فصل: كِتَابُ الرُّجُوعِ عَنْ الشَّهَادَةِ:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: المبسوط



.كِتَابُ الرُّجُوعِ عَنْ الشَّهَادَةِ:

(قَالَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ الْأَجَلُّ الزَّاهِدُ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ وَفَخْرُ الْإِسْلَامِ أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي سَهْلٍ السَّرَخْسِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ إمْلَاءً: اعْلَمْ بِأَنَّ أَدَاءَ الشَّهَادَةِ بِالْحَقِّ مَأْمُورٌ بِهِ شَرْعًا) قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ} أُمِرُوا بِهِ لِلْوُجُوبِ.
وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إذَا مَا دُعُوا} وَالنَّهْيُ عَنْ الْإِبَاءِ عِنْدَ الدُّعَاءِ أَمْرٌ بِالْحُضُورِ لِلْأَدَاءِ.
وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ} وَاسْتِحْقَاقُ الْوَعِيدِ بِتَرْكِ الْوَاجِبِ.
وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «كَاتِمُ الشَّهَادَةِ بِالْحَقِّ كَشَاهِدِ الزُّورِ» وَشَهَادَةُ الزُّورِ مِنْ الْكَبَائِرِ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي خُطْبَتِهِ «أَيُّهَا النَّاسُ عُدِلَتْ شَهَادَةُ الزُّورِ بِالْأَشْرَاكِ بِاَللَّهِ تَعَالَى، ثُمَّ تَلَا قَوْله تَعَالَى {فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنْ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ}» وَفِي هَذَا بَيَانُ كَرَامَةِ الْمُؤْمِنِ فَقَدْ جَعَلَ اللَّهُ تَعَالَى الشَّهَادَةَ عَلَيْهِ بِمَا لَا أَصْلَ لَهُ بِمَنْزِلَةِ شَهَادَةِ الْكَافِرِ عَلَى ذَاتِهِ بِمَا لَا أَصْلَ لَهُ مِنْ شَرِيكٍ، أَوْ صَاحِبٍ، أَوْ وَلَدٍ.
وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «أَلَا أُنَبِّئُكُمْ بِأَكْبَرِ الْكَبَائِرِ قَالُوا نَعَمْ قَالَ الْإِشْرَاكُ بِاَللَّهِ وَعُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ وَكَانَ مُتَّكِئًا فَاسْتَوَى جَالِسًا، ثُمَّ قَالَ أَلَا وَقَوْلُ الزُّورِ فَجَعَلَ يُكَرِّرُهَا حَتَّى قُلْنَا لَيْتَهُ يَسْكُتُ»، وَفِي رِوَايَةٍ سَأَلَهُ رَجُلٌ عَنْ الْكَبَائِرِ فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «الْإِشْرَاكُ بِاَللَّهِ وَعُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ وَقَتْلُ النَّفْسِ بِغَيْرِ حَقٍّ وَقَوْلُ الزُّورِ»، وَفِي حَدِيث سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ الشَّاهِدُ بِالزُّورِ لَا يَرْفَعُ قَدَمَيْهِ مِنْ مَكَانِهِمَا حَتَّى تَلْعَنَهُ الْمَلَائِكَةُ فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ» فَيَحِقُّ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ الِاجْتِنَابُ عَنْهَا بِجُهْدِهِ وَالتَّوْبَةُ عَنْهَا مَتَى وَقَعَ فِيهَا خَطَأً، أَوْ عَمْدًا، وَذَلِكَ بِأَنْ يَرْجِعَ عَنْ الشَّهَادَةِ وَلْيَكُنْ رُجُوعُهُ فِي مَجْلِسِ الْقَضَاءِ؛ لِأَنَّهُ فَسْخٌ لِلشَّهَادَةِ الَّتِي أَدَّاهَا.
وَقَدْ اخْتَصَّتْ الشَّهَادَةُ بِمَجْلِسِ الْقَضَاءِ فَالرُّجُوعُ عَنْهَا كَذَلِكَ، وَهَذَا لِأَنَّ التَّوْبَةَ بِحَسْبِ الْجَرِيمَةِ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «السِّرُّ بِالسِّرِّ وَالْعَلَانِيَةُ بِالْعَلَانِيَةِ».
فَإِذَا كَانَتْ جَرِيمَتُهُ فِي مَجْلِسِ الْقَضَاءِ جَهْرًا فَلْتَكُنْ تَوْبَتُهُ بِالرُّجُوعِ كَذَلِكَ وَلَا يَمْنَعُهُ الِاسْتِحْيَاءُ مِنْ النَّاسِ وَخَوْفُ اللَّائِمَةِ مِنْ إظْهَارِ الرُّجُوعِ فِي مَجْلِسِ الْقَضَاءِ فَلَأَنْ يُرَاقِبَ اللَّهَ تَعَالَى خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يُرَاقِبَ النَّاسَ وَرُجُوعُهُ صَحِيحٌ مَقْبُولٌ فِي حَقِّهِ، وَإِنْ كَانَ مَرْدُودًا فِيمَا يَرْجِعُ إلَى حَقِّ غَيْرِهِ حَتَّى إذَا رَجَعَ قَبْلَ الْقَضَاءِ لَمْ يَقْضِ الْقَاضِي بِشَهَادَتِهِ لِبُطْلَانِهَا بِالرُّجُوعِ.
وَإِذَا رَجَعَ بَعْدَ الْقَضَاءِ لَمْ يَبْطُلُ بِرُجُوعِهِ حَقُّ الْمَقْضِيِّ لَهُ وَالْأَصْلُ فِيهِ الْحَدِيثُ الَّذِي بَدَأَ الْكِتَابَ بِهِ وَرَوَاهُ عَنْ الشَّعْبِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ رَجُلَيْنِ شَهِدَا عِنْدَ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَلَى رَجُلٍ بِالسَّرِقَةِ فَقَطَعَ يَدَهُ، ثُمَّ آتَيَا بَعْدَ ذَلِكَ بِآخَرَ فَقَالَ أَوْهَمْنَا إنَّمَا السَّارِقُ هَذَا فَقَالَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَهُمَا لَا أُصَدِّقُكُمَا عَلَى هَذَا الْآخَرِ وَأُضَمِّنُكُمَا دِيَةَ يَدِ الْأَوَّلِ، وَلَوْ أَنِّي أَعْلَمُكُمَا فَعَلْتُمَا ذَلِكَ عَمْدًا قَطَعْت أَيْدِيَكُمَا فَفِيهِ دَلِيلٌ أَنَّ الرُّجُوعَ عَنْ الشَّهَادَةِ صَحِيحٌ فِي حَقِّهِ، وَأَنَّهُ عِنْدَ الرُّجُوعِ ضَامِنٌ مَا اُسْتُحِقَّ بِشَهَادَتِهِ، وَأَنَّهُ غَيْرُ مُصَدَّقٍ فِي حَقِّ غَيْرِهِ لِلتَّنَاقُضِ فِي كَلَامِهِ وَالْمُنَاقِضُ لَا قَوْلَ لَهُ فِي حَقِّ غَيْرِهِ، وَلَكِنَّ التَّنَاقُضَ لَا يَمْنَعُ إلْزَامَهُ حُكْمَ كَلَامِهِ، ثُمَّ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ يَسْتَدِلُّ بِالْحَدِيثِ فِي فَصْلَيْنِ أَحَدُهُمَا فِي وُجُوبِ الْقِصَاصِ عَلَى الشُّهُودِ إذَا رَجَعُوا بَعْدَ مَا اسْتَوْفَى الْعُقُوبَةَ بِشَهَادَتِهِمْ وَزَعَمُوا أَنَّهُمْ تَعَمَّدُوا ذَلِكَ فِي شَهَادَتِهِمْ، وَفِي أَنَّ الْيَدَيْنِ يُقْطَعَانِ بِيَدٍ وَاحِدَةٍ فَقَدْ قَالَ، وَلَوْ أَنِّي أَعْلَمُكُمَا فَعَلْتُمَا ذَلِكَ عَمْدًا قَطَعْتُ أَيْدِيَكُمَا.
فَإِذَا جَازَ قَطْعُ الْيَدَيْنِ فِي يَدٍ وَاحِدَةٍ بِطَرِيقِ الشَّهَادَةِ فَبِالْمُبَاشَرَةِ أَوْلَى، وَلَكِنَّا نَقُولُ هَذَا اللَّفْظُ مِنْهُ عَلَى سَبِيلِ التَّهْدِيدِ بِدُونِ التَّحْقِيقِ، وَقَدْ تَهَدَّدَ الْإِمَامُ بِمَا لَا يَتَحَقَّقُ قَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَلَوْ تَقَدَّمْت فِي الْمُتْعَةِ لَرَجَمْت وَالْمُتْعَةُ لَا تُوجِبُ الرَّجْمَ بِالِاتِّفَاقِ، ثُمَّ لَمْ يَكُنْ مِنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ هَكَذَا كَذِبًا؛ لِأَنَّهُ عَلَّقَ بِمَا لَا طَرِيقَ إلَيْهِ وَهُوَ الْعِلْمُ بِأَنَّهُمَا فَعَلَا ذَلِكَ عَمْدًا فَلَمْ يَكُنْ هَذَا كَذِبًا بِهَذَا التَّعْلِيقِ وَيَحْصُلُ الْمَقْصُودُ وَهُوَ الزَّجْرُ وَهُوَ نَظِيرُ قَوْله تَعَالَى {بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ}، ثُمَّ لَمْ يَكُنْ هَذَا الْكَلَامُ مِنْ إبْرَاهِيمَ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ كَذِبًا؛ لِأَنَّهُ عَلَّقَهُ بِمَا لَا يَكُونُ وَمَعْنَاهُ إنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ فَقَدْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ مِنْ مَذْهَبِ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ الْيَدَيْنِ لَا يُقْطَعَانِ بِيَدٍ وَاحِدَةٍ فَقَدْ رُوِيَ ذَلِكَ عَنْهُ فِي الْكِتَابِ فَهَذَا تَبَيَّنَ أَنَّ مُرَادَهُ التَّهْدِيدُ.
وَذُكِرَ عَنْ حَمَّادٍ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ فِي الشَّاهِدَيْنِ إذَا رَجَعَا عَنْ الشَّهَادَةِ بَعْدَ قَضَاءِ الْقَاضِي فَإِنَّهُ يُنْظَرُ إلَى حَالِهِمَا يَوْمَ رَجَعَا فَإِنْ كَانَ حَالُهُمَا أَحْسَنُ مِنْهُ يَوْمَ شَهِدَا صَدَّقَهُمَا الْقَاضِي فِي الرُّجُوعِ وَرَدَّ الْقَضَاءَ وَأَبْطَلَهُ، وَإِنْ كَانَ حَالُهُمَا يَوْمَ رَجَعَا مِثْلَ حَالِهِمَا يَوْمَ شَهِدَا دُونَ ذَلِكَ لَمْ يُصَدِّقْهُمَا الْقَاضِي وَلَمْ يَقْبَلْ رُجُوعَهُمَا وَلَمْ يُضَمِّنْهُمَا شَيْئًا وَكَانَ الْقَضَاءُ الْأَوَّلُ مَاضِيًا وَبِهَذَا كَانَ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ يَقُولُ أَوَّلًا، ثُمَّ رَجَعَ فَقَالَ لَا أُبْطِلُ الْقَضَاءَ بِقَوْلِهِمَا لِآخَرَ، وَإِنْ كَانَ أَعْدَلَ مِنْهُمْ يَوْمَ شَهِدَا، وَلَكِنْ أُضَمِّنُهُمَا الْمَالَ الَّذِي شَهِدَا بِهِ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ.
وَجْهُ قَوْلِهِ الْأَوَّلِ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ الْخَبَرَيْنِ مُتَرَدِّدٌ بَيْنَ الصِّدْقِ وَالْكَذِبِ فَإِنَّمَا يَتَرَجَّحُ جَانِبُ الصِّدْقِ فِيهِ بِالْعَدَالَةِ وَحُسْنِ حَالِ الْمُخْبِرِ.
فَإِذَا كَانَتْ عَدَالَتُهُ عِنْدَ الرُّجُوعِ أَظْهَرُ وَحَالُهُ عِنْدَ ذَلِكَ أَحْسَنُ فَرُجْحَانُ جَانِبِ الصِّدْقِ فِي هَذَيْنِ الْخَبَرَيْنِ بَيِّنٌ وَالظَّاهِرُ أَنَّ رُجُوعَهُ تَوْبَةٌ وَاسْتِدْرَاكٌ لِمَا كَانَ مِنْهُ مِنْ التَّفْرِيطِ وَالْقَاضِي يَتْبَعُ الظَّاهِرَ؛ لِأَنَّهُ مَا وَرَاءُ ذَلِكَ غُيِّبَ عَنْهُ.
وَإِذَا كَانَ حَالُهُ عِنْدَ الرُّجُوعِ دُونَ حَالِهِ عِنْدَ الشَّهَادَةِ فَرُجْحَانُ جَانِبِ الْكَذِبِ فِي الرُّجُوعِ أَبْيَنُ وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ بِالرُّجُوعِ قَاصِدٌ إلَى الْإِضْرَارِ بِالْمَقْضِيِّ لَهُ، وَإِنْ كَانَ حَالُهُ عِنْدَ الرُّجُوعِ مِثْلَ حَالِهِ عِنْدَ أَدَاءِ الشَّهَادَةِ فَعِنْدَ الْمُسَاوَاةِ يَتَرَجَّحُ الْأَوَّلُ بِالسَّبْقِ وَاتِّصَالِ الْقَضَاءِ بِهِ فَإِنَّ الشَّيْءَ لَا يَنْقُضُهُ مَا هُوَ مِثْلُهُ، أَوْ دُونَهُ وَيَنْقُضُهُ مَا هُوَ فَوْقَهُ وَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ مَا يَتَنَاوَلُ شَيْئًا إنَّمَا أَخْبَرَ بِخَبَرٍ، وَذَلِكَ لَمْ يَكُنْ مُوجِبًا لِلْإِتْلَافِ بِدُونِ الْقَضَاءِ وَالْقَاضِي يَخْتَارُ فِي قَضَائِهِ فَذَلِكَ يَمْنَعُ إضَافَةَ الْإِتْلَافِ إلَى الشَّهَادَةِ؛ فَلِهَذَا لَا يَضْمَنُ الشَّاهِدُ شَيْئًا.
وَجْهُ قَوْلِهِ الْآخَرِ أَنَّ ظَاهِرَ الْعَدَالَةِ تُرَجِّحُ جَانِبَ الصِّدْقِ فِي الْخَبَرِ، وَلَكِنْ لَا يَنْعَدِمُ بِهِ مَعْنَى التَّنَاقُضِ فِي الْكَلَامِ وَهُوَ بِالرُّجُوعِ مُنَاقِضٌ فِي كَلَامِهِ فَعَدَالَتُهُ عِنْدَ الرُّجُوعِ لَا تَعْدَمُ التَّنَاقُضَ وَكَمَا أَنَّ الْقَاضِي لَا يَقْضِي بِالْكَلَامِ الْمُتَنَاقِضِ.
فَكَذَلِكَ لَا يُنْقَضُ مَا قَضَاهُ بِالْكَلَامِ الْمُتَنَاقِضِ.
فَكَذَلِكَ لَا يُنْقَضُ مَا قَضَاهُ بِالْكَلَامِ الْمُتَنَاقِضِ، ثُمَّ جَانِبُ الصِّدْقِ يُعَيَّنُ فِي الشَّهَادَةِ وَتَأَكُّدُ ذَلِكَ بِقَضَاءِ الْقَاضِي فِي حَقِّ الْمَقْضِيِّ لَهُ فِيهِ بِتَعَيُّنِ جَانِبِ الْكَذِبِ فِي الرُّجُوعِ.
وَإِذَا كَانَ تُهْمَةُ الْكَذِبِ عِنْدَ الرُّجُوعِ لِفِسْقِهِ يَمْنَعُ الْقَاضِي مِنْ إبْطَالِ الْقَضَاءِ فَتَعَيُّنُ الْكَذِبِ فِيهِ بِدَلِيلٍ شَرْعِيٍّ؛ لِأَنَّهُ يَمْنَعُهُ مِنْ إبْطَالِ الْقَضَاءِ أَوْلَى فَلَوْ أَبْطَلَ الْقَضَاءَ بِاعْتِبَارِ هَذَا الْمَعْنَى أَدَّى إلَى مَا لَا يَتَنَاهَى؛ لِأَنَّهُ يَأْتِي بَعْدَ ذَلِكَ فَيَرْجِعُ عَنْ هَذَا الرُّجُوعِ فَيَجِبُ إعَادَةُ الْقَضَاءِ الْأَوَّلِ، وَلَكِنْ يَجِبُ الضَّمَانُ عَلَيْهِ لِإِقْرَارِهِ عِنْدَ الرُّجُوعِ أَنَّهُ أَتْلَفَ الْمَالَ عَلَى الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ بِشَهَادَتِهِ بِغَيْرِ حَقٍّ وَالتَّنَاقُضُ لَا يَمْنَعُ ثُبُوتَ حُكْمِ إقْرَارِهِ عَلَى نَفْسِهِ وَالْإِتْلَافُ، وَإِنْ كَانَ يَحْصُلُ بِقَضَاءِ الْقَاضِي فَسَبَبُ الْقَضَاءِ شَهَادَةٌ لِلشُّهُودِ، وَإِنَّمَا يُحَالُ بِالْحُكْمِ عَلَى أَصْلِ السَّبَبِ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْقَاضِيَ بِمَنْزِلَةِ الْمَلْجَأِ مِنْ جِهَتِهِمْ فَإِنَّ بَعْدَ ظُهُورِ عَدَالَتِهِمْ يَحِقُّ عَلَيْهِ الْقَضَاءُ شَرْعًا، ثُمَّ السَّبَبُ إذَا كَانَ تَعَدِّيًا بِمَنْزِلَةِ الْمُبَاشَرَةِ فِي إيجَابِ ضَمَانِ الْمَالِ، وَقَدْ أَقَرَّ بِالتَّعَدِّي فِي السَّبَبِ الَّذِي كَانَ مِنْهُمَا وَبِهَذَا السَّبَبِ سُلِّطَ الْمَشْهُودُ لَهُ عَلَى مَالِ الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ، وَلَوْ تَسَلَّطَا عَلَيْهِ بِإِثْبَاتِ الْيَدِ لِأَنْفُسِهِمَا ضَمِنَا.
فَكَذَلِكَ إذَا سَلَّطَا الْغَيْرَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ وُجُوبَ الضَّمَانِ لِلْحَاجَةِ إلَى الْجِيرَانِ وَدَفْعِ الضَّرَرِ وَالْخَسْرَانِ عَنْ الْمُتْلَفِ عَلَيْهِ، وَقَدْ تَحَقَّقَتْ الْحَاجَةُ إلَى ذَلِكَ وَلَا يُمْكِنُ إيجَابُ الضَّمَانِ عَلَى الْقَاضِي؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُتَعَدٍّ فِي الْقَضَاءِ بَلْ هُوَ مُبَاشِرٌ لِمَا فُرِضَ عَلَيْهِ ظَاهِرًا فَتَعَيُّنُ الشُّهُودِ لِإِيجَابِ الضَّمَانِ عَلَيْهِمْ.
