فصل: بَابُ شَهَادَةِ الزُّورِ وَغَيْرِهَا:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: المبسوط



.بَابُ شَهَادَةِ الزُّورِ وَغَيْرِهَا:

(قَالَ رَحِمَهُ اللَّهُ ذُكِرَ عَنْ شُرَيْحٍ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ كَانَ إذَا أَخَذَ شَاهِدُ الزُّورِ بَعَثَ بِهِ إلَى أَهْلِ سُوقِهِ إنْ كَانَ سُوقِيًّا وَإِلَى قَوْمِهِ إنْ كَانَ غَيْرَ سُوقِيٍّ بَعْدَ الْعَصْرِ أَجْمَعَ مَا كَانُوا فَيَقُولُ إنَّ شُرَيْحًا رَحِمَهُ اللَّهُ يُقْرِئُكُمْ السَّلَامَ وَيَقُولُ أَنَا وَجَدْنَا هَذَا شَاهِدُ زُورٍ فَاحْذَرُوهُ وَحَذِّرُوهُ النَّاسَ) وَبِهَذَا أَخَذَ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ فَقَالَ الْقَاضِي يُكْتَفَى فِي شَهَادَةِ الزُّورِ بِالتَّشْهِيرِ وَلَا يُعَزِّرُهُ.
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ يُعَاقِبُهُ بِالتَّعْزِيرِ وَالْحَبْسُ عَلَى قَدْرِ مَا يَرَى حَتَّى يُظْهِرَ تَوْبَتَهُ وَلَا يَبْلُغَ بِالتَّعْزِيرَاتِ سَبْعِينَ سَوْطًا.
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ بَعْدَ ذَلِكَ يَبْلُغُ بِالتَّعْزِيرِ خَمْسَةً وَسَبْعِينَ سَوْطًا، وَقَدْ بَيَّنَّا الْكَلَامَ فِي مِقْدَارِ التَّعْزِيرِ فِي كِتَابِ الْحُدُودِ.
فَأَمَّا الْكَلَامُ فِي التَّعْزِيرِ فِي حَقِّ شَاهِدِ الزُّورِ فَهُمَا اسْتَدَلَّا بِحَدِيثِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ حَيْثُ قَالَ فِي شَاهِدِ الزُّورِ يُضْرَبُ أَرْبَعِينَ سَوْطًا وَيُسَخَّمُ وَجْهُهُ وَيُطَافُ بِهِ إلَّا أَنَّ الدَّلِيلَ قَدْ قَامَ عَلَى انْتِسَاخِ حُكْمِ التَّسْخِيمِ لِلْوَجْهِ فَإِنَّ ذَلِكَ مُثْلَةٌ «وَنَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ الْمُثْلَةِ، وَلَوْ بِالْكَلْبِ الْعَقُورِ».
فَبَقِيَ حُكْمُ التَّعْزِيرِ وَالتَّشْهِيرِ بِأَنْ يُطَافَ بِهِ، ثُمَّ التَّشْهِيرُ لِإِعْلَامِ النَّاسِ حَتَّى لَا يَعْتَمِدَ وَإِشْهَادُهُ بَعْدَ ذَلِكَ وَالتَّعْزِيرُ لِارْتِكَابِهِ كَبِيرَةً فَشَهَادَةُ الزُّورِ مِنْ أَعْظَمِ الْكَبَائِرِ فَإِنَّهَا عُدِلَتْ بِالشِّرْكِ بِاَللَّهِ تَعَالَى قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنْ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ}، وَفِيهِ إشَارَةٌ إلَى عِظَمِ حُرْمَةِ الْمُسْلِمِ فَقَدْ جَعَلَ اللَّهُ تَعَالَى الشَّهَادَةَ عَلَيْهِ بِالزُّورِ كَالشَّهَادَةِ عَلَى نَفْسِهِ بِالزُّورِ.
وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهُ مُرْتَكِبٌ لِلْكَبِيرَةِ قُلْنَا يُعَزَّرُ عَلَى ذَلِكَ وَأَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَخَذَ بِقَوْلِ شُرَيْحٍ رَحِمَهُ اللَّهُ فَإِنَّهُ كَانَ قَاضِيًا فِي زَمَنِ عُمَرَ وَعَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا فَمَا يُشْتَهَرُ مِنْ قَضَايَاهُ كَالْمَرْوِيِّ عَنْهُمَا، ثُمَّ التَّشْهِيرُ لِمَعْنَى النَّظَرِ لِلْمُسْلِمِينَ، وَذَلِكَ مِنْ حَقِّهِمْ.
فَأَمَّا التَّعْزِيرُ لِحَقِّ اللَّهِ تَعَالَى، وَذَلِكَ يَسْقُطُ بِالتَّوْبَةِ وَشَاهِدُ الزُّورِ مَنْ يُقِرُّ عَلَى نَفْسِهِ بِذَلِكَ وَإِقْرَارُهُ عَلَى نَفْسِهِ بِذَلِكَ دَلِيلُ تَوْبَتِهِ؛ فَلِهَذَا لَا يُعَزَّرُ وَيُكْتَفَى بِالتَّشْهِيرِ.
ثُمَّ فِي التَّشْهِيرِ نَوْعُ تَعْزِيرٍ وَهُوَ تَعْزِيرٌ لَائِقٌ بِجَرِيمَتِهِ؛ لِأَنَّ بِالشَّهَادَةِ لَا يَحْصُلُ لَهُ سِوَى مَاءِ الْوَجْهِ وَبِالتَّشْهِيرِ يَذْهَبُ مَاءُ وَجْهِهِ عِنْدَ النَّاسِ فَكَانَ هَذَا تَعْزِيرًا لَائِقًا بِجَرِيمَتِهِ فَيُكْتَفَى بِهِ، وَمَا نُقِلَ عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مَحْمُولٌ عَلَى مَعْنَى السِّيَاسَةِ إذَا عَلِمَ الْإِمَامُ أَنَّهُ لَا يَنْزَجِرُ إلَّا بِهِ.
(أَلَا تَرَى) أَنَّهُ ذَكَرَ تَسْخِيمَ الْوَجْهِ، وَذَلِكَ بِالِاتِّفَاقِ بِطَرِيقِ السِّيَاسَةِ إذَا عَلِمَ الْمَصْلَحَةَ فِيهِ.
فَكَذَلِكَ التَّقْرِيرُ.
(قَالَ) وَشَاهِدُ الزُّورِ عِنْدَنَا الْمُقِرُّ عَلَى نَفْسِهِ بِذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ لَا تَتَمَكَّنُ تُهْمَةُ الْكَذِبِ فِي إقْرَارِهِ عَلَى نَفْسِهِ فَلَا طَرِيقَ إلَى ثَبَاتِ ذَلِكَ بِالْبَيِّنَةِ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ نَفْيٌ لِشَهَادَتِهِ وَالْبَيِّنَةُ حُجَّةٌ لِلْإِثْبَاتِ دُونَ النَّفْيِ، وَكَذَلِكَ مَنْ رُدَّتْ شَهَادَتُهُ لِتُهْمَةٍ أَوْ لِلدَّفْعِ عَنْ نَفْسِهِ أَوْ بِالِاخْتِلَافِ فِي الشَّهَادَةِ، أَوْ بِتَكْذِيبِ الَّذِي شَهِدَ لَهُ فَإِنَّهُ لَا يَكُونُ شَاهِدَ الزُّورِ فِيمَا ذَكَرْنَا مِنْ الْحُكْمِ؛ لِأَنِّي لَا أَدْرِي أَيُّهُمَا الصَّادِقُ الْمَشْهُودُ لَهُ أَوْ الشَّاهِدُ فَلَعَلَّ الْمَشْهُودَ لَهُ أَرَادَ بِالشَّاهِدِ الْعُقُوبَةَ وَالتُّهْمَةَ فَقَصَّرَ فِي دَعْوَاهُ عَمَّا شَهِدَ بِهِ شَاهِدُهُ، وَكَذَلِكَ مَنْ رُدَّتْ شَهَادَتُهُ لِلتُّهْمَةِ فَلَعَلَّهُ صَادِقٌ فِي شَهَادَتِهِ.
وَإِذَا اخْتَلَفَ الشَّاهِدَانِ فِي الشَّهَادَةِ فَلَا يُعْرَفُ الْكَاذِبُ مِنْهُمَا؛ فَلِهَذَا لَا يُعَزَّرُ وَاحِدٌ مِنْ هَؤُلَاءِ وَالرِّجَالُ وَالنِّسَاءُ وَأَهْلُ الذِّمَّةِ فِي شَهَادَةِ الزُّورِ سَوَاءٌ لِقِيَامِ الْأَهْلِيَّةِ فِي حَقِّهِمْ جَمِيعًا فِيمَا تَعَلَّقَ بِشَهَادَةِ الزُّورِ وَإِذَا شَهِدَ أَحَدُ الشَّاهِدَيْنِ عَلَى قَتْلٍ، أَوْ جِرَاحَةٍ عَمْدًا أَوْ خَطَأً وَشَهِدَ الْآخَرُ عَلَى الْإِقْرَارِ بِذَلِكَ لَمْ تَجُزْ شَهَادَتُهُمَا لِاخْتِلَافِ الْمَشْهُودِ بِهِ فَأَحَدُهُمَا يَشْهَدُ بِفِعْلٍ مُعَايِنٍ وَالْآخَرُ بِقَوْلٍ مَسْمُوعٍ وَالْقَوْلُ غَيْرُ الْفِعْلِ، وَكَذَلِكَ لَوْ اخْتَلَفَا فِي الْوَقْتِ، أَوْ فِي الْمَكَانِ الَّذِي كَانَ بِهِ الْقَتْلُ.
فَأَمَّا فِي الْبَيْعِ اخْتِلَافُ الشُّهُودِ فِي الْمَكَانِ وَالزَّمَانِ وَالْإِنْشَاءِ وَالْإِقْرَارِ لَا يُمْنَعُ قَبُولُ الشَّهَادَةِ إلَّا عَلَى قَوْلِ زُفَرَ رَحِمَهُ اللَّهُ فَإِنَّهُ يَقُولُ لَا تُقْبَلُ لِاخْتِلَافِهِمَا فِي الْمَشْهُودِ بِهِ فَالْمَوْجُودُ فِي مَكَانِ غَيْرِ الْمَوْجُودِ فِي مَكَان آخَرَ كَالْأَفْعَالِ، وَلَكِنَّا نَقُولُ الْقَوْلُ يُعَادُ وَيُكَرَّرُ، وَيَكُونُ الثَّانِي هُوَ الْأَوَّلُ فِي الْحُكْمِ فَبِهَذَا الِاخْتِلَافِ لَا يَتَحَقَّقُ بَيْنَهُمَا اخْتِلَافٌ فِي الْمَشْهُودِ بِهِ.
وَكَذَلِكَ صِيغَةُ الْإِقْرَارِ وَالْإِنْشَاءِ فِي الْبَيْعِ وَاحِدَةٌ بِخِلَافِ الْأَفْعَالِ فَإِنَّهَا لَا تَحْتَمِلُ التَّكْرَارَ.
وَلَوْ شَهِدَ أَحَدُهُمَا فِي قَرْضِ مِائَةِ دِرْهَمٍ وَشَهِدَ الْآخَرُ عَلَى الْإِقْرَارِ بِذَلِكَ جَازَ كَمَا فِي الْبَيْعِ؛ لِأَنَّ الْبَيْعَ وَالْقَرْضَ كَلَامٌ كُلُّهُ.
وَقَالَ بَعْضُهُمْ هُنَا الْجَوَابُ فِي الْقَرْضِ غَلَطٌ فَإِنَّ الْإِقْرَاضَ فِعْلٌ فَإِنَّهُ لَا يَتَحَقَّقُ إلَّا بِتَسْلِيمِ الْمَالِ وَالْقَبْضُ بِحُكْمِ الْقَرْضِ مُوجِبٌ ضَمَانَ الْمِثْلِ كَالْغَصْبِ وَكَمَا أَنَّ اخْتِلَافَ الشُّهُودِ فِي الْغَصْبِ فِي الْإِقْرَارِ وَالْإِنْشَاءُ يَمْنَعُ قَبُولَ الشَّهَادَةِ.
