فصل: كِتَابُ الدَّعْوَى:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: المبسوط



.كِتَابُ الدَّعْوَى:

(قَالَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ الْأَجَلُّ الزَّاهِدُ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ وَفَخْرُ الْإِسْلَامِ أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي سَهْلٍ السَّرَخْسِيُّ إمْلَاءً: اعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَلَقَ الْخَلْقَ أَطْوَارًا عُلُومُهُمْ شَتَّى مُتَبَايِنَةٌ وَلِتَبَايُنِ الْهِمَمِ تَقَعُ الْخُصُومَاتُ بَيْنَهُمْ فَالسَّبِيلُ فِي الْخُصُومَةِ قَطْعُهَا) لِمَا فِي امْتِدَادِهَا مِنْ الْفَسَادِ وَاَللَّهُ تَعَالَى لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ وَطَرِيقُ فَصْلِ الْخُصُومَاتِ لِلْقُضَاةِ بِمَا ذَكَرَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «قَالَ الْبَيِّنَةُ عَلَى الْمُدَّعِي وَالْيَمِينُ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ» هَذَا وَإِنْ كَانَ مِنْ اخْتِيَارِ الْآحَادِ فَقَدْ تَلَقَّتْهُ الْعُلَمَاءُ رَحِمَهُمُ اللَّهُ بِالْقَبُولِ وَالْعَمَلِ بِهِ فَصَارَ فِي حَيِّزِ التَّوَاتُرِ وَعُدَّ هَذَا مِنْ جَوَامِعِ الْكَلِمِ عَلَى مَا قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ «أُوتِيتُ جَوَامِعَ الْكَلِمِ» وَاخْتُصِرَ لِي الْحَدِيثُ اخْتِصَارًا فَقَدْ تَكَلَّمَ كَلِمَتَيْنِ اسْتَنْبَطَ الْعُلَمَاءُ رَحِمَهُمُ اللَّهُ مِنْهُمَا مَا بَلَغَ دَفَاتِرَ فَقَالَ قَتَادَةُ فِي قَوْله تَعَالَى {وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ} أَنَّ الْحِكْمَةَ النُّبُوَّةُ وَفَصْلَ الْخِطَابِ الْبَيِّنَةُ عَلَى الْمُدَّعِي وَالْيَمِينُ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ فَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ مَا ذَكَرَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ كَانَ فِي شَرِيعَةِ مَنْ قَبْلَهُ وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ بَيَانُ أَنَّ الْمُدَّعِيَ غَيْرُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ لِأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَيَّزَ بَيْنَهُمَا وَذَلِكَ تَنْصِيصٌ عَلَى الْمُغَايَرَةِ كَمَا فِي قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «الْوَلَدُ لِلْفِرَاشِ وَلِلْعَاهِرِ الْحَجَرُ» يَكُونُ تَنْصِيصًا عَلَى أَنَّ الْعَاهِرَ غَيْرُ صَاحِبِ الْفِرَاشِ وَالْمُدَّعِي لُغَةً مَنْ يَقْصِدُ إيجَابَ حَقٍّ عَلَى غَيْرِهِ فَالْمُدَّعِي فِعْلٌ يَتَعَدَّى مَفْعُولُهُ فَيَكُونُ الْمُدَّعِي اسْمًا لِفَاعِلِ الدَّعْوَى كَالضَّارِبِ وَالْقَاتِلِ إلَّا أَنَّ إطْلَاقَ اسْمِ الْمُدَّعِي فِي عُرْفِ اللِّسَانِ يَتَنَاوَلُ مَنْ لَا حُجَّةَ لَهُ وَلَا يَتَنَاوَلُ مَنْ لَهُ حُجَّةٌ فَإِنَّ الْقَاضِيَ يُسَمِّيهِ مُدَّعِيًا قَبْلَ إقَامَةِ الْبَيِّنَةِ فَأَمَّا بَعْدَ إقَامَةِ الْبَيِّنَةِ يُسَمِّيهِ مُحِقًّا لَا مُدَّعِيًا وَيُقَالُ لِمُسَيْلِمَةَ مُدَّعِي النُّبُوَّةَ وَلَا يُقَالُ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدَّعِي النُّبُوَّةَ لِأَنَّهُ قَدْ أَثْبَتَهُ بِالْمُعْجِزَةِ فَعَرَفْنَا أَنَّ إطْلَاقَ الِاسْمِ عَلَى مَنْ لَا حُجَّةَ لَهُ عُرْفًا وَهَذَا الْحَدِيثُ يَشْتَمِلُ عَلَى أَحْكَامٍ بَعْضُهَا يُعْرَفُ عَقْلًا وَبَعْضُهَا شَرْعًا فَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «الْبَيِّنَةُ عَلَى الْمُدَّعِي» يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا يَسْتَحِقُّ بِمُجَرَّدِ الدَّعْوَى وَهَذَا مَعْقُولٌ لِأَنَّهُ خَبَرٌ مُتَمَثِّلٌ بَيْنَ الصِّدْقِ وَالْكَذِبِ وَالْمُحْتَمَلُ لَا يَكُونُ حُجَّةً فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ يُسْتَحَقُّ بِالْبَيِّنَةِ وَهَذَا شَرْعِيٌّ وَفِي خَبَرِ الشُّهُودِ الِاحْتِمَالُ قَائِمٌ وَلَا يَزُولُ بِظُهُورِ الْعَدَالَةِ لِأَنَّ الْعَدْلَ غَيْرُ مَعْصُومٍ عَنْ الْكَذِبِ أَوْ الْقَصْدِ إلَى الْكَذِبِ فَحُصُولُ الْبَيِّنَاتِ أَوْ الِاسْتِحْقَاقِ بِشَهَادَتِهِمْ شَرْعِيٌّ وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «الْيَمِينُ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ» فَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُهُ وَهَذَا مَعْقُولٌ لِأَنَّهُ مُتَمَسِّكٌ بِالْأَصْلِ فَالْأَصْلُ بَرَاءَةُ ذِمَّتِهِ وَانْتِفَاءُ حَقِّ الْغَيْرِ عَمَّا فِي يَدِهِ وَفِيهِ دَلِيلُ تَوَجُّهِ الْيَمِينِ عَلَيْهِ وَهَذَا شَرْعِيٌّ وَكَانَ الْمَعْنَى فِيهِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ أَنَّ الْمُدَّعِيَ يَزْعُمُ أَنَّهُ صَارَ مُتْوِيًا حَقَّهُ بِإِنْكَارِهِ فَالشَّرْعُ جَعَلَ لَهُ حَقَّ اسْتِحْلَافِهِ حَتَّى إنْ كَانَ الْأَمْرُ كَمَا زَعَمَ فَالْيَمِينُ الْعُمُومِيُّ مُهْلِكَةٌ لِلْمُدَّعَى عَلَيْهِ فَيَكُونُ أَتْوًا بِمُقَابَلَةِ أَتْوَاءٍ وَهُوَ مَشْرُوعٌ وَإِنْ كَانَ بِخِلَافِ مَا زَعَمَ نَالَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ الثَّوَابَ بِذِكْرِ اسْمِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى سَبِيلِ التَّعْظِيمِ صَادِقًا وَلَا يَتَضَرَّرُ بِهِ وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ حَبْسَ الْبَيِّنَاتِ فِي جَانِبِ الْمُدَّعِيَيْنِ لِإِدْخَالِ الْأَلِفِ وَاللَّامِ فِي الْبَيِّنَةِ فَلَا تَبْقَى بَيِّنَةٌ فِي جَانِبِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ لِأَنَّ مُطْلَقَ التَّقْسِيمِ يَقْتَضِي انْتِقَاءَ مُشَارَكَةِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَنْ قِسْمِ صَاحِبِهِ فَيَكُونُ حُجَّةً لَنَا أَنَّ بَيِّنَةَ ذِي الْيَدِ عَلَى إثْبَاتِ الْمِلْكِ لِنَفْسِهِ غَيْرُ مَقْبُولَةٍ فِي مُعَارَضَةِ بَيِّنَةِ الْخَارِجِ وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ جِنْسَ الْإِيمَانِ فِي جَانِبِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ وَلَا يَمِينَ فِي جَانِبِ الْمُدَّعِي فَيَكُونُ دَلِيلًا لَنَا فِي أَنَّهُ لَا يُرَدُّ الْيَمِينُ عَلَى الْمُدَّعِي عِنْدَ نُكُولِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ وَهَكَذَا ذَكَرَهُ عَنْ إبْرَاهِيمَ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي الْكِتَابِ فَقَالَ كَانَ لَا يَرُدُّ يَعْنِي عَمَلًا بِالْحَدِيثِ كَانَ لَا يَرُدُّ الْيَمِينَ وَيَكُونُ حُجَّةً لَنَا فِي أَنَّهُ لَا يَجُوزُ الْقَضَاءُ بِشَاهِدٍ وَاحِدٍ مَعَ يَمِينِ الْمُدَّعِي إذْ لَا يَمِينَ فِي جَانِبِ الْمُدَّعِي وَلِأَنَّهُ جَعَلَ الْفَاصِلَ لِلْخُصُومَةِ سَبَبَيْنِ بَيِّنَةً فِي جَانِبِ الْمُدَّعِي وَيَمِينًا فِي جَانِبِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ وَالشَّاهِدُ وَالْيَمِينُ لَيْسَتْ بَيِّنَةً وَلَا يَمِينَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ فَكَوْنُ إثْبَاتِ طَرِيقٍ ثَالِثٍ وَهُوَ مُخَالِفٌ لِهَذَا الْحَدِيثِ وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمُدَّعِي عَامٌّ لَمْ يَدْخُلْهُ خُصُوصٌ فَالْمُدَّعِي لَا يَسْتَحِقُّ بِنَفْسِ الدَّعْوَى وَيَسْتَحِقُّ بِالْبَيِّنَةِ فِي الْخُصُومَاتِ كُلِّهَا وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «وَالْيَمِينُ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ» عَامٌّ دَخَلَهُ خُصُوصٌ وَهُوَ مَا لَا يَجْرِي فِيهِ الِاسْتِحْلَافُ مِنْ الْحُدُودِ وَغَيْرِهَا.