وَعَنْ إبْرَاهِيمَ رَحِمَهُ اللَّهُ قَالَ شَهِدَ شَاهِدَانِ عَلَى قَطْعِ يَدٍ فَقَضَى الْقَاضِي بِذَلِكَ، ثُمَّ رَجَعَا عَنْ الشَّهَادَةِ فَعَلَيْهِمَا الدِّيَةُ، وَإِنْ رَجَعَ أَحَدُهُمَا فَعَلَيْهِ نِصْفُ الدِّيَةِ، وَبِهِ نَأْخُذُ؛ لِأَنَّهُمَا سَبَّبَا لِقَطْعِ الْيَدِ بِطَرِيقٍ هُوَ تَعَدٍّ مِنْهُمَا وَهُوَ سَبَبٌ مُعْتَادٌ فِي النَّاسِ فَقَدْ يَقْصِدُ الْمَرْءُ الْإِضْرَارَ بِغَيْرِهِ فِي نَفْسِهِ، أَوْ مَالِهِ بِالشَّهَادَةِ الْبَاطِلَةِ عِنْدَ عَجْزِهِ عَنْ تَحْصِيلِ مَقْصُودِهِ بِالْمُبَاشَرَةِ وَالتَّسَبُّبُ بِهَذِهِ الصِّفَةِ مُوجِبٌ ضَمَانَ الدِّيَةِ كَحَفْرِ الْبِئْرِ وَوَضْعِ الْحَجَرِ فِي الطَّرِيقِ إلَّا أَنَّ ضَمَانَ الدِّيَةِ فِي مَالِهِمَا؛ لِأَنَّ وُجُوبَهُ بِقَوْلِهِمَا وَهُوَ إقْرَارُهُمَا عَلَى أَنْفُسِهِمَا عِنْدَ الرُّجُوعِ وَقَوْلُهُمَا لَيْسَ بِحُجَّةٍ عَلَى الْعَاقِلَةِ.
وَإِذَا كَانَ ضَامِنَيْنِ لِلدِّيَةِ إذَا رَجَعَا كَانَ أَحَدُهُمَا ضَامِنًا لِنِصْفِ الدِّيَةِ إذَا رَجَعَ؛ لِأَنَّ بِشَهَادَةِ كُلٍّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَقُومُ بِنِصْفِ الْحُجَّةِ فَبِبَقَاءِ أَحَدِهِمَا عَلَى الشَّهَادَةِ تَبْقَى الْحُجَّةُ فِي النِّصْفِ أَيْضًا فَيَجِبُ عَلَى الرَّاجِعِ مِنْ الضَّمَانِ بِقَدْرِ مَا انْعَدَمَتْ الْحُجَّةُ فِيهِ، وَذَلِكَ النِّصْفُ، وَكَذَلِكَ لَوْ شَهِدَا بِمَالٍ فَقَضَى الْقَاضِي بِهِ، ثُمَّ رَجَعَ أَحَدُهُمَا فَعَلَيْهِ نِصْفُ الْمَالِ فَإِنْ رَجَعَا جَمِيعًا فَعَلَيْهِمَا الْمَالُ كُلُّهُ، وَهَذَا بِخِلَافِ مَا إذَا رَجَعَ قَبْلَ قَضَاءِ الْقَاضِي حَتَّى امْتَنَعَ الْقَاضِي مِنْ الْقَضَاءِ لِلْمَشْهُودِ لَهُ؛ لِأَنَّهُمَا لَمْ يُتْلِفَا عَلَيْهِ شَيْئًا مُسْتَحَقًّا لَهُ فَالشَّهَادَةُ قَبْلَ الْقَضَاءِ لَا تُوجِبُ شَيْئًا لِلْمَشْهُودِ لَهُ.
فَأَمَّا بَعْدَ الْقَضَاءِ فَقَدْ أَتْلَفَا عَلَى الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ مَا كَانَ مُسْتَحَقًّا لَهُ مِنْ الْمَالِ فَيَضْمَنَانِ لَهُ ذَلِكَ.
وَعَنْ الشَّعْبِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ رَجُلَيْنِ شَهِدَا عَلَى رَجُلٍ أَنَّهُ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ ثَلَاثًا وَفَرَّقَ الْقَاضِي بَيْنَهُمَا، ثُمَّ تَزَوَّجَهَا أَحَدُ الشَّاهِدَيْنِ، ثُمَّ رَجَعَ عَنْ شَهَادَته فَلَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَهُمَا الشَّعْبِيُّ، وَبِهِ كَانَ يَأْخُذُ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ وَكَانَ يَقُولُ فُرْقَةُ الْقَاضِي جَائِزَةٌ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا وَلَا يَرُدُّ الْقَاضِيَ الْمَرْأَةَ إلَى زَوْجِهَا بِرُجُوعِ الشَّاهِدَيْنِ وَلَا يُفَرِّقُ بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ الزَّوْجِ الثَّانِي إنْ كَانَ هُوَ الشَّاهِدُ.
وَقَالَ مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ لَا يُصَدَّقُ الشَّاهِدُ عَلَى إبْطَالِ شَهَادَتِهِ الْأُولَى، وَلَكِنَّهُ يُصَدَّقُ عَلَى نَفْسِهِ فَيُفَرَّقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا إنْ كَانَ هُوَ تَزَوَّجَهَا وَإِلَى هَذَا رَجَعَ أَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ وَأَصْلُ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ قَضَاءَ الْقَاضِي بِالْعُقُودِ وَالْفُسُوخِ وَالنِّكَاحِ وَالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ بِشَهَادَةِ الزُّورِ تَنْفُذُ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ الْأَوَّلِ رَحِمَهُمَا اللَّهُ، وَفِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ الْآخَرِ وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ وَالشَّافِعِيِّ رَحِمَهُمُ اللَّهُ يَنْفُذُ قَضَاؤُهُ ظَاهِرًا لَا بَاطِنًا حَتَّى إذَا ادَّعَى نِكَاحَ امْرَأَةٍ وَأَقَامَ شَاهِدَيْ زُورٍ فَقَضَى الْقَاضِي لَهُ بِالنِّكَاحِ وَسِعَهُ أَنْ يَطَأَهَا فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ الْأَوَّلِ رَحِمَهُمَا اللَّهُ وَلَا يَحِلُّ لَهُ ذَلِكَ فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ الْآخَرِ وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ وَالشَّافِعِيِّ رَحِمَهُمُ اللَّهُ وَحُجَّتُهُمْ فِي ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى {وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إلَى الْحُكَّامِ} فَقَدْ نَهَى اللَّهُ تَعَالَى عَنْ أَكْلِ مَالِ الْغَيْرِ بِالْبَاطِلِ مُحْتَجًّا بِحُكْمِ الْحَاكِمِ فَهُوَ تَنْصِيصٌ عَلَى أَنَّهُ، وَإِنْ قَضَى الْقَاضِي لَهُ بِالشِّرَاءِ بِشَهَادَةِ الزُّورِ لَا يَحِلُّ لَهُ تَنَاوَلَهُ، وَيَكُونُ ذَلِكَ مِنْهُ أَكْلًا بَاطِلًا.
وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «إنَّكُمْ تَخْتَصِمُونَ إلَيَّ وَلَعَلَّ بَعْضَكُمْ أَلْحَنُ بِحُجَّتِهِ مِنْ بَعْضٍ فَمَنْ قَضَيْت لَهُ بِشَيْءٍ مِنْ حَقِّ أَخِيهِ فَإِنَّمَا أَقْضِي لَهُ بِقِطْعَةٍ مِنْ نَارٍ» وَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّ قَضَاءَهُ اعْتَمَدَ سَبَبًا بَاطِلًا فَلَا يَنْفُذُ بَاطِنًا كَمَا إذَا قَضَى بِشَهَادَةِ الْعَبِيدِ أَوْ الْكُفَّارِ، أَوْ الْمَحْدُودِينَ فِي الْقَذْفِ وَبَيَانُ الْوَصْفِ أَنَّ قَضَاءَهُ اعْتَمَدَ شَهَادَةَ الزُّورِ وَهُوَ سَبَبٌ بَاطِلٌ فَإِنَّهُ كَبِيرَةٌ وَحُجَّةُ الْقَضَاءِ مَشْرُوعَةٌ وَالْكَبِيرَةُ ضِدَّهَا.
وَإِذَا كَانَتْ تُهْمَةُ الْكَذِبِ تُخْرِجُ الشَّهَادَةَ مِنْ أَنْ تَكُونَ حُجَّةً لِلْقَضَاءِ فَحَقِيقَةُ الْكَذِبِ أَوْلَى، وَلِأَنَّ مَا قَضَى بِهِ لَا كَوْنَ لَهُ فَيَكُونُ قَضَاؤُهُ بَاطِلًا كَمَا لَوْ قَضَى بِنِكَاحِ مَنْكُوحَةِ الْغَيْرِ لِإِنْسَانٍ بِشَهَادَةِ الزُّورِ وَبَيَانُ الْوَصْفِ أَنَّهُ أَظْهَرَ بِقَضَائِهِ نِكَاحًا كَانَ قَدْ تَقَدَّمَ.
وَإِذَا لَمْ يَكُنْ بَيْنَهُمَا نِكَاحٌ فَلَا يُتَصَوَّرُ إظْهَارُهُ بِالْقَضَاءِ عَرَفْنَا أَنَّهُ قَضَى بِمَا لَا كَوْنَ لَهُ.
وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُجْعَلَ قَضَاؤُهُ إنْشَاءً؛ لِأَنَّ وِلَايَةَ الْإِنْشَاءِ لَمْ تَثْبُتْ لَهُ فَإِنَّ سَبَبَ وِلَايَتِهِ دَعْوَى الْمُدَّعِي وَشَهَادَةُ شُهُودِهِ وَهُوَ إنَّمَا ادَّعَى عَقْدًا سَابِقًا وَبِذَلِكَ شَهِدَ شُهُودُهُ فَلَا يَتَمَكَّنُ الْقَاضِي مِنْ الْقَضَاءِ بِمَا لَمْ يَدَّعِهِ الْمُدَّعِي وَلَا يَشْهَدُ بِهِ الشُّهُودُ، وَلِأَنَّ الْقَاضِيَ لَمْ يَقْصِدْ إنْشَاءَ الْعَقْدِ بَيْنَهُمَا، وَإِنَّمَا يُنَفِّذُ قَضَاءَهُ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي قَصَدَهُ.
(أَلَا تَرَى) أَنَّ قَضَاءَهُ فِي الْأَمْلَاكِ الْمُرْسَلَةِ لَا يَنْفُذُ بَاطِنًا لِهَذَا الْمَعْنَى وَلَا يُجْعَلُ ذَلِكَ إنْشَاءَ تَمْلِيكٍ مِنْهُ، وَبِهِ فَارَقَ قَضَاءَ الْقَاضِي بِالْفُرْقَةِ بَيْنَ الْمُتَلَاعِنَيْنِ وَبَيْعَةُ التَّرِكَةِ فِي الدَّيْنِ الثَّابِتِ بِشَهَادَةِ الزُّورِ؛ لِأَنَّهُ قَصَدَ الْإِنْشَاءَ هُنَا، وَمَا ظَهَرَ عِنْدَهُ مِنْ الْحُجَّةِ يَصْلُحُ لِلْإِنْشَاءِ أَيْضًا، وَكَذَلِكَ فِي الْمُجْتَهِدَاتِ يَثْبُتُ لَهُ وِلَايَةُ الْإِنْشَاءِ بِمَا لَاحَ عِنْدَهُ مِنْ الدَّلِيلِ وَقَضَاؤُهُ إنْشَاءٌ أَيْضًا بِطَرِيقِ الْقَصْدِ مِنْهُ إلَى ذَلِكَ.
فَأَمَّا هُنَا إنَّمَا قَصَدَ الْإِمْضَاءَ فَلَا يُمْكِنُ أَنْ يُجْعَلَ مُنْشِئًا.
(أَلَا تَرَى) أَنَّ رَجُلًا وَامْرَأَةً لَوْ أَقَرَّا بِالنِّكَاحِ وَهُمَا يَعْلَمَانِ أَنَّهُ لَا نِكَاحَ بَيْنَهُمَا لَمْ يَثْبُتْ النِّكَاحُ بَيْنَهُمَا بَاطِنًا بِهَذَا الْإِقْرَارِ وَهُمَا يَمْلِكَانِ الْإِنْشَاءَ، وَلَكِنَّهُمَا بِالْإِقْرَارِ أَظْهَرَا عَقْدًا قَدْ كَانَ بَيْنَهُمَا فَلَا يُجْعَلُ ذَلِكَ إنْشَاءً مِنْهُمَا، وَلِأَنَّ الْمُدَّعِي مُتَيَقِّنٌ بِمَا لَوْ تَبَيَّنَ الْقَاضِي بِهِ امْتَنَعَ مِنْ الْقَضَاءِ فَلَا يَنْفُذُ قَضَاؤُهُ فِي حَقِّهِ، وَإِنْ كَانَ الْقَاضِي مَعْذُورًا لِخَفَاءِ هَذِهِ الْحَقِيقَةِ عَلَيْهِ كَمَا لَوْ كَانَتْ امْرَأَةً مَجُوسِيَّةً، أَوْ مُرْتَدَّةً، أَوْ مَنْكُوحَةَ الْغَيْرِ، أَوْ أُخْتِهِ مِنْ الرَّضَاعَةِ وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ قَضَاءَهُ لَيْسَ بِإِنْشَاءٍ أَنَّهُ لَا يَسْتَدْعِي شَرَائِطَ الْإِنْشَاءِ مِنْ الشُّهُودِ وَالْمَهْرِ وَالْوَلِيِّ وَأَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ احْتَجَّ بِمَا رُوِيَ أَنْ رَجُلًا ادَّعَى عَلَى امْرَأَةٍ نِكَاحًا بَيْنَ يَدَيْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَأَقَامَ شَاهِدَيْنِ فَقَضَى عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِالنِّكَاحِ بَيْنَهُمَا فَقَالَتْ الْمَرْأَةُ إنْ لَمْ يَكُنْ بُدًّا يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ فَزَوِّجْنِي مِنْهُ فَإِنَّهُ لَا نِكَاحَ بَيْنَنَا فَقَالَ عَلِيٌّ شَاهِدَاك زَوَّجَاك فَقَدْ طَلَبْت مِنْهُ أَنْ يُعِفُّهَا عَنْ الزِّنَا بَلْ يَعْقِدُ النِّكَاحَ بَيْنَهُمَا فَلَمْ يُجِبْهَا إلَى ذَلِكَ وَلَا يُقَالُ إنَّمَا يُجِبْهَا إلَى ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الزَّوْجَ لَمْ يَرْضَ بِذَلِكَ؛ لِأَنَّا نَقُولُ لَيْسَ كَذَلِكَ بَلْ الزَّوْجُ رَاضٍ؛ لِأَنَّهُ يَدَّعِي النِّكَاحَ وَالْمَرْأَةُ رَضِيَتْ أَيْضًا حَيْثُ قَالَتْ فَزَوِّجْنِي مِنْهُ وَكَانَ يَتَيَسَّرُ عَلَيْهِ ذَلِكَ فَقَدْ كَانَ الزَّوْجُ رَاغِبًا فِيهَا، ثُمَّ لَمْ يَشْتَغِلْ بِهِ وَبَيْنَ أَنَّ مَقْصُودَهُمَا قَدْ حَصَلَ بِقَضَائِهِ فَقَالَ شَاهِدَاك زَوَّجَاك أَيْ أَلْزَمَانِي الْقَضَاءَ بِالنِّكَاحِ بَيْنَكُمَا فَثَبَتَ النِّكَاحُ بِقَضَاءٍ، وَمَا نُقِلَ عَنْهُ فِي هَذَا الْبَابِ كَالْمَرْفُوعِ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَا طَرِيقَ إلَى مَعْرِفَةِ ذَلِكَ حَقِيقَةً بِالرَّأْيِ وَيَتَبَيَّنُ بِهَذَا أَنَّ مَا اسْتَدَلُّوا بِهِ مِنْ الْآيَةِ وَالْحَدِيثِ فِي الْأَمْلَاكِ الْمُرْسَلَةِ، وَبِهِ يَقُولُ وَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّهُ قَضَى بِأَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى فِيمَا لَهُ فِيهِ وِلَايَةُ الْإِنْشَاءِ وَقَضَاؤُهُ بِأَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى يَكُونُ نَافِذًا حَقِيقَةً لِاسْتِحَالَةِ الْقَوْلِ بِأَنْ يَأْمُرَ اللَّهُ تَعَالَى بِالْقَضَاءِ، ثُمَّ لَا يَنْفَدُ ذَلِكَ الْقَضَاءُ مِنْهُ وَبَيَانُ الْوَصْفِ أَنَّهُ لَمَّا تَفَحَّصَ عَنْ أَحْوَالِ الشُّهُودِ وَزُكُّوا عِنْدَهُ سِرًّا وَعَلَانِيَةً وَجَبَ عَلَيْهِ الْقَضَاءُ بِشَهَادَتِهِمْ حَتَّى لَوْ امْتَنَعَ مِنْ ذَلِكَ يَأْثَمُ وَيُخْرَجُ وَيُعْزَلُ وَيُعْذَرُ فَعَرَفْنَا أَنَّهُ صَارَ مَأْمُورًا بِالْقَضَاءِ، وَهَذَا؛ لِأَنَّهُ لَا طَرِيقَ لَهُ إلَى مَعْرِفَةِ حَقِيقَةِ الصِّدْقِ وَالْكَذِبِ مِنْ الشَّهَادَةِ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يَجْعَلْ لَنَا طَرِيقًا إلَى مَعْرِفَةِ حَقِيقَةِ الصِّدْقِ مِنْ خَبَرِ مَنْ هُوَ غَيْرُ مَعْصُومٍ عَنْ الْكَذِبِ وَلَا يُتَوَجَّهُ عَلَيْهِ شَرْعًا لِوُقُوفٍ عَلَى مَا لَا طَرِيقَ لَهُ إلَى مَعْرِفَتِهِ؛ لِأَنَّ التَّكْلِيفَ بِحَسْبِ الْوُسْعِ وَاَلَّذِي فِي وُسْعِهِ التَّعَرُّفُ عَنْ أَحْوَالِ الشُّهُودِ فَإِنْ اسْتَقْصَى ذَلِكَ غَايَةَ الِاسْتِقْصَاءِ فَقَدْ أَتَى بِمَا فِي وُسْعِهِ وَصَارَ مَأْمُورًا بِالْقَضَاءِ؛ لِأَنَّ مَا وَرَاءَ هَذَا سَاقِطٌ عَنْهُ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ لَيْسَ فِي وُسْعِهِ، ثُمَّ إنَّمَا يُتَوَجَّهُ عَلَيْهِ الْأَمْرُ بِحَسْبِ الْإِمْكَانِ وَالْمَأْمُورُ بِهِ أَنْ يَجْعَلَهَا بِقَضَائِهِ زَوْجَتَهُ فَلِذَلِكَ طَرِيقَانِ إظْهَارُ نِكَاحٍ إنْ كَانَ، وَإِنْشَاءُ عَقْدٍ بَيْنَهُمَا.
