَعَانِ وَالْوَصِيَّانِ، وَالْعَدْلَانِ فِي الرَّهْنِ قِيَاسُ الْمُودِعَيْنِ فِي ذَلِكَ، فَإِنْ تَرَكَهَا أَحَدُهُمَا عِنْدَ صَاحِبِهِ- وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ شَيْئًا لَا يَحْتَمِلُ الْقِسْمَةَ- فَلَا ضَمَانَ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا إذَا هَلَكَ؛ لِأَنَّ الْمَالِكَ لَمَّا أَوْدَعَهُمَا- مَعَ عِلْمِهِ أَنَّهُمَا لَا يَجْتَمِعَانِ عَلَى حِفْظِهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ- فَقَدْ صَارَ رَاضِيًا بِحِفْظِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لِجَمِيعِهِ.
أَلَا تَرَى أَنَّهُمَا يَتَهَايَآنِ فِي الْحِفْظِ، وَفِي مُدَّةِ الْمُهَايَأَةِ يَتْرُكُهُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عِنْدَ صَاحِبِهِ فِي نُوبَتِهِ.
فَإِنْ كَانَ شَيْئًا يَحْتَمِلُ الْقِسْمَةَ، فَتَرَكَهُ أَحَدُهُمَا عِنْدَ صَاحِبِهِ: فَلَا ضَمَانَ عَلَى الَّذِي هَلَكَ فِي يَدِهِ؛ لِأَنَّهُ مُقْبِلٌ عَلَى حِفْظِهِ، وَهُوَ فِي نَصِيبِ صَاحِبِهِ مُودَعُ الْمُودَعِ.
وَمُودَعُ الْمُودَعِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ لَا يُضْمَنُ.
فَأَمَّا الدَّافِعُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ- رَحِمَهُ اللَّهُ- فَإِنَّهُ ضَامِنٌ لِلنِّصْفِ؛ لِأَنَّهُ تَرَكَ الْحِفْظَ الَّذِي الْتَزَمَهُ مَعَ الْإِمْكَانِ، فَإِنَّهُمَا يَتَمَكَّنَانِ مِنْ الْقِسْمَةِ؛ لِيَحْفَظَ كُلٌّ مِنْهُمَا نِصْفَهُ، وَعِنْدَهُمَا لَا يَضْمَنُ شَيْئًا؛ لِأَنَّهُ لَمَّا ائْتَمَنَهُمَا، فَقَدْ صَارَ رَاضِيًا بِحِفْظِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لَهُ، كَمَا لَا يَحْتَمِلُ الْقِسْمَةَ.
وَقَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ أَقْيَسُ؛ لِأَنَّ رِضَاهُ بِأَمَانَةِ اثْنَيْنِ لَا يَكُونُ رِضًا بِأَمَانَةِ وَاحِدٍ، فَإِذَا كَانَ الْحِفْظُ مِنْهُمَا يَتَأَتَّى عَادَةً، لَا يَصِيرُ رَاضِيًا بِحِفْظِ أَحَدِهِمَا لِلْكُلِّ وَحْدَهُ.
(وَإِذَا) احْتَرَقَ بَيْتُ الْمُودَعِ وَأَخْرَجَ الْوَدِيعَةَ مَعَ مَتَاعِهِ، وَوَضَعَهُ فِي بَيْتِ جَارِهِ، فَهَلَكَ: فَهُوَ ضَامِنٌ فِي الْقِيَاسِ؛ لِأَنَّهُ تَرَكَ الْحِفْظَ الَّذِي الْتَزَمَهُ بِالتَّسْلِيمِ إلَى غَيْرِهِ، وَعُذْرُهُ يُسْقِطُ الْمَأْثَمَ عَنْهُ، وَلَكِنْ لَا يُبْطِلُ حَقَّ الْمَالِكِ فِي الضَّمَانِ.
وَفِي الِاسْتِحْسَانِ: لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَجِدُ بُدًّا مِنْ هَذَا فِي مِثْلِ هَذِهِ الْحَالَةِ، وَلِأَنَّ وَضْعَهُ فِي بَيْتِ جَارِهِ- فِي مِثْلِ هَذِهِ الْحَالَةِ- مِنْ الْحِفْظِ؛ لِأَنَّهُ يَقْصِدُ بِهِ دَفْعَ الْحَرْقِ عَنْ الْوَدِيعَةِ.
أَلَا تَرَى أَنَّهُ إنَّمَا يَحْفَظُ الْوَدِيعَةَ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي يَحْفَظُ مَالَ نَفْسِهِ، وَإِنَّمَا يَحْفَظُ مَالَ نَفْسِهِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ بِهَذَا الطَّرِيقِ.
أَرَأَيْت لَوْ كَانَ فِي سَفِينَةٍ، فَغَرِقَتْ، فَنَاوَلَ الْوَدِيعَةَ إنْسَانًا عَلَى الْجِلْدِ- يُمْسِكُهَا- أَكَانَ ضَامِنًا؟.
(وَإِذَا) كَانَتْ الْوَدِيعَةُ إبِلًا، أَوْ بَقَرًا، أَوْ غَنَمًا، وَصَاحِبُهَا غَائِبٌ، فَإِنْ أَنْفَقَ عَلَيْهَا الْمُسْتَوْدَعُ مِنْ مَالِهِ بِغَيْرِ أَمْرِ الْقَاضِي، فَهُوَ مُتَطَوِّعٌ؛ لِأَنَّهُ مُتَبَرِّعٌ بِالْإِنْفَاقِ عَلَى مِلْكِ الْغَيْرِ، بِغَيْرِ أَمْرِهِ.
وَإِنْ دَفَعَهَا إلَى الْقَاضِي: يَسْأَلُهُ الْبَيِّنَةَ؛ لِأَنَّهُ يَدَّعِي ثُبُوتَ وِلَايَةِ الْأَمْرِ بِالْإِنْفَاقِ لِلْقَاضِي فِيهِ؛ فَلَا يُصَدِّقُهُ إلَّا بِبَيِّنَةٍ.
فَإِنْ أَقَامَ الْبَيِّنَةَ أَنَّهَا وَدِيعَةٌ عِنْدَهُ لِفُلَانٍ: أَمَرَهُ أَنْ يُنْفِقَ عَلَيْهَا مِنْ مَالِهِ عَلَى قَدْرِ مَا يَرَى الْقَاضِي؛ لِأَنَّهُ مَأْمُورٌ بِالنَّظَرِ، وَالْحَيَوَانُ لَا يَبْقَى بِدُونِ النَّفَقَةِ، وَالْمُودَعُ لَا يُنْفِقُ بِغَيْرِ أَمْرِهِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَرْضَى بِالتَّبَرُّعِ بِهِ، فَيَأْمُرُهُ بِذَلِكَ، نَظَرًا مِنْهُ لِلْغَائِبِ، وَيَكُونُ ذَلِكَ دَيْنًا عَلَى رَبِّ الْوَدِيعَةِ؛ لِأَنَّ أَمْرَ الْقَاضِي- فِي حَالِ قِيَامِ وِلَايَتِهِ- كَأَمْرِهِ بِنَفْسِهِ، وَلَوْ أَمَرَهُ بِأَنْ يُنْفِقَ: كَانَ مَا يُنْفِقُهُ دَيْنًا لَهُ عَلَى الْمَالِكِ.
فَكَذَا إذَا أَمَرَهُ الْقَاضِي بِهِ.