(قَالَ) وَإِذَا كَانَتْ الدَّارُ فِي يَدَيْ رَجُلٍ فَادَّعَى رَجُلٌ كُلَّهَا أَوْ طَائِفَةً مِنْهَا فَالْبَيِّنَةُ عَلَى الْمُدَّعِي وَالْيَمِينُ عَلَى مَنْ الدَّارُ فِي يَدَيْهِ وَيُحْتَاجُ هُنَا إلَى مَعْرِفَةِ أَشْيَاءَ أَحَدُهُمَا أَنَّ الدَّعْوَى نَوْعَانِ: صَحِيحَةٌ وَفَاسِدَةٌ فَالصَّحِيحَةُ مَا يَتَعَلَّقُ بِهَا أَحْكَامُهَا وَهُوَ احْتِضَارُ الْخَصْمِ وَالْمُطَالَبَةُ بِالْجَوَابِ وَالْيَمِينُ إذَا أَنْكَرَ مِثْلُ هَذِهِ الدَّعْوَى يُمْكِنُ إثْبَاتُهَا بِالْبَيِّنَةِ وَالدَّعْوَى الْفَاسِدَةُ مَا لَا يَتَعَلَّقُ بِهَا الْأَحْكَامُ الَّتِي بَيَّنَّاهَا وَفَسَادُ الدَّعْوَى بِأَحَدِ مَعْنَيَيْنِ إمَّا أَنْ لَا يَكُونَ مُلْزِمًا لِخَصْمٍ شَيْئًا وَإِنَّمَا ثَبَتَتْ كَمَنْ ادَّعَى عَلَى غَيْرِهِ أَنَّهُ وَكِيلُهُ أَوْ أَنْ يَكُونَ مَجْهُولًا فِي نَفْسِهِ فَالْمَجْهُولُ لَا يُمْكِنُ إثْبَاتُهُ بِالْبَيِّنَةِ فَإِنَّ الْقَاضِيَ لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ الْقَضَاءِ بِالْمَجْهُولِ بِبَيِّنَةِ الْمُدَّعِي وَلَا بِنُكُولِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ ثُمَّ الدَّعْوَى الصَّحِيحَةُ لَا تُوجِبُ اسْتِحْقَاقَ الْمُدَّعَى لِلْمُدَّعِي بِنَفْسِهَا فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ «لَوْ أُعْطِيَ النَّاسُ بِدَعْوَاهُمْ لَادَّعَى قَوْمٌ دِمَاءَ قَوْمٍ وَأَمْوَالِهِمْ لَكِنَّ الْبَيِّنَةَ عَلَى الْمُدَّعِي وَالْيَمِينَ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ» وَفِي رِوَايَةٍ «عَلَى مَنْ أَنْكَرَ» وَلِأَنَّ عَلَى الْقَاضِي تَحْسِينَ الظَّنِّ بِكُلِّ وَاحِدٍ فَلَوْ جَعَلْنَا نَفْسَ الدَّعْوَى مُوجِبَةً اسْتِحْقَاقَ الْمُدَّعَى لِلْمُدَّعِي فِيهِ إسَاءَةُ الظَّنِّ بِالْآخَرِ وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ وَلَكِنْ عَلَى الْمُدَّعِي الْبَيِّنَةُ لِإِثْبَاتِ اسْتِحْقَاقِهِ بِهَا فَيُطَالِبُهُ الْقَاضِي بِذَلِكَ لَا عَلَى وَجْهِ الْإِلْزَامِ عَلَيْهِ بَلْ عَلَى وَجْهِ التَّذْكِيرِ لَهُ فَلَعَلَّهُ يَغْفُلُ عَنْ ذَلِكَ وَفِيهِ نَظَرٌ لِلْآخَرِ أَيْضًا فَإِنَّهُ لَوْ حَلَّفَهُ ثُمَّ أَقَامَ الْمُدَّعِي الْبَيِّنَةَ افْتَضَحَ بِالْيَمِينِ الْكَاذِبَةِ فَلِهَذَا بَدَأَ بِطَلَبِ الْبَيِّنَةِ مِنْ الْمُدَّعِي فَإِذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ بَيِّنَةٌ فَالْيَمِينُ عَلَى ذِي الْيَدِ لِأَنَّهُ مُنْكِرٌ وَالْيَمِينُ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ وَهَذِهِ الْيَمِينُ حَقُّ الْمُدَّعِي فَإِذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ بَيِّنَةٌ فَالْيَمِينُ عَلَى ذِي الْيَدِ وَهَذِهِ حَقٌّ لَا يُسْتَوْفَى إلَّا بِطَلَبِهِ هَكَذَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَدِيثِ الْحَضْرَمِيِّ وَالْكِنْدِيِّ لِلْمُدَّعِي مِنْهُمَا «أَلَكَ بَيِّنَةٌ فَقَالَ لَا قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لَكَ يَمِينٌ فَقَالَ يَحْلِفُ وَلَا يُبَالِي فَقَالَ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ لَيْسَ لَكَ إلَّا هَذَا شَاهِدَاكَ أَوْ يَمِينُهُ» فَذَلِكَ تَنْصِيصٌ عَلَى أَنَّ الْيَمِينَ حَقُّ الْمُدَّعِي فَإِنْ (قِيلَ) كَيْفَ يَسْتَحِقُّهَا بِنَفْسِ الدَّعْوَى (قُلْنَا) كَمَا يَسْتَحِقُّ الْإِحْضَارَ وَالْجَوَابَ وَذَلِكَ ثَابِتٌ بِالنَّصِّ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَإِذَا دُعُوا إلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ} الْآيَةَ فَقَدْ أَلْحَقَ الْوَعِيدَ بِمَنْ امْتَنَعَ مِنْ الْحُضُورِ بَعْدَ مَا طُولِبَ بِهِ، وَذَلِكَ دَلِيلٌ أَنَّ الْحُضُورَ مُسْتَحَقٌّ عَلَيْهِ وَالضَّرَرُ عَلَيْهِ فِي الْحُضُورِ وَالِانْقِطَاعِ عَنْ أَشْغَالِهِ فَوْقَ الضَّرَرِ عَلَيْهِ فِي الْجَوَابِ وَالْيَمِينِ فَإِذَا ثَبَتَ ذَلِكَ بِالنَّصِّ ثَبَتَ هَذَا بِطَرِيقِ الْأَوْلَى مِنْ أَنَّ دَعْوَى الْمُدَّعِي وَإِنْكَارَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ خَبَرَانِ قَدْ تَعَارَضَا وَلَا يَتَمَكَّنُ الْقَاضِي مِنْ تَرْكِهِمَا عَلَى ذَلِكَ لِمَا فِيهِ مِنْ امْتِدَادِ الْخُصُومَةِ بَيْنَهُمَا فَلَا بُدَّ مِنْ طَلَبِ رُجْحَانِ جَانِبِ الصِّدْقِ فِي خَبَرِ أَحَدِهِمَا وَذَلِكَ فِي بَيِّنَةِ الْمُدَّعِي أَوْ يَمِينِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ هَذِهِ الْيَمِينَ حَقٌّ لِلْمُدَّعَى عَلَيْهِ لِأَنَّ مَا تَرَجَّحَ صِدْقُهُ يَكُونُ حَقًّا لَهُ إلَّا أَنَّهُ لَمَّا كَانَ لَا يَسْتَحِقُّ إلَّا بِطَلَبِ الْمُدَّعِي فَذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ حَقُّ الْمُدَّعِي وَمَعْنَى حَقِّهِ فِيهِ أَنَّهُ يُوصِلُهُ إلَى حَقِّهِ عِنْدَ نُكُولِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ وَيُرَجَّحُ مَعْنَى الصِّدْقِ فِي جَانِبِهِ فَلِهَذَا يَصِيرُ الْقَاضِي إلَيْهِ بِمُجَرَّدِ طَلَبِ الْمُدَّعِي وَيَسْتَوِي فِيمَا ذَكَرْنَا صُنُوفُ الْأَمْلَاكِ وَأَنْوَاعُ الْمُدَّعِينَ مِنْ حُرٍّ أَوْ عَبْدٍ، مُسْلِمٍ أَوْ ذِمِّيٍّ، مُسْتَأْمَنٍ أَوْ مُرْتَدٍّ فَالْقَاضِي مَأْمُورٌ بِالْعَدَالَةِ وَالْإِنْصَافِ فِي حَقِّ كُلِّ وَاحِدٍ.
وَكَذَلِكَ إذَا ادَّعَاهُ شِرَاءً مِنْ ذِي الْيَدِ أَوْ هِبَةً أَوْ صَدَقَةً أَوْ إجَارَةٍ أَوْ رَهْنًا لِأَنَّهُ يَدَّعِي اسْتِحْقَاقَ مِلْكِ الْعَيْنِ أَوْ الْمَنْفَعَةِ وَالْيَدُ عَلَى ذِي الْيَدِ بِبَعْضِ هَذِهِ الْأَسْبَابِ فَكَانَ مُدَّعِيًا وَلَا يَتَوَصَّلُ إلَى إثْبَاتِ مَا ادَّعَاهُ إلَّا بِإِثْبَاتِ سَبَبِهِ فَيَصِيرُ السَّبَبُ مَقْصُودًا بِالْإِثْبَاتِ بِالْبَيِّنَةِ لِأَنَّ مَا لَا يُتَوَصَّلُ إلَى الْمَطْلُوبِ إلَّا بِهِ يَكُونُ مَقْصُودًا قَالَ وَأَصْلُ مَعْرِفَةِ الْمُدَّعِي مِنْ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ أَنْ يَنْظُرَ إلَى الْمُنْكِرِ مِنْهُمَا فَهُوَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ وَالْآخَرُ الْمُدَّعِي وَهَذَا أَهَمُّ مَا يَحْتَاجُ إلَى مَعْرِفَتِهِ فِي هَذَا الْكِتَابِ وَمَا ذَكَرَهُ فِي الْكِتَابِ كَلَامٌ صَحِيحٌ فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَعَلَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ الْمُنْكِرَ بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «وَالْيَمِينُ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ» وَلَكِنَّ تَمَامَ بَيَانِ الْحَدِّ لَا يَحْصُلُ بِهَا فَقَدْ يَكُونُ مُدَّعِيًا صُورَةً وَالْيَمِينُ فِي جَانِبِهِ كَالْمُودِعِ يَدَّعِي رَدَّ الْوَدِيعَةِ أَوْ هَلَاكَهَا وَذُو الْيَدِ إذَا