فَإِذَا لَمْ يَسْبِقْ مِنْهُمَا عَقْدٌ تَعَذَّرَ إظْهَارَهُ بِالْقَضَاءِ فَيَتَعَيَّنُ الْإِنْشَاءُ إذَا لَيْسَ هُنَا طَرِيقٌ آخَرُ فَيَثْبُتُ لَهُ وِلَايَةُ الْإِنْشَاءِ بِهَذَا النَّوْعِ مِنْ الدَّلِيلِ الشَّرْعِيِّ وَيَجْعَلَ إنْشَاءَهُ كَإِنْشَاءِ الْخَصْمَيْنِ فَيَثْبُتُ الْحِلُّ بِهِ بَيْنَهُمَا حَقِيقَةً بَلْ قَضَاؤُهُ أَوْلَى وَأَقْوَى مِنْ إنْشَاءِ الْخَصْمَيْنِ عَنْ اتِّفَاقٍ.
(أَلَا تَرَى) أَنَّ فِي الْمُجْتَهِدَاتِ صِفَةُ اللُّزُومِ يَثْبُتُ بِإِنْشَاءِ الْقَاضِي وَلَا يَثْبُتُ بِإِنْشَاءِ الْخَصْمَيْنِ فَعَرَفْنَا أَنَّ قَضَاءَهُ أَقْوَى مِنْ إنْشَاءِ الْخَصْمَيْنِ.
وَشَرْطُ صِحَّةِ الْإِنْشَاءِ الشَّهَادَةُ وَالْمَحَلُّ الْقَابِلُ لَهُ وَلَا شَكَّ أَنَّ الْمَحَلَّ شَرْطٌ حَتَّى إذَا كَانَتْ الْمَرْأَةُ مَنْكُوحَةَ الْغَيْرِ، أَوْ مُحَرَّمَةً عَلَيْهِ بِسَبَبٍ لَا يَنْفُذُ قَضَاؤُهُ لِانْعِدَامِ الْمَحَلِّ.
فَكَذَلِكَ الشَّهَادَةُ شَرْطُهُ إلَّا أَنَّ مَجْلِسَ الْقَضَاءِ لَا يَخْلُو عَنْ شَاهِدَيْنِ؛ فَلِهَذَا لَمْ يَذْكُرْ الشَّهَادَةَ.
فَأَمَّا الْوَلِيُّ لَيْسَ بِشَرْطٍ عِنْدَنَا وَلَا حَاجَةَ إلَى ذِكْرِ الْمَهْرِ وَيَجِبُ هَذَا التَّحْقِيقُ حُكْمُهُ بِأُلْفَةٍ وَهُوَ أَنْ لَا يَجْتَمِعَ رَجُلَانِ عَلَى امْرَأَةٍ وَاحِدَةٍ أَحَدُهُمَا بِنِكَاحِ ظَاهِرٍ لَهُ وَالْآخَرُ بِنِكَاحٍ بَاطِنٍ لَهُ فَفِي ذَلِكَ مِنْ الْقُبْحِ مَا لَا يَخْفَى وَالدِّينُ مَصُونٌ عَنْ مِثْلِ هَذَا الْقُبْحِ وَلَا يَكُونُ الْقَاضِي بِقَضَائِهِ مُمَكِّنًا مِنْ الزِّنَا فَفِيهِ مِنْ الْفَسَادِ مَا لَا يَخْفَى.
وَإِذَا كَانَ يَثْبُتُ لَهُ وِلَايَةُ إنْشَاءِ التَّفْرِيقِ بَيْنَ الْمُتَلَاعِنَيْنِ وَبَيْنَ امْرَأَتِهِ لِنَفْيِهَا بِهِ عَنْ الزِّنَا وَيَثْبُتُ لَهُ وِلَايَةُ تَزْوِيجِ الصَّغِيرِ وَالصَّغِيرَةِ لِمَعْنَى النَّظَرِ لَهُمَا فَلَإِنْ يَثْبُتُ لَهُ وِلَايَةُ انْعِقَادِ الْعَقْدِ هُنَا لِنَفْيِهَا بِهِ عَنْ الزِّنَا وَيَصُونَ قَضَاؤُهُ بِهِ عَنْ التَّمْكِينِ مِنْ الزِّنَا أَوْلَى.
وَكَذَلِكَ يَثْبُتُ لَهُ وِلَايَةُ إنْشَاءُ التَّفْرِيقِ بَيْنَ الْمُتَلَاعِنَيْنِ لِقَطْعِ الْمُنَازَعَةِ مَعَ يَقِينِهِ بِكَذِبِ أَحَدِهِمَا كَمَا قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «اللَّهُ يَعْلَمُ أَنَّ أَحَدَكُمَا لَكَاذِبٌ».
فَكَذَلِكَ يَثْبُتُ لَهُ وِلَايَةُ الْإِنْشَاءِ مَعَ كَذِبِ الشُّهُودِ لِتَوَجُّهِ الْأَمْرِ بِالْقَضَاءِ عَلَيْهِ شَرْعًا وَأَمْرُ الْقِبْلَةِ عَلَى هَذَا فَإِنَّهُ لَمَّا تَوَجَّهَ عَلَيْهِ الْأَمْرُ بِالصَّلَاةِ إلَى جِهَةِ الْقِبْلَةِ وَأَتَى بِمَا فِي وُسْعِهِ فِي طَلَبِ الْقِبْلَةِ يَثْبُتُ لَهُ وِلَايَةُ نَسَبِ الْقِبْلَةِ حَتَّى الْجِهَةِ الَّتِي أَدَّى إلَيْهَا اجْتِهَادَهُ تَنْتَصِبُ قِبْلَةً فِي حَقِّهِ فَتَجُوزُ صَلَاتُهُ إلَيْهَا، وَإِنْ تَبَيَّنَ لَهُ الْخَطَأُ بَعْدَ ذَلِكَ وَبِهَذَا يَتَبَيَّنُ فَسَادُ مَا قَالُوا أَنَّ الْمُدَّعِي عَالِمٌ بِمَا لَوْ عَلِمَهُ الْقَاضِي امْتَنَعَ مِنْ الْقَضَاءِ فَفِي اللِّعَانِ الْكَاذِبُ مِنْهُمَا عَالِمٌ بِمَا لَوْ عَلِمَهُ الْقَاضِي امْتَنَعَ مِنْ التَّفْرِيقِ وَمَعَ ذَلِكَ نَفَذَ الْقَضَاءُ فِي حَقِّهِ لِتَوَجُّهِ الْأَمْرِ عَلَى الْقَاضِي وَتَوَجُّهٌ الْأَمْرِ بِالِانْقِيَادِ وَاتِّبَاعِ أَمْرِ الْقَاضِي فِي حَقِّ النَّاسِ، وَهَذَا بِخِلَافِ مَا إذَا ظَهَرَ أَنَّ الشُّهُودَ عَبِيدٌ، أَوْ كُفَّارٌ أَوْ مَحْدُودُونَ فِي قَذْفٍ فَإِنَّ هَذِهِ أَسْبَابٌ يُمْكِنُ الْوُقُوفُ عَلَيْهَا عِنْدَ الِاسْتِقْصَاءِ، وَلَكِنْ رُبَّمَا يَلْحَقُهُ الْحَرَجُ فِي ذَلِكَ فَلِلْحَرِجِ تَعَذَّرَ بِتَرْكِ الِاسْتِقْصَاءِ، وَلَكِنْ لَمْ يَسْقُطْ الْخِطَابُ بِإِصَابَتِهَا حَقِيقَةً فَلَا يُتَوَجَّهُ الْأَمْرُ بِالْقَضَاءِ بِدُونِهَا حَقِيقَةً.
فَأَمَّا حَقِيقَةُ الصِّدْقِ فَلَا طَرِيقَ إلَى الْوُقُوفِ عَلَيْهِ وَالْأَمْرُ بِالْقَضَاءِ يُتَوَجَّهُ بِدُونِهِ وَهُوَ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ تَوَضَّأَ بِمَاءٍ، أَوْ صَلَّى فِي ثَوْبٍ لَمْ يَتَبَيَّنْ أَنَّهُ كَانَ نَجِسًا فَإِنَّهُ يَلْزَمُهُ الْإِعَادَةُ لِهَذَا الْمَعْنَى، أَوْ هُوَ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ قَضَى بِاجْتِهَادِهِ، ثُمَّ ظَهْر نَصٌّ بِخِلَافِهِ.
فَأَمَّا الْأَمْلَاكُ الْمُرْسَلَةُ فَلَيْسَ لِلْقَاضِي هُنَاكَ وِلَايَةُ الْإِنْشَاءِ؛ لِأَنَّ تَمْلِيكَ الْمَالِ مِنْ الْغَيْرِ بِغَيْرِ سَبَبٍ لَيْسَ فِيهِ وِلَايَةُ الْقَاضِي وَلَا لِصَاحِبِ الْمَالِ أَيْضًا، وَفِي أَسْبَابِ تَمْلِيكِ الْمَالِ كَثْرَةٌ فَلَا يُمْكِنُ تَعْيِينُ شَيْءٍ مِنْهَا فَعَرَفْنَا أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ فِي ذَلِكَ الْمَوْضِعِ إلَّا وِلَايَةُ إظْهَارِ الْمِلْكِ.
فَإِذَا لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ مِلْكٌ سَابِقٌ فَلَا تَصَوُّرَ لِإِظْهَارِهِ بِالْقَضَاءِ وَالتَّكْلِيفُ بِحَسْبِ الْوُسْعِ فَبِهَذَا تَبَيَّنَ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مَأْمُورًا بِالْقَضَاءِ بَاطِنًا.
فَأَمَّا هُنَا لَهُ وِلَايَةُ الْإِنْشَاءِ وَطَرِيقُهُ مُتَعَيَّنٌ مِنْ الْوَجْهِ الَّذِي قُلْنَا فَبِاعْتِبَارِهِ يَصِيرُ مَأْمُورًا بِالْقَضَاءِ بِالنِّكَاحِ بَيْنَهُمَا حَقِيقَةً يُوَضِّحُهُ أَنَّ هُنَاكَ الْقَاضِي لَا يَقُولُ لِلْمُدَّعِي مَلَّكْتُك هَذَا الْمَالَ، وَإِنَّمَا يَقْصُرُ يَدَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ عَنْ الْمَالِ وَيَأْمُرُهُ بِالتَّسْلِيمِ إلَيْهِ لِيَأْخُذَهُ عَلَى أَنَّهُ مِلْكَهُ كَمَا يَدَّعِيه وَقَضَاؤُهُ بِهَذَا نَافِذٌ.
فَأَمَّا هُنَا نَقُولُ قَضَيْت بِالنِّكَاحِ بَيْنَكُمَا وَجَعَلْتهَا زَوْجَةً لَك فَيَنْبَغِي أَنْ يَثْبُتَ النِّكَاحُ بَيْنَهُمَا بِقَضَائِهِ إذَا عَرَفْنَا هَذَا فَنَقُولُ إذَا ادَّعَتْ الْمَرْأَةُ أَنَّ زَوْجَهَا طَلَّقَهَا ثَلَاثًا وَأَقَامَتْ عَلَى ذَلِكَ شَاهِدَيْ زُورٍ فَقَضَى الْقَاضِي بِالْفُرْقَةِ بَيْنَهُمَا فَتَزَوَّجَهَا أَحَدُ الشَّاهِدَيْنِ بَعْدَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ فَعَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ يَحِلُّ لِلثَّانِي أَنْ يَطَأَهَا وَلَا يَحِلُّ لِلْأَوَّلِ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْفُرْقَةَ وَقَعَتْ بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ الْأَوَّلِ حَقِيقَةً وَصَحَّ النِّكَاحُ بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ الثَّانِي بَعْدَ انْقِضَاءِ الْمُدَّةِ وَعَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ لَيْسَ لِلْأَوَّلِ أَنْ يَطَأَهَا لِقَضَاءِ الْقَاضِي بِالْفُرْقَةِ بَيْنَهُمَا وَكَيْفَ يَطَؤُهَا، وَلَوْ فَعَلَ ذَلِكَ كَانَ زَانِيًا عِنْدَ الْقَاضِي، وَعِنْدَ النَّاسِ فَلَا يَجُوزُ لِلْمَرْءِ أَنْ يُعَرِّضَ نَفْسَهُ لِهَذِهِ التُّهْمَةِ وَلَا يَحِلُّ لِلثَّانِي أَنْ يَطَأَهَا؛ لِأَنَّهُ يَعْلَمُ أَنَّهَا مَنْكُوحَةُ الْغَيْرِ، وَأَنَّهُ كَانَ كَاذِبًا فِيمَا يَشْهَدُ بِهِ مِنْ الطَّلَاقِ، وَذَلِكَ كَانَ كَبِيرَةً مِنْهُ فَلَا يَحِلُّ لَهُ مَا كَانَ حَرَامًا عَلَيْهِ.
وَقَالَ مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ لَيْسَ لِلثَّانِي أَنْ يَطَأَهَا لِهَذَا وَيَحِلُّ لِلْأَوَّلِ أَنْ يَطَأَهَا مَا لَمْ يَدْخُلْ بِهَا الثَّانِي.
فَإِذَا دَخَلَ بِهَا الثَّانِي لَا يَحِلُّ لِلْأَوَّلِ أَنْ يَطَأَهَا بَعْدَ ذَلِكَ لِوُجُوبِ الْعِدَّةِ عَلَيْهَا مِنْ الثَّانِي بِالْوَطْءِ بِالشُّبْهَةِ وَالْمَنْكُوحَةِ إذَا وَجَبَتْ عَلَيْهَا الْعِدَّةُ مِنْ غَيْرِ الزَّوْجِ حَرُمَ عَلَى الزَّوْجِ وَطْؤُهَا.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ لَا يَجِبُ عَلَيْهَا الْعِدَّةُ مِنْ الثَّانِي؛ لِأَنَّهُمَا زَانِيَانِ فِي هَذَا الْوَطْءِ يَعْلَمَانِ حَقِيقَةَ الْأَمْرِ فَهُوَ يَقُولُ يَطَؤُهَا الْأَوَّلُ سِرًّا بِنِكَاحٍ بَاطِنٍ لَهُ وَالثَّانِي عَلَانِيَةً بِنِكَاحٍ ظَاهِرٍ لَهُ، وَهَذَا قَبِيحٌ فَإِنَّهُ يُؤَدِّي إلَى اجْتِمَاعِ رَجُلَيْنِ عَلَى امْرَأَةٍ وَاحِدَةٍ فِي طُهْرٍ وَاحِدٍ، وَقَدْ نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ ذَلِكَ إلَّا أَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَعْنَى الصِّيَانَةِ عَنْ هَذَا الْقُبْحِ يَحْصُلُ بِالنَّهْيِ وَنَحْنُ نَنْهَى كُلَّ وَاحِدٍ عَنْ مِثْلِ هَذَا التَّلْبِيسِ وَهُوَ نَظِيرُ مَا يَقُولُونَ فِيمَا إذَا كَانَ ادَّعَى جَارِيَةً فِي يَدِ رَجُلٍ أَنَّهَا لَهُ وَقَضَى الْقَاضِي لَهُ بِشَهَادَةِ شَاهِدَيْ زُورٍ فَإِنَّهَا فِي الْبَاطِنِ مَمْلُوكَةٌ لِلْأَوَّلِ يَطَؤُهَا سِرًّا، وَفِي الظَّاهِرِ مَمْلُوكَةٌ لِلثَّانِي يَطَؤُهَا عَلَانِيَةً، وَهَذَا الْقُبْحُ يَتَقَرَّرُ فِيهِ، وَلَكِنَّ مَعْنَى الصِّيَانَةِ عَنْ هَذَا الْقُبْحِ يَحْصُلُ بِالنَّهْيِ، ثُمَّ التَّمَكُّنُ مِنْ هَذَا الظَّاهِرِ يَلْتَبِسُ وَالنَّاسُ أَطْوَارٌ وَقَلِيلٌ مِنْهُمْ الشَّكُورُ، وَمَا ذَهَبَ إلَيْهِ أَبُو يُوسُفَ فِيهِ نَوْعُ ضَرَرٍ أَيْضًا فَإِنَّ الْمَرْأَةَ تَبْقَى مُعَلَّقَةً لَا ذَاتَ بَعْلٍ وَلَا مُطَلَّقَةً إذْ هِيَ لَا تَحِلُّ لِلْأَوَّلِ وَلَا لِلثَّانِي، وَلَيْسَ لَهَا أَنْ تَتَزَوَّجَ بِزَوْجٍ آخَرَ وَلِدَفْعِ هَذَا الضَّرَرِ أَمَرَ الشَّرْعُ بِالتَّفْرِيقِ بَيْنَ الْعِنِّينِ وَامْرَأَتِهِ فَعَرَفْنَا أَنَّ الْوَجْهَ بِطَرِيقِ الْفِقْهِ مَا ذَهَبَ إلَيْهِ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ وَاتَّبَعَ فِيهِ عَلِيًّا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَإِنَّ قَضَاءَ الْقَاضِي يَنْفُذُ، وَأَنَّهَا تَحِلُّ بِالنِّكَاحِ لِلثَّانِي.
رَجُلٌ ادَّعَى عَلَى رَجُلٍ أَنَّهُ بَاعَ مِنْهُ جَارِيَتَهُ هَذِهِ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ وَالْمُشْتَرِي يَجْحَدُ ذَلِكَ فَأَقَامَ عَلَيْهِ شَاهِدَيْنِ فَأَلْزَمَهُ الْقَاضِي الْبَيْعَ وَالْمُشْتَرِي يَعْلَمُ أَنَّهُ لَمْ يَشْتَرِهَا مِنْهُ، ثُمَّ رَجَعَا عَنْ شَهَادَتِهِمَا لَمْ يُصَدَّقَا عَلَى نَقْضِ الْبَيْعِ؛ لِأَنَّ شَهَادَتَهُمَا مَا تَأَدَّتْ بِحُكْمِ الْحَاكِمِ وَتَنَاقُضِ كَلَامِهِمَا فِي الرُّجُوعِ وَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِمَا؛ لِأَنَّهُمَا أَتْلَفَا عَلَى الْمُشْتَرِي الثَّمَنَ بِعِوَضٍ يَعْدِلُهُ وَهُوَ الْجَارِيَةُ فَإِنَّ مَالِيَّتَهَا مِثْلَ مَالِيَّةِ الثَّمَنِ وَالْإِتْلَافُ بِعِوَضٍ لَا يُوجِبُ الضَّمَانَ عَلَى الْمُتْلِفِ؛ لِأَنَّ وُجُوبَ الضَّمَانِ لِلْجُبْرَانِ وَالنُّقْصَانُ هُنَا مُنْجَبِرٌ بِعِوَضٍ يَعْدِلُهُ الْمُشْتَرِي فِي حِلٍّ مِنْ وَطْئِهَا فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ؛ لِأَنَّ الْقَاضِيَ لَهُ وِلَايَةُ الْإِنْشَاءِ فِي الْبُيُوعِ فَإِنَّهُ يَبِيعُ التَّرِكَةَ فِي الدَّيْنِ وَيَبِيعُ مَالَ الْيَتِيمِ وَالْغَائِبِ لِمَعْنَى النَّظَرِ فَيَكُونُ قَضَاؤُهُ كَإِنْشَاءِ الْبَيْعِ لِمَعْنَى النَّظَرِ لِلْخَصْمَيْنِ فِي ذَلِكَ، وَفِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ الْآخَرِ وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ لَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَطَأَهَا؛ لِأَنَّ قَضَاءَهُ إمْضَاءٌ لِبَيْعٍ كَانَ.