فَإِذَا جَاءَ: أَجْبَرَهُ عَلَى رَدِّ نَفَقَتِهِ عَلَيْهِ، وَإِنْ رَأَى الْقَاضِي أَنْ يَأْمُرَهُ بِبَيْعِهَا، فَعَلَ ذَلِكَ، وَإِذَا بَاعَهَا جَازَ بَيْعُهُ؛ لِأَنَّ فِي الْأَمْرِ بِالْإِنْفَاقِ تَلَفُ بَعْضِ الْمَالِيَّةِ عَلَى الْمَالِكِ، وَفِي الْبَيْعِ يَتَوَفَّرُ عَلَيْهِ حِفْظُ جَمِيعِ الْمَالِيَّةِ فَلِهَذَا نَفَذَ بَيْعهُ بِأَمْرِ الْقَاضِي.
وَإِنْ لَمْ يَكُنْ رَفَعَهَا إلَى الْقَاضِي، وَاجْتَمَعَ عِنْدَهُ مِنْ أَلْبَانِهَا شَيْءٌ كَثِيرٌ، يَخَافُ فَسَادَهُ، أَوْ كَانَ ذَلِكَ ثَمَرَةَ أَرْضٍ فَبَاعَ بِغَيْرِ أَمْرِ الْقَاضِي؛ فَهُوَ ضَامِنٌ لَهَا إنْ كَانَ فِي مِصْرٍ يَتَمَكَّنُ مِنْ اسْتِطْلَاعِ رَأْيِ الْقَاضِي.
وَإِنْ بَاعَهَا بِأَمْرِ الْقَاضِي لَمْ يَضْمَنْ؛ لِأَنَّ الْقَاضِيَ نَائِبُ الْغَائِبِ فِيمَا يُرْجَعُ إلَى النَّظَرِ لَهُ، وَلَوْ تَمَكَّنَ مِنْ اسْتِطْلَاعِ رَأْيِ الْمَالِكِ فَبَاعَهُ بِغَيْرِ أَمْرِهِ: لَمْ يَنْفُذْ بَيْعُهُ، وَكَانَ ضَامِنًا.
فَكَذَلِكَ إذَا تَمَكَّنَ مِنْ اسْتِطْلَاعِ رَأْيِ الْقَاضِي فَلَمْ يَفْعَلْ، فَأَمَّا إذَا كَانَ فِي مَوْضِعٍ لَا يُتَوَصَّلُ إلَى الْقَاضِي قَبْلَ أَنْ يَفْسُدَ ذَلِكَ الشَّيْءُ: لَمْ يَضْمَنْ- اسْتِحْسَانًا-؛ لِأَنَّ بَيْعَهُ الْآنَ مِنْ الْحِفْظِ، وَلَيْسَ فِي وُسْعِهِ إلَّا مَا أَتَى بِهِ.
(وَحُكِيَ) أَنَّ أَصْحَابَ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُمُ اللَّهُ مَاتَ رَفِيقٌ لَهُمْ فِي طَرِيقِ الْحَجِّ، فَبَاعُوا مَتَاعَهُ، وَجَهَّزُوهُ بِهِ، ثُمَّ رَجَعُوا إلَى مُحَمَّدٍ- رَحِمَهُ اللَّهُ- فَسَأَلُوا عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ: لَوْ لَمْ تَفْعَلُوا لَمْ تَكُونُوا فُقَهَاءَ {وَاَللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنْ الْمُصْلِحِ}.
وَإِنْ حَمَلَ عَلَيْهَا الْمُسْتَوْدَعُ؛ فَنَتَجَتْ، وَلَمْ يَكُنْ صَاحِبُهَا أَمَرَ بِذَلِكَ: فَأَوْلَادُهَا لِصَاحِبِهَا؛ لِأَنَّ الْوَلَدَ خَيْرٌ مُتَوَلَّدٌ مِنْ الْأَصْلِ، يُمَلَّكُ بِمِلْكِ الْأَصْلِ، وَإِنْ هَلَكَتْ الْأُمَّهَاتُ بِذَلِكَ، فَالْمُسْتَوْدَعُ ضَامِنٌ لَهَا؛ لِأَنَّهُ مُخَالِفٌ حِينَ أَتَى بِغَيْرِ مَا أُمِرَ بِهِ فَيَضْمَنُ مَا هَلَكَ بِسَبَبِهِ.
(وَلَوْ) أَكْرَى الْإِبِلَ إلَى مَكَّةَ، وَأَخَذَ الْكِرَاءَ كَانَ الْكِرَاءُ لَهُ؛ لِأَنَّهُ وَجَبَ بِعَقْدِهِ، وَلَيْسَتْ الْغَلَّةُ كَالْوَلَدِ وَلَا كَالصُّوفِ وَاللَّبَنِ؛ فَإِنَّ ذَاكَ يَتَوَلَّدُ مِنْ الْأَصْلِ فَيُمَلَّكُ بِمِلْكِ الْأَصْلِ، وَهَذَا غَيْرُ مُتَوَلِّدٍ مِنْ الْأَصْلِ، بَلْ هُوَ وَاجِبٌ بِالْعَقْدِ؛ فَيَكُونُ لِلْعَاقِدِ.
وَقَدْ بَيَّنَّا نَظِيرَهُ فِي الْغَصْبِ.
(وَإِنْ) ادَّعَى الْمُسْتَوْدَعُ أَنَّهُ أَنْفَقَ الْوَدِيعَةَ عَلَى عِيَالِ الْمُودِعِ بِأَمْرِهِ، وَصَدَّقَهُ عِيَالُهُ فِي ذَلِكَ، وَقَالَ رَبُّ الْوَدِيعَةِ لَمْ آمُرْك بِذَلِكَ: فَالْقَوْلُ قَوْلُ رَبِّ الْوَدِيعَةِ مَعَ يَمِينِهِ؛ لِأَنَّ الْمُودَعَ بَاشَرَ سَبَبَ الضَّمَانِ فِي الْوَدِيعَةِ- وَهُوَ الْإِنْفَاقُ- وَادَّعَى مَا يُسْقِطُ الضَّمَانَ عَنْهُ- وَهُوَ إذْنُ الْمَالِكُ-؛ فَلَا يَصَدَّقُ عَلَى ذَلِكَ إلَّا بِبَيِّنَةٍ، وَإِذَا لَمْ تَكُنْ لَهُ بَيِّنَةٌ: فَالْقَوْلُ قَوْلُ رَبِّ الْوَدِيعَةِ مَعَ يَمِينِهِ لِإِنْكَارِهِ.
وَكَذَلِكَ لَوْ ادَّعَى أَنَّهُ أَمَرَهُ بِأَنْ يَتَصَدَّقَ بِهَا عَلَى الْمَسَاكِينِ، أَوْ يَهَبَهَا لِفُلَانٍ.