قَالَ الْعَيْنُ لِي فَهُوَ مُدَّعٍ صُورَةً وَلَا يَخْرُجُ مِنْ أَنْ يَكُونَ مُدَّعِيًا عَلَيْهِ وَلَكِنَّ الْفَرْقَ بَيْنَهُمَا عَلَى مَا قَالَهُ بَعْضُ أَصْحَابِنَا رَحِمَهُمُ اللَّهُ أَنَّ الْمُدَّعِيَ مَنْ يَسْتَدْعِي عَلَى الْغَيْرِ بِقَوْلِهِ وَإِذَا تَرَكَ الْخُصُومَةَ يَتْرُكُ وَالْمُدَّعَى عَلَيْهِ مَنْ يُسْتَدْعَى عَلَيْهِ بِقَوْلِ الْغَيْرِ وَإِذَا تَرَكَ الْخُصُومَةَ لَا يَتْرُكُ وَقِيلَ الْمُدَّعِي مَنْ يَشْتَمِلُ كَلَامُهُ عَلَى الْإِثْبَاتِ وَلَا يَصِيرُ خَصْمًا بِالتَّكَلُّمِ بِالنَّفْيِ فَإِنَّ الْخَارِجَ لَوْ قَالَ لِذِي الْيَدِ هَذَا الشَّيْءُ لَيْسَ لَكَ لَا يَكُونُ خَصْمًا مُدَّعِيًا مَا لَمْ يَقُلْ هُوَ لِي وَالْمُدَّعَى عَلَيْهِ مَنْ يَشْتَمِلُ كَلَامُهُ عَلَى النَّفْيِ فَيَكْتَفِي بِهِ مِنْهُ فَإِنَّ ذَا الْيَدِ إذَا قَالَ لَيْسَ هَذَا لَكَ كَانَ خَصْمًا بِهَذَا الْقَدْرِ وَقَوْلُهُ هُوَ لِي فَصْلٌ مِنْ الْكَلَامِ غَيْرُ مُحْتَاجٍ إلَيْهِ وَقِيلَ الْمُدَّعِي مَنْ لَا يَسْتَحِقُّ إلَّا بِحُجَّةٍ كَالْخَارِجِ وَالْمُدَّعَى عَلَيْهِ مَنْ يَكُونُ مُسْتَحِقًّا بِقَوْلِهِ مِنْ غَيْرِ حُجَّةٍ كَذِي الْيَدِ فَإِنَّهُ إذَا قَالَ هُوَ لِي كَانَ مُسْتَحِقًّا لَهُ مَا لَمْ يُثْبِتْ الْغَيْرُ اسْتِحْقَاقَهُ فَأَمَّا الْمُودَعُ يَدَّعِي رَدَّ الْوَدِيعَةِ أَوْ هَلَاكَهَا فَهُوَ مَقْبُولُ الْقَوْلِ فِي ذَلِكَ لِأَنَّ الْخَصْمَ سَلَّطَهُ عَلَى ذَلِكَ فَيَثْبُتُ بِمُجَرَّدِ قَوْلِهِ فَكَانَ مُدَّعًى عَلَيْهِ أَوْ لِأَنَّهُ مُنْكِرٌ الضَّمَانَ فِي ذِمَّتِهِ فَكَانَ مُدَّعًى عَلَيْهِ فَعَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ يَحْلِفُ لِنَفْيِ التُّهْمَةِ وَعَلَى الْوَجْهِ الْآخَرِ يَحْلِفُ لِإِنْكَارِهِ الضَّمَانَ (أَلَا تَرَى) أَنَّ الرَّدَّ لَا يَثْبُتُ بِيَمِينِهِ حَتَّى لَوْ ادَّعَى الرَّدَّ عَلَى الْوَصِيِّ لَا يَكُونُ الْوَصِيُّ ضَامِنًا وَإِنْ كَانَ الَّذِي فِي يَدَيْهِ ادَّعَى أَنَّهُ بَاعَهُ مِنْ هَذَا الرَّجُلِ أَوْ آجَرَهُ فَهُوَ الْمُدَّعِي وَعَلَيْهِ الْبَيِّنَةُ لِأَنَّهُ يَدَّعِي سَبَبَ نَقْلِ الْمِلْكِ فِي الْعَيْنِ أَوْ الْمَنْفَعَةِ إلَيْهِ وَاسْتِحْقَاقَهُ الْعِوَضَ عَلَيْهِ فَيَكُونُ مُدَّعِيًا مُحْتَاجًا إلَى إثْبَاتِ صِدْقِهِ وَعَلَى الْآخَرِ الْيَمِينُ لِإِنْكَارِهِ قَالَ وَإِنْ ادَّعَى دَيْنًا عَلَى رَجُلٍ بِوَجْهٍ مِنْ الْوُجُوهِ فَأَنْكَرَ الْآخَرُ فَالْبَيِّنَةُ عَلَى الْمُدَّعِي بِدَعْوَاهُ أَمْرًا عَارِضًا وَهُوَ اشْتِغَالُ ذِمَّةِ الْغَيْرِ بِحَقِّهِ وَالْمُدَّعَى عَلَيْهِ هُوَ الْمُنْكِرُ لِتَمَسُّكِهِ بِالْأَصْلِ وَهُوَ بَرَاءَةُ ذِمَّتِهِ فَإِنْ أَقَرَّ بِالدَّيْنِ وَقَالَ قَدْ قَبَّضْتُهُ إيَّاهُ كَانَ هُوَ الْمُدَّعِي لِأَنَّ الْقَضَاءَ يَعْتَرِضُ الْوُجُوبَ فَهُوَ الَّذِي يَدَّعِي الْآنَ أَمْرًا عَارِضًا وَكَذَلِكَ إنْ ادَّعَى الْإِبْرَاءَ أَوْ التَّأْجِيلَ فَهُوَ الْمُدَّعِي لِأَنَّ الْإِبْرَاءَ مُفَرِّغٌ لِذِمَّتِهِ بَعْدَ اشْتِغَالِهَا بِاتِّفَاقِهِمَا وَالتَّأْجِيلُ يُؤَخِّرُ الْمُطَالَبَةَ بَعْدَ تَقَرُّرِ السَّبَبِ بِوَجْهِ الْمُطَالَبَةِ بِاتِّفَاقِهِمَا فَهُوَ الَّذِي يَدَّعِي أَمْرًا عَارِضًا فَعَلَيْهِ الْبَيِّنَةُ وَيَدَّعِي الْآخَرُ الْيَمِينَ قَالَ دَارٌ فِي يَدِ رَجُلَيْنِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَدَّعِي أَنَّهَا لَهُ وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَدَّعِي لِمَا فِي يَدِ صَاحِبِهِ لِأَنَّ فِي يَدِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نِصْفَ الدَّارِ فَكَأَنَّ الدَّارَ الْوَاحِدَةَ بِمَنْزِلَةِ دَارَيْنِ فِي يَدِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَوْ أَحَدِهِمَا وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَدَّعِيهَا فَكَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُدَّعِيًا لِمَا فِي يَدِ صَاحِبِهِ فَعَلَيْهِ الْبَيِّنَةُ وَمُنْكِرُ الدَّعْوَى صَاحِبُهُ فِيمَا فِي يَدِهِ فَإِنْ أَقَامَا الْبَيِّنَةَ قَضَى لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِالنِّصْفِ الَّذِي فِي يَدِ صَاحِبِهِ فَرَجَّحْنَا بَيِّنَةَ الْخَارِجِ عَلَى بَيِّنَةِ ذِي الْيَدِ فِي دَعْوَى الْمِلْكِ الْمُطْلَقِ فَلَوْ لَمْ يَقُمْ لَهُمَا بَيِّنَةٌ يَحْلِفُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى دَعْوَى صَاحِبِهِ وَأَيُّهُمَا حَلَفَ بَرِئَ مِنْهُمَا وَأَيُّهُمَا نَكَلَ عَنْ الْيَمِينِ لَزِمَهُ دَعْوَى صَاحِبِهِ لِأَنَّ نُكُولَهُ قَائِمٌ مَقَامَ إقْرَارِهِ لِمَا ادَّعَاهُ صَاحِبُهُ فَقَدْ أُسْلِمَتْ هَذِهِ الْبَيِّنَةُ عَلَى فَصْلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنَّ بَيِّنَةَ الْخَارِجِ وَبَيِّنَةَ ذِي الْيَدِ إذَا تَعَارَضَتَا عَلَى الْمِلْكِ الْمُطْلَقِ فَبَيِّنَةُ الْخَارِجِ أَوْلَى بِالْقَبُولِ عِنْدَنَا وَفِي أَحَدِ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ تَتَهَاتَرُ الْبَيِّنَتَانِ وَيَكُونُ الْمُدَّعَى لِذِي الْيَدِ كَانَ فِي يَدِهِ لِقَضَائِهِ لَهُ وَفِي الْقَوْلِ الْآخَرِ تُرَجَّحُ بَيِّنَةُ ذِي الْيَدِ فَيُقْضَى بِهِ لِذِي الْيَدِ فَقَضَاءُ مِلْكٍ بِالْبَيِّنَةِ وَطَرِيقُهُ عَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ أَنَّ بَيِّنَةَ الْخَارِجِ حُجَّةٌ يَجُوزُ دَفْعُهَا بِالطَّعْنِ فِيهَا فَيَجُوزُ دَفْعُهَا بِالْمُعَارَضَةِ كَالْأَدِلَّةِ الشَّرْعِيَّةِ فَإِذَا تَحَقَّقَ التَّعَارُضُ فَالْقَاضِي تَيَقَّنَ بِكَذِبِ أَحَدِهِمَا لِأَنَّ الْعَيْنَ الْوَاحِدَةَ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ لَا تَكُونُ كُلُّهَا مِلْكًا لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فَبَطَلَتْ الْبَيِّنَتَانِ وَبَقِيَ الْيَمِينُ فِي يَدِ ذِي الْيَدِ بِحُكْمِ يَدِهِ وَطَرِيقُهُ عَلَى الْقَوْلِ الْآخَرِ أَنَّ ذَا الْيَدِ لَهُ نَوْعَانِ مِنْ الْحُجَّةِ الْيَدُ وَالْبَيِّنَةُ وَلِلْخَارِجِ نَوْعٌ وَاحِدٌ وَذُو الْحُجَّتَيْنِ يَتَرَجَّحُ عَلَى ذِي حُجَّةٍ وَاحِدَةٍ كَمَا فِي دَعْوَى النِّكَاحِ وَمَا فِي مَعْنَاهُ وَكَمَا لَوْ ادَّعَيَا تَلَقِّيَ الْمِلْكِ مِنْ وَاحِدٍ وَأَحَدُهُمَا قَابِضٌ فَأَقَامَا الْبَيِّنَةَ وَهَذَا لِأَنَّ بَيِّنَةَ ذِي الْيَدِ وَجَبَ قَبُولُهَا الْآنَ لِصَيْرُورَتِهِ مُحْتَاجًا إلَى إقَامَتِهَا بِإِقَامَةِ الْخَارِجِ الْبَيِّنَةَ وَلَنَا فِي الْمَسْأَلَةِ طَرِيقَانِ: أَحَدُهُمَا أَنَّ بَيِّنَةَ ذِي الْيَدِ تَقُومُ عَلَى مَا شَهِدَ لَهُ الظَّاهِرُ بِهِ فَلَا تَكُونُ حُجَّةً كَبَيِّنَةِ الْمَدِينِ عَلَى أَنْ لَا دَيْنَ عَلَيْهِ.