فَإِذَا لَمْ يَكُنْ بَيْنَهُمَا بَيْعٌ كَانَ بَاطِلًا فِي الْبَاطِنِ.
وَإِذَا شَهِدَ شَاهِدَانِ عَلَى رَجُلٍ أَنَّهُ قَذَفَ امْرَأَتَهُ بِالزِّنَا وَالرَّجُلُ يَعْلَمُ أَنَّهُمَا شَهِدَا بِبَاطِلٍ فَأَمَرَهُ الْقَاضِي بِأَنْ يَلْتَعِنَ هُوَ وَامْرَأَتِهِ وَفَرَّقَ بَيْنَهُمَا لَمْ يَسَعْ لِلزَّوْجِ أَنْ يَطَأَهَا، وَلَوْ تَزَوَّجَتْ بَعْدَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ وَسِعَهَا ذَلِكَ أَمَّا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ ظَاهِرٌ وَعِنْدَهُمَا؛ لِأَنَّ لِلْقَاضِي هُنَا إنْشَاءُ التَّفْرِيقِ بَيْنَهُمَا فَيُنَفِّذُ قَضَاءَهُ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي قَصَدَهُ، وَقَدْ بَيَّنَّا نَظِيرُهُ فِي بَيْعِ التَّرِكَةِ فِي دَيْنٍ ثَبَتَ بِشَهَادَةِ الزُّورِ قَالَ.
(أَلَا تَرَى) أَنَّ الزَّوْجَ لَوْ قَذَفَهَا وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّهُ كَاذِبٌ فَكَرِهَ أَنْ يُكَذِّبَ نَفْسَهُ فَلَاعَنَ الْقَاضِي بَيْنَهُمَا وَفَرَّقَ لَمْ يَسَعْ الزَّوْجُ أَنْ يَطَأَهَا، وَإِنْ كَانَ يَعْلَمُ أَنَّهَا لَمْ تَزْنِ، وَلَوْ تَزَوَّجَتْ بَعْدَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ وَسِعَهَا ذَلِكَ، وَإِنْ كَانَتْ تَعْلَمُ أَنَّ الزَّوْجَ كَاذِبٌ فِيمَا رَمَاهَا بِهِ لِمَا أَنَّ لِلْقَاضِي إنْشَاءُ التَّفْرِيقِ وَهُوَ قَضَاءٌ مِنْهُ فِي مَوْضِعِهِ لِوِلَايَةِ التَّفْرِيقِ لَهُ بِسَبَبِ اللِّعَانِ عِنْدَ اشْتِبَاهِ الْحَالِ حَتَّى إذَا كَانَ الْحَالُ مَعْلُومًا لَا يُفَرِّقُ بَيْنَهُمَا فَالِاشْتِبَاهُ لَا يُؤَثِّرُ فِي الْمَنْعِ مِنْ نُفُوذِ قَضَائِهِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي قَصَدَهُ فِي اللِّعَانِ وَأَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ يَقُولُ فِي هَذَا كُلِّهِ بَعْدَ قَضَائِهِ؛ لِأَنَّهُ مَأْمُورٌ بِاتِّبَاعِ الظَّاهِرِ، وَمَا سِوَى ذَلِكَ مِمَّا لَا طَرِيقَ لَهُ إلَى مَعْرِفَتِهِ سَاقِطٌ عَنْهُ (أَلَا تَرَى) أَنَّهُ لَوْ خَلَا بِامْرَأَتِهِ وَلَمْ يَدْخُلْ بِهَا، ثُمَّ طَلَّقَهَا وَأَقَرَّتْ هِيَ بِذَلِكَ أَنَّ لَهَا الْمَهْرَ كَامِلًا يَسَعُهَا أَنْ تَأْخُذَهُ، وَإِنْ كَانَتْ قَدْ عَلِمَتْ أَنَّ الزَّوْجَ لَمْ يَقْرَبْهَا، وَلَكِنْ لَمَّا سَقَطَ عَنْهَا مَا لَيْسَ فِي وُسْعِهَا وَأَتَتْ بِمَا عَلَيْهَا مِنْ التَّسْلِيمِ تَقَرَّرَ حَقُّهَا فِي الْمَهْرِ وَلَزِمَهَا الْعَقْدُ فَلَا يَسَعُهَا أَنْ تَتَزَوَّجَ قَبْلَ انْقِضَاءِ عِدَّتِهَا وَلَا يَسَعُ الزَّوْجَ أَنْ يَتَزَوَّجَ أُخْتَهَا فِي عِدَّتِهَا فِيهِ يَتَّضِحُ مِمَّا سَبَقَ مِنْ فُصُولِ اللِّعَانِ وَالشَّهَادَةِ.
وَكَذَلِكَ لَوْ قَذَفَ امْرَأَتَهُ بِالزِّنَا وَهُوَ صَادِقٌ فَجَحَدَتْهُ الْمَرْأَةُ وَلَاعَنَ الْقَاضِي بَيْنَهُمَا وَفَرَّقَ وَانْقَضَتْ عِدَّتُهَا فَهِيَ فِي سَعَةٍ مِنْ أَنْ تَتَزَوَّجَ غَيْرَهُ وَلَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَ أُخْتَهَا، وَإِنْ كَانَا يَعْلَمَانِ مِنْ زِنَاهَا مَا لَوْ عَلِمَهُ الْقَاضِي لَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَهُمَا.
وَإِذَا شَهِدَ شَاهِدَانِ عَلَى رَجُلٍ أَنَّهُ أَعْتَقَ أُمَّتَهُ هَذِهِ فَأَجَازَ الْقَاضِي ذَلِكَ وَأَعْتَقَهَا وَتَزَوَّجَتْ، ثُمَّ رَجَعَا عَنْ شَهَادَتِهِمَا ضَمِنَا قِيمَتَهَا لِلْمَوْلَى لِأَنَّ مِلْكَ الْمَوْلَى فِيهَا كَانَ مَالًا مُتَقَوِّمًا، وَقَدْ أَبْطَلَا ذَلِكَ بِشَهَادَتِهِمَا.
فَإِذَا زَعَمَا بِالرُّجُوعِ أَنَّهُمَا أَتْلَفَاهُ بِغَيْرِ حَقٍّ صَدَقَا عَلَى أَنْفُسِهِمَا وَضَمِنَا قِيمَتَهَا لِلْمَوْلَى وَلَمْ يَسَعْ الْمَوْلَى وَطْؤُهَا؛ لِأَنَّهَا عَتَقَتْ بِحُكْمِ الْحَاكِمِ وَمِنْ ضَرُورَةِ سَلَامَةِ الضَّمَانِ لِلْمَوْلَى أَنْ لَا تَبْقَى هِيَ عَلَى مِلْكِهِ وَبِدُونِ مِلْكِ الرَّقَبَةِ لَا يَثْبُتُ لَهُ عَلَيْهَا مِلْكُ الْحِلِّ بِغَيْرِ سَبَبٍ.
وَلَوْ أَنَّ صَبِيًّا وَصَبِيَّةً سُبِيَا وَكَبِرَا وَعَتَقَا وَتَزَوَّجَ أَحَدُهُمَا الْأُخْرَى، ثُمَّ جَاءَ حَرْبِيٌّ مُسْلِمًا وَأَقَامَ بَيِّنَةً أَنَّهُمَا وَلَدَاهُ فَقَضَى الْقَاضِي بِذَلِكَ وَفَرَّقَ بَيْنَهُمَا، ثُمَّ رَجَعَا عَنْ شَهَادَتِهِمَا لَمْ يُقْبَلْ رُجُوعُهُمَا وَلَا يَسَعُ الزَّوْجُ أَنْ يَطَأَهَا، وَإِنْ عَلِمَ أَنَّهُمَا شَهِدَا بِزُورٍ وَكَيْفَ يَطَؤُهَا، وَقَدْ جَعَلَهَا الْقَاضِي أُخْتَهُ وَلَمْ يَضْمَنْ الشَّاهِدَانِ شَيْئًا عِنْدَنَا، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ يَضْمَنَانِ لَهُ مَهْرَ مِثْلِهَا، وَهَذَا بِنَاءٌ عَلَى أَصْلٍ نَذْكُرُهُ بَعْدَ هَذَا إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى وَهُوَ أَنَّ الْبُضْعَ عِنْدَ خُرُوجِهِ مِنْ مِلْكِ الزَّوْجِ لَا يَتَقَوَّمُ عِنْدَنَا فَلَمْ يُتْلِفَا عَلَيْهِ مَالًا مُتَقَوِّمًا بِشَهَادَتِهِمَا، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ يَتَقَوَّمُ بِمَهْرِ الْمِثْلِ عِنْدَ خُرُوجِهِ مِنْ مِلْكِهِ كَمَا يَتَقَوَّمُ عِنْدَ دُخُولِهِ فِي مِلْكِهِ.
وَلَوْ كَانَتْ صَبِيَّةً فِي يَدَيْ رَجُلٍ يَزْعُمُ أَنَّهَا أَمَتُهُ فَشَهِدَ شَاهِدَانِ أَنَّهُ أَقَرَّ أَنَّهَا ابْنَتُهُ فَقَضَى بِذَلِكَ الْقَاضِي لَمْ يَسَعْ الْمَوْلَى أَنْ يَطَأَهَا، وَإِنْ عَلِمَ أَنَّهُمَا شَهِدَا زُورٍ؛ لِأَنَّ الْقَاضِي حَكَمَ بِأَنَّهَا ابْنَتُهُ فَإِنْ رَجَعَا ضَمِنَا قِيمَتَهَا؛ لِأَنَّهُمَا أَقَرَّا بِالرُّجُوعِ أَنَّهُمَا أَتْلَفَا عَلَيْهِ مَالًا مُتَقَوِّمًا بِشَهَادَتِهِمَا وَهُوَ مِلْكُهُ فِي رَقَبَتِهَا وَلَوْ مَاتَتْ وَتَرَكَتْ مِيرَاثًا وَسِعَهُ أَنْ يَأْكُلَ مِيرَاثَهَا.
وَكَذَلِكَ لَوْ مَاتَ الْأَبُ كَانَتْ فِي سَعَةٍ مِنْ أَكْلِ مِيرَاثِهِ أَمَّا فِي جَانِبِهَا فَهُوَ وَاضِحٌ؛ لِأَنَّهُ لَا عِلْمَ لَهَا بِحَقِيقَةِ الْأَمْرِ فَحَالَةُ الْعُلُوقِ غَيْبٌ عَنْهَا، وَفِي مِثْلِهِ عَلَيْهَا اتِّبَاعُ قَضَاءِ الْقَاضِي فَيَسَعُهَا أَنْ تَأْكُلَ مِيرَاثَهُ وَأَمَّا فِي جَانِبِهِ فَهُوَ مُشْكِلٌ؛ لِأَنَّ الْمِيرَاثَ وَالنَّسَبَ مِمَّا لَيْسَ لِلْقَاضِي فِيهِ وِلَايَةُ الْإِنْشَاءِ وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّهَا لَيْسَتْ بِابْنَتِهِ حَقِيقَةً فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَسَعَهُ أَنْ يَأْكُلَ مِيرَاثَهَا حَتَّى قِيلَ تَأْوِيلُهُ أَنَّهُ يَأْكُلُ مِيرَاثَهَا بِسَبَبِ الْوَلَاءِ؛ لِأَنَّ الْقَاضِي قَضَى بِالْعِتْقِ وَلَهُ فِيهِ وِلَايَةُ الْإِنْشَاءِ فَيَثْبُتُ الْوَلَاءُ لَهُ وَالْأَصَحُّ أَنْ يُقَالَ لَمَّا كَانَ لِلْقَاضِي وِلَايَةُ الْإِنْشَاءِ فِي قَطْعِ النَّسَبِ بِاللِّعَانِ.
فَكَذَلِكَ لَهُ وِلَايَةُ الْإِنْشَاءِ فِي الْقَضَاءِ بِالنَّسَبِ إذَا صَادَفَ مَحَلَّهُ فَقَدْ صَادَفَ مَحَلَّهُ وَهُنَا فَإِنَّهُ لَيْسَ لَهَا نَسَبٌ مَعْرُوفٌ؛ فَلِهَذَا يَسَعُهُ أَنْ يَأْكُلَ مِيرَاثَهَا.
وَلَوْ شَهِدَا عَلَى مَالٍ فَقَضَى بِهِ الْقَاضِي فَقَبَضَهُ، أَوْ لَمْ يَقْبِضْهُ، ثُمَّ رَجَعَا ضَمِنَا الْمَالَ إذَا أَخَذَهُ الْمَقْضِيُّ لَهُ مِنْ الْمَقْضِيِّ عَلَيْهِ وَقَبْلَ الْأَخْذِ لَا يُضَمِّنُهُمَا الْمَقْضِيُّ عَلَيْهِ شَيْئًا؛ لِأَنَّ تَحَقُّقَ النُّقْصَانِ عِنْدَ تَسْلِيمِ الْمَالِ إلَى الْمَقْضِيِّ لَهُ.
فَأَمَّا مَا بَقِيَتْ يَدُهُ عَلَى مَالِهِ فَلَا يَتَحَقَّقُ الْخَسْرَانُ فِي حَقِّهِ، وَلِأَنَّ الضَّمَانَ مُقَدَّرٌ بِالْمِثْلِ وَهُمَا أَتْلَفَا عَلَيْهِ دَيْنًا حِينَ أَلْزَمَاهُ ذَلِكَ بِشَهَادَتِهِمَا فَلَوْ ضَمَّنَهُمَا عَيْنًا قَبْلَ الْأَدَاءِ كَانَ قَدْ اسْتَوْفَى مِنْهُمَا عَيْنًا مُمَاثِلَةَ الدَّيْنِ وَلَا مُمَاثَلَةَ بَيْنَ الْعَيْنِ وَالدَّيْنِ، وَفِي الْأَعْيَانِ يَثْبُتُ الْمِلْكُ لِلْمَقْضِيِّ لَهُ بِقَضَاءِ الْقَاضِي، وَلَكِنَّ الْمَقْضِيَّ عَلَيْهِ يَزْعُمُ أَنَّ ذَلِكَ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّ الْمِلْكَ فِي يَدِهِ مِلْكُهُ فَلَا يَكُونُ لَهُ أَنْ يُضَمِّنَ الشَّاهِدَيْنِ شَيْئًا مَا لَمْ يَخْرُجْ الْمَالُ مِنْ يَدِهِ بِقَضَاءِ الْقَاضِي.
وَكَذَلِكَ هَذَا فِي الْعَقَارِ فَإِنَّ بِالشَّهَادَةِ الْبَاطِلَةِ يَضْمَنُ الْعَقَارَ كَالْمَنْقُولِ؛ لِأَنَّ فِيهَا إتْلَافَ الْمِلْكِ وَالْيَدُ عَلَى الْمَقْضِيِّ عَلَيْهِ وَالْعَقَارُ يُضْمَنُ بِمِثْلِ هَذَا السَّبَبِ فَإِنَّ إتْلَافَ الْمِلْكِ يَتَحَقَّقُ فِيهَا بِخِلَافِ الْغَصْبِ عَلَى قَوْلِ مَنْ يَقُولُ الْعَقَارُ لَا يُضْمَنُ بِالْغَصْبِ.
وَلَوْ شَهِدَ ثَلَاثَةُ نَفَرٍ عَلَى رَجُلٍ بِمَالٍ وَقَضَى بِهِ الْقَاضِي، ثُمَّ رَجَعَ أَحَدُهُمْ لَمْ يَضْمَنْ شَيْئًا؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ فِي ضَمَانِ الرُّجُوعِ أَنَّهُ يُعْتَبَرُ بَقَاءُ مَنْ بَقِيَ عَلَى الشَّهَادَةِ لَا رُجُوعُ مَنْ رَجَعَ، وَقَدْ بَقِيَ عَلَى الشَّهَادَةِ حُجَّةٌ تَامَّةٌ فَلَا يَضْمَنُ الرَّاجِعُ شَيْئًا، وَهَذَا؛ لِأَنَّ الرَّاجِعَ، وَإِنْ زَعَمَ أَنَّهُ مُتْلِفٌ بِشَهَادَتِهِ عَلَيْهِ فَمَا أَتْلَفَهُ يَسْتَحِقُّ عَلَيْهِ بِشَهَادَةِ غَيْرِهِ وَاسْتِحْقَاقُ ذَلِكَ عَلَيْهِ بِالْحُجَّةِ يَمْنَعُهُ مِنْ الرُّجُوعِ عَلَيْهِ عَلَى الْمُتْلِفِ بِالضَّمَانِ كَمَنْ غَصَبَ مَالَ إنْسَانٍ، أَوْ أَتْلَفَهُ، ثُمَّ اسْتَحَقَّ رَجُلٌ ذَلِكَ الْمَالَ بِالْبَيِّنَةِ فَلَا ضَمَانَ لِلْمُتْلِفِ عَلَيْهِ إذَا لَمْ يُضَمِّنْهُ الْمُسْتَحِقُّ شَيْئًا، وَلَوْ رَجَعَ اثْنَانِ مِنْهُمْ ضَمِنَا نِصْفَ الْمَالِ؛ لِأَنَّهُ بَقِيَ عَلَى الشَّهَادَةِ لَمْ يَثْبُتْ نِصْفُ الْمَالِ بِشَهَادَتِهِ، وَإِنَّمَا انْعَدَمَتْ الْحُجَّةُ فِي النِّصْفِ خَاصَّةً فَيَضْمَنُ الرَّاجِعَانِ ذَلِكَ.
وَلَوْ شَهِدَ رَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ، ثُمَّ رَجَعَتْ امْرَأَةٌ فَعَلَيْهَا رُبُعُ الْمَالِ؛ لِأَنَّ الثَّابِتَ بِشَهَادَتِهِمَا رُبُعُ الْمَالِ، وَلِأَنَّهُ قَدْ بَقِيَ عَلَى الشَّهَادَةِ مَنْ يَثْبُتُ بِشَهَادَتِهِ ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِ الْمَالِ فَعَلَى الرَّاجِعِ رُبُعُ الْمَالِ، وَإِنْ رَجَعَتْ الْمَرْأَتَانِ فَعَلَيْهَا النِّصْفُ، وَإِنْ رَجَعَ الرَّجُلُ وَحْدَهُ فَعَلَيْهِ نِصْفُ الْمَالِ، وَإِنْ رَجَعَ رَجُلٌ وَامْرَأَةٌ فَعَلَيْهِمَا ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِ الْمَالِ عَلَى الرَّجُلِ النِّصْفُ وَعَلَى الْمَرْأَةِ الرُّبُعُ، وَإِنْ رَجَعُوا جَمِيعًا فَعَلَى الرَّجُلِ نِصْفُ الْمَالِ وَعَلَى الْمَرْأَتَيْنِ النِّصْفُ؛ لِأَنَّ الثَّابِتَ بِشَهَادَةِ الرَّجُلِ مِثْلُ مَا ثَبَتَ بِشَهَادَةِ الْمَرْأَتَيْنِ فَقَدْ قَامَتَا فِي الشَّهَادَةِ مَقَامَ رَجُلٍ وَاحِدٍ كَمَا قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «فِي نُقْصَانِ عَقْلِ النِّسَاءِ عَدَلَتْ شَهَادَةُ اثْنَتَيْنِ مِنْهُنَّ شَهَادَةُ رَجُلٍ».