فَكَذَلِكَ فِي الْقَرْضِ، وَلَكِنْ مَا ذَكَرَهُ فِي الْكِتَابِ أَصَحُّ؛ لِأَنَّ حُكْمَ الْقَرْضِ إنَّمَا يَثْبُتُ بِقَوْلِهِ أَقْرَضْتُك لَا بِتَسْلِيمِ الْمَالِ إلَيْهِ فَإِنَّ تَسْلِيمَ الْمَالِ إلَيْهِ بِدُونِ هَذَا الْقَوْلِ يَكُونُ إيدَاعًا وَقَوْلُهُ أَقْرَضْتُك صِيغَةُ الْإِقْرَارِ وَالْإِنْشَاءُ فِيهِ وَاحِدٌ كَمَا فِي الْبَيْعِ وَلَوْ شَهِدَ أَحَدُهُمَا عَلَى مِائَةٍ وَالْآخَرُ عَلَى خَمْسِينَ لَمْ تُقْبَلْ هَذِهِ الشَّهَادَةُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ لِاخْتِلَافِ الشَّاهِدَيْنِ فِي الْمَشْهُودِ بِهِ لَفْظًا، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تُقْبَلُ عَلَى الْأَقَلِّ إذَا كَانَ الْمُدَّعِي يَدَّعِي الْأَكْثَرَ حَتَّى لَا يَصِيرَ مُكَذِّبًا أَحَدَ شَاهِدَيْهِ، وَقَدْ بَيَّنَّا فِي كِتَابِ الطَّلَاقِ فِي التَّطْلِيقَةِ وَالتَّطْلِيقَتَيْنِ.
وَلَا يَجُوزُ شَهَادَةُ دَافِعٍ عَنْ نَفْسِهِ مَغْرَمًا، أَوْ جَارٍّ إلَيْهَا مَغْنَمًا؛ لِأَنَّهُ مُتَّهَمٌ فِي شَهَادَتِهِ.
وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «لَا شَهَادَةَ لِمُتَّهَمٍ»، وَلِأَنَّهُ فِي مَعْنَى الشَّاهِدِ لِنَفْسِهِ وَشَهَادَةُ الْمَرْءِ لِنَفْسِهِ دَعْوَى.
وَلَا تَجُوزُ شَهَادَةُ الْمُفَاوِضِ لِشَرِيكِهِ فِي شَيْءٍ مَا خَلَا الْحُدُودَ وَالْقِصَاصَ وَالنِّكَاحَ فَذَلِكَ لَيْسَ مِنْ شَرِكَةِ مَا بَيْنَهُمَا فَنَزَلَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي الْمَشْهُودِ بِهِ مِنْ صَاحِبِهِ مَنْزِلَةَ الْأَجْنَبِيِّ وَأَمَّا فِي الْأَمْوَالِ هُمَا بِعَقْدِ الْمُفَاوَضَةِ صَارَ فِي ذَلِكَ كَشَخْصٍ وَاحِدٍ فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِيمَا يَشْهَدُ بِهِ لِصَاحِبِهِ بِمَنْزِلَةِ الشَّاهِدِ لِنَفْسِهِ.
وَشَهَادَةُ الشَّرِيكِ لِشَرِيكِهِ، وَإِنْ كَانَا غَيْرَ مُتَفَاوِضَيْنِ لَا تَجُوزُ فِي تِجَارَتِهِمَا لِلتُّهْمَةِ؛ لِأَنَّ فِيمَا يَكُونُ مِنْ تِجَارَتِهِمَا الشَّاهِدُ يُثْبِتُ الْحَقَّ لِنَفْسِهِ وَصَاحِبُهُ كَالْوَكِيلِ عَنْهُ فَهُوَ كَشَهَادَةِ الْمُوَكِّلِ لِوَكِيلِهِ فِيمَا وَكَّلَهُ بِهِ.
فَأَمَّا فِيمَا لَيْسَ مِنْ تِجَارَتِهِمَا فَهُوَ كَسَائِرِ الْأَجَانِبِ؛ لِأَنَّ تُهْمَةَ الْمَيْلِ بِسَبَبِ عَقْدِ الشَّرِكَةِ لَا تَتَمَكَّنُ عِنْدَ ظُهُورِ الْعَدَالَةِ فَإِنَّ بِسَبَبِ الشَّرِكَةِ يَحْصُلُ بَيْنَهُمَا الصَّدَاقَةُ وَالصَّدِيقُ إذَا كَانَ عَدْلًا عَاقِلًا يَمْنَعُ صَدِيقَهُ مِنْ أَكْلِ الْحَرَامِ وَلَا يَحْمِلُهُ عَلَى ذَلِكَ بِالشَّهَادَةِ، وَكَذَلِكَ شَهَادَةُ أَجِيرِ أَحَدِ الشَّرِيكَيْنِ لَلشَّرِيك الْآخَرِ وَشَهَادَةُ الْأَجِيرِ لِأُسْتَاذِهِ لَا تَجُوزُ فِي شَيْءٍ، وَإِنْ كَانَ عَدْلًا أَخَذَ فِي ذَلِكَ بِالثِّقَةِ وَاسْتَحْسَنَ لِمَا بَلَغَنَا فِي ذَلِكَ عَنْ شُرَيْحٍ رَحِمَهُ اللَّهُ وَلِحَالَةِ النَّاسِ الَّتِي هُمْ عَلَيْهَا الْيَوْمَ وَالْمُرَادُ الْإِشَارَةُ إلَى التُّهْمَةِ فَالْأَجِيرُ هُنَا هُوَ التِّلْمِيذُ الْخَاصُّ، وَقَدْ ظَهَرَ مِثْلُهُ إلَى أُسْتَاذِهِ وَإِيثَارُهُ عَلَى غَيْرِهِ فَكَانَ بِمَنْزِلَةِ الزَّوْجِيَّةِ فِي الْمَنْعِ مِنْ قَبُولِ الشَّهَادَةِ، وَلِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي يَقْبِضُ مَا يَجِبُ لِأُسْتَاذِهِ فَكَأَنَّهُ يُثْبِتُ حَقَّ الْقَبْضِ لِنَفْسِهِ بِشَهَادَتِهِ، وَقَدْ وَرَدَ الْحَدِيثُ بِأَنْ لَا شَهَادَةَ لِلْقَانِعِ بِأَهْلِ بَيْتِهِ وَمَعْنَى ذَلِكَ أَنَّهُ يُعِدُّ خَيْرَهُمْ خَيْرَ نَفْسِهِ وَشَرَّهُمْ شَرَّ نَفْسِهِ وَالْأَجِيرُ فِي حَقِّ أُسْتَاذِهِ بِهَذِهِ الصِّفَةِ وَقِيلَ مُرَادُهُ أَجِيرًا اسْتَأْجَرَهُ مُسَانَهَةً، أَوْ مُشَاهَرَةً فَإِنَّمَا يَسْتَوْجِبُ الْأَجْرَ بِتَسْلِيمِ نَفْسِهِ، وَفِي الزَّمَانِ الَّذِي يُسَلِّمُ نَفْسَهُ لِأَدَاءِ الشَّهَادَةِ لَهُ يَسْتَوْجِبُ الْأَجْرَ فَكَانَ بِمَنْزِلَةِ مَنْ اُسْتُؤْجِرَ عَلَى أَدَاءِ الشَّهَادَةِ؛ فَلِهَذَا لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ لِأُسْتَاذِهِ فِي شَيْءٍ.
وَلَوْ أَنَّ رَجُلًا كَانَ عَلَيْهِ مَالٌ فَشَهِدَ ابْنَاهُ أَنَّ الطَّالِبَ أَبْرَأَ أَبَاهُمَا وَاحْتَالَ بِهِ عَلَى فُلَانٍ وَالطَّالِبُ مُنْكِرٌ لَمْ تَجُزْ شَهَادَتُهُمَا؛ لِأَنَّهُمَا يُسْقِطَانِ بِشَهَادَتِهِمَا مُطَالَبَةَ الطَّالِبِ عَنْ أَبِيهِمَا فَدَفَعَهُمَا عَنْ أَبِيهِمَا كَدَفْعِهِمَا عَنْ أَنْفُسِهِمَا، وَلَوْ كَانَ الْمَالُ عَلَى غَيْرِ أَبِيهِمَا فَشَهِدَا أَنَّ الطَّالِبَ احْتَالَ بِهِ عَلَى أَبِيهِمَا وَالطَّالِبُ يُنْكِرُ وَالْمَطْلُوبُ يَدَّعِي الْحَوَالَةَ وَالْبَرَاءَةَ جَازَتْ شَهَادَتُهُمَا؛ لِأَنَّهُمَا يَشْهَدَانِ عَلَى أَبِيهِمَا بِالْمَالِ وَيُلْزِمَانِهِ الْمُطَالَبَةَ بِشَهَادَتِهِمَا، وَإِنَّمَا يُسْقِطَانِ بِهَا مُطَالَبَةُ الطَّالِبِ عَنْ الْمَطْلُوبِ وَهُوَ أَجْنَبِيٌّ عَنْهُمَا؛ فَلِهَذَا قَبِلْنَا شَهَادَتَهُمَا.
وَلَوْ شَهِدَ رَجُلَانِ أَنَّ لَهُمَا وَلِفُلَانٍ عَلَى فُلَانٍ كَذَا لَمْ تَجُزْ شَهَادَتُهُمَا؛ لِأَنَّهُمَا شَاهِدَانِ لِأَنْفُسِهِمَا، وَهَذَا؛ لِأَنَّهُمَا يَشْهَدَانِ بِدَيْنٍ مُشْتَرَكٍ أَوْ يَنْصَرِفُ وَاحِدٌ يَثْبُتُ بِهِ الْمَالُ لَهُمَا وَلِفُلَانٍ.
فَإِذَا لَمْ تُقْبَلْ شَهَادَتُهُمَا فِي حَقِّ أَنْفُسِهِمَا وَكَانَ مُدَّعِيَيْنِ فِي ذَلِكَ.
فَكَذَلِكَ فِي حَقِّ الثَّالِثِ كَمَا لَوْ شَهِدَا أَنَّهُ قَذَفَ هَذَا وَأُمَّنَا فِي كَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ، وَكَذَلِكَ لَوْ شَهِدَا أَنَّ فُلَانًا أَبْرَأهُمَا وَفُلَانًا مِنْ مَالٍ كَانَ لَهُ عَلَيْهِمَا وَعَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْمَشْهُودَ بِهِ كَلَامٌ وَاحِدٌ وَهُوَ فِي حَقِّهِمَا دَعْوَى لَا شَهَادَةٌ وَبَيْنَ الدَّعْوَى وَالشَّهَادَةِ مُغَايَرَةٌ.
فَإِذَا كَانَ كَلَامُهُمَا دَعْوَى فِي الْبَعْضِ لَا تَكُونُ شَهَادَةً مُعْتَبَرَةً فِي الْبَاقِي، وَكَذَلِكَ شَهَادَةُ وَلَدِهِمَا؛ لِأَنَّهُمَا فِي الْبَعْضِ يَشْهَدَانِ لِوَالِدَيْهِمَا وَلَا يَجُوزُ شَهَادَةُ الْأَجِيرِ لِمُعَلِّمِهِ يُرِيدُ بِهِ التِّلْمِيذُ، وَقَدْ بَيَّنَّا الْمَعْنَى فِيهِ.
وَإِذَا ادَّعَى رَجُلٌ دَابَّةً فِي يَدِ رَجُلٍ فَقَالَ هِيَ دَابَّةُ فُلَانٍ دَفَعَهَا إلَيَّ وَدِيعَةً فَرَدَّهَا عَلَيْهِ وَجَاءَ أَحَدُ الْوَرَثَةِ فَخَاصَمَهُ فِي ذَلِكَ.
وَقَالَ هِيَ دَابَّتِي تَصَدَّقَ بِهَا عَلَيَّ أَبِي فَجَاءَ الَّذِي كَانَتْ فِي يَدِهِ أَوَّلًا وَشَهِدَ أَنَّهَا دَابَّتُهُ.