فَإِنْ كَانَتْ الْوَدِيعَةُ جَارِيَةً فَزَوَّجَهَا الْمُسْتَوْدَعُ مِنْ رَجُلٍ، وَأَخَذَ عُقْرَهَا فَوَلَدَتْ، وَنَقَصَتْهَا الْوِلَادَةُ، ثُمَّ جَاءَ سَيِّدُهَا: لَهُ أَنْ يَأْخُذَهَا وَوَلَدَهَا، وَلَهُ أَنْ يُفْسِدَ النِّكَاحَ؛ لِأَنَّ الْمُودَعَ بَاشَرَهُ بِغَيْرِ رِضَاهُ فَكَانَ مَوْقُوفًا عَلَى إجَازَتِهِ، وَإِذَا فَسَدَ النِّكَاحُ: أَخَذَ عُقْرَهَا؛ لِأَنَّ الْمُسْتَوْفَى بِالْوَطْءِ فِي حُكْمِ جُزْءٍ مِنْ الْعَيْنِ، وَالْعُقْرُ كَالْأَرْشِ، فَيَكُونُ بِمَنْزِلَةِ الْمُتَوَلِّدِ مِنْ الْعَيْنِ بِخِلَافِ الْأَجْرِ، وَيَضْمَنُ الْمُسْتَوْدَعُ نُقْصَانَ الْوِلَادَةِ إنْ كَانَتْ الْوِلَادَةُ نَقَصَتْهَا، وَلَمْ يَكُنْ فِي الْوَلَدِ وَفَاءٌ بِهَا، وَإِنْ كَانَ فِي الْوَلَدِ وَفَاءٌ بِهَا: انْجَبَرَ النُّقْصَانُ بِالْوَلَدِ؛ لِأَنَّ الْمُودَعَ صَارَ كَالْغَاصِبِ فِيمَا صَنَعَ، وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا الْحَكَمَ فِي حَقِّ الْغَاصِبِ.
وَإِنْ كَانَ نُقْصَانُهَا مِنْ غَيْرِ الْوِلَادَةِ- مِنْ شَيْءٍ أَحْدَثَهُ الزَّوْجُ مِنْ جِمَاعِهَا- فَالْمُسْتَوْدَعُ ضَامِنٌ لِذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ سَلَّطَ الزَّوْجَ عَلَى ذَلِكَ، وَصَارَ غَاصِبًا بِمَا صَنَعَ، وَإِنَّمَا يَنْجَبِرُ بِالْوَلَدِ نُقْصَانُ الْوِلَادَةِ؛ لِاتِّحَادِ سَبَبِ النُّقْصَانِ وَالزِّيَادَةِ، وَذَلِكَ لَا يُوجَدُ فِي نُقْصَانٍ حَدَثَ بِسَبَبٍ آخَرَ، وَإِنْ كَانَ الْمُسْتَوْدَعُ اسْتَهْلَكَ الْوَلَدَ: ضَمِنَ قِيمَةَ الْوَلَدِ؛ لِأَنَّ الْوَلَدَ كَانَ أَمَانَةً عِنْدَهُ- كَوَلَدِ الْغَصْبِ عِنْدَ الْغَاصِبِ- فَيَضْمَنُ قِيمَتَهُ بِالِاسْتِهْلَاكِ.
(ثُمَّ) رَدُّ قِيمَةِ الْوَلَدِ كَرَدِّ عَيْنِهِ فِي انْجِبَارِ نُقْصَانِ الْوِلَادَةِ بِهِ.
(رَجُلٌ) اسْتَوْدَعَ رَجُلَيْنِ جَارِيَةً فَبَاعَ أَحَدُهُمَا نِصْفَهَا الَّذِي فِي يَدِهِ فَوَقَعَ عَلَيْهَا الْمُشْتَرِي فَوَلَدَتْ لَهُ، ثُمَّ جَاءَ سَيِّدُهَا:.
(قَالَ): يَأْخُذُهَا وَعُقْرَهَا، وَقِيمَةَ الْوَلَدِ؛ لِأَنَّ الْمُسْتَوْلِدَ مَغْرُورٌ، فَإِنَّ قِيَامَ الْمِلْكِ لَهُ فِي نِصْفِهَا كَقِيَامِ الْمِلْكِ لَهُ فِي جَمِيعِهَا، فِي صِحَّةِ الِاسْتِيلَادِ، وَلَوْ كَانَ الْمِلْكُ لَهُ فِي جَمِيعِهَا ظَاهِرًا، كَانَ يَتَحَقَّقُ الْغَرَرُ، فَكَذَلِكَ فِي نِصْفِهَا.
وَوَلَدُ الْمَغْرُورِ حُرٌّ بِالْقِيمَةِ.
ثُمَّ رَدُّ قِيمَةِ الْوَلَدِ كَرَدِّ عَيْنِ الْوَلَدِ فِي جَبْرِ نُقْصَانِ الْوِلَادَةِ بِهِ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي قِيمَةِ الْوَلَدِ وَفَاءٌ بِالنُّقْصَانِ: أُخِذَ تَمَامُ ذَلِكَ مِنْ الْمُشْتَرِي؛ لِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ كَانَ غَاصِبًا لَهَا فِي حَقِّ مَالِكِهَا، فَيَكُونُ ضَامِنًا لِمَا حَدَثَ مِنْ النُّقْصَانِ فِي يَدِهِ، ثُمَّ يَرْجِعُ الْمُشْتَرِي عَلَى الْبَائِعِ بِالثَّمَنِ، وَبِنِصْفِ قِيمَةِ الْوَلَدِ؛ لِأَنَّ الْبَائِعَ إنَّمَا مَلَّكَهُ نِصْفَهَا، وَلَوْ مَلَّكَهُ كُلَّهَا رَجَعَ عَلَيْهِ بِجَمِيعِ قِيمَةِ الْوَلَدِ، إذَا ظَهَرَ الِاسْتِحْقَاقُ، فَالْجُزْءُ مُعْتَبَرٌ بِالْكُلِّ.
وَأَمَّا الرُّجُوعُ بِالثَّمَنِ فَلِانْفِسَاخِ الْبَيْعِ بِسَبَبِ الِاسْتِحْقَاقِ، وَإِنْ شَاءَ رَبُّ الْجَارِيَةِ ضَمِنَ الْبَائِع نِصْفَ النُّقْصَانِ؛ لِأَنَّهُ كَانَ أَمِينًا فِي نِصْفِهَا، وَقَدْ تَعَدَّى بِالْبَيْعِ وَالتَّسْلِيمِ.
أَلَا تَرَى أَنَّهَا لَوْ هَلَكَتْ كَانَ لَهُ أَنْ يُضَمِّنَ الْبَائِعَ نِصْفَ قِيمَتِهَا، فَكَذَلِكَ إذَا فَاتَ جُزْءٌ مِنْهَا بِالْوِلَادَةِ.
فَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ أَنَّ الْجَارِيَةَ لِهَذَا الَّذِي حَضَرَ إلَّا بِقَوْلِ الْمُسْتَوْدَعِينَ لَمْ تُقْبَلْ شَهَادَتُهُمَا فِي ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْبَائِعَ مِنْهُمَا مُنَاقِضٌ فِي كَلَامِهِ، وَالْآخَر قَدْ تَمَلَّكَ عَلَيْهِ الْمُسْتَوْلِدُ نَصِيبَهُ أَيْضًا بِالضَّمَانِ؛ فَلَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُمَا عَلَى إبْطَالِ مِلْكٍ ثَابِتٍ لِلْمُسْتَوْلِدِ عَلَيْهِمَا، وَلَكِنْ الْجَارِيَةُ أُمُّ وَلَدٍ لِلْمُشْتَرِي، بِاعْتِبَارِ الظَّاهِرِ، وَيَضْمَنُ لِشَرِيكِهِ نِصْفَ قِيمَتِهَا، وَنِصْفَ عُقْرِهَا فَيَدْفَعُهُ إلَى شَرِيكِهِ فِيهَا، كَمَا هُوَ الْحُكْمُ فِي جَارِيَةٍ مُشْتَرَكَةٍ بَيْنَ شَرِيكَيْنِ يَسْتَوْلِدُهَا أَحَدُهُمَا.