(أَلَا تَرَى) أَنَّهُ لَوْ أَقَامَهَا قَبْلَ إقَامَةِ الْخَارِجِ الْبَيِّنَةَ لَمْ تُقْبَلْ وَهُوَ مُحْتَاجٌ إلَيْهَا فِي إسْقَاطِ الْيَمِينِ عَنْ نَفْسِهِ وَالْبَيِّنَةُ تُقْبَلُ لِهَذِهِ الْحَاجَةِ كَمَا لَوْ أَقَامَ الْمُودَعُ الْبَيِّنَةَ عَلَى رَدِّ الْوَدِيعَةِ أَوْ هَلَاكِهَا فَكَذَلِكَ بَعْدَ إقَامَةِ الْخَارِجِ الْبَيِّنَةَ وَهَذَا لِأَنَّ شُهُودَ ذِي الْيَدِ يَشْهَدُونَ لَهُ بِاعْتِبَارِ يَدِهِ الْقَائِمَةِ وَلَا طَرِيقَ لِمَعْرِفَةِ الْمِلْكِ إلَّا الْيَدَ وَبَيِّنَةُ الْخَارِجِ لَا تَنْدَفِعُ بِيَدِ ذِي الْيَدِ وَإِنْ كَانَ الْقَاضِي يُعَايِنُهَا فَكَذَلِكَ لَا تَنْدَفِعُ بِبَيِّنَةٍ تَعْتَمِدُ تِلْكَ الْيَدِ بِخِلَافِ النِّتَاجِ فَإِنَّ بِاعْتِبَارِ الْيَدِ لَا يَجُوزُ لَهُمْ الشَّهَادَةُ عَلَى النِّتَاجِ وَإِنَّمَا اعْتَمَدُوا سَبَبًا آخَرَ ذَلِكَ غَيْرُ ظَاهِرٍ عِنْدَ الْقَاضِي فَلَا بُدَّ مِنْ قَبُولِ الْبَيِّنَةِ عَلَيْهِ وَبِخِلَافِ بَيِّنَةِ مَجْهُولِ الْحَالِ عَلَى حُرِّيَّتِهِ لِأَنَّ الشُّهُودَ لَا يَجُوزُ لَهُمْ أَنْ يَشْهَدُوا بِحُرِّيَّتِهِ بِسَبَبِ الدَّارِ فَإِنَّمَا اعْتَمَدُوا شَيْئًا آخَرَ ذَلِكَ غَيْرُ ظَاهِرٍ عِنْدَ الْقَاضِي وَذَلِكَ شُهُودُ الشِّرَاءِ لِذِي الْيَدِ الَّذِي اعْتَمَدُوا سَبَبًا، وَذَلِكَ غَيْرُ ظَاهِرٍ أَيْضًا عِنْدَ الْقَاضِي فَوَجَبَ قَبُولُ بَيِّنَتِهِ ثُمَّ يَتَرَجَّحُ بِيَدِهِ وَالطَّرِيقُ الْآخَرُ أَنَّ الْبَيِّنَاتِ تَتَرَجَّحُ بِزِيَادَةِ الْإِثْبَاتِ وَالْإِثْبَاتُ فِي بَيِّنَةِ الْخَارِجِ أَكْثَرُ لِأَنَّهُ يُثْبِتُ الْمِلْكَ عَلَى خَصْمٍ هُوَ مَالِكٌ وَبَيِّنَةُ ذِي الْيَدِ لَا يَثْبُتُ الْمِلْكُ عَلَى خَصْمٍ هُوَ مَالِكٌ لِأَنَّ بِمُجَرَّدِ إقَامَةِ الْخَارِجِ الْبَيِّنَةَ لَمْ يَثْبُتْ الِاسْتِحْقَاقُ لَهُ قَبْلَ الْقَضَاءِ فَلَا يَصِيرُ هُوَ مَقْضِيًّا عَلَيْهِ لَوْ قَضَى بِبَيِّنَةِ ذِي الْيَدِ وَإِذَا قَضَى بِبَيِّنَةِ الْخَارِجِ صَارَ ذُو الْيَدِ مَقْضِيًّا عَلَيْهِ فَلِزِيَادَةِ الْإِثْبَاتِ رَجَّحْنَا بَيِّنَةَ الْخَارِجِ بِخِلَافِ دَعْوَى الْخَارِجِ فَإِنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ الْبَيِّنَتَيْنِ هُنَاكَ يُثْبِتُ أَوَّلِيَّةَ الْمَالِكِ لِصَاحِبِهِ وَذَلِكَ لَا يَكُونُ اسْتِحْقَاقًا عَلَى غَيْرِهِ وَلِهَذَا لَا يَصِيرُ ذُو الْيَدِ مَقْضِيًّا عَلَيْهِ إذَا أَقَامَ الْبَيِّنَةَ عَلَى النِّتَاجِ حَتَّى لَوْ أَقَامَ ذُو الْيَدِ الْبَيِّنَةَ عَلَى النِّتَاجِ بَعْدَ قَضَاءِ الْقَاضِي لِلْخَارِجِ وَجَبَ قَبُولُ بَيِّنَتِهِ فَلَمَّا اسْتَوَيَا فِي الْإِثْبَاتِ رَجَّحْنَا بَيِّنَةَ ذِي الْيَدِ وَكَذَلِكَ إذَا ادَّعَيَا تَلَقِّيَ الْمِلْكِ مِنْ وَاحِدٍ فَقَدْ اسْتَوَتْ الْبَيِّنَاتُ فِي الْإِثْبَاتِ؛ لِأَنَّ اسْتِحْقَاقَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى الْبَائِعِ فَرَجَّحْنَا بَيِّنَةَ ذِي الْيَدِ لِتَأْكِيدِ شِرَائِهِ بِالْقَبْضِ وَهَذَا بِخِلَافِ الْأَدِلَّةِ الشَّرْعِيَّةِ فَإِنَّهَا حُجَّةٌ فِي النَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ فَيَتَحَقَّقُ التَّعَارُضُ وَهُنَا الْبَيِّنَتَانِ لِلْإِثْبَاتِ لَا لِلنَّفْيِ وَحَاجَةُ ذِي الْيَدِ إلَى اسْتِحْقَاقِ الْخَارِجِ فَلَمْ يَتَحَقَّقْ التَّعَارُضُ وَالْفَصْلُ الثَّانِي أَنْ يَكُونَ نُكُولُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ عَنْ الْيَمِينِ مُوجِبًا لِلْقَضَاءِ عَلَيْهِ بِالْمَالِ عِنْدَنَا وَلَكِنْ يَنْبَغِي لِلْقَاضِي أَنْ يَعْرِضَ عَلَيْهِ الْيَمِينَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ وَيُخْبِرَهُ فِي كُلِّ مَرَّةٍ أَنَّ مِنْ رَأْيِهِ الْقَضَاءَ بِالنُّكُولِ إيلَاءً لِعُذْرِهِ فَإِنْ لَمْ يَحْلِفْ قَضَى عَلَيْهِ وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ يُرَدُّ الْيَمِينُ عَلَى الْمُدَّعِي فَإِنْ حَلَفَ أَخَذَ الْمَالَ وَإِنْ أَبَى انْقَطَعَتْ الْمُنَازَعَةُ بَيْنَهُمَا وَحُجَّتُهُ فِي مَنْعِ الْقَضَاءِ بِالنُّكُولِ أَنَّهُ سُكُوتٌ فِي نَفْسِهِ فَلَا يَكُونُ حُجَّةً لِلْقَضَاءِ عَلَيْهِ كَسُكُوتِهِ عَنْ الْجَوَابِ فِي الِابْتِدَاءِ وَهَذَا؛ لِأَنَّهُ مُحْتَمَلٌ قَدْ يَكُونُ لِلتَّوَرُّعِ عَنْ الْيَمِينِ الْكَاذِبَةِ وَقَدْ يَكُونُ لِلتَّرَفُّعِ عَنْ الْيَمِينِ الصَّادِقَةِ كَمَا فَعَلَهُ عُثْمَانُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَقَالَ خَشِيتُ أَنْ يُوَافِقَ قَدْرَ يَمِينِي فَيُقَالُ أُصِيبَ بِيَمِينِهِ وَالْمُحْتَمَلُ لَا يَكُونُ حُجَّةً.
وَحُجَّتُهُ فِي رَدِّ الْيَمِينِ عَلَى الْمُدَّعِي عَلَى مَا رُوِيَ أَنَّ عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ادَّعَى مَالًا عَلَى الْمِقْدَادِ بْنِ الْأَسْوَدِ الْكِنْدِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بَيْنَ يَدَيْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ الْحَدِيثَ إلَى أَنْ قَالَ الْمِقْدَادُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لِيَحْلِفْ عُثْمَانُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لِيَحْلِفْ عُثْمَانُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَيَأْخُذْ حَقَّهُ فَقَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَقَدْ أَنْصَفَ الْمِقْدَادُ وَعَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ حَلَّفَ الْمُدَّعِي بَعْدَ نُكُولِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ وَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّ الْيَمِينَ فِي جَانِبِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ فِي الِابْتِدَاءِ لِكَوْنِ الظَّاهِرِ شَاهِدًا لَهُ وَبِنُكُولِهِ صَارَ الظَّاهِرُ شَاهِدًا لِلْمُدَّعِي فَيَعُودُ الْيَمِينُ إلَى جَانِبِهِ وَلِهَذَا بَدَأْنَا فِي اللِّعَانِ بِأَيْمَانِ الْخُرُوجِ لِشَهَادَةِ الظَّاهِرِ لَهُ فَإِنَّهُ لَا يُلَوِّثُ فِرَاشَهُ كَاذِبًا وَبَدَأْتُ أَنَا فِي الْقِيَامَةِ بِيَمِينِ الْوَلِيِّ لِلشَّهَادَةِ الظَّاهِرَةِ فَإِنَّ الْمَسْأَلَةَ فِيمَا إذَا كَانَتْ الْعَدَاوَةُ ظَاهِرَةً بَيْنَ الْقَتِيلِ وَأَهْلِ الْمَحَلَّةِ وَكَانَ الْعَهْدُ قَرِيبًا بِدُخُولِهِمْ فِي مَحَلَّتِهِمْ إلَى أَنْ وُجِدَ قَتِيلًا وَلَنَا فِي الْمَسْأَلَةِ حَدِيثُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَإِنَّهُ قَضَى عَلَى الزَّوْجِ بِالطَّلَاقِ فِي قَوْلِهِ حَبْلُكَ عَلَى غَارِبِكَ عِنْدَ نُكُولِهِ عَنْ الْيَمِينِ عَلَى إرَادَةِ الطَّلَاقِ وَقَضَى أَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لِصِحَّةِ الرَّجْعَةِ عِنْدَ نُكُولِهَا عَنْ الْيَمِينِ عَلَى أَنَّهَا كَانَتْ بَعْدَ حِلِّ الصَّلَاةِ لَهَا وَقَالَ ابْنُ مُلَيْكَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كُنْتُ قَاضِيًا بِالْبَصْرَةِ فَاخْتَصَمَ إلَيَّ امْرَأَتَانِ فِي سِوَارٍ فَطَلَبْتُ الْبَيِّنَةَ مِنْ الْمُدَّعِيَةِ فَلَمْ أَجِدْ وَعَرَضْتُ الْيَمِينَ عَلَى الْأُخْرَى فَنَكَلَتْ فَكَتَبْتُ إلَى أَبِي مُوسَى رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَوَرَدَ كِتَابُهُ أَنْ أَحْضِرْهُمَا وَاتْلُ عَلَيْهِمَا قَوْله تَعَالَى {إنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا} الْآيَةَ ثُمَّ اعْرِضْ الْيَمِينَ عَلَى الْمُدَّعِيَةِ عَلَيْهَا فَإِنْ نَكَلَتْ فَاقْضِ عَلَيْهَا وَقَضَى شُرَيْحٌ رَحِمَهُ اللَّهُ بِالنُّكُولِ بَيْنَ يَدَيْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَقَالَ لَهُ (قالون) وَهِيَ بِاللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ أَصَبْتَ وَمَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ حَلَّفَ الْمُدَّعِيَ فَبِنَاءً عَلَى مَذْهَبِهِ لِأَنَّهُ كَانَ يَحْلِفُ مَعَ تَمَامِ حُجَّةِ الْقَضَاءِ بِالْبَيِّنَةِ وَلَسْنَا نَأْخُذُ بِذَلِكَ.