(قَالَ) إنْ كَانَ يَعْلَمُ أَنَّ هَذَا أَوْدَعَهَا أَبَاهُ، ثُمَّ رَدَّهَا عَلَيْهِ فَشَهَادَتُهُ جَائِزَةٌ وَإِلَّا فَلَا تَجُوزُ شَهَادَتُهُ؛ لِأَنَّ هَذَا دَافِعُ مَغْرَمٍ، وَمَعْنَى هَذَا أَنَّهُ إذَا عَلِمَ أَنَّهُ هُوَ الَّذِي أَوْدَعَهَا إيَّاهُ، وَأَنَّهُ قَدْ رَدَّهَا عَلَيْهِ فَقَدْ خَرَجَ مِنْ ضَمَانِهَا بِيَقِينٍ؛ لِأَنَّ الْمُسْتَوْدِعَ يَسْتَفِيدُ الْبَرَاءَةَ بِالرَّدِّ عَلَى مَنْ أَوْدَعَهُ غَاصِبًا كَانَ، أَوْ مَالِكًا فَلَا تَتَمَكَّنُ تُهْمَةٌ فِي شَهَادَتِهِ بِالْمِلْكِ لِلْمُدَّعِي بَعْدَ ذَلِكَ وَأَمَّا إذَا لَمْ يَعْلَمْ ذَلِكَ فَقَدْ صَارَ هُوَ مُقِرًّا عَلَى نَفْسِهِ بِثُبُوتِ يَدِهِ عَلَيْهَا، وَذَلِكَ مُوجِبٌ لِلضَّمَانِ عَلَيْهِ لِمَالِكِهَا مَا لَمْ تَصِلْ يَدُهُ إلَيْهَا فَهُوَ بِهَذِهِ الشَّهَادَةِ يُرِيدُ اتِّصَالَهَا إلَى يَدِهِ لِيُبَرِّئَ نَفْسَهُ عَنْ ضَمَانِهَا فَتَتَمَكَّنُ تُهْمَةٌ فِي شَهَادَتِهِ.
(قَالَ) وَكَذَلِكَ الدَّارُ قِيلَ هَذَا عَلَى قَوْلِ مَنْ يَقُولُ الْعَقَارُ يُضْمَنُ بِالْغَصْبِ وَقِيلَ بَلْ هُوَ قَوْلُ الْكُلِّ؛ لِأَنَّهُ يَخَافُ أَنْ يُرْفَعَ إلَى قَاضٍ يَرَى الْعَقَارَ كَالْمَنْقُولِ فِي إيجَابِ الضَّمَانِ عَلَى مُثْبِتِ الْيَدِ عَلَيْهَا فَيَقْضِي عَلَيْهِ بِالضَّمَانِ فَهُوَ بِهَذِهِ الشَّهَادَةِ يَدْفَعُ الْمَغْرَمَ عَلَى نَفْسِهِ أَيْضًا.
رَجُلٌ مَعَهُ شَاةٌ فَمَرَّ رَجُلٌ فَقَالَ اذْبَحْهَا فَذَبَحَهَا، ثُمَّ جَاءَ رَجُلٌ فَأَقَامَ الْبَيِّنَةَ أَنَّ هَذَا أَغَصَبَهَا مِنْهُ وَأَقَامَ شَاهِدَيْنِ أَحَدُهُمَا الذَّابِحُ لَمْ تَجُزْ شَهَادَةُ الذَّابِحِ؛ لِأَنَّهُ دَافِعُ الْمَغْرَمِ عَنْ نَفْسِهِ فَالْمُدَّعِي إذَا ثَبَتَ مِلْكُهُ يَتَمَكَّنُ مِنْ تَضْمِينِ الذَّابِحِ وَالذَّابِحُ بِشَهَادَتِهِ يَصِيرُ مُقِرًّا بِالضَّمَانِ لَهُ عَنْ نَفْسِهِ فَإِنَّمَا يَقْصِدُ بِإِخْرَاجِ الْكَلَامِ مَخْرَجَ الشَّهَادَةِ دَفْعَ الْمَغْرَمِ عَنْ نَفْسِهِ بِأَنْ يَتَوَصَّلَ صَاحِبُهَا إلَى حَقِّهِ فِي تَضْمِينِ الْغَاصِبِ، وَلِأَنَّ ضَمَانَ الْغَصْبِ إذَا تَقَرَّرَ أَوْجَبَ الْمِلْكَ لِلْغَاصِبِ فَهُوَ بِهَذِهِ الشَّهَادَةِ يُرِيدُ أَنْ يُقَرِّرَ الضَّمَانَ عَلَى مَنْ أَمَرَهُ بِالذَّبْحِ لِيَثْبُتَ الْمِلْكُ لَهُ فَيُعْتَبَرُ عِنْدَ ذَلِكَ أَمْرُهُ فِي إسْقَاطِ الضَّمَانِ عَنْ الذَّابِحِ فَكَانَ دَافِعَ الْمَغْرَمِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ وَالثَّانِي يُحْتَمَلُ أَنَّ الْمَالِكَ غَيْرُهُ وَغَيْرُهُ يَضْمَنُهُ وَهُوَ لَا يَضْمَنُهُ بِاعْتِبَارِ أَنَّ بَيْنَهُمَا مَحَبَّةً وَمَوَدَّةً فَقَدْ تَمَكَّنَتْ التُّهْمَةُ فِي هَذِهِ الشَّهَادَةِ.
(قَالَ) وَمِنْ التَّهَاتُرِ أَنْ يَشْهَدَ الشَّاهِدَانِ أَنَّ هَذَا الشَّيْءَ لَمْ يَكُنْ لَهُ؛ لِأَنَّ هَذَا نَفْيٌ وَالشَّهَادَةُ لِلْإِثْبَاتِ دُونَ النَّفْيِ فَإِنَّ النَّفْيَ مِمَّا لَا يُعْرَفُ؛ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَصْحَبْ غَيْرَهُ أَنَاءَ اللَّيْلِ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ لَا يَعْلَمُ أَنَّ هَذَا الشَّيْءَ لَيْسَ لَهُ وَهُوَ، وَإِنْ صَحِبَهُ لَا يَعْلَمُ ذَلِكَ أَيْضًا فَقَدْ لَا يَعْرِفُ الْإِنْسَانُ ذَلِكَ مِنْ نَفْسِهِ بِأَنْ يَكُونَ وَرِثَ شَيْئًا فَيَكُونَ مَمْلُوكًا لَهُ وَهُوَ لَا يَعْلَمُ بِذَلِكَ.
فَإِذَا كَانَ لَا يَعْرِفُ هَذَا مِنْ نَفْسِهِ فَكَيْفَ يَعْرِفُ غَيْرَهُ مِنْهُ، وَكَذَلِكَ لَوْ شَهِدَ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ لِفُلَانٍ عَلَى فُلَانٍ دَيْنٌ؛ لِأَنَّهُ لَا طَرِيقَ إلَى مَعْرِفَةِ مَا شَهِدَ بِهِ مِنْ نَفْيِ الدَّيْنِ عَنْ ذِمَّتِهِ، وَكَذَلِكَ كُلّ شَهَادَةٌ هَكَذَا أَنَّهَا لَمْ تَكُنْ، وَإِنْ فُلَانًا لَمْ يَصْنَعْ كَذَا، وَأَنَّهُ لَمْ يَحْضُرْ مَكَانَ كَذَا، وَإِنْ كَانَ بِمَكَانِ كَذَا فَهُوَ كُلُّهُ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّ الْقَاضِيَ يَعْلَمُ أَنَّهُ مُجَازِفٌ فِي شَهَادَتِهِ إذْ لَا طَرِيقَ لَهُ إلَى مَعْرِفَةِ ذَلِكَ حَقِيقَةً.
فَإِذَا عَلِمَ الْحَاكِمُ أَنَّ الشَّاهِدَ كَاذِبٌ أَوْ مُجَازِفٌ فِي شَهَادَتِهِ لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُمْ أَنَّهُ لَمْ يَحْضُرْ يَوْمئِذٍ ذَلِكَ الْمَكَانَ فَهَذَا نَفْيٌ، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُمْ إنَّهُ كَانَ يَوْمئِذٍ بِمَكَانِ كَذَا وَكَذَا؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ لَيْسَ هُوَ إثْبَاتُ كَوْنِهِ فِي ذَلِكَ الْمَكَانِ، وَإِنَّمَا الْمَقْصُودُ نَفْيُ كَوْنِهِ فِي الْمَكَانِ الَّذِي يَدَّعِيهِ الْمُدَّعِي يَوْمئِذٍ وَالْمُعْتَبَرُ مَا هُوَ الْمَقْصُودُ، أَوْ مِنْ التَّهَاتُرِ أَنْ يُقِيمَ الرَّجُلُ الْبَيِّنَةَ عَلَى حَقٍّ فَيُقْضَى لَهُ بِهِ فَيَقُولُ الْمَقْضِيُّ عَلَيْهِ أَنَا أُقِيمُ بَيِّنَةً أَنَّهُ لِي فَهَذَا لَا يُقْبَلُ مِنْهُ؛ لِأَنَّهُ يُقِيمُ الْبَيِّنَةَ لِإِبْطَالِ قَضَاءِ الْقَاضِي عَلَيْهِ وَدَعْوَاهُ ذَلِكَ غَيْرُ مَسْمُوعٍ فَكَيْفَ تُقْبَلُ بَيِّنَةٌ عَلَيْهِ وَهَذِهِ الْبَيِّنَةُ لَوْ كَانَتْ قَائِمَةً لَهُ عِنْدَ الْقَضَاءِ يَمْتَنِعُ الْقَاضِي مِنْ الْقَضَاءِ لِلْمُدَّعِي فَلَأَنْ لَا يَبْطُلَ الْقَضَاءُ بِهَا أَوْلَى.
(قَالَ) وَلَوْ قَبِلْت مِثْلَ هَذَا لَقَبِلْت مِنْ الْآخَرِ مِثْلَهَا فَيُؤَدِّي إلَى مَا لَا يَتَنَاهَى وَذَكَرَ فِي الْأَصْلِ الْمَسْأَلَةَ الَّتِي بَيَّنَّاهَا فِي كِتَابِ الْحُدُودِ إذَا شَهِدَ أَرْبَعَةٌ عَلَى شُهُودِ الزِّنَا أَنَّهُمْ الْتَزَمَاهُ، وَقَدْ بَيَّنَّاهَا ثَمَّةَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

.بَابُ الشَّهَادَةِ فِي النَّسَبِ وَغَيْرِهِ:

(قَالَ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَإِذَا شَهِدَ شَاهِدَانِ عَلَى رَجُلٍ أَنَّهُ فُلَانُ ابْنُ فُلَانٍ الْفُلَانِيِّ، وَإِنَّ الْمَيِّتَ فُلَانُ ابْنُ فُلَانِ ابْنِ عَمِّهِ وَوَرَثَتُهُ لَا يَعْلَمُونَ لَهُ وَارِثًا غَيْرَهُ وَلِفُلَانٍ ذَلِكَ الْمَيِّتِ دَارٌ فِي يَدِ رَجُلٍ وَهُوَ مُقِرٌّ أَنَّهَا لَهُ غَيْرَ أَنَّهُ لَا يَعْرِفُ لَهُ وَارِثًا فَأَنَا أُجِيزُ شَهَادَةَ هَؤُلَاءِ عَلَى النَّسَبِ وَأَدْفَعُ إلَيْهِ الدَّارَ، وَإِنْ كَانُوا لَمْ يَذْكُرُوا أَبَاهُ اسْتِحْسَانًا) وَهَذِهِ فُصُولٌ أَرْبَعَةٌ النَّسَبُ وَالنِّكَاحُ وَالْقَضَاءُ وَالْمَوْتُ، وَفِي الْقِيَاسِ لَا تَجُوزُ الشَّهَادَةُ فِي شَيْءٍ مِنْهَا بِالتَّسَامُعِ؛ لِأَنَّ الشَّهَادَةَ لَا تَجُوزُ إلَّا بِعِلْمٍ، وَإِنَّمَا يَسْتَفِيدُ الْعِلْمَ بِمُعَايَنَةِ السَّبَبِ، أَوْ بِالْخَبَرِ الْمُتَوَاتِرِ.