(فَإِنْ قِيلَ): كَيْفَ يَغْرَمُ لِلشَّرِيكِ هُنَا، وَهُوَ يَأْبَى ذَلِكَ، وَيَزْعُمُ أَنَّهَا مَمْلُوكَةٌ لِغَيْرِهِ؟ (قُلْنَا): نَعَمْ، وَلَكِنَّهُ صَارَ مُكَذَّبًا فِي زَعْمِهِ شَرْعًا حِينَ كَانَتْ الْجَارِيَةُ أُمَّ وَلَدٍ لِلْمُشْتَرِي؛ فَلِهَذَا سَقَطَ اعْتِبَارُ زَعْمِهِ.
(وَإِذَا) جَحَدَ الْمُسْتَوْدَعُ مَا عِنْدَهُ مِنْ الْوَدِيعَةِ، ثُمَّ أَوْدَعَ مِنْ مَالِهِ عِنْدَ الْمُودَعِ مِثْلَ ذَلِكَ: وَسِعَهُ إمْسَاكُهُ قِصَاصًا بِمَا ذَهَبَ بِهِ مِنْ وَدِيعَتِهِ؛ لِأَنَّ الْمَالَ صَارَ دَيْنًا لَهُ عَلَى الْمُسْتَوْدَعِ بِجُحُودِهِ.
وَصَاحِبُ الْحَقِّ مَتَى ظَفِرَ بِجِنْسِ حَقِّهِ مِنْ مَالِ الْمَدْيُونِ يَكُونُ لَهُ أَنْ يَأْخُذَهُ.
وَالْأَصْلُ فِيهِ: قَوْلُ رَسُولِ اللَّهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لِهِنْدٍ: «خُذِي مِنْ مَالِ أَبِي سُفْيَانَ مَا يَكْفِيك وَوَلَدَك بِالْمَعْرُوفِ».
(وَقِيلَ) فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لِصَاحِبِ الْحَقِّ: الْيَدُ وَاللِّسَانُ، أَنَّ الْمُرَادَ أَخْذُ جِنْسِ حَقِّهِ إذَا ظَفِرَ بِهِ.
وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ الْمَالَ دَيْنًا عَلَيْهِ، وَأَنْكَرَهُ، ثُمَّ أَوْدَعَهُ مِثْلَهُ، فَأَمَّا إذَا أَوْدَعَهُ شَيْئًا مِنْ غَيْرِ جِنْسِ حَقِّهِ لَمْ يَسَعْهُ إمْسَاكُهُ عَنْهُ؛ لِأَنَّ هَذَا بَيْعٌ عِنْد اخْتِلَافِ الْجِنْسِ فَلَا يَنْفَرِدُ هُوَ بِهِ، وَالْأَوَّلُ: اسْتِيفَاءٌ، وَصَاحِبُ الْحَقِّ يَنْفَرِدُ بِالِاسْتِيفَاءِ، وَحُكِيَ عَنْ ابْن أَبِي لَيْلَى رَحِمَهُ اللَّهُ التَّسْوِيَةُ بَيْنَهُمَا؛ لِلْمُجَانِسَةِ مِنْ حَيْثُ الْمَالِيَّةِ، وَلَكِنَّهُ بَعِيدٌ؛ فَالْوَدِيعَةُ عَيْنٌ لَا يَكُونُ لَهُ أَنْ يَحْبِسَهَا بِاعْتِبَارِ صِفَةِ الْمَالِيَّةِ، إذَا لَمْ يَثْبُتْ لَهُ حَقُّ تَمَلُّكِ الْعَيْنِ، وَلَا يَدْخُلُ عَلَيْهِ الْمَرْهُونُ؛ لِأَنَّ هُنَاكَ: الْمُرْتَهَنُ يَحْبِسُ الْمَرْهُونَ بِإِيجَابِ الرَّاهِنِ مِلْكَ الْيَدِ لَهُ فِي الْعَيْنِ، وَإِنْ كَانَ عِنْدَ الْهَلَاكِ يَصِيرُ مُسْتَوْفِيًا دَيْنَهُ بِاعْتِبَارِ الْمَالِيَّةِ، ثُمَّ عِنْدَ الْمُجَانَسَةِ إذَا طَلَبَ الثَّانِي يَمِينَ الْمُودَعِ الْأَوَّلِ، كَانَ لَهُ أَنْ يَحْلِفَ بِاَللَّهِ: لَا يَلْزَمُنِي تَسْلِيمُ شَيْءٍ إلَيْك، فَإِنْ قَالَ لِلْقَاضِي: حَلِّفْهُ بِاَللَّهِ مَا اسْتَوْدَعْته كَذَا: فَلَهُ ذَلِكَ إلَّا أَنْ يُؤَدِّيَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، فَيَقُولُ: قَدْ يُودِعُ الرَّجُلُ غَيْرَهُ شَيْئًا، ثُمَّ لَا يَلْزَمُهُ تَسْلِيمُ شَيْءٍ إلَيْهِ.
فَإِنْ أَدَّى بِهَذِهِ الصِّفَةِ، فَقَدْ طَلَبَ مِنْ الْقَاضِي أَنْ يَنْظُرَ لَهُ، فَيُجِيبُهُ إلَى ذَلِكَ.
فَأَمَّا إذَا لَمْ يَذْكُرْ هَذَا فَإِنَّ الْقَاضِيَ يُحَلِّفُهُ- كَمَا طَلَبَ الْخَصْمُ- بِاَللَّهِ مَا أَوْدَعَهُ مَا يَدَّعِي، ثُمَّ لَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَحْلِفَ عَلَى ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ يَكُونُ كَاذِبًا فِي يَمِينِهِ، وَلَا رُخْصَةَ فِي الْيَمِينِ الْكَاذِبَةِ، فَطَرِيقُ التَّخَلُّصِ لَهُ: أَنْ يَعْرِضَ لِلْقَاضِي بِمَا ذَكَرْنَا، أَوْ يَحْلِفَ: مَا اسْتَوْدَعْتنِي شَيْئًا إلَّا كَذَا وَكَذَا، يَسْتَثْنِي ذَلِكَ بِكَلَامِهِ وَيُخْفِيهِ مِنْ خَصْمِهِ وَمِنْ الْقَاضِي، وَيَسَعُهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ مَظْلُومٌ دَافَعَ الضَّرَرَ عَنْ نَفْسِهِ، غَيْرَ قَاصِدٍ إلَى الْإِضْرَارِ بِغَيْرِهِ، إلَّا أَنَّ مُجَرَّدَ نِيَّتِهِ لَا تَكْفِي لِذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ يَحْتَاجُ إلَى إخْرَاجِهِ مِنْ جُمْلَةِ مَا يَتَنَاوَلُهُ كَلَامُهُ، لَوْلَا الِاسْتِثْنَاءُ، وَذَلِكَ يَحْصُلُ بِالنِّيَّةِ؛ لِأَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ بَيَانُ أَنَّ كَلَامَهُ عِبَارَةٌ عَمَّا وَرَاءَ الْمُسْتَثْنَى، فَلَا يَحْصُلُ ذَلِكَ إلَّا بِمَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ نَاسِخًا، أَوْ مُعَارِضًا، وَمُجَرَّدُ النِّيَّةِ لَا تَصْلُحُ لِذَلِكَ؛ فَلِهَذَا شَرَطَ التَّكَلُّمَ بِالِاسْتِثْنَاءِ.