فَإِنْ شَهِدَ رَجُلٌ وَعَشْرُ نِسْوَةٍ فَقَضَى الْقَاضِي، ثُمَّ رَجَعُوا جَمِيعًا فَعَلَى الرَّجُلِ سُدُسُ الْمَالِ وَعَلَى النِّسَاءِ خَمْسَةُ أَسْدَاسِ الْمَالِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ.
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ عَلَى الرَّجُلِ النِّصْفُ وَعَلَى النِّسَاءِ النِّصْفُ؛ لِأَنَّ النِّسَاءَ، وَإِنْ كَثُرْنَ فِي الشَّهَادَةِ لَا يَقُمْنَ إلَّا مَقَامَ رَجُلٍ وَاحِدٍ.
(أَلَا تَرَى) أَنَّ الْحُجَّةَ لَا تَتِمُّ مَا لَمْ يَشْهَدْ مَعَهُنَّ رَجُلٌ فَكَانَ الثَّابِتُ بِشَهَادَتِهِ نِصْفَ الْمَالِ وَبِشَهَادَتِهِنَّ نِصْفَ الْمَالِ يُوَضِّحُهُ أَنَّ الرَّجُلَ مُتَعَيِّنٌ فِي هَذِهِ الشَّهَادَةِ لِلْقِيَامِ بِنِصْفِ الْحُجَّةِ؛ وَلِهَذَا لَا تَتِمُّ الْحُجَّةُ إلَّا بِوُجُودِهِ فَلَا يَتَغَيَّرُ هَذَا الْحُكْمُ بِكَثْرَةِ النِّسَاءِ.
وَإِذَا ثَبَتَ نِصْفُ الْحَقِّ بِشَهَادَتِهِ ضَمِنَ ذَلِكَ عِنْدَ الرُّجُوعِ وَالنِّصْفُ الْآخَرُ يَثْبُتُ بِشَهَادَةِ النِّسَاءِ فَعَلَيْهِنَّ ضَمَانُهُ عِنْدَ الرُّجُوعِ وَأَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ يَقُولُ كُلّ امْرَأَتَيْنِ فِي الشَّهَادَةِ يَقُومَانِ مَقَامَ الرَّجُلِ الْوَاحِدِ فَعَشْرُ نِسْوَةٍ بِخَمْسَةٍ مِنْ الرِّجَالِ وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ شَهِدَ سِتَّةٌ مِنْ الرِّجَالِ، ثُمَّ رَجَعُوا فَيَكُونُ الضَّمَانُ عَلَيْهِمْ أَسْدَاسًا وَدَلِيلُ صِحَّةِ هَذَا الْكَلَامِ أَنَّ حُكْمَ الشَّهَادَةِ كَحُكْمِ الْمِيرَاثِ، وَفِي الْمِيرَاثِ عِنْدَ كَثْرَةِ الْبَنَاتِ مَعَ الِابْنِ يَجْعَلُ كُلَّ اثْنَتَيْنِ كَابْنٍ وَاحِدٍ وَلَمْ يَجْعَلْ حَالَةَ الِاخْتِلَاطِ كَحَالَةِ انْفِرَادِ الْبَنَاتِ فَعِنْدَ الِانْفِرَادِ لَا يُزَادُ لَهُنَّ عَلَى الثُّلُثَيْنِ، ثُمَّ عِنْدَ الِاخْتِلَاطِ يَجْعَلُ كُلَّ اثْنَتَيْنِ كَابْنٍ.
فَكَذَلِكَ فِي الشَّهَادَةِ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ النُّقْصَانَ عَلَى أَدْنَى الْعَدَدِ فِي الشَّهَادَةِ يَمْنَعُ الْقَضَاءَ.
فَأَمَّا الزِّيَادَةُ عَلَى النِّصَابِ مُعْتَبَرٌ فِي أَنَّ الْقَضَاءَ يَكُونُ بِشَهَادَةِ الْكُلِّ فَبِكَثْرَةِ النِّسَاءِ عِنْدَ وُجُودِ الرَّجُلِ يَزْدَادُ النِّصَابُ، وَيَكُونُ الْقَضَاءُ بِشَهَادَةِ الْكُلِّ عَلَى أَنَّ كُلَّ امْرَأَتَيْنِ كَرَجُلٍ وَاحِدٍ فَعِنْدَ الرُّجُوعِ كَذَلِكَ يَقْضِي بِالضَّمَانِ، وَلَوْ رَجَعَ ثَمَانِ نِسْوَةٍ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِنَّ شَيْءٌ؛ لِأَنَّهُ قَدْ بَقِيَ عَلَى الشَّهَادَةِ مَنْ يَثْبُتُ الِاسْتِحْقَاقُ بِشَهَادَتِهِ وَهُوَ رَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ فَإِنْ رَجَعَتْ امْرَأَةٌ بَعْدَ ذَلِكَ كَانَ عَلَيْهَا وَعَلَى الثَّمَانِ رُبُعُ الْمَالِ؛ لِأَنَّ الْحُجَّةَ إنَّمَا بَقِيَتْ فِي ثَلَاثَةِ أَرْبَاعِ الْحَقِّ فَيَجِبُ الضَّمَانُ بِقَدْرِ مَا انْعَدَمَتْ الْحُجَّةُ فِيهِ، وَلَيْسَ الْبَعْضُ بِأَوْلَى مِنْ الْبَعْضِ فِي وُجُوبِ ذَلِكَ عَلَيْهِ؛ فَلِهَذَا ضَمِنَ التِّسْعُ رُبُعَ الْمَالِ عَلَيْهِنَّ بِالسَّوِيَّةِ، وَإِنْ رَجَعَتْ الْعَاشِرَةُ فَعَلَيْهَا وَعَلَى التِّسْعِ نِصْفُ الْمَالِ أَمَّا عِنْدَهُمَا ظَاهِرٌ؛ لِأَنَّ الثَّابِتَ بِشَهَادَتِهِنَّ نِصْفُ الْمَالِ، وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ؛ لِأَنَّهُ بَقِيَ عَلَى الشَّهَادَةِ مَنْ يَثْبُتُ نِصْفُ الْمَالِ بِشَهَادَتِهِ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ شَهِدَ سِتَّةٌ مِنْ الرِّجَالِ، ثُمَّ رَجَعَ خَمْسَةٌ.
وَلَوْ شَهِدَ رَجُلَانِ وَامْرَأَةٌ بِمَالٍ، ثُمَّ رَجَعُوا كَانَ الضَّمَانُ عَلَى الرَّجُلَيْنِ دُونَ الْمَرْأَةِ؛ لِأَنَّ الْمَرْأَةَ الْوَاحِدَةَ لَا تَكُونُ شَاهِدَةً فَإِنَّ الْمَرْأَتَيْنِ شَاهِدٌ وَاحِدٌ فَالْمَرْأَةُ الْوَاحِدَةُ شَطْرُ الْعِلَّةِ فِي كَوْنِهَا شَاهِدًا وَبِشَطْرِ الْعِلَّةِ لَا يَثْبُتُ شَيْءٌ مِنْ الْحُكْمِ فَكَانَ الْقَضَاءُ بِشَهَادَةِ رَجُلَيْنِ دُونَ الْمَرْأَةِ فَلَا يَضْمَنُ عِنْدَ الرُّجُوعِ شَيْئًا.
وَلَوْ شَهِدَ رَجُلٌ وَثَلَاثُ نِسْوَةٍ، ثُمَّ رَجَعَ رَجُلٌ وَامْرَأَةٌ ضَمِنَ الرَّجُلُ نِصْفَ الْمَالِ؛ لِأَنَّ الْحُجَّةَ بَقِيَتْ فِي نِصْفِ الْمَالِ فَقَدْ بَقِيَ امْرَأَتَانِ عَلَى الشَّهَادَةِ، ثُمَّ هَذَا النِّصْفُ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ عَلَى الرَّجُلِ خَاصَّةً لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ عِنْدَهُمَا نِصْفَ الْمَالِ مُتَعَيَّنٌ فِي أَنَّهُ ثَابِتٌ بِشَهَادَةِ الرَّجُلِ وَنِصْفٌ ثَابِتٌ بِشَهَادَةِ النِّسَاءِ، وَقَدْ بَقِيَ مِنْ النِّسَاءِ عَلَى الشَّهَادَةِ مَنْ يَثْبُتُ نِصْفُ الْمَالِ بِشَهَادَتِهِ فَعَرَفْنَا أَنَّ الْحُجَّةَ انْعَدَمَتْ فِي النِّصْفِ الَّذِي هُوَ ثَابِتٌ بِشَهَادَةِ الرَّجُلِ خَاصَّةً فَيَكُون الضَّمَانُ عَلَيْهِ دُونَ الْمَرْأَةِ وَيَنْبَغِي فِي قِيَاسِ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنْ يَكُونَ النِّصْفُ أَثْلَاثًا عَلَى الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ؛ لِأَنَّ الْقَضَاءَ هُنَا بِشَهَادَةِ الْكُلِّ فَكُلُّ امْرَأَةٍ مِنْهُنَّ إذَا ضَمَّتْهَا إلَى الْأُخْرَى كَانَتَا شَاهِدًا فَلَا يَكُونُ الْقَضَاءُ مُحَالًا بِهِ عَلَى شَهَادَةِ الْبَعْضِ دُونَ الْبَعْضِ وَقَدْ بَقِيَتْ الْحُجَّةُ فِي نِصْفِ الْحَقِّ فَيَجِبُ ضَمَانُ نِصْفِ الْحَقِّ عَلَى الرَّاجِعَيْنِ أَثْلَاثًا؛ لِأَنَّ الثَّابِتَ بِشَهَادَةِ الرَّجُلِ ضِعْفُ مَا يَثْبُتُ بِشَهَادَةِ الْمَرْأَةِ وَلَوْ رَجَعُوا جَمِيعًا كَانَ عَلَى الرَّجُلِ النِّصْفُ وَعَلَى النِّسْوَةِ النِّصْفُ فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ، وَفِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ عَلَى الرَّجُلِ خُمُسَا الْمَالِ وَعَلَى النِّسْوَةِ ثَلَاثَةُ أَخْمَاسِهِ كَمَا ذَكَرْنَا فِي الْفَصْلِ الْأَوَّلِ.
وَإِذَا شَهِدَ رَجُلَانِ وَامْرَأَتَانِ، ثُمَّ رَجَعُوا فَالضَّمَانُ أَثْلَاثٌ؛ لِأَنَّ الْمَرْأَتَيْنِ قَامَتَا مَقَامَ رَجُلٍ وَاحِدٍ فَكَأَنَّهُ شَهِدَ ثَلَاثَةٌ بِالْمَالِ، ثُمَّ رَجَعُوا وَإِذَا شَهِدَ شَاهِدَانِ بِمَالٍ قَضَى بِهِ الْقَاضِي، ثُمَّ ادَّعَى الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ أَنَّهُمَا رَجَعَا وَأَرَادَ يَمِينَهُمَا فَلَا يَمِينَ عَلَيْهِمَا فِي ذَلِكَ وَلَا تُقْبَلُ عَلَيْهِمَا بِهِ بَيِّنَةٌ؛ لِأَنَّهُ ادَّعَى عَلَيْهِمَا رُجُوعًا بَاطِلًا لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ الرُّجُوعَ فَسْخٌ لِلشَّهَادَةِ فَيَخْتَصُّ بِمَجْلِسِ الْحُكْمِ كَالشَّهَادَةِ فَلِمَا أَنَّ شَهَادَتَهُمَا فِي غَيْرِ مَجْلِسِ الْقَاضِي بَاطِلَةٌ.
فَكَذَلِكَ رُجُوعُهُمَا وَالْحُدُودُ وَالْقِصَاصُ فِي هَذَا كَالْأَمْوَالِ.
وَإِذَا رَجَعَا عَنْ شَهَادَتِهِمَا وَأَشْهَدَا بِالْمَالِ عَلَى أَنْفُسِهِمَا مِنْ قَبْلِ الرُّجُوعِ، ثُمَّ جَحَدَا ذَلِكَ فَشَهِدَتْ عَلَيْهِمَا شُهُودٌ بِالْمَالِ عَلَيْهِمَا قَبْلَ الرُّجُوعِ وَالضَّمَانِ لَمْ يُقْبَلْ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الرُّجُوعَ فِي غَيْرِ مَجْلِسِ الْقَضَاءِ بَاطِلٌ فَإِنَّمَا أَشْهَدَا عَلَى أَنْفُسِهِمَا بِالْمَالِ بِسَبَبٍ بَاطِلٍ، وَذَلِكَ لَا يُلْزِمُهُمَا شَيْءٌ.
وَكَذَلِكَ لَوْ شَهِدُوا عَلَى زِنًا وَاحَصَانٍ فَرَجَمَهُ الْقَاضِي بِذَلِكَ، ثُمَّ أَشْهَدَ الشُّهُودَ عَلَيْهِمْ بِالرُّجُوعِ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِمْ بِالرُّجُوعِ حَدٌّ وَلَا ضَمَانٌ؛ لِأَنَّهُمْ بِالرُّجُوعِ مَا صَارُوا قَاذِفِينَ لَهُ، وَلَكِنَّ الشَّهَادَةَ تَنْفَسِخُ بِالرُّجُوعِ فَيَصِيرُ كَلَامُ الشَّاهِدَيْنِ قَذْفًا عِنْدَ ذَلِكَ وَفَسْخُ الشَّهَادَةِ بِالرُّجُوعِ مُخْتَصٌّ بِمَجْلِسِ الْحُكْمِ.
(قَالَ) وَلَوْ أَوْجَبْت عَلَيْهِمَا الْحَدَّ لَأَوْجَبْت عَلَيْهِمَا الضَّمَانَ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّهُمْ لَا يَضْمَنُونَ بِالرُّجُوعِ فِي غَيْرِ مَجْلِسِ الْحُكْمِ فَلَا يُحَدُّونَ أَيْضًا.
وَإِذَا لَمْ يَقْضِ الْقَاضِي بِشَهَادَةِ شَاهِدَيْنِ حَتَّى رَجَعَا عَنْهَا لَمْ يَقْضِ بِهَا؛ لِأَنَّ الْقَضَاءَ يَسْتَدْعِي قِيَامَ الْحُجَّةِ عِنْدَهُ وَلَمْ تَبْقَ الْحُجَّةُ حِينَ رَجَعَا، وَلِأَنَّ شَهَادَتَهُمَا تَتَأَكَّدُ بِالْقَضَاءِ فَبِالرُّجُوعِ قَبْلَ التَّأَكُّدِ يَبْطُلُ بِحَيْثُ لَا يَبْقَى لَهُ أَثَرٌ وَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِمَا؛ لِأَنَّهُمَا لَمْ يُتْلِفَا شَيْئًا عَلَى أَحَدٍ أَمَّا الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ فَقَدْ بَقِيَ الْمَالُ عَلَى مِلْكِهِ وَأَمَّا الْمَشْهُودُ لَهُ فَلَمْ يَثْبُتْ لَهُ اسْتِحْقَاقٌ قَبْلَ الْقَضَاءِ وَلَوْ اشْتَرَى رَجُلٌ دَارًا بِأَلْفِ دِرْهَمٍ وَهِيَ قِيمَتُهَا وَنَقَدَهُ الثَّمَنَ فَشَهِدَ شَاهِدَانِ أَنَّ هَذَا الرَّجُلَ شَفِيعُهَا، وَأَنَّ هَذِهِ الدَّارَ الَّتِي هِيَ فِي يَدَيْهِ مُلْزَقَةٌ بِدَارِهِ فَقَضَى الْقَاضِي لَهُ بِالشُّفْعَةِ، ثُمَّ رَجَعَا عَنْ شَهَادَتِهِمَا فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِمَا؛ لِأَنَّهُمَا أَتْلَفَا عَلَى الْمُشْتَرِي مِلْكَهُ فِيهَا بِعِوَضٍ يَعْدِلُهُ وَهُوَ الثَّمَنُ الَّذِي أَخَذَهُ مِنْ الشَّفِيعِ فَإِنْ كَانَ الْمُشْتَرِي قَدْ بَنَى فِيهَا بِنَاءً فَأَمَرَهُ الْقَاضِي بِنَقْضِهِ ضَمِنَ الشَّاهِدَانِ لَهُ قِيمَةَ بِنَائِهِ؛ لِأَنَّهُ كَانَ مُسْتَحِقًّا لِقَرَارِ الْبِنَاءِ بِمِلْكِهِ الدَّارَ، وَقَدْ شَهِدَ أَنَّ الشَّفِيعَ أَحَقُّ بِمِلْكِهَا مِنْهُ فَكَانَا مُتْلِفَيْنِ لِلْبِنَاءِ عَلَيْهِ فَيَضْمَنَانِ لَهُ قِيمَةَ الْبِنَاءِ مَبْنِيًّا، وَيَكُونُ النَّقْضُ لَهُمَا بِالضَّمَانِ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ هَدَمَاهُ بِأَيْدِيهِمَا.
وَإِذَا رَجَعَ الشَّاهِدَانِ عَنْ شَهَادَةٍ شَهِدَا بِهَا عِنْدَ غَيْرِ الْقَاضِي الَّذِي شَهِدَا عِنْدَهُ فَإِنَّهُ يَقْضِي عَلَيْهِمَا بِالضَّمَانِ؛ لِأَنَّ شَرْطَ صِحَّةِ الرُّجُوعِ مَجْلِسُ الْقَاضِي لَا مَجْلِسُ ذَلِكَ الْقَاضِي الَّذِي شَهِدَا عِنْدَهُ فَرُجُوعُهُمَا فِي مَجْلِسِ الْقَاضِي الْآخَرِ كَرُجُوعِهِمْ فِي مَجْلِسِ الْقَاضِي الَّذِي شَهِدَا عِنْدَهُ أَرَأَيْت لَوْ مَاتَ الْأَوَّلُ، أَوْ عُزِلَ فَرَجَعَ فِي مَجْلِسِ الْقَاضِي الَّذِي قَامَ مَقَامَهُ أَلَيْسَ يَقْضِي عَلَيْهِمَا بِالضَّمَانِ.
فَكَذَلِكَ إذَا رَجَعَا فِي مَجْلِسِ الْقَاضِي الْآخَرِ فَإِنْ قَضَى بِذَلِكَ عَلَيْهِمَا فَلَمْ يُؤَدِّيَا حَتَّى تَخَاصَمَا إلَى الْقَاضِي الَّذِي شَهِدَا عِنْدَهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَجَحَدَا الرُّجُوعَ فَقَامَتْ عَلَيْهِمَا الْبَيِّنَةُ بِالرُّجُوعِ وَبِقَضَاءِ الْقَاضِي عَلَيْهِمَا بِالضَّمَانِ فَإِنَّهُ يَنْفُذُ ذَلِكَ عَلَيْهِمَا وَيُضَمِّنُهَا الْمَالَ؛ لِأَنَّ الْمُدَّعِيَ أَثْبَتَ الْمَالَ عَلَيْهِمَا بِالْحُجَّةِ بِسَبَبٍ صَحِيحٍ فَيُضَمِّنُهُمَا الْمَالَ بِهِ، وَكَذَلِكَ لَوْ رَجَعَا عِنْدَ الْقَاضِي الَّذِي شَهِدَا عِنْدَهُ فَيُضَمِّنُهُمَا ذَلِكَ، ثُمَّ اخْتَصَمُوا إلَى غَيْرِهِ، وَكَذَلِكَ لَوْ شَهِدَ عَلَيْهِمَا شَاهِدَانِ بِإِقْرَارِهِمَا أَنَّهُمَا رَجَعَا عِنْدَ قَاضٍ مِنْ الْقُضَاةِ، وَأَنَّهُ ضَمَّنَهُمَا ذَلِكَ فَالثَّابِتُ مِنْ إقْرَارِهِمَا بِالْبَيِّنَةِ كَالثَّابِتِ بِالْمُعَايَنَةِ، وَلَوْ سَمِعَ الْقَاضِي إقْرَارَهُمَا بِذَلِكَ ضَمَّنَهَا الْمَالَ.