فَأَمَّا بِالتَّسَامُعِ لَا يَسْتَفِيدُ الْعِلْمَ.
وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَك بِهِ عِلْمٌ} وَحُكْمُ الْمَالِ أَخَفُّ مِنْ حُكْمِ النِّكَاحِ.
فَإِذَا كَانَتْ الشَّهَادَةُ عَلَى الْمَالِ بِالتَّسَامُعِ لَا تَجُوزُ فَفِي النِّكَاحِ أَوْلَى، وَفِي التَّسَامُعِ الْقَاضِي وَالشَّاهِدُ سَوَاءٌ، ثُمَّ لَا يَجُوزُ لِلْقَاضِي أَنْ يَقْضِيَ بِالتَّسَامُعِ.
فَكَذَلِكَ لَا يَجُوزُ لِلشَّاهِدِ إلَّا أَنَّا اسْتَحْسَنَّا جَوَازَ الشَّهَادَةِ عَلَى هَذِهِ الْأَشْيَاءِ الْأَرْبَعَةِ لِتَعَامُلِ النَّاسِ فِي ذَلِكَ وَاسْتِحْسَانِهِمْ.
(أَلَا تَرَى) أَنَّا نَشْهَدُ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ وَعَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا مَاتَا وَلَمْ نُدْرِكْ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ وَنَشْهَدُ أَنَّ فَاطِمَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا زَوْجَةُ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَأَنَّ أَسْمَاءَ بِنْتَ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَنَشْهَدُ أَنَّ شُرَيْحًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَانَ قَاضِيًا وَنَشْهَدُ أَنَّهُمْ قَدْ مَاتُوا وَلَمْ نُدْرِكْ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ، ثُمَّ هَذِهِ أَسْبَابٌ يَقْضُونَ بِهَا عَلَى مَا يُشْتَهَرُ فَإِنَّ النَّسَبَ يُشْتَهَرُ فِيهَا بِالتَّهْنِئَةِ وَالْمَوْتَ بِالتَّعْزِيَةِ وَالنِّكَاحَ بِالشُّهُودِ وَالْوَلِيمَةَ وَالْقَضَاءَ بِقِرَاءَةِ الْمَنْشُورِ فَنَزَلَتْ الشُّهْرَةُ مَنْزِلَةَ الْعِيَانِ فِي إفَادَةِ الْعِلْمِ بِخِلَافِ الْأَمْوَالِ وَغَيْرِهَا.
يُوَضِّحُهُ أَنَّ هَذِهِ الْأُمُورَ قَلَّ مَا يُعَايَنُ سَبَبُهَا حَقِيقَةً فَسَبَبُ النَّسَبِ الْوُلَاةُ وَلَا يَحْضُرُهَا إلَّا الْقَابِلَةُ وَسَبَبُ الْقَضَاءِ تَقْلِيدُ السُّلْطَانِ وَلَا يُعَايِنُ ذَلِكَ إلَّا الْخَوَاصُّ مِنْ النَّاسِ وَالْمَيِّتُ أَيْضًا قَلَّ مَا يُعَايِنُهُ كُلُّ أَحَدٍ وَالنِّكَاحُ كَذَلِكَ إنَّمَا يَحْضُرُهُ الْخَوَاصُّ مِنْ النَّاسِ فَلَوْ لَمْ تَجُزْ الشَّهَادَةُ عَلَيْهَا بِالتَّسَامُعِ أَدَّى إلَى الْحَرَجِ بِخِلَافِ الْبُيُوعِ وَغَيْرِهَا فَإِنَّهُ كَلَامٌ يَسْمَعُهُ كُلُّ وَاحِدٍ وَسَبَبُ الْمِلْكِ هُوَ الْيَدُ وَهُوَ مَا يُعَايِنُهُ كُلُّ أَحَدٍ وَالنِّكَاحُ كَذَلِكَ إنَّمَا يَحْضُرُهُ الْخَوَاصُّ؛ فَلِهَذَا لَا تَجُوزُ الشَّهَادَةُ عَلَيْهَا بِالتَّسَامُعِ، ثُمَّ الْأَحْكَامُ الَّتِي تَتَعَلَّقُ بِهَذِهِ الْأَشْيَاءُ الْأَرْبَعَةُ تَبْقَى بَعْدَ انْقِضَاءِ قُرُونٍ فَلَوْ لَمْ تَجُزْ الشَّهَادَةُ عَلَيْهَا بِالتَّسَامُعِ لَتَعَطَّلَتْ تِلْكَ الْأَحْكَامُ بِانْقِضَاءِ تِلْكَ الْقُرُونِ؛ وَلِهَذَا قُلْنَا فِي الصَّحِيحِ مِنْ الْجَوَابِ إنَّ الشَّهَادَةَ عَلَى أَصْلِ الْوَقْفِ بِالتَّسَامُعِ جَائِزَةٌ، وَلَكِنْ عَلَى شَرَائِطِ الْوَقْفِ لَا تَجُوزُ الشَّهَادَةُ بِالتَّسَامُعِ؛ لِأَنَّ أَصْلَ الْوَقْفِ يُشْتَهَرُ.
فَأَمَّا شَرَائِطُهُ لَا تُشْتَهَرُ وَلَا بُدَّ لِلشَّاهِدِ مِنْ نَوْعِ عِلْمٍ لِيَشْهَدَ فَإِنْ كَانَ الشَّاهِدُ لَا يَعْرِفُ الرَّجُلَ إلَّا أَنَّ الْمُدَّعِيَ أَخْبَرَهُ بِذَلِكَ، أَوْ شَهِدَ بِهِ عِنْدَهُ رَجُلٌ مَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَشْهَدَ حَتَّى يَكُونَ النَّسَبُ مَشْهُورًا، أَوْ شَهِدَ بِهِ عِنْدَهُ رَجُلَانِ عَدْلَانِ لِئَلَّا يَقُولَ الْمُدَّعِي بِشَهَادَةِ رَجُلٍ وَاحِدٍ عِنْدَهُ لَا يَحْصُلُ الِاشْتِهَارُ وَلَا يَتِمُّ شَرْعًا، وَإِنَّمَا ثَبَتَ لَهُ الْعِلْمُ هُنَا بِالِاشْتِهَارِ عُرْفًا أَوْ شَرْعًا فَالِاشْتِهَارُ عُرْفًا بِأَنْ يَعْلَمَهُ أَكْثَرُ النَّاسِ وَالِاشْتِهَارُ شَرْعًا بِشَهَادَةِ رَجُلَيْنِ (أَلَا تَرَى) أَنَّ الْإِعْلَانَ فِي النِّكَاحِ شَرْطٌ، وَيَكُونَ ذَلِكَ شَرْعًا بِشَهَادَةِ رَجُلَيْنِ إلَّا أَنَّ فِيمَا يَتَرَدَّدُ بَيْنَ الصِّدْقِ وَالْكَذِبِ لَا بُدَّ مِنْ عَدَالَةِ الرَّجُلَيْنِ كَمَا فِي الشَّهَادَةِ عِنْدَ الْقَاضِي.
فَإِذَا شَهِدَ بِذَلِكَ عِنْدَهُ رَجُلَانِ فَقَدْ وُجِدَ الْإِشْهَادُ عِنْدَهُ شَرْعًا وَوِلَايَةُ الشَّهَادَةِ دُونَ وِلَايَةِ الْقَضَاءِ.
فَإِذَا كَانَ يَجُوزُ لِلْقَاضِي أَنْ يَقْضِيَ بِشَهَادَةِ رَجُلَيْنِ عِنْدَهُ فَلَأَنْ لَا يَجُوزَ لَهُ إذَا شَهِدَ عِنْدَهُ بِهِ رَجُلَانِ عَدْلَانِ أَوْلَى وَلَوْ قَدِمَ عَلَيْهِ رَجُلٌ مِنْ بَلَدٍ آخَرَ وَانْتَسَبَ لَهُ وَأَقَامَ مَعَهُ دَهْرًا لَمْ يَسَعْهُ أَنْ يَشْهَدَ عَلَى نَسَبِهِ حَتَّى يَلْقَى مِنْ أَهْلِ بَلَدِهِ رَجُلَيْنِ عَدْلَيْنِ مِمَّنْ يَعْرِفُهُ يَشْهَدَانِ لَهُ عَلَى ذَلِكَ، ثُمَّ يَسَعُهُ الشَّهَادَةُ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ يَحْصُلُ لَهُ بِذَلِكَ نَوْعُ عِلْمٍ، وَذَلِكَ كَافٍ فِيمَا لَا يُشْتَرَطُ عَلَيْهِ مُعَايَنَةُ السَّبَبِ وَلَوْ نَظَرَ إلَى رَجُلٍ مَشْهُودٍ بِاسْمِهِ وَنَسَبِهِ غَيْرَ أَنَّهُ لَمْ يُخَالِطْهُ وَلَمْ يَتَكَلَّمْ مَعَهُ وَسِعَهُ أَنْ يَشْهَدَ أَنَّهُ فُلَانُ ابْنُ فُلَانٍ لِحُصُولِ نَوْعِ عِلْمٍ لَهُ بِالِاشْتِهَارِ، وَكَذَلِكَ إذَا رَأَى إنْسَانًا فِي مَجْلِسِ الْقَضَاءِ يَقْضِي بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ فَهُوَ فِي سَعَةٍ مِنْ الشَّهَادَةِ عَلَى أَنَّهُ قَاضِيًا لِحُصُولِ الْعِلْمِ لَهُ بِذَلِكَ الْإِشْهَادِ وَالشَّهَادَةُ إنَّمَا تَجِبُ عَلَيْهِ بِالْعِلْمِ لَا بِالتَّكَلُّمِ وَالْمُخَالَطَةِ.
فَإِذَا حَصَلَ الْعِلْمُ لَهُ بِالْإِشْهَادِ حَلَّ لَهُ أَدَاءُ الشَّهَادَةِ.
وَلَوْ مَاتَ رَجُلٌ فَأَقَامَ آخَرُ الْبَيِّنَةَ أَنَّ الْمَيِّتَ فُلَانُ ابْنُ فُلَانٍ، وَأَنَّهُ فُلَانُ ابْنُ فُلَانٍ حَتَّى يَلْتَقُوا إلَى أَبِ وَاحِدٍ وَهُوَ عَصَبَتُهُ وَأَقَارِبُهُ لَا يَعْلَمُونَ لَهُ وَارِثًا غَيْرَهُ قَضَيْت لَهُ بِالْمِيرَاثِ؛ لِأَنَّهُ أَثْبَتَ سَبَبَ الْوِرَاثَةِ مُفَسَّرًا بِالْحُجَّةِ فَإِنْ جَاءَ آخَرُ وَأَقَامَ الْبَيِّنَةَ أَنَّ الْمَيِّتَ ابْنُهُ وُلِدَ عَلَى فِرَاشِهِ، وَإِنَّ هَذَا أَبُوهُ لَا وَارِثَ لَهُ غَيْرَهُ جَعَلْت الْمِيرَاثَ لِهَذَا وَأَبْطَلْت الْقَضَاءَ لِلْأَوَّلِ؛ لِأَنَّ الْبَيِّنَةَ الثَّابِتَةَ طَاعِنَةٌ فِي الْبَيِّنَةِ الْأُولَى دَافِعَةٌ لَهَا فَإِنَّهُ يَتَبَيَّنُ بِهَا أَنَّ الْأَوَّلَ لَمْ يَكُنْ خَصْمًا فِي إثْبَاتِ نَسَبِ الْمَيِّتِ، وَأَنَّهُ كَانَ مَحْجُوبًا عَنْ الْمِيرَاثِ بِمَنْ هُوَ أَقْرَبُ مِنْهُ وَلَا تُقْبَلُ الْبَيِّنَةُ مِنْ غَيْرِ خَصْمٍ؛ فَلِهَذَا يَبْطُلُ الْقَضَاءُ الْأَوَّلُ.