وَجْهُ ذَلِكَ مَا لَوْ قَرَّبَ إنْسَانٌ أُذُنَهُ مِنْ فَمِهِ سَمِعَ ذَلِكَ، وَفَهِمَهُ.
وَأَمَّا إذَا غَابَ رَبُّ الْوَدِيعَةِ، وَلَا يُدْرَى: أَحَيٌّ هُوَ أَوْ مَيِّتٌ، فَعَلَيْهِ أَنْ يُمْسِكَهَا حَتَّى يَعْلَمَ بِمَوْتِهِ؛ لِأَنَّهُ الْتَزَمَ حِفْظَهَا لَهُ، فَعَلَيْهِ الْوَفَاءُ بِمَا الْتَزَمَ، كَمَا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُولُ فِي الْعُهُودِ: وَفَاءٌ لَا غَدْرَ فِيهِ.
بِخِلَافِ اللُّقَطَةِ فَإِنَّ مَالِكَهَا غَيْرُ مَعْلُومٍ عِنْدَهُ، فَبَعْدَ التَّعْرِيفِ: التَّصَدُّقُ بِهَا طَرِيقٌ لَا يَصِلُهَا إلَيْهِ، وَهُنَا مَالِكُهَا مَعْلُومٌ، فَطَرِيقُ إيصَالِهَا الْحِفْظُ إلَى أَنْ يَحْضُرَ الْمَالِكُ، أَوْ يَتَبَيَّنَ مَوْتُهُ فَيَطْلُبَ، وَارِثَهُ، وَيَدْفَعُهَا إلَيْهِ.
، وَإِنْ مَاتَ الرَّجُلُ، وَعَلَيْهِ دَيْنٌ، وَعِنْدَهُ، وَدِيعَةٌ، وَمُضَارَبَةٌ، وَبِضَاعَةٌ، فَإِنْ عُرِفَتْ بِأَعْيَانِهَا: فَأَرْبَابُهَا أَحَقُّ بِهَا مِنْ الْغُرَمَاءِ؛ لِأَنَّ حَقَّ الْغُرَمَاءِ بَعْدَ مَوْتِ الْمَدْيُونِ يَتَعَلَّقُ بِمَالِهِ دُونَ مَالِ سَائِرِ النَّاسِ، وَكَمَا كَانُوا أَحَقَّ بِهَا فِي حَيَاةِ الْمَدْيُونِ فَكَذَلِكَ بَعْدَ مَوْتِهِ.
وَإِنْ لَمْ تُعْرَفْ بِأَعْيَانِهَا: قُسِمَ الْمَالُ بَيْنَهُمْ بِالْحِصَصِ، وَأَصْحَابُ الْوَدِيعَةِ، وَالْمُضَارَبَةِ، وَالْبِضَاعَةِ بِمَنْزِلَةِ الْغُرَمَاءِ عِنْدَنَا، وَعَلَى قَوْلِ ابْنِ أَبِي لَيْلَى: الْغُرَمَاءُ أَحَقُّ بِجَمِيعِ التَّرِكَةِ.
وَأَصْلُ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ الْأَمِينَ إذَا مَاتَ مُجْهِلًا لِلْأَمَانَةِ؛ فَالْأَمَانَةُ تَصِيرُ دَيْنًا فِي تَرِكَتِهِ عِنْدَنَا؛ لِأَنَّهُ بِالتَّجْهِيلِ صَارَ مُتَمَلِّكًا لَهَا، فَإِنَّ الْيَدَ الْمَجْهُولَةَ عِنْدَ الْمَوْتِ تَنْقَلِبُ يَدَ مِلْكٍ؛ وَلِهَذَا: لَوْ شَهِدَ الشُّهُودُ بِهَا كَانَ ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ الشَّهَادَةِ بِالْمِلْكِ، حَتَّى يَقْضِيَ الْقَاضِي لِلْوَارِثِ وَالْمُودَعِ بِالتَّمْلِيكِ؛ فَيَصِيرُ ضَامِنًا، وَلِأَنَّهُ بِالتَّجْهِيلِ يَصِيرُ مُسَلِّطًا غُرَمَاءَهُ وَوَرَثَتَهُ عَلَى أَخْذِهَا.
وَالْمُودَعُ بِمِثْلِ هَذَا التَّسْلِيطِ يَصِيرُ ضَامِنًا كَمَا لَوْ دَلَّ سَارِقًا عَلَى سَرِقَتِهَا، وَلِأَنَّهُ الْتَزَمَ أَدَاءَ الْأَمَانَةِ، وَمِنْ أَدَاءِ الْأَمَانَةِ: بَيَانُهَا عِنْدَ مَوْتِهِ، وَرَدُّهَا عَلَى الْمَالِكِ إذَا طَلَبَ، فَكَمَا يَضْمَنُ بِتَرْكِ الرَّدِّ بَعْدَ الطَّلَبِ يَضْمَنُ أَيْضًا بِتَرْكِ الْبَيَانِ عِنْدَ الْمَوْتِ وَابْنُ أَبِي لَيْلَى يَقُولُ: هَذَا كُلُّهُ إذَا عَلِمَ قِيَامَهَا عِنْدَ الْمَوْتِ، وَلَا يَعْرِفُ ذَلِكَ، وَلَكِنَّا نَقُولُ: قَدْ عَلِمْنَا بَقَاءَهَا، وَالتَّمَسُّكُ بِمَا هُوَ الْمَعْلُومُ وَاجِبٌ، مَا لَمْ يَتَبَيَّنْ خِلَافُهُ، وَرُبَّمَا يَقُولُ: حَقُّ الْغُرَمَاءِ كَانَ فِي ذِمَّتِهِ، وَيَتَحَوَّلُ بِالْمَوْتِ إلَى مَالِهِ، وَحَقُّ أَصْحَابِ الْأَمَانَةِ لَمْ يَكُنْ فِي ذِمَّتِهِ فِي حَيَاتِهِ، فَكَيْف يُزَاحِمُونَ الْغُرَمَاءَ فِي مَالِهِ بَعْدَ مَوْتِهِ؟ وَلَكِنَّا نَقُولُ: صَارَ حَقُّهُمْ أَيْضًا دَيْنًا قَبْلَ مَوْتِهِ حِين وَقَعَ الْيَأْسُ عَنْ بَيَانِهِ، ثُمَّ حَقُّ أَصْحَابِ الْأَمَانَةِ مِنْ وَجْهٍ أَقْوَى، لِعِلْمِنَا أَنَّهُ كَانَ فِي عَيْنِ الْمَالِ الَّذِي فِي يَدِهِ، وَمَنْ لَهُ حَقُّ الْعَيْنِ، فَهُوَ مُقَدَّمٌ عَلَى سَائِرِ الْغُرَمَاءِ- كَالْمُرْتَهِنِ فِي الرَّهْنِ- فَإِنْ كَانَ لَا يَسْتَحِقُّ صَاحِبُ الْأَمَانَةِ التَّرْجِيحَ، فَلَا أَقَلَّ مِنْ أَنْ يُزَاحِمَ الْغُرَمَاءَ.