فَكَذَلِكَ إذَا أَثْبَتَ الْمُدَّعِي ذَلِكَ بِالْحُجَّةِ.
وَلَوْ رَجَعَ عِنْدَ غَيْرِ قَاضٍ وَضَمَّنَهُمَا الْمَالَ وَكَتَبَا بِهِ عَلَى أَنْفُسِهِمَا صَكًّا وَبِسَبَبِ الْمَالِ إلَى الْوَجْهِ الَّذِي هُوَ لَهُ مِنْهُ، ثُمَّ جَحَدَا ذَلِكَ عِنْدَ الْقَاضِي لَمْ يَقْضِ بِذَلِكَ عَلَيْهِمَا؛ لِأَنَّهُمَا كَتَبَا عَلَى أَنْفُسِهِمَا الصَّكَّ بِمَالٍ بِسَبَبٍ بَاطِلٍ وَهُوَ رُجُوعُهُمَا عِنْدَ غَيْرِ الْقَاضِي، وَكَذَلِكَ لَوْ أَقَرَّ بِذَلِكَ ضَمَّنَهُمَا الْمَالَ.
فَكَذَلِكَ إذَا أَثْبَتَ الْمُدَّعِي ذَلِكَ بِالْحُجَّةِ، وَلَوْ رَجَعَا عِنْدَ غَيْرِ قَاضٍ وَضَمَّنَهُمَا الْمَالَ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي هُوَ لَهُ مِنْهُ، ثُمَّ جَحَدَا ذَلِكَ عِنْدَ الْقَاضِي لَمْ يَقْضِ بِذَلِكَ عَلَيْهِمَا؛ لِأَنَّهُمَا كَتَبَا عَلَى أَنْفُسِهِمَا الصَّكَّ بِسَبَبٍ بَاطِلٍ وَهُوَ رُجُوعُهُمَا عِنْدَ غَيْرِ الْقَاضِي، وَكَذَلِكَ لَوْ أَقَرَّ بِذَلِكَ عِنْدَ صَاحِبِ الشُّرَطِ، أَوْ عَامِلِ كُورَةٍ لَيْسَ الْقَضَاءُ إلَيْهِ؛ لِأَنَّ الرُّجُوعَ مُعْتَبَرٌ بِالشَّهَادَةِ فَكَمَا أَنَّ الشَّهَادَةَ عِنْدَ هَؤُلَاءِ كَالشَّهَادَةِ عِنْدَ غَيْرِهِمْ مِنْ الرَّعَايَا.
فَكَذَلِكَ الرُّجُوعُ وَإِذَا شَهِدَا عَلَى رَجُلٍ أَنَّهُ بَاعَ عَبْدَهُ هَذَا مِنْ فُلَانٍ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ وَالْبَائِعُ يَجْحَدُ وَالْمُشْتَرِي يَدَّعِي، ثُمَّ رَجَعَا عَنْ الشَّهَادَةِ فَإِنْ كَانَتْ قِيمَةُ الْعَبْدِ أَلْفَ دِرْهَمٍ، أَوْ أَقَلَّ فَلَا ضَمَانَ عَلَى الشَّاهِدَيْنِ؛ لِأَنَّهُمَا أَدْخَلَا فِي مِلْكِ الْبَائِعِ مَا يَعْدِلُ مَا أَخْرَجَاهُ عَنْ مِلْكِهِ، أَوْ يَزِيدُ عَلَيْهِ وَهُوَ الثَّمَنُ الَّذِي اسْتَوْفَاهُ مِنْ الْمُشْتَرِي، وَإِنْ كَانَتْ قِيمَةُ الْعَبْدِ أَكْثَرَ مِنْ أَلْفٍ ضَمِنَا الْفَضْلَ؛ لِأَنَّهُمَا أَتْلَفَا الْفَضْلَ عَلَيْهِ بِغَيْرِ عِوَضٍ يَعْدِلُهُ وَالْبَعْضُ مُعْتَبَرٌ بِالْكُلِّ، وَكَذَلِكَ كُلُّ بَيْعٍ، أَوْ صَرْفٍ شَهِدَا بِهِ، وَإِنْ أَخَّرَ الْمَقْضِيُّ عَلَيْهِ الضَّمَانَ عَنْهُمَا جَازَ؛ لِأَنَّ هَذَا تَأْجِيلُ دَيْنٍ وَاجِبٍ فِي الذِّمَّةِ وَهُوَ وَسَائِرُ الدُّيُونِ سَوَاءٌ، ثُمَّ إذَا أَجَّلَ رَبُّ الدَّيْنِ لِلْمَدِينِ صَحَّ هَذَا التَّأْجِيلُ فَكَذَا هُنَا، وَلِأَنَّ الْوَاجِبَ عَلَيْهِمَا لَيْسَ بِبَدَلِ الصَّرْفِ، وَإِنَّمَا هُوَ بَدَلُ الْغَصْبِ، أَوْ مَالٌ مُسْتَهْلَكٌ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ صِحَّةِ التَّأْجِيلِ بِهِ.
وَإِذَا كَانَ لِرَجُلٍ عَلَى رَجُلٍ دَيْنٌ فَشَهِدَ شَاهِدَانِ أَنَّهُ وَهَبَهُ، أَوْ تَصَدَّقَ بِهِ عَلَيْهِ، أَوْ أَبْرَأَهُ مِنْهُ، أَوْ حَلَّلَهُ، أَوْ أَوْفَاهُ، ثُمَّ رَجَعَ ضَمِنَا الْمَالَ؛ لِأَنَّهُمَا أَتْلَفَا عَلَيْهِ الْمَالَ بِشَهَادَتِهِمَا فَإِنْ (قِيلَ) قَدْ أَتْلَفَا عَلَيْهِ الدَّيْنَ فَكَيْفَ يَضْمَنَانِ لَهُ الْعَيْنَ (قُلْنَا) قَدْ أَتْلَفَا عَلَيْهِ دَيْنًا يَتَعَيَّنُ بِالْقَبْضِ فَيَضْمَنَانِ لَهُ مِثْلَ ذَلِكَ دَيْنًا فِي ذِمَّتِهِمَا يَتَعَيَّنُ بِالْقَبْضِ مِنْهُمَا.
وَإِنْ شَهِدَا أَنَّهُ أَجَّلَهُ سَنَةً فَقَضَى بِذَلِكَ، ثُمَّ رَجَعَ قَبْلَ الْحِلِّ، أَوْ بَعْدَهُ ضَمِنَا الْمَالَ لِلطَّالِبِ؛ لِأَنَّهُمَا فَوَّتَا عَلَيْهِ حَقَّ الْقَبْضِ بِالشَّهَادَةِ بِالتَّأْجِيلِ إلَى انْقِضَاءِ الْأَجَلِ، وَذَلِكَ مُوجِبٌ لِلضَّمَانِ عَلَيْهِمَا، وَهَذَا؛ لِأَنَّ التَّأْجِيلَ فِي الْحُكْمِ كَالْإِبْرَاءِ.
(أَلَا تَرَى) أَنَّ الْمَرِيضَ إذَا أَجَّلَ فِي دَيْنٍ لَهُ يُعْتَبَرُ خُرُوجُهُ مِنْ الثُّلُثِ كَمَا لَوْ أَبْرَأَ، ثُمَّ هَذَا يَتَّضِحُ فِي رُجُوعِهِمَا قَبْلَ حِلِّ الْأَجَلِ، وَكَذَلِكَ لَوْ رَجَعَا بَعْدَ حَلِّ الْأَجَلِ؛ لِأَنَّ الضَّمَانَ عَلَيْهِمَا عِنْدَ الرُّجُوعِ بِالشَّهَادَةِ لَا بِالرُّجُوعِ فَالْإِتْلَافُ بِالشَّهَادَةِ يَحْصُلُ.
وَإِذَا صَارَ ضَامِنَيْنِ بِهَا لَا يَسْقُطُ الضَّمَانُ عَنْهُمَا بِحُلُولِ الْأَجَلِ كَالْوَكِيلِ بِالْبَيْعِ بِثَمَنٍ حَالٍّ إذَا بَاعَ بِثَمَنٍ حَالٍّ، ثُمَّ أَجَّلَ عَنْ الْمُشْتَرِي كَانَ ضَامِنًا لِلْمُوَكِّلِ قَبْلَ حُلُولِ الْأَجَلِ، وَبَعْدَهُ لِهَذَا الْمَعْنَى، وَلِأَنَّ الضَّامِنَ كَانَ ضَامِنًا لِلْمُوَكِّلِ قَبْلَ حُلُولِ الْأَجَلِ، وَبَعْدَهُ، وَلِأَنَّ الضَّمَانَ إنَّمَا وَجَبَ عَلَيْهِمَا بِسَبَبِ الْإِتْلَافِ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّهُمَا بِشَهَادَتِهِمَا فَوَّتَا عَلَيْهِ حَقَّ الْقَبْضِ وَبِحُلُولِ الْأَجَلِ لَمْ يَتَبَيَّنْ أَنَّ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ إتْلَافًا؛ فَلِهَذَا كَانَ لَهُ حَقُّ الرُّجُوعِ عَلَيْهِمَا وَكَانَ الْخِيَارُ لَهُ إنْ شَاءَ أَخَذَ الْمَطْلُوبَ، وَإِنْ شَاءَ أَخَذَ الشَّاهِدَ.
فَإِذَا أَخَذَ الشَّاهِدَ كَانَ لَهُمَا حَقُّ الرُّجُوعِ بِهِ عَلَى الْمَطْلُوبِ إلَى أَجَلِهِ؛ لِأَنَّهُمَا مَلَكَا ذَلِكَ الْمَالَ بِالضَّمَانِ فِي ذِمَّةِ الْمَطْلُوبِ، وَلِأَنَّ الطَّالِبَ حِينَ ضَمَّنَهُمَا فَقَدْ أَقَامَهُمَا مَقَامَ نَفْسِهِ فِي الرُّجُوعِ عَلَى الْمَطْلُوبِ فَإِنْ نَوَى عَلَى الْمَطْلُوبِ بَرِئَ مِنْ الشَّاهِدَيْنِ؛ لِأَنَّهُمَا قَامَا فِي ذَلِكَ مَقَامَ الطَّالِبِ لَوْ اخْتَارَ الرُّجُوعَ عَلَى الْمَطْلُوبِ وَلَا يَكُونُ لَهُمَا حَقُّ الرُّجُوعِ عَلَى الطَّالِبِ؛ لِأَنَّهُمَا قَامَا مَقَامَهُ، ثُمَّ إذَا أَدَّى لِلطَّالِبِ لَا يَكُونُ لَهُ حَقُّ الرُّجُوعِ عَلَى أَحَدٍ.
فَكَذَلِكَ لِلَّذِي قَامَ مَقَامَهُ بِخِلَافِ الْحَوَالَةِ فَإِنَّهُ إذَا نَوَى الْمَالَ عَلَى الْمُحْتَالِ عَلَيْهِ يَرْجِعُ بِهِ عَلَى الْمُحِيلِ؛ لِأَنَّ تَحَوُّلَ الْحَقِّ إلَى ذِمَّةِ الْمُحْتَالِ عَلَيْهِ كَانَ بِشَرْطِ سَلَامَةِ الْمَالِ لِلطَّالِبِ مِنْ الْمُحْتَالِ عَلَيْهِ.
فَإِذَا لَمْ يَسْلَمْ عَادَ إلَى ذِمَّةِ الْمُحِيلِ وَهُنَا أَصْلُ الْمَالِ صَارَ لِلشَّاهِدَيْنِ بِالضَّمَانِ مُطْلَقًا فَإِنْ خَرَجَا كَانَا لَهُمَا، وَإِنْ نَوَى كَانَا عَلَيْهِمَا؛ لِأَنَّهُمَا قَامَا فِي ذَلِكَ مَقَامَ الطَّالِبِ.
وَلَوْ شَهِدَا عَلَى رَجُلٍ أَنَّهُ وَهَبَ عَبْدَهُ لِهَذَا الرَّجُلِ وَقَبَضَهُ وَقَضَى الْقَاضِي بِشَهَادَتِهِمَا، ثُمَّ رَجَعَا ضَمِنَا قِيمَةَ الْعَبْدِ؛ لِأَنَّهُمَا أَتْلَفَا مِلْكَهُ بِغَيْرِ عِوَضٍ وَلَا رُجُوعٍ لِلْمَوْلَى فِي الْهِبَةِ إذَا أَخَذَ الْقِيمَةَ إمَّا؛ لِأَنَّ الْقِيمَةَ عِوَضٌ لَهُ مِنْ هِبَتِهِ، أَوْ؛ لِأَنَّهُ يَزْعُمُ أَنَّهُ مَلَكَ الْعَبْدَ مِنْ الشَّاهِدَيْنِ بِمَا أَخَذَ مِنْهُمَا مِنْ الضَّمَانِ فَلَا سَبِيلَ لَهُ عَلَى الْمَوْهُوبِ لَهُ وَلَا لِلشَّاهِدَيْنِ؛ لِأَنَّ رُجُوعَهُمَا فِيمَا يَرْجِعُ إلَى إبْطَالِ قَضَاءِ الْقَاضِي بَاطِلٌ وَالْقَاضِي بِقَضَائِهِ جَعَلَ الْعَبْدَ هِبَةً لِلْمَوْهُوبِ لَهُ مِنْ جِهَةِ الْمَقْضِيِّ عَلَيْهِ لَا مِنْ جِهَةِ الشَّاهِدَيْنِ، وَلَيْسَ لِغَيْرِ الْوَاهِبِ حَقُّ الرُّجُوعِ فِي الْهِبَةِ، وَلَوْ لَمْ يَضْمَنْ الْمَقْضِيُّ عَلَيْهِ لِلشَّاهِدَيْنِ فَلَهُ الرُّجُوعُ فِي الْعَبْدِ بِقَضَاءِ الْقَاضِي؛ لِأَنَّهُ هُوَ الْوَاهِبُ لِلْعَبْدِ بِحُكْمِ الْقَاضِي وَلِلْوَاهِبِ أَنْ يَرْجِعَ فِي الْهِبَةِ مَا لَمْ يَصِلْ إلَيْهِ الْعِوَضُ فَإِنْ (قِيلَ).
فَإِذَا ضَمِنَ الشَّاهِدَانِ الْقِيمَةَ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ لَهُمَا حَقُّ الرُّجُوعِ فِي الْهِبَةِ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُمَا قَامَا مَقَامَ الْوَاهِبِ فِي ذَلِكَ كَمَا فِي مَسْأَلَةِ الدَّيْنِ (قُلْنَا) الدَّيْنُ فِي الذِّمَّةِ مَالٌ وَهُوَ يَحْتَمِلُ التَّمْلِيكَ بِعِوَضٍ؛ وَلِهَذَا جَازَ الِاسْتِبْدَالُ بِالدَّيْنِ مَعَ مَنْ عَلَيْهِ الدَّيْنُ فَيُمْكِنُ أَنْ يُجْعَلَ مُمَلَّكًا وَلَك مِنْ الشَّاهِدَيْنِ بِمَا اسْتَوْفَى مِنْهُمَا.
فَأَمَّا فِي حَقِّ الرُّجُوعِ فِي الْهِبَةِ لَيْسَ بِمَالٍ مُحْتَمِلٍ لِلِاعْتِيَاضِ فِيهِ فَلَا يَكُونُ مُمَلَّكًا ذَلِكَ مِنْ الشُّهُودِ بِالرُّجُوعِ عَلَيْهِمَا بِالضَّمَانِ وَلَا يُمْكِنُ إثْبَاتُ حَقِّ الرُّجُوعِ لَهُمَا بِاعْتِبَارِ أَنَّهُمَا يَقُومَانِ مَقَامَهُ؛ لِأَنَّهُ بَعْدَ مَا وَصَلَ إلَيْهِ الْعِوَضُ لَا يَكُونُ لَهُ حَقُّ الرُّجُوعِ فِي الْهِبَةِ فَلَا يَكُونُ ذَلِكَ لِمَنْ قَامَ مَقَامَهُ أَيْضًا.
وَلَوْ شَهِدَا عَلَى عَبْدٍ فِي يَدِ رَجُلٍ أَنَّهُ لِهَذَا الرَّجُلِ فَقَضَى لَهُ بِهِ وَهُوَ أَبْيَضُ الْعَيْنِ، ثُمَّ ذَهَبَ الْبَيَاضُ عَنْهُ وَازْدَادَ خَيْرًا، أَوْ مَاتَ عِنْدَ الْمَقْضِيِّ لَهُ، ثُمَّ رَجَعَا عَنْ شَهَادَتِهِمَا ضَمِنَا قِيمَتَهُ يَوْمَ قَضَى بِهِ وَلَا يُلْتَفَتُ إلَى مَا كَانَ فِيهِ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْ زِيَادَةٍ، أَوْ نُقْصَانٍ؛ لِأَنَّ وُجُوبَ الضَّمَانِ عَلَيْهِمَا بِالْإِتْلَافِ بِسَبَبِ الشَّهَادَةِ فَفِي الْقَضَاءِ بِالضَّمَانِ يُعْتَبَرُ الْقِيمَةُ وَقْتَ الشَّهَادَةِ كَمَا فِي الْمَغْصُوبِ وَالْمُسْتَهْلَكِ وَالْقَوْلُ قَوْلُهُمَا فِي الْقِيمَةِ؛ لِأَنَّ الضَّمَانَ يَجِبُ عَلَيْهِمَا فَالْقَوْلُ فِي مِقْدَارِهِ قَوْلُهُمَا.
وَلَوْ شَهِدَا عَلَى رَجُلٍ أَنَّهُ وَكَّلَ هَذَا الرَّجُلَ بِقَبْضِ دَيْنِهِ الَّذِي عَلَى فُلَانٍ وَفُلَانٌ مُقِرٌّ بِالدَّيْنِ فَقَضَى الْقَاضِي بِهِ لِلْوَكِيلِ وَقَبَضَهُ وَاسْتَهْلَكَهُ، ثُمَّ قَدِمَ صَاحِبُ الدَّيْنِ فَأَنْكَرَ الْوَكَالَةَ، ثُمَّ رَجَعَا عَنْ شَهَادَتِهِمَا فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِمَا؛ لِأَنَّهُمَا لَمْ يُتْلِفَا الْمَالَ بِشَهَادَتِهِمَا إنَّمَا بِصِنَاعَتِهِ ثَانِيًا يَقْبِضُ الْمَالَ فَيَحْفَظُ لَهُ وَالْوَكِيلُ ضَامِنٌ لِمَا اسْتَهْلَكَهُ مِنْ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْمَالَ بِقَضَاءِ الْقَاضِي حَصَلَ فِي يَدِهِ أَمَانَةً لِلْمُوَكِّلِ، وَقَدْ تَعَدَّى بِالِاسْتِهْلَاكِ، وَكَذَلِكَ هَذَا فِي قَبْضِ كُلِّ وَدِيعَةٍ وَغَلَّةٍ وَمِيرَاثٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ.