وَإِنْ أَقَامَ الثَّانِي الْبَيِّنَةَ أَنَّ الْمَيِّتَ فُلَانُ ابْنُ فُلَانٍ وَنَسَبَهُ إلَى أب آخَرَ وَقَبِيلَةٍ أُخْرَى، وَأَنَّهُ فُلَانُ ابْنُ فُلَانٍ عَمُّهُ إلَى أب وَاحِدٍ لَا وَارِثَ لَهُ غَيْرُهُ لَمْ أُحَوِّلْ النَّسَبَ بَعْدَ أَنْ يَثْبُتَ مِنْ فَخِذٍ وَمِنْ أب إلَى أَنْ يَجِيءَ مَنْ هُوَ أَقْرَبُ مِنْ الَّذِي جَعَلْت لَهُ الْمِيرَاثَ؛ لِأَنَّ الْبَيِّنَةَ الثَّانِيَةَ لَيْسَتْ بِطَاعِنَةٍ فِي الْأُولَى، وَلَكِنَّهَا مُعَارِضَةٌ لِلْأُولَى، وَعِنْدَ الْمُعَارَضَةِ الْأُولَى تُرَجَّحُ الْأُولَى لِاتِّصَالِ الْقَضَاءِ بِهَا فَلَا تُقْبَلُ الْبَيِّنَةُ الثَّانِيَةُ؛ لِأَنَّ الْجَمْعَ بَيْنَهُمَا مُتَعَذَّرٌ وَالْقَضَاءُ النَّافِذُ لَا يَجُوزُ إبْطَالُهُ بِدَلِيلٍ مُشْتَبَهٍ وَهُوَ كَمَنْ ادَّعَى دَابَّةً فِي يَدِ إنْسَانٍ أَنَّهَا لَهُ، ثُمَّ أَقَامَ الْبَيِّنَةَ فَقَضَى الْقَاضِي بِهَا لَهُ، ثُمَّ أَقَامَ ذُو الْيَدِ الْبَيِّنَةَ أَنَّهَا لَهُ لَمْ يُقْبَلْ ذَلِكَ مِنْهُ وَلَوْ أَقَامَ الْبَيِّنَةَ عَلَى النِّتَاجِ قَبْلَ ذَلِكَ مِنْهُ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْبَيِّنَةَ طَاعِنَةٌ فِي الْبَيِّنَةِ الْأُولَى دَافِعَةٌ لَهَا، وَكَذَلِكَ إنْ أَقَامَ رَجُلٌ الْبَيِّنَةَ عَلَى نِكَاحِ امْرَأَةٍ بِتَارِيخٍ وَقَضَى الْقَاضِي لَهُ بِذَلِكَ، ثُمَّ أَقَامَ آخَرُ الْبَيِّنَةَ عَلَى نِكَاحِهِ بِذَلِكَ التَّارِيخِ أَيْضًا لَمْ تُقْبَلْ وَلَوْ أَقَامَ الْبَيِّنَةَ عَلَى النِّكَاحِ بِتَارِيخٍ سَابِقٍ قُبِلَتْ بَيِّنَتُهُ؛ لِأَنَّهَا طَاعِنَةٌ فِي الْبَيِّنَةِ الْأُولَى وَإِذَا شَهِدَ شَاهِدٌ أَنَّ هَذَا أَعْتَقَ فُلَانًا، وَأَنَّهُ مَوْلَاهُ وَعَصَبَتُهُ لَا وَارِثَ لَهُ غَيْرُهُ فَإِنْ كَانَ قَدْ أَدْرَكَ الْمُعْتَقَ وَسَمِعَ الْعِتْقَ مِنْهُ فَشَهَادَتُهُمَا جَائِزَةٌ، وَإِنْ كَانَ لَمْ يُدْرِكَاهُ وَلَمْ يَسْمَعَا الْعِتْقَ مِنْهُ لَمْ تَجُزْ شَهَادَتُهُمَا فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ، وَفِي رِوَايَةِ أَبِي حَفْصٍ رَحِمَهُ اللَّهُ فَلَا، وَهَذَا قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ الْأَوَّلُ رَحِمَهُمَا اللَّهُ، ثُمَّ رَجَعَ أَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ فَقَالَ إذَا شَهِدُوا عَلَى وَلَاءٍ مَشْهُورٍ فَهُوَ كَشَهَادَتِهِمْ بِالنَّسَبِ، وَإِنْ لَمْ يَسْمَعُوا ذَلِكَ مِنْهُ وَلَمْ يُدْرِكُوهُ؛ لِأَنَّ الْوَلَاءَ كَالنَّسَبِ، ثُمَّ الشَّهَادَةُ عَلَى النَّسَبِ بِطَرِيقِ التَّسَامُعِ وَالشُّهْرَةِ جَائِزَةٌ.
فَكَذَلِكَ عَلَى الْوَلَاءِ؛ لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَرَنَ بَيْنَهُمَا فَقَالَ «الْوَلَاءُ لُحْمَةٌ كَلُحْمَةِ النَّسَبِ» (أَلَا تَرَى) أَنَّا نَشْهَدُ أَنَّ قَنْبَرًا مَوْلَى عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَعِكْرِمَةَ مَوْلَى ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، وَإِنْ لَمْ نُدْرِكْ ذَلِكَ.
ثُمَّ الْحُكْمُ الْمُتَعَلِّقُ بِالْوَلَاءِ يَبْقَى بَعْدَ مُضِيِّ قَرْنٍ كَالْحُكْمِ الْمُتَعَلِّقِ بِالنَّسَبِ فَلَوْ لَمْ تَجُزْ الشَّهَادَةُ عَلَيْهِ بِالتَّسَامُعِ تَعَطَّلَتْ الْأَحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالْوَلَاءِ وَالشَّرْعُ جَعَلَ الْوَلَاءَ كَالنَّسَبِ فِي حَقِّ وُجُوبِ الِانْتِمَاءِ فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «مَنْ انْتَسَبَ إلَى غَيْرِ أَبِيهِ، أَوْ انْتَمَى إلَى غَيْرِ مَوَالِيهِ فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ لَا يَقْبَلُ اللَّهُ مِنْهُ صَرْفًا وَلَا عَدْلًا» وَجْهُ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ أَنَّ الْعِتْقَ إزَالَةُ مِلْكِ الْيَمِينِ بِالْقَوْلِ فَلَا تَجُوزُ الشَّهَادَةُ عَلَيْهِ بِالتَّسَامُعِ كَالْبَيْعِ وَبَيَانُهُ فِيمَا قَرَّرْنَا أَنَّ الْعِتْقَ كَلَامٌ يَسْمَعُهُ النَّاسُ كَالْبَيْعِ، وَلَيْسَ كَالْوِلَادَةِ فَلَا حَاجَةَ إلَى إقَامَةِ التَّسَامُعِ فِيهِ مَقَامَ الْبَيِّنَةِ، ثُمَّ لَا يَقْتَرِنُ لِسَبَبِ الْوَلَاءِ مَا يُشْتَهَرُ بِهِ فَالْإِنْسَانُ يُعْتِقُ عَبْدَهُ وَلَا يَعْلَمُ بِهِ غَيْرَهُ فَكَانَ هَذَا دُونَ الْبَيْعِ؛ لِأَنَّ الْبَيْعَ لَا يَنْعَقِدُ مَا لَمْ يَعْلَمْ بِهِ الْمُشْتَرِي وَالْعِتْقُ نَافِذٌ، وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ الْمُعْتِقُ بِخِلَافِ الطَّلَاقِ وَمَا تَقَدَّمَ؛ لِأَنَّهُ مُقْتَرِنٌ بِأَسْبَابِهَا مَا يُشْتَهَرُ مِنْ الْوَجْهِ الَّذِي قَرَّرْنَا.
وَكَذَلِكَ لَوْ شَهِدُوا أَنَّ فُلَانًا أَعْتَقَ أَبَا فُلَانٍ، وَأَنَّ فُلَانَ ابْنَ فُلَانٍ عَصَبَةَ فُلَانٍ الَّذِي أَعْتَقَ وَعَصَبَةَ فُلَانٍ الْمُعْتَقِ فَإِنِّي لَا أُجِيزَ شَهَادَتَهُمَا حَتَّى يَنْسُبَا الَّذِي أَعْتَقَ وَعَصَبَتُهُ إلَى أب وَاحِدٍ يَلْتَقِيَانِ إلَيْهِ، وَإِنْ لَمْ يُدْرِكَا ذَلِكَ لَمْ يَضُرَّهُمَا بَعْدَ أَنْ يَشْهَدَا عَلَى سَمَاعِ الْعِتْقِ مِنْ الْمُعْتَقِ، ثُمَّ أَنَّ الْمُعْتَقَ مَاتَ وَتَرَكَ ابْنَهُ، ثُمَّ مَاتَ ابْنُهُ وَلَا يَعْلَمَانِ لَهُ وَارِثًا غَيْرَهُ، وَأَنَّهُ لَا يُنْسَبُ لَهُ وَلَا وَلَاءَ سِوَاهُ فَحِينَئِذٍ تُقْبَلُ شَهَادَتُهُمْ؛ لِأَنَّ الْقَاضِيَ لَا يَقْضِي بِالْمِيرَاثِ مَا لَمْ يُفَسِّرُوا بِنَسَبِ الْوِرَاثَةِ، وَإِنَّمَا يَسِيرُ مُفَسَّرًا مَعْلُومًا عِنْدَهُ بِمَا ذُكِرَ غَيْرَ أَنَّ فِي النَّسَبُ شَهَادَتُهُمْ بِالتَّسَامُعِ مَقْبُولَةٌ، وَفِي الْوَلَاءِ لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُمْ مَا لَمْ يَسْمَعُوا الْعِتْقَ مِنْ الْمُعْتَقِ إلَّا عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ كَمَا بَيَّنَّا قَالَ وَلَسْت أُكَلِّفُهُمْ فِي الْمَوَارِيثِ أَنَّهُ لَا وَارِثَ لَهُ غَيْرَهُ.
وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى رَحِمَهُ اللَّهُ مَا لَمْ يَشْهَدُوا بِذَلِكَ لَا يَقْضِي الْقَاضِي بِالْمِيرَاثِ لَهُ؛ لِأَنَّ سَبَبُ اسْتِحْقَاقِهِ لَا يَصِيرُ مَعْلُومًا لِلْقَاضِي إلَّا بِهِ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ هُنَاكَ مَنْ يُزَاحِمُ أَوْ يَتَرَجَّحُ عَلَيْهِ فَلَا يَكُونُ هُوَ وَارِثًا مَعَ ثُبُوتِ مَا فَسَّرَ الشُّهُودُ مِنْ السَّبَبِ، وَلَكِنَّا نَقُولُ قَوْلُهُمْ لَا وَارِثَ لَهُ غَيْرَهُ نَفْيٌ لَا طَرِيقَ لَهُمْ إلَى مَعْرِفَةِ ذَلِكَ فَلَوْ كَلَّفَهُمْ الْقَاضِي أَنْ يَشْهَدُوا بِذَلِكَ لَكَلَّفَهُمْ عَلَى ذَلِكَ شَطَطًا وَحَمَلَهُمْ عَلَى الْكَذِبِ وَإِلَيْهِ أَشَارَ فِي الْكِتَابِ (فَقَالَ) مِنْ قِبَلِ أَنَّ هَذَا عَيْبٌ يَحْمِلُهُمْ الْقَاضِي عَلَيْهِ، أَوْ قَالَ عَنَتٌ يَحْمِلُهُمْ الْقَاضِي عَلَيْهِ وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَشْهَدُونَ بِمَا لَا يَعْلَمُونَ، وَإِنْ قَالُوا لَا نَعْلَمُ لَهُ وَارِثًا غَيْرَهُ فَهَذَا يَكْفِي وَعَلَى قَوْلِ ابْنِ أَبِي لَيْلَى رَحِمَهُ اللَّهُ لَا يَكْفِي؛ لِأَنَّ هَذَا لَيْسَ مِنْ الشَّهَادَةِ فِي شَيْءٍ فَإِنَّهُمْ يَشْهَدُونَ بِمَا يَعْلَمُونَ لَا بِمَا لَا يَعْلَمُونَ وَكَمَا أَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ ذَلِكَ فَالْقَاضِي لَا يَعْلَمُ وَنَحْنُ نُسَلِّمُ أَنَّ الْمَشْهُودَ بِهِ لَا يَثْبُتُ بِهِ بِهَذَا اللَّفْظِ، وَلَكِنَّ اسْتِحْقَاقَ الْمِيرَاثِ لَهُ بِالسَّبَبِ الَّذِي أَثْبَتَهُ الشُّهُودُ مُفَسَّرًا إلَّا أَنَّهُمْ إذَا لَمْ يَذْكُرُوا هَذِهِ الزِّيَادَةَ كَانَ عَلَى الْقَاضِي أَنْ يَتَلَوَّمَ فَرُبَّمَا يَظْهَرُ وَارِثٌ آخَرُ مُزَاحِمٌ لَهُ أَوْ مُقَدَّمٌ عَلَيْهِ فَهُمْ بِهَذَا اللَّفْظِ كَفَوْا الْقَاضِيَ مُؤْنَةَ التَّلَوُّمِ.