وَتَأْوِيلُ حَدِيثِ الْمِقْدَادِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ ادَّعَى الْإِيفَاءَ عَلَى عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَبِهِ نَقُولُ وَمِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى إمَّا طَرِيقَانِ أَحَدُهُمَا أَنَّ حَقَّ الْمُدَّعِي قِبَلَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ هُوَ الْجَوَابُ وَهُوَ جَوَابٌ يُوصِلُهُ إلَى حَقِّهِ وَهُوَ الْإِقْرَارُ فَإِذَا فَوَّتَ عَلَيْهِ ذَلِكَ بِإِنْكَارِهِ حَوَّلَهُ الشَّرْعُ إلَى الْيَمِينِ خَلْفًا عَنْ أَصْلِ حَقِّهِ فَإِذَا مَنَعَهُ الْحَلِفَ يَعُودُ إلَيْهِ أَصْلُ حَقِّهِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ مَنْعِ الْحَلِفِ شَرْعًا إلَّا بِإِيفَاءِ مَا هُوَ أَصْلُ الْحَقِّ وَهَذَا الطَّرِيقُ عَلَى قَوْلِهِمَا وَأَنَّهُمَا يَجْعَلَانِ النُّكُولَ بِمَنْزِلَةِ الْإِقْرَارِ وَالطَّرِيقُ الْآخَرُ أَنَّ الدَّعْوَةَ لَمَّا صَحَّتْ مِنْ الْمُدَّعِي يُخَيَّرُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ بَيْنَ بَدَلِ الْمَالِ وَبَيْنَ الْيَمِينِ فَإِذَا امْتَنَعَ مِنْهُمَا وَأَحَدُهُمَا تَجْرِي فِيهِ النِّيَابَةُ دُونَ الْآخَرِ؛ نَابَ الْقَاضِي مَنَابَهُ فِيمَا تَجْرِي فِيهِ النِّيَابَةُ وَهَذَا؛ لِأَنَّ تَمَكُّنَهُ مِنْ الْمُنَازَعَةِ شَرْعًا بِشَرْطِ أَنْ يَحْلِفَ فَإِذَا أَبَى ذَلِكَ صَارَ تَارِكًا لِلْمُنَازَعَةِ بِتَفْوِيتِ شَرْطِهَا فَكَأَنَّهُ قَالَ لَا أُنَازِعُكَ فِي هَذَا الْمَالِ فَيَتَمَكَّنُ الْمُدَّعِي مِنْ أَخْذِهِ؛ لِأَنَّهُ يَدَّعِيهِ وَلَا مُنَازِعَ لَهُ فِيهِ وَهَذَا الطَّرِيقُ عَلَى أَصْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ حَيْثُ جَعَلَ النُّكُولَ بَدَلًا وَلَا عِبْرَةَ لِلِاحْتِمَالِ فِي النُّكُولِ؛ لِأَنَّ الشَّرْعَ أَلْزَمَهُ التَّوَرُّعَ عَنْ الْيَمِينِ الْكَاذِبَةِ دُونَ التَّرَفُّعِ عَنْ الصَّادِقَةِ فَيَتَرَجَّحُ هَذَا الْجَانِبُ فِي نُكُولِهِ وَلِأَنَّهُ لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ التَّرَفُّعِ عَنْ الْيَمِينِ إلَّا بِبَدَلِ الْمَالِ فَإِنَّهُ إنَّمَا يَرْتَفِعُ مُلْتَزِمًا الضَّرَرَ عَلَى نَفْسِهِ لَا مُلْحِقًا الضَّرَرَ بِالْغَيْرِ يَمْنَعُ الْحَقَّ وَاَلَّذِي قَالَ مِنْ شَهَادَةِ الظَّاهِرِ لِلْمُدَّعِي عِنْدَ نُكُولِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ لَا يَكُونُ ذَلِكَ إلَّا بِتَرَجُّحِ جَانِبِ الصِّدْقِ فِي دَعْوَى الْمُدَّعِي وَذَلِكَ مُوجِبٌ لِلْقَضَاءِ ثُمَّ الْيَمِينُ مَشْرُوعَةٌ لِلنَّفْيِ لَا لِلْإِثْبَاتِ وَحَاجَةُ الْمُدَّعِي إلَى الْإِثْبَاتِ فَلَا تَكُونُ الْيَمِينُ حُجَّةً لَهُ هَذَا مَعْنَى تَعْلِيلِ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ لَا أُحَوِّلُ الْيَمِينَ عَنْ مَوْضِعِهِ وَهَذَا؛ لِأَنَّهَا فِي النَّفْيِ لَا تُوجِبُ النَّفْيَ حَتَّى تُقْبَلَ بَيِّنَةُ الْمُدَّعِي بَعْدَ يَمِينِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ فَفِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ وَهُوَ الْإِثْبَاتُ أَوْلَى أَنْ لَا يُوجِبَ الْإِثْبَاتُ وَالشَّهَادَاتُ لِلْإِثْبَاتِ ثُمَّ لَا يَسْتَحِقُّ الْمُدَّعِي بِشَهَادَتِهِ لِنَفْسِهِ شَيْئًا بِحَالٍ فَلَأَنْ لَا يَسْتَحِقَّ بِيَمِينِهِ لِنَفْسِهِ وَهُوَ فِي غَيْرِ مَوْضِعِ الْإِثْبَاتِ كَانَ أَوْلَى وَإِذَا تَنَازَعَ رَجُلَانِ فِي دَارِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَدَّعِي أَنَّهَا فِي يَدِهِ فَعَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الْبَيِّنَةُ لِأَنَّ دَعْوَى الْيَدِ مَقْصُودَةٌ كَمَا أَنَّ دَعْوَى الْمِلْكِ مَقْصُودَةٌ؛ لِأَنَّ بِالْيَدِ يَتَوَصَّلُ إلَى الِانْتِفَاعِ بِالْمِلْكِ وَالتَّصَرُّفِ فِيهِ فَإِنْ أَقَامَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الْبَيِّنَةَ أَنَّهَا فِي يَدَيْهِ جَعَلَ يَدَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نِصْفَهَا لِتَعَارُضِ الْبَيِّنَتَيْنِ وَتَسَاوِيهِمَا فَالْمُسَاوَاةُ فِي سَبَبِ الِاسْتِحْقَاقِ تُوجِبُ الْمُسَاوَاةَ فِي الِاسْتِحْقَاقِ فَإِنْ كَانَ الْمُدَّعِي قَابِلًا لِلِاشْتِرَاكِ يَقْضِي لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا بِالنِّصْفِ لِمَعْنَى الضِّيقِ وَالْمُزَاحَمَةِ فِي الْمَحَلِّ قَالَ فَإِذَا أَقَامَ أَحَدُهُمَا الْبَيِّنَةَ أَنَّهَا لَهُ قَضَيْتُ بِهَا لَهُ؛ لِأَنَّهُ اسْتَحَقَّ بِالْبَيِّنَةِ الْمِلْكَ فِيمَا فِي يَدِ صَاحِبِهِ وَلَمْ يُعَامِلْهُ صِحَابُهُ بِمِثْلِهِ وَلَا مُنَافَاةَ بَيْنَ الْقَضَاءِ بِالْيَدِ لِصَاحِبِهِ وَالْمِلْكِ لَهُ بِالْبَيِّنَةِ وَقَدْ كَانَ أَصْحَابُنَا رَحِمَهُمُ اللَّهُ يَقُولُونَ إذَا قَالَ الْمُدَّعِي: هَذَا الشَّيْءُ مِلْكِي وَفِي يَدِي لَمْ يَسْمَعْ الْقَاضِي دَعْوَاهُ وَقَالَ لَهُ إذَا كَانَ مِلْكٌ فِي يَدِكَ فَمَاذَا تَطْلُبُ مِنِّي فَتَأْوِيلُ تِلْكَ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ الْخَصْمَ لَا يَدَّعِي إلَيْهِ الْيَدَ لِنَفْسِهِ وَهُنَا الْخَصْمُ يَدَّعِي الْيَدَ لِنَفْسِهِ فَلِهَذَا قَبِلَ دَعْوَى الْيَدِ لِنَفْسِهِ وَقَضَى لَهُ بِهَا عِنْدَ إقَامَةِ الْبَيِّنَةِ.