(وَإِذَا) رَدَّ الْمُسْتَوْدَعُ الْوَدِيعَةَ إلَى الْمُودِعِ، ثُمَّ أَقَامَ رَجُلٌ الْبَيِّنَةَ أَنَّهَا لَهُ، وَحَضَرُوا عِنْدَ الْقَاضِي: فَلَا ضَمَانَ عَلَى الْمُسْتَوْدَعِ؛ لِأَنَّ فِعْلَهُ فِي الْقَبْضِ قَدْ انْتَسَخَ بِالرَّدِّ إلَى مَنْ أَخَذَ مِنْهُ؛ فَلَا يَبْقَى لَهُ حُكْمٌ بَعْدَ ذَلِكَ، وَبَيَانُ الِانْتِسَاخِ مِنْ حَيْثُ الْحِسِّ ظَاهِرٌ.
وَمِنْ حَيْثُ الْحُكْمِ: فَلِأَنَّهُ مَأْمُورٌ بِالرَّدِّ شَرْعًا عَلَى مَنْ أَخَذَهَا مِنْهُ قَبْلَ حُضُورِ الْمَالِكِ.
أَلَا تَرَى أَنَّ الْأَوَّلَ لَوْ كَانَ غَاصِبًا مَعْرُوفًا فَطَالَبَ الْمُودَعَ بِالرَّدِّ عَلَيْهِ قَبْلَ أَنْ يَحْضُرَ الْمَالِكُ: أَلْزَمَهُ الْقَاضِي ذَلِكَ، وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَتْ سَرِقَةً، أَوْ غَصْبًا: فَالْمُودَعُ بِالرَّدِّ عَلَى مَنْ أَخَذَهُ مِنْهُ يَكُونُ نَاسِخًا حُكْمَ فِعْلِهِ فَيَبْقَى لِلْمَالِكِ قَبْلَهُ حَقٌّ؛ وَهَذَا لِأَنَّ وُجُوبَ الضَّمَانِ عَلَيْهِ بِاعْتِبَارِ التَّفْوِيتِ؛ فَإِنَّ بِأَخْذِهِ فَاتَ عَلَى الْمَالِكِ التَّمَكُّنُ مِنْ الْأَخْذِ مِنْ الْأَوَّلِ، وَقَدْ زَالَ ذَلِكَ بِالْإِعَادَةِ إلَى يَدِهِ.
وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ الْمُودَعُ صَبِيًّا، أَوْ عَبْدًا مَحْجُورًا عَلَيْهِ، وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ رَبُّ الْوَدِيعَةِ صَبِيًّا، أَوْ عَبْدًا؛ لِأَنَّ الْمُسْقِطَ لِلضَّمَانِ فِي حَقِّ الْمُودَعِ: رَدُّهُ إلَى مَنْ أَخَذَهُ مِنْهُ، وَذَلِكَ مُتَحَقِّقٌ مِنْهُ.
(وَإِنْ) كَانَ الْمُودَعُ دَفَعَهَا إلَى إنْسَانٍ بِأَمْرِ الْمُودِعِ، أَوْ بَاعَ، أَوْ وَهَبَ، وَسَلَّمَ بِأَمْرِهِ، ثُمَّ ظَهَرَ الِاسْتِحْقَاقُ: كَانَ لِلْمُسْتَحِقِّ أَنْ يَضْمَنَ الْمُسْتَوْدَعَ؛ لِأَنَّهُ مَا نُسِخَ فِعْلُهُ بِالرَّدِّ إلَى مَنْ أَخَذَهُ مِنْهُ إنَّمَا سَلَّمَهُ إلَى غَيْرِهِ، وَذَلِكَ سَبَبٌ مُوجِبٌ لِلضَّمَانِ عَلَيْهِ بِدُونِ أَمْرِ الْمُودِعِ، وَقَدْ ظَهَرَ بِالِاسْتِحْقَاقِ أَنَّ أَمْرَهُ لَمْ يَكُنْ مُعْتَبَرًا؛ فَكَانَ الْمُسْتَوْدَعُ ضَامِنًا- بِخِلَافِ الْأَوَّلِ- فَقَدْ رُدَّ هُنَاكَ إلَى الْمَوْضِعِ الَّذِي أَخَذَهُ مِنْهُ، وَذَلِكَ نَاسِخٌ لِفِعْلِهِ.
(عَبْدٌ) اسْتَوْدَعَ رَجُلًا وَدِيعَةً، ثُمَّ غَابَ: لَمْ يَكُنْ لِمَوْلَاهُ أَنْ يَأْخُذَ الْوَدِيعَةَ تَاجِرًا كَانَ الْعَبْدُ، أَوْ مَحْجُورًا؛ لِأَنَّ الْمُودَعَ مَا قَبَضَ مِنْهُ شَيْئًا، وَلِأَنَّ تَمَكُّنَهُ مِنْ أَخْذِ هَذَا الْمَالِ بِشَرْطَيْنِ، (أَحَدُهُمَا): قِيَامُ مِلْكِهِ فِي رَقَبَةِ الدَّافِعِ فِي الْحَالِ.
(وَالثَّانِي): فَرَاغُ ذِمَّةِ الدَّافِعِ عَنْ دَيْنِ الْعَبْدِ؛ لِأَنَّ دَيْنَ الْعَبْدِ فِي كَسْبِهِ مُقَدَّمٌ عَلَى حَقِّ الْمَوْلَى، وَالْمُودَعُ لَيْسَ بِخَصْمٍ فِي إثْبَاتِ هَذَيْنِ الشَّرْطَيْنِ عَلَيْهِ، وَلِأَنَّهُ إنَّمَا يَتَمَكَّنُ مِنْ أَخْذِهِ إذَا عَلِمَ أَنَّ الْوَدِيعَةَ كَسْبُ الْعَبْدِ، وَذَلِكَ غَيْرُ مَعْلُومٍ فَلَعَلَّهَا كَانَتْ وَدِيعَةً فِي يَدِهِ لِغَيْرِهِ، وَإِنَّمَا أَوْرَدَ هَذَا لِإِيضَاحِ مَا سَبَقَ أَنَّ الْمُودَعَ رَدَّ الْوَدِيعَةَ إلَى مَنْ أَخَذَهَا مِنْهُ، وَلَيْسَ عَلَيْهِ طَلَبُ الْمَالِكِ لِيَرُدَّهَا عَلَيْهِ، فَإِنَّ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ يَلْزَمُهُ رَدُّهَا إلَى الْعَبْدِ إذَا حَضَرَ، وَلَا يَلْزَمُهُ رَدُّهَا عَلَى مَالِكِهَا.
(وَإِذَا) مَاتَ رَبُّ الْوَدِيعَةِ: فَالْوَارِثُ خَصْمٌ فِي طَلَبِ الْوَدِيعَةِ؛ لِأَنَّهُ خَلِيفَةُ الْمُوَرِّثِ، قَائِمٌ مَقَامَهُ بَعْدَ مَوْتِهِ، فَإِنْ كَانَ عَلَى الْمَيِّتِ دَيْنٌ، وَلَهُ وَصِيٌّ، فَيَنْبَغِي لِلْمُسْتَوْدَعِ أَنْ يَدْفَعَ الْوَدِيعَةَ إلَى الْوَصِيِّ؛ لِأَنَّهُ قَائِمٌ مَقَامَ الْوَصِيِّ بَعْدَ مَوْتِهِ فَأَمَّا الْوَارِثُ فَإِنَّمَا يَخْلُفُ الْمُوَرِّثَ بِشَرْطِ فَرَاغِ التَّرِكَةِ عَنْ حَقِّ الْغُرَمَاءِ؛ لِأَنَّ حَقَّ الْغُرَمَاءِ مُقَدَّمٌ عَلَى حَقِّ الْوَارِثِ؛ فَلِهَذَا كَانَ لَهُ أَنْ يَدْفَعَهَا إلَى الْوَصِيِّ لِيَبِيعَهَا فَيَقْضِيَ الدَّيْنَ، ثُمَّ يَدْفَع مَا بَقِيَ إلَى الْوَارِثِ.