وَنَظَرُوا فِي ذَلِكَ لِأَنْفُسِهِمْ فَتَحَرَّزُوا عَنْ الْكَذِبِ وَالْمُجَازَفَةِ؛ لِأَنَّهُمْ لَوْ قَالُوا لَا وَارِثَ لَهُ غَيْرَهُ كَانُوا مُجَازِفِينَ فِي ذَلِكَ فَتَحَرَّزُوا بِقَوْلِهِمْ لَا نَعْلَمُ لَهُ وَارِثًا غَيْرَهُ، وَفِي الْحَقِيقَةِ مُرَادُهُمْ هُوَ الْأَوَّلُ فَمَا يَكُونُ مِنْ سِبَابِ التَّحَرُّزِ عَنْ الْكَذِبِ لَا يَكُونُ قَدْحًا فِي شَهَادَتِهِمْ، وَلَوْ شَهِدُوا أَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ لَهُ وَارِثًا بِأَرْضِ كَذَا وَكَذَا غَيْرُ فُلَانٍ جَازَ ذَلِكَ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ وَلَمْ يَجُزْ ذَلِكَ فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ حَتَّى يَقُولُوا مُبْهَمَةً لَا نَعْلَمُ لَهُ وَارِثًا غَيْرَهُ؛ لِأَنَّ فِي تَخْصِيصِهِمْ مَكَانًا إيهَامًا أَنَّهُمْ يَعْلَمُونَ لَهُ وَارِثًا فِي غَيْرِ ذَلِكَ الْمَكَانِ أَرَأَيْت لَوْ قَالُوا لَا نَعْلَمُ لَهُ وَارِثًا سِوَاهُ فِي هَذَا الْمَجْلِسِ أَكَانَ يَقْتَضِي بِالْمِيرَاثِ لَهُمْ وَأَبُو حَنِيفَةَ يَقُولُ هَذَا اللَّفْظُ مُبْهَمٌ لِلْمُبَالَغَةِ فِي بَيَانِ أَنَّهُ لَا وَارِثَ لَهُ غَيْرُهُ وَمَعْنَاهُ أَنَّ بَلَدَهُ كَذَا وَمَوْلِدَهُ كَذَا وَمَسْقَطَ رَأْسِهِ كَذَا وَلَا نَعْلَمُ لَهُ بِهَا وَارِثًا غَيْرَهُ فَأَحْرَى أَنْ لَا يَكُونَ لَهُ وَارِثًا آخَرَ فِي مَكَان آخَرَ، ثُمَّ تَخْصِيصُهُمْ هَذَا الْمَكَانَ بِالذِّكْرِ فِي هَذَا اللَّفْظِ لَغْوٌ؛ لِأَنَّ مَا لَا يَعْلَمُ الْمَرْءَ لَا يَخْتَصُّ بِمَكَانٍ دُونَ مَكَان فَهُوَ، وَمَا لَوْ أَطْلَقُوا سَوَاءٌ.
وَقَوْلُهُمَا أَنَّ هَذَا إيهَامُ فُلَانٍ كَانَ كَذَلِكَ فَهُوَ مَفْهُومٌ وَالْمَفْهُومُ لَا يُقَابِلُ الْمَنْطُوقَ وَالْأَصْلُ فِي ذَلِكَ مَا رُوِيَ «أَنَّ ثَابِتَ بْنَ الدَّحْدَاحِ لَمَّا مَاتَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَهْلِ قَبِيلَتِهِ هَلْ تَعْرِفُونَ لَهُ فِيكُمْ نَسَبًا قَالُوا لَا إلَّا أَنَّ ابْنَ أُخْتٍ لَهُ فَجَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِيرَاثَهُ لِأَبْنِ أُخْتِهِ ابْنِ لُبَانَةَ بْنِ عَبْدِ الْمُنْذِرِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ» فَقَدْ ذَكَرُوا أَنَّهُمْ لَا يَعْرِفُونَ لَهُ فِيهِمْ وَارِثًا وَنَسَبًا وَلَمْ يُكَلِّفْهُمْ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ.
وَلَوْ ادَّعَى رَجُلَانِ وَلَاءَ رَجُلٍ وَاحِدٍ فَأَقَامَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بَيِّنَةً أَنَّهُ أَعْتَقَهُ وَهُوَ يَمْلِكُهُ وَلَا يَعْلَمُونَ لَهُ وَارِثًا غَيْرَهُ جَعَلْت الْوَلَاءَ بَيْنَهُمَا وَالْمِيرَاثَ؛ لِأَنَّهُمَا اسْتَوَيَا فِي سَبَبِ الِاسْتِحْقَاقِ وَالْوَلَاءُ إمَّا أَنْ يُعْتَبَرَ بِالنَّسَبِ وَلَوْ أَقَامَا الْبَيِّنَةَ عَلَى نَسَبِهِ كَانَ الْمِيرَاثُ بَيْنَهُمَا لِاسْتِوَائِهِمَا فِي النَّسَبِ، أَوْ يُجْعَلَ الْوَلَاءُ كَالْمِلْكِ؛ لِأَنَّهُ أَثَرٌ مِنْ آثَارِ الْمِلْكِ.
وَإِذَا اسْتَوَيَا فِي إقَامَةِ الْبَيِّنَةِ عَلَى الْمِلْكِ يُقْضَى بِالْمِلْكِ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ فَإِنْ أَقَامَ أَحَدُهُمَا بَيِّنَةً قَبْلَ صَاحِبِهِ وَقَضَيْت لَهُ، ثُمَّ أَقَامَ الْآخَرُ بَعْدَ ذَلِكَ بَيِّنَةً لَمْ تُقْبَلْ مِنْهُ وَلَمْ يُشَارِكْ الْأَوَّلُ؛ لِأَنَّ الْوَلَاءَ كَالنَّسَبِ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ لَا يَحْتَمِلُ النَّقْضَ وَالْفَسْخَ وَلَا يَحْتَمِلُ النَّقْلَ مِنْ شَخْصٍ إلَى شَخْصٍ، ثُمَّ فِي النَّسَبِ إذَا تَرَجَّحَتْ الْبَيِّنَةُ الْأُولَى بِالْقَضَاءِ لَمْ تُقْبَلْ الثَّانِيَةُ بَعْدَ ذَلِكَ.
فَكَذَلِكَ فِي الْوَلَاءِ.
وَلَوْ شَهِدَ رَجُلٌ عَلَى رَجُلٍ أَنَّ مَوْلَاهُ أَعْتَقَ أُمَّهُ، ثُمَّ وَلَدَتْ بَعْدَ الْعِتْقِ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنْ فُلَانٍ وَهُوَ عَبْدٌ لِفُلَانٍ فَقَضَى الْقَاضِي لَهُ بِالْوَلَاءِ، ثُمَّ جَاءَ مَوْلَى الْعَبْدِ وَأَقَامَ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ كَانَ أَعْتَقَ أَبَاهُ فُلَانًا قَبْلَ مَوْتِهِ وَهُوَ لَا وَارِثَ لَهُ غَيْرَهُ جَعَلْت لَهُ الْمِيرَاثَ وَالْوَلَاءَ؛ لِأَنَّ الثَّابِتَ بِالْبَيِّنَةِ كَالثَّابِتِ بِالْمُعَايَنَةِ وَلَوْ عَايَنَا ذَلِكَ حَكَمْنَا بِجَرِّ الْوَلَاءِ إلَى قَوْمِ الْأَبِ.
فَكَذَلِكَ إذَا ثَبَتَ بِالْبَيِّنَةِ، وَهَذَا؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي هَذِهِ الْبَيِّنَةِ إبْطَالُ الْقَضَاءِ الْأَوَّلِ فَإِنَّ الْقَضَاءَ الْأَوَّلَ كَانَ قَضَاءً بِالْوَلَاءِ لِمُعْتَقِ الْأُمِّ؛ لِأَنَّهُ لَا وَلَاءَ لَهُ مِنْ قِبَلِ الْأَبِ وَهُوَ صَحِيحٌ، ثُمَّ بَقِيَ ذَلِكَ الْوَلَاءُ عِنْدَ الْمَوْتِ لِعَدَمِ الدَّلِيلِ الْمُحَوَّلِ لَا لِوُجُودِ الدَّلِيلِ الْمَنْفِيِّ.
فَإِذَا أَثْبَتَ الثَّانِي الدَّلِيلَ الْمُحَوَّلَ بِبَيِّنَتِهِ وَجَبَ الْقَضَاءُ بِالْوَلَاءِ وَالْمِيرَاثِ لَهُ بِخِلَافِ الْأَوَّلِ فَهُنَاكَ الْبَيِّنَةُ الثَّانِيَةُ تَقُومُ لِإِبْطَالِ الْقَضَاءِ الْأَوَّلِ بِطَرِيقِ الْمُعَارَضَةِ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ عِنْدَ الْمُعَارَضَةِ الْأُولَى يَتَرَجَّحُ بِالْقَضَاءِ فَإِنَّ نَقْضَ الْقَضَاءُ بِدَلِيلٍ مُحْتَمَلٍ لَا يَجُوزُ وَإِذَا شَهِدَا عَلَى مَوْتِ رَجُلٍ وَأَقَرَّ أَنَّهُمَا لَمْ يُعَايِنَا ذَلِكَ لَمْ تَجُزْ إلَّا أَنْ يَكُونَ مَشْهُورَ الْمَوْتِ؛ لِأَنَّهُ إذْ لَمْ يَكُنْ مَشْهُورًا وَأَقَرَّ أَنَّهُمَا لَمْ يُعَانِيَا فَقَدْ أَقَرَّ أَنَّهُمَا يَشْهَدَانِ بِغَيْرِ عِلْمٍ.
وَإِذَا كَانَ مَشْهُورَ الْمَوْتِ فَإِنَّمَا يَشْهَدَانِ بِمَا يَعْلَمَانِهِ بِالشُّهْرَةِ، وَإِنْ قَالَا نَشْهَدُ بِأَنَّهُ مَاتَ أَجَزْت ذَلِكَ وَإِلَّا اسْتَفْسَرَهُمَا؛ لِأَنَّ مُطْلَقَ الشَّهَادَةِ يَجِبُ حَمْلُهَا عَلَى سَبَبٍ صَحِيحٍ كَمَا لَوْ شَهِدَ بِمُطْلَقِ الْمِلْكِ قُبِلَتْ شَهَادَتُهُمَا وَلَا يَسْتَفْسِرَانِ أَنَّهُمَا يَشْهَدَانِ بِذَلِكَ بِظَاهِرِ الْيَدِ، أَوْ غَيْرِهِ، وَكَذَلِكَ إنْ قَالَ نَحْنُ دَفَنَّاهُ، أَوْ شَهِدْنَا جِنَازَتَهُ فَهَذَا مِنْهُمَا شَهَادَةٌ بِمَوْتِهِ؛ لِأَنَّ الْحَيَّ لَا يُدْفَنُ وَلَا يُصَلَّى عَلَى جِنَازَتِهِ.