وَذَكَرَ الْخَصَّافُ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ مَنْ ادَّعَى دَارًا فِي يَدِ غَيْرِهِ وَإِنَّهَا لَهُ وَأَقَامَ الْبَيِّنَةَ فَمَا لَمْ يَشْهَدْ الشُّهُودُ أَنَّهَا فِي يَدِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ تُقْبَلُ بَيِّنَتُهُ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ تَوَاضَعَا فِي مَحْدُودٍ فِي يَدِ ثَالِثٍ عَلَى أَنْ يَدَّعِيَهُ أَحَدُهُمَا وَيُقِرَّ الْآخَرُ بِأَنَّهُ فِي يَدِهِ لِيُقِيمَ الْبَيِّنَةَ عَلَيْهِ بِذَلِكَ وَهُوَ فِي يَدِ غَيْرِهِمَا وَلَكِنَّ تَأْوِيلَ تِلْكَ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ الْخَصْمَ الْآخَرَ لَمْ يُثْبِتْ يَدَهُ بِالْبَيِّنَةِ وَهُنَا قَدْ أَثْبَتَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَدَ الْبَيِّنَةِ فَلِهَذَا قَبِلْنَا بَيِّنَةَ أَحَدِهِمَا عَلَى صَاحِبِهِ بِإِثْبَاتِ الْمِلْكِ لَهُ وَإِنْ لَمْ يَقُمْ لَهُمَا بَيِّنَةٌ عَلَى الْيَدِ وَطَلَبَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَمِينَ صَاحِبِ مَا هِيَ فِي يَدِهِ فَعَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنْ يُحَلِّفَ الْبَيِّنَةَ مَا هِيَ فِي يَدِ صَاحِبِهِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ أَقَرَّ لِصَاحِبِهِ بِمَا ادَّعَى لَزِمَهُ حَقُّهُ فَإِذَا أَنْكَرَ حَلَفَ عَلَيْهِ وَإِنْ لَمْ يَجْعَلْهَا الْقَاضِي فِي يَدِ وَاحِدٍ مِنْهُمَا؛ لِأَنَّ حُجَّةَ الْقَضَاءِ بِالْيَدِ لَمْ تَقُمْ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا وَلَكِنْ يَمْنَعُهُمَا مِنْ الْمُنَازَعَةِ وَالْخُصُومَةِ مِنْ غَيْرِ حُجَّةٍ فَأَيُّهُمَا نَكَلَ عَنْ الْيَمِينِ لَمْ يَجْعَلْهَا فِي يَدِهِ؛ لِأَنَّ صَاحِبَهُ قَدْ حَلَفَ وَلَمْ يَجْعَلْهَا فِي يَدِ الَّذِي حَلَفَ بِنُكُولِ هَذَا النَّاكِلِ أَيْضًا لِجَوَازِ أَنْ تَكُونَ فِي يَدِ ثَالِثٍ وَأَنَّهُمَا تَوَاضَعَا لِلتَّلْبِيسِ عَلَى الْقَاضِي وَذَلِكَ يَمْنَعُ النَّاكِلَ عَنْ مُنَازَعَةِ الْآخَرِ؛ لِأَنَّ نُكُولَهُ حُجَّةٌ عَلَيْهِ فَإِنْ وَجَدَهَا فِي يَدِ آخَرَ لَمْ يَنْزِعْهَا مِنْ يَدِهِ الَّذِي أَنْفَذَهُ بَيْنَ هَذَيْنِ؛ لِأَنَّ نُكُولَهُمَا لَيْسَ بِحُجَّةٍ عَلَى غَيْرِهِمَا وَالْقَضَاءُ بِحَسَبِ الْحُجَّةِ قَالَ عَبْدٌ فِي يَدَيْ رَجُلَيْنِ ادَّعَاهُ آخَرُ وَأَقَامَ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ كَانَ فِي يَدِهِ أَمْسِ لَمْ يُقْبَلْ ذَلِكَ مِنْهُ؛ لِأَنَّهُمْ شَهِدُوا بَعْدَ مَا عَرَفَ الْقَاضِي زَوَالَهُمَا وَلَمْ يَثْبُتْ سَبَبُ الزَّوَالِ وَمِثْلُ هَذِهِ الشَّهَادَةِ لَا تَكُونُ مَقْبُولَةً؛ لِأَنَّ الشَّهَادَةَ عَلَى مَا كَانَ فِي الزَّمَانِ الْمَاضِي إنَّمَا تُقْبَلُ بِطَرِيقِ أَنَّ مَا عُرِفَ ثُبُوتُهُ فَالْأَصْلُ بَقَاؤُهُ وَاسْتِصْحَابُ الْحَالِ إنَّمَا يَجُوزُ بَقَاؤُهُ وَالْعَمَلُ بِهِ فِيمَا لَمْ يَتَيَقَّنْ بِزَوَالِهِ وَرَوَى أَصْحَابُ الْإِمْلَاءِ عَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ الشَّهَادَةَ تُقْبَلُ بِنَاءً عَلَى أَصْلِهِ أَنَّهُمْ لَوْ شَهِدُوا أَنَّهُ كَانَ فِي مِلْكِهِ أَمْسِ عِنْدَهُ تُقْبَلُ وَلَكِنَّ هَذَا الْقِيَاسَ غَيْرُ صَحِيحٍ فَإِنَّ الْمِلْكَ غَيْرُ مُعَايَنٍ وَلَا يَتَيَقَّنُ الْقَاضِي بِزَوَالِ مَا شَهِدُوا بِهِ فِي الْحَالِ فَكَانَ لِاسْتِصْحَابِ الْحَالِ طَرِيقَانِ بِخِلَافِ الْيَدِ فَإِنَّهُ مُعَايِنٌ قَدْ عَلِمَ الْقَاضِي انْفِسَاخَ يَدِهِ بِالْيَدِ الظَّاهِرِ لِلْغَيْرِ فَلَا طَرِيقَ لِاسْتِصْحَابِ الْحَالِ فِيهِ وَلَوْ أَقَرَّ ذُو الْيَدِ أَنَّهُ كَانَ فِي يَدِ الْمُدَّعِي أَمْسِ أُمِرَ بِالرَّدِّ عَلَيْهِ لِأَنَّ الْإِقْرَارَ مُلْزِمٌ بِنَفْسِهِ قَبْلَ اتِّصَالِ الْقَضَاءِ بِهِ فَيَظْهَرُ بِإِقْرَارِهِ يَدُ الْمُدَّعِي أَمْسِ فَيُؤْمَرُ بِالرَّدِّ عَلَيْهِ مَا لَمْ يُثْبِتْ حَقًّا لِنَفْسِهِ فَأَمَّا الشَّهَادَةُ فَلَا تُوجِبُ الْحَقَّ إلَّا بِاتِّصَالِ الْقَضَاءِ بِهَا وَيَتَعَذَّرُ عَلَى الْقَاضِي الْقَضَاءُ بِشَيْءٍ يُعْلَمُ وَالْحَالُ خِلَافُهُ وَكَذَلِكَ لَوْ شَهِدُوا عَلَى إقْرَارِ ذِي الْيَدِ أَنَّهُ كَانَ فِي يَدِ الْمُدَّعِي أَمْسِ أُمِرَ بِالرَّدِّ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الثَّابِتَ مِنْ إقْرَارِهِ بِالْبَيِّنَةِ كَالثَّابِتِ بِالْمُعَايَنَةِ وَلَوْ أَقَامَ الْمُدَّعِي الْبَيِّنَةَ أَنَّ هَذَا الْعَبْدَ أَخَذَهُ مِنْهُ هَذَا أَوْ انْتَزَعَهُ مِنْهُ أَوْ غَصَبَهُ مِنْهُ أَوْ غَلَبَهُ عَلَيْهِ فَأَخَذَهُ مِنْهُ أَوْ أَرْسَلَهُ فِي حَاجَتِهِ فَاعْتَرَضَهُ هَذَا فِي الطَّرِيقِ أَوْ أَبَقَ مِنِّي هَذَا فَأَخَذَهُ هَذَا الرَّجُلُ فَهَذِهِ الشَّهَادَةُ جَائِزَةٌ وَيَقْضِي بِالْعَبْدِ لَهُ؛ لِأَنَّهُمْ أَثْبَتُوا سَبَبَ زَوَالِ يَدِهِ فَصَارَ ذَلِكَ كَالْمُعَايَنِ لِلْقَاضِي وَأَثْبَتُوا أَنَّ وُصُولَهُ إلَى يَدِ ذِي الْيَدِ كَانَ بِأَخْذِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ مِنْهُ فَعَلَيْهِ رَدُّهُ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «عَلَى الْيَدِ مَا أَخَذَتْ حَتَّى تَرُدَّ» وَاحِدَةٌ مِنْ غَيْرِ حَقٍّ ظَاهِرٍ لَهُ فِي الْمَأْخُوذِ عُدْوَانًا وَالْفِعْلُ الَّذِي هُوَ عُدْوَانٌ وَاجِبُ الْفَسْخِ شَرْعًا وَذَلِكَ بِالرَّدِّ قَالَ: وَلَوْ ادَّعَى عَيْنًا فِي يَدِ رَجُلٍ أَنَّهُ لَهُ وَقَالَ الَّذِي هُوَ فِي يَدَيْهِ أَوْدَعَنِيهِ فُلَانٌ أَوْ أَعَارَنِيهِ أَوْ وَكَّلَنِي بِحِفْظِهِ لَمْ يَخْرُجْ مِنْ خُصُومَةِ الْمُدَّعِي إلَّا أَنْ يُقِيمَ الْبَيِّنَةَ عَلَى مَا قَالَ عِنْدَنَا وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى رَحِمَهُ اللَّهُ يَخْرُجُ مِنْ خُصُومَتِهِ بِمُجَرَّدِ قَوْلِهِ مِنْ غَيْرِ بَيِّنَةٍ وَقَالَ ابْنُ شُبْرُمَةَ لَا يَخْرُجُ مِنْ خُصُومَتِهِ وَإِنْ أَقَامَ الْبَيِّنَةَ عَلَى مَا قَالَ أَمَّا ابْنُ أَبِي لَيْلَى رَحِمَهُ اللَّهُ فَإِنَّ كَلَامَ ذِي الْيَدِ إقْرَارٌ مِنْهُ بِالْمِلْكِ لِلْغَائِبِ وَالْإِقْرَارُ يُوجِبُ الْحَقَّ بِنَفْسِهِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {بَلْ الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ} وَلِأَنَّهُ لَا تُهْمَةَ فِيمَا يُقِرُّ بِهِ عَلَى نَفْسِهِ فَيُثْبِتُ مَا أَقَرَّ بِهِ بِنَفْسِ الْإِقْرَارِ وَيَتَبَيَّنُ أَنَّ يَدَهُ يَدُ حِفْظٍ لَا يَدُ خُصُومَةٍ وَالدَّلِيلُ عَلَى صِحَّةِ هَذِهِ الْقَاعِدَةِ أَنَّ مَنْ أَقَرَّ بِعَيْنٍ لِغَائِبٍ ثُمَّ أَقَرَّ بِهِ لِحَاضِرٍ فَرَجَعَ الْغَائِبُ وَصَدَّقَهُ يُؤْمَرُ بِالتَّسْلِيمِ إلَيْهِ وَكَذَلِكَ لَوْ أَقَرَّ لِغَيْرِهِ بِشَيْءٍ ثُمَّ مَرِضَ فَصَدَّقَهُ الْمُقَرُّ لَهُ كَانَ إقْرَارُهُ إقْرَارَ صِحَّةٍ وَأَمَّا ابْنُ شُبْرُمَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ فَقَالَ إنَّهُ بِهَذِهِ الْبَيِّنَةِ يُثْبِتُ الْمِلْكَ لِلْغَائِبِ وَهُوَ لَيْسَ بِخَصْمٍ فِي إثْبَاتِ الْمِلْكِ لِغَيْرِهِ؛ لِأَنَّهُ لَا وِلَايَةَ لِأَحَدٍ عَلَى غَيْرِهِ فِي إدْخَالِ شَيْءٍ فِي مِلْكِهِ بِغَيْرِ رِضَاهُ ثُمَّ خُرُوجُهُ عَنْ الْخُصُومَةِ فِي ضِمْنِ إثْبَاتِ الْمِلْكِ لِغَيْرِهِ فَإِذَا لَمْ يَثْبُتْ مَا هُوَ الْأَصْلُ لَا يَثْبُتُ مَا فِي ضِمْنِهِ كَالْوَصِيَّةِ بِالْمُحَابَاةِ إذَا ثَبَتَ فِي ضِمْنِ الْبَيْعِ فَيُبْطِلَانِ الْبَيْعَ بِطَلَبِ الْوَصِيَّةِ وَلَنَا أَنَّ هَذِهِ الْبَيِّنَةَ تُثْبِتُ أَمْرَيْنِ أَحَدُهُمَا الْمِلْكُ لِلْغَائِبِ وَالْحَاضِرُ لَيْسَ بِخَصْمٍ فِيهِ وَالثَّانِي دَفْعُ خُصُومَةِ الْمُدَّعِي عَنْهُ وَهُوَ خَصْمٌ فِي ذَلِكَ فَكَانَتْ مَقْبُولَةً فِيمَا وُجِدَتْ فَيَكُونُ خَصْمًا فِيهِ كَمَنْ وَكَّلَ وَكِيلًا بِنَقْلِ امْرَأَتِهِ أَوْ أَمَتِهِ وَقَامَتْ الْبَيِّنَةُ أَنَّ الزَّوْجَ طَلَّقَهَا ثَلَاثًا وَأَنَّ الْمَوْلَى أَعْتَقَهَا تُقْبَلُ هَذِهِ الْبَيِّنَةُ فِي قِصَرِ يَدِ الْوَكِيلِ عَنْهَا وَلَا تُقْبَلُ فِي وُقُوعِ الطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ مَا لَمْ يَحْضُرْ الْغَائِبُ وَهَذَا؛ لِأَنَّ مَقْصُودَ ذِي الْيَدِ لَيْسَ هُوَ إثْبَاتُ الْمِلْكِ لِلْغَائِبِ إنَّمَا مَقْصُودُهُ إثْبَاتُهُ أَنَّ يَدَهُ يَدُ حِفْظٍ وَلَيْسَتْ بِيَدِ خُصُومَةٍ وَفِي هَذَا الْمُدَّعِي خَصْمٌ لَهُ فَيُجْعَلُ إثْبَاتُهُ عَلَيْهِ بِالْبَيِّنَةِ بِمَنْزِلَةِ إقْرَارِ خَصْمِهِ بِهِ، وَهَذَا بِخِلَافِ مَا إذَا ادَّعَى غَصْبًا عَلَى ذِي الْيَدِ حَيْثُ لَا تَنْدَفِعُ الْخُصُومَةُ عَنْهُ بِهَذِهِ الْبَيِّنَةِ؛ لِأَنَّ هُنَاكَ إنَّمَا صَارَ خَصْمًا بِدَعْوَى الْفِعْلِ عَلَيْهِ دُونَ الْيَدِ فَأَمَّا فِي الْمِلْكِ الْمُطْلَقِ إنَّمَا صَارَ خَصْمًا بِيَدِهِ.