(وَإِنْ) كَانَتْ الْوَدِيعَةُ عَبْدًا، أَوْ دَابَّةً، أَوْ ثَوْبًا وَاحِدًا عِنْدَ رَجُلَيْنِ: فَإِنَّهُمَا يَتَهَايَآنِ عَلَى حِفْظِهِ؛ فَيُمْسِكُهُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا شَهْرًا؛ لِأَنَّ اجْتِمَاعَهُمَا عَلَى الْحِفْظِ- آنَاءً اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ- لَا يُتَصَوَّرُ، وَلِأَنَّهُمَا يَحْفَظَانِ مَا لَا يَحْتَمِلُ الْقِسْمَةَ مِنْ مِلْكِهِمَا بِهَذِهِ الصِّفَةِ، فَكَذَلِكَ مِنْ الْوَدِيعَةِ؛ لِأَنَّهُمَا يَحْفَظَانِ الْوَدِيعَةَ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي يَحْفَظَانِ مَا لَهُمَا.
(وَإِنْ) وَضَعَهُ أَحَدُهُمَا عِنْدَ صَاحِبِهِ، فَهَلَكَ، لَمْ يَضْمَنَا شَيْئًا؛ اعْتِبَارًا بِمَا لَوْ هَلَكَ فِي يَدِ أَحَدِهِمَا فِي زَمَانِ الْمُهَايَأَةِ، وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا.
(وَإِذَا) قَالَ رَبُّ الْوَدِيعَةِ: أَوْدَعْتُك عَبْدًا وَأَمَةً، وَقَالَ الْمُسْتَوْدَعُ: مَا أَوْدَعْتَنِي إلَّا الْأَمَةَ، وَقَدْ هَلَكَتْ، فَأَقَامَ رَبُّ الْوَدِيعَةِ الْبَيِّنَةَ عَلَى مَا ادَّعَى: ضَمِنَ الْمُسْتَوْدَعُ قِيمَةَ الْعَبْدِ؛ لِأَنَّهُ جَحَدَ الْوَدِيعَةَ فِي الْعَبْدِ؛ فَصَارَ ضَامِنًا قِيمَتَهُ، وَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ فِي الْأَمَةِ؛ لِأَنَّهُ مُقِرٌّ الْوَدِيعَةِ فِيهَا، وَقَدْ زَعَمَ أَنَّهَا هَلَكَتْ، فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ.
(رَجُلَانِ) ادَّعَى كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَمَةً فِي يَدِ رَجُلٍ أَنَّهُ أَوْدَعَهَا إيَّاهُ، وَقَالَ الْمُسْتَوْدَعُ: مَا أَدْرِي لِأَيِّكُمَا هِيَ، غَيْرَ أَنِّي أَعْلَمُ أَنَّهَا لِأَحَدِكُمَا.
(قَالَ): يَحْلِفُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَدَّعِي عَلَيْهِ أَنَّهُ أَوْدَعَهُ الْأَمَةَ بِعَيْنِهَا، وَهُوَ مُنْكِرٌ لِذَلِكَ، إنَّمَا أَقَرَّ بِإِيدَاعِ أَحَدِهِمَا بِغَيْرِ عَيْنِهِ مِنْهُ، وَالْمُنْكِرُ غَيْرُ الْمُعَيَّنِ؛ فَلِهَذَا يَحْلِفُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا.
وَتَمَامُ بَيَانِ الْمَسْأَلَةِ فِي كِتَابِ الْإِقْرَارِ.
وَإِنَّمَا أَوْرَدَ الْمَسْأَلَةَ هُنَا لِبَيَانِ خِلَافِ ابْنِ أَبِي لَيْلَى فِي فَصْلٍ، وَهُوَ أَنَّهُ إذَا أَبَى أَنْ يَحْلِفَ لَهُمَا، فَإِنَّهُ يَدْفَعُ الْأَمَةَ إلَيْهِمَا، وَيَغْرَمُ قِيمَتَهَا بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ.
وَعِنْدَ ابْنِ أَبِي لَيْلَى يَرُدُّهَا عَلَيْهِمَا، وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ سِوَى ذَلِكَ، وَهُوَ- بِنَاءً عَلَى مَا بَيَّنَّا- أَنَّ التَّجْهِيلَ غَيْرُ مُوجِبٍ لِلضَّمَانِ عَلَى الْمُودَعِ.
وَعِنْدَنَا: التَّجْهِيلُ مُوجِبٌ لِلضَّمَانِ عَلَيْهِ، وَقَدْ صَارَ مُجْهِلًا فِي حَقِّ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، فَيَصِيرُ ضَامِنًا، ثُمَّ بِنُكُولِهِ صَارَ مُقِرًّا لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنَّهُ أَخَذَ جَمِيعَهَا مِنْهُ، وَإِنَّمَا رَدَّ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نِصْفَهَا، فَيَصِيرُ ضَامِنًا لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَا بَقِيَ مِنْ حَقِّهِ، وَذَلِكَ بِأَنْ يَغْرَمَ قِيمَتَهَا بَيْنَهُمَا.
أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ قَالَ: هَذَا اسْتَوْدَعَنِيهَا، ثُمَّ قَالَ: أَخْطَأْت، بَلْ هُوَ هَذَا، كَانَ عَلَيْهِ أَنْ يَدْفَعَهَا إلَى الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّ إقْرَارَهُ لَهُ بِهَا صَحِيحٌ، وَرُجُوعهُ بَعْدَ ذَلِكَ بَاطِلٌ، وَيَضْمَنُ لِلْآخَرِ قِيمَتَهَا؛ لِإِقْرَارِهِ أَنَّهَا لِلثَّانِي، وَأَنَّهُ صَارَ مُسْتَهْلِكًا عَلَى الثَّانِي بِإِقْرَارِهِ بِهَا لِلْأَوَّلِ؛ فَيَكُونُ ضَامِنًا لَهُ قِيمَتَهَا.
وَهَذَا إذَا دَفَعَهَا إلَى الْأَوَّلِ بِغَيْرِ قَضَاءِ الْقَاضِي، وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ دَفَعَهَا بِقَضَاءِ الْقَاضِي فِي قَوْلِ مُحَمَّدٍ.
وَفِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى لَا يَكُونُ ضَامِنًا؛ لِأَنَّ بِمُجَرَّدِ إقْرَارِهِ لَمْ يَفُتْ عَلَى الثَّانِي شَيْءٌ، وَإِنَّمَا الْفَوَاتُ بِالدَّفْعِ إلَى الْأَوَّلِ، وَقَدْ كَانَ بِقَضَاءِ الْقَاضِي، وَلَكِنْ مُحَمَّدٌ- رَحِمَهُ اللَّهُ- يَقُولُ هُوَ الَّذِي سَلَّطَ الْقَاضِي عَلَى الْقَضَاءِ بِهَا لِلْأَوَّلِ بِإِقْرَارِهِ قَدْ أَقَرَّ أَنَّهُ مُودَعٌ فِيهَا مِنْ الثَّانِي، وَالْمُودَعُ إذَا سَلَّطَ الْغَيْرَ عَلَى أَخْذِ الْوَدِيعَةِ يَصِيرُ ضَامِنًا لِلْمُودِعِ.