وَلَوْ شَهِدَ رَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ عَلَى أَلْفِ دِرْهَمٍ وَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ عَلَيْهِمَا وَعَلَى مِائَةِ دِينَارٍ فَقَضَى الْقَاضِي بِذَلِكَ، ثُمَّ رَجَعَ رَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ عَنْ شَهَادَتِهِمْ عَلَى الدَّرَاهِمِ دُونَ الدَّنَانِيرِ لَمْ يَضْمَنُوا شَيْئًا؛ لِأَنَّهُ قَدْ بَقِيَ عَلَى الدَّرَاهِمِ مَنْ تَتِمُّ الْحُجَّةُ بِشَهَادَتِهِ وَرُجُوعُ هَؤُلَاءِ فِي حَقِّ الدَّرَاهِمِ لَا يَكُونُ رُجُوعًا مِنْهُمْ عَنْ الشَّهَادَةِ فِي الدَّنَانِيرِ؛ فَلِهَذَا لَا يَضْمَنُونَ شَرْعًا، وَلَوْ رَجَعُوا جَمِيعًا عَنْ الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ فَضَمَانُ الدَّنَانِيرِ عَلَى الَّذِينَ شَهِدُوا بِهَا خَاصَّةً وَضَمَانُ الدَّرَاهِمِ جَمِيعًا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ أَرْبَاعٌ عَلَى كُلِّ امْرَأَتَيْنِ رُبُعٌ وَعَلَى كُلِّ رَجُلٍ رُبُعٌ وَعِنْدَهُمَا ثَلَاثٌ عَلَى كُلِّ رَجُلٍ الثُّلُثُ وَعَلَى النِّسْوَةِ الثُّلُثُ، وَإِنْ كَانَ رُجُوعُ الشُّهُودِ عَنْ الشَّهَادَةِ فِي مَرَضِ الْمَوْتِ فَذَلِكَ مِنْهُمَا بِمَنْزِلَةِ الْإِقْرَارِ بِالدَّيْنِ عَلَى أَنْفُسِهِمَا فِي مَرَضِهِمَا فَيَبْدَآنِ بِدَيْنِ الصِّحَّةِ.
وَإِذَا شَهِدَ شَاهِدَانِ عَلَى رَجُلٍ أَنَّهُ بَاعَ عَبْدَهُ هَذَا بِأَلْفِ دِرْهَمٍ وَهُوَ يُسَاوِي أَلْفَيْنِ عَلَى أَنَّ الْبَائِعَ بِالْخِيَارِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ فَقَضَى الْقَاضِي بِذَلِكَ، ثُمَّ مَضَتْ الثَّلَاثَةُ فَوَجَبَ الْبَيْعُ، ثُمَّ رَجَعَا عَنْ شَهَادَتِهِمَا ضَمِنَا فَضْلَ مَا بَيْنَ الْقِيمَةِ وَالثَّمَنِ؛ لِأَنَّهُمَا أَتْلَفَاهُ بِشَهَادَتِهِمَا بِغَيْرِ عِوَضٍ (فَإِنْ قِيلَ) لَا كَذَلِكَ فَالْبَيْعُ بِشَرْطِ خِيَارِ الْبَائِعِ لَا يُزِيلُ مِلْكَهُ عَنْ الْمَبِيعِ، وَقَدْ كَانَ مُتَمَكِّنًا مِنْ دَفْعِ الضَّرَرِ عَنْ نَفْسِهِ بِفَسْخِ الْبَيْعِ فِي الْمُدَّةِ.
فَإِذَا لَمْ يَفْعَلْ كَانَ رَاضِيًا بِهَذَا الْبَيْعِ فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَضْمَنَ الشَّاهِدَانِ شَيْئًا (قُلْنَا) زَوَالُ الْمِلْكِ، وَإِنْ كَانَ يَتَأَخَّرُ إلَى سُقُوطِ الْخِيَارِ فَالسَّبَبُ هُوَ الْبَيْعُ الْمَشْهُودُ بِهِ؛ وَلِهَذَا اسْتَحَقَّ الْمُشْتَرِي الْمَبِيعَ بِزَوَائِدِهِ فَكَانَ الْإِتْلَافُ حَاصِلًا بِشَهَادَتِهِمْ وَالْبَائِعُ كَانَ مُنْكِرًا لِأَصْلِ الْبَيْعِ فَمَعَ إنْكَارِهِ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَتَصَرَّفَ بِحُكْمِ الْخِيَارِ؛ لِأَنَّهُ إذَا تَصَرَّفَ بِحُكْمِ الْخِيَارِ يَصِيرُ مُقِرًّا بِالْبَيْعِ وَيَتَبَيَّنُ لِلنَّاسِ كَذِبُهُ وَالْعَاقِلُ يَتَحَرَّزُ عَنْ ذَلِكَ بِجُهْدِهِ؛ فَلِهَذَا لَا يُعْتَبَرُ تَمَكُّنُهُ مِنْ الْفَسْخِ فِي إسْقَاطِ الضَّمَانِ عَنْ الشُّهُودِ، وَلَوْ أَوْجَبَ الْبَيْعَ فِي الثَّلَاثَةِ لَمْ يَضْمَنْ لَهُ الشَّاهِدَانِ شَيْئًا؛ لِأَنَّهُ صَارَ مُقِرًّا بِالْبَيْعِ مُزِيلًا مِلْكَهُ بِاخْتِيَارِهِ فَلَا يَكُونُ الشَّاهِدُ مُتْلِفًا عَلَيْهِ بِشَهَادَتِهِ، وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ شَرْطُ الْخِيَارِ لِلْمُشْتَرِي وَهُوَ مُنْكِرٌ لِلشِّرَاءِ، وَفِي قِيمَةِ الْعَبْدِ نُقْصَانٌ عَنْ الثَّمَنِ فَإِنْ سَكَتَ الْمُشْتَرِي حَتَّى مَضَتْ الْمُدَّةُ ضَمِنَ الْمَشْهُودُ لَهُ النُّقْصَانَ عِنْدَ الرُّجُوعِ، وَإِنْ اخْتَارَ الْبَيْعَ قَبْلَ الثَّلَاثَةِ لَمْ يَضْمَنَا لَهُ شَيْئًا لِمَا بَيَّنَّا فِي جَانِبِ الْبَيْعِ.
وَلَوْ شَهِدَا بِرَهْنِ عَبْدِهِ وَالرَّاهِنُ مُقِرٌّ بِالدَّيْنِ جَاحِدٌ لِلرَّهْنِ فَقَضَى الْقَاضِي بِالْعَبْدِ رَهْنًا، ثُمَّ رَجَعَا فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي قِيمَةِ الْعَبْدِ فَضْلٌ عَلَى الدَّيْنِ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِمَا؛ لِأَنَّهُمَا شَهِدَا بِثُبُوتِ يَدِ الِاسْتِيفَاءِ لِلْمُرْتَهِنِ، وَلَوْ شَهِدَ عَلَى الْمَطْلُوبِ بِحَقِيقَةِ إيفَاءِ الدَّيْنِ بِمَالٍ فِي يَدِهِ هُوَ مِثْلُ الدَّيْنِ لَمْ يَضْمَنَا عِنْدَ الرُّجُوعِ.
فَكَذَلِكَ إذَا شَهِدَا بِثُبُوتِ يَدِ الِاسْتِيفَاءِ لِلْمُرْتَهِنِ فِي مَالِهِ، وَإِنْ كَانَ فِي قِيمَتِهِ فَضْلٌ عَلَى الدَّيْنِ لَمْ يَضْمَنَا أَيْضًا مَا دَامَ الْعَبْدُ حَيًّا؛ لِأَنَّهُ بَاقٍ عَلَى مِلْكِ الْمَطْلُوبِ وَهُوَ مُتَمَكِّنٌ مِنْ أَخْذِهِ بِقَضَاءِ الدَّيْنِ وَهُوَ مُقِرٌّ بِالدَّيْنِ.
فَإِذَا مَاتَ عِنْدَ الْمُرْتَهِنِ ضَمِنَا ذَلِكَ الْفَضْلَ؛ لِأَنَّهُمَا أَتْلَفَا الْفَضْلَ عَلَيْهِ بِغَيْرِ عِوَضٍ حِينَ أَثْبَتَا حَقَّ الْحَبْسِ فِيهِ لِلْمُرْتَهِنِ وَلَمْ يَسْقُطْ شَيْءٌ مِنْ الدَّيْن عَنْهُ بِاعْتِبَارِهِ وَلَوْ كَانَ الرَّاهِنُ هُوَ الَّذِي ادَّعَى الرَّهْنَ وَجَحَدَ الْمُرْتَهِنُ ذَلِكَ فَقَضَى الْقَاضِي بِشَهَادَتِهِمَا فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِمَا؛ لِأَنَّهُمَا مَا أَتْلَفَا عَلَى الْمُرْتَهِنِ شَيْئًا فَإِنَّ حَقَّهُ فِي الْمُطَالَبَةِ بِالدَّيْنِ بَعْدَ الرَّهْنِ كَمَا كَانَ مِنْ قَبْلُ وَهُوَ مُتَمَكِّنٌ مِنْ رَدِّ الرَّهْنِ؛ لِأَنَّ عَقْدَ الرَّهْنِ لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ اللُّزُومُ فِي جَانِبِ الْمُرْتَهِنِ (فَإِنْ قِيلَ) فَلِمَاذَا تُقْبَلُ الْبَيِّنَةُ عَلَيْهِ بِذَلِكَ وَهِيَ لَا تُلْزِمُ شَيْئًا (قُلْنَا) إثْبَاتُ السَّبَبِ بِالْبَيِّنَةِ صَحِيحٌ، وَإِنْ كَانَ لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ اللُّزُومُ فِي الْحَالِ كَمَا فِي الْبَيْعِ بِشَرْطِ الْخِيَارِ لِلْبَائِعِ أَوْ لِلْمُشْتَرِي إلَّا أَنْ يَكُونَا شَهِدَا عَلَيْهِ بِرَهْنٍ هَالِكٍ فِي يَدِهِ فَحِينَئِذٍ هَذَا بِمَنْزِلَةِ شَهَادَتِهِمَا عَلَيْهِ بِاسْتِيفَاءِ الدَّيْنِ؛ لِأَنَّ الِاسْتِيفَاءَ يَتِمُّ بِمِلْكِ الرَّهْنِ فَيَكُونَانِ مُتْلِفَيْنِ لِلْمَالِ عَلَيْهِ فَيَضْمَنَانِ لَهُ ذَلِكَ عِنْدَ الرُّجُوعِ.
وَإِذَا عَمِلَ الْمُضَارِبُ بِالْمَالِ وَرَبِحَ فَادَّعَى أَنَّهُ أَخَذَ مُضَارَبَةً بِالنِّصْفِ وَشَهِدَ لَهُ شَاهِدَانِ وَرَبُّ الْمَالِ يَقُولُ بِالثُّلُثِ وَأَخَذَ الْمُضَارِبُ نِصْفَ الرِّبْحِ وَرَدَّ الْبَاقِي، ثُمَّ رَجَعَ الشَّاهِ دَانِ ضَمِنَا السُّدُسَ الَّذِي شَهِدَا بِهِ؛ لِأَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ رَبِّ الْمَالِ لَوْلَا شَهَادَتُهُمَا فَمَا زَادَ عَلَى الثُّلُثِ إلَى إتْمَامِ النِّصْفِ إنَّمَا اسْتَحَقَّهُ الْمُضَارِبُ عَلَى رَبِّ الْمَالِ بِشَهَادَتِهِمَا، وَقَدْ أَقَرَّا بِالرُّجُوعِ أَنَّهُمَا أَتْلَفَا ذَلِكَ عَلَيْهِ بِغَيْرِ حَقٍّ وَلَوْ كَانَ الرِّبْحُ كُلُّهُ دَيْنًا لَمْ يَضْمَنَا شَيْئًا حَتَّى يَقْبِضَ فَمَا قَبَضَ مِنْهُ اقْتَسَمَاهُ نِصْفَيْنِ وَيَضْمَنُ الشَّاهِدَانِ سُدُسَهُ لِرَبِّ الْمَالِ؛ لِأَنَّ وُجُوبَ الضَّمَانِ عَلَيْهِمَا بِتَفْوِيتِ الْيَدِ عَلَى نَفْسِ الْمَالِ وَلَا يَتَحَقَّقُ ذَلِكَ مَا لَمْ يَخْرُجْ الدَّيْنُ وَتَصِلَ إلَى الْمُضَارِبِ حِصَّتُهُ فَعِنْدَ ذَلِكَ يَتِمُّ التَّفْوِيتُ عَلَيْهِ بِسَبَبِ شَهَادَتِهِمَا، وَلَوْ شَهِدَا أَنَّهُ أَعْطَاهُ الثُّلُثَ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِمَا فِي هَذَا الْوَجْهِ إذَا رَجَعَا؛ لِأَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ رَبِّ الْمَالِ بِغَيْرِ شُهُودٍ فَلَمْ يُتْلِفَا عَلَى الْمُضَارِبِ شَيْئًا بِشَهَادَتِهِمَا إذْ الِاسْتِحْقَاقُ لَمْ يَثْبُتْ لَهُ بِمُجَرَّدِ دَعْوَاهُ النِّصْفَ بِخِلَافِ الْأَوَّلِ فَرَبُّ الْمَالِ هُنَاكَ مُسْتَحِقٌّ لِلرِّبْحِ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ مَالُهُ فَهُمَا أَتْلَفَا عَلَيْهِ بِشَهَادَتِهِمَا مَا كَانَ مُسْتَحَقًّا لَهُ فَيَضْمَنَانِ إذَا رَجَعَا، وَلَوْ نَوَى رَأْسَ الْمَالِ فِي الْوَجْهَيْنِ لَمْ يَضْمَنَا شَيْئًا؛ لِأَنَّهُمَا مَا شَهِدَا فِي رَأْسِ الْمَالِ بِشَيْءٍ إنَّمَا شَهَادَتُهُمَا فِي الرِّبْحِ وَلَمْ يَظْهَرْ الرِّبْحُ.
وَلَوْ شَهِدَا أَنَّهُمَا اشْتَرَكَا وَرَأْسُ مَالٍ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَلْفُ دِرْهَمٍ عَلَى أَنَّ الرِّبْحَ بَيْنَهُمَا أَثْلَاثًا وَصَاحِبُ الثُّلُثِ يَدَّعِي النِّصْفَ، وَقَدْ رَبِحَا قَبْلَ الشَّهَادَةِ فَقَسَمَهُ الْقَاضِي بَيْنَهُمَا أَثْلَاثًا، ثُمَّ رَجَعَا ضَمِنَا لِصَاحِبِ الثُّلُثِ مَا بَيْنَ الثُّلُثِ وَالنِّصْفِ فِي كُلِّ رِبْحٍ كَانَ قَبْلَ الشَّهَادَةِ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُسْتَحِقٌّ لِنِصْفِ الرِّبْحِ عِنْدَ تَسَاوِيهِمَا فِي رَأْسِ الْمَالِ وَالْقَوْلُ قَوْلُ مُدَّعِي النِّصْفِ لَوْلَا شَهَادَتُهُمَا فَمَا زَادَ عَلَى الثُّلُثِ إلَى النِّصْفِ أَتْلَفَاهُ بِشَهَادَتِهِمَا عَلَى مَنْ أَخَذَ الثُّلُثَ بِغَيْرِ حَقٍّ، وَمَا رَبِحَا فِيمَا اشْتَرَيَا بَعْدَ الشَّهَادَةِ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِمَا فِيهِ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُتَمَكِّنٌ مِنْ فَسْخِ الشَّرِكَةِ بِغَيْرِ رِضَا صَاحِبِهِ فَإِقْدَامُهُمَا عَلَى التَّصَرُّفِ بَعْدَ قَضَاءِ الْقَاضِي بِأَنَّ الرِّبْحَ أَثْلَاثٌ يَكُونُ رِضًا مِنْهُمَا بِذَلِكَ وَرِضَا الْمُتْلَفِ عَلَيْهِ يَمْنَعُ وُجُوبَ الضَّمَانِ عَلَى الْمُتْلِفِ بِطَرِيقِ الْمُبَاشَرَةِ فَبِالشَّهَادَةِ أَوْلَى.
وَلَوْ كَانَ فِي يَدَيْ رَجُلٍ مَالٌ فَشَهِدَ شَاهِدَانِ لِرَجُلٍ أَنَّهُ شَرِيكُهُ شَرِكَةَ مُفَاوَضَةٍ فَقَضَى الْقَاضِي لَهُ بِنِصْفِ مَا فِي يَدِهِ، ثُمَّ رَجَعَا ضَمِنَا ذَلِكَ النِّصْفَ لِلْمَشْهُودِ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الْمُنْكِرِ لِلشَّرِكَةِ وَهُوَ ذُو الْيَدِ لَوْلَا شَهَادَتُهُمَا فَإِنَّمَا صَارَ نِصْفُ مَا فِي يَدِهِ مُسْتَحَقًّا عَلَيْهِ بِشَهَادَتِهِمَا، وَقَدْ أَقَرَّ أَنَّهُمَا أَتْلَفَاهُ بِغَيْرِ حَقٍّ وَلَوْ شَهِدَا عَلَى رَجُلٍ بِوَدِيعَةٍ فَجَحَدَهَا، أَوْ عَارِيَّةٍ، أَوْ بِضَاعَةٍ فَضَمَّنَهُ الْقَاضِي ذَلِكَ رَجَعَا ضَمِنَا لَهُ مَا غَرِمَ مِنْ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُمَا شَهِدَا عَلَيْهِ بِدَيْنٍ فَالْوَدِيعَةُ الْمَجْحُودَةُ دَيْنٌ عَلَى الْمُوَدِّعِ، وَقَدْ أَقَرَّا بِالرُّجُوعِ أَنَّهُمَا أَلْزَمَاهُ بِغَيْرِ حَقٍّ فَيَضْمَنَانِ لَهُ مَا اُسْتُوْفِيَ مِنْهُ بِذَلِكَ السَّبَبِ.
وَلَوْ رَكِبَ رَجُلٌ بَعِيرَ رَجُلٍ إلَى مَكَّةَ فَعَطِبَ فَقَالَ رَبُّ الْبَعِيرِ غَصَبَنِي.