(أَلَا تَرَى) أَنَّ دَعْوَى الْغَصْبِ مَسْمُوعَةٌ عَلَى غَيْرِ ذِي الْيَدِ وَدَعْوَى الْمِلْكِ غَيْرُ مَسْمُوعَةٍ فَإِذَا أَثْبَتَ أَنَّ يَدَ غَيْرِهِ الْتَحَقَ فِي الْحُكْمِ بِمَا لَيْسَ فِي يَدِهِ فَلِهَذَا قُلْنَا إنَّ بِمُجَرَّدِ قَوْلِهِ قَبْلَ إقَامَةِ الْبَيِّنَةِ لَا تَنْدَفِعُ الْخُصُومَةُ عَنْهُ؛ لِأَنَّ الْمُدَّعِيَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِ الْجَوَابَ فَصَارَ هُوَ خَصْمًا لَهُ بِظُهُورِ الشَّيْءِ فِي يَدِهِ فَلَا يَمْلِكُ إسْقَاطَهُ بِمُجَرَّدِ قَوْلِهِ وَهُوَ لَا يَثْبُتُ إقْرَارُهُ بِالْبَيِّنَةِ كَمَا زَعَمَ هُوَ إنَّمَا يَثْبُتُ عَلَيْهِ إسْقَاطُ حَقٍّ مُسْتَحَقٍّ عَلَيْهِ عَنْ نَفْسِهِ وَهُوَ جَوَابُ الْخَصْمِ وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ إنْ كَانَ ذُو الْيَدِ رَجُلًا مَعْرُوفًا بِالْحِيَلِ لَمْ تَنْدَفِعْ الْخُصُومَةُ عَنْهُ بِإِقَامَةِ الْبَيِّنَةِ وَإِنْ كَانَ صَالِحًا تَنْدَفِعُ الْخُصُومَةُ عَنْهُ رَجَعَ إلَى هَذَا حِينَ اُبْتُلِيَ بِالْقَضَاءِ وَعَرَفَ أَحْوَالَ النَّاسِ فَقَالَ قَدْ يَحْتَالُ الْمُحْتَالُ وَيَدْفَعُ مَالَهُ إلَى مَنْ يُرِيدُ شِرَاءً وَيَأْمُرُ مَنْ يُودِعُهُ عَلَانِيَةً حَتَّى إذَا ادَّعَاهُ إنْسَانٌ يُقِيمُ الْبَيِّنَةَ عَلَى أَنَّهُ مُودَعٌ لِيَدْفَعَ الْخُصُومَةَ عَنْ نَفْسِهِ.
وَمَقْصُودُهُ مِنْ ذَلِكَ الْإِضْرَارُ بِالْمُدَّعِي لِيَتَعَذَّرَ عَلَيْهِ إثْبَاتُ حَقِّهِ بِالْبَيِّنَةِ فَلَا تَنْدَفِعُ الْخُصُومَةُ عَنْهُ إذَا كَانَ مُتَّهَمًا بِمِثْلِ هَذِهِ الْحِيلَةِ فَإِنْ شَهِدَ شُهُودُ ذِي الْيَدِ أَنَّهُ أَوْدَعَهُ رَجُلٌ لَا يَعْرِفُهُ لَمْ تَنْدَفِعْ الْخُصُومَةُ عَنْهُ فَلَعَلَّ ذَلِكَ الرَّجُلَ هُوَ الَّذِي حَضَرَ يُنَازِعُهُ وَلَيْسَ فِي هَذِهِ الشَّهَادَةِ مَا يُوجِبُ دَفْعَ الْخُصُومَةِ وَالثَّانِي أَنَّ الْخُصُومَةَ إنَّمَا تَنْدَفِعُ عَنْ ذِي الْيَدِ إذَا حَوَّلَهُ إلَى غَيْرِهِ بِالْبَيِّنَةِ وَالتَّحْوِيلُ إنَّمَا يَتَحَقَّقُ إذَا أَحَالَهُ عَلَى رَجُلٍ يُمْكِنُهُ اتِّبَاعُهُ لِيُخَاصِمَهُ فَإِذَا أَحَالَهُ إلَى مَجْهُولٍ وَلَا يُمْكِنُهُ اتِّبَاعَ الْمَجْهُولِ كَانَ ذَلِكَ بَاطِلًا لَا يَجُوزُ وَإِنْ قَالَ الشُّهُودُ أَوْدَعَهُ رَجُلٌ نَعْرِفُهُ بِوَجْهِهِ إذَا رَأَيْنَاهُ وَلَا نَعْرِفُهُ بِاسْمِهِ وَنَسَبِهِ فَعَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ لَا تَنْدَفِعُ الْخُصُومَةُ عَنْهُ وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَنْدَفِعُ الْخُصُومَةُ عَنْهُ ذَكَرَهُ فِي الْجَامِعِ وَجْهُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ أَحَالَهُ عَلَى مَجْهُولٍ لَا يُمْكِنُهُ اتِّبَاعُهُ لِيُخَاصِمَهُ فَكَانَ هَذَا بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِمْ أَوْدَعَهُ رَجُلٌ لَا نَعْرِفُهُ وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْمَعْرِفَةَ بِالْوَجْهِ لَا تَكُونُ مَعْرِفَةً عَلَى مَا رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «أَنَّهُ قَالَ لِرَجُلٍ أَتَعْرِفُ فُلَانًا؟ فَقَالَ نَعَمْ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَلْ تَعْرِفُ اسْمَهُ قَالَ لَا قَالَ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ إذًا لَا تَعْرِفُهُ».
وَمَنْ حَلَفَ لَا يَعْرِفُ فُلَانًا وَهُوَ يَعْرِفُ وَجْهَهُ دُونَ اسْمِهِ وَنَسَبِهِ لَا يَحْنَثُ وَأَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ قَالَ قَدْ أَثْبَتَ بِبَيِّنَتِهِ أَنَّهُ لَيْسَ بِخَصْمٍ لِلْمُدَّعِي فَإِنَّا نَعْلَمُ أَنَّ مُودِعَهُ لَيْسَ هُوَ الْمُدَّعِي؛ لِأَنَّ الشُّهُودَ يَعْرِفُونَ الْمُودَعَ بِوَجْهِهِ وَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ غَيْرُ هَذَا الْمُدَّعِي وَمَقْصُودُ ذِي الْيَدِ إثْبَاتُ أَنَّ يَدَهُ يَدُ حِفْظٍ وَأَنَّهُ لَيْسَ بِخَصْمٍ لِهَذَا الْحَاضِرِ وَهَذِهِ الْبَيِّنَةُ كَافِيَةٌ فِي هَذَا الْمَقْصُودِ ثُمَّ إنْ تَضَرَّرَ الْمُدَّعِي بِأَنْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى اتِّبَاعِ خَصْمِهِ فَذَلِكَ الضَّرَرُ يَلْحَقُهُ مِنْ قِبَلِ أَنَّهُ جَهِلَ خَصْمَهُ لَا مِنْ جِهَةِ ذِي الْيَدِ وَنَحْنُ نُسَلِّمُ أَنَّ الْمَعْرِفَةَ بِالْوَجْهِ لَا تَكُونُ مَعْرِفَةً تَامَّةً فَإِنَّ الْغَائِبَ لَا يُمْكِنُ اسْتِحْضَارُهُ بِهِ وَلَكِنْ لَيْسَ عَلَى ذِي الْيَدِ تَعْرِيفُ خَصْمِ الْمُدَّعِي لَهُ وَإِنَّمَا عَلَيْهِ أَنْ يُثْبِتَ أَنَّهُ لَيْسَ بِخَصْمٍ لَهُ وَهَذَا كُلُّهُ بِنَاءً عَلَى أَصْلِنَا أَنَّ الْقَضَاءَ عَلَى الْغَائِبِ بِالْبَيِّنَةِ لَا يَجُوزُ فَلَا بُدَّ مِنْ خَصْمٍ حَاضِرٍ لِلْمُدَّعِي لِيُقِيمَ عَلَيْهِ الْبَيِّنَةَ.