وَإِذَا أَخْبَرَ الرَّجُلُ الْمَدْيُونُ بِهِ، أَوْ الْمَرْأَةُ أَنَّهُ عَايَنَ مَوْتَ فُلَانٍ فَاَلَّذِي انْتَهَى إلَيْهِ الْخَبَرُ فِي سَعَةِ مَنْ يَشْهَدُ عَلَى مَوْتِهِ قِيلَ مَعْنَى هَذَا إذَا اشْتَهَرَ عِنْدَ النَّاسِ حَتَّى سَمِعَهُ الشَّاهِدُ مِنْ وَاحِدٍ بَعْدَ وَاحِدٍ.
فَأَمَّا إذَا لَمْ يَسْمَعْهُ إلَّا مِنْ هَذَا الْوَاحِدِ فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَشْهَدَ بِمَوْتِهِ كَمَا فِي النَّسَبِ وَالنِّكَاحِ، وَقَدْ بَيَّنَّا وَقِيلَ بَلْ فِي الْمَوْتِ يَسَعُهُ ذَلِكَ إذَا كَانَ الْمُخْبِرُ ثِقَةً مَوْثُوقًا بِهِ؛ لِأَنَّ أَمْرَ النَّاسِ هَكَذَا يَكُونُ فَالْمَيِّتُ إنَّمَا يُعَايِنُهُ مَنْ يُغَسِّلُهُ، ثُمَّ يُخْبِرُ النَّاسَ بِذَلِكَ فَيَعْتَمِدُونَ خَبَرَهُ وَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ صَادِقٌ فِي مَقَالَتِهِ فَيَجُوزُ لَهُ أَنْ يَعْتَمِدَ هَذَا الْخَبَرَ فِي الشَّهَادَةِ عَلَى مَوْتِهِ.
وَإِذَا جَاءَ مَوْتُ الرَّجُلِ مِنْ أَرْضٍ أُخْرَى فَصَنَعَ أَهْلُهُ مَا يَصْنَعُونَ عَلَى الْمَيِّتِ فَإِنَّهُ لَا يَسَعُ أَحَدٌ أَنْ يَشْهَدَ عَلَى مَوْتِهِ حَتَّى يُخْبِرَ بِهِ مَنْ شَهِدَهُ مِمَّنْ يَثِقُ بِهِ؛ لِأَنَّ مِثْلَ هَذَا الْخَبَرِ قَدْ يَكُونُ حَقًّا، وَقَدْ يَكُونُ بَاطِلًا وَالْغَالِبُ عِنْدَ بُعْدِ الْمَسَافَةِ أَنَّهُ بَاطِلٌ فَلَا يَعْتَمِدُهُ حَتَّى يُخْبِرَهُ مَنْ يَثِقُ بِهِ عَنْ مُعَايَنَةٍ.
فَإِذَا أَخْبَرَهُ بِذَلِكَ وَسِعَهُ أَنْ يَشْهَدَ (أَلَا تَرَى) أَنَّهُ لَوْ مَاتَ مَيِّتٌ فَأُخْرِجَتْ جِنَازَتُهُ حَتَّى يُدْفَنَ وَسِعَ الْجِيرَانُ أَنْ يَشْهَدُوا بِمَوْتِهِ، وَإِنْ لَمْ يُعَايِنُوا ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُمْ سَمِعُوا ذَلِكَ مِمَّا عَايَنَ.
وَإِذَا تَزَوَّجَ امْرَأَةً نِكَاحًا ظَاهِرًا وَدَخَلَ بِهَا عَلَانِيَةً وَأَقَامَ مَعَهَا أَيَّامًا، ثُمَّ مَاتَتْ فَإِنَّهُ يَسَعُ الْجِيرَانَ أَنْ يَشْهَدُوا عَلَى أَنَّهَا امْرَأَتُهُ، وَإِنْ لَمْ يَشْهَدُوا النِّكَاحَ؛ لِأَنَّهُ اقْتَرَنَ بِالنِّكَاحِ مَا أَوْجَبَ تَشْهِيرَهُ أَرَأَيْت لَوْ كَانَ بَيْنَهُمَا وَلَدٌ أَمَا كَانَ يَسَعُهُمْ أَنْ يَشْهَدُوا أَنَّهُ وَلَدُهُمَا، وَإِنْ لَمْ يُعَايِنُوا الْوِلَادَةَ.
فَإِذَا كَانَ يَجُوزُ هَذَا فِيمَا يَنْبَنِي عَلَى النِّكَاحِ.
فَكَذَلِكَ فِي النِّكَاحِ.
وَإِذَا شَهِدَ شَاهِدَانِ أَنَّ فُلَانًا مَاتَ وَتَرَكَ هَذِهِ الدَّارَ مِيرَاثًا لِفُلَانٍ ابْنِهِ هَذَا لَا يَعْلَمُونَ لَهُ وَارِثًا غَيْرَهُ وَلَمْ يُدْرِكُوا فُلَانًا الْمَيِّتَ فَشَهَادَتُهُمْ بَاطِلَةٌ؛ لِأَنَّهُمْ يَشْهَدُونَ بِالْمِلْكِ لِلْمَيِّتِ فَإِنَّ الْوِرَاثَةَ خِلَافَةٌ فَمَا لَمْ يَثْبُتْ الْمِلْكُ لِلْمَيِّتِ لَا يَخْلُفُهُ وَارِثُهُ فِيهِ وَلَا تَجُوزُ الشَّهَادَةُ عَلَى الْمِلْكِ بِالتَّسَامُعِ.
وَإِذَا كَانَ الْقَاضِي يَعْلَمُ أَنَّهُمْ لَمْ يُدْرِكُوا فُلَانًا الْمَيِّتَ فَقَدْ عَلِمَ أَنَّهُمْ جَازَفُوا فِي هَذِهِ الشَّهَادَةِ وَبِهَذَا يَسْتَدِلُّ أَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ فِي مَسْأَلَةِ الْوَلَاءِ فَيَقُولَانِ إنَّ الْوَلَاءَ بِالْعِتْقِ لَا يَثْبُتُ لِلْعِتْقِ إلَّا أَنْ يَكُونَ مَالِكًا فَهُمْ يَشْهَدُونَ بِالْمِلْكِ لَهُ أَوَّلًا وَلَا تَجُوزُ الشَّهَادَةُ عَلَى الْمِلْكِ بِالتَّسَامُعِ؛ وَلِهَذَا قَالَ كَثِيرٌ مِنْ مَشَايِخِنَا رَحِمَهُمُ اللَّهُ فِي الْوَقْفِ إنَّ الشَّهَادَةَ عَلَيْهِ بِالتَّسَامُعِ مِمَّنْ لَا يُدْرِكُ الْوَاقِفَ لَا تُقْبَلُ؛ لِأَنَّهُ مَا لَمْ يَثْبُتْ الْمِلْكُ لِلْوَاقِفِ لَا يَثْبُتُ الْوَقْفُ مِنْ جِهَتِهِ وَالشَّهَادَةُ عَلَى الْمِلْكِ بِالتَّسَامُعِ لَا تَجُوزُ إلَّا أَنَّ أَكْثَرَهُمْ عَلَى جَوَازِ ذَلِكَ فِي الْوَقْفِ اسْتِحْسَانًا لِلضَّرُورَةِ الدَّاعِيَةِ إلَى ذَلِكَ وَتَحْقِيقِ مَقْصُودِ الْوَاقِفِ وَهُوَ التَّأْبِيدُ فِي صَدَقَتِهِ.
وَلَوْ شَهِدُوا عَلَى دَارٍ فِي يَدَيْ رَجُلٍ أَنَّهَا دَارُ جَدِّ هَذَا الْمُدَّعِي وَخِطَّتُهُ، وَقَدْ أَدْرَكُوا الْحَدَّ لَمْ تَجُزْ شَهَادَتُهُمَا حَتَّى يُجِيزُوا الْمَوَارِيثَ؛ لِأَنَّ الْمُدَّعِيَ يَحْتَاجُ إلَى إثْبَاتِ سَبَبِ انْتِقَالِ الْمِلْكِ إلَيْهِ مِنْ الْجَدِّ وَبِثُبُوتِ الْمِلْكِ لِلْجَدِّ لَا يَحْصُلُ هَذَا الْمَقْصُودُ وَلَا يَتَمَكَّنُ الْقَاضِي مِنْ الْقَضَاءِ لَهُ حَتَّى يُجِيزُوا الْمَوَارِيثَ، وَلَوْ شَهِدَ عَلَى إقْرَارِ الَّذِي فِي يَدَيْهِ أَنَّهَا دَارُ جَدِّ هَذَا أَجَزْت ذَلِكَ وَجَعَلْتهَا لَهُ إنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَارِثٌ غَيْرَهُ؛ لِأَنَّ الثَّابِتَ مِنْ إقْرَارِهِ بِالْبَيِّنَةِ كَالثَّابِتِ بِالْمُعَايَنَةِ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْإِقْرَارَ مُوجِبٌ بِنَفْسِهِ قَبْلَ أَنْ يَتَّصِلَ بِهِ الْقَضَاءُ بِخِلَافِ الشَّهَادَةِ فَإِنَّهَا لَا تُوجِبُ شَيْئًا إلَّا بِقَضَاءِ الْقَاضِي وَلَا يَتَمَكَّنُ الْقَاضِي مِنْ الْقَضَاءِ إلَّا بِسَبَبٍ ثَابِتٍ عِنْدَهُ.
وَنَظِيرُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مَا بَيَّنَّا فِي كِتَابِ الدَّعْوَى أَنَّهُمْ إذَا شَهِدُوا أَنَّهَا كَانَتْ لِابْنِهِ، وَقَدْ مَاتَ أَبُوهُ لَا يُقْضَى لَهُ بِشَيْءٍ إلَّا فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ الْآخَرِ بِخِلَافِ مَا إذَا شَهِدُوا عَلَى إقْرَارِ ذِي الْيَدِ بِأَنَّهَا كَانَتْ لِابْنِهِ، وَكَذَلِكَ لَوْ شَهِدُوا أَنَّهَا كَانَتْ مِنْ يَدِ الْمُدَّعِي لَا يَسْتَحِقُّ بِهَذَا شَيْئًا بِخِلَافِ مَا إذَا شَهِدُوا عَلَى إقْرَارِ ذِي الْيَدِ أَنَّهَا كَانَتْ فِي يَدِ الْمُدَّعِي، وَفِي الْكِتَابِ أَشَارَ إلَى الْفَرْقِ.
وَقَالَ إذَا أَقَرَّ ذُو الْيَدِ بِهَذَا فَقَدْ أَخْرَجَهَا مِنْ نَصِيبِهِ فَيُخْرِجُهَا مِنْ يَدِهِ إلَّا أَنْ يَأْتِيَ بِبَيِّنَةٍ بِحَقٍّ لَهُ فِيهَا.
وَإِذَا أَخْرَجْنَاهَا مِنْ يَدِهِ فَلَا مُسْتَحَقَّ لَهَا سِوَى الْمُدَّعِي فَتُدْفَعَ إلَيْهِ.