وَقَالَ الرَّاكِبُ اسْتَأْجَرْته مِنْك بِكَذَا وَأَقَامَ عَلَيْهِ شَاهِدَيْنِ فَأَبْرَأَهُ الْقَاضِي مِنْ الضَّمَانِ، وَأَنْفَذَ عَلَيْهِ مَا وَجَبَ مِنْ الْأَجْرِ، ثُمَّ رَجَعَا عَنْ شَهَادَتِهِمَا ضَمِنَا قِيمَةَ الْبَعِيرِ إلَّا مِقْدَارَ مَا أَخَذَ صَاحِبُهُ مِنْ الْأَجْرِ؛ لِأَنَّ رُكُوبَ بَعِيرِ الْغَيْرِ مُوجِبٌ لِلضَّمَانِ عَلَى الرَّاكِبِ لَوْلَا شَهَادَتُهُمَا لَكَانَ ضَمَانَ الْقِيمَةِ دَيْنًا عَلَى الرَّاكِبِ بِمَا ظَهَرَ مِنْهُ فَهُمَا بِشَهَادَتِهِمَا أَثْبَتَا لَهُ سَبَبَ الْبَرَاءَةِ، وَقَدْ أَقَرَّ عِنْدَ الرُّجُوعِ أَنَّهُمَا أَتْلَفَا ذَلِكَ عَلَى رَبِّ الْبَعِيرِ فَكَانَا ضَامِنَيْنِ لَهُ إلَّا أَنَّهُمَا عَوَّضَاهُ مِقْدَارَ مَا شَهِدَا لَهُ مِنْ الْأَجْرِ فَيُطْرَحُ عَلَيْهِمَا ذَلِكَ، وَلِأَنَّ صَاحِبَ الْبَعِيرِ مُقِرٌّ أَنَّ الرَّاكِبَ غَاصِبٌ لَا أَجْرَ لَهُ عَلَيْهِ، وَأَنَّ مَا اُسْتُوْفِيَ مِنْهُ اسْتَوْفَاهُ بِحِسَابِ ضَمَانِ الْقِيمَةِ وَزَعْمُهُ مُعْتَبَرٌ فِي حَقِّهِ فَلَا يَرْجِعُ عَلَى الشَّاهِدَيْنِ إلَّا بِالْفَضْلِ، وَلَوْ كَانَ الْبَعِيرُ أَوَّلَ يَوْمٍ رَكِبَهُ يُسَاوِي مِائَتَيْ دِرْهَمٍ وَآخِرَ يَوْمٍ عَطِبَ فِيهِ يُسَاوِي ثَلَثِمِائَةِ دِرْهَمٍ لِزِيَادَةٍ فِي يَدِهِ وَالْأَجْرُ خَمْسُونَ فَإِنَّهُمَا يَضْمَنَانِ مِائَتَيْنِ وَخَمْسِينَ دِرْهَمًا بِحِسَابِ يَوْمٍ عَطِبَ.
مِنْ أَصْحَابِنَا رَحِمَهُمُ اللَّهُ مَنْ يَقُولُ هَذَا فِي قَوْلِهِمَا.
فَأَمَّا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ إنَّمَا يَضْمَنَانِ بِحِسَابِ قِيمَتِهِ يَوْمَ رُكِبَ وَقَالُوا هَذَا نَظِيرُ الْجَارِيَةِ الْمَغْصُوبَةِ إذَا ازْدَادَتْ فِي بَدَنِهَا، ثُمَّ بَاعَهَا الْغَاصِبُ وَسَلَّمَهَا إلَيْهِ فَإِنَّهُ كَمَا لَمْ يَذْكُرْ الْخِلَافِ هُنَا لَمْ يَذْكُرْ هُنَاكَ، وَإِنَّمَا ذَكَرَ قَوْلَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي تِلْكَ الْمَسْأَلَةِ فِي النَّوَادِرِ وَحُكْمُ هَذِهِ وَحُكْمُ تِلْكَ سَوَاءٌ وَالْأَصَحُّ أَنَّ هَذَا قَوْلُهُمْ جَمِيعًا وَأَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ يُفَرِّقُ بَيْنَهُمَا فَيَقُولُ ضَمَانُ الْبَيْعِ وَالتَّسْلِيمِ ضَمَانُ غَصْبٍ؛ وَلِهَذَا لَا يَضْمَنُ بِهِ إلَّا مَا يَضْمَنُ بِالْغَصْبِ وَالْغَصْبُ بَعْدَ الْغَصْبِ فِي الْأَصْلِ لَا يَتَحَقَّقُ مِنْ وَاحِدٍ وَالزِّيَادَةُ الْمُتَّصِلَةُ لَا تُفْرَدُ عَنْ الْأَصْلِ.
فَأَمَّا ضَمَانُ الرُّكُوبِ إذَا عَطِبَتْ الدَّابَّةُ ضَمَانُ إتْلَافٍ.
(أَلَا تَرَى) أَنَّ الْحُرَّ يَضْمَنُ بِهِ وَالْإِتْلَافُ الْحَقِيقِيُّ بَعْدَ الْغَصْبِ يَتَحَقَّقُ فِي الْأَصْلِ مَعَ الزِّيَادَةِ فَكَانَ الرَّاكِبُ ضَامِنًا قِيمَتَهَا حِينَ عَطِبَتْ لَوْلَا شَهَادَتُهُمَا فَيَضْمَنَانِ عِنْدَ الرُّجُوعِ قِيمَتَهَا بِاعْتِبَارِ تِلْكَ الْحَالِ.
رَجُلٌ لَهُ عَلَى رَجُلٍ أَلْفُ دِرْهَمٍ وَهُوَ مُقِرٌّ بِهَا، وَفِي يَدِ الطَّالِبِ ثَوْبٌ يُسَاوِي مِائَةَ دِرْهَمٍ يَدَّعِي أَنَّهُ لَهُ فَأَقَامَ الْمَطْلُوبُ شَاهِدَيْنِ أَنَّهُ رَهَنَهُ إيَّاهُ بِالْمَالِ وَقَضَى بِهِ، ثُمَّ هَلَكَ الثَّوْبُ فَذَهَبَ بِمِائَةِ دِرْهَمٍ، ثُمَّ رَجَعَا ضَمِنَا مِائَةَ دِرْهَمٍ لِلطَّالِبِ؛ لِأَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُهُ فِي الثَّوْبِ أَنَّهُ مِلْكُهُ بِاعْتِبَارِ يَدِهِ فَهُمَا أَتْلَفَا عَلَيْهِ مِلْكَ الثَّوْبِ بِشَهَادَتِهِمَا أَنَّهُ لِلْمَطْلُوبِ فَيَضْمَنَانِ لَهُ عِنْدَ الرُّجُوعِ (فَإِنْ قِيلَ) كَيْفَ يَضْمَنَانِ وَلَمْ يَخْرُجْ الثَّوْبُ مِنْ يَدِهِ حَتَّى هَلَكَ (قُلْنَا) عَيْنُ الرَّهْنِ أَمَانَةٌ فِي يَدِ الْمُرْتَهِنِ فَيَدُهُ فِي ذَلِكَ كَيَدِ الرَّاهِنِ، ثُمَّ أَثْبَتَا بِشَهَادَتِهِمَا يَدَ الِاسْتِيفَاءِ لِلْمُرْتَهِنِ فِي مِقْدَارِ الْمِائَةِ، وَقَدْ تَمَّ ذَلِكَ بِهَلَاكِ الرَّهْنِ فَكَأَنَّهُمَا شَهِدَا عَلَيْهِ أَنَّهُ اسْتَوْفَاهُ مِائَةً، ثُمَّ رَجَعَا، وَلَوْ كَانَ ذُو الْيَدِ مُقِرًّا بِالثَّوْبِ لِلرَّاهِنِ غَيْرَ أَنَّهُ يَقُولُ هُوَ عِنْدِي وَدِيعَةٌ.
وَقَالَ الرَّاهِنُ بَلْ هُوَ رَهْنٌ عِنْدَك وَأَقَامَ شَاهِدَيْنِ عَلَيْهِ فَقَضَى بِهِ، ثُمَّ هَلَكَ، ثُمَّ رَجَعَا فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِمَا؛ لِأَنَّهُمَا لَمْ يُتْلِفَا عَلَى ذِي الْيَدِ عَيْنَ الثَّوْبِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَدَّعِي مِلْكَهُ لِنَفْسِهِ، وَقَدْ كَانَ مُتَمَكِّنًا مِنْ رَدِّهِ عَلَى الرَّاهِنِ بَعْدَ قَضَاءِ الْقَاضِي فَالرَّهْنُ لَا يَكُونُ لَازِمًا فِي جَانِبِ الْمُرْتَهِنِ فَيُجْعَلُ إمْسَاكُهُ الثَّوْبَ بَعْدَ قَضَاءِ الْقَاضِي بِأَنَّهُ رَهْنٌ عِنْدَهُ رِضًا مِنْهُ بِمَا شَهِدَا عَلَيْهِ فَلَا يَضْمَنَانِ لَهُ عِنْدَ الرُّجُوعِ شَيْئًا بِخِلَافِ الْأَوَّلِ فَقَدْ أَتْلَفَا عَلَيْهِ مِلْكَهُ فِي الثَّوْبِ هُنَاكَ.
وَلَوْ شَهِدَ شَاهِدَانِ عَلَى رَجُلٍ أَنَّهُ أَسْلَمَ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ فِي كُرِّ حِنْطَةٍ إلَى رَجُلٍ يَجْحَدُ ذَلِكَ وَلَمْ يَعْتَرِفَا فَقَضَى الْقَاضِي بِهِ وَأَمَرَ بِدَفْعِ الْعَشَرَةِ إلَيْهِ وَأَوْجَبَ الْكُرَّ عَلَيْهِ، ثُمَّ رَجَعَا فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِمَا حَتَّى يَقْبِضَ الْكُرِّ؛ لِأَنَّهُمَا أَلْزَمَا الْمُسَلَّمَ إلَيْهِ الْكُرَّ دَيْنًا فَلَوْ ضَمِنَا لَهُ يَضْمَنَانِ الْعَيْنَ وَالْعَيْنُ فَوْقَ الدَّيْنِ فِي الْمَالِيَّةِ وَضَمَانُ الْإِتْلَافِ يَتَقَدَّرُ بِالْمِثْلِ.
فَإِذَا قَبَضَهُ مِنْهُمَا فَهُمَا ضَامِنَانِ لِطَعَامِ مِثْلِهِ إلَّا عَشَرَةَ دَرَاهِمَ يَنْقُصُ مِنْ ذَلِكَ الْكُرِّ؛ لِأَنَّ مِقْدَارَ الْعَشَرَةِ حَصَلَ الْإِتْلَافُ فِيهِ بِعِوَضٍ فَلَا يَجِبُ ضَمَانُهُ عَلَيْهِمَا عِنْدَ الرُّجُوعِ، وَمَا زَادَ عَلَى ذَلِكَ أَتْلَفَاهُ بِغَيْرِ عِوَضٍ فَإِنْ كَانَ رَأْسُ الْمَالِ مِثْلَ الْكُرِّ لَمْ يَضْمَنَا شَيْئًا؛ لِأَنَّهُمَا عَوَّضَاهُ مِثْلَ مَا أَتْلَفَا عَلَيْهِ وَالْإِتْلَافُ بِعِوَضٍ يَعْدِلُ الْمُتْلَفَ وَلَا يُوجِبُ الضَّمَانَ عَلَى الْمُتْلِفِ.
وَلَوْ شَهِدَا عَلَى رَجُلٍ أَنَّهُ أَكْرَى شِقَّ مَحْمَلٍ إلَى مَكَّةَ بِمِائَةِ دِرْهَمٍ فَقَضَى لَهُ الْقَاضِي وَحَمَلَهُ وَقَبَضَ الْأَجْرَ، ثُمَّ رَجَعَا عَنْ شَهَادَتِهِمَا فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِمَا إذَا كَانَ الْمُسْتَأْجِرُ هُوَ الْمُدَّعِي، وَإِنْ كَانَ الْأَجْرُ ضِعْفَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُمَا أَتْلَفَا الْمَنْفَعَةَ عَلَى رَبِّ الْإِبِلِ وَالْمَنْفَعَةُ لَيْسَتْ بِمَالٍ يُضْمَنُ بِالِاسْتِهْلَاكِ عِنْدَنَا، وَلَوْ أَتْلَفَاهُ مُبَاشَرَةً بِأَنْ رَكِبَا لَمْ يَضْمَنَا.
فَإِذَا أَتْلَفَاهُ بِشَهَادَتِهِمَا أَوْلَى، وَإِنْ كَانَ ادَّعَاهُ صَاحِبُ الْإِبِلِ وَجَحَدَهُ الْمُسْتَأْجِرُ ضَمِنَا لَهُ مِمَّا أَدَّى مَا زَادَ عَلَى أَجْرِ مِثْلِ الْبَعِيرِ؛ لِأَنَّهُمَا أَتْلَفَا عَلَيْهِ مَا الْتَزَمَاهُ بِشَهَادَتِهِمَا مِنْ الْأَجْرِ وَعَوَّضَاهُ مِنْ ذَلِكَ مَنْفَعَةَ الْبَعِيرِ وَالْمَنَافِعُ تَتَقَوَّمُ بِالْعَقْدِ وَتَأْخُذُ حُكْمَ الْمَالِيَّةِ؛ وَلِهَذَا لَا يَثْبُتُ الْحَيَوَانُ دَيْنًا فِي الذِّمَّةِ بِمُقَابَلَتِهِ فَلَا يَضْمَنَانِ مِقْدَارَ مَا أَتْلَفَاهُ بِعِوَضٍ وَيَضْمَنَانِ مَا سِوَى ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ لَوْلَا شَهَادَتِهِمَا لَكَانَ الْقَوْلُ قَوْلُ الرَّاكِبِ وَلَمْ يَضْمَنْ شَيْئًا فَإِنَّمَا لَزِمَهُ الْأَجْرَ بِشَهَادَتِهِمَا، وَلَوْ أَقَرَّ عِنْدَ الرُّجُوعِ أَنَّهُمَا أَتْلَفَا ذَلِكَ بِغَيْرِ حَقٍّ فَيَضْمَنَانِ لَهُ مَالًا يُقَابِلُهُ مِنْ ذَلِكَ عِوَضٌ يَعْدِلُهُ.
وَلَوْ ادَّعَى رَجُلٌ عَلَى رَجُلٍ أَلْفَ دِرْهَمٍ وَأَقَامَ بِمَا عَلَيْهِ شَاهِدَيْنِ وَأَقَامَ الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ بِالْأَلْفِ شَاهِدَيْنِ أَنَّهُ أَبْرَأَهُ مِنْهَا أَوْ شَهِدُوا أَنَّهُ أَبْرَأَهُ مِنْ كُلٍّ قَلِيلٍ وَكَثِيرٍ يَدَّعِي ذَلِكَ فَعَدَّلُوا وَاجْتَمَعَتْ الْبَيِّنَتَانِ عِنْدَ الْقَاضِي فَإِنَّهُ لَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ لَا يَسْمَعَ مِنْ الشُّهُودِ الَّذِينَ شَهِدُوا عَلَى الْمَالِ؛ لِأَنَّ هُنَا مَنْ يَشْهَدُ عَلَى الْبَرَاءَةِ وَالْبَرَاءَةُ مُسْقِطَةٌ مُفَرِّغَةٌ لِلذِّمَّةِ فَكَيْفَ يَقْضِي بِإِشْغَالِ الذِّمَّةِ بِالْمَالِ، وَقَدْ ظَهَرَ عِنْدَهُ مَا يُفَرِّغُ الذِّمَّةَ.
ثُمَّ الْإِبْرَاءُ فِي مَعْنَى النَّاسِخِ بِحُكْمِ وُجُوبِ الدَّيْنِ وَالْقَضَاءُ بِالْمَنْسُوخِ بَعْدَ ظُهُورِ النَّاسِخِ لَا يَجُوزُ فَإِنْ أَخَذَ بِشَهَادَةِ شُهُودِ الْبَرَاءَةِ فَقَضَى بِهَا، ثُمَّ رَجَعُوا فَإِنَّ الْقَاضِيَ يُكَلِّفُ الْمَشْهُودَ لَهُ بِالْأَلْفِ بِالْبَيِّنَةِ الْمُثْبِتَةِ وَلَا يُلْتَفَتُ إلَى مَا مَضَى؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَقْضِ بِشَهَادَتِهِمْ عَلَى أَصْلِ الْمَالِ وَالشَّهَادَةُ الَّتِي لَمْ يَتَّصِلْ الْقَضَاءُ بِهَا لَا تَكُونُ مُوجِبَةً شَيْئًا فَلَا بُدَّ مِنْ إعَادَتِهِمْ إذَا أَرَادَ تَضْمِينَ شُهُودِ الْبَرَاءَةِ؛ لِأَنَّهُمْ يَضْمَنُونَ بِإِتْلَافِهِمْ عَلَيْهِ مَا كَانَ مُسْتَحَقًّا لَهُ، وَإِنَّمَا يَثْبُتُ هَذَا الِاسْتِحْقَاقُ بِإِعَادَةِ الْبَيِّنَةِ، وَإِنْ أَعَادَهُمْ فَخَصَمَهُمْ فِي ذَلِكَ شُهُودُ الْبَرَاءَةِ الَّذِينَ رَجَعُوا؛ لِأَنَّهُ يَدَّعِي عَلَيْهِمْ الضَّمَانَ فَهُمْ خُصَمَاؤُهُ فِي ذَلِكَ وَلَا يَتَمَكَّنُ مِنْ أَنْ يُلْزِمَ الْمَدِينَ شَيْئًا بِهَذِهِ الشَّهَادَةِ؛ لِأَنَّ رُجُوعَ شُهُودِ الْبَرَاءَةِ بَعْدَ قَضَاءِ الْقَاضِي بِشَهَادَتِهِمْ لَا يَكُونُ مُعْتَبَرًا فِي حَقِّهِ؛ فَلِهَذَا لَا تَقُومُ شُهُودُ الْبَرَاءَةِ مَقَامَ الْمَدِينِ فِي إعَادَةِ هَذِهِ الْبَيِّنَةِ عَلَيْهِمْ فَإِنْ شَهِدَ الشُّهُودُ عَلَى الْأَلْفِ أَنَّهَا عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ فِي الْأَصْلِ فَقَضَى بِهَا عَلَى شُهُودِ الْبَرَاءَةِ؛ لِأَنَّهُ يَتَحَقَّقُ إتْلَافَهُمْ ذَلِكَ الْمَالَ عَلَى الطَّالِبِ بِشَهَادَتِهِمْ عَلَيْهِ بِالْبَرَاءَةِ فَيَضْمَنَانِ لَهُ وَلَا يَرْجِعَانِ بِهَا عَلَى الْمَشْهُودِ لَهُ بِالْبَرَاءَةِ؛ لِأَنَّهُمَا يَضْمَنَانِ عِنْدَ الرُّجُوعِ وَرُجُوعُهُمَا لَيْسَ بِحُجَّةٍ فِي حَقِّ الْمَشْهُودِ لَهُ بِالْبَرَاءَةِ.
وَقَالَ، وَإِنَّمَا يَأْمُرُ الْقَاضِي مُدَّعِي الْمَالِ بِإِعَادَةِ شُهُودِهِ بَعْدَ رُجُوعِ شَاهِدَيْ الْبَرَاءَةِ بِمَحْضَرٍ مِنْهُمَا؛ لِأَنَّ الْمَالَ إنَّمَا وَجَبَ عَلَيْهِمَا سَاعَةَ رَجَعَا وَهُوَ مَالٌ حَادِثٌ وَجَبَ عَلَيْهِمَا فَلَا يُجْبَرَا بِشَهَادَةِ الشُّهُودِ الَّذِينَ شَهِدُوا بِهِ قَبْلَ وُجُوبِ الْمَالِ عَلَيْهِمَا؛ لِأَنَّهُمَا كَأَنَّهُمَا غَصَبَا الْمَالَ سَاعَةَ يَقْضِي الْقَاضِي لَهُ وَرَجَعَا.
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.