فَأَمَّا عِنْدَ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ الْقَضَاءُ عَلَى الْغَائِبِ بِالْبَيِّنَةِ جَائِزٌ وَيَسْتَوِي فِي ذَلِكَ إنْ كَانَ غَائِبًا عَنْ الْبَلْدَةِ أَوْ عَنْ مَجْلِسِ الْحُكْمِ حَاضِرًا فِي الْبَلْدَةِ وَهُوَ الصَّحِيحُ مِنْ قَوْلِهِ وَإِنَّمَا يَحْضُرُهُ الْقَاضِي لِرَجَاءِ إقْرَارِهِ حَتَّى يُقَصِّرَ بِهِ الْمَسَافَةَ عَلَيْهِ وَلَا يَحْتَاجُ الْمُدَّعِي إلَى تَكَلُّفِ الْبَيِّنَةِ وَاحْتَجَّ بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْبَيِّنَةُ عَلَى الْمُدَّعِي، فَاشْتِرَاطُ حُضُورِ الْخَصْمِ لِإِقَامَةِ الْبَيِّنَةِ تَكُونُ زِيَادَةً وَلَمَّا قَالَتْ هِنْدُ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنَّ أَبَا سُفْيَانَ رَجُلٌ شَحِيحٌ لَا يُعْطِينِي مَا يَكْفِينِي وَوَلَدِي فَقَالَ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَسَلَامُهُ «خُذِي مَا يَكْفِيكِ وَوَلَدَكِ بِالْمَعْرُوفِ مِنْ مَالِ أَبِي سُفْيَانَ» فَقَدْ قَضَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالنَّفَقَةِ وَهُوَ غَائِبٌ وَلِأَنَّ هَذِهِ بَيِّنَةً عَادِلَةً مَسْمُوعَةً فَيَجِبُ الْقَضَاءُ بِهَا كَمَا لَوْ كَانَ الْخَصْمُ حَاضِرًا وَبَيَانُ الْوَصْفِ أَنَّ عِنْدَكُمْ تُسْمَعُ هَذِهِ الْبَيِّنَةُ لِلْكِتَابِ بِهَا وَتَأْثِيرُهُ أَنَّ بِغَيْبَةِ الْخَصْمِ مَا فَاتَ إلَّا إنْكَارُهُ وَإِنْكَارُهُ غَيْرُ مُؤَثِّرٍ فِي إيصَالِ الْمُدَّعِي إلَى حَقِّهِ وَلِأَنَّ الْأَصْلَ هُوَ الْإِنْكَارُ فَيَجِبُ التَّمَسُّكُ بِهِ، وَإِذَا ثَبَتَ إنْكَارُهُ بِهَذَا الطَّرِيقِ قُبِلَتْ الْبَيِّنَةُ عَلَيْهِ وَلَوْ كَانَ مُقِرًّا كَانَ الْقَضَاءُ مُتَوَجِّهًا عَلَيْهِ لِإِجْمَاعِنَا أَنَّ الْقَضَاءَ عَلَى الْغَائِبِ بِالْإِقْرَارِ جَائِزٌ فَعَلَيْهِ نَقِيسُ فِعْلَهُ أَنَّهُ إحْدَى حُجَّتَيْ الْقَضَاءِ وَلَنَا قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ «لَا تَقْضِ لِأَحَدِ الْخَصْمَيْنِ حَتَّى تَسْمَعَ كَلَامَ الْآخَرِ فَإِنَّكَ إذَا سَمِعْتَ كَلَامَ الْآخَرِ عَلِمْتَ كَيْفَ تَقْضِي» فَبَيَّنَ أَنَّ الْجَهَالَةَ تَمْنَعُهُ مِنْ الْقَضَاءِ وَأَنَّهَا لَا تُرْفَعُ إلَّا بِسَمَاعِ كَلَامِهِمَا.
فَأَمَّا قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «الْبَيِّنَةُ عَلَى الْمُدَّعِي» فَدَلِيلُنَا أَنَّ الْبَيِّنَةَ اسْمٌ لِمَا يَحْصُلُ بِهِ الْبَيَانُ وَلَيْسَ الْمُرَادُ فِي حَقِّ الْمُدَّعِي؛ لِأَنَّهُ حَاصِلٌ بِقَوْلِهِ وَلَا فِي حَقِّ الْقَاضِي؛ لِأَنَّهُ حَاصِلٌ بِقَوْلِ الْمُدَّعِي إذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ مُنَازِعٌ إنَّمَا الْحَاجَةُ إلَى الْبَيَانِ فِي حَقِّ الْخَصْمِ الْجَاحِدِ وَذَلِكَ لَا يَكُونُ إلَّا بِحُضُورِهِ.
(أَلَا تَرَى) أَنَّهُ جَعَلَ الْبَيِّنَةَ عَلَى الْمُدَّعِي فِي حَالِ لَوْ ادَّعَى عَدَمَهَا اسْتَحْلَفَ الْخَصْمَ فَقَالَ «وَالْيَمِينُ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ» وَذَلِكَ لَا يَكُونُ إلَّا بِمَحْضَرٍ مِنْهُ وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْبَيِّنَةَ اسْمٌ لِلْحُجَّةِ وَلَا تَكُونُ حُجَّةً عَلَيْهِ مَا لَمْ يَظْهَرْ عَجْزُهُ عَنْ الدَّفْعِ وَالطَّعْنِ، وَالْقُرْآنُ صَارَ حُجَّةً عَلَى النَّاسِ حِينَ ظَهَرَ عَجْزُهُمْ عَنْ الْمُعَارَضَةِ وَظُهُورُ عَجْزِهِ لَا يَكُونُ إلَّا بِمَحْضَرٍ مِنْهُ وَلَا حُجَّةَ فِي حَدِيثِ هِنْدَ؛ لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ عَالِمًا بِسَبَبِ اسْتِحْقَاقِ النَّفَقَةِ عَلَى أَبِي سُفْيَانَ وَهُوَ النِّكَاحُ الظَّاهِرُ.
(أَلَا تَرَى) أَنَّهَا لَمْ تُقِمْ الْبَيِّنَةَ وَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّهُ أَحَدُ الْمُتَدَاعِينَ فَيُشْتَرَطُ حُضُورُهُ لِلْقَضَاءِ بِالْبَيِّنَةِ كَالْمُدَّعِي بَلْ أَوْلَى فَإِنَّ الْمُدَّعِيَ يَنْتَفِعُ بِالْقَضَاءِ وَالْمُدَّعَى عَلَيْهِ يَتَضَرَّرُ بِهِ وَتَأْثِيرُهُ أَنَّ دَعْوَى الْمُدَّعِي وَإِنْ كَانَ الْخَصْمُ شَرَطَ لِلْعَمَلِ بِالْبَيِّنَةِ حَتَّى لَا يَسْمَعُ الْبَيِّنَةَ عَلَى الْمُقِرِّ وَلَا يَقْضِي بِهَا إذَا اعْتَرَضَ الْإِقْرَارَ قَبْلَ الْقَضَاءِ بِهَا وَبِغَيْبَةِ الْمُدَّعِي يَفُوتُ أَحَدُ الشَّرْطَيْنِ وَهُوَ الدَّعْوَى وَبِغَيْبَةِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ يَفُوتُ الشَّرْطُ الْآخَرُ وَهُوَ الْإِنْكَارُ وَفَوَاتُ شَرْطِ الشَّيْءِ كَفَوَاتِ رُكْنِهِ فِي امْتِنَاعِ الْعَمَلِ بِهِ، وَإِنْكَارُهُ إنْ كَانَ ثَابِتًا بِطَرِيقِ الظَّاهِرِ فَالشَّرْطُ بِطَرِيقِ الظَّاهِرِ لَا يَثْبُتُ عِنْدَنَا مَا لَمْ يُتَيَقَّنْ بِهِ وَلِهَذَا إذَا قَالَ لِعَبْدِهِ: إنْ لَمْ أَدْخُلْ الدَّارَ الْيَوْمَ فَأَنْتَ حُرٌّ فَمَضَى الْيَوْمُ فَقَالَ قَدْ دَخَلْتُ وَقَالَ الْعَبْدُ لَمْ تَدْخُلْ لَمْ يُعْتَقْ وَإِنْ كَانَ عَدَمُ الدُّخُولِ ثَابِتًا بِطَرِيقِ الظَّاهِرِ.
وَعَلَى هَذَا قَالَ أَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ لَوْ حَضَرَ وَأَنْكَرَ فَأُقِيمَ عَلَيْهِ الْبَيِّنَةُ ثُمَّ غَابَ يُقْضَى عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ إنْكَارَهُ سُمِعَ نَصًّا وَقَالَ مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ لَا يُقْضَى عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ إصْرَارَهُ عَلَى الْإِنْكَارِ إلَى وَقْتِ الْقَضَاءِ شَرْطٌ وَذَلِكَ ثَابِتٌ بَعْدَ غَيْبَتِهِ بِاسْتِصْحَابِ الْحَالِ لَا بِالنَّصِّ وَقَوْلُهُ إنَّهَا مَسْمُوعَةٌ عِنْدَنَا غَيْرُ مَسْمُوعَةٍ لِلْقَضَاءِ حَتَّى أَنَّ الْخَصْمَ وَإِنْ حَضَرَ لَا يَجُوزُ الْقَضَاءُ بِهَا إنَّمَا هِيَ مَسْمُوعَةٌ لِنَقْلِهَا إلَى قَاضِي تِلْكَ الْبَلْدَةِ بِالْكِتَابِ بِمَنْزِلَةِ شَهَادَةِ الْأُصُولِ عِنْدَ الْفُرُوعِ مَسْمُوعَةٌ لِنَقْلِ شَهَادَتِهِمْ لَا لِلْقَضَاءِ بِهَا وَاعْتِبَارُ الْبَيِّنَةِ بِالْإِقْرَارِ فَاسِدٌ؛ لِأَنَّ الْإِقْرَارَ مُوجِبٌ لِلْحَقِّ بِنَفْسِهِ دُونَ الْقَضَاءِ بِخِلَافِ الْبَيِّنَةِ.
(أَلَا تَرَى) أَنَّ الْإِقْرَارَ لِلْغَائِبِ صَحِيحٌ بِخِلَافِ الْبَيِّنَةِ وَهَذَا؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ لِلْمُقِرِّ حَقُّ الطَّعْنِ فِي إقْرَارِ نَفْسِهِ فَلَيْسَ فِي الْقَضَاءِ عَلَيْهِ مَعَ غَيْبَتِهِ بِالْإِقْرَارِ تَفْوِيتُ حَقِّ الطَّعْنِ عَلَيْهِ بِخِلَافِ الْبَيِّنَةِ.
قَالَ دَارٌ فِي يَدِ رَجُلٍ ادَّعَاهَا رَجُلٌ أَنَّهَا لَهُ آجَرَهَا مِنْ ذِي الْيَدِ وَادَّعَى آخَرُ أَنَّهَا لَهُ أَوْدَعَهَا إيَّاهُ وَأَقَامَ الْبَيِّنَةَ قَضَى بِهَا بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَثْبَتَ بِبَيِّنَتِهِ أَنَّ وُصُولَهَا إلَى يَدِ ذِي الْيَدِ مِنْ جِهَتِهِ فَتَتَحَقَّقُ الْمُسَاوَاةُ بَيْنَهُمَا فِي سَبَبِ الِاسْتِحْقَاقِ وَذَلِكَ يُوجِبُ الْمُسَاوَاةَ فِي الِاسْتِحْقَاقِ عِنْدَنَا عَلَى مَا نُبَيِّنُهُ فِي الْبَابِ الثَّانِي إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
قَالَ وَإِذَا كَانَ الْعَبْدُ فِي يَدِ رَجُلٍ ادَّعَى أَنَّهُ غَصَبَهُ إيَّاهُ أَوْ أَقَامَ الْبَيِّنَةَ وَادَّعَى آخَرُ أَنَّهُ لَهُ وَدِيعَةٌ فِي يَدِ ذِي الْيَدِ قَضَى بِهِ لِصَاحِبِ الْغَصْبِ لِأَنَّ بَيِّنَتَهُ طَاعِنَةٌ فِي الْبَيِّنَةِ الْأُخْرَى فَإِنَّهُ يُثْبِتُ بِهَا أَنَّ يَدَ ذِي الْيَدِ كَانَتْ غَصْبًا مِنْ جِهَتِهِ وَذَلِكَ يَتَّقِي كَوْنَهُ وَدِيعَةً لِلْآخَرِ فَلِهَذَا رَجَّحْنَا بَيِّنَةَ الْغَصْبِ وَقَضَيْنَا بِهِ لِصَاحِبِهَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.