وَإِذَا شَهِدَ الشُّهُودُ بِغَيْرِ إقْرَارٍ فَهُمْ لَمْ يُثْبِتُوا لِلْمُدَّعِي شَيْئًا إذَا لَمْ يُجِيزُوا الْمَوَارِيثَ إلَيْهِ، وَهَذَا فِي الْحَقِيقَةِ إشَارَةٌ إلَى مَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْإِقْرَارَ مُوجِبٌ بِنَفْسِهِ وَالشَّهَادَةُ لَا تُوجِبُ شَيْئًا بِدُونِ قَضَاءِ الْقَاضِي وَإِذَا كَانَتْ الدَّارُ فِي يَدِ رَجُلٍ فَأَقَامَ ابْنُ أَخِيهِ الْبَيِّنَةَ أَنَّهَا دَارُ جَدِّهِ مَاتَ وَتَرَكَهَا مِيرَاثًا لِابْنِ الِابْنِ وَعَمِّهِ وَلَا يَعْلَمُونَ لَهُ وَارِثًا غَيْرَهُمَا، وَإِنَّ أَبَاهُ مَاتَ وَتَرَكَ نَصِيبَهُ مِنْهَا مِيرَاثًا لَهُ لَا يَعْلَمُونَ لَهُ وَارِثًا غَيْرَهُ، وَإِنْ أَقَامَ الْآخَرُ الْبَيِّنَةَ أَنَّ أَخَاهُ مَاتَ قَبْلَ أَبِيهِ، وَإِنَّ أَبَاهُ قَدْ وَرِثَ مِنْهُ السُّدُسَ، ثُمَّ مَاتَ أَبُوهُ فَوَرِثَهُ هَذَا فَإِنِّي أَقْبَلُ شَهَادَةَ شُهُودِ ابْنِ الْأَخِ؛ لِأَنَّهُ هُوَ الْمُدَّعِي وَمَعْنَى هَذَا أَنَّهُ هُوَ يُثْبِتُ الْمِلْكَ لِنَفْسِهِ فِي نِصْفِ الدَّارِ بِبَيِّنَتِهِ وَذُو الْيَدِ لَا يُثْبِتُ لِنَفْسِهِ شَيْئًا عَلَيْهِ، وَلَكِنْ يَبْقَى بِبَيِّنَتِهِ مَا أَثْبَتَ هُوَ مِنْ نِصْفِ الدَّارِ لِنَفْسِهِ وَالْبَيِّنَاتُ لِلْإِثْبَاتِ لَا لِلنَّفْيِ.
يُوَضِّحُهُ أَنَّا إذَا قَبِلْنَا بَيِّنَةَ ابْنِ الْأَخِ صَارَ ذُو الْيَدِ بِهَا مَقْضِيًّا عَلَيْهِ فِي نِصْفِ الدَّارِ.
وَإِذَا قَبِلْنَا بَيِّنَةَ ذِي الْيَدِ لَا يَصِيرُ ابْنُ الْأَخِ مَقْضِيًّا عَلَيْهِ فِي شَيْءٍ وَالْقَضَاءُ يَسْتَدْعِي مَقْضِيًّا عَلَيْهِ وَكَانَتْ بَيِّنَةُ ابْنِ الْأَخِ أَوْلَى بِذَلِكَ فَإِنْ كَانَ لِأَبٍ الْغُلَامِ مِيرَاثٌ مِنْ تَرِكَةٍ سِوَى الدَّارِ لَمْ أَقْبَلْ بَيِّنَةَ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى صَاحِبِهِ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا هُنَا يُثْبِتُ لِنَفْسِهِ بِبَيِّنَتِهِ شَيْئًا فِي يَدِ ابْنِ الْأَخِ وَهُوَ نِصْفُ الدَّارِ وَالْآخَرُ سُدُسُ تَرِكَةِ أَخِيهِ الَّتِي كَانَتْ فِي يَدِ أَبِيهِ بِطَرِيقِ الْمِيرَاثِ لَهُ مِنْ أَبِيهِ وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَصِيرُ مَقْضِيًّا عَلَيْهِ لَوْ قَبِلْنَا بَيِّنَةَ صَاحِبِهِ عَلَيْهِ فَاسْتَوَيَا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ وَالْأَصْلُ أَنَّ كُلَّ أَمْرَيْنِ ظَهَرَا وَلَا يُعْرَفُ التَّارِيخُ بَيْنَهُمَا يُجْعَلُ كَأَنَّهُمَا وَقَعَا مَعًا.
(أَلَا تَرَى) أَنَّ الْأَبَ وَالِابْنَ إذَا غَرِقَا جَمِيعًا فِي سَفِينَةٍ أَوْ وَقَعَ عَلَيْهِمَا بَيْتٌ وَلَا يُعْلَمُ أَيُّهُمَا مَاتَ أَوَّلًا لَمْ يَرِثْ وَاحِدٌ مِنْهُمَا صَاحِبَهُ.
فَكَذَلِكَ هُنَا لَمَّا تَحَقَّقَتْ الْمُسَاوَاةُ بَيْنَهُمَا فِي التَّارِيخِ جُعِلَا كَأَنَّهُمَا مَاتَا مَعًا فَيَكُونُ مِيرَاثُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لِابْنِهِ فَلَا يَرِثُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِنْ صَاحِبِهِ.
وَلَوْ أَقَامَ رَجُلٌ الْبَيِّنَةَ عَلَى مِيرَاثِ رَجُلٍ أَنَّهُ مَاتَ يَوْمَ كَذَا وَهُوَ ابْنُهُ لَا وَارِثَ لَهُ غَيْرَهُ وَأَقَامَتْ امْرَأَةٌ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ تَزَوَّجَهَا يَوْمَ كَذَا بَعْدَ ذَلِكَ الْيَوْمِ، ثُمَّ مَاتَ بَعْدَ ذَلِكَ فَإِنِّي آخُذُ بِبَيِّنَةِ الْمَرْأَةِ؛ لِأَنَّهَا تُثْبِتُ الْمَهْرَ وَالْمِيرَاثَ فَلَا بُدَّ مِنْ قَبُولِ بَيِّنَتِهَا عَلَى ذَلِكَ طَاعِنَةً فِي بَيِّنَةِ الِابْنِ عَلَى تَارِيخِ الْمَوْتِ فَمِنْ ضَرُورَةِ الْحُكْمِ بِصِحَّةِ النِّكَاحِ مِنْهُ بَعْدَ ذَلِكَ الْحُكْمُ بِحَيَاتِهِ، وَلَوْ أَقَامَتْ امْرَأَةٌ أُخْرَى الْبَيِّنَةَ بَعْد مَا قَضَيْت بِمَوْتِهِ فِي يَوْمٍ وَوَرِثَتْ امْرَأَتُهُ أَنَّهُ تَزَوَّجَهَا بَعْدَ ذَلِكَ الْوَقْتِ الَّذِي ذَكَرُوا فِيهِ مَوْتَهُ قَبِلْت ذَلِكَ أَيْضًا؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْأُخْرَى مُدَّعِيَةٌ مُثْبِتَةٌ الْمَهْرَ وَالْمِيرَاثَ لِنَفْسِهَا، ثُمَّ بَيَّنَتْهَا طَاعِنَةً فِي الْبَيِّنَةِ الْأُخْرَى عَلَى تَارِيخِ الْمَوْتِ وَلَوْ كَانَ الْوَارِثُ أَقَامَ الْبَيِّنَةَ أَنَّ فُلَانًا قَتَلَ أَبَاهُ يَوْمَ كَذَا قَضَيْت بِذَلِكَ، ثُمَّ أَقَامَتْ الْمَرْأَةُ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ تَزَوَّجَهَا بَعْدَ ذَلِكَ الْيَوْمِ، ثُمَّ الْتَفَتَ إلَى بَيِّنَتِهَا قَالَ؛ لِأَنَّ الْقَتْلَ حَقٌّ لَازِمٌ وَالْمَوْتَ لَيْسَ فِيهِ حَقٌّ لَازِمٌ.
وَمَعْنَى هَذَا الْكَلَامِ أَنَّ الِابْنَ بِإِثْبَاتِ فِعْلِ الْقَتْلِ عَلَى الْقَاتِلِ يَثْبُتُ لِنَفْسِهِ مُوجِبُهُ مِنْ قِصَاصٍ، أَوْ دِيَةٍ فَكَانَتْ بَيِّنَتُهُ مُثْبِتَةً وَبَيِّنَةُ الْمَرْأَةِ عَلَى النِّكَاحِ أَيْضًا مُثْبِتَةٌ لِلْمَهْرِ وَالْمِيرَاثِ لَهَا فَلَمَّا اسْتَوَيَا فِي الْإِثْبَاتِ وَتَرَجَّحَتْ بَيِّنَةُ الِابْنِ بِاتِّصَالِ الْقَضَاءِ بِهَا لَمْ تُقْبَلْ بَيِّنَةُ الْمَرْأَةِ بَعْدَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْقَضَاءَ النَّافِذَ لَا يَجُوزُ إبْطَالُهُ بِطَرِيقِ الْمُعَارَضَةِ.
فَأَمَّا فِي الْمَوْتِ الِابْنُ لَا يُثْبِتُ لِنَفْسِهِ فِي إقَامَةِ الْبَيِّنَةِ عَلَى تَارِيخِ الْمَوْتِ حَقًّا فَإِنَّ الْمِيرَاثَ مُسْتَحَقٌّ لَهُ بِالْمَوْتِ لَا بِالتَّارِيخِ فَإِنَّمَا بَقِيَ هُوَ بِتِلْكَ الْبَيِّنَةِ النِّكَاحُ بَعْدَهُ وَبَيِّنَةُ الْمَرْأَةِ تَثْبُتُ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ النَّافِيَ مِنْ الْبَيِّنَتَيْنِ لَا يُعَارِضُ الْمُثْبَتَ فَيَتَرَجَّحُ بَيِّنَتُهَا وَيَتَبَيَّنُ بِهِ بُطْلَانُ الطَّلَاقِ الْأَوَّلِ كَمَا إذَا أَثْبَتَتْ سَبَبَ إرْثٍ مُقَدَّمٍ عَلَى مَا قَضَى الْقَاضِي بِهِ.
يُوَضِّحُ الْفَرْقَ أَنَّ الْقَتْلَ فِعْلٌ يَتَعَلَّقُ بِهِ حُكْمٌ شَرْعًا وَالْفِعْلُ لَا يَتَحَقَّقُ مِنْ الْعَبْدِ إلَّا فِي زَمَانٍ فَكَانَ الِابْنُ مُتَمَكِّنًا مِنْ إثْبَاتِ الْفِعْلِ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ بِالْبَيِّنَةِ لِإِثْبَاتِ حُكْمِهِ.
فَأَمَّا الْمَوْتُ لَيْسَ بِفِعْلٍ مِنْ الْعَبْدِ يَتَعَلَّقُ بِهِ حُكْمٌ لِيَتَمَكَّنَ الِابْنُ مِنْ إثْبَاتِهِ فِي زَمَانٍ بِالْبَيِّنَةِ، وَإِنَّمَا يُمَكِّنُهُ مِنْ إثْبَاتِ الْخِلَافَةِ لِنَفْسِهِ بَعْدَ مَوْتِهِ، وَفِي ذَلِكَ لَا فَرْقَ بَيْنَ مَوْتِهِ فِي وَقْتٍ دُونَ وَقْتٍ، ثُمَّ الْأَصْلُ أَنَّ بَعْدَ الْمُسَاوَاةِ فِي الْإِثْبَاتِ إذَا تَيَقَّنَ الْقَاضِي بِالْكَذِبِ فِي إحْدَى الْبَيِّنَتَيْنِ، وَقَدْ اتَّصَلَ الْقَضَاءُ بِأَحَدِهِمَا فَإِنَّهُ يُعَيِّنُ الْكَذِبَ فِي الْأُخْرَى.
(أَلَا تَرَى) أَنَّهُ لَوْ قَامَتْ عَلَيْهِ بَيِّنَةٌ أَنَّهُ تَزَوَّجَ هَذِهِ الْمَرْأَةَ يَوْمَ النَّحْرِ بِمِلْكِهِ فَقَضَى الْقَاضِي بِهَا، ثُمَّ شَهِدَ شَاهِدَانِ آخَرَانِ أَنَّهُ تَزَوَّجَ هَذِهِ الْأُخْرَى يَوْمَ النَّحْرِ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ بِخُرَاسَانَ لَمْ تَجُزْ الشَّهَادَةُ الثَّانِيَةُ؛ لِأَنَّا نَتَيَقَّنُ بِكَذِبِ أَحَدِ الْفَرِيقَيْنِ، وَقَدْ تَرَجَّحَ جَانِبُ الصِّدْقِ فِي الْبَيِّنَةِ الْأُولَى بِاتِّصَالِ الْقَضَاءِ بِهَا فَيَتَعَيَّنُ الْكَذِبُ فِي الْبَيِّنَةِ الثَّانِيَةِ.
فَكَذَلِكَ فِيمَا تَقَدَّمَ مِنْ مَسْأَلَةِ الْقَتْلِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.