(رَجُلٌ) اسْتَوْدَعَ رَجُلًا وَدِيعَةً فَأَوْدَعَهَا الْمُسْتَوْدَعُ غَيْرَهُ، مِنْ غَيْرِ عِيَالِهِ، فَهَلَكَتْ: فَالْأَوَّلُ ضَامِنٌ لَهَا؛ لِأَنَّهُ مُتَعَدٍّ بِالتَّسْلِيمِ إلَى غَيْرِ مَنْ أُمِرَ بِحِفْظِهَا مِنْهُ، وَلَا ضَمَانَ عَلَى مُودَعِ الْمُودَعِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ- رَحِمَهُ اللَّهُ- وَفِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ- رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى-: هُوَ ضَامِنٌ لَهَا أَيْضًا، وَلِصَاحِبِ الْمَالِ الْخِيَارُ، يُضَمِّنُ أَيَّهُمَا شَاءَ.
وَعِنْدَ ابْنِ أَبِي لَيْلَى: لَا ضَمَانَ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا؛ بِنَاءً عَلَى أَصْلِهِ: أَنَّ لِلْمُودَعِ أَنْ يُودِعَ غَيْرَهُ- وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا-.
فَأَمَّا هُمَا فَيَقُولَانِ: الْأَوَّلُ مُتَعَدٍّ فِي التَّسْلِيمِ بِغَيْرِ إذْنِ الْمَالِكِ، وَالثَّانِي مُتَعَدٍّ فِي الْقَبْضِ بِغَيْرِ إذْنِ الْمَالِكِ فَكَانَ لِلْمَالِكِ أَنْ يُضَمِّنَ أَيَّهُمَا شَاءَ، كَالْغَاصِبِ مَعَ غَاصِبِ الْغَاصِبِ.
فَإِنْ ضَمَّنَ الْأَوَّلَ لَمْ يَرْجِعْ عَلَى الثَّانِي؛ لِأَنَّهُ بِالضَّمَانِ مُلِّكَ؛ فَتَبَيَّنَ أَنَّهُ أَوْدَعَ مِلْكَ نَفْسِهِ، وَقَدْ هَلَكَتْ فِي يَدِ الْمُودَعِ، وَإِنْ ضَمِنَ الثَّانِي رَجَعَ عَلَى الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّهُ مَغْرُورٌ مِنْ جِهَتِهِ فَإِنَّهُ أَوْدَعَهُ عَلَى أَنَّهُ مِلْكُهُ، وَأَنَّهُ لَا يَلْحَقُهُ الضَّمَانُ فَهَلَكَ فِي يَدِهِ.
فَإِذَا لَحِقَهُ الضَّمَانُ رَجَعَ عَلَيْهِ، وَلِأَنَّهُ فِي الْقَبْضِ، وَالْحِفْظِ كَانَ عَامِلًا لَهُ فَيَرْجِعُ عَلَيْهِ بِمَا يَضْمَنُ بِسَبَبِهِ وَأَبُو حَنِيفَةَ- رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى- يَقُولُ: الْأَوَّلُ يَصِيرُ ضَامِنًا بِالتَّسْلِيمِ إلَى الثَّانِي بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَوْ سَلَّمَهَا إلَيْهِ لِيَحْفَظَهَا بِحَضْرَتِهِ، فَهَلَكَتْ: لَمْ يَضْمَنْ وَاحِدٌ مِنْهُمَا، وَإِنَّمَا يَصِيرُ الْأَوَّلُ ضَامِنًا؛ بِتَرْكِ الْحِفْظِ حِينَ غَابَ بَعْدَ مَا سَلَّمَهَا إلَى الثَّانِي.
فَأَمَّا الثَّانِي لَمْ يَتْرُكْ الْحِفْظَ، بَلْ هُوَ مُقْبِلٌ عَلَى الْحِفْظِ حِين هَلَكَتْ، فَلَا يَضْمَنُ شَيْئًا.
يُوَضِّحُهُ: أَنَّ أَصْلَ قَبْضِ الثَّانِي لَمْ يَكُنْ مُوجِبًا لِلضَّمَانِ عَلَيْهِ، حَتَّى لَوْ هَلَكَ قَبْلَ غَيْبَةِ الْأَوَّلِ لَمْ يَضْمَنْ، وَلَمْ يُوجَدْ مِنْ جِهَتِهِ صُنْعٌ بَعْدَ ذَلِكَ؛ فَيَصِيرُ بِهِ ضَامِنًا، وَالضَّمَانُ لَا يَجِبُ بِدُونِ الصُّنْعِ، إنَّمَا وُجِدَ الصُّنْعُ مِنْ الْأَوَّلِ- وَهُوَ الذَّهَابُ، وَتَرْكُ الْحِفْظُ- وَلَمَّا لَمْ يَصِرْ الثَّانِي ضَامِنًا بِالْقَبْضِ، كَانَ هَذَا فِي حَقِّهِ كَثَوْبٍ هَبَّتْ بِهِ الرِّيحُ، وَأَلْقَتْهُ فِي حِجْرِهِ، فَإِذَا هَلَكَتْ مِنْ غَيْرِ صُنْعِهِ لَمْ يَضْمَنْ.
يُقَرِّرُهُ: أَنَّ الْأَوَّلَ لَمَّا لَمْ يَضْمَنْ بِمُجَرَّدِ التَّسْلِيمِ، وَإِنَّمَا ضَمِنَ بِتَرْكِهَا فِي يَدِ الثَّانِي بَعْدَ غَيْبَتِهِ، فَقَدْ صَارَتْ يَدُهُ يَدًا مُعْتَبَرَةً فِي إيجَابِ الضَّمَانِ عَلَى الْأَوَّلِ، وَلَا يُمْكِنُ اعْتِبَارُ تِلْكَ الْيَدِ بِعَيْنِهَا فِي إيجَابِ الضَّمَانِ عَلَى الثَّانِي كَأَجِيرِ الْقَصَّارِ، إذَا دَقَّ الثَّوْبَ وَتَخَرَّقَ، لَمَا وَجَبَ الضَّمَانُ عَلَى الْأُسْتَاذِ بِسَبَبِ فِعْلِ الْأَجِيرِ، وَلَمْ يَجِبْ عَلَى الْأَجِيرِ شَيْءٌ مِنْ الضَّمَانِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ ضَمِنَ إنَّمَا يَضْمَنُ بِذَلِكَ الْفِعْلِ أَيْضًا، وَالْفِعْلُ الْوَاحِدُ لَا يَكُونُ مُوجِبًا لِلضَّمَانِ عَلَى الشَّخْصَيْنِ، فَهَذَا مِثْلُهُ، بِخِلَافِ الْغَاصِبِ مَعَ غَاصِبِ الْغَاصِبِ: فَإِنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا إنَّمَا يَصِيرُ ضَامِنًا بِفِعْلِهِ- وَهُوَ غَصْبُهُ- وَغَصْبُ أَحَدِهِمَا غَيْرُ غَصْبِ الثَّانِي، وَلِهَذَا يُعْتَبَرُ فِي كُلِّ حَقِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا قِيمَتُهُ حِينَ غَصَبَهُ، وَاَللَّهُ